الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأملات دعوية
لو أقسم على الله لأبره
محمد بن عبد الله الدويش
إن لله عباداً اختصهم تبارك وتعالى بمنزلة وفضيلة ليست لغيرهم من
الناس، ومن هؤلاء من أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: «رُبَّ أشعثَ
مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» [1]، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا
أخبركم بأهل النار؟ كل جواظ زنيم متكبر» [2] .
وأعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الضعفاء وشأنهم، فقال لسعد بن أبي
وقاص رضي الله عنه حين رأى أن له فضلاً على من دونه: «هل
تُنصَرون وترزقون إلا بضعفائكم» [3] ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث
…
آخر: «ابغوني ضعفاءكم؛ فإنما تُرزقون وتنصرون بضعفائكم» [4]، وقال صلى الله عليه وسلم:«طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذَن له، وإن شَفَعَ لم يشفَّع» [5] .
وتفاضُلُ الناس إنما هو بمعيار واحد وميزان واحد هو التقوى، فأكرمهم عند
الله أتقاهم.
هذه الحقائق البدهية والمسلَّمات التي يعيها كل مسلم مهما كانت ثقافته وعلمه
قد تغيب عن بعضنا بفعل مؤثرات أخرى.
ومن ذلك: أن أرباب الأعمال، بل والدعاة إلى الله يعتنون بفئات معينة من
الناس؛ فصاحب الذكاء، والرجل القيادي، وصاحب الشخصية الجذابة
…
يجدون
من التقدير والاعتبار لدى هؤلاء ما لا يجده غيرهم، ويبحثون عنهم ويعتنون بهم؛
لأنهم هم المؤهَّلون لتولي الأعمال والمسؤوليات، ويرى هؤلاء أن الرجل الصالح
مهما بلغ من التقى والزهد والعبادة ما لم يكن يحمل مواصفات القيادية فليس هو
المؤهل لتولي المسؤولية.
وهذا أمر لا نزاع فيه؛ فقد قال - تعالى - على لسان ابنة شعيب: [إن خير
من استأجرت القوي الأمين] [القصص: 26] .
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم» ومع ذلك قال عنه صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من رجل أصدق لهجةً من أبي ذر» [6] .
وحين نفرق بين تأهيل شخص لتولي مسؤولية، أو الاعتناء بتربيته ورعايته
وإعداده، وبين المحبة والولاء واعتقاد الفضيلة، فإننا نقف موقف الاعتدال في
التعامل مع هذه القضية، ونضع النصوص الشرعية في موضعها.
كما لا يسوغ أن يدعونا شعورنا بكون فلان أوْلى بهذه المسؤولية إلى التقليل
من شأن الآخر، فضلاً عن أن ننظر بازدراء أو استخفاف لمن نعتقد أنَّا قد فُضِّلنا
عليه بالعقل والإدراك؛ فهذا مزلق خطير، وهو من باب غمط الناس وازدارئهم،
ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
بل والصحوة اليوم تحتاج لطائفة من الصالحين الصادقين الذين لا يأبه لهم
الناس، ولو لم يتولوا مسؤوليات وأعباء؛ فلعلها تُنصر وتُوفق بدعائهم وصدقهم مع
الله - تعالى -.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا البصيرة والفقه في الدين، وأن يجعلنا
من عباده المتقين، إنه سميع مجيب
(1) رواه مسلم، ح2622.
(2)
رواه البخاري، ح4918، ومسلم، ح2853.
(3)
رواه البخاري، ح2896.
(4)
رواه أحمد، ح21224، وأبو داود، ح2594، والترمذي، ح 1702، والنسائي، ح3179.
(5)
رواه البخاري، ح2887.
(6)
رواه أحمد، ح6593، والترمذي، ح3802، وابن ماجه، ح156.
دراسات تربوية
القناعة
مفهومها.. منافعها.. الطريق إليها
(2-2)
إبراهيم بن محمد الحقيل
استعرض الكاتب في الحلقة الأولى مفهوم القناعة وأهم فوائدها وآثارها، ثم
عرج على صور من قناعته صلى الله عليه وسلم في المأكل والمشرب وكذا أهل
بيته. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بقية الموضوع. البيان
صور من قناعة الصحابة والسلف الصالح:
وسار على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابتُه الكرام - رضي الله
عنهم - والتابعون لهم بإحسان؛ فقد عاشوا أول الأمر على الفقر والقلة، ثم لما
فُتحت الفتوح واغتنى المسلمون بقوا على قناعتهم وزهدهم، وأنفقوا الأموال الطائلة
في سبيل الله - تعالى - وهذه نماذج من عيشهم وقناعتهم.
أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (رأيت سبعين من أهل الصفة
ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ
نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته) [1] .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - قوله: (لقد رأيت سبعين من
أصحاب الصفة) يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين [2] .
ب - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (من حدثكم أنا كنا نشبع من
التمر فقد كذبكم، فلما افتتح صلى الله عليه وسلم قريظة أصبنا شيئاً من التمر
والوَدَك) [3] .
ثم فتح الله على المسلمين وأصبح المال العظيم يرسل إلى عائشة رضي الله
عنها فبقيت على قناعتها وزهدها وأخذت تفرق المال على محتاجيه؛ فقد بعث إليها
معاوية رضي الله عنه بمئة ألف درهم. قال عروة ابن الزبير: فوالله ما أمستْ
حتى فرَّقتْها، فقالت لها مولاتها: لو اشتريت لنا منها بدرهم لحماً! فقالت: ألا قلتِ
لي؟ [4] لقد نسيت نفسها رضي الله عنها، وفرقت مالها، واستمرت على قناعتها
بعد وفاة رسول الله. وعن أم ذرة قالت: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في
غرارتين يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية فطوري، فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين! أما استطعت أن تشتري
لنا لحماً بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني، لو أذكرتني لفعلت [5] . فهل تقتدي نساء
المسلمين بعائشة رضي الله عنها بدلاً من سَرَف الإنفاق على النفس وحظوظها
واللباس والزينة؟ !
ج - وعن عامر بن عبد الله أن سلمان الخير حين حضره الموت عرفوا منه
بعض الجزع، قالوا: ما يجزعك يا أبا عبد الله، وقد كانت لك سابقة في الخير؟
شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مغازي حسنة وفتوحاً عظاماً! قال:
يجزعني أن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، حين فارقنا عهد إلينا قال: (ليَكْفِ اليوم
منكم كزاد الراكب) فهذا الذي أجزعني، فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر
ديناراً، وفي رواية: خمسة عشر درهماً [6] .
د - وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم - رحمه الله تعالى - يعزم عليه إلا
رفع إليه حوائجه فكتب إليه: قد رفعت حوائجي إلى مولاي، فما أعطاني منها
قبلت، وما أمسك منها عني قنعت [7] .
أسباب تحول دون القناعة:
ذكر الماوردي - رحمه الله تعالى - الأسباب التي تمنع القناعة بالكفاية،
وتدعو إلى طلب الزيادة، وهي - على سبيل الاختصار-:
1-
منازعة الشهوات التي لا تُنال إلا بزيادة المال وكثرة المادة، فإذا نازعته
الشهوة طلب من المال ما يوصله إليها، وليس للشهوات حد مُتناهٍ، فيصير ذلك
ذريعة إلى أن ما يطلبه من الزيادة غير متناهٍ، ومن لم يَتَنَاهَ طلبه استدام كدَّه وتعبه،
فلم يفِ الْتذاذُه بنيل شهواته بما يعانيه من استدامة كده وأتعابه، مع ما قد لزمه من
ذم الانقياد لمغالبة الشهوات، والتعرض لاكتساب التبعات، حتى يصير كالبهيمة
التي قد انصرف طلبها إلى ما تدعو إليه شهوتها فلا تنزجر عنه بعقل، ولا تنكفُّ
عنه بقناعة.
2-
أن يطلب الزيادة ويلتمس الكثرة ليصرفها في وجوه الخير، ويتقرب بها
في جهات البر، ويصطنع بها المعروف، ويغيث بها الملهوف؛ فهذا أعذر،
وبالحمد أحرى وأجدر متى ما اتقى الحرام والشبهات وأنفق في وجوه البر؛ لأن
المال آلة المكارم، وعون على الدِّين، ومتألَّفٌ للإخوان. قال قيس بن سعد: اللهم
ارزقني حمداً ومجداً؛ فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقيل لأبي الزناد: لِمَ تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني
عنها. وقال بعض الحكماء: من أصلح ماله فقد صان الأكرميْن: الدِّين والعِرض.
