المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الظلم…حقيقته، والتحذير منه(1 - مجلة البيان - جـ ١٣٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌الظلم…حقيقته، والتحذير منه(1

دراسات في الشريعة والعقيدة

‌الظلم

حقيقته، والتحذير منه

(1

/2)

عبد العزيز الجليل

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا

محمد وآله وصحبه، وبعد: فإن الناظر اليوم في أكثر بلدان المسلمين وأحوالهم

ليحزنه ما ظهر في هذا الزمان من نبذ لشريعة الله عز وجل وتحاكم إلى القوانين

الوضعية التي تقنن الظلم وتهدر قيمة الإنسان، وتحطم القيم والأخلاق وتجعل الناس

مستعبدين لحفنة من شياطين الإنس الذين كرهوا ما أنزل الله تعالى فظلموا وبغوا في

الأرض بغير الحق، وكثرت من جراء ذلك المظالم بين الناس؛ حيث لا رادع من

دين ولا سلطان، وبغى الناس بعضهم على بعض وامتلأت المحاكم ودور القضاء

من خصومات الناس ومظالمهم. ولم يقف هذا الداء العضال عند عامة المسلمين

وسلاطينهم فحسب، بل تعداهم إلى بعض أهل الخير والدعوة فيهم، فظهرت صور

من البغي والظلم بين بعض الدعاة والصّلاّح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي

العظيم.

وفي هذه الدراسة إن شاء الله تعالى ذكرٌ لبعض صور الظلم الشائعة في هذا

الزمان؛ لعل في ذكرها نصيحة وعظة لنفسي وإخواني المسلمين.

وأبدأ الموضوع بمقدمة مهمة تتضمن تعريف الظلم وحقيقته وما ورد في ذمه

من بعض الآيات والأحاديث والآثار.

كما تتضمن بيان أقسام الظلم وما يتفرع عن كل قسم من بعض الصور

والمظاهر.

تعريف الظلم وحقيقته:

(الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه

المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه، ومن هذا يقال:

ظلمت السقاءَ، إذا تناولته في غير وقته ويسمى ذلك اللبن ظليماً. وظلمت الأرض: حفرتها ولم تكن موضعاً للحفر، وتلك الأرض يقال لها: المظلومة، والتراب

الذي يخرج منها ظليم) [1] اهـ

وفي القاموس المحيط: (الظلم بالضم: وضع الشيء في غير موضعه)[2] .

وفي ضوء هذه التعريفات يتبين لنا أن كل ذنب عُصي الله به سواء كان ذلك

الذنب شركاً بالله عز وجل أو دون ذلك من سائر المعاصي ومظالم العباد، داخل في

مسمى الظلم؛ لأنه وضع للشيء في غير موضعه الذي يرضاه الله عز وجل مع

التفريق بين ظلم أكبر وظلم دون ظلم؛ كما سيتبين في المبحث الآتي إن شاء الله

تعالى.

والظلم مصدر ظَلَمَ، والذي يفهم من لفظ الظلم وجود ظالم صدر منه الظلم،

ومظلوم وقع عليه الظلم، فمن هو الظالم ومن هو المظلوم في ضوء الكتاب والسنة؟

إنه هذا الإنسان المسكين؛ فهو الظالم والمظلوم؛ حيث ظلم نفسه وأوبقها،

وظلم عباد الله عز وجل فأساء إليهم وأساء إلى نفسه وظلمها بما يعرضها له من

العقوبات في الدنيا والآخرة. قال الله عز وجل: [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أََنفُسَهُمْ

يَظْلِمُونَ] [البقرة: 57] وقال سبحانه: [سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا

وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ] [الأعراف: 177] وقال تعالى: [إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ

شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] [يونس: 44] .

والآيات الواردة في ذم الظلم وأهله كثيرة جداً ومتنوعة، ويمكن تقسيمها إلى

المجموعات الآتية:

1-

ما ورد في وصف الشرك والكفر بالظلم والمشركين والكافرين بالظالمين

ومنها قوله تعالى: [يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ][لقمان: 13]

وقوله تعالى: [وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ] . [البقرة: 254]

2-

ما ورد في ذكر خيبة الظالمين ومقت الله لهم وعدم هدايتهم وتوفيقهم يقول

تعالى: [إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ][الأنعام: 21][فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]

[المؤمنون: 41] .

3-

ما ورد في ذكر إهلاك الله تعالى للظالمين في الدنيا وما أعده لهم من

النكال والعذاب في الآخرة. يقول تعالى: [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ

ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] [هود: 102] وقوله تعالى: [وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا

عَذَابَ النَّارِ الَتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ] [سبأ: 42] .

4-

ما ورد في وصف ما دون الشرك من المعاصي بالظلم سواء ما كان منها

بين العبد وربه أو ما كان ظلماً للعباد ومنها قوله تعالى: [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ

ظَلَمَ نَفْسَهُ] [الطلاق: 1] وقوله تعالى: [إنَّ الَذِينَ يَاًكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إنَّمَا

يَاًكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً] . [النساء: 10]

5-

ما ورد في تنزيه الله تعالى نفسه عن الظلم، وأمره سبحانه بالعدل،

ومحبته للمقسطين يقول تعالى: [وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ][غافر: 31] ، وقوله

تعالى [وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ][الحجرات: 9] .

