المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دور المرأة المسلمة في مواجهة التغريب - مجلة البيان - جـ ١٣٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌دور المرأة المسلمة في مواجهة التغريب

بأقلامهن

‌دور المرأة المسلمة في مواجهة التغريب

رهام أديب الزعبي

تمر أمتنا الإسلامية في الوقت الحاضر بمرحلة في غاية الخطورة هي محاولة

إرساء التغريب في أرضها وإحكام الهيمنة عليها من قِبَلِ أعدائها. والتغريب هنا هو

تحويل الثقافة العربية والإسلامية من عقيدة وسلوك، وعادات وتقاليد إلى ثقافة

وعادات وتقاليد تابعة للغرب مخالفة تماماً لعقيدتنا وتراثنا الإسلامي، ومن ثم تصبح

الهيمنة على أمتنا والسيطرة عليها واحتواؤها سهلاً ميسوراً؛ بحيث تخضع خضوعاً

تاماً لما يريده الغرب، الذي يحاول جاهداً دون كلل أو ملل بث أفكاره وثقافته بكل

السبل التي يستطيع الدخول من خلالها.

وهذا التغريب قائم على أبحاث ودراسات حشدت لها كل الطاقات والإمكانات

لكي تطبق على المسلمين، منها ثقافية وفكرية، ومنها نظم سياسية واقتصادية بعيدة

كل البعد عن الإسلام وتشريعاته، مما يؤدي في النهاية بالمجتمع الإسلامي إلى أن

يتشبع بالفكر الغربي وثقافته وحضارته المعادية للإسلام، فيقضي على شخصية

المجتمع وولائه لدينه وأمته، ويصبح من السهل قيادته وتنفيذ كل ما يطلب منه.

والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن أهمها ما يتعلق بشؤون المرأة.

ولما كان للمرأة المسلمة أهمية كبيرة في تربية الأجيال ولها تأثيرها المباشر

في تنشئتهم على الإسلام عقيدة وسلوكاً، فقد أعطى أعداء الإسلام أهمية قصوى

لمحاولة تغريبها والتركيز عليها؛ وذلك من خلال الدعوات البراقة الكاذبة التي

انخدع بها كثير من أبناء وبنات أمتنا

تلك الدعوات المسماة بالتحرر وانتزاع

الحقوق، وطلب المساواة بينها وبين الرجل!

فإذا استجابت المرأة المسلمة لدعوتهم تلك فسيؤدي ذلك حتماً إلى إفسادها ثم

إلى فساد المجتمع وتدميره بأقصر الطرق وأسرعها؛ لما لها من تأثير فعال في ذلك، مما لا يستطيع أن ينكره عاقل.

ومن المؤسف حقاً أن نجد فئة من نسائنا قد انجذبت وانساقت لتلك الأباطيل،

فتبنت أفكارهم المضللة تلك، والدعوة لها، وعشن بتبعية كاملة لهم فكرياً

واجتماعياً وسلوكياً، مقلدات المرأة الأوربية تقليداً أعمى دون إدراك أو تفكير بحيث

ينطبق عليهن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان

قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل:

يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) [1] .

ولقد غاب عن وعي أولئك النسوة أن الظروف الاجتماعية والقانونية

والتاريخية التي واجهت المرأة الأوربية مختلفة تماماً عمّا واجهته المرأة المسلمة؛

فالمرأة هناك تعيش مجتمعاً قائماً على قوانين من وضع البشر وليست شرائع ربانية؛ فكان هناك انتهاك وهضم لحقوق المرأة مما جعلها تثور وتتمرد لتحصل على

حقوقها.

أما المرأة المسلمة فقد أعطاها الإسلام حقوقها كاملة منذ أربعة عشر قرناً؛

فيحق لها أن تفخر وترفع رأسها عالياً بتلك الحقوق التي لم تحصل عليها كثير من

النساء في أكثر البلدان التي تدعي الحضارة والتقدم إلى الآن.

لقد كرم الإسلام المرأة أحسن تكريم، ورفع مكانتها ووضعها في المكان اللائق

بها، ولم يفرق بينها وبين الرجل، بل ساوى بينهما في الحقوق والواجبات،

والثواب والعقاب. ولا أدري والله ما هي الحقوق التي تطالب بها المرأة المسلمة؟

وقد أعطاها الإسلام كامل حقوقها الدنيوية والأخروية.. أما الدنيوية: فمنها حق

التعلم والعمل، وحق التملك والتصرف بملكها وتجارتها دون تدخل من زوج أو أب. كما أعطاها حق اختيار الزوج؛ وحق الخلع إذا لم توفق بزواجها. ومن حقها

أيضاً المحافظة على اسم عائلتها بعد الزواج؛ وذلك بعكس المرأة الأوربية التي

تحمل اسم عائلة زوجها بعد الزواج. وأيضاً أُعطيت المسلمة حق الإرث فهي ترث

وتورث، يقول تعالى: [لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ

نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً]

[النساء: 7] .

وأما حقوقها ومساواتها مع الرجل في الأجر فقد بينه قوله تعالى: [فَاسْتَجَابَ

لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى] [آل عمران: 195] .

وقوله تعالى: [إنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ والْقَانِتَاتِ

وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ

وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ

كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] [الأحزاب: 35] . وبعد ذلك:

ماذا تريد المرأة أكثر من هذا؟

وهنا سؤال يطرح نفسه: ما هو المطلوب من المرأة المسلمة أن تفعله؟

المرأة المسلمة اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى أن تكون سلاحاً في وجه

أعدائها؛ وذلك من خلال رفضها لكل الدعوات الكاذبة والخادعة التي ظاهرها

الرحمة وباطنها العذاب، متمثلة قوله تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا

تَعْبُدُونَ] [الكافرون: 1، 2] .

