الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جلسة فكرية
عبد القادر حامد
دار نقاش بيني وبين أحد الأصدقاء المعنيين بالثقافة والأدب وبالأوقات التي
تمر بها الأمم بازدهار فكري، أو بجمود وسكون؛ وأسباب ذلك، وما الأمور التي
تؤدي بالأمة والجو الذي يلفها إلى إحدى النتيجتين فقال:
لم يحدث أن نهضت أمة نهضة فكرية دون تعاون واشتراك بين جهتين: بين
القادة وبين الشعوب. وإن شئت الدقة فقل: بين القادة السياسيين وبين القادة
الفكريين. وكل الظواهر التي يشمل خيرها أمة بعينها؛ فينقلها من الجهل إلى العلم، ومن التخلف والجمود؛ إلى التقدم والحركة هي نتيجة هذا التعاون. ومتى انفك
هذا التحالف والاتفاق الضمني بين هاتين الجهتين فهذا نذير الضعف والتحلل، أو
الفوضى وعدم الاستقرار.
قلت: إذن أنت ترى أن الأفراد لا يستطيعون أن يقوموا بهذه المهمة بمعزل
عن تحالفهم مع القادة؛ فماذا تقول في الآثار التي تركها مفكرون ومصلحون عبر
القرون لم يرتبطوا بقيادة تحالفوا معها لينجزوا ما أنجزوا، بل منهم من كان في
أماكن لم توجد فيها سلطة أبداً، ولكنهم خلفوا آراء أحدثت تحولاً عجيباً فيمن جاء
بعدهم؟ .
قال: إن الأفكار العظيمة قد تنتقل من عصر إلى عصر، مثلها مثل البذور
التي تدخر من وقت لآخر، أو تجلب من بلد إلى آخر.. لكن هذه الأفكار لا تعمل
وحدها، بل لابد لها من حملةٍ يحملونها عن إيمان بها واقتناع، ولكي تعطي أثراً ذا
بال لابد أن يتوفر لها المحيط الذي تتفاعل معه. أما إن كبتت وحيل بينها وبين
الناس بشتى الطرق؛ فمن أين لها أن يجتمع الناس عليها، وتحدث ما يرتجى منها؟! نعم؛ إنها لا تموت، ولكن تأثيرها مؤجل إلى أن تحين ساعة إطلاق سراحها.
قلت: هل تعنى أنه لابد من قوة مادية تقسر الناس على اتباع فكرة ما قسراً،
وتكرههم على قبول وجهة نظر واحدة، وتحارب ما عداها حرباً لا هوادة فيها؟
إذن وقعنا في الاستبداد المؤدي إلى الطغيان وهدر الحقوق، الذي يشل الشعوب
ويقتل فيها الحيوية ويزرع فيها اليأس والهزيمة.
قال: كأني بك تنظر إلى أمثلة تراها ماثلة أمامك؛ بأخبارها ومعاناة ناسها
وتخشى أن يهدم طغيان ببناء طغيان آخر بديل..
لا تنسَ أن هذه الأمم طبقت عليها مبادئ ليس بينها وبينها صلة، وليست
وليدة التدرج الطبيعي لنضج الأفكار الصحيحة، وإنما هي نزوات متطرفة في
رؤوس حفنة من أصحاب الأهواء، فرضتها عوامل عديدة، وهى من حيث المبدأ
تخالف الفطرة البشرية، وتخالف طبيعة الناس الذين طبقت عليهم، وتخالف أصل
النظريات التي اشتقت منها.
والأمر مختلف بالنسبة للإسلام، فأنت لست بحاجة إلى قهر الناس لقبوله،
لأن له رصيداً غنياً في الفطرة البشرية، ومن جهة ثانية فإن جذوره عميقة في تربة
المجتمعات الإسلامية، إنه الحق الذي لا يحتاج إلى من يشق له الطريق ويبين
محاسنه للناس، بل إلى الذي يرفع العوائق الاصطناعية، والسدود التي يتعمد
وضعها أمامه أعداء الحق من كل ملة، وفى كل عصر. وهو -في الوقت نفسه -
ليس بحاجة إلى التفنن في اختراع أساليب دعاية شيطانية لنقنع الناس به سيراً على
مبدأ: (الغاية تبرر الوسيلة) ، ولا إلى استيراد طرق تعذيب وحشية فاشية أو نازية
أو شيوعية حتى نكبح جماح معارضيه.