أما الأحاديث الواردة في ذم الظلم وسوء عاقبة الظالمين فكثيرة جداً أقتصر

منها هنا على بعض الأحاديث التي وردت في ذم الظلم وسوء عاقبة الظالمين بعامة. ويلاحظ أن معظم هذه الأحاديث كانت تتوجه إلى صورة واحدة من صور الظلم

ألا وهو ظلم العباد والاعتداء على حقوقهم.

ومن هذه الأحاديث العامة ما يلي:

الحديث الأول:

عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -

صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: (يا عبادي إني حرمت الظلم على

نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا

) الحديث القدسي [3] وكان

أبو إدريس الخولاني رحمه الله تعالى إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.

الحديث الثاني:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)[4] .

الحديث الثالث:

عن أبي معبد مولى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه

وسلم- بعث معاذاً إلى اليمن فقال: (

واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين

الله حجاب) [5] .

الحديث الرابع:

عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ: [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى

وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] [هود: 102][6] .

وبعد هذه الأحاديث أذكر جملة من مواقف السلف رحمهم الله تعالى من الظلم،

وخوفهم الشديد من سوء عاقبته في الدنيا والآخرة:

* قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن أبي سَبْرة، عن عبد المجيد بن سُهيل،

عن عوف بن الحارث: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت:

قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك كله وحلّلك الله من ذلك، فقالت: سررتِني سرك الله. وأرسلت إلى

أم سلمة، فقالت: لها مثل ذلك [7] .

* وعن أبي الدرداء قال: (إياك ودعوات المظلوم؛ فإنهن يصعدن إلى الله

كأنهن شرارات من نار) [8] .

* وقال ميمون بن مهران: (الظالم والمعين على الظلم والمحب له سواء)[9] .

* وقال الشافعي رحمه الله تعالى: (بئس الزاد إلى المعاد العدوان على

العباد) [10] .

أقسام الظلم:

يتفاوت الظلم من حيث شدته وعظمه وشناعته ومن حيث الجهة التي وقع

عليها، مع أن من صدر منه الظلم هو في حقيقته ما ظلم إلا نفسه؛ لأنه أوبق نفسه

بظلمه لها بالمعاصي ومظالم العباد.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث اختلف العلماء في صحته؛

فمنهم من ضعفه ومنهم من صححه، لكنه يُستأنس به في هذا المجال وبخاصة أنه

صحيح المعنى، وقد اعتمده كثير من السلف في ذكر أنواع الظلم وصوره. ونص

الحديث: عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظلم ثلاثة:

فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه؛ فأما الظلم الذي لا يغفره الله

فالشرك، قال الله:(إن الشرك لظلم عظيم) ، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد

أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم

بعضاً حتى يدير لبعضهم من بعض) [11] .

وفي ضوء هذا الحديث وما ذكره العلماء حول أنواع الظلم فإنه يمكن تقسيم

الظلم إلى قسمين كبيرين يندرج تحتهما أنواع الظلم الثلاثة المذكورة في الحديث،

وهذان القسمان هما:

1-

الظلم الأكبر: وهو ظلم العبد نفسه بالكفر والإشراك بالله عز وجل.

2-

الظلم الأصغر: وهو ما دون الشرك، وهو نوعان:

(أ) ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين الله عز وجل.

(ب) ظلم النفس بمظالم العباد والتعدي على حقوقهم.

والكلام الآن حول هذه الأنواع الثلاثة:

1-

ظلم النفس بالظلم الأعظم؛ وهو الإشراك بالله عز وجل.

2-

ظلم النفس بظلم العباد.

3-

ظلم النفس بالمعاصي فيما بينها وبين ربها عز وجل [12] .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

(والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله

منه شيئاً، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وديوان لا يترك الله

تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً؛ فإن الله تعالى يستوفيه كله،

وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل فإن هذا

الديوان أخف الدواوين وأسرعها محواً؛ فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات

الماحية والمصائب المكفرة ونحو ذلك، بخلاف ديوان الشرك؛ فإنه لا يمحى إلا

بالتوحيد، وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها،

ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرّم الجنة على أهله، فلا

تدخل الجنةَ نفسٌ مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد؛ فإن التوحيد هو مفتاح بابها،

فمن لم يكن معه مفتاح لم يُفتح له بابها، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن

الفتح به) [13] .

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: [فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ

بِالأَمْنِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ

وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 81، 82] .

(قال الله تعالى فاصلاً بين الفريقين: (الذين آمنوا ولم يلبسوا) أي: يخلطوا

(إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) الأمن من المخاوف، والعذاب والشقاء، والهداية إلى الصراط المستقيم.

فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقاً، لا بشرك، ولا بمعاصي، حصل لهم

الأمن التام، والهداية التامة، وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم

يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم

كمالها. ومفهوم الآية الكريمة: أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم

هداية، ولا أمن بل حظهم الضلال والشقاء) [14] .

والحاصل مما سبق أن من كان ظلمه من جنس الظلم الأعظم والذي هو

الشرك بالله عز وجل والكفر به سبحانه ومات منه بلا توبة فقد خاب الخيبة الأبدية، وحرم مغفرة الله عز وجل وجنته، ومأواه جهنم خالداً فيها وبئس مثوى الظالمين.

