المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مجددون معاصرونسيد قطب - مجلة البيان - جـ ٢٣

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌مجددون معاصرونسيد قطب

‌مجددون معاصرون

سيد قطب

نبذة عن حياته:

في قرية صغيرة من قرى الصعيد ولد الأستاذ سيد قطب رحمه الله في عام

1906.

وحدثنا الأستاذ الشهيد عن نشأته في قرية (موشا) في كتابه (طفل من القرية) ، وعن دراسته فيها، وكيف كوّن مكتبة لا مثيل لها في هذه القرية، وهو لا يزال

طالباً في المرحلة الابتدائية.. وحدثنا أيضاً عن العقلية التي يفكر بها أهل هذه

القرية، والخرافات التي تعشش في عقولهم، والبؤس الذي يلف هذه الطبقة من

الناس

وكان هذا الذي ذكره في كتابه المهم شأن القرى كلها لا نقول في صعيد

مصر وحده، وإنما في العالم الإسلامي كله.

وفي عام 1921 م غادر الأستاذ قريته (موشا) ليكمل دراسته في القاهرة،

وكان من المفترض أن يغادرها قبل هذا الوقت لكن حرب 1919 م كانت سبب

تأخره ووقف التدريس وانصراف الناس لما هو أهم من الدراسة.

وفي القاهرة التحق الطالب النجيب بمدرسة عبد العزيز الأولية، وبعد أن أتم

دراسته فيها انتقل إلى دار العلوم وكانت في مستوى المعاهد المتوسطة وأتم دراسته

فيها عام 1933 م.

وبعد تخرجه من دار العلوم جرى تعيينه مدرساً في دمياط ثم في بني سويف،

ثم انتقل إلى حلوان - القاهرة - مدرساً في مدرستها الابتدائية، وانتقل أهله إلى

القاهرة بعد أن اشترى منزلاً في حلوان، وكان ذلك بعد وفاة والده، ثم توفيت

والدته بعد انتقالهم إلى القاهرة بقليل.

وبرز اسم سيد كأديب موهوب في مصر، وأصبح اسمه معروفاً في المجلات

الأدبية المشهورة: كالرسالة، والثقافة، والمقتطف.. وأصدر في الأربعينيات كتباً

مهمة منها:

- التصوير الفني في القران.

- طفل من القرية.

- كتب وشخصيات.

- النقد الأدبي أصوله، مناهجه.

- العدالة الاجتماعية في الإسلام.

وفي مجال التعليم تدرج في وظائف الوزارة.. ففي عام 1944 أصبح مفتشاً

في التعليم الابتدائي.. ثم في الإدارة العامة للثقافة التي كان يرأسها أحمد أمين.

وفي عام 1948 سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية في بعثة تدريبية، تم

اختياره بالذات لها، ولم يكن في رحلته ملتزماً بدراسة معينة أو بزمن معين يقضيه

هناك، وقد أكسبته هذه البعثة خبرة واسعة بطبائع الأميركان وأساليبهم، وله كتابات

مهمة بعنوان (أميركا التي رأيت) نشرت في مجلة الرسالة، و (إسلام أميركاني) في

كتابه (دراسات إسلامية) ، وقد جمعها أحد المهتمين بكتابات سيد في كتاب سماه

(أميركا من الداخل بمنظار سيد قطب) .

وعاد من الولايات المتحدة عام 1950 إلى مصر ليخوض معارك سياسية ضد

طغيان فاروق، وفساد الأحزاب، وهيمنة المستعمر الإنكليزي.. واستقطبت هذه

الكتابات فيمن استقطبت ضباط انقلاب (23 يوليو) ، فأعجبوا بها، وتعرفوا على

كاتبها، وقامت بينهم وبينه علاقات، وتم اختياره بعد نجاح الانقلاب مستشاراً

لمجلس قيادة الثورة، ثم أميناً عاماً مساعداً لهيئة التحرير، وكان مرشحاً ليكون

وزيراً للمعارف أو للإعلام لكنه رفض الوزارة والجاه عندما لمس سوء نوايا قادة

الانقلاب، وأدرك بأنهم ليسوا جادين في تحكيم شرع الله، وارتاب رحمه الله في

اتصالاتهم المشبوهة.

