الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدب وتاريخ
قصة قصيرة
اليقين
وائل صبري
الحمد لله المعطي والمانع..
قال الزوج هذه الكلمات من أعماق قلبه وهو يرفع بصره إلى السماء، متأملاً
في نجومها المتلألئة وهي تسبح في بحر كثيف من السواد الداكن..
كان الفرح ينمو ويكبر في ذلك القلب المرهف كزهرة تفتحت أكمامها مع
بداية الربيع.. وكان الكون كله من حوله يبدو - في عينيه - باسماً أنيساً ملؤه
المحبة والفرح والأمل.. وكان يشعر وكأن الدنيا بأسرها تزف إليه التهاني مع كل
نسمة للأثير في تلك الليلة الجميلة..
كيف لا؟ وقد سمع ذلك الخبر الذي كان ينتظره منذ سنين.. ينتظره وقلبه
مفعم بالأمل والرجاء واليقين. مبارك إن شاء الله.. زوجتك حامل..
كان هذا هو الخبر.. وكانت تلك هي الكلمات. أما المشاعر فكان لا يعلم
وصفاً لحالها إلا الله.
وعاد الزوج إلى البيت.. وفتح كتاب الله الكريم على الآيات التي كان كثيراً
ما يقرؤها ودمعة وحيدة حرى تترقرق في عينيه.. وبدأ يقرأ.؛ [كّهيعص * ذِكْرُ
رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِياً * قَالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي
واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ولَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياً * وإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِن ورَائِي
وكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ولِياً * يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجْعَلْهُ
رَبِّ رَضِياً] ولكن الدموع كانت في هذه المرة تنهمر من عينيه سيلاً مدراراً يغسل
وجنتيه الوضيئتين ويخضب لحيته الكثيفة.. وفى يوم الجمعة.. عندما ذهب إلى
المسجد.. أشرق وجهه بالبشر والحبور.. وامتلأ صدره بالثقة والأمل.. وهو
يسمع الخطيب يتحدث عن الأولاد والبنين، ويهدر بصوته قائلاً: وكيف لا تفرح
أيها الأب بفلذة كبدك وتعتني به. وهو امتداد لسجودك وركوعك وتسبيحك وتهليلك.. وهو قطعة من جسدك تمشى أمامك على الأرض..
وخرج من المسجد ولسان حاله يقول: سأعتني به إن شاء الله. وسأعمل على
أن يكون امتداداً حقيقياً مباركاً لركوعي وسجودي وتسبيحي وتهليلي بإذن الله رب
العالمين.
ومرت الأيام. وكان يتردد - أثناءها - بشكل دوري على المستشفى مع
زوجه لإجراء الفحوص الطبية المعتادة.. إلى أن جاء يوم..
- هذا هراء.. غير معقول! !
كان الزوج يقول هذه الكلمات للطبيب - في ذلك اليوم - والنيران تتأجج في
قلبه.. ويزيد أوارها أنين زوجه المسكينة التي أذهلها هول الموقف فلم تجد تعبيراً
عما في فؤادها المشتعل أصدق من الدموع..
- هذا ليس هراء يا سيدي وهذه هي الصورة أمامك. إن هذا الشيء الذي
يسكن رحم زوجك الفاضلة ليس جنيناً.. أنا لم أر في حياتي مثل هذا.. إنه.. إنه
يا سيدي شيء أو مخلوق لا يعلم طبيعته إلا الله! ! إ. ونظر الزوج إلى الصورة
مرة أخرى.. ثم أشاح بوجهه.. فقد كانت الصورة التي أجريت لرحم زوجته
غريبة حقاً ففي وسط الصورة.. وحيث كان يفترض أن تظهر ملامح الجنين
المعروفة.. لم يكن يبدو سوى كتلة ملتفة من اللحم دون أية أطراف أو معالم..
كانت الصورة - كما قدر الجميع- لمخلوق لم ير إنسان له مثيلاً على الإطلاق..
غير أن أحداً لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة في ذلك الموقف الرهيب..
وانقضت دقائق ثقيلة من الصمت كأنها دهر.. تماسك بعدها الزوج المجروح
وقال موجها حديثه للطبيب:
- والعمل؟ . أقصد.. ماذا تقترح أن نفعل الآن أيها الطبيب؟ .