فعلى المرأة المسلمة أن تقف سداً منيعاً إلى جانب الرجل المسلم في وجه ما

يخطط للأمة الإسلامية من خلالها، فلا تكون عوناً لأعدائها وأعداء أمتها؛ بل يجب

عليها أن تعي وتدرك ما يدور حولها من خطط لإبعادها عن دينها ورسالتها في هذه

الحياة وتهميش دورها في بناء مجتمعها الإسلامي، وإشغالها بتوافه الأمور،

وإضاعة وقتها في تتبع ما تبثه الفضائيات، وما تنشره المجلات الهابطة من

عروض للأزياء وآخر الموديلات من مكياج وعطورات، ومتابعة أخبار الفنانين

والفنانات!

إنه من المؤلم حقاً أن نرى إلحاح الإعلام المرئي والمقروء على جعل تلك

الشخصيات الفنية قدوة لأخواتنا وبناتنا المراهقات.. وما كثرة استضافتهن على

شاشات التلفزيون وصورهن على أغلفة المجلات وداخلها، غير تأكيد على ذلك؛

وكأن الدنيا قد خلت إلا من هؤلاء!

إن أكثر ما يغيظ الغرب هو تمسك هذه الأمة بدينها؛ فدعوتهم إلى تحرر

المرأة المسلمة والمتمثل عندهم بخلعها الحجاب واختلاطها بالرجال حتى يعم الفساد

في المجتمع الإسلامي ما هو إلا دليلاً كبيراً على ما يكنه الغرب لنا من عداء؛ فلن

يهنأ لهم بال ولا يستقر لهم حال حتى نترك ديننا ونعيش بتبعية كاملة لهم منفذين

رغباتهم وأمانيهم التي لا تنتهي إلا باتباع ملتهم كما أخبرنا به سبحانه وتعالى بقوله: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ][البقرة: 120] .

فالواجب على المرأة المسلمة أن تعود إلى إسلامها وتتمسك به بكل قوة،

وتعيش تعاليمه كلها منهجاً وسلوكاً، وتطبقها على نفسها أولاً ثم على من هم تحت

رعايتها. فلا بد أن تعلم المرأة المسلمة قبل كل شيء أن الإسلام كلّ لا يتجزأ؛

عقيدة، وعبادة، ومنهج حياة؛ فإذا أرادت أن تأخذ منه ما يطابق هواها وتترك ما

يغايره فإن هذا ينقض العقيدة وسلامتها. يقول تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ

إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] [الأحزاب: 36] .

لذلك يجب عليها أن تلتزم التزاماً كاملاً بما أمرها الشرع من حقوق وواجبات،

والبعد عن كل ما نهاها عنه قبل أن يستشري الداء ويزيد البلاء، فيعمنا الله بعقابه

في الدنيا من قبل أن نلقاه. كما قال تعالى: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا

مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] [الأنفال: 25] .

ومن الواجب على المرأة المسلمة أيضاً أن تعمل على تثقيف نفسها والتسلح

بالعلم الشرعي، وذلك من خلال حضورها لبعض الدروس الشرعية المتاحة في

مجتمعها، وسماعها للأشرطة المأمونة المتوفرة في السوق، وكذلك تلاوتها للقرآن

وتدبر آياته وحفظ ما تيسر منه، وخصوصاً آيات الأحكام، وكذلك الآيات الكونية،

والاطلاع على كتب التفسير والسيرة حتى يساعدها ذلك على أداء مهمتها في الدعوة

لهذا الدين العظيم، ذلك الدين الذي جعلنا خير أمة؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى

عن المنكر كما قال تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: 110] فإن وجدت في نفسها الكفاءة والقدرة

للدعوة لهذا الدين العظيم في محيط مجتمعها فينبغي ألا تدخر جهداً في ذلك؛ فهذا

واجب عليها. فإن لم تستطع فبإمكانها الدعوة بين أقربائها وجيرانها، فإن لم تستطع

فيكفيها أن تنشئ أبناءها على العقيدة السمحة، وتربيهم التربية الصالحة، وتبث في

نفوسهم حب هذا الدين والولاء له والبراء من أعدائه، وأن تشرح لهم معنى قوله

تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..][المجادلة: 22] لأننا اليوم في أمسّ الحاجة لكي يعلم أبناؤنا ما يخططه لنا الغرب

الصليبي واليهود الحاقدون ومن شايعهم في محاولتهم الخبيثة لتذويب شخصية شبابنا

المسلم في بوتقة الانحراف، وإبعادهم عن هويتهم الإسلامية الصحيحة؛ ففي هذه

الظروف التي نراها الآن وتعيشها الأمة الإسلامية وقد تداعت عليها الأمم كما

تداعت الأكلة على قصعتها، نرى أمتنا وقد هانت على أعدائها وتكالبوا عليها

لتضليل أبنائها ونهب ثرواتها وخيراتها.. فهم كما نرى يصطنعون الأحداث في

بلادنا ويضعون لها الحلول.. يخططون وينفذون ما يريدون؛ ففي مثل هذه

الظروف يجب أن تتكاتف الأيدي جميعاً.

فلتكن المرأة المسلمة عوناً للرجل تسانده وتشجعه بالدعوة لهذا الدين والذود

عنه، فلا تضيع وقتها فيما لا يعود عليها ولا على أمتها بالخير؛ فالعمر هو الوقت، والمسلم سوف يسأل عن عمره فيما أفناه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

(لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن

شبابه فيما أبلاه، وعن رزقه من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل

به) [2] .

