الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3) تعقيب المعلمي رحمه الله:
صدر تفسير سورة الفيل للمعلم رحمه الله سنة 1354 كما سبق، وكان المعلمي رحمه الله حينئذ في حيدراباد، وقد ذهب إليها بعد سنة 1345، وغادرها سنة 1371. وقد عرفت في ترجمة المعلِّم رحمه الله أنه عاش في حيدراباد خمس سنوات (1332 - 1337)، وكان عميدًا لدار العلوم، ومعدودًا من الشخصيات العلمية المرموقة، ولما غادر حيدراباد ترك وراءه أصدقاء وتلامذة، وثناء وافرًا، ولسان صدق عليًّا في مجالس العلم ودوائر الحكم، لما أوتي من فضائل علمية وعملية قلما تجتمع في شخص واحد، ولما تحلى به من الورع والزهد وغنى النفس مع علو منصبه وراتبه.
فكان من الطبيعي أن يسمع الشيخ المعلمي رحمه الله في حيدراباد باسم المعلِّم رحمه الله ونعوته وفضائله، وقد وقف على بعض مؤلفاته، واستفاد منها، وعرف عبقريته، كما ذكر في مطلع رسالته هذه.
ومن ذلك أنه لمَّا تكلَّم في كتاب العبادة له على حقيقة القسم قال: "وألَّف الأستاذ حميد الدين الفراهي الهندي رسالةً سمَّاها "الإمعان في أقسام القرآن" أجاد فيها. وسألخِّص هاهنا ما استفدته منها ومن غيرها وما ظهر لي"(ص 821). وانظر أيضًا (ص 826).
وللمعلمي رحمه الله رسالة في بيان ارتباط الآيات في سورة البقرة، أحال فيه على كتاب الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، فقال في موضع:"وقد حقق هذا البحث المعلِّم عبد الحميد الفراهي في كتاب الرأي الصحيح، فانظره". وفي موضع آخر، وهو يذكر ارتباط الآية (144)، وصفه بأنه "كتاب نفيس".
ولم يتفق له لقاء المعلِّم رحمه الله، وأنّى له ذلك، وهو مقيم في حيدراباد في جنوبي الهند، والمعلم مقيم في وطنه في شمالي الهند، وبينهما مسافة شاسعة جدًّا! ولو أراد المعلمي رحمه الله ذلك لما تحمَّل راتبه القليل نفقات مثل هذه الرحلة الطويلة الشاقَّة.
فلما طبع تفسير سورة الفيل، ووصلت نسخه إلى حيدراباد، وقف عليه الشيخ المعلمي رحمه الله، ورأى أن الدلائل التي احتج بها المعلِّم رحمه الله أضعف من أن تقوم بما ذهب إليه في تفسير السورة، فعزم على تعقبه ونقده بمنهجه العلمي الرصين، فقال في مقدمة رسالته:
"أما بعد، فإني قد كنت وقفت على بعض مؤلفات العلامة المحقق المعلِّم عبد الحميد الفراهي ــ تغمده الله برحمته ــ كالإمعان في أقسام القرآن، والرأي الصحيح فيمن هو الذبيح، وتفسير سورة الشمس؛ وانتفعت بها وعرفت عبقرية مؤلفها. ثم وقفت أخيرًا على تفسيره لسورة الفيل، فألفيته قد جرى على سنته من الإقدام على الخلاف إذا لاح له دليل، وتلك سيرة يحمدها الإسلام، ويدعو إليها أولي الأفهام. غير أن الخلاف هنا ليس لقول مشهور، ولا لقول الجمهور، ولكنه لقول صرح به الجماهير، ولم ينقل خلافه عن كبير ولا صغير
…
وقد بدا لي أن أتعقب المعلِّم رحمه الله وأشرح ما يتبين لي من وفاق أو خلاف".
ترتيب الرسالة ومطالبها
أشار المعلمي رحمه الله في مقدمة الرسالة إلى المنهج الذي سلكه في ترتيبها أولًا، ثم ما بدا له من العدول عنه إلى منهج آخر، فقال: "وقد كنت جريت على ترتيب المعلِّم رحمه الله مساوقًا له، ثم رأيت الأولى أن أسلك
ترتيبًا آخر، فأبني رسالتي هذه على قسمين: الأول فيما يتعلق بالقصة رواية ودراية، الثاني: في تفسير السورة".