3-
أن يطلب الزيادة ويقتني الأموال ليدّخرها لولده، ويخلِّفها لورثته، مع
شدة ضنه على نفسه، وكفه عن صرف ذلك في حقه، إشفاقاً عليهم من كدح الطلب
وسوء المنقلب، وهذا شقي بجمعها مأخوذ بوزرها قد استحق اللوم من وجوه لا
تخفى على ذي لب، منها:
أ - سوء ظنه بخالقه: أنه لا يرزقهم إلا من جهته.
ب - الثقة ببقاء ذلك على ولده مع نوائب الزمان ومصائبه.
ج - ما حُرِم من منافع ماله وسُلِب من وفور حاله، وقد قيل: إنما مالك لك
أو للوارث أو للجائحة؛ فلا تكن أشقى الثلاثة.
د - ما لحقه من شقاء جمعه، وناله من عناء كده، حتى صار ساعياً محروماً،
…
وجاهداً مذموماً.
هـ - ما يؤاخذ به من وزره وآثامه ويحاسب عليه من تبعاته وإجرامه. وقد
حُكي أن هشام بن عبد الملك لما ثَقُلَ بكى ولده عليه، فقال لهم: جاد لكم هشام
بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما كسب، وتركتم عليه ما اكتسب، ما أسوأ
حال هشام إن لم يغفر الله له! وقال رجل للحسن - رحمه الله تعالى -: إني أخاف
الموت وأكرهه، فقال: إنك خلَّفت مالك، ولو قدَّمتَه لسرَّك اللحاق به.
4-
أن يجمع المال ويطلب المكاثرة، استحلاءً لجمعه، وشغفاً باحتجانه؛
فهذا أسوأ الناس حالاً فيه، وأشدهم حرماناً له، قد توجهت إليه سائر الملاوم. وفي
مثله قال الله - تعالى -[والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
فبشرهم بعذاب أليم] [التوبة: 34][8] .
السبيل إلى القناعة:
1-
تقوية الإيمان بالله - تعالى -، وترويض القلب على القناعة والغنى؛
فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب؛ فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى
بالرضى، وإن كان لا يجد قوت يومه، ومن كان فقير القلب؛ فإنه لو ملك الأرض
ومن عليها إلا درهماً واحداً لرأى غناه في ذلك الدرهم؛ فلا يزال فقيراً حتى يناله.
2-
اليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه، كما في حديث ابن
مسعود رضي الله عنه وفيه: (ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر
بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد..) [9] . فالعبد مأمور
بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب.
3-
تدبر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق
والاكتساب. يقول عامر بن عبد قيس: أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتُهن مساءً
لم أبال على ما أُمسي، وإذا تلوتُهن صباحاً لم أبال على ما أُصبح: [مَا يَفْتَحِ اللَّهُ
لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ومَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ] [فاطر: 2] ،
وقوله تعالى: [وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]
[يونس: 107]، وقوله تعالى: [ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلَاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا
ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ] [هود: 6]، وقوله - تعالى [سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً] [الطلاق: 7] [10] .
4-
معرفة حكمة الله سبحانه وتعالى في تفاوت الأرزاق والمراتب بين
العباد، حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والتجارات، ويخدم
بعضهم بعضاً قال - تعالى [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ
فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً
ورَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] [الزخرف: 32] ، وقال - تعالى -[وهُوَ الَذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ]
[الأنعام: 165] .
5-
الإكثار من سؤال الله سبحانه وتعالى القناعة، والإلحاح بالدعاء في
ذلك؛ فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الناس قناعة وزهداً ورضىً
وأقواهم إيماناً ويقيناً، كان يسأل ربه القناعة؛ فعن ابن عباس: رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدعو: (اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك
لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير) [11] ولأجل قناعته صلى الله عليه
وسلم، فإنه ما كان يسأل ربه إلا الكفاف من العيش والقليل من الدنيا كما قال -
عليه الصلاة والسلام: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)[12] .