- في الحقيقة.. أعتقد أن الأمر الوحيد الذي يمكن عمله الآن هو.. هو
الإجهاض.
- ماذا؟ .. الإجهاض..
- أعتقد أنه لا مفر من ذلك يا سيدي على الإطلاق.. ربما يكون ذلك مؤلماً
بعض الشيء.. إلا أنني أظن أن الألم سيكون مضاعفا.. وطويلاً.. بعد ذلك إذا لم
نتدارك الأمر الآن.. وأعتقد أنكم تفهمون تماماً ما أعنيه..
قالها الطبيب وهو ينظر إلى نظرات الزوجين التي تلاقت في حوار صامت
قصير ولسان حالهما يقول: إننا نفهم تماماً ما تعنيه.. يا سيدي الطبيب..
ومرة أخرى.. ساد الصمت الثقيل أرجاء الغرفة.. لكنه كان في هذه المرة
صمتاً له دوي هائل.. لم يقطعه غير كلمات الزوج الهادئة الرتيبة:
- حسناً.. حسناً.. سنفكر ملياً في هذا الأمر.. وأعتقد أن لدينا متسعاً من
الوقت على كل حال.. شكراً.. السلام عليكم.
وخرج الزوج.. وزوجه التي لم تنطق بحرف واحد طوال الوقت تتكئ على
ذراعه.. ونظر الطبيب قليلاً إلى الممرضتين اللتين شهدتا المشهد كله.. ثم أطرق
برأسه.. وألقى بيديه في جيوب معطفه وغادر الغرفة هو الأخر.. فقد كان الموقف
لا يحتمل أي كلام..
لم يصل الزوجان إلى البيت إلا وكان الزوج قد فكر ملياً وحسم الأمر.. وكان
هذا علامة على عودة مؤشر قلب هذا الرجل الكبير للاستقرار على موجة الإيمان
واليقين التي عهدها في نفسه.. وعهدها الناس فيه.. بعد تلك الهزة العنيفة..
ومع أول خطوة داخل المنزل قال:
-لقد انتهى الأمر.. والأمر لله من قبل ومن بعد على كل حال.. ثم أردف
موضحاً حين رأى عيون زوجه الدامعة مليئة بالتساؤل والاستفهام:
- لقد نفخت الروح - والله أعلم - في هذا الجنين.. فأنت الآن في شهرك
السادس.. والإجهاض معناه الآن قتل هذا المخلوق المسكين.. وهذا مالا نفعله على
الإطلاق.. إن شاء الله..
كانت الكلمات تنساب من فمه بهدوء وطمأنينة غريبة.. ورغم أن تباشير
دمعة حارة كانت تترقرق في عينيه إلا أنه مضى يقول:
- إن الله هو الذي ينفخ من روحه في هذا المخلوق.. وهو.. هو وحده الذي
يحق له أن يأخذ ما أعطاه.. أما نحن.. فليس لنا من الأمر شىء.. غير الدعاء
والرجاء.
واستسلمت الزوجة الحزينة أول الأمر.. ودونما إدراك منها لطبيعة ذلك
الاستسلام.. هل كان قناعة منها بكلمات زوجها؟ أم كان رضى بالأمر الواقع؟ ..
أم أن الذهول الذي أصابها منذ اللحظة الأولى كان يلفها فى حناياها فلا تجد في
نفسها قدرة على التفكير واتخاذ القرار؟ ..
والحقيقة أن هذا كان التفسير الحقيقي لموقفها بادىء الأمر.. إلا أن مشاعر
اليقين والصبر والرجاء والتي كان زوجها يبثها - دائما - في كل مناسبة.. سرعان
ما بدأت تتغلغل في أعماق فؤادها الكليم لتملأه شيئاً فشيئاً أمناً وطمأنينة وسكينة..
لم تستطع أن تفسره إلا أنه كان رحمة وعوناً من الله.
