الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) ترجمة المعلِّم رحمه الله:
هو عبد الحميد بن عبد الكريم، حميد الدين، أبو أحمد، الأنصاري، الفراهي. ولد صبيحة يوم الأربعاء سادس جمادى الآخرة سنة 1280 في الهند، في قرية من أعمال "أعظَمْ كَرْهْ" أحد الأضلاع الشرقية من الإقليم الشمالي المسمى الآن "أُتَّرَبَرَدِيش"
(1)
.
اشتهر في الهند بلقبه "حميد الدين"، ولعله سُجل بهذا الاسم عندما التحق بالتعليم الرسمي، فكان يوقع به في المكاتبات والأوراق الرسمية، ولكنه آثر أن يكتب اسمه في أول كتبه العربية:"المعلم عبد الحميد الفراهي". أما "الفراهي" فنسبة معربة إلى قريته. وأما لقب "المعلم" فيظهر لي أنه لما كانت العلماء ورثة الأنبياء، ومن وراثة النبوة تعليم الكتاب والحكمة، وكان تدبر كتاب الله عز وجل ودراسة ما فيه من الأحكام والحكم ثم تعليمه للناس هو عمود حياة الفراهي العلمية، وذلك حظه من وراثة النبوة= اتخذ لنفسه لقب "المعلم".
ولد رحمه الله في بيت علم ودين وشرف، وقرأ القرآن الكريم في منزله على مؤدبه الأول الشيخ أحمد علي وحَفِظه. ثم أخذ اللغة الفارسية في منزله
(1)
الجمهورية الهندية مقسمة إلى ولايات، وكل ولاية إلى "أضلاع" جمع ضلع، وهو من مصطلحات العهد الإسلامي في الهند وما زال رائجًا حتى الآن، وضلع "أعظم كره" هو الذي ينتسب إليه الأعظميون في الهند. وكل ضلع يشتمل على مدن صغيرة وقرى، ومن المدن التابعة لضلع "أعظم كره":"مبارك فور" التي ينتسب إليها المباركفوريون.
أيضًا عن مؤدبه الثاني الشيخ محمد مهدي. ثم انتقل من قريته إلى مدينة "أعظم كره"، ودَرَس فيها اللغة العربية والكتب المتداولة في الفنون المختلفة على ابن عمته العلامة المؤرخ الأديب شِبْلي النعماني (ت 1332)، وكان من أشهر أعلام الهند في القرن الماضي.
ثم رحل إلى مدينة "لَكْنَؤُو" عاصمة الإقليم الشمالي، وحضر دروس العلامة الفقيه المحدث الشيخ عبد الحي اللَّكْنَوي (ت 1304)، وأخذ المعقولات عن الشيخ فضل الله بن نعمة الله الأنصاري (ت 1312).
ثم سافر إلى مدينة "لاهور" عاصمة البنجاب، وتلمذ لأديب العربية وشاعرها وشارح الحماسة والمعلقات الشيخ فيض الحسن السَّهَارَنْفُوري (ت 1304)، وهو من شيوخ العلامة شبلي النعماني أيضًا، فقرأ عليه كتب الأدب العربي وبعض كتب المعقولات.
وبعدما تخرج في العلوم الشرعية والأدبية والمعقولات، وهو ابن عشرين سنة، اتجه إلى دراسة اللغة الإنجليزية والعلوم الحديثة، فالتحق بالمدرسة الثانوية، ثم كلية عَلِيكَرْهْ التي صارت فيما بعد جامعة، وهي الآن من أشهر جامعات الهند. وقد أعفي في الكلية من مادتي العربية والفارسية لطول باعه فيهما، بل كُلّف ترجمة كتابين من العربية إلى الفارسية ليقرَّر تدريسهما في كليته هو. وقد اعتنى بدراسة الفلسفة الحديثة، وحصل على درجة الامتياز فيها. وبعدما نال شهادة البكالوريوس، درس القانون (الحقوق) سنتين، ولكنه لم يكمل دراسته لكراهية الاشتغال بمهنة "الوكالة"، وكلمة الوكالة هي المستعملة في الأردية حتى الآن للمحاماة، والمحامي يسمى وكيلًا.