أما القسم الأول فيشتمل على ثمانية فصول، وقد رقّمها رحمه الله بحروف الأبجد من الألف إلى الحاء دون أن يضع لها عناوين. وقد سبق أن رأينا أن تفسير المعلِّم رحمه الله يحتوي على 15 فصلًا، فالمعلمي رحمه الله تجاوز في هذا القسم الفصول الخمسة الأولى منها، وبدأ بالكلام على ما ورد في الفصل السادس وما بعده إلى الفصل الخامس عشر، إلَّا ما ذهب إليه المعلِّم رحمه الله في تفسير {تَرْمِيهِمْ} فإنه أخّره كما قال إلى القسم الثاني.
والفصول الخمسة المذكورة من تفسير المعلِّم رحمه الله منها فصلان نفيسان ــ وهما الرابع والخامس ــ في بيان ما فضّل الله به بيت الله وأهله على سائر المعابد وذويها، وأمور مهمة تتعلق بتقديس المسجد وحفظه، ولم يكن فيهما شيء ينقده المعلمي رحمه الله، فلم يتعرض لهما.
أما الفصول الثلاثة الأولى فهي في تفسير ألفاظ السورة وعمودها وارتباطها بما قبلها وما بعدها وتعيين الخطاب فيها. وقد خالف المعلمي رحمه الله بعض ما جاء فيها، ولكنه تكلم عليه عندما فسر هو السورة في القسم الثاني.
- عقد المعلِّم رحمه الله الفصل السادس بعنوان "إجمال القصة حسب ما نص عليه القرآن"، وقال:
"إن قصة أصحاب الفيل لها إجمال وتفصيل، أما مجملها فهو الذي نص عليه القرآن، وأما تفصيلها فأخذوها من الروايات المختلفة المتفاوتة
في الصحة والضعف، والمفسرون يذكرون تفاصيل القصص من غير بحث عما ثبت وعما لم يثبت، وهذا ربما يعظم ضرره، وربما يصرف عن صحيح التأويل. فلا بد أولًا من الفرق بين المنصوص وبين المأخوذ من الروايات، ثم لا بد ثانيًا من التمييز بين ما ثبت وبين ما لم يثبت" (ص 15).
ثم نظر المعلِّم رحمه الله في الروايات ثلاث نظرات: الأولى فيما زعموا من سبب مجيء أبرهة ومما جرى بينه وبين أهل مكة، والثانية فيما كان من رمي أصحاب الفيل، والثالثة في أمر الطير. وافتتح النظرة الأولى بقوله:
"كل ما ذكروا من سبب مجيء أبرهة لغضبه على العرب ومن فرار أهل مكة ومما جرى بين أبرهة وعبد المطلب لم يثبت من جهة السند، فإن كل ذلك لا يجاوز ابن إسحاق، ومعلوم عند جهابذة أهل الحديث أنه يأخذ الروايات من اليهود وممن لا يوثق به. ثم يبطل هذه الأمور روايات أخر، ويبطله ما ثبت عندنا من عادات العرب. ومما يدل على كونها من أكاذيب الأعداء أنها ما تعمدت إلا غضاضة من العرب وحميتهم، وإهانة لرئيسهم عبد المطلب القرشي، وتنويهًا بحسن خلق أبرهة الحبشي ومسبة على من هيجه على هدم الكعبة، وبسطًا لعذره إذا انتصر لكنيسته. فلم يترك الكذابون شيئًا من الذلة والمنقصة والعار والشنار إلا نسبوها إلى العرب وقريش ورئيسها، فلا نكتفي هاهنا بإرسال القول فيها بل نذكر لك الوجوه التي تدل على كذب هذه الروايات"(ص 16).
ثم ذكر سبعة وجوه تدل عنده على كذب الرواية، والسادس منها أنهم زعموا أن أبرهة كان رجلًا حليمًا، وإنما هيجه أحد بني فقيم إذ دخل كنيسته
ونجّسها. وعلّق المعلِّم رحمه الله على ذلك بأنه يبطل "هذه الرواية سائر أحوال أبرهة وتعصبه في دينه
…
" (ص 18).
بدأ الشيخ المعلمي رحمه الله رسالته بنقد هذا الوجه السادس، فذكر في الفصل الأول (ألف) أن ابن إسحاق لم ينفرد بقصة تقذير الكنيسة، وأنه ليس فيها ما يُعدّ غضاضة من العرب أو عذرًا لأبرهة، غير أن القضية لم تثبت من جهة الرواية.
- وقد استدل المعلِّم رحمه الله في الوجه الثاني بما ورد في القصة أن أبرهة أكرم عبد المطلب غاية الإكرام، لكن لما كلمه عبد المطلب في إبله قال له أبرهة: أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه، فلا تكلمني فيه! وعلق المعلِّم عليه قائلًا:"فهل يمكن أن يترك عبد المطلب التكلم في أمر البيت بعدما رأى وسمع من أبرهة ما يستيقن به أنه لو سأله الانصراف عن هدم البيت لفعل، ثم إنه لم يترفع عن المجيء إليه والسؤال لإبله"(ص 17).