ومن كان ظلمه دون ذلك فإنه يسلم من الخلود في النار بما معه من الإيمان. ولكن

إن كان ظلمه هذا متعلقاً بحقوق العباد ومات دون أن يرد الحقوق إلى أهلها فإن

أمامه القصاص يوم القيامة بالحسنات والسيئات، وقد يتعرض بسبب ذلك للعذاب

والتطهير. وإن كان ظلمه لنفسه بمعاصي بينه وبين الله عز وجل ومات منها بلا

توبة، فإن كانت من الصغائر فإنها تكفرها الصلاة والقيام والحج وغيرها، إذا

اجتنبت الكبائر وإن كانت من الكبائر فإن صاحبها تحت المشيئة إن شاء الله عاقبه

بها، وإن شاء عفا عنه بنحو الأسباب التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في

مجموع الفتاوى [15] ، ومن ذا الذي يقطع بمغفرة الله عز وجل؟ ومن ذا الذي

يطيق ولو لحظة واحدة في نار جهنم؟

وبعد هذه المقدمة عن الظلم وأقسامه نفصل القول إن شاء الله تعالى في ذكر

جملة من الصور المختلفة لكل قسم من أقسام الظلم، وبخاصة ما ظهر منها وشاع

في زماننا اليوم لعلنا نحذرها أو نتخلص منها إن وجدنا أنفسنا قد تلبسنا بها. وهذا

موضوع الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.

(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، ص:513.

(2)

القاموس المحيط: ص 1464.

(3)

جزء من حديث رواه مسلم (2577) في البر والصلة.

(4)

مسلم (2578) في البر والصلة باب تحريم الظلم.

(5)

البخاري، كتاب المظالم، (5/121، 2448 الفتح، ومسلم بأطول منه (19) كتاب الإيمان باب الدعاء.

(6)

البخاري في التفسير (4686) ، ومسلم في البر والصلة (2583) .

(7)

سير أعلام النبلاء، 2/322.

(8)

سير أعلام النبلاء، 2/350.

(9)

مساوئ الأخلاق، للخرائطي، ص279.

(10)

سير أعلام النبلاء، 10/41.

(11)

البزار (3439) من حديث أنس، وقد جاء بنحوه عن غير واحد من الصحابة انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته، 2/734 (3961) وقد قال عنه الألباني: حديث حسن، وذكره أيضاً في الأحاديث الصحيحة، 1957 وانظر مجمع الزوائد (10/248) .

(12)

تم الاعتماد في هذه التقسيمات على تناول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للموضوع في كتابه القيم (الإيمان) ، تحقيق العلاّمة الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، وهو بحث نفيس في بابه، ص75- 79.

(13)

الوابل الصيب ص 33، ت: محمد عبد الرحمن عوض.

(14)

تفسير الكريم المنان (2/39) .

(15)

ارجع لمعرفة هذه الأسباب إلى مجموع الفتاوى (7/487 501) .

ص: 8

قضايا ثقافية

التفكير العلمي والإبداعي..

كيف تكون علمي التفكير؟

(2/3)

عبد الله بن عبد الرحمن البريدي

التفكير نعمة ربانية اختص الله بها الإنسان، فإن كان تفكيره سليماً ومستقيماً

هداه إلى معرفة الله وعبادته على بصيرة. وفي الحلقة الأولى تناول الكاتب مقدمات

عامة تطرق فيها إلى ماهية التفكير، وكيف يفكر الإنسان، وآلية التفكير، وكيف

يعتل التفكير.

ويواصل الكاتب أبعاداً أخرى في صلب الموضوع.

...

...

...

...

... - البيان -

أهمية التفكير العلمي وخصائصه:

تكمن أهمية التفكير العلمي في نتائجه وثماره، وتتجلى في خصائصه وميزاته، وتنبثق من منهجه وآليته؛ فهو يؤدي إلى الوصول إلى الحل المناسب بعد توفيق

الله تعالى في الوقت الملائم وبتكلفة أقل. ويمتاز بأنه:

1-

تفكير واضح المنهج، مترابط الخطوات.

2-

تفكير موضوعي.

3-

تفكير منطقي.

4-

تفكير هادف.

إنه باختصار تفكير واعٍ، منظّم، منطقي، واضح، إنه تفكير: ماذا؟ ..

ولماذا؟

وكيف؟

قد لا يدرك أهمية التفكير العلمي من لم يتفحص طريقته في التفكير، ومن لم

يعش ضمن منظومة اجتماعية يفكر أفرادها علمياً، كما قد لا يستشعر أهميته من لم

يتلبس بمنهجية التفكير العلمي يوماً من الدهر ولم يذق طيب ثمارها. وقد لا يقتنع

البعض إلا بالتطبيق والمثال؛ وهذا أمر طبيعي، مما يحتم مزج الطرح النظري

بالتطبيق.

منهج التفكير العلمي:

يتمخض عن التفكير إزاء مشكلة معينة أو مشروع معين قرار ما، بمعنى أن

المفكر في الأغلب عندما يكدّ ذهنه في التفكير فإنه لا يخلو من حالتين:

إما تفكير في مشكلة ماضية أو قمة أو متوقعة.