ولم يجلس الأستاذ سيد في منزلة عندما رفض الوزارة والمغريات، وما كان

لداعية مجاهد أن يفعل ذلك، وإنما انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين في أحلك

ظروفها وأشدها قساوة

انضم إليها وهو يعلم بأنهم على أبواب محنه.

واختار الإخوان الأستاذ سيد قطب ليكون رئيس تحرير لصحيفتهم (الإخوان

المسلمون) ، فلم يتردد، ولم يعتذر لاسيما وهو يعرف خبث وغدر قائد الانقلاب

وخاض أستاذنا معركة ضد الانقلابيين كتلك المعركة التي خاضها ضد فاروق وزبانيته، وكشف صلات هؤلاء الانقلابيين الضباط بالولايات المتحدة الأميركية، وأصبحت صحيفة الإخوان المسلمين من أشد الصحف التي كان يخشاها عبد الناصر وزملاؤه.

ودخل سيد السجن عام 1954 م مع عدد من قادة الإخوان المسلمين، ثم أفرج

عنه وعنهم بعد قليل، ثم عاد إلى السجن في العام نفسه 1954 بعد حادث المنشية

حيث كان نصيبه مما سمي (محكمة الشعب) خمسة عشر عاماً من الأشغال الشاقة،

وأفرج عنه في (مايو) من عام 1964 بعد توسط الرئيس العراقي عبد السلام

عارف، ثم أعيد اعتقاله في (أغسطس) عام 1965، وقدم لما أسموه (محاكمة) ،

وتم إعدامه في 26 (أغسطس) من عام 1966 م رحمه الله وأسكنه الفردوس

الأعلى.

ومن أهم مؤلفاته على الإطلاق تلك المؤلفات التي أصدرها وهو في السجن:

- في ظلال القران.

- هذا الدين.

- المستقبل لهذا الدين.

- خصائص التصور الإسلامي.

-معالم في الطريق.

- الإسلام ومشكلات الحضارة.

- مقومات التصور الإسلامي، وقد صدر هذا الكتاب بعد إعدامه بوقت متأخر.

أهم الجوانب التجديدية في دعوة سيد:

أولاً: كيف نقدم الأسلوب إلى الناس:

يحلو لبعض الناس القول: إن سيداً رحمه الله كان تلميذاً لمن سبقه من الدعاة

في هذا الميدان

ومن يدقق النظر بمؤلفات أستاذنا وسيرة حياته يتبين له خطأ هذا

القول ومجانبته للصواب.

ومن الأمثلة على ذلك أن معظم كبار الدعاة الكتاب كانوا يدافعون عن الإسلام

بأسلوب فيه كثير من الضعف؛ فإذا راجت بضاعة الديمقراطية بين الناس راحوا

يتحدثون عن ديمقراطية الإسلام

وإذا فتنت شعوبنا بالاشتراكية، صنعوا للإسلام

اشتراكية، وإذا أطنب المفكرون في الحديث عن الحضارة كتبوا المقالات بل

والمؤلفات في التعريف بحضارة الإسلام

لقد كان الإسلام عند هؤلاء الكتاب

اشتراكياً.. قومياً

ديمقراطياً.. تقدمياً.

أما الأستاذ سيد فقد رفض هذه الأساليب، وحذر منها. انظر إلى قوله:

(وحين ندرك حقيقة الإسلام على هذا النحو، فإن هذا الإدراك بطبيعته سيجعلنا نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام، في ثقة وقوة، وفي عطف كذلك ورحمة.. ثقة الذي يستيقن أن ما معه هو الحق وأن ما عليه الناس هو الباطل، وعطف الذي يرى شقوة البشر، وهو يعرف كيف يسعدهم، ورحمة الذي يرى ضلال الناس وهو يعرف أين الهدى الذي ليس بعده هدى!