فعلى المرأة المسلمة الحذر كل الحذر من أن تقع في شراك أدعياء تحرير

المرأة؛ فإنهم يهدفون من وراء ذلك الطعم اصطيادها وتحللها من دينها وقيمها

وأخلاقها؛ وحينها تكون ذيلاً لهم وتابعة ذليلة لمناهجهم.

إن الأمر جد خطير؛ فلا بد من تعبئة كل القدرات وتهيئتها وتضافر الجهود

وبذل الطاقات من أجل صحوة دينية نسائية صادقة هادفة تقوم على أسس هذا الدين

ومبادئه؛ فقد آن الأوان لكي نرد لهذا الدين عزته، وللمؤمنين كرامتهم؛ فنحن أحق

بأنفسنا من التبعية للأجنبي الغريب، بل نحن أحق بقيادة هذا العالم؛ لأن ديننا

صالح لكل زمان ومكان، وهو ينشر العدل والأمن والسلام بين البشر وميزانه:

[إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ][الحجرات: 13] و (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى) .

فلله العزة ولرسوله والمؤمنين

ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.

(1) البخاري: كتاب الأنبياء، حديث (50) وكتاب الاعتصام، حديث (14) ومسلم: كتاب العلم، حديث (6) .

(2)

الترمذي: كتاب القيامة، حديث رقم (1) .

ص: 24

حوار

حوار مع فضيلة الشيخ

عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

التحرير

الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، عالم جليل أفنى ما مضى من حياته

في العلم والتعليم والإفتاء

، اشتهر بتواضعه، وسعة صدره، وصبره، كما

عُرف باجتهاده وعلو همته، حتى صار له في الأسبوع: اثنا عشر درساً منها ما

يمتد لثلاث ساعات، ويجلس لبذل العلم كل يوم بين العصر والمغرب، هذا

بالإضافة إلى عمله (عضو الإفتاء) في دار الإفتاء بالرياض، وذلك إلى قبل أشهر

يسيرة؛ حيث أحيل للتقاعد حفظه الله، ومتعه بالصحة والعمل الصالح الذي يرضي

الله.

وقد كان لنا معه هذا اللقاء المبارك؛ حيث اقتطعنا جزءاً من وقته الثمين،

فتفضّل بالإجابة على أسئلة (البيان) وإنا لنرجو أن يجزيه الله عن الجميع خير

الجزاء، وأن يوفقه لأداء رسالته في العلم والتعليم والتوجيه، وأن يختم له بصالح

الأعمال. وإلى الحوار مع فضيلة الشيخ حفظه الله.

1-

هل لفضيلتكم أن تحدثنا باختصار عن طلبكم للعلم.. كيف كان؟ وعلى يد

مَنْ مِنَ العلماء تلقيتم العلم؟

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه.

وبعد: فإن الله سبحانه له الحمد والفضل والمن والثناء الحسن، فهو الذي

يوفق من يشاء ويهدي من يشاء فضلاً منه وكرماً، ويضل من يشاء عدلاً منه

وحكمة، ولا يظلم ربك أحداً.

أقول: إنني معترف بالنقص والقصور، وقلة التحصيل، وضعف المعلومات، وكثرة النسيان، وضياع الكثير من العمر في غير فائدة؛ فعندما أقرأ في تراجم

بعض العلماء كالشافعي وأحمد وابن راهويه، والبخاري، وابن معين ونحوهم،

أعرف الفرق الكبير، والنقص الجلي في نفسي، وأن لا نسبة إلى أحدهم ولو من

بعيد، وكذا عندما أقرأ في مؤلفات بعض العلماء الربانيين، كابن قدامة، وابن

تيمية، وابن القيم، وأمثالهم ممن فتح الله عليهم، وألهمهم العلم والفهم، والإدراك

والذكاء والفطنة، أرى ما منحهم الله ووفقهم له مما لا أصِلُ إلى عُشر معشاره، ولا

أحلم بإدراك معلوماتهم، ولو بعد التأمل والتفكر، وهكذا عندما نسمع سيرة إمام

الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبنيه وتلامذته، ومن تبعهم، ونقرأ في

رسائلهم ومسائلهم، نرى ما وهبهم الله تعالى، وما منحهم من العلم النافع، والفهم

الثاقب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

نشأة الشيخ:

ثم أقول إنني نشأت في قرية (الرين) التابعة للقويعية، وفي كل صيف غالباً

أكون في قرية (محيرقة) من قرى (القويعية) فابتدأت بتعلم القرآن والهجاء من

والدي رحمه الله، ومن إمام جامع محيرقة العم سعد بن عبد الله بن جبرين رحمه

الله، وذلك في سنة تسع وخمسين من القرن الرابع عشر الهجري، وفتر العزم عن

الحفظ؛ حيث لم يكن من يتابع معي، فلم أكمل حفظ القرآن إلا في سنة ثمان

وستين، وقد قرأت قبل ذلك على والدي رحمه الله في النحو والفرائض والحديث،

وبعض الكتب المطولة، فبعد إكمال حفظ القرآن ابتدأت في القراءة على فضيلة

قاضي الرين، الشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، وشهرته (أبو حبيب) ،

وواصلت القراءة عليه في المتون والشروح في التوحيد والعقيدة والحديث والفقه

والتفسير، وحصل بذلك خير كثير، ثم في عام أربع وسبعين انتقلنا إلى الرياض؛

حيث فتح معهد إمام الدعوة العلمي، وانتظمت فيه، وكانت قراءتنا في الصباح

على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى، وفي أثناء النهار

على غيره من المشايخ كإسماعيل الأنصاري، وحماد الأنصاري، وعبد العزيز بن

رشيد، ومحمد المهيزع وغيرهم رحمهم الله تعالى، ونقرأ في المساء على سماحة

الشيخ عبد العزيز بن باز بعد العصر وبعد المغرب، وأنهيت الدراسة النظامية في

عام 1382هـ، ومنحت الشهادة العالية من المعهد، وتعادل الجامعة، وفي عام

1388هـ انتظمت في المعهد العالي للقضاء حتى عام 1390هـ، حيث منحت

شهادة الماجستير، بعد أن قدمت رسالة في أخبار الآحاد وهي مطبوعة، وفي عام

1407هـ حصلت على الدكتوراه؛ حيث قمت بتحقيق شرح الزركشي على

مختصر الخرقي الذي طبع بعد ذلك بتحقيقنا في سبعة مجلدات. والله الموفق.