أو في مشروع معين.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه قد يفكر الإنسان في موضوعات جزئية كالتفكير

في العلاقة بين قضيتين، وهذا ما يخرج في نظر البعض عن الحالتين السابقتين،

وبالتأمل نجد أن مثل هذا التفكير عادة ما يكون حلقة في منظومة تفكير متكاملة إزاء

مشكلة أو مشروع معين، وإن لم يكن كذلك، فالمنهج العلمي يشدد على أهمية أن

يستحضر صاحب التفكير في مثل ذلك الموضوع الأهداف التي دفعته إلى التفكير،

مع إمكانية وضرورة الاستفادة من المنهج الخاص بالحالتين السابقتين.

ومن أجل وضوح أشد في المنهج، وثمرة أطيب في النتائج فإنه من المناسب

أن تفرد كل حالة بمنهج خاص، وفق ما يلي من تفصيل نظري وإيضاح تطبيقي:(أ) التفكير في حل مشكلة معينة:

دخلتُ ذات يوم المنزل بخطى استعجلها صوت والدتي: إخوتك جميعهم قد

ناموا! وماذا في ذلك؟ الصغار استيقظوا من النوم ليجدوا الباب مقفلاً

والكبار

أصابتهم نومة أهل الكهف. بدأنا نصرخ جميعاً: قوموا.. انهضوا.. استيقظوا..

لا أحد يجيب غير الصغار وبصراخ يتزايد.. أصابتني رعشة أحسست معها بأنني

أفكر بطريقة بدائية! ! يممت وجهي شطر زاوية من الزوايا.. وأخذت أسائل نفسي..

ما المشكلة؟ وما أسبابها؟ وماذا أريد بالضبط؟ وكيف أصل إلى ما أريد؟

إذاً من المهم جداً ونحن نفكر أن ندرك كيف نفكر (ما وراء التفكير) ؟ !

المشكلة انحباس الصغار داخل الغرفة

والسبب هو إغلاق الباب بالمفتاح

وعدم استيقاظ الكبار لفتحه.. وما أريده هو إخراج الصغار بسرعة لئلا يتأثروا

نفسياً.. فما هو الحل؟ !

إما كسر الباب.. أو إيصال صوتنا بطريقة توقظ الكبار.. كسر الباب يبدو

أنه مزعج ومكلف والحالة لا تستدعيه.. إذاً فالحل المناسب الثاني؛ ولكن كيف؟

الغرفة في الطابق العلوي ولكن نافذتها مفتوحة.. لماذا لا أسجل صوتي في شريط

كاسيت ثم أقوم بإنزال جهاز المسجل من أعلى المنزل إلى النافذة

حل معقول!

نجحت الفكرة بإيقاظهم من جراء الصوت المتطاير من الجهاز..

قصة ليست من نسج الخيال، قصدت من إيرادها فهم خطوات التفكير العلمي

بعمق، والتأكيد على منطقيتها وسلامة نتائجها بعد توفيق الله تعالى، والإشارة إلى

أنه يمكن للواحد منا أن يفكر علمياً بسرعة جيدة متى عوّد نفسه على المنهج العلمي

وتمرّس عليه

إذاً فعند تفكيرك في مشكلة معينة يجب اتباع الآتي:

1-

تحديد المشكلة بدقة وتعرية أسبابها (بماذا تفكر) .

2-

تحديد الهدف من حل المشكلة (لماذا تفكر) .

3-

تحديد البدائل (الحلول) الممكنة (كيف تصل لما تريد) .

4-

اختيار أفضل البدائل ومتابعة تنفيذه. (كيف تصل إلى ما تريد على

أفضل وجه) .

قبل المضي قدماً أرجو أن تعيد قراءة الخطوات السابقة مرة أخرى..

والآن من المناسب أن أتعرض لهذه الخطوات على نحو مفصّل كما يلي:

1-

تحديد المشكلة بدقة وتعرية أسبابها:

(أ) تحديد المشكلة بدقة:

ما هي المشكلة؟ وكيف يُشعر بوجودها؟ ولماذا تُحدد؟ وكيف؟

بعبارة بليغة موجزة يعرّف د. سيد الهواري المشكلة بأنها: (انحراف الواقع

عما يجب) [1] ، وهذا التعريف إن إردنا أن يتضمن المشكلة الماضية والمتوقعة

إلى جانب المشكلة القائمة فيجب أن نقول:

المشكلة هي: (الانحراف عما يجب) .

ولا يمكن أن تشعر بوجود المشكلة إلا من خلال:

* معرفة واقع الحال.

* ومعرفة ما يجب أن يصير إليه ذلك الواقع.

فإذا كان هناك انحراف بين ما هو قائم واقعاً وبين ما كان يجب أن يقوم، فإنه

بإمكانك إدراك أن ثمة مشكلة معينة تحتاج إلى حل.

ويمثل تحديد المشكلة بوابة العبور إلى جزيرة الحلول الملائمة، والقنطرة إلى

الوصفات الناجعة؛ إذ لا وصف للدواء إلا بعد تشخيص الداء؛ وهذا أمر بدهي لا

يعوزه برهان. لقد أجمع علماء الإدارة على أن من أهم أسباب نجاح الإدارة اليابانية

(أو التفكير الياباني) هو التركيز على تحديد المشكلة بدقة، وإمضاء وقت طويل

لتحقيق ذلك بعكس البعض؛ إذ يفترضون دوماً أن المشكلة واضحة لدرجة لا يجوز

معها أن يضيعوا شيئاً من الوقت في تحديدها! مع أنهم في حالات كثيرة يفكر كل

واحد منهم في مشكلة تختلف عن تلك التي يفكر فيها الآخر!

