المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطور الثاني لدولة يهود - مجلة البيان - جـ ١٤٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌الطور الثاني لدولة يهود

الافتتاحية

‌الطور الثاني لدولة يهود

كان مقتل (رابين) - رئيس وزراء (إسرائيل) السابق وزعيم حزب العمل -

عام 1995م أثناء إحدى جولاته الانتخابية على يد أحد المتطرفين اليهود علامة

واضحة على مدى التنافر القائم بين مختلف الأطراف في مجتمع الكراهية اليهودي

في فلسطين المغتصبة؛ ولهذا فليس من المستغرب تركيز (أيهود باراك) في

برنامجه الانتخابي على شعار إعادة اللّحمة إلى (المجتمع الإسرائيلي) بعد أن فرقتهم

سياسات الليكود؛ ولهذا سُمي التحالف بين حزب العمل وحركتي (غيشر وميماد)

التي قادها في الانتخابات بقائمة: (إسرائيل واحدة) .

إن من يتابع الانتخابات اليهودية تتكشف أمامه جوانب من شخصية اليهودي

النمطية، ويتبين مقدار النجاح والإخفاق في محاولة جمع شتات اليهود في مجتمع

متجانس. والذي يهمنا هو توضيح بعض الصور التي انطبعت في الذهن بعد

أسابيع من المتابعة للنشاط الانتخابي في (إسرائيل) وإليك بعضها:

أولاً: التغطية الإعلامية:

استغل اليهود نفوذهم الإعلامي في إبراز ديمقراطية النظام في (إسرائيل)

وتفرده في المنطقة، وبالغوا في متابعة العملية الانتخابية حتى تخال نفسك تتابع

الانتخابات الأمريكية. ومن الغريب أن هناك شبه إجماع على الوقوف ضد نتنياهو

حتى إنه اشتكى من الحملة الإعلامية ضده، ومما لا شك فيه أن للإعلام دوراً مهماً

في إسقاط شخص نتنياهو ثم الليكود.

وهنا لا يفوتنا الإشارة إلى أنه على الرغم من غياب الديمقراطية في العالم

العربي فإن الملاحظ هو تعاظم الاهتمام الإعلامي الرسمي فيه بهذه الانتخابات وما

يمكن أن تؤدي إليه!

ثانياً: ظهور الأحزاب الفئوية:

تُعتبر الأحزاب اليهودية الأولى في فلسطين المحتلة امتداداً لأحزاب قائمة في

أوروبا الشرقية وروسيا؛ فمثلاً تشكل حزب العمل الموحد في روسيا عام 1897م،

وحزب مرزاحي في المجر عام 1902م، وحزب اغودات (إسرائيل) عام 1912م

وكانت الحركة الصهيونية تشجع قيام هذه الأحزاب لتنظيم اليهود في العالم. وقد

نص عليه برنامج قيام هذه الأحزاب لتنظيم اليهود في العالم، وقد ذكره برنامج

مؤتمر بال 1897م، وهكذا بلغ عدد الأحزاب عام 1948م (12) حزباً ارتفع بعد

عام واحد فقط إلى (24) حزباً، ووصلت القوائم الحزبية وغير الحزبية إلي (31)

قائمة في عام 1981م؛ ومن الملاحظ سيطرة اليهود الغربيين (الأشكناز) على

النشاط السياسي؛ فهم زعماء جميع الأحزاب وينظرون إلى أنفسهم أنهم بناة الدولة،

ولا يخفي بعضهم الضيق من اليهود الشرقيين (السفارديم) الذين يُتهمون بالتخلف؛

وبالمقابل فإن اليهود الشرقيين الذين هاجروا بعد قيام الدولة يحسون بالغبن وبالتحيز

ضدهم، وأن نسبتهم في المناصب القيادية لا تكاد تذكر مقارنة مع عددهم الذي

يتجاوز نصف عدد اليهود مع تزايد النسبة نظراً لتناسلهم السريع مقارنة مع

الأشكناز الذين يرون في هجرة الروس الحل الوحيد لمعالجة هذا الخلل مما أوجد

حالة من التنافر الشديد بين اليهود الشرقيين - ويمثلهم حزب شاس - والمهاجرين

الروس - ويمثلهم حزب المهاجرين الجدد (يرائيل بعاليه) .