2-

لو أردنا المقارنة بين ذلك الوقت، وبين اليوم؛ من حيث إقبال الشباب

على العلم، فهل نجد فوارق بارزة بين المرحلتين، وهل كانت تتوسطهما مرحلة

أخرى تتميز عنهما؟

لا شك أن هناك فوارق كبيرة لها تأثيرها في كل من المرحلتين، ولكل منهما

ميزة ظاهرة، فقبل خمسين عاماً كان في هذه المملكة قلة في العلماء الربانيين

البارزين، سيما في القرى والبلاد النائية؛ وذلك لأن طلاب العلم أفراد وأعداد

قليلون وتغلب العامية على الأكثر؛ وذلك لأنهم عاشوا في فقر وفاقة، وشظف عيش، وقلة في الإمكانيات؛ فالمواطنون يهمهم الحصول على لقمة العيش، فالبوادي

الرحل يتبعون مواضع القطر لمواشيهم التي بها معاشهم ومعاش عوائلهم، فهم

أميون، لا يقرؤون ولا يكتبون، وأكثرهم جهلاء، قد لا يحسنون قراءة الفاتحة،

ولا صفة الطهارة والصلاة، إلا ما شاء الله، وأهل القرى منشغلون بتحصيل

الرزق والقوت، إما في حرث وغرس فيعملون طوال الوقت في السقي والحرث،

والأبر والغرس والإصلاح، وإنما يتفرغون لأداء الفرائض جماعة، وسماع ما يقرأ

في الصلاة، ولا يجدون غالباً من يلقنهم تعاليم الدين، وآخرون أهل صناعة من

الصناعات اليدوية، كحدادة ونجارة، وخرازة ودباغة، وحياكة ونحوها مما

يتحصلون منه على القوت الضروري، كغذاء أو كسوة وسكن يكنهم عن الحر والقر، وآخرون منشغلون في التجارة التي تتوقف على الرحلات، والأسفار الطويلة،

حيث تستغرق الأشهر، يقطعون فيها المفازات والصحاري، مما لا يتفرغون معه

لتعلم أو تفقه في الدين، وإنما يتلقون من آبائهم العلوم الضرورية في العبادات قولاً

أو فعلاً، ومع هذه الأحوال فإن هناك من اهتموا بالطلب والتعلم، فتجشموا

الصعاب، وقطعوا المراحل البعيدة، وتغربوا عن الأوطان؛ ولازموا العلماء في

المدن أو في بعض القرى، على ملء بطونهم، وكسوة ظهورهم، وأكبوا على

التلقي، واهتموا بالحفظ والفهم، واستهموا على الوقت، وأقبلوا بكلياتهم على التعلم، فوفقهم الله وسدد خطاهم، وأعطاهم ما تمنوا رغم قلة الإمكانيات، وبُعد المسافات، وكثرة المعوّقات، ولكنهم صبروا على المشقة، وركبوا الصعوبات، حتى مكنهم

الله وأعطاهم ما تمنوا، ولكنهم قلة قليلة يتواجدون في المدن، وحول حملة العلم،

وأكابر العلماء الذين أنزل الله في علمهم البركة، واهتموا بتعليم العقائد والعبادات

والأحكام، وبارك الله في سعيهم، وذلك لحسن النيات والمقاصد؛ حيث لا يريدون

عَرَضَ الدنيا، وإنما قصدوا الاستفادة وحمل العلم، والتفقه في الدين، ولا شك أن

هذا الجهد الذي يبذلونه، وهذه المشقة التي يتجشمونها، قليلة بالنسبة إلى ما نسمع

ونقرأ عن جهود سلفنا الصالح، وعلماء صدر هذه الأمة، في القرون المفضلة،

ومن سار على نهجهم، الذين يتغربون عن أهليهم عدة سنوات، للتعلم والاستفادة،

ويسافر أحدهم للتحمل والأخذ عن المشايخ الأكابر الشهر والأشهر، ويسهرون

الليالي في طلب المعاني، مما كان سبباً في بقاء علومهم، والانتفاع بآثارهم،

والبركة في مؤلفاتهم، وبقاء لسان صدق لهم فيمن بعدهم، فرحمهم الله وأكرم

مثواهم.