هل اعتاد الواحد منا أن يسأل من يفكر معه عن المشكلة: ما هي المشكلة التي

نفكر فيها؟

ولقد ثبت لديّ بالتجربة العملية أنّ من طالبتهم بالتفكير الجماعي في مشكلة

معينة لم يسأل أحدهم الآخر عما يفكرون فيه؛ مع أنه بسؤالي بعضهم تبين لي أن

البعض كان في الشمال والآخر في الجنوب! أو في الشمال الغربي!

وهنا نتلمس سبباً رئيساً من أسباب إخفاق التفكير الجماعي:

(يفكر بعضنا غرباً وبعضنا الآخر شرقاً!) .

ويجب في حالة التفكير الجماعي أن تكون القناعة بأهمية المشكلة متجانسة،

أو متقاربة، ولا بد أن يكون إلمام المشاركين في التفكير الجماعي بتفاصيل المشكلة

وأجزائها كذلك، كما أنه من البدهي تقارب مستوياتهم الفكرية والثقافية، وإلا فإنه

يجب أن يُصار إلى التفكير الفردي؛ إذ إنه حينذاك يصبح أكثر كفاءة وأعظم

جدوى [2] .

من الأمور المُعِينة على تحديد المشكلة أن توجه مجموعة من الأسئلة لنفسك،

على أن تتناسب مع طبيعة المشكلة، فمثلاً:

ما هو الخلل؟ ما هو النقص؟ ما هو الانحراف؟ ما هو الخطأ؟

ما هو الشيء الذي وقع فيه الخلل؟ وكيف؟

وأين يوجد الخلل في الشيء نفسه؟

متى لوحظ الخلل أول وآخر مرة؟

هل الخلل في ازدياد أم في نقص؟ ماذا كان يجب أن يكون؟ وكيف كان؟

من هو المسؤول عن الخلل؟

هل أنا جزء من المشكلة أم من الحل؟ ؟ ! !

وعندما تتلمس المشكلة يجب أن تفرق بين:

1-

المشكلة الظاهرية (العرضية) : وهي تلك التي تبدو في الوهلة الأولى

بأنها هي المشكلة التي يجب حلها، غير أنه بالتركيز والعمق يتبين لك زيفها

ويتعرى خداعها.

في التطبيق الأول: ما هي المشكلة

أهي تعاطي الابن للدخان [3] !

وفي التطبيق الثاني: ما هي المشكلة.. أهي خسارة ذلك الموظف [4] الجاد في قسمه وعدم وجود من يخلفه فيه؟

وفي التطبيق الثالث: ما هي المشكلة.. أتراها إخفاق الطالب في جعل

الخطين متساويين [5] !

2-

المشكلة الحقيقية: وهي ما يجب حلها والتركيز عليها، وهي قد لا تجود

بنفسها لمن أصيب بـ (العجلة الذهنية) وقد تحتاج لكي تكتشفها إلى ارتداء (نظارة

ذهنية ثاقبة) .

في التطبيق الأول: ألا توافق أن المشكلة أعمق من تعاطي الابن للدخان،

وأنها تتمثل بحدوث تغير فكري لدى ذلك الابن، تمخضت عنه رؤية القبيح حسناً؟

وفي التطبيق الثاني: ألا تعتقد أن المشكلة قد تكمن في معاملة مدير القسم

القاسية لذلك الموظف، أو لعدم وجود الحوافز في القسم كما هي في الأقسام الأخرى، أو غير ذلك من المشاكل التي توجد داخل القسم نفسه! !

وفي التطبيق الثالث:

ألم تسأل نفسك بدءاً عن مدى وجود هذه المشكلة

أصلاً

لو قمت بقياس الخطين لاكتشفت أنه ليس هناك مشكلة

فالخطان

متساويان! ألا زلت توافق المعلم؟

ترى كم من المشاكل المتوهمة استهلكتنا فكرياً واستنزفتنا مادياً ونفسياً؟

حواسنا تمارس خداعاً:

إن التطبيق الثالث يبين لنا أن حواسنا قد تمارس خداعاً لنا؛ فكل من يرى

بعينه المجردة الخطين السابقين فإنه يعتقد أن الثاني أطول من الأول! وهذا ما يؤكد

على أهمية التفطن لمثل هذا الخداع من جهة، وعلى أهمية التأكد من مدى وجود

المشكلة التي تعتني بالتفكير في إيجاد حل لها.

حاول أن تقرأ الجملة التالية بصوت مسموع:

عند التفكير في مشكلة معينة يجب أن نتأكد

من من مدى وجودها فعلاً قبل المضي في إيجاد حلٍ لها.

هل لاحظت تكرار من؟ هل قرأت (من) من مدى..؟ أم أنك اكتفيت بمن

واحدة؟

من الطبيعي أن تكتفي بواحدة؛ ذلك أن رؤية عينك تتأثر بما تفكر به

فأنت لم تتعود على تكرار حرف الجر مثلاً

و (لا وعيك) يوحي إلى عينك بعدم

إمكانية مثل ذلك التكرار..

وربما لا نستطيع أن نتغلب دائماً وبشكل تام على مثل هذا الخداع، غير أننا

نستطيع أن نقلل من تأثيره من خلال:

* الاعتماد على أكثر من حاسة؛ فمثلاً يمكننا استخدام العين لإبصار شيء

معين والأنف لشمه في آن..

