الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان للمعلم رحمه الله منهج خاص في التفسير يقوم على دعامتين: الكشف عن نظام السور والآيات، وتفسير القرآن بالقرآن، ولذلك سمى تفسيره "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان". ولكن الحقيقة أن الأصل الأصيل هو تفسير القرآن بالقرآن، لأن مرجعه في الكشف عن نظام السور ورباط الآيات أيضًا هو القرآن لا غير، وقد انكشف له نظام بعض السور أول ما انكشف من داخل القرآن لا من خارجه. وكان يرى أن مراعاة النظام تقلل من الاحتمالات العديدة التي ينقلونها في تأويل الآيات، وتقرِّب إلى التأويل الصحيح الموافق للسياق.
(2) تفسير سورة الفيل:
قد ترك المعلِّم رحمه الله بعد وفاته مسودات كثيرة، أخرج تلامذته منها كتاب مفردات القرآن، وفاتحة نظام القرآن (وهي مقدمة تفسيره) وجمهرة البلاغة، وكلها كتب ناقصة. والمسودة الوحيدة التي كانت شبه كاملة هي مسودة تفسير سورة الفيل، فنشروها سنة 1354، وكانت طبعة حجرية بالخط الفارسي اشتملت على 43 صفحة.
وكانت النية أن ينشر تفسير سورة الفيل كاملًا في ذيل هذا الكتاب، لأنه قد نفد قبل زمن طويل، وليكون الأصل أيضًا بين يدي القارئ مع نقده
(1)
. ولكن تبين أن ذلك سيضاعف حجم الكتاب، فرأينا أن نكتفي هنا بإعطاء صورة من كتاب المعلِّم رحمه الله.
يحتوي هذا التفسير على الفصول الآتية:
في تفسير كلمات السورة.
(1)
كتبت هذا قبل سنتين. وقد صدرت أخيرًا مجموعة تفسير الفراهي "نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان" عن دار الغرب الإسلامي، وتفسير سورة الفيل ضمن المجموعة (ص 717 - 775).
في تعيين المخاطب بهذه السورة.
عمود السورة وربطها بالتي قبلها والتي بعدها.
بيان ما فضل الله به هذا البيت وأهله على سائر المعابد وذويه.
أمور مهمة مما يتعلق بتقديس مسجد وحفظه.
إجمال القصة حسب ما نص عليه القرآن.
النظرة الأولى، وهي فيما زعموا من سبب مجيء أبرهة وفرار أهل مكة وما جرى بينه وبين عبد المطلب.
النظرة الثانية، وهي في رمي أصحاب الفيل بالحجارة، وكونها من الآيات العظام.
النظرة الثالثة، وهي فيما كان من أمر الطير التي أرسلت على أصحاب الفيل.
الاستدلال بكلام العرب على أن الرمي كان من السماء والريح.
في أكل الطير أصحاب الفيل تصديق لبشارة عظيمة في نبينا صلى الله عليه وسلم.
أسباب صارفة عن التأويل الراجح.
بيان معنى الرمي بالحجارة، وتمهيد للنظر في أصل رمي الجمار بمنى.
أصل سنة رمي الجمار.
أثر هذا التأويل في القلوب عند عمل رمي الجمار.
قد انفرد المعلِّم رحمه الله ــ مثل غيره من أفذاذ العلماء وكبار الأئمة ــ بمسائل ومذاهب في علوم العربية والتفسير وغيره، لكنه ــ كما قال الذهبي
في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية ــ لم يكن ينفرد بالتشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق
(1)
، بل يستدل على ما يذهب إليه بالمعقول والمنقول، ويخطئ كغيره ويصيب، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما انفرد به رحمه الله تفسيره لسورة الفيل، إذ ذهب إلى أن العرب لم يتخلوا عن بيت الله، بل نافحوا عنه، وقاتلوا جيش أبرهة بما استطاعوا وبما تيسر لهم، وهو أنهم رموهم بحجارة من سجيل، ولكن رميهم هذا لم يكن ليدفع ذلك الجيش الجرار، فأرسل الله سبحانه عليهم حاصبًا أهلكهم، كما أهلك به الأمم الطاغية الأخرى، وكانت تلك آية عظيمة من آيات الله.