لقد تمكن حزب شاس من استقطاب اليهود الشرقيين؛ ولا أدل على ذلك من

ارتفاع عدد نوابه من 10 نواب عام 1996م إلى 17 نائباً في هذه الانتخابات وحل

في المرتبة الثالثة بفارق بسيط بعد الليكود، وكان هذا الحزب متحالفاً مع الليكود

ومسيطراً على وزارة الداخلية التي استغلها في تقديم الخدمات لأتباعه مع محاربة

المهاجرين الروس وذلك بالتشكيك في يهوديتهم وحرمانهم من الامتيازات، واتهامهم

بأنهم وراء تجارة المخدرات والجنس ونشرها في المجتمع؛ ولهذا فإن المهاجرين

الروس يهاجمون شاس ويطالب حزبُهم بوزارة الداخلية لخدمة قاعدتهم الانتخابية.

فهل يأتي اليوم الذي يجد فيه المهاجرون الأوائل من الأشكناز أنفسهم مضطرين إلى

تشكيل حزب خاص بهم من أجل الحفاظ على مصالحهم؟

ثالثاً: من الذي سقط: الليكود أم نتنياهو؟

لا شك أن لنتنياهو دوراً كبيراً في سقوط تجمع الليكود وحلفائه؛ فقد أجمعت

الدوائر الداخلية والخارجية على وجوب إزاحة نتنياهو؛ إذ لم يعد وجوده يُحتمل؛

فقد ساءت العلاقة بينه وبين اللوبي اليهودي المتنفذ في أمريكا، وكان مصدر حرج

كبير للزعماء العرب المتعاملين مع (إسرائيل) . ولا ننسى كيف أغضب أقرب

الأصدقاء العرب عندما نفذ الموساد بأمر منه عملية اغتيال خالد مشعل التي لم

يفلحوا بها في عمان؛ أما داخل حزبه فقد خرج ثلاثة من أقطابه وأكثرهم شعبية

وهم (دان مريدور، وإسحاق مردخاي، وبني بيجن) بسبب خلافاتهم الشخصية مع

نتنياهو، وانضموا للمعارضة وساهموا في إسقاطه. وقيادات حزب العمل أيضاً

يعترفون بهذه الحقيقة؛ فمثلاً يقول غوري برعام: (يجب ألا نضلل أنفسنا؛ لقد

كانت نتيجة الانتخابات بمثابة حجب ثقة عن نتنياهو وليس تأييداً ليهود باراك) .

وكان انسحاب المرشحين لصالح باراك آخر ضربة توجه لنتنياهو.

وقد استقال نتنياهو من الليكود وسيترك البرلمان (الكنيست) ويسافر إلى

أمريكا مما يعني نهاية مستقبله السياسي.

رابعاً: باراك في الانتخابات:

قامت حملة العمل الانتخابية على ثلاث ركائز أساسية تتلخص فيما يلي:

1-

أن الانتعاش الاقتصادي في عهد رابين وبيريز انقلب إلى ضائقة بسبب

سياسات نتنياهو وتعطيله عملية التطبيع مع العرب مما أفقد (إسرائيل) كلاً من

الاستثمارات الأجنبية والأسواق العربية المنتظرة في حال نجاح ما يسمى بعملية

السلام.

2-

أنه لا توجد فروق في المواقف السياسية وبخاصة في المسار التفاوضي

مع الفلسطينيين، وأن باراك قادر على ضمان تحقيق المصالح الاستراتيجية

والأمنية بصورة أفضل من نتنياهو. وكما يقول أحد منظّري اليمين في (إسرائيل)

البروفيسور (يهوشع بورات) في معرض تسويغه تأييد باراك: (إنني على يقين أن

ما يحققه نتنياهو بثمن كبير تدفعه دولة (إسرائيل) يحققه باراك وأكثر منه دون أن

نخسر شيئاً يُذكر) . وكان يهود باراك يكرر كثيراً أن المرء يحتاج إلى ميكروسكوب

لكي يدرك الفروق الأيديولوجية بين حزبي العمل والليكود.

3-

التركيز من ناحية على عيوب نتنياهو الشخصية: وكانت وسائل الإعلام

تبرز أن نتنياهو كان كاذباً ومستعداً لعمل أي شيء من أجل تحقيق مصالحه

الشخصية، وأنه يدبر الدسائس حتى لأقرب الناس إليه، وأخيراً فإنه لا يستطيع

ادعاء الطهر بعد اعترافه بالخيانة الزوجية، ومن ناحية أخرى فقد قدم باراك نفسه

بوصفه الضابط الذي حصل على أكبر قدر من الأوسمة تقديراً لعملياته ضد

الفلسطينيين، وأبرز شهادات قادة سابقين في الجيش والمخابرات يشيدون فيها

بتجربته قائداً، ويثنون على صفاته الشخصية، وكما يصف نفسه في كرّاسٍ

انتخابيّ مكتوب بالروسية وموجه للمهاجرين الروس الجدد ويحمل عنوان: (أيهود

باراك الجندي رقم واحد في إسرائيل) . تحدث فيه عن عمليات قادها باراك؛ منها:

عملية اغتيال قادة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1973م، وهم كمال

ناصر وكمال عدوان ويوسف النجار؛ حيث يقول: (لقد اطلقت النار على رؤوسهم، وقد تطاير بياض عيونهم على قبعتي) ومنها أيضاً: عملية اغتيال (أبو جهاد) ،

وقصف مقر المنظمة في تونس، والتخطيط لتدمير المفاعل النووي العراقي، وكما

يقول أحد الصحفيين الإسرائيليين المعارضين لهذا النهج فإن باراك يعرض نفسه

على أنه (مقاول قاتل) .

خامساً: باراك رئيساً للوزراء:

لقد صَدَمَ باراك في أول تصريحاته بعد الفوز المتفائلين من العرب عندما

أطلق لاءات تؤكد ثوابت دولة اليهود، والتي تتلخص فيما يلي:

- أن القدس هي العاصمة الأبدية والوحيدة لدولة (إسرائيل) والشعب اليهودي. ولتجاوز اتفاقية أوسلو حول الوضع النهائي للقدس اتفق حزب العمل مع السلطة

على إطلاق تسمية القدس على ضاحية أبو ديس؛ أما القدس الشرقية والغربية فتبقى

تحت السيادة (الإسرائيلية) لأن اسمها أورشليم!

- لا وجود لجيش عربي على الضفة الغربية لنهر الأردن.

- عدم إزالة مستوطنات يهودية قائمة في الضفة الغربية؛ بل توسيع

المستوطنات القائمة.

- رفض إعادة اللاجئين الفلسطينيين المشردين مطلقاً.

إن حكومته ستعمل - كما يقول - من أجل سن ميثاق بين اليهود المتدينين

والعلمانيين؛ ولهذا فإن فكرة تشكيل حكومة موسعة لا يُستثنى فيها أحد تسيطر عليه، وقد تباحث مع كثير من الأحزاب الممثلة في الكنيست من أقصى اليمين حتى

أقصى اليسار؛ فهو بالإضافة إلى محادثاته مع حلفاء العمل التقليديين من اليسار

والوسط فقد تباحث مع رئيس الليكود الجديد (شارون) الذي لم يخفِ باراك إعجابه

الشديد بنهجه العسكري، وتحاور مع حزب شاس ومع نقيضه حزب شيتوي الذي

يسعى لإخراج الأحزاب الدينية من الحياة السياسية وقد واجه مشكلات كبيرة في

محاولته؛ فلكل شروطه التي تصل إلى اشتراط استبعاد أحزاب أخرى منافسة مما

اضطر باراك للتهديد بالعدول عن هذا النهج والعودة إلى خيار الاقتصار على

الأحزاب اليسارية والعربية؛ ولكن رئيس الدولة ضغط عليه للاستمرار.

والذي يبدو من الاستقراء أنه سواء تكونت حكومة موسعة أم لا؛ فإن النظام

السياسي وصل إلى درجة من التفتت بحيث يصعب ثبات أي حكومة؛ فبعض

الأحزاب إذا خرج من الحكومة فإنه يعارض مشاريع الحكومة، وإذا دخلها فإن سيفه

المصلت هو تهديده بالخروج منها إذا لم تحقق مطالبه؛ ولهذا فهناك خوف دائم شبيه

بحال الحكومات الإيطالية غير المستقرة.

وأخيراً فإن فترة باراك لن تختلف كثيراً عن فترة نتنياهو؛ فهما يمثلان جيلاً

واحداً هو ثمرة الاحتلال من المولودين داخل فلسطين ممن خلف الجيل السابق الذي

عاصر بناء الدولة مما يمكننا أن نطلق على هذه المرحلة: الطور الثاني الذي تستقر

فيه الدولة وتحس بالأمن مما يعجل بظهور التناقضات الداخلية؛ وصدق الله تعالى

حيث يقول في كتابه العزيز: [بَاًسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ] [الحشر: 14] .

ص: 4

الافتتاحية

‌اللغة والفكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته وسلم، وبعد:

فلا شك أن اللغة وعاء الفكر؛ ولذا كانت عناية السلف عظيمة بالحفاظ على

لغة القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، وازداد حرصهم ذلك بعد دخول الأعاجم

في دين الله وإقبالهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان منهم

من لا يعرف الألفاظ في أصل اللغة ولا قانونها، كما كان منهم وهذا هو الغالب

والأخطر من لا يعرف مراد الشارع بالألفاظ؛ لأنه لا يعرف سنته في الخطاب ولا

يحيط بجميع النصوص الوارجة في الموضوع محل الفهم أو البحث.