وبدأ الفراهي حياته الوظيفية سنة 1314 بتعيينه مدرسًا في "مدرسة الإسلام" بمدينة "كراتشي" وكانت مدرسة حكومية مرموقة، وأقام فيها أكثر من تسع سنوات. ثم عُيّن سنة 1324 أستاذًا مساعدًا للغة العربية في كلية عليكره. وبعد سنتين عُيّن أستاذًا للعربية بجامعة "إلاهاباد"، ودرّس فيها ست سنوات إلى أن استعارت وظيفته دولة حيدراباد الدكن ليكون مديرًا لدار العلوم الشرقية فيها، فرحل إليها سنة 1332. وأمضى خمس سنوات هناك، ثم استقال وعاد إلى وطنه سنة 1337.
وقد زاره الدكتور تقي الدين الهلالي المراكشي رحمه الله سنة 1342، وطلب إليه أن يكتب له ترجمته، فكان مما كتب:"ولما كانت هذه المشاغل تمنعني عن التجرد لمطالعة القرآن المجيد، ولا يعجبني غيره من الكتب التي مللت النظر في أباطيلها، غير متون الحديث وما يعين على فهم القرآن، تركت الخدمة، ورجعت إلى وطني، وأنا بين الخمسين والستين من عمري. فيا أسفا على عُمُرٍ ضيَّعتُه في أشغال ضرُّها أكبر من نفعها! ونسأل الله الخاتمة على الإيمان"
(1)
.
فانقطع إلى تدبر القرآن الكريم، وتأليف كتبه في علوم القرآن، بالإضافة إلى الإشراف على "مدرسة الإصلاح" التي قد أسستها جمعية إصلاح المسلمين سنة 1327، ورسم لها الفراهي بعد عودته من حيدراباد منهجًا دراسيًّا فريدًا لتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية. وكان رئيسًا لمؤسسة دار المصنفين في مدينة أعظم كره التي قد أسسها مع العلامة السيد سليمان الندوي وغيره من تلامذة العلامة شبلي النعماني بعد وفاة شيخهم سنة
(1)
مجلة الضياء، المجلد الثاني، العدد السابع، ص 260.
1332، وهي أشهر مجمع علمي في شبه القارة الهندية، وقد أخرجت كتبًا نفيسة كثيرة باللغة الأردية في السيرة والتاريخ والتراجم والأدب.
وتوفي رحمه الله في تاسع عشر جمادى الآخرة سنة 1349 على إثر عملية جراحية.
وكان رحمه الله في أخلاقه مثالًا للسلف الصالح، فقد أجمع الذين جالسوه وعاشروه من شيوخه ومعاصريه على ورعه، وزهده في الصيت والسمعة، وتجنبه فضول القول وسفاسف الأمور. وكان غاية في اتباع السنة، والمحافظة على الصلوات، والغيرة على الدين، والحمية لشعائر الإسلام. وكان راتبه عاليًا، فيذهب جزء كبير منه في الإنفاق على الأقارب وذوي الحاجات، وقسم منه لشراء الكتب المطبوعة في مصر وأوربا.
وقد انفرد المعلِّم رحمه الله من بين معاصريه من علماء الهند بأنه أول مَن تلقَّى الثقافة الغربية من موردها، فأتقن اللغة الإنجليزية، ودرس العلوم الحديثة فيها، ثم حاضر بها وألّف، فله رسالة مطبوعة باللغة الإنجليزية في الرد على عقيدة النصارى في الشفاعة والكفارة. ومعرفته للغة الإنجليزية قد فتحت له بابًا واسعًا للاطلاع على كل ما صدر فيها مما يهمّه من كتب الأدب والشعر والبلاغة والفلسفة وتاريخ اليهود والنصارى وما كتبه المستشرقون عن القرآن الكريم والعلوم الإسلامية.
وقد تعلم اللغة العبرانية يوم كان أستاذًا في كلية عليكره، فنظر في صحف أهل الكتاب المتداولة وقرأها بالعبرانية. وقد أعانه ذلك على الكشف عن تحريفاتهم وتفسير بعض الإشارات الواردة في القرآن الكريم في الرد على اليهود مما يخفى على غير المطلع على كتبهم.