قلت: هل يعني ما قدمت أنك في شك من أن في حياة الأمم لحظات مصيرية، ومنعطفات حادة، ولحظات تغيير شامل، ينظر إليها دعاة التغيير، فتجري في
أحاديثهم، وعلى أقلامهم، فيعبرون عنها (بالثورة)، وتارة (بالانقلاب) ؟ . قال:
أما إنه هناك منعطفات حادة ولحظات مصيرية في حياة الأمم فنعم، وأما أن هناك
شيء يصح أن يطلق عليه وصف (انقلاب) بالمعنى اللغوي الدقيق للكلمة؛ فلا.
والخلل يحصل من أن سطحية الأفكار؛ وسطحية كثير ممن ينشدون التغيير
والتجديد في المجتمعات تنعكس سطحية في استعمال اللغة فيحدث خلط وتشويش،
وتضيع الحقيقة في زحمة الخلط والتشويش.
فكلمة انقلاب تعنى - من حيث مدلولها اللغوي - أن الأوضاع انقلبت رأساً
على عقب، وأن كل شيء انعكس إلى ضده، وأن هذا الانعكاس والتغيير حصل
في فترة قصيرة جداً قد تكون نتيجة حركة عسكرية أو أهلية: نقول هذا لأن الكلمة
من حيث الوضع تستعمل لوصف واقع مادي، ثم استعيرت لتعبر عن واقع معنوي
أو ثقافي. ولكن، هل (الانقلاب) يحدث هكذا، فجأة، ودون مقدمات تمهد إليه،
وهل يغير كل شيء في المجتمع بضربة واحدة؟ وبعبارة أخرى: هل التغيير الذي
يحصل في مجتمع ما يحصل بخبطة واحدة دون أسباب ونتائج سابقة مترابطة؟ .
إن الواقع المشاهد لا يقول بهذا، بل يقر أن الحوادث التاريخية -مهما كانت
آثارها بعيدة الأثر وعميقة التأثير - ليست إلا حلقات في سلسلة مترابطة، وأن
شهرتها وانطباعها في ذاكرة مجموعة من الناس راجع إلى أن الإنسان عندما يذهب
لإعادة تركيب حلقات التاريخ من أجل فهمها، وانتزاع القوانين والعبر منها؛ إنما
يحاول أن يركب حلقات الماضي كما يحب أن يجدها هو.
ولا شك أن ماضي الأمة كماضي الفرد، فيه لحظات سعادة، ولحظات شقاء،
والإنسان بطبعه لا يحب إلا تذكر لحظات السعادة، وتجاهل غيرها، لأنه لا يحب
أن يتذوق طعم الشقاء مرتين، فتراه عندما يبني تاريخه لا يحب أن يستوقفه منه إلا
ما يرفع الرأس، وقد يضرب صفحا عما دون ذلك. لكن فئة قليلة جداً هي التي
تعيد تركيب التاريخ بأسلوب أقرب إلى المنطق العلمي وتحاول جاهدة - بسعة
علمها، وصبرها، وبعدها عن الهوى - رؤية جميع حلقاته - حلوها ومرها، نقول: تحاول، عن قناعة بأن الحياد والتعقل والموضوعية الباردة لا تتوفر كاملة في
دراسة التاريخ، مهما ادعى المدعون، ولكن قدراً من ذلك - تنتج عنه النتائج
الصحيحة والمقبولة - ممكن، وهو القدر الذي طالب الله به عباده بقوله: [أَوَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً
وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ الله
لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] [الروم: 9] . أما الدهماء فغير قادرين إلا
على رؤية وتذكر ما يعتبرونه مهماً من الحوادث ولذلك؛ حينما يديرون مثل هذه
الكلمات: ثورة، انقلاب.. على ألسنتهم؛ يوقعهم نظرهم القاصر في نتائج خطيرة
هي معالم بارزة في كل مجتمع عاجز.
فمن ذلك:
ينظرون إلى التاريخ على أنه قفزات وفرص؛ لا مجال يخضع لقانون
السببية.
* تتحول النظرة إلى المجتمع إلى أنه مائدة قمار تحكمه قوانين الشطارة
والخداع والصعلكة، ولا تضبطه قوانين الجد والاجتهاد والتعب المثمر.
* يدب اليأس والكسل، وتتراخى الهمم، وتذبل الأرواح، وتصاب النفوس
بأمراض اجتماعية تميت الإنسان وهو حي.