وبهذه المشاعر المفعمة بالتعلق بالله الواحد الأحد.. واجهت - أكثر من مرة
- موقف بعض الممرضات اللواتي عرضن عليها - خفية ودون علم زوجها - ومن
منطلق الإشفاق والرثاء! مساعدتها في التخلص من حملها العجيب. مرة بالأدوية
والعقاقير.. وأخرى بالتعب والإرهاق.. وثالثة بطرق أخرى.. غير أنها كانت
تتذكر في كل مرة كلمات زوجها عن الواهب.. الواهب الذي له وحده الحق في أخذ
ما وهب.. فتقف.. بكل إصرار في وجه تلك المحاولات التي ظلت تتكرر حتى
الأيام الأخيرة التي سبقت موعد ولادتها.. هذه الولادة التي كانت تترقبها جموع
العاملين في المستشفى.. بعد أن طارت بقصتها الركبان.. داخل المستشفى
وخارجه.. إلى أن جاء ذلك اليوم المشهود..
- أنا لا أصدق ما أرى! ! .. الله أكبر.. الله أكبر.. ما أجمل هذه المولودة..
بهذه الكلمات الممزوجة بدموع الفرح.. كانت تصيح الطبيبة التي أشرفت
على ولادة الأم المؤمنة الصبور.. وسرى الخبر سريان الكهرباء في أسلاكه بين
جموع المرتقبين.. وكأن مساً أو عدوى أصابت الجميع، فإذا دموع الفرح تنهمر
من عيون خليط غريب غير متجانس من البشر.. ليغرق الجميع في موجة صاخبة
من التهاني والفرح وهم يروون ما حدث:
- لقد كانت مولودة جميلة.. فيها شيء واحد غريب.. فقد كان شعرها طويلا
مسدلاً.. ولما كانت متكورة على نفسها في رحم أمها.. فقد كان الشعر يغطي
جسمها الصغير.. الأمر الذي أظهرها في الصورة على ذلك الشكل الغريب..
- وفى تلك الأثناء كان الزوج ساجداً في غرفة الانتظار.. كان قد سمع
بالخبر وعلم بتفاصيله.. بل كان قد رأى الطفلة وانطلق بالآذان في أذنها الصغيرة.. وحنكها بشيء من التمر اتباعاً لسنة نبيه العظيم.. لكنه كان في تلك اللحظات
يهيم بقلبه وروحه بعيداً.. بعيداً عن كل هؤلاء الناس.. حتى أنه ما عاد يسمع شيئاً
من كل ذلك الضجيج..
كان إحساسه كله يتركز في أن الأمر كله كان امتحاناً لصبره وإيمانه..
امتحاناً ليقينه.. وكان - وهو ساجد سجدة الشكر - يحس أنه بعون الله نجح في
ذلك الامتحان.. وبدرجة الامتياز..
أدب وتاريخ
أثر الإسلام في حركة الإصلاح البروتستانتية
د. السيد محمد الشاهد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
تتفق المصادر العربية والغربية على أن العصور الوسطى المسيحية كانت
امتداداً للعصور التي سبقتها من حيث احتكار الكنيسة لحق تسيير جميع شئون الحياة
العامة والخاصة في الغرب، كما تتفق على أن ذلك الوضع كان سبباً في ركود
الحضارة الغربية التي بدأت عند اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد ثم توارت
آثارها بعد سيطرة الكنيسة في الدولة الرومانية ابتداء من القرن الرابع الميلادي.
ويطلق المؤرخون على الفترة الواقعة بين القرن الرابع وحتى العاشر
الميلاديين (عصر الظلام) كما يطلق بعض المؤرخين المحدثين على الفترة التي
تلتها أي العصور الوسطى (عصر الجهالة) كما يقول (ساذرن) في كتابه (نظرة
الغرب إلى الإسلام في العصور الوسطى) ولديورانت في كتابه (قصة الحضارة)
انظر [ج 27، صفحة 114] .
وقد عم ظلم رجال الكنيسة البسطاء الذين كانت تفرض عليهم الضرائب
الباهظة والتي كانت كثيراً ما تؤدي بهم إلى الاسترقاق لخدمة رجال الكنيسة سداداً
لديونهم إلى جانب اعتمادهم المطلق على رجال الكنيسة فيما يتعلق بأمور دينهم
لجهلهم بالكتاب المقدس الذي كان مكتوباً باللغة اللاتينية التي لا يعرفها سوى قلة
نادرة.