6-
العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء وكثرة الحركة
وسعة المعارف، وإن كان بعضها أسباباً؛ إلا أن الرزق ليس معلقاً بها بالضرورة،
وهذا يجعل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة أو ذكاءًا أو
غير ذلك وأكثر منه رزقاً فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه.
7-
النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا، وعدم النظر إلى من هو
فوقك فيها؛ ولذا قال النبي (انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو
فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله) [13] . وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة
والسلام: (إذا رأى أحدكم مَنْ فوقه في المال والحسب فلينظر إلى من هو دونه في
المال والحسب) [14] .
وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ومن هو أقل منه
في أشياء؛ فإن كنت فقيراً ففي الناس من هو أفقر منك، وإن كنت مريضاً أو معذباً
ففيهم من هو أشد منك مرضاً وأكثر تعذيباً، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك، ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك؟ إن كنت تعرف من نال من المال والجاه ما لم
تنله أنت وهو دونك ذكاءًا ومعرفة وخلقاً، فلِمَ لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك
كله وهو لم ينل بعض ما نلت [15] ؟ !
8-
قراءة سِيَر السلف الصالح وأحوالهم مع الدنيا والزهد فيها والقناعة بالقليل
منها، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثاراً للباقية على العاجلة، وعلى رأسهم
محمد صلى الله عليه وسلم، وإخوانه من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ثم
الصحابة الكرام رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان؛ فإن معرفة أحوالهم،
وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم، وترغِّبه في الآخرة،
وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومتعها الزائلة.
9-
العلم بأن عاقبة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب
والصرف منه بالطرق المشروعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول
قدما عبد حتى يُسأل: عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمه فيمَ فعل فيه، وعن ماله من
أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه) [16] فمشكلة المال أن الحساب عليه
من جهتين: جهة الاكتساب ثم جهة الإنفاق، وهذا ما يجعل تبعته عظيمة وعاقبته
وخيمة إلا من اتقى الله فيه وراعى حرماته اكتساباً وإنفاقاً.
ثم ليتفكر في أنه كلما تخفف من هذا المال وكان أقل كان حسابه أيسر وأسرع؛ وذلك كمن سافر في الطائرة وحمل متاعاً كثيراً؛ فإنه إذا بلغ مقصده احتاج وقتاً
طويلاً لاستلامه وتفتيشه بخلاف من كان خفيفاً ليس معه شيء، وحساب الآخرة
أعسر، والوقوف فيها أطول.
ولينظر أيضاً إلى من كان المال والجاه سبب شقائه وأمراضه وهمومه
وغمومه؛ فهو يشقى ويتعب في جمع المال ونيل المناصب ثم يحمل همَّ الحفاظ
على المال والمنصب فيقضي عمره مهتماً مغتماً، ثم انظر ماذا يحدث له إذا خسر
ماله أو أُقيل من منصبه، وكم من شخص كان ذلك سبباً في هلاكه وعطبه! نسأل
الله العافية.
10-
النظر في التفاوت البسيط بين الغني والفقير على وجه الحقيقة، فالغني
لا ينتفع إلا بالقليل من ماله، وهو ما يسد حاجته وما فضل عن ذلك فليس له، وإن
كان يملكه، فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم لا نجد أنه يستطيع أن يأكل من
الطعام أكثر مما يأكل متوسط الحال أو الفقير، بل ربما كان الفقير أكثر أكلاً منه،
وبعبارة أخرى: هل يستطيع الغني أن يشتري مائة وجبة فيأكلها في آن واحد، أو
مائة ثوب فليبسها في آن واحد؛ أو ألف مركبة فيركبها في آن واحد؛ أو مائة دار
فيسكنها في وقت واحد؟ ! لا؛ بل له من الطعام في اليوم ثلاث وجبات تزيد قليلاً
أو تنقص، وللمستور كذلك مثله، وله من اللباس ثلاث قطع تزيد قليلاً أو تنقص،
ولا يستهلك من الأرض في وقت واحد إلا متراً في مترين سواء كان قائماً أو قاعداً
أو مضطجعاً. فعلام يُحسد وهو سيحاسب على كل ما يملك؟ ! وقد فهم هذا المعنى
حكيم هذه الأمة أبو الدرداء رضي الله عنه حينما قال: أهل الأموال يأكلون
ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضول
أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم وحسابهم عليها ونحن منها برآء، وقال أيضاً: الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم
حينئذ، ما أنصَفَنا إخوانُنا الأغنياء: يحبوننا على الدِّين، ويعادوننا على
الدنيا [17] .