3-

تتباين وجهات النظر في الأسلوب الأمثل والطريقة الأكمل لطلب العلم؛

من الاكتفاء بمجالسة العلماء، أو إدامة القراءة، أو حفظ المتون، أو الدراسات

المنهجية في الجامعات.. نود تجلية الأمر للإخوة القراء من خلال خبرتكم الطويلة

في التعليم؟

لا شك في اختلاف الرغبات، والتباين الكبير في طرق التحصيل عند طلاب

العلم، والذي أراه أن لكل طالب التمشي على ما يميل إليه ويتأثر به، ويرى فيه

الفائدة وإدراك المعلومات، ومع ذلك فإن مجالس العلماء، وحضور الحلقات،

وإدامة الملازمة للدروس اليومية أو الأسبوعية التي تقام في المساجد ونحوها، مفيدة

ونافعة، ولها تأثير كبير في تحمل العلم، وتجديد المعلومات، وما ذاك إلا أن الدافع

إليها غالباً هو الاستفادة؛ حيث يتوافد الطلاب إلى تلك الحلقات، ويأتون من أماكن

بعيدة أو قريبة، وتراهم خاشعين منصتين، وكل منهم غالباً يحمل معه كتاباً يتابع

فيه المدرس، أو دفتراً لتعليق الفوائد، وكتابة المعلومات؛ بحيث يرجع الطالب

بحصيلة علمية نافعة، تبقى معه طوال حياته، ومع ذلك فإن المطالعة وإدامة قراءة

الكتب العلمية مفيدة جداً، لكن لا بد قبل ذلك من معرفة المقدمات، والأساليب

والاصطلاحات للمؤلفين، ولا بد من معرفة اللغة الفصحى، وما يتصل بها من

النحو والصرف والبيان، حتى تتم الاستفادة منها؛ حيث إن الكثير من الطلاب

يصدهم عن القراءة في الكتب جهلهم بالمصطلحات، وقصورهم في المعلومات

اللغوية، حتى فضّل الكثير ما كتبه المتأخرون، وأكبوا على القراءة للمعاصرين،

وإن لم نعرف الصوارف عن مؤلفات الأقدمين. ثم نقول: إن حفظ المتون

والمختصرات، واستظهار الأحاديث، والقواعد، والأركان والواجبات، له الأثر

الكبير في بقاء المعلومات، فلقد كان مشايخنا الأكابر يذكرون عن نشاطهم وتسابقهم

إلى الحفظ، ويحثون تلامذتهم على ذلك، حتى رأينا منهم العجب في استحضار

النصوص والأدلة عند الحاجة إليها، وكانوا يلزمون من أراد الالتحاق بالتعلم أولاً:

بحفظ القرآن الكريم، وثانياً: أثناء الاستعداد بحفظ المختصرات في النحو

والفرائض، والأحاديث في الأحكام، والتوحيد والعقائد والفقه، والتفسير، أما في

هذه الأزمنة فقد لاحظنا فتوراً ظاهراً في الحفظ والاهتمام بالمتون، وإنما يكتفون

بالفهم وإدراك المعاني من المتون، أو من الشروح، أو من التقارير والتعليقات،

وذلك قد يكفي لمن حصل له الفهم التام، ورزق حفظاً دائماً. فأما الدراسات

المنهجية فقد أصبحت من الضروريات؛ بحيث لا يخل بها إلا القليل، بل يلتزم

الأكثرون بها، رجالاً ونساءً، انتظاماً وانتساباً، والغالب أن القصد منها هو

الحصول على المؤهل الذي يمنح لهم بعد الانتهاء من كل مرحلة، ولا شك أن

الالتزام بذلك مع المواصلة إلى نهاية المرحلة الجامعية مما يفيد كثيراً؛ حيث إن

الطفل يبدأ من مبادئ العلوم، ثم يترقى إلى ما بعد ذلك سنة بعد سنة، ومرحلة بعد

مرحلة، فمتى كان قصده الاستفادة، وتحصيل المعلومات النافعة، فإنه سيحصل

من ذلك على قسط كبير، يبقى معه أثر طوال حياته، ولكن لا بد مع ذلك وبعده من

مواصلة التعلم، وبذل الجهد في التحصيل، فإن العلم كثير، وطالب العلم لا يكتفي

بما حصل عليه، كما في الحديث:(منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) . وكان العلماء يوصون تلاميذهم بالاستمرار في الطلب، ويقول أحدهم: (اطلب

العلم من المهد إلى اللحد) ، ويقولون:(مع المحبرة إلى المقبرة) فعلى المسلم الجد

في الطلب بما يقدر عليه، وما يراه نافعاً في حقه. والله أعلم.

4-

لا يخفاكم واقع مناهج التعليم في جل بلاد العالم الإسلامي.. مما جعل

بعضهم يرغب عن التعليم النظامي جملة: ما الموقف الصحيح تجاه هذا المنهج:

ألا ترى فضيلتكم أن لذلك سلبيات لا سيما مع قلة العلماء العدول فضلاً عن حاجة

الأمة لتعليم ناشئتها مختلف العلوم والفنون؟

لا شك في صلاح النية، وحسن الأهداف عند تقرير المناهج التعليمية، في

أغلب البلاد الإسلامية، ثم مع مرور الزمان، نشأ من يريد في الظاهر قصداً حسناً، والله أعلم بما يضمره، فاقترح تغيير المناهج القديمة، أو الاقتضاب من بعضها،

وإضافة علوم أو مواد ثانوية، وفرض دراستها، مع قلة الحاجة إليها، أو عدم

أهميتها، أو اختصاصها ببعض الأفراد، فكان ذلك سبباً في عزوف كثير عن

التعليم النظامي، إما لصعوبته، أو لنفرة بعض النفوس عنه، أو لقة الفائدة التي

تعود إلى ذلك الطالب، وميل نفسه إلى علوم وأعمال أخرى، وكان الأوْلى أن

يجعل لهؤلاء مدارس خصوصية، يقرر فيها دراسة العلوم الدنيوية الضرورية، مع

المواد الشرعية، ويعفى من ينتظم فيها عن علم الجبر والهندسة، واللغات،

والفيزياء وشبهها، ثم إن هذه العلوم لا شك في أهميتها، ومسيس الحاجة إليها،

ولكن ذلك في حق من يرغبها، ويجد من نفسه ميلاً إلى التعلم والعمل بها، ثم إن

طالب العلم في المدارس والمعاهد العلمية والجامعات الإسلامية وغيرها، يجب عليه

حسن النية في دراسته لتلك المواد، فيقصد أولاً: حمل العلم النافع، ليفوق الجاهل

به، فقد قال تعالى:[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ]

[الزمر: 9] ، أي لا سواء بين العالم بالفن والجاهل به، ويقصد ثانياً: نفع نفسه ونفع الأمة، سواء في أمر الدين أو أمر الدنيا؛ حيث تمس الحاجة إلى تعلم هذه الفنون، ويستفيد حاملها، ويعلّم غيره، ويغني نفسه، ويكتفي بصناعته أو حرفته، ويقصد.