* تطفو على سطح المجتمع الجيف المتحركة التي تزكم رائحتها أنوف
أصحاب النفوس القوية، والمبادئ القويمة، فيتخفى أكثر هؤلاء ويتوارون، ولا
يبقى منهم إلا قلة حالها شبيه بحال مدينة ضربها وباء مهلك أو زلزال مدمر، أو
فتنة مشتعلة: هلك فيها من هلك، وهرب منها من هرب، ولم يبق فيها إلا فئة
صغيرة، عليها يقع دفن الجثث، وتطهير الأمكنة، وإخلاء من لا يزال به رمق
إلى مواقع العلاج.
إذا رجعنا إلى اللحظات التي يصفها الناس بالمصيرية، أو المنعطفات الحادة
أو فترات الانقلاب نرى أن الذي أضفى عليها هذه الأوصاف هم الناس لأغراض
شتى، ولحاجات في نفوسهم، أما هي - في حقيقتها- فلا تعدو أن تكون حلقات في
مجرى التاريخ.
ولا ينبغي أن يفهم من كلامي أن فيه تقليلاً من قيمة بعض الأحداث؛ ولكن
الهدف منصب على أن أي حادثة مهما عظمت وعظم أثرها فهي وليدة ظروف أدت
إليها، وليست ضربة حظ عمياء، أو رمية من غير رامٍ.
قلت: أريد منك الفكرة الرئيسية التي تستفاد من هذا الحديث، حتى لا يتشعب
علينا الأمر فتضيع الفكرة، ونخسر العبرة.
قال: الغرض الأساسي من هذا الحديث هو الإشارة إلى علة الجمود الثقافي
والفكري الذي يخيم على العرب والمسلمين في هذه الفترة، وهذه العلة هي انعدام
التعاون الصادق بين طرفي القيادة في الأمة: الزعماء والعلماء، ونظرة كل طرف
إلى الآخر بعين الريبة والشك، وقيام العلاقة بينهما على الخوف.
ففي ظل الخوف ينشغل الفكر بتحصيل المأمن بدل أن ينشغل بالإنتاج المثمر، والخوف يعرقل المواهب إن لم يقتلها، وفى ظله يفرخ اليأس والقنوط، ويشيع
الانشغال بما لا يجدي، وينتشر السخف بدل الثقافة، وتروج الخرافات بدل الحقائق، ويكثر مستثمرو الآلام والأوهام بدل الأطباء الحكماء، ويهرب أغلب الناس من
مواجهة الحقائق إلى بلايا كالخمر والمخدرات والتدخين، وإلى ما قد يكون مثلها أو
أسوأ أثراً كالأحاديث الفارغة، والأدب المخدر، والفكر الكسيح.
كل ذلك مما يثمره الخوف والتوجس. وما لم تصحح هذه العلاقة المختلة،
وتبنى على أساس من الثقة والائتمان؛ فلا أمل في خير، ولا خروج من سبيل.
قلت: لكن الثقة والائتمان لن تكون ما لم يكن طرفا المعادلة قويين أمينين؟ ! .
قال: هذا.. أو ما نحن فيه!
مقابلة
مع الشيخ الدكتور عبد العزيز القارئ
يسر مجلة البيان أن تلتقي بالدكتور عبد العزيز القارئ الأستاذ بقسم الدراسات
العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد التقى المحرر بفضيلة الدكتور
وطرح عليه بعض الأسئلة فأجاب عليها مشكوراً.
1 -
نرجو أن تعطى القارئ فكرة عن مسيرتك العلمية، ومَن مِن العلماء كان
له الأثر الأكبر في حياتك العلمية.
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
فأجيب على هذا السؤال من باب التعارف المستحسن بين المؤمنين، خاصة
أنه سيتضمن الجواب تعريفاً ببعض العلماء الذين أدركتهم، وإلا فإني أعلم قدر
نفسي وقلة بضاعتي، أسأل الله أن يغفر لي ما لا تعلمون، ويجعلني خيراً ما
تظنون.
أقول: أول ما بدأت في الصغر بقراءة القرآن وحفظه على والدي الشيخ عبد
الفتاح بن عبد الرحيم القارئ رحمه الله، وهو قرأ على شيخه أحمد بن حامد
التيجمي المصري الرِّيدي بمكة المكرمة، وإسناده متصل إلى النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وقد ذكرت ذلك في مقدمة كتابي (قواعد التجويد على رواية حفص عن
عاصم بن أبي النجود) ، وحفظت (التحفة) للجمزوري، و (المقدمة) للجزري،
وهما منظومتان في التجويد، ثم قرأت عليه قسماً من متن (القدوري) في الفقه
الحنفي، وبعد وفاة والدي رحمه الله سنة 1385 هـ تلقيت قراءة نافع بروايتي
ورش وقالون على تلميذ والدي الشيخ محمد الأمين بن أيدا عبد القادر الشنقيطي،
وذلك بمضمن نظم (الدرر اللوامع في مقرأ الإمام نافع) لابن برِّى الغرناطي.