أما الساسة فكانوا يعينون ويعزلون حسب رغبة رجال الكنيسة بسبب تعاطفهم
مع أفراد الشعب البسطاء أو إهمال إرسال نصيب الكنيسة من الضرائب أو ما إلى
ذلك.
أما العلماء فكانوا يتهمون بالسحر والزندقة إذا قالوا بآراء علمية تخالف آراء
رجال الكنيسة، ومن أشهر الأمثلة على ذلك إعدام جيرارد وبرونو (1600م) ،
ومحاكمة جاليلو (1642م) حيث اضطر إلى الرجوع عن قوله بدوران الأرض إنقاذاً
لحياته.
بذلك اتسعت الجبهة المناوئة للكنيسة فضمت كثيراً من أفراد الشعب البسطاء
وبعض الساسة، وكثيراً من العلماء بالإضافة إلى بعض رجال الكنيسة الذين كانوا
غير راضين عن هذا الظلم.
وفي تلك الفترة كان الإسلام قد عرف في الغرب، خاصة بعد أن انتشرت
أقسام تعليم اللغة العربية في معظم جامعات أوربا بعد موافقة الكنيسة على ذلك في
عام1315م بغرض محاربة الإسلام ونشر النصرانية (التنصير) ، وقد كانت توجد
ترجمة لمعاني القرآن الكريم منذ عام 1143 أنجزها أحد رجال الكنيسة يدعى
روبرت الكينوتى، وقد ظهر بعد ذلك بفترة وجيزة أول معجم عربي لاتيني. (انظر: تراث الإسلام شاخت وبوزوورث (1/ 9 3) .
وبذلك تيسر للغربيين الاطلاع على إنتاج المسلمين الفكري بالإضافة إلى
التعرف على الإسلام من مصادره، ففي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي كان
هناك عالم نصراني يجيد العربية، ويحفظ القرآن الكريم، وصحيحي البخاري
ومسلم، وكان يدعى (ريموند مارتيني) ، وقد حاول هذا الرجل معارضة القرآن
بسورة ركيكة نسجها باللغة العربية على منوال بعض آيات القرآن، ونص هذه
السورة التي اخترعها لا يزال محفوظاً في بعض المصادر العلمية (انظر.
الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية، قاسم السامرائي، ص90) .
مما سبق يتأكد لنا أن الإسلام كان معروفاً بشكل جيد في الغرب خاصة عند
رجال الكنيسة المهتمين بالتنصير وكذلك بين معظم العلماء من غير رجال الكنيسة،
ولم تقتصر معرفة هؤلاء على كتب الفلسفة الإسلامية أو العلوم الطبيعية كما هو
شائع في مصادر تاريخ الفلسفة ولكن كانت كتب العقيدة الإسلامية وأولها القرآن
الكريم، وكتب السنة النبوية من أوائل ما اهتموا به وترجموه إلى لغتهم اللاتينية
حيث سبقت ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية كتب فلسفة ابن رشد التي
يعزو إليها كثير من المؤرخين التأثير القوي للإسلام على الفكر الغربي، وهذا
الواقع يثبت خطأ ادعاء مفكري الغرب بأن أسلافهم في العصور الوسطى كانوا
يهتمون فقط بترجمة كتب الفلسفة اليونانية التي كان العرب قد نقلوها إلى العربية،
وقد فقدت أصولها اليونانية بعد ذلك..
ويمكننا أيضاً أن نقول بأن الفلسفة والعلوم العربية الإسلامية قد أيقظت وأثرت
الفكر والعلوم الغربية بينما كان أثر العقيدة الإسلامية أبعد في إيقاظ الفكر الغربي
بشكل عام، والفكر الديني بشكل خاص.
وقد كان لانتشار المعرفة بالإسلام عقيدة وفكراً ولغة بين العلماء والمهتمين
بأمور الدين أن وجدت الكنيسة نفسها في مواجهة جبهتين: جبهة داخلية يمثلها
بعض العلماء والحكام وكثير من أفراد الشعب البسطاء. وجبهة خارجية يمثلها
الإسلام والفكر الإسلامي عن طريق من تأثروا به وأعجبوا بمبادئه وقوة حجته.