ومن جهة أخرى اهتم بعض أهل البدع باللغة العربية، فبرز منهم أكثر من

عالم لغوي؛ لأن الوجوه اللغوية كانت طريقهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه

وبابهم إلى التأويل عندما أعياهم الاستدلال على بدعهم بنصوص ثابتة في القرآن

والسنة، فأخذوا يبحثون في ضعيف اللغة وشاذها ومرجوحها عما يشوشون به على

الأصول الصحيحة التي لم تستسغها عقولها أو أهواؤهم، حتى شاع بين بعض

النحاة قولهم: (إن نزل رغيف من السماء مكتوب عليه حرام، قلنا لغيرنا) ، دلالة

على مقدرتهم في صرف أوضح الكلام وأشده صراحة إلى معنى آخر غير المعنى

الظاهر.

وعندما انفتح الفكر الإسلامي على فلسفات الأمم الأخرى ونتاجهم العقلي دخلت

على المسلمين أفكار جديدة عبر ألفاظ عربية أخذت مفاهيم محدثة أضيفت على

المعنى اللغوي الأصلي أو انحرفت به، كالجوهر والفرد والمحدث والقديم

وهكذا رأينا أن المعركة الفكرية بين أهل السنة وسائر الفرق كانت معركة لغوية في

جانب كبير منها.

وبالأداة نفسها (اللغة) نفشت مفاهيم جديدة كالعلمانية والوطنية والقومية

والتقدمية والرجعية في عقول المسلمين العرب في العقود المتأخرة؛ فلقد كان من

رواد النهضة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي

بعض المتضلعين في اللغة والباحثين في علومها من النصارى وأصحاب الزيغ من

تلاميذ المستشرقين، أمثال: بطرس وسليم البستاني، وناصيف وإبراهيم اليازجي، ولويس شيخو، ولويس معلوف.. بل حاول بعضهم كس هذا الوعاء الفكري تماما

من خلال دعوات مشبوهة إلى استبدال العامية بالفصحى في لغة الكتابة كما رأينا

عند أحمد لطفي السيد (أستاذ الجيل كما يسميه العلمانيون) ، أو استبدال الحروف

اللاتينية بالحروف العربية كما رأينا عند سلامة موسى، وهذا ما فعله أتاتورك لقطع

صلة تركيا بالعروبة والإسلام.

وإضافة إلى الأهداف السابق ذكرها للاهتمام باللغة ظهر في هذه المرحلة

الزمنية وما بعدها التوجه إى الطعن في الإسلام من خلال أبحاث لغوية، كما في

كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، وعند أمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله في

كتاب: (الفن القصصي في القرآن الكريم) ثم في كتابات التلاميذ المعاصرين أمثال

سيد حامد النساج، ونصر أبو زيد.. وغيرهم.

كما ظهر التوجه أيضا إلى امتلاك ناصية الأشكال التعبيرية الجديدة: كالمقال، والقصة، والرواية، والمسرحية لاستخدامها أداة لإيصال الأفكار الجديدة؛ فلمعت

أسماء: كفرح أنطون، وجوجي زيدان، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب

محفوظ. وبتحويل أعمال أمثال هؤلاء إلى أعمال فنية (إذاعية وسينيمائية

وتلفزيونية) انتشرت الأفكار التي أرادوا الترويج لها على نطاق واسع بين عوام

الأمة وخاصتهم.

وما زال هذا الأسلوب (استخدام اللغة لتقرير أفكار مستهدفة) متبعا ومؤثرا

حتى وقتنا الراهن، ومن الأمثلة الحية على ذلك: معالجة الأستاذ حسين معلوم

لمفاهيم القومية والحكم والتقدم على صفحات جريدة الحياة [1] .