أما الدراسة في المدارس الحكومية فبدأتها في المعهد العلمي بالرياض، ثم في
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من عام 1381هـ إلى 1389 هـ وتخرجت في
كلية الشريعة بها، ثم حصلت على درجة (الماجستير) ثم (الدكتوراه) في فقه
السياسة الشرعية من جامعة الأزهر بمصر.
وأبرز من كان له أثر في نفسي أثناء الطلب بعد والدي رحمه الله، هو سماحة
الشيخ عبد العزيز بن باز، أمد الله في عمره وبارك فيه، فقد كان سماحته أثناء
رئاسته للجامعة الإسلامية بالمدينة أبَّا مربياً، وعالماً ومُوجِّهاً، فأثر بعلمه وعطفه
وتواضعه، وبمواقفه الصلبة في حماية منهج أهل السنة والجماعة، وبنصحه
للمسلمين رعاة ورعية، وجرأته في الحق، أثر بكل ذلك في نفوس أبنائه الطلاب،
وأنا واحد منهم إذ ذاك، ثم فضيلة الشيخ محمد الأمين الجَنكي الشنقيطي، مؤلف
(أضواء البيان) وقد حظيت مع غيري من زملائي بدراسة أبواب القياس من روضة
الناظر عليه رحمه الله، وبحضور حلقته في التفسير في شهر رمضان من كل عام
في المسجد النبوي الشريف، وكان رحمه الله بحراً في العلم، خاصة في علمي
الأصول، والتفسير، ثم فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني كان له أثر بالغ
في لفت انتباه طلبة العلم لما دَرَّس بالمدينة النبوية إلى العناية بعلوم السنة النبوية،
والشيخ الألباني كما هو معروف يعد من أبرز علماء الحديث في عصرنا الحاضر
أسأل الله أن يمن عليه بالصحة والعافية.
ومن الأئمة المتقدمين كان تعلقي وتأثري أكثر بإمامين: أبي حنيفة، وابن
تيمية، فمنهجهما في الفقه والاستنباط وشموليتهما في التفكير وعمق فهمهما للإسلام
كان مثار إعجابي وتعلقي. وربما أكون أدق تعبيراً إذا قلت إن أكثرهما تأثيراً في
تكويني العلمي هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإن هذا الإمام الحنبلي بجهاده
المتوقد، وفكره المجدد، وفقهه العميق، وشمولية فهمه للدين، ولقواعده ونصوصه
لا يملك طالب علم كامل القريحة أن يقاوم جاذبيته وقوة تأثيره، ولابد أن لعدد من
أئمة السلف تأثيرا في نفسي وفى عقلي عندما كنت أدرس مؤلفاتهم كالإمام الشافعي،
والشاطبي صاحب الموافقات، والاعتصام، وغيرهما، فطالب العلم في العادة
يستفيد من كل منهل صافٍ يرده، والمناهل الصافية لدى السلف ما أكثرها.
وقد كانت المدينة النبوية أثناء طلبي للعلم في ربوعها شرفها الله زاخرة
بالحيوية العلمية والنشاط العلمي، في حلقات المسجد النبوي الشريف أو في فصولي
الجامعة الإسلامية، وذلك في السنوات من 1381 هـ إلى 1389 هـ.
2 -
من الملاحظ أنه مع كثرة الجامعات في العالم الإسلامي، فإن عدد العلماء
قل والمستوى العلمي ضعف فما هو السبب في رأيكم؟ .
ج: أشهد أن العلماء قليل، والمستوى العلمي لطلبة العلم هزيل، وهذا من
أخطر مظاهر التدهور في وقتنا الحاضر، والسبب هو تدخل أهل السياسة والحكم
في شئون العلم والعلماء، وفي أمور الفقه والفقهاء، ومتى ما تسلطت السياسة على
العلم فإنه يضعف ويفسد حاله، لأن العلماء حينئذ يفقدون حرية الحركة واستقلالية
العلم، وهذان من أهم دعائم المسيرة العلمية في تاريخ الإسلام، إذا نظرت في
تاريخنا وجدت عصور الازدهار العلمية هي تلك التي حافظ فيها العلماء على
استقلالية مؤسستهم العلمية وعلى ابتعادها عن أهواء السياسة وتقلباتها، ووقفوا في
وجه السياسة إذا ما حاولت التدخل.