بل جاء هذا المعنى في السنة النبوية. قال عبد الله بن الشخير - رضي الله
عنه -: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ [أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ]
[التكاثر: 1]، يقول:(يقول ابن آدم - مالي، مالي! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟)[18] .
إن القانع قد لا ينال من الطعام أطيبه، ولا من اللباس أحسنه، ولا من العيش
أرغده؛ ولكنه ينعم بالرضى أكثر من الطمَّاع وإن كان الطماع أرغد عيشاً منه؛
لأن القانع ينظر إلى الموسر وما يملك فيراه لا ينتفع إلا بقليل مما يملك، لكنه
سيحاسب عن كل ما يملك.
ثم ليعلم العاقل أن كل حال إلى زوال، فلا يفرح غني حتى يطغى ويبطر،
ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم ولا غنى يدوم، وكم من رجال
نشؤوا على فرش الحرير، وشربوا بكؤوس الذهب، وورثوا كنوز المال، وأذلوا
أعناق الرجال، وتعبَّدوا الأحرار، فما ماتوا حتى اشتهوا فراشاً خشناً يقي الجنب
عض الأرض، ورغيفاً من خبز يحمي البطن من قَرْص الجوع، وآخرون قاسوا
المحن والبلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طعام، فما ماتوا حتى
ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت الخيرات، وصاروا من سراة الناس، وسيسوِّي
الموت بين الأحياء جميعاً: الغني والفقير؛ فدود الأرض لا يفرق بين المالك
والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير
بفقره، ولا يبطر غني بغناه [19] ، وما أجمل القناعة! فمن التزمها نال السعادة،
وما أحوج أهل العلم والدعوة للتحلي بها! حتى يكونوا أعلام هدى ومصابيح دجى،
ولو تحلى بها العامة لزالت الضغائن والأحقاد، وحلت الألفة والمودة؛ إذ أكثر
أسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها، وما ضعف الدين
في القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم،
حينما قال: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَطَ الدنيا عليكم كما
بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم) [20] ،
فهل من مدَّكر؟ وهل من معتبر يجعل ما يملك من دنيا في يديه، ويحاذر أن تقترب
إلى قلبه فتفسده؟ (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا
فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) .
(1) أخرجه البخاري في الصلاة 442.
(2)
فتح الباري 1/639.
(3)
أخرجه ابن حبان 684 والوَدَك: دسم اللحم.
(4)
أخرجه أبو نعيم 2/47 والحاكم 4/13.
(5)
أخرجه ابن سعد في الطبقات 8/67، وأبو نعيم في الحلية 2/47.
(6)
أخرجه الطبراني في الكبير والرواية الثانية له 6182 وأبو نعيم في الحلية 1/197وصححه ابن حبان 706.
(7)
الإحياء 3/239،، والقناعة لابن السني 43 عن نضرة النعيم3173.
(8)
مختصراً من أدب الدنيا والدين 317-324.
(9)
أخرجه أحمد 1/382، والبخاري في بدء الخلق، وفي أحاديث الأنبياء وفي التوحيد 7453 ومسلم في القدر 2643 وغيرهم.
(10)
عيون الأخبار لابن قتيبة 3/206.
(11)
أخرجه السهمي في تاريخ جرجان برقم 50 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي 2/356.
(12)
أخرجه البخاري في الرقاق 6460، ومسلم في الزكاة 1055، والترمذي 2362 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(13)
أخرجه البخاري في الرقاق 6490، ومسلم واللفظ له 2963.
(14)
هذه الرواية لابن حبان في صحيحه714.
(15)
مع الناس للشيخ علي الطنطاوي 58.
(16)
أخرجه الترمذي، وقال حسن صحيح (2419) .
(17)
سير أعلام النبلاء (2/350 351) .
(18)
أخرجه مسلم في الزهد 2958.
(19)
باختصار وتصرف يسير من: مع الناس 61.
(20)
أخرجه البخاري في الرقاق 6425، ومسلم 2961.