* عدم الاعتماد على ما تمليه علينا حواسنا فقط، فمثلاً يمكننا القياس الكمي

للشيء

* جعل العقل مفتوحاً بحيث لا نستبعد شيئاً..

* التركيز الشديد

(ب) تحديد أسباب المشكلة:

وبعد تحديد المشكلة بدقة وصياغتها بعناية، يجب تحديد الأسباب التي أوجدتها؛ ويفضل تصنيف تلك الأسباب وتقسيمها وفق اعتبارات معينة مع ترتيبها وفق

اهميتها، فمن هذه التصنيفات ما يلي:

* أسباب رئيسة وأخرى فرعية.

* أسباب داخلية وأخرى خارجية.

* أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة.

* أسباب مادية وأخرى معنوية.

من الأخطاء الشائعة عند التفكير في الأسباب الاعتقاد بأن هناك سبباً واحداً

لكل مشكلة، في الوقت الذي يكون فيه هناك أكثر من سبب. فتجد بعض الناس

عندما يسألك عن مشكلة انحراف الأحداث مثلاً فإنه يقول لك: ما السبب في

انحراف الأحداث؟ وهو ينتظر منك أن توقفه على سبب واحد، ولذا تجده يتبرم إذا

فصّلت في الأسباب، وربما ينفجر إذا أوصلتها إلى أربعة أو خمسة، أو قمت

بتصنيفها! [6] إن أولئك يوقفون مشاكل بحجم الفيل على رأس دبوس.. إن تلك

الظاهرة التي يمكن تسميتها بظاهرة (دبوس الفيل) تنتشر عادة في البيئات الثقافية

الضحلة، ذلك أن الضحالة؛ تحجب عن أصحابها بعض جوانب الموضوع وربما

أهم زوايا التفكير! ! وبهذه الظاهرة أضحت القضايا الكبيرة عند أولئك مجرد

(بالونات منتفخة) تفتقر فقط إلى ذلك (الدبوس) !

2 -

تحديد الهدف من حل المشكلة:

لماذا تفكر في تلك المشكلة دون غيرها؟

قد تقودك الإجابة أحياناً إلى الامتناع عن البدء أو الاستمرار في التفكير في

المشكلة عندما تشعر أن الأهداف التي يمكن تحقيقها بعد حل المشكلة لا تستحق ما

سيبذل في سبيلها من جهد وعطاء..، وتفيد هذه الخطوة إذا عزمت على البدء أو

الاستمرار في التفكير في مشكلة معينة:

* في إضاءة الطريق الذي يجب أن تسلكه لحل المشكلة.

* وفي المساعدة في تحديد كافة البدائل.

* وفي اختيار أفضل البدائل الممكنة؛ وذلك أنها تعد معياراً موضوعياً

للاختيار؛ فالبديل المناسب هو الذي يحقق الأهداف على أفضل وجه كمّاً وكيفاً.

ومن أجل اختيار موضوعي للبديل المناسب، يجب أن:

* ترتب الأهداف طبقاً لأهميتها.

* تعطي لكل هدف وزناً خاصاً (تقييم الأهداف) .

مثال: أحصِ أهدافك تكن موضوعياً أكثر!

بافتراض أن هناك ثلاثة أهداف وبديلين، وتوفرت المعلومات الآتية:

--------------

الهدف

... الوزن

--------------------

الأول 5 نقاط

الثاني 3 نقاط

الثالث نقطتان

البديل الأول يحقق الهدفين الثاني والثالث، في حين أن البديل الثاني يحقق

الهدفين الأول والثالث.

مجموع النقاط التي يحققها البديل الأول = 3 + 2 = 5.

مجموع النقاط التي يحققها البديل الثاني = 5 + 2 = 7.

البديل الذي يجب اختياره هو الثاني.

قد تقول إننا لا نستطيع دائماً أن نعطي أهدافنا أوزاناً معينة؛ وهذا صحيح،

ولكن لا أظنك تدّعي عدم استطاعتنا ترتيبها وفق أهميتها، وهذا قد يكفي كمعيار

للاختيار في مثل تلك الحالات.

3 -

تحديد البدائل الممكنة:

عند التفكير في البدائل الممكنة يجب اصطحاب الأهداف وتذكرها؛ لأن ذلك

مُعينٌ على توليد البدائل من جهة، وعلى استيعاب كافة البدائل الممكنة من جهة

أخرى.

اشتكى المستأجرون لصاحب العمارة بطء المصاعد في العمارة، وهددوا

بالخروج ما لم يتم استبدالها! خشي صاحب العمارة أن ينفذ المستأجرون تهديدهم

فيخسر ما يدفعونه من إيجارات مرتفعة، فكاد أن يتخذ قراراً بالاستبدال! فاقترح

البعض أن يخفض شيئاً من الإيجار نظير بطء المصاعد، وأشار عليه البعض

بتركيب مرايا في كل طابق عند كل مصعد! في حين بارك الأغلبية قرار الاستبدال

وشجعوه على الإسراع لئلا يخسر!

ما رأيك بهذه البدائل؟ قد يبدو لك أن بعضها غريب وساذج في آن.. أليس

كذلك؟

في هذه الخطوة يجب تسجيل كافة البدائل الممكنة التي تخطر على بالك،

حتى تلك التي قد تبدو لك معالم سذاجتها ومواطن سطحيتها ونقاط ضعفها! لماذا؟

* لأن هذه الخطوة تركز فقط على تسجيل كافة البدائل الممكنة.