ولم ينج بعض رجال الكنيسة من هذا التأثر والإعجاب، فكانوا بذلك سنداً
لمعارضي الكنيسة دون قصد في غالب الأحيان، وكانت النتيجة الحتمية لازدياد
طغيان الكنيسة وتشددها في محاربة كل ما من شأنه دفع عجلة التقدم والتحضر
ومحاولة اللحاق بالحضارة الإسلامية أن انفجر صراع مرير بين الكنيسة
ومعارضيها الذين حاولوا إصلاحها من الداخل دون جدوى فنشبت الحرب الشهيرة
التي قادها (مارتن لوثر) عام 1521 م تقريباً واستمرت حوالي ثلاثين عاماً راح
ضحيتها ملايين من البشر من النصارى أنصار الكنيسة والمعارضة وتعرف هذه
الحرب بحرب الثلاثين عاماً أو حرب الفلاحين، والتي أدت إلى انشطار الكنيسة
الكاثولوكية إلى كنيستين: كاثولوكية وبروتستنتية (أي المعارضين) وتسمى أيضاً
الكنيسة الانجيلية لأن مؤسسها (مارتن لوثر [ت 1546 م) كان أول من أمر
بترجمة الكتاب المقدس (التوراة والانجيل: العهد القديم والعهد الجديد) إلى اللغات
المحلية، آنذاك، وأولها اللغة الألمانية.
ولم تكن ثورة لوثر ولا معارضات سابقيه من رجال الكنيسة والعلماء خلال
العصور الوسطى وعصر النهضة (أي من القرن الحادي عشر إلى السادس عشر
الميلادي) نتيجة سوء الأوضاع الداخلية وفساد الكنيسة الاجتماعي والخلقي فحسب
بل لابد من اعتبار سبب آخر يضاف إلى ذلك جعل توقيت هذا الانفجار يتأخر إلى
القرن السادس عشر ولا يحدث مثلاً في عصور الآباء (عصر الظلام) حيث كان
طغيان الكنيسة ومساؤها أكثر منه فيما تلا ذلك من قرون.
هذا السبب الآخر والأقوى في نظري، هو انتشار المعرفة بالإسلام، عقيدة
وفكراً في الغرب، فقد كان الإسلام هو المحرك للعقل الأوربي بعد أن أيقظه من
سبات دام طوال عصور الظلام والعصور الوسطى، كما يقول (غوستاف لوبون)
في كتابه (حضارة العرب) ] ص 527 [، أما مارتن لوثر فإنه من المأثور عنه أنه
كان يعرف القرآن معرفة جيدة، وله كتابات تهجم فيها عليه تدل على مدى اهتمامه
بالقرآن وتأثره به (انظر مجلة عالم الكتب، مجلد 6، العدد 4 /1406هـ، ص
555) ، وقد كان رجال الكنيسة المحافظون يتهمونه بأنه يريد أن يقيم مملكة -صلى
الله عليه وسلم- بدلاً من مملكة عيسى عليه السلام، ويستشهدون على ذلك بدخول
بعض أنصاره في الدين الإسلامي. (انظر. الاستشراق: قاسم. السامرائي، ص
25) .
ويعتبر هذا دليلاً قوياً على انتشار الإسلام بين بعض معارضي الكنيسة وتأثر
الكثير منهم به، لأن مثل هذا الاتهام لا يمكن أن يأتي من فراغ.
أما الدليل الواضح على صحة ادعائي بتأثر مارتن لوثر وحركته الاصلاحية
بالإسلام تأثراً قوياً فهو ما يجده القارئ واضحاً في مبادئ عقيدته الجديدة، والتي
يعتقدها نصف المسيحيين تقريباً، أي عقيدة (البروتستنت) وأهم هذه المبادئ التي
تعكس بوضوح أثر الإسلام فيها هي:
ا - منع اتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس والسجود لها.
2 -
رفضه لوساطة رجل الكنيسة بين العبد وربه عند طلب المغفرة،
والصلاة على القديسين، وعصمة الباباوات.
3-
إيمانه بالقضاء والقدر مع مسؤولية الإنسان عن أفعاله.
4 -
رفضه لعقيدة الذنب الموروث، وإيمانه بأن رحمة الله تسع كل شيء.