تكلم المعلمي رحمه الله على هذا الوجه في الفصل الثاني (ب) وقال: "ليس في القصة ما يحصل به الاستيقان بل ولا الظن
…
" وذكر احتمالات أخرى تكون سببًا لما جرى بينهما، وأخيرًا لم يستبعد أن في القصة مبالغة في تصوير احترام أبرهة لعبد المطلب.
والوجوه الأخرى التي تدل عند المعلِّم رحمه الله على كذب الرواية، ومنها ما استدل به على وقوع القتال بين العرب وأبرهة، قد تكلم عليها المعلمي رحمه الله في الفصلين (ج، د)، وردّها، وكشف عن وهم المعلِّم رحمه الله في بعضها. ثم ذكر هو عدة أدلة على أن أهل مكة لم يقاتلوا أبرهة، ومنها:
"أن كل من له إلمام بأخبار العرب يعرف شدة حرصهم على رواية أخبار أيامهم وحفظها وتردادها في الأسمار وتقييدها بالأشعار
…
وبين أيدينا أخبارهم في حرب البسوس وحرب داحس وغير ذلك نجدها مروية بتفصيل بأسماء فرسانهم وخيلهم وقاتلهم ومقتولهم، وكيف كان القتال، وكم استمر، إلى غير ذلك من الجزئيات
…
فكيف يعقل مع هذا أن يكونوا قاتلوا أبرهة، وقتلوه في المعركة، ثم لا يوجد لذلك في أخبارهم وأشعارهم أثر؟
…
" (ص 30 - 31).
- وقد ذهب المعلِّم رحمه الله إلى أن الطير أرسله الله تعالى لتطهير ناحية مكة من جيف القتلى، وقال: إن النظر في الروايات يكشف عن فريقين متباينين في تصوير هذه القصة، ثم ذكر مواضع الاختلاف، ورجح ما نسبه إلى الفريق الأول، وأيَّده مستدلًّا بكلام العرب على أن الرمي كان من السماء والريح.
استعرض المعلمي رحمه الله الروايات المذكورة، وأثبت أن الرواة ليسوا فريقين مختلفين، وإنما وقع الاختلاف في بعض الأمور الجزئية، ورمي الطير قد أشار إليه الفريقان معًا، بل لم ينفه أحد قبل المعلِّم رحمه الله. ثم أورد من مخطوطة كتاب "المنمق" لابن حبيب
(1)
شعرًا فيه تصريح برمي الطير كقول نفيل بن حبيب الذي شهد الواقعة:
(1)
قد استنسخت دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد نسخة من كتاب "المنمق" بعد اللتيا والتي من أصله الفريد المحفوظ في مكتبة ناصر حسين الشيعي بمدينة (لكنَؤُو). وذلك سنة 1932 م، بعد وفاة المعلِّم رحمه الله بسنتين. وقد رجع الشيخ المعلمي رحمه الله إلى هذه النسخة التي ظلت محفوظة في خزانة الدائرة إلى أن نشرته سنة 1384=1964 م.
حتى رأينا شعاع الشمس يستره
…
طيرٌ كرَجْلِ جرادٍ طار منتشرِ
يرميننا مقبلاتٍ ثم مدبرةً
…
بحاصب من سواء الأفق كالمطر
وكان المعلِّم رحمه الله قد استدل بما جاء في رواية سعيد بن جبير أنها "طير خضر لها مناقير صفر تختلف عليهم" بأنها أكلت جثث الموتى، فردّ عليه المعلمي رحمه الله بأن الجملة (تختلف عليهم) صفة للطير، وليست صفة للمناقير، والمقصود باختلافها مجيئها وذهابها.
- عقد المعلمي رحمه الله الفصل السابع (ز) لبيان ما يكون ــ فيما يظهر له ــ باعثًا للمعلِّم رحمه الله على إنكار رمي الطير. وذكر ثلاثة أمور: الأول أن يتهيأ له دعوى أن قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} للخطاب، فيستدل بذلك على أن أهل مكة قاتلوا. والثاني ما ذكره المعلِّم رحمه الله بقوله:"من ينظر في مجاري الخوارق يجد أن الله تعالى لا يترك جانب التحجب في الإتيان بها، كما هي سنته في سائر ما يخلق، لأن حكمته جعلت لنا برزخًا بين عالمي الغيب والشهادة، وسنَّ لنا التشبث بالأسباب مع التوجه إلى ربها، ليبقى مجال للامتحان والتربية لأخلاقنا".