* لأنك قد تكتشف أو يكتشف غيرك ممن يشاركك التفكير أن البديل الناضج

هو ذلك البديل الذي سبق اعتباره ساذجاً!

تعد تقنية (العاصفة الذهنية) من التقنيات الجيدة والطرق الناجحة والمجربة في

توليد البدائل. (سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى لاحقاً في الحلقة القادمة) .

4 -

اختيار أفضل البدائل ومتابعة تنفيذه:

يجب إخضاع البدائل التي تم تحديدها لدراسة علمية موضوعية يتمخض عنها

تحديد البديل المناسب، من خلال تحديد البديل الذي يحقق الأهداف على أفضل

وجه كمّاً وكيفاً. بمعنى أن هذه الخطوة تعادي نظرية: (أنا لا أرتاح نفسياً لهذا

البديل) واضطرابها! !

في الحالة السابقة اقتنع صاحب العمارة بضرورة عرض المشكلة على مكتب

استشاري، فقام المكتب بدراستها وأوصى بتركيب المرايا؛ لأن الدراسة أثبتت أن

المصاعد جيدة وليست بطيئة، وتوصلت إلى أن السبب في تبرم المستأجرين يعود

إلى عدم وجود ما ينشغلون به أثناء انتظارهم للمصعد، ومن هنا جاءت فكرة

تركيب المرايا لكي ينشغل كل واحد منهم بهندامه ريثما يأتيه (الفرج) ! !

أثبتت الدراسة أن بطء المصاعد ليس المشكلة الحقيقية.. إذاً ما هي تلك

المشكلة من وجهة نظرك؟ أرجو أن تكون قد أدركت قدر المبالغ التي وفرها ذلك

البديل (الساذَج!) على صاحب العمارة ترى كم من المبالغ والجهود ننفقها في

بدائل فاشلة؟

وكم من الأفكار العظيمة اعتبرناها ساذجة وفيها الدواء!

ويجب أن تتضمن هذه الخطوة متابعة تنفيذ البديل وذلك باستشراف المستقبل

وما ينطوي عليه من عقبات وصعوبات، تمهيداً لرسم البرنامج العملي اللازم

لتجاوزها وتلافيها.

(ب) التفكير في مشروع معين:

يقصد بالمشروع (عملٌ يراد القيام به لتحقيق أهداف معينة) . وقد يكون هذا

المشروع خاصاً أو عاماً، عملياً أو ذهنياً، دنيوياً أو دينياً.... أو خليطاً بين هذا

وذاك.

ما هي الخطوات التي تعتقد أنه يجب اتباعها عند التفكير في مشروع معين؟

حدثني أحد أولئك الذين يفكرون علمياً أنه كان جالساً في مجلس شرع أحد

الحاضرين فيه في عرض مشروع خيري، وقال ما مفاده:

أيها الإخوة

تعلمون أهمية مثل هذا المشروع للفقراء والمحاويج وعظم

أجره عند الله تعالى، وهذا المشروع الخيري يتلخص في جمع تبرعات من

المحسنين لتوزيعها على هؤلاء الفقراء

وقبل معرفة من سيشارك منكم في أعمال

المشروع أود أن أتيح الفرصة للإضافة والتعقيب!

تجاذب الحاضرون أطراف الكلام وتدافعوها حتى ظفر صاحبي بطرف،

فشكر المقدم واستحسن الفكرة واستجاد المشروع، غير أنه فاجأ الجميع بأن تحدث

عن:

أولاً: أهمية تحديد الأهداف لهذا المشروع بدقة:

فالأهداف قد تكون خيرية فقط، أو خيرية دعوية، أو خيرية اجتماعية

ثانياً: البدائل:

من جهة الزمن: يتم التوزيع مرة في السنة، مرتين، ثلاث..

ومن جهة النطاق الجغرافي للمشروع: يغطي المشروع حياً واحداً، اثنين،

ثلاثة

كافة الأحياء في المدينة. ومن جهة طريقة التوزيع: توزيع نقدي، أو

عيني، أو نقدي عيني.

ومن جهة الإشراف الإداري

ومن جهة.... .

ثالثاً: يجب بعد تحديد البدائل والموازنة بينها، واختيار أفضلها في ضوء

الأهداف المحددة.

لم يحتج صاحبي إلى ساعات طويلة ولا إلى جهد كبير من أجل بلورة أفكاره

التي استجادها الحاضرون.. لماذا؟

لأنه عوّد نفسه على التفكير بطريقة علمية.

إذاً فالخطوات التي تتبع في حالة التفكير في مشروع معين هي ذاتها التي تتبع

في حالة التفكير في مشكلة معينة باستثناء الخطوة الأولى، وعليه تكون الخطوات

هي:

1-

تحديد الأهداف التي يجب أن يحققها المشروع.

2-

تحديد البدائل الممكنة.

3-

اختيار أفضل البدائل ومتابعة تنفيذه.

وحيث إنه سبق تناول هذه الخطوات بتفصيل لا يسوّغ الإعادة، فإنني

سأعرض للنقاط التي لها تعلق أكبر في التفكير في مشروع معين عبر ما يلي:

كيف تحدد أهدافك؟

بدءاً يجب التأكيد على أن نقطة الانطلاق في التفكير في مشروع معين هي

الاقتناع بالأهداف التي يمكن تحقيقها من خلال هذا المشروع.