لن نتدسس إليهم بالإسلام تدسساً، ولن نربت على شهواتهم وتصوراتهم

المنحرفة

سنكون صرحاء معهم غاية الصراحة.. هذه الجاهلية التي أنتم فيها

نجس والله يريد أن يطهركم

هذه الأوضاع التي أنتم فيها خبث، والله يريد أن

يطيّبكم.. هذه الحياة التي تحيونها دون، والله يريد أن يرفعكم

هذا الذي أنتم فيه

شقوة وبؤس ونكد، والله يريد أن يخفف عنكم ويرحمكم ويسعدكم.. والإسلام سيغير

تصوراتكم وأوضاعكم وقيمكم، وسيرفعكم إلى حياة أخرى تنكرون معها هذه الحياة

التي تعيشونها

) .

وقال أيضاً:

(هكذا ينبغي أن نخاطب الناس ونحن نقدم لهم الإسلام. لأن هذه هي الحقيقة، ولأن هذه هي الصورة التي خاطب الإسلام الناس بها أول مرة. سواء في الجزيرة العربية أم في فارس أم في الروم أم في أي مكان خاطب الناس فيه.

نظر إليهم من علٍ، لأن هذه هي الحقيقة، وخاطبهم بلغة الحب والعطف

لأنها حقيقة كذلك في طبيعته. وفاصلهم مفاصلة كاملة في غموض فيها ولا تردد

لأن هذه هي طريقته، ولم يقل لهم أبداً: أنه لن يمس حياتهم وأوضاعهم

وتصوراتهم وقيمهم إلا بتعديلات طفيفة! أو إنه يشبه نظمهم وأوضاعهم التي ألفوها.. كما يقول بعضنا اليوم للناس وهو يقدم إليهم الإسلام.. مرة تحت عنوان:

(ديمقراطية الإسلام) ! ومرة تحت عنوان: (اشتراكية الإسلام) ! ومرة بأن

الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقانونية القائمة في عالمهم لا تحتاج من الإسلام إلا

لتعديلات طفيفة! ! ! إلى آخر هذا التدسس الناعم والتربيت على الشهوات) .

وتأثر شباب هذا الجيل بأسلوب سيد فأعرضوا عن الأساليب السابقة الضعيفة، لاسيما وأن سيداً رحمه الله أشبع هذا الموضوع بحثاً في مؤلفاته بتفسيره القيم (في

ظلال القران) ، والذين عاشوا تلك المرحلة يدركون ما هو الجديد الذي جاء به

صاحب الظلال

وكان الحق مع الدعاة الشباب الذين تأثروا بطريقة سيد في

عرض الإسلام.

ثانياً: شرح معاني لا إله إلا الله وربطها بالحاكمية:

وأهم مسألة استحوذت على الأستاذ سيد رحمه الله في بداية السجن وحتى لقي

وجه ربه تفسير معاني ومدلولات لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

لقد كان يرى أن جهل المسلمين بمعاني الشهادتين هو سبب هذا الضياع

والفساد الذي يلف العالم الإسلامي، كما كان يرى أن مهمة أنبياء الله الذين اختارهم

الله وأرسلهم للعباد شرح معاني لا إله إلا الله، وذكر في الظلال أدلة كثيرة على ذلك

من كتاب الله وسنة رسوله.

وكان يرى أن (المجتمع يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كله..

هذه العبودية التي تمثلها وتكيفها شهادة أن لا إله إلا اله، وأن محمداً رسول الله.

وتتمثل هذه العبودية في التصور الاعتقادي، كما تتمثل في الشعائر التعبدية،

كما تتمثل في الشرائع القانونية سواء) .

ومن الأدلة على شدة اهتمامه بالركن الأول من أركان الإسلام قوله في

(المعالم)(طبيعة المنهج القرآني)، وفي مقدمة سورة الأنعام:

(ظل القرآن المكي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر

عاماً كاملة، يحدثه فيها عن قضية واحدة، قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة

عرضها لا تكاد تتكرر. ذلك الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة، حتى

لكأنما يطرقها للمرة الأولى.

لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية، في هذا

الدين الجديد

قضية العقيدة

ممثلة في قاعدتها الرئيسية.. الألوهية والعبودية، وما بينهما من علاقة) .

وقال بعد استطراد مهم: (ومتى استقرت عقيدة [لا إله إلا الله] في أعماقها الغائرة البعيدة، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه [لا إله إلا الله] ) .