وعلق المعلمي رحمه الله على ذلك بقوله: "تحقيق هذا البحث يستدعي النظر في حكمة الخلق، وقد أشار إليها الكتاب والسنة، وتكلم فيها أهل العلم، وأوضحتُ ذلك في بعض رسائلي، وألخص ذلك هنا".
وهذا بحث نفيس، ذكر فيه المعلمي رحمه الله أن الخوارق كلها لا يكون فيها حجاب، بل منها ما يكون مكشوفًا لحكمة تقتضي ذلك، ومن ذلك الآيات القاضية التي تقترحها الأمم المعاندة على أن يعاجلها العذاب إن لم تؤمن. ومن ذلك الآيات التي يقع بها العذاب، فإنها ليست لإقامة حجة
فيناسبها الحجاب. ودلل على أن الرمي في واقعة الفيل لم يكن لإقامة حجة، وإنما كان آية عذاب. ومثل ذلك لا يستدعي الحجاب، بل كان هناك مانعان من الحجاب والتسبب والمباشرة.
والأمر الثالث الذي يرى المعلمي رحمه الله أنه قد يكون باعثًا على إنكار رمي الطير "أن بعض فلاسفة الإفرنج وكُتَّابهم وأذنابهم من الملحدين ينكرون الخوارق، ويسخرون منها، ويعدّون ذكرها في القرآن برهانًا على اشتماله على الكذب. وعلماء المسلمين شديدو الغيرة على القرآن، والحرص على تبرئته عن المطاعن، فقد يحمل بعضهم ذلك على أن يتأول بعض النصوص القرآنية، ويحمله على معنى لا ينكره القوم".
ثم قال: "لست أقول: إن المعلِّم رحمه الله تعالى ممن يمكن أن يختار تأويلًا يعلم ضعفه، ولكن قد لا يبعد أن تكون شدة غيرته على القرآن، وحرصه على دفع الطعن عنه، مما قرّب ذاك التأويل إلى فهمه".
وهنا أريد أن أضيف أن المعلِّم رحمه الله لم يكن من ذلك الصنف من العلماء الذين يتأثرون بكلام الإفرنج والملحدين، بل كان من العلماء الراسخين، ولم يزده تضلعه من الإنجليزية ودراسته للعلوم الحديثة إلا استقامة ورسوخًا، كما شهد بذلك أصدقاؤه ومعارفه. وهو الذي قال في خطبة تفسيره:
"فكأني نذرت نذرًا: أن أتمسك بآيات الله ونظامها، فلا أجاوز عنها شبرًا
…
مجتنبًا غلوًّا في الدين، فلم أكن متخذ الباطنية بطانةً، ولا الظاهرية ظهرًا. مفارقًا من لم يفرق بين سنّة الله وسنن المخلوقات، فكذّب ببينات القرآن، وحرّف آياته زورًا ومكرًا. قائلًا للمبتدعة كلّهم: حِجْرًا، وللملحدين جميعهم: بَهْرا"
(1)
.
(1)
انظر: "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان" للفراهي، طبعة دار الغرب الإسلامي (12).
والمقصود بالبينات هنا: المعجزات، فلم يكن رحمه الله ممن يضيق صدره، وينتفخ سحره بها. وانظر إلى قوله في فصل بعنوان "مغالطة من أنكر بالمعجزات":
"وأخطأ من ظنّ أن الطبائع من سنة الله
…
وهذا الخطأ منهم انجر إلى عثرةٍ كبيرةٍ، وهي أن خرق عادات الأشياء محال، فأنكروا بصريح القرآن والكتب السماوية، وحرفوا النصوص الواضحة إلى الأباطيل الفاضحة"
(1)
.
وقال في موضع آخر: "ظنوا أن المراد من سنة الله طبائع الخلق كلها، فالنار مثلًا لا بد أن تحرق الإنسان
…
وعلى هذا أنكروا المعجزات. وغرَّهم أقوال من سمى هذه الطبائع سنة الله، وأول من استعمل كلمة (سنة الله) في هذا المعنى هم أصحاب رسائل إخوان الصفاء
…
"
(2)
.
ومن هنا لما سُئل المعلِّم رحمه الله يوم كان طالبًا في كلية عليكره ترجمة تفسير السيد أحمد خان مؤسس الكلية (1232 - 1315)، وقد أوّل فيه جميع الآيات التي ذكر فيها الخوارق= أبى قائلًا:"لن أشارك في نشر هذا الإثم"
(3)
.