وفي دراسة الفلسفة والمنطق لم يقتصر الفراهي على التراث العربي، بل كان يتابع ما يصدر في الغرب من أحدث المطبوعات في الفلسفة والمنطق، ويقرؤها قراءة بحث ونقد ومقارنة. ومن ثم كان أعلم الناس بمضرة كتب الفلسفة وانحرافات الفلاسفة القدماء والمُحدَثين. اقرأ ما قاله في ذكر أحد الأسباب السبعة التي بعثته على تأليف كتابه "حجج القرآن":
"والثاني: ما تعلق بالذين معظم همهم المعقول من المنطق والفلسفة، فإنهم قد ابتلوا بعقليات سافلة زائغة عن طريق الفطرة والهدى، مفضية إلى الحيرة وصريح العمى، كما لا يخفى على من نظر في خزعبلات المتفلسفين العاشين عن نور الوحي والكتاب. ولذلك حذَّر السلف من الاشتغال به، ولكن أبى الناس إلا النظر فيه، والولوع به، والإخلاد إليه؛ ثم بعد التجربة عرفوا مضارها. فمنهم من أبطل بعض أباطيلها، وأبقى بعضها محسنًا به ظنه كأبي حامد رحمه الله، فإنه بيّن تهافت ما في إلهيات اليونانيين، ولكنه هو الذي أدخل منطقهم في الإسلام، فكان كمن قتل الأفعى وربّى أولادها. وكذلك اتخذ أخلاقياتهم، وبنى عليها كتابه "ميزان العمل"، فلم يخرج عن اتباع الفلاسفة مع غلوه في ردهم. وأما ابن مسكويه والطوسي وأمثالهما فهم مجاهرون بتقليد اليونانيين في الأخلاقيات. ومنهم من انتبه لأكثر من ذلك كابن تيمية رحمه الله، فردّ على المنطقيين ردًّا طويلًا، ودل على زيغ نهج المتكلمين
…
"
(1)
.
ولكن الكتاب الذي ملك عليه عقله وقلبه هو كتاب الله الذي كان ألذ كتاب وأحبه إليه. وقد بدأ تدبره أيام طلبه في كلية عليكره، وانكشف له
(1)
حجج القرآن (20). والجدير بالذكر أن الفراهي قد نسخ بيده كتاب "الرد على المنطقيين" لشيخ الإسلام ونسخته هذه محفوظة في مكتبة "دار المصنفين" بأعظم كره.
حينئذ نظام بعض السور، وظل القرآن هو المحور لجهوده الفكرية والعلمية. وقد اجتهد في الحصول على جميع أنواع المعارف التي تعين على فهم القرآن، وسخَّر كل الوسائل التي تُيسر الوصول إلى تلك الغاية.
وقد أقام على هذا التدبر المتصل لكتاب الله ودراسته العميقة إلى آخر حياته، وخطط لتأليف اثني عشر كتابًا في علوم القرآن غير تفسيره الذي سماه "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان"، وبعض مقدمات التفسير التي أفردها لتوسع مباحثها. ولكن المؤسف أن معظم مشروعاته العلمية لم تكتمل لأسباب منها: طريقته في التأليف
(1)
، وأعمال علمية معترضة، وأشغال إدارية، وأمراض مزمنة.
وأكبر ميزة لكتاباته أنها نتائج الفكر، فهي تحمل مناهج جديدة وأفكارًا مبتكرة ونظرات دقيقة، وفيها غذاء للعقل والقلب معًا، ثم إنها كما قال العلامة أبو الكلام آزاد رحمه الله (ت 1377):"تشتمل على مقاليد العلوم"
(2)
.
وقد اختار لمؤلفاته في علوم القرآن وغيره اللغة العربية لأنه ألّفها لعلماء العالم الإسلامي، وكان يرى أن لغة العالم الإسلامي هي العربية لا غير.
ومن مؤلفاته في التفسير وعلوم القرآن التي أكملها ونشرها في حياته: الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، وإمعان في أقسام القرآن، وتفسير السور الآتية: الذاريات، والتحريم، والقيامة، والمرسلات، وعبس، والشمس، والتين، والعصر، والكوثر، والكافرون، والمسد.
(1)
انظر شرحها في ترجمته في صدر "مفردات القرآن"(31).
(2)
انظر "ذكر فراهي" للدكتور شرف الدين الإصلاحي (536).