هذه الاستقلالية للعلم والعلماء ضرورة ملحة ليس للمؤسسة العلمية في الإسلام
فحسب بل للأمة كلها.. فإن من عوامل الانهيار والدمار للأمة أن يصبح العلم أسيراً
لشهوات السياسة، فإذا لم يصدع العالِم بكلمة الحق عند السلطان الجائر من يصدع
بها إذن؟ ! .
3 -
إن كثيراً من الشباب لا يتمكنون من الجلوس لطلب العلم على أيدي
العلماء، في هذه الحالة بماذا تنصحونهم؟ وما هي الكتب التي يدرسونها لتحصيل
العلم الواجب عليهم؟
أحث كل شاب مهما كان مجاله واختصاصه الذي يشتغل به أن يحرص على
تلقي العلم في حلقاته على أيدي الشيوخ المعروفين بالعلم والورع ولو اقتضى الأمر
تذليل بعض العقبات، والرحلة في طلب العلم الواجب أمر وارد، وهي طريقة
السلف، ولكن إذا تعذر على بعضهم فعل ذلك فعليه أن يسدد ويقارب وينتقي ما يقرأ
ويحرص على الكتب التي تجمع بين أمرين: السهولة، واليسر، وأن تكون على
منهج أهل السنة والجماعة، وليبدأ بدراسة كتاب مختصر في التوحيد، مثل (تجريد
التوحيد) للمقريزي، أو (العقيدة الطحاوية) ، أو (عقيدة أهل السنة والجماعة للشيخ
ابن عثيمين) ، ونحو ذلك من المختصرات الميسرة المفيدة، وفى الفقه يختار متناً
فقهياً مشروحاً، مثل (العمدة) في الفقه الحنبلي أو (الكافي) كلاهما لابن قدامة، فإن
صعب عليه ذلك فليقرأ في كتاب (فقه السنة) للسيد سابق على ما في الكتاب من
مآخذ إلا أنها لا تمنع من الاستفادة منه.
وأسلوب تلقي العلم من الكتب بدلاً من الشيوخ ليس من منهج السلف، لكن
عند الضرورة لابد مما ليس منه بد، وأقترح لمن اضطروا إلى ذلك أن يخففوا من
مخاطر هذا الأسلوب بالمدارسة، وهى أن يجتمع الرهط من الشباب يتذاكرون العلم، فلعل بعضهم يكون أفقه من بعض، وبالسؤال كلما أشكل عليهم شيء، أو اختلفوا
في فهم مسألة، والسؤال اليوم متيسر مع سهولة الاتصالات التلفونية وتقارب
أطراف العالم بسببها.
وهنا نصيحة مهمة أسديها لهؤلاء الشباب الذين نتحدث عنهم، أن يحذروا من
الغرور، فإن هذه الآفة في العلم قاتلة، تكون سبباً لحرمان صاحبها من الاستفادة،
وربما كانت سبباً لاستدراجه إلى مهاوي البدع وحفر التنطع. على الشاب المسلم أن
يحرص على الاستفادة من كل من يثق بدينه ومنهجه وعقله وتجربته وعلمه وفهمه،
المهم أن يكون الذي تأخذ عنه دينك مستمسك بمنهج أهل السنة والجماعة «إن هذا
العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» هكذا قال سلفنا.
4 -
نعلم أن لكم دراسة حول موضوع (الأحرف السبعة) للقرآن وعلاقتها
بالقراءات القرآنية، ما هي النتيجة التي وصلتم إليها في هذا البحث، وما هي
الوسيلة المثلى لتعلم التجويد؟ .