وقد شبَّه رمي العرب جيش أبرهة بالحجارة ورمي الله إياهم بالحاصب في الوقت نفسه بما وقع في غزوة بدر إذ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم "حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشًا، ثم قال: شاهت الوجوه، ثم نفحهم بها وقال لأصحابه: شدّوا. فلم يبق كافر إلا شغل بعينه كما جاء في سورة الأنفال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}
…
فكان هناك رميان: رمي من النبي صلى الله عليه وسلم رأوه ورمي من الله تعالى لم يروه ولكن رأوا أثره ولذلك جاء النفي والإثبات معًا
…
وكما نسب الله الرمي في بدر إلى نفسه في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فهكذا هاهنا نسب إلى نفسه أنه جعلهم كعصف مأكول، فلا شك أنها كانت من الآيات البينات، فإن منافحة قريش كانت أضعف من أن يفل هذا الجيش، فكيف يحطمهم حتى صاروا كعصف مأكول؟ " (تفسير سورة الفيل ص 20).
(1)
انظر: الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون (540).
واستدل في ذلك أيضًا بكلام العرب الذين شهدوا الواقعة، وذكروا في شعرهم ما رأوه من "جنود الإله بين ساف وحاصب". وأيد ذلك أيضًا بقول ذي الرمة:
وأبرهةَ اصطادت صدورُ رماحنا
…
جهارًا وعُثنونُ العجاجةِ أكدَرُ
تنحَّى له عمرٌو فشكَّ ضلوعَه
…
بنافذةٍ نجلاءَ والخيلُ تَضْبِرُ
فقال: "فصرح بأنه طعنه رجل من قومه وبأنه كان في يوم ذي غبار كثير مرتفع إلى السماء، وذلك بأن الله أرسل عليهم ريحًا حاصبًا فحصبتهم"(ص 17).
وقوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} عند المعلِّم رحمه الله حكاية حال ماضية، والضمير المستتر في (ترمي) للخطاب راجع إلى الخطاب العام في (ألم تر) أي كنت ترميهم أيها المخاطب، ولكن رميك لم يكن ليغني شيئًا، فالله سبحانه هو الذي جعلهم كعصف مأكول. وأما الطير فأرسلت عنده لأكل الجثث، وأيد ذلك بما ورد في كلام الشعراء وما فهمه من بعض الروايات. ثم ذهب إلى أن رمي الجمرات في الحج تذكار لرمي جيش أبرهة، وخصص لبيان ذلك الفصول الثلاثة الأخيرة.
والأمور التي بعثت الفراهي رحمه الله على هذا التفسير أهمها فيما يظهر لي من خلال كلامه أمران:
الأول: أن بيت الله كان أعز شيء عند العرب ولا سيما عند قريش، وكل شرفهم وفخارهم منوط به، والأمم مهما كانت من الذلّ والضعة لا ترضى بإهانة معابدها، بل تضحي بنفسها ونفيسها في الدفاع عنها، فكيف يتخلى العرب عن بيت الله، ويفرِّطون في محاربة العدو القادم لهدمه ويفرُّون إلى
شعف الجبال، وهم الذين يضرب المثل بإقدامهم وبسالتهم وأنفتهم وحمايتهم للجار، وقد نشبت الحروب المتطاولة لأدنى سبب من ذلك.
والثاني: الرواية التي وردت في لقاء عبد المطلب لأبرهة تعظِّم أبرهة، وتصفه بالحلم، وتلصق كل مهانة وذل بعبد المطلب سيد قريش. فبدا للمعلم رحمه الله أن الرواية مما وضعه أعداء العرب.
ثم وجد بعض الشعراء الذين شهدوا الواقعة يذكرون السافي والحاصب، فتأكد عنده أن الله تعالى أرسل عليهم الرياح الذاريات وأمطر عليهم الحجارة كما فعل بقوم لوط وغيرهم.
ورأى في كلام العرب أيضًا ذكر الطير التي كانت تصحب الجيوش لتأكل القتلى كما قال النابغة:
إذا ما غزوا بالجيش حلَّق فوقهم
…
عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائب
وفهم من قول سعيد بن جبير: "إن الطير كانت خضرًا لها مناقير تختلف عليهم" أنها كانت تأكلهم، فذهب إلى ما ذهب في تفسير السورة.
ولما صدر تفسير المعلِّم رحمه الله هذا تعرض للرد والتعقيب، مع الاعتراف بجلالة قدره، وغزارة علمه، وتورعه وتقواه
(1)
. غير أن بعض شيوخنا لما تصدى لنقد هذا التفسير أنكر شجاعة العرب أصلًا، وزعم أنها من أكاذيب الشعراء والأخباريين، وكأنه ــ غفر الله له ــ قاس شعراء الجاهلية على الشعراء المتأخرين من العرب وشعراء الفارسية والأردية المولعين بالغلو والإغراق في المدح والافتخار.
(1)
انظر: قصص القرآن للشيخ محمد حفظ الرحمن (3: 361)، وتفهيم القرآن للأستاذ أبي الأعلى المودودي (6: 471).