ثالثاً: فيما يتعلق بالعلوم الشرعية فضل حاملها، كقول النبي -صلى الله عليه

وسلم-: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهّل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن

الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل

شيء حتى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر

على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا

درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) . ويقصد رابعاً: العمل على

بصيرة؛ فإن من شرط قبول العمل موافقته لما ورد به الشرع، فمن عمل على

جهل فعمله مردود، وخصوصاً إذا تمكن من التعلم فأعرض عنه، ولا شك في خطأ

الذين عزفوا عن التعليم النظامي، لأي سبب عرض لهم، ولذلك نراهم أصبحوا

عالة على أهليهم، قد عطلوا أنفسهم، وصاروا كلاً وثقلاً على أولياء أمورهم، وقد

روي عن بعض السلف رحمهم الله أنه قال: الناس ثلاثة أقسام: عالم رباني،

ومتعلم على سبيل النجاة، وسائر الناس همج رعاع لا خير فيهم، يغلون الأسعار،

ويضيقون الديار، ثم إنهم بعد أن أفاقوا من سكرتهم، وانتبهوا من رقدتهم، أسفوا

أشد الأسف على ما ضاع من أوقاتهم، ولكن ذلك بعد أن تفارط الأمر، وفات

الأوان. والله المستعان.

5-

يشكو كثير من طلاب العلم المواظبين على حِلَقِ العلم من طول مدة إنهاء

كتاب من الكتب، التي قد تمتد لسنوات.. فما تعليقكم؟

هذا مشاهد ملحوظ، ولكنه ليس مطرداً في جميع طلبة العلم الذين يرغبون في

المواصلة والاستمرار في الطلب، ولا تكل جهودهم، ولا تضعف هممهم، فنوصي

طالب العلم، أن تكون همته عالية، وأن لا يعتريه سآمة ولا ملل، وأن يتذكر

أحوال السلف وعلماء صدر هذه الأمة، وما بذلوه من الجهد، والتعب والنصب في

طلب العلم، وقد ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه رحمه الله أنه قال: (أول سنة خرجت

في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف

فرسخ، ولما زاد على ألف فرسخ تركت الحساب. وذكر أنه سار ماشياً من الكوفة

إلى بغداد مرات عديدة، ومن مكة إلى المدينة مراراً، ومن البحر من قرب مدينة

صلا إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة، ومن الرملة إلى بيت المقدس،

ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن

دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى إنطاكية، ومن إنطاكية إلى طرسوس، ثم من

طرسوس إلى حمص، ومن حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، وقبل ذلك

من واسط إلى النيل ومن النيل إلى الكوفة، كل ذلك ماشياً في سفره الأول، وسنه

عشرون عاماً، وقد نقل عن غيره أكثر من ذلك. وبالجملة نوصي طالب العلم

بالمواصلة، ولو طالت المدة، سواء في الدراسة النظامية، أو في الحلقات العلمية،

ونوصي المشايخ أن يتنزلوا على رغبات جمهور الطلبة، في تعليمهم ما يساعدهم

على حمل العلم، من المختصرات المفيدة، حتى لا يملوا، فمن رغب في

المطولات، واستمر على المواصلة فهو أوْلى، حتى يتزود من المعلومات المفيدة.

والله أعلم.

6-

ما يزال الشباب يتوافدون بحمد الله على دروس العلم، لكن الملاحظ

سرعة تبدل بعض الطلبة بحيث لا يستمر بعضهم إلا أشهراً، وقد يكون ممن ابتدأ

قراءة كتاب على بعض أهل العلم

ويخشى بعض المحبين من خطورة الأمر..

فما رأي فضيلتكم في العلاج الأمثل لحث الطلبة على مواصلة العلم وتلقيه عن

العلماء المشهود لهم؟

نوصي طالب العلم أن لا يعتريه ملل، ولا يثنيه كسل؛ فإن العلم كثير،

والعمر قصير، وذلك أن الطالب للعلم همته رفيعة، فهو لا يشبع من التعلم، ولا

ينثني عن المواصلة، ولقد كان الكثير من العلماء الأكابر يقرؤون ويستفيدون، حتى

من تلامذتهم، ولا يحتقر أحدهم من دونه أن يتلقى منه فائدة، وكان التلاميذ

يلازمون مشايخهم، ويتكرر أحدهم على مجالس العلم، إما للتذكر أو للتزود، حتى

ولو كان عالماً بما يقول شيخه، وذكروا أن من آداب التلاميذ أن يظهروا لمشايخهم

الشكر، والدعاء لهم، حتى لو كانت المسألة معلومة عندهم، فإذا سمع الفائدة أظهر

لشيخه أنها جديدة، وأعلن بشكره عليها، ولو كانت معلومة له من قبل، واستشهد

بعض المشايخ بقول الشاعر:

إذا أفادك إنسان بفائدة

من العلوم فلازمْ شكره أبدا

وقل: فلان جزاه الله صالحة

أفادنيها، وألقِ الكِبَْر والحسدا

وعلى المدرس أن يحث الطلبة على المواصلة والاجتهاد، والحرص على

إكمال الدراسة، سواء كانت نظامية أو علمية، وأن يتصور فائدة المواصلة

والمتابعة، وما يترتب على الانقطاع من ضياع المعلومات، وذهاب ما بذله من

الجهد، وليعلم أن العلم لا يحصل لمتكبر، أو متوان، أو مستحْيٍ، وأن العلم

بالتعلم، وبالحفظ والإتقان والفهم والإدراك.