نشر البحث الذي تشيرون إليه في العدد الأول من (مجلة كلية القرآن الكريم
والدراسات الإسلامية) بالمدينة النبوية الصادر في عام 1403 هـ، وملخص ما
ترجح لديَّ في معنى الأحرف السبعة الواردة في الحديث المتواتر «أنزل القرآن
على سبعة أحرف» أن المراد سبعة أوجه من أوجه القراءة، وهذا حد أعلى
لاختلاف الأوجه، إذ أن القرآن العظيم منه ما نزل على وجه واحد وهذا أكثره،
ومنه ما نزل على وجهين، ومنه ما نزل على أكثر، لكن لا تزيد الأوجه في
مواضع الاختلاف من القرآن على سبعة، وهذا الاختلاف لا يضير النص القرآني
لأنه من باب خلاف التنوع لا من باب خلاف التضاد، فكل وجه تجد فيه زيادة في
المعنى تناسب المعنى الأصلي، وربما تكمله أو تفسره، فمثلاً في قوله تعالى:
[ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ] . الآية، فقوله؛ [يطهرن] بتسكين الطاء يحتمل أن يكون المراد منه
انقطاع الدم، ويحتمل أن يكون المراد الغُسل، لذلك اختلف الفقهاء في ذلك، فمنهم
من أباح مجامعة المرأة بمجرد انقطاع الدم، ولو قبل أن تغتسل، ومنهم من اشترط
لإباحة ذلك الاغتسال، فجاء الوجه القرآني الآخر [حتى يطَّهَّرن] بتشديد الطاء
والهاء مفسرا المراد، لأن هذه الصيغة - بالتشديد - لا تحتمل غير الغسل..
ثم إن في تعدد أوجه القراءة للنص القرآني وتنوعها تيسيراً للأمة،. ويتبين
ذلك بصورتين:
الأولى: العربي الذي نشأ لسانه على لهجة معينة - كالإمالة - مثلاً.
فإنه يجد سعة في الأمر إذا غلبه لسانه فأمال الألفات ذوات الياء أو هاءات
التأنيث عند الوقف، إذ يوافق ذلك حرفاً منزلاً، لكن هذه التوسعة منضبطة بحدود
المنزَّل، لأن قراءة القران توقيفية.
الثانية: الأعجمي إذا غلبته عجمته أثناء القراءة فقلب الصاد سيناً - مثلاً -
في قوله تعالى في سورة الفاتحة [اهدنا الصراط المستقيم.] . ففي الأمر سعة
لأنه وافق حرفاً منزلاً، وهكذا إذا وافق القارئ عربياً كان أو أعجمياً شيئاً من
الحروف المنزلة فإننا لا نُثرِّب عليه، وإلا فإنه يُلام إذا لحن في القرآن مع القدرة
على تجنب اللحن.
والطريقة الصحيحة لتعلم قراءة القرآن وتجويده هي التلقي من أفواه الشيوخ
المتقنين، فإن لم يجد الشاب المسلم من يقرئه فليستعن بالأشرطة الصوتية لتعليم
التجويد، وبالمصاحف المرتلة بأصوات المُجَوِّدين كالشيخ محمود الحصري رحمه
الله.
5 -
في زحمة التيارات الفكرية نلاحظ تركيز بعض الناس على الأفغاني
ومدرسته، فما هو رأيكم؟ .
رأيي أننا من الناحية الفكرية تجاوزنا بكثير مرحلة جمال الدين الأفغاني
والشيخ محمد عبده والمدرسة التي يسمونها بالمدرسة العقلية، وهى أقرب إلى اسم
المدرسة الترقيعية، التي تحاول الجمع بين الفكر الغربي والإسلام، وذلك بإخراج
(طبعة عصرية) للإسلام، ولو أدى ذلك إلى تحريف بعض عقائده أو شرائعه
وتفسيرها تفسيراً بعيداً عن هيمنة الضوابط الشرعية والقواعد العلمية. ما حاجتنا
إلى أمثال الأفغاني من الشخصيات التي يلف الغموض كثيراً من آرائها ومواقفها؟
وفى علم الجرح والتعديل لا يؤخذ من مجهول الحال، ولا ممن كثرت أوهامه.
ديننا والحمد لله واضح، وضوابطه وقواعده واضحة، ومنهجه واضح، له منهج
واحد هو منهج أهل السنة والجماعة الذين استمسكوا بمنهج الصحابة رضي الله
عنهم في فهم النصوص وفقهها، ومنهجهم في العلم.
ونصوص الكتاب والسنة ليست حمىً مباحاً لكل أحد يفهمها كما يشتهي، بل
يلزم أن يفهمها بمنهج الصحابة، ويفسرها بمنهج الصحابة الذين هم المقصودون
عند إطلاق مصطلح: السلف.
في خاتمة هذه المقابلة، نشكر فضيلة الدكتور عبد العزيز القارئ، ونسأل الله
له التوفيق في القول والعمل.