وإذا كان المقام لا يتسع هنا لمناقشة جميع ما ورد في هذه المقالات فإنه لا

يسعنا إلا أن نشير إلى مأخذين على مقال واحد هو مقال: الإسلام والقومية:

أولا: انطلق الكاتب في قبول فكرة القومية المعاصرة من التحليل اللغوي

والاستعمال القرآني لمادة قوم، مما جعله يعد القوم بطونا وعائلات، وتارة شعب

مصر، وطورا الملة الموسوية، وهذا كله حق، ولكنه ليس كل الحق في الموضوع

الذي يعالجه؛ فإن الدعوة إلى القومية في منشئها وحاضرها لم تهدف إلى الاقتصار

على هذا المعنى اللغوي فقط، ولكنها أرادت جعل القومية رابطة يجتمع عليها

مجموعة من البشر تذوب فيها جميع الروابط الأخرى ومنها الدينية بحيث تعلو

القومية وتقدم عليها وكأنها عقيدة أخرى، فإذا قدمنا عليها أي ولاء آخر كالإسلام

مثلا لم يصبح لهذه القومية أي معنى عندهم، وهذا ليس كلامنا ولكنه تقرير روادها

أنفسهم. يقول الدكتور نبيه أمين فارس: (لقد غرس هؤلاء (الرواد الأوائل) بذرة

القومية والوطنية، وبعثوا حركة مستوحاة من تاريخ العرب ومآثرهم تستهدف مثلا

قومية بدلا من المثل الدينية والطائفية) [2] ، وهكذا فإن القومية عند دعاتها تجمع

بالإخاء المسلم مع النصراني واليهودي أو مع البوذي والهندوسي إذا كانوا يعيشون

في إطار واحد لقوم أو قطر، ولكنها تفرقه عن أخيه المسلم وقد يعاديه إذا كان من

قوم آخرين.

ثانيا: يقرر الكاتب أن الفكرة هي ابنة واقعها الاجتماعي (وهذا كلام صحيح

في العموم، ولكننا نعجب أنه لم يطبق ذلك على فكرة نشوء القومية ذاتها، بل ذهب

عند تطبيقها إلى فكرة أخرى مترتبه عليها هي كون القومية نوع من أنواع العصبية

المرفوضة في الإسلام) ، فهو يرى أن هذه الفكرة الأخيرة سكنت الفكر الإسلامي

عن طريق سيد قطب الذي نقلها بدوره عن أبي الأعلى المودودي رحمهما الله وهذا

الأخير كان متأثرا بواقعه الاجتماعي في الهند؛ حيث كانت فكرة القومية سبيلا

لسيطرة الأغلبية الهندوسية على الأقلية المسلمة هناك (هذا بالإضافة إلى أنه رآها

بمحتواها العلماني أيديولوجية معادية للإسلام) .

وإذا كنا هنا لا نناقش ولا نهتم بضحة دعوى التأثير والتأثر بين المفكرين

الإسلاميين المذكورين فإننا نذكر بأن فكرة القومية بمعناها المضاد للإسلام سكنت

الفكر العربي القومي قبل مولد المودودي وسيد قطب رحمهما الله، بل كان هذا

المعنى مصاحبا لهذه الفكرة منذ مولدها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

الميلادي على يد بعض نصارى الشام أمثال بطرس البستاني وناصيف اليازجي،

وهذه حقيقة يقررها كتاب علمانيون ونصارى قبل أن يقررها الكتاب الإسلاميون،

ومن يراجع على سبيل المثال كتابات ألبرت حوراني وجورج أنطونيوس وساطع

الحصري لا يخالجه شك في ذلك، فلم يكن الواقع الاجتماعي في الهند هو الذي

أعطى هذا التصور عن القومية العربية بل كان تنظير المفكرين القوميين العربي

وخاصة في الشام هو الذي نحا هذا المنحى؛ رغبة في قطع الروابط مع المسلمين

غير العرب (العثمانيين) ؛ حيث كانوا جميعا منضوين تحت لواء دولة واحدة في

إطار الرابطة الإسلامية.

كما أن فكرة القومية بهذا المعنى مضادة بطبيعتها وليس بواقعها فقط للإسلام

الذي جاء فيه: [إنما المؤمنون إخوة][الحجرات: 10] أيا كانت أجناسهم

وقومياتهم، وفيه أيضا: [لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد

الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم] [المجادلة: 22] .

وبعد: فهل أمثال هذه المقالاتتعد تطبيقا لدعوات تكتيكية صدرت من بعض

القوميين واليساريين للمزاوجة بين الفكر القومي والإسلام، لتجديد الدعوة القومية،

وكسب الشارع العربي والاستفادة من طاقات الإسلاميين ورصيدهم الشعبي؟ إذا

كان الأمر كذلك فالواضح أنهم يريدون أن تكون القوامة في هذا التزاوج للفكر

القومي، وأن تكون اللغة والتاريخ شاهدي زور على ذلك! !

(1) انظر الأعداد 138، 13385، 13412، 13414.

(2)

مقدمة كتاب يقظة العرب، تاريخ حركة العرب القومية، لجورج أنطونيوس.

ص: 4