- وقد ذهب المعلِّم رحمه الله إلى أن رمي الجمرات في الحج تذكار لرمي أصحاب الفيل، سواء كان الرمي من العرب أو من الطير وقال: "ولم أجد في صحاح الأخبار ذكرًا في سبب سنة رمي الجمار، فلو ثبت فيه شيء
(1)
القائد إلى عيون العقائد (161).
(2)
القائد إلى عيون العقائد (165).
(3)
ذكر فراهي (119).
من طريق الخبر لأخذنا به، وقرَّت به العينان، ولكنه لم يثبت، وأمر الدين ليس بهيّن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :"كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع"، فعمدنا إلى طريق الاستنباط، فإن المستنبط من الصحيح الثابت أولى بالصواب من الصريح الذي لم يثبت". ثم ذكر أمارات ووجوهًا تبين أن مناسبة رمي الجمار لرمي أصحاب الفيل أظهر من مناسبته لرمي الشيطان.
تكلم المعلمي رحمه الله على هذه المسألة في الفصل الثامن (ح)، وذكر بعض الروايات الجيدة التي وردت في رمي الجمار، ورجح أن تعرض الشيطان لإبراهيم كان ليصده عن معرفة المناسك والإتيان بها.
وذكر أن ما جاء في بعض روايات الابتلاء بالذبح أن الشيطان تعرض لإبراهيم فلم يجده من وجه يثبت، فإن صح فهي قصة أخرى غير هذه. ثم تناول الشيخ الأمارات والوجوه التي ذكرها المعلِّم رحمه الله بنقد مفصل.
أما القسم الثاني من الرسالة فرتبه المعلمي رحمه الله على مقدمة وبابين. المقدمة في عمود السورة وربطها بالتي قبلها والتي بعدها، ورجح أن عمودها ــ يعني موضوعها، وهو من مصطلحات المعلِّم رحمه الله ــ تهديد العصاة الذين ألهاهم التكاثر عن الآخرة، بينما يرى المعلِّم رحمه الله أن عمودها هو الامتنان على قريش.
وجعل عنوان الباب الأول: "في تفسير السورة على ما أفهم وفاقًا لأهل العلم"، وفسر السورة آية آية، وتحت كل آية فصول رقّمها بالعدد لا بحروف الجمّل كما فعله في القسم الأول. وفسر الآية الأولى في ثمانية فصول أولها عن دلالة الاستفهام في الآية، فبيّن أصل معنى الاستفهام والمعاني الأخرى المجازية، وتكلم عليها كلامًا حسنًا.
والفصل الثالث تحت هذه الآية في الخطاب فقال: "اتفق المفسرون ــ فيما أعلم ــ على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أن الآلوسي أشار إلى احتمال خلاف ذلك
…
واختار المعلِّم رحمه الله تعالى أولًا عموم الخطاب، قال:(فاعلم أن الخطاب هنا متوجه إلى جميع من رأى هذه الواقعة أو أيقن بها من طريق تواتر الحكاية ممن رآها). وأطال في تقريره".
وعقب على ذلك بقوله: "أرى أن المعلِّم رحمه الله تعالى أجاد باختيار هذا الوجه، وإن لم يُنقل عمن تقدم
…
وهو مع ذلك الأوفق بما يقتضيه المقام من تقرير الواقعة، وبيان ظهورها واشتهارها، والإبلاغ في الوعيد والتهديد والامتنان".
وهكذا فسر المعلمي رحمه الله سورة الفيل كاملة، وبيّن في أثناء تفسيره ما خالف فيه المعلِّم رحمه الله.
- وخصص الباب الثاني من هذا القسم للبحث مع المعلِّم رحمه الله فيما ذهب إليه في تفسير قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} وقال: "قد نبهت في مقدمة هذا القسم الثاني وأثناء الباب الأول منه على مواضع مما خالفت فيه المعلم، ووجهت ذلك بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى. وأخرت الكلام في {تَرْمِيهِمْ} لطوله. وأرى أن أقدم فوائد وقواعد ينبني عليها البحث معه، فهاكها".
وهي ست عشرة فائدة وقاعدة تتعلق بمسائل الحال، والاستئناف البياني، وجواز وضع الماضي موضع المضارع، ووقوع المجاز وإنكاره. وقد سقط منها ثلاث فوائد كاملة وهي: 11، 12، 13 مع جزء من أول الفائدة 14، إذ وقع في النسخة خرم (ص 17 - 30) ذهب بأربع عشرة صفحة.