5-
اعتماده على العقل في فهم النصوص الدينية مع تفضيله الإيمان بالنص إذا
تعارض مع العقل.
6 -
اعتماده الكتاب المقدس الذي جاء به عيسى عليه السلام المصدر الوحيد
للإيمان، وليس ما صدر عن الباباوات.
7 -
أمره بترجمة الكتاب المقدس إلى لغات أخرى متداولة (محلية) ، بعد أن
كانت الكنيسة تحرم ذلك وتمنع الصلاة بلغة أخرى غير اللاتينية التي لم يكن يفهمها
من يردد كلماتها من غير المتعلمين.
أضف إلى ذلك ما كان يقوله عن بابا الكنيسة: (إن المسيح الدجال الحقيقي في
الواقع ليس محمداً بل البابا في روما.. وأن كنيسة روما هي كنيسة الشيطان، وقد
ألف في ذلك كتاباً أسماه (ضد الباباوية التي أسسها الشيطان) .
لقد ساعد لوثر مناوئي الكنيسة من العلماء، بطريق غير مباشر ودون أن
يقصد إلى حرمان الكنيسة من الإشراف على شؤون الحياة العامة، إذ انفصلت
السلطة السياسية والفكرية عن السلطة الدينية وظهر ما نسميه في اللغة العربية خطأ
(بالعلمانية) ، وحقيقة المصطلح في أصله اللاتيني لابد أن يترجم إلى (العصرانية) .
وقد كان لهجوم لوثر الكاسح على الكنيسة، والذي أسفر عن شطرها إلى
كنيستين ناصبت كل منهما الأخرى العداء، كان ذلك بتأييد غير مباشر لما نادى به
العلماء والسياسيون من فصل شؤونهم عن الكنيسة أي (عصرنة) الحياة العلمية
والسياسية.
ولا يمكن في هذا المجال إهمال أثر الإسلام المباشر في نشأة الاتجاه
العصراني في الغرب الذي بدأ في الظهور بعد الاحتكاك المباشر بالمسلمين
وبالإسلام، بدءاً من القرن التاسع الميلادي، حيث ظهر هذا الأثر واضحاً في
بعض الشخصيات العلمية المعروفة في الغرب آنذاك وبعده، حيث يمكننا أن نفرق
بين ثلاث مراحل للعصرانية.
1 -
عصرانية علمية.
2 -
عصرانية سياسية.
3 -
عصرانية قانونية.
بدأت في القرن الحادي عشر واكتملت في القرن التاسع عشر بتأميم أملاك
الكنيسة.
ويعتبر بطرس أبيلارد (1079-1142) من أوائل من نادوا باستقلال العلم
عن الدين الكنسي، الذي لم يجد فيه أي مساعدة أو تشجيع على تحصيل العلم، بل
وجد محاربة العلماء بشتى الطرق، وكان أبيلارد ممن تأثروا بالفكر الإسلامي
والعقيدة الإسلامية التي كانت قد انتشرت في أوربا عن طريق الترجمة خاصة في
الأندلس، وكانت معرفته بالإسلام سبباً مباشراً لوقوفه ضد رجال الكنيسة واتهامهم
بالجهل حتى بالكتاب المقدس الذي تناوله هو بالنقد، وألف كتاباً أسماه (نعم ولا)
ناقش فيه كل ما جاء في الكتاب المقدس، وأشار إلى التحريفات التي دخلت إليه
ورفضها وأثبت خطأها، حتى قيل: إنه كان يستغني بكتاب أبيلارد الموسوم ب
(نعم ولا) عن الكتاب المقدس أو أنه قد أصبح (بالفعل) يغني عن دراسة الكتاب
المقدس كما يقول (كولتون) (انظر: نشأة الجامعات في العصور الوسطى: جوزيف
نسيم، الاسكندرية ، 1971م، ص 99-103) .
ولقد ظل هذا الاتجاه ينمو في أوربا طوال القرون التالية حتى ظهر روجر
بيكون (ت1294م) وتلاه مارسيليو البادوفاني (ت1343م) ووليام الأوكامي (ت
1350 م) ونادوا جميعاً باستقلال العلم عن الكنيسة. (انظر: الاستشراق، قاسم
السامرائي، ص 75 - 76، فلسفة العصور الوسطى، عبد الرحمن بدوي، ص
79-
84 ، 166، 182، وما بعدها) .