7-

لعل من أسباب ضعف الاستمرار: سوء اختيار الطالب للدرس الذي

يحضره، أو الكتاب الذي يدرسه؛ لكونه لا يناسب مستواه العلمي، ألا ترون أن

هناك حاجة إلى جعل الطلبة على مستويات اثنين أو ثلاثة مثلاً ينظر في إلزام

الطالب الراغب في الالتحاق بما يناسب مستواه؟

قد عرف أن طلبة العلم يتفاوتون في المستويات، وهكذا في الرغبات، ولذلك

يكثر تواجدهم في بعض الفنون دون بعض، وعند بعض المشايخ دون البعض،

وقد يكون السبب قلة الرغبة من بعضهم في إحدى المواد؛ حيث إن منهم من لا

يرى الاشتغال بالفقه الذي يغلب عليه أنه اجتهاد من الفقهاء، والكثير منه لا دليل

عليه، وبعكس هؤلاء آخرون رأوا أهميته؛ لأنه يتعلق بواقع الحياة، ويحتاج إليه

الفرد والمجتمع، ولا بد من الفتوى به عند وقوع حادثة، فهو من العلوم الضرورية

في كل زمان ومكان، ولهذا كثرت فيه المؤلفات من العلماء الذين رزقهم الله العلم

والفهم بالوقائع، وتطبيق النصوص على الحوادث، ثم إن من الطلاب من يفضل

نوعاً من العلوم الفقهية، كقسم العبادات، ويحب تكرارها في عدة كتب، ولا

يرغب في قسم المعاملات وما بعده، وبعكسه آخرون يفضلون الاجتهاد في فهم

المعاملات، لمسيس الحاجة إليها، فعلى هذا لا مانع أن يقسم المدرس الوقت بين

الطلاب؛ فمن رغب في النحو واللغة والصرف والبلاغة والبيان جعل لهم وقتاً،

واختار مادة أو مختصراً يناسبهم جميعاً، ومن رغب في الحديث حدد لهم درساً في

يوم أو أيام، ومن رغب البدء من أول العلوم ابتدأ بالتوحيد والعقيدة التي تناسب

المبتدئين، ومن رغب في الفقه من أوله أو من وسطه أعطاهم رغبتهم، ولعله بذلك

يفيد المستفيدين، ويحصل كل منهم على ما تميل إليه نفسه. والله الموفق.

8-

تلقى فتاواكم بحمد الله ارتياحاً عاماً، يعزى فيما نحسب بعد توفيق الله

تعالى لحسن فهمكم روح الشريعة ومراعاة مقاصدها، واعتبار المصالح والمفاسد..

هل من توجيه لطلبة العلم في هذا الصدد؟

أعترف على نفسي بالقصور والنقص، وكثرة الخطأ، وأسأل الله العفو

والغفران، وستر العيوب والنقائص؛ حيث إني أكتب أجوبة الأسئلة التي ترفع إليّ

بدون مراجعة، أو بحث في أقوال العلماء غالباً، نظراً إلى كثرة الأعمال، وعجلة

السائل، والارتباط بالمواعيد والدروس، وأعتمد فيما أكتب على معلومات قديمة

علقت بالذهن وقت الطلب والتلقي عن المشايخ، أو تجددت وقت التدريس الرسمي

الذي كنت أستعد له وأراجع وأحضّر قبل الإلقاء، أو حصلت من الممارسة وتكرر

المرور، ومن المطالعات والدروس الجديدة التي أقوم بإلقائها في المساجد. فأما

القابلية لها عند العامة أو التلاميذ فلعل ذلك لحسن الظن، ولما يتلقونه من الدروس

التي يتقبلونها، واثقين بصحتها ومع ذلك فإني أقول: ما كان فيها من صواب فمن

الله تعالى وهو الذي وفّق له وهدى، وما كان من خطأ أو زلل فمني ومن الشيطان،

وأستغفر الله مما وقع مني. وأقول: على طلاب العلم أن لا يعتمدوا على فتوى

تخالف الدليل أو الحق والصواب، فإن على الحق نوراً، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، فلا بد من مراجعة الكتب والمؤلفات، وتطبيق الفتاوى

الاجتهادية لي ولغيري على كلام العلماء، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، والله أعلم.

9-

(لحوم العلماء مسمومة) ؛ فما واجب أهل العلم وطلبته في حماية

أعراضهم؟

اشتهرت هذه العبارة بين الأمة، وهي تفيد معرفتهم بفضل العلماء، ومكانتهم

في المجتمعات، ومنزلتهم بين الأمة، ولعل من أسباب تكرار هذه الكلمة ما وقع فيه

البعض من الطلبة أو العامة، أو المنتسبين إلى العلم، من كثرة القدح والعيب

والتنقص والاغتياب لبعض علماء الأمة، وأكابر الدعاة والمعلمين، وقد يكون

الحامل لهؤلاء الحسد الذي يكثر بين حملة العلم، وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله

في (جامع بيان العلم وفضله) باباً كبيراً في طعن العلماء بعضهم في بعض، قال:

والصحيح أن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته

بالعلم، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة تصح بها

جرحته،

والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور المسلمين إماماً في الدين،

قول أحد من الطاعنين، أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم كلام كثير

في حالة الغضب، ومنه ما حمل على الحسد، كما قال ابن عباس: (استمعوا علم

العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من

التيوس في زُرُبِها) . وفي قول له: (خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول

الفقهاء بعضهم على بعض؛ فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة) . ثم نُقِل عن

أبي حازم عن أبيه أنه قال في أهل زمانه: فصار الرجل يعيب مَنْ فوقَه ابتغاء أن

ينقطع عنه، حتى يرى الناس أنه ليس بحاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله،

ويزهو على من هو دونه، فهلك الناس

إلخ. وقد ذكر أمثلة من طعن بعض

العلماء في بعض نظماً ونثراً، وقد اشتهر طعن الإمام مالك وهشام بن عروة في

محمد بن إسحاق، وبالعكس، ولم يكن ذلك موجباً لرد روايتهم، وهكذا طعن ابن

حجر في العيني، والعيني في ابن حجر، وكذا ما حصل بين السيوطي والسخاوي؛ وذلك لأن الحامل على ذلك المنافسة والحسد، وحب الظهور، وإذا كان ذلك ليس

من أخلاق العلماء المتواضعين، فعلى هذا لا يجوز سماع الطعن في العلماء

المشهورين، ولا يلتفت إلى من أخذ ينقّب عن مثالبهم، ويتتبع أخطاءهم، فيجعل

من الحبة قبة، ويتغافل عن فضائلهم وآثارهم، وعلومهم الجمة التي نفع الله بها،

والله عند لسان كل قائل وقلبه.

10-

ما أهم ما يميز العالم من الخُلق، مما يمنحه قبول الناس له؟ وما

جوابكم على من يخلط بين الهيبة والتعالي؟

لقد كتب العلماء في أخلاق العالم وأكثروا، سيما إذا تولى عملاً ذا أهمية

كالقضاء والتعليم ونحو ذلك، ونحيل القارئ على كتاب: (تذكرة السامع والمتكلم،

في آداب العالم والمتعلم) ، لابن جماعة رحمه الله ولا شك أن العالم له مكانته بين

الناس، وأن عليه أن يتواضع لمن سأل، ويصغي لمن يستفيد منه، ويلين جانبه،

ويظهر للطلاب الفرح والاستبشار، ويلقاهم بصدر رحب، ووجه منبسط، ويفرح

بتوافدهم وكثرتهم عنده، ويسره أن يستفاد منه، وعليه أن يبدأ بطلب القراءة عليه، ويعرض على التلاميذ أن يجلس لهم في مادة كذا وكذا، أو يسألهم عن رغبتهم،

ويجيب مطلبهم، وأن يلتمس ما يميلون إليه من البسط أو الاختصار، ومع ذلك فلا

يضع نفسه موضع الذل والاستضعاف والهوان، بل يترفع عن مجالس السفه واللهو

واللعب، وإضاعة الوقت، مما يسقط مكانته، ويضع قدره عند تلاميذه، وأن لا

يشمخ بأنفه، ويتكبر على بني جنسه، مما يعيبه به العلماء والتلاميذ، ولكن بين

ذلك، فيكون ليناً بلا ضعف، قوياً من غير عنف، حليماً ذا أناة، كما ذكروا ذلك

في القاضي.

11-

من المشتغلين بالعلم من يرى ضرورة احتجابه عن مخالطة العامة؛

لأجل توفير الجهد والوقت؛ فما مدى توافق ذلك مع الهدي النبوي؟ وهل القاعدة

في هذا الأمر مطّردة، أم يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة؟

وما ضوابط المخالطة المناسبة لأهل العلم وطلابه؟

قد علم أن لحامل العلم مكانته ومنزلته التي فضله الله بها على غيره، ومتى

خالط السفهاء وعوام الناس، واندمج معهم، لقي إهانة وذلاً واحتقاراً، وسمع من

سخيف القول، ومستهجن الكلام، ما يترفع عنه حملة العلم الذين قال الله عنهم:

[يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ][المجادلة: 11] ولقد صور ذلك الشيخ أبو الحسن الجرجاني رحمه الله بقوله:

يقولون لي فيك انقباض وإنما

رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

ولم أتبذل في خدمة العلم مهجتي

لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة

إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم

ولو عظموه في النفوس لعظّما

ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا

محياه بالأطماع حتى تجهما

وأقول أيضاً: إن الاحتجاب العام عن الجميع غير لائق؛ فإن الناس بحاجة

إلى مجالسة أهل العلم، والتلقي عنهم، والبحث معهم عن المعضلات وما يشكل

عليهم، فلهذا متى ابتعد العالم عن العامة حتى عن الطلاب عيب عليه هذا الابتعاد،

ومتى اختلط بالعامة وغوغاء الناس ومن لا يعرف مكانته عيب ذلك عليه، فلا بد

أن يحفظ نفسه ووقته للاستفادة والقراءة والمذاكرة، ولا بد أن يتبسط ويفتح صدراً

رحباً لمن زاره أو استزاره لتحصل الاستفادة من معلوماته، ويتجدد ما في ذاكرته

من معلومات ومفاهيم، وينفق مما أعطاه الله، ولا شك أن الناس يختلفون، وبينهم

تباين كبير في الآراء والأعمال؛ فمن كان ميله إلى المذاكرة والكتابة والتأليف آثر

ذلك على التعليم والتدريس، وساغ له أن يتفرغ للقراءة والبحث والكتابة ونحو ذلك، ولكن لا ينبغي له أن يحتجب دائماً، بل عليه أن يفسح المجال لبعض الزوار

والمستفيدين. وأما من آثر التعليم والإفتاء والتدريس، فإنه يحب الانبساط

والاختلاط، ويرغب الاندماج مع الناس، ولكن عليه أن يرفع نفسه عن مواقف

الذل والهوان.

ص: 28