وثمة اعتبارات علمية ينبغي مراعاتها عند تحديد الأهداف لمشروع معين،

يمكن تلخيصها فيما يلي [7] :

1-

أن تحدد الأهداف بدقة ووضوح؛ بحيث تُفهم من قِبَلِ الجميع فهماً واحداً.

2-

تناسق الأهداف وتكاملها وعدم تعارضها.

3-

واقعية الأهداف، وذلك بإمكانية تحقيقها، وهذه الواقعية على مستويين

هما:

(أ) على مستوى كل هدف على حدة، وذلك بكونه ممكن التحقق.

(ب) على مستوى الأهداف مجتمعة، وذلك بكونها ممكنة التحقق في وقت

واحد.

4-

صياغة الأهداف بشكل قابل للقياس من أجل تحديد نسبة النجاح في

تحقيقها، وذلك بربطها بأمر أو أكثر من الأمور التالية:

(1)

الزمن: توزيع المواد العينية على الفقراء في بداية كل شهر.

(ب) الكمية: إعطاء كل فقير ثلاثة أكياس من الأرز.

(ج) التكلفة: يجب ألا تزيد قيمة المواد الموزعة على كل فقير عن مبلغ

3000 ريال.

5-

ترتيب الأهداف بحسب أهميتها.

6-

أن تكون الأهداف من نوع واحد، فإما أن تكون رئيسة (استراتيجية أو

نهائية) أو فرعية (تكتيكية أو مرحلية) ، وذلك أن النوع الأول يتضمن الثاني.

ومن الأمور التي تعين على صياغة الأهداف وتحقيقها ومتابعة ذلك التحقيق

أن تقسّم وتصنّف اعتماداً على أساس أو آخر، فمثلاّ يمكن تقسيمها:

* من حيث النوع: إلى أهداف رئيسة وأهداف مرحلية.

* من حيث الزمن: إلى أهداف طويلة الأجل (5 -10سنوات) ومتوسطة

الأجل (1- 5 سنوات) وقصيرة الأجل (أقل من سنة) .

أقدِم إلى حيث يحجم الآخرون! :

لا يكن إخفاق غيرك في تنفيذ مشروع تضافرت اسباب اقتناعك به صارفاً لك

عن محاولة إيجاد آلية تمكن من تنفيذه على نحو يوصلك إلى تحقيق أهدافك..

لتتصف بالشجاعة الذهنية

فكم من المشاريع الرائعة حكم عليها البعض بالإخفاق

لأن عبقرياً أو (متعبقراً) أخفق في إنجاحها! !

فما لبثتْ أن انتشلها شجاع اقتنع بها ثم فكر.. ثم استشار.. ثم نفّذ.

ألا يمكنك أن تكون شجاعاً ولو مرة في حياتك؟ !

ولا إخالك إلا مفرقاً بين (الشجاعة الذهنية) و (التهور الذهني) ! !

تطبيقات عملية:

قبل التعرض لموضوع التفكير الإبداعي في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى

أرجو أن تفكر بشكل جاد ومتكامل ومكتوب في التطبيقات التي سأوردها لضمان

الاستفادة وترسيخ الفهم.

التطبيق الأول:

لاحظت إدارة شركة رائدة في الإنتاج الحيواني زيادة غير عادية في استهلاك

إطارات الشاحنات التي تستخدمها الشركة في تسويق منتجاتها، وبعد البحث

والتحري عن سبب مثل هذه الزيادة تبين للإدارة أن سائقي الشاحنات يقومون ببيع

الإطارات في السوق، ومن ثم استبدالها بأخرى جديدة والادعاء بأنها تلفت.

بافتراض أنك إداري فاعل في تلك الشركة. فكر في المشكلة السابقة إبداعياً

وحدد البديل الذي تراه مناسباً وكافياً لكي نخلع عليك لقب مبدع.

التطبيق الثاني: أمامك الشكل التالي:

5 5 5

5 5 5

5 5 5

المطلوب أن توصل بين هذه الدوائر بخطوط، بالشروط الآتية:

أن يكون عدد الخطوط أربعة.

أن تكون مستقيمة.

ألا ترفع قلمك عن الورقة وألا تعيد الخط مرتين [8] .

(1) د سيد الهواري، الإدارة الأصول والأسس العلمية، ص457.

(2)

د عبد الكريم بكار، فصول في التفكير الموضوعي، ص 39

(3)

هذه الأمثلة التطبيقية الثلاثة، تحدث عنها الكاتب في الحلقة السابقة (البيان) .

(4)

هذه الأمثلة التطبيقية الثلاثة، تحدث عنها الكاتب في الحلقة السابقة (البيان) .

(5)

هذه الأمثلة التطبيقية الثلاثة، تحدث عنها الكاتب في الحلقة السابقة (البيان) .

(6)

هاي روتشليس، التفكير الواضح، ترجمة لطيف دوس، ص 32.

(7)

عبد الله البريدي، نظرات في التربية في الأهداف، مجلة البيان، العدد 122، شوال 1418هـ.

(8)

TOM VERBERNE ، CREATIV FITNESS ، TRAING & PEVELOPMENT ، 1997، P 69-70.

ص: 14