وقد زاد هذا الاتجاه وانتشر مع زيادة الإقبال على قراءة الإسلام والفكر
الإسلامي واكتشاف البون الشاسع بين موقف الكنيسة المناوئ للعلم والعلماء،
وموقف الإسلام الذي يجعل تحصيل العلم عبادة وفرض على كل قادر ويرفع شأن
العلماء حتى يجعلهم ورثة الأنبياء. ويبقى لنا سؤال في هذا المجال: لو افترضنا
أن رجال الكنيسة كانوا قد استجابوا إلى ما نادى به العلماء والمفكرون وأصلحوا
مساوئهم، هل كان ذلك سوف يؤدي إلى إنهاء التيار أو الاتجاه العصراني المعادي
لسلطة الكنيسة المطلقة؟ .
الحقيقة أن هذا الاتجاه كان سيستمر رغم ذلك، لأن الكتاب المقدس بغض
النظر عن كونه محرفاً، يخلو من أي تصور محدد لنظام سياسي أو اجتماعي أو
اقتصادي أو علمي.
هكذا نرى أن العصرانية كانت تطوراً طبيعياً للأوضاع الدينية والفكرية التي
سادت أوربا في تلك الفترة ونتيجة منطقية للنقص الموجود في الكتاب المقدس وعدم
صلاحيته لتسيير أمور الحياة العامة، لخلوه من أي تصور سياسي أو اقتصادي أو
اجتماعي.. الخ، وأهمية هذا الايضاح تكمن في كونها رداً على من ينادي بتبني
العصرانية في مجتمعنا الإسلامي تقليداً للغرب النصراني، فإن كانت العصرانية قد
ظهرت لتعوض نقصاً في الأناجيل من الناحية السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، فالإسلام قد جمع كل ذلك في تصور كامل يعجز العقل البشري عن محاكاته فضلاً
عن أن يأتي بأفضل منه. والله من وراء القصد.
قراءات تاريخية
موسى بن نصير
عندما تولى موسى بن نصير أفريقية والمغرب كانت البلاد في قحط شديد،
فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء، ومعه
سائر الحيوانات وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصراخ والضجيج وأقام
على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صلى، وخطب الناس، ولم يذكر الوليد ابن عبد
الملك فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ فقال: هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله
عز وجل. فسقوا حتى رووا.
ابن خلكان - وفيات الأعيان 5/319
وذكرهم بأيام الله
كان القاضي منذر البلوطي إماماً عالماً فصيحاً خطيباً شاعراً أديباً، كثير
الفضل، جامعاً لصنوف الخير والتقوى والزهد، له وقع في النفوس وعليه حلاوة
وطلاوة، دخل يوماً على الناصر لدين الله عبد الرحمن الأموي وقد فرغ من بناء
المدينة الزهراء وقصورها، وقد بنى له فيها قصر عظيم منيف، وقد زخرف
بأنواع الدهانات وكسى الستور، وجلس عنده رؤوس دولته وأمراؤه، فجاءه
القاضي فجلس إلى جانبه، وجعل الحاضرون يثنون على ذلك البناء ويمدحونه،
والقاضي ساكت لا يتكلم فالتفت إليه الملك وقال: ما تقول أنت يا أبا الحكم؟ فبكى
القاضي وانحدرت دموعه على لحيته فقال. ما كنت أظن أن الشيطان أخزاه الله
يبلغ منك هذا المبلغ المفضح المهتك المهلك لصاحبه في الدنيا والآخرة، ولا أنك
تمكنه من قيادك مع ما آتاك الله وفضلك به على كثير من الناس، حتى أنزلك منازل
الكافرين والفاسقين. قال الله تعالى: [ولَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن
يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ ومَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * ولِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً
وسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وزُخْرُفاً..] [الزخرف: 33] . قال: فوجم الملك عند
ذلك وبكى وقال: جزاك الله خيراً، وأكثر في المسلمين مثلك.
ابن كثير - البداية والنهاية 11/307