كان رحمه الله يعلم أن هذه المسألة سوف تفجر قلوب الانقلابيين غيظاً وحقداً

عليه.. ولكنه مجدد مجاهد يواجه الناس بمشكلاتهم، ويضع الحلول لها، ولا

يخشى إلا الله سبحانه وتعالى. وراجع نهاية كتابه: (معالم في الطريق) ، فصل (هذا هو الطريق) لتراه كأنه يتحدث عن إعدامه على أيدي العسكريين من

خلال حديثه عن أصحاب الأخدود.

ثالثاً: الوعي السياسي ونضوج الخبرة:

كان للأستاذ سيد اهتمامات سياسية وهو لا يزال طالباً في المرحلة الابتدائية،

وحدثنا في كتابه (طفل من القرية) عن القصائد التي كان ينظمها والخطب التي كان

يكتبها داعياً فيها إلى تأييد ثورة 1919 م، وازدادت اهتماماته السياسية بعد انتقاله

للقاهرة لاسيما عندما كان تلميذاً للعقاد، الذي ارتبط أدبه بالسياسة وخاض معارك

ضارية ضد بعض الأحزاب، وكان سيد ساعده الأيمن في هذه المعارك؛ الأدبية

منها والسياسية.

ومن تجاربه الغنية في هذا الميدان رحلة أميركا وما شاهده فيها من تناقضات

ومن مواقف حاقدة ضد الإسلام والمسلمين

والمرحلة التي سبقت دخوله السجن

أي من عام 1950 وهو تاريخ عودته من الولايات المتحدة حتى عام 1954، وهذه

الفترة وحدها كافية لتكوين نضوج سياسي عنده، ومن الكتب الإسلامية السياسية

التي أصدرها في هذه المرحلة:

- معركة الإسلام والرأسمالية.

- السلام العالمي والإسلام.

- دراسات إسلامية.

يقول الأستاذ سيد في (معالم في الطريق) فصل (التصور الإسلامي والثقافة) :

(إن الذي يكتب هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة. كان عمله

الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول المعرفة الإنسانية.. ما هو من

تخصصه، وما هو من هواياته.. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره. فإذا هو

يجد كل ما قرأه ضئيلاً ضئيلاً إلى جانب ذلك الرصيد الضخم - وما كان يمكن أن

يكون إلا كذلك - وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره. فإنما

عرف الجاهلية على حقيقتها، وعلى انحرافها، وعلى ضآلتها، وعلى قزامتها..

وعلى جعجعتها وانتفاشها، وعلى غرورها وادعائها كذلك! ! وعلم علم اليقين أنه

لا يمكن أن يجمع المسلم بين هذين المصدرين في التلقي! !) .

إذن عاش أستاذنا أربعين سنة يقرأ ما هو من تخصصه وما هو من هواياته،

ولم تكن حياته قاصرة على القراءة، بل كانت الخبرة لا تقل أهمية عن القراءة

ولهذا فقد كتب لنا رحمه الله كتابات ناضجة عن الموضوعات التالية:

- الصهيونية.

- الصليبية.

- الشيوعية.

- الرأسمالية.

- الاستبداد، والعبودية، والذل.

- الاستعمار وأساليبه.

- فضائح الحضارة الغربية.

وهذه فيما نعلم أمور انفرد فيها أستاذ هذا الجيل عن غيره من المجددين

المعاصرين الذين حُرِموا هذه الخبرة وهذا النضوج السياسي

وكانت مواقفه

السياسية لا تنفصل عن عقيدته وحسن فهمه للإسلام.

وبعد:

هذه أهم الجوانب التجديدية عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله.. وعندما ابتلاه

الله بالسجن والتعذيب والتهديد بالقتل صبر على ذلك صبراً شديداً رغم ما كان يعانيه

من أمراض وضعف في جسمه، ولم يتراجع عن مواقفه الإسلامية، رغبة أو رهبة، ولهذا فقد تضاعف رواج كتبه بعد تنفيذ حكم الإعدام به، ومما ساعد على

انتشارها: عذوبة الأسلوب، وإشراقة الديباجة، ومتانة العبارة وقوة الحجة،

وحضور البديهة.. وقلَّ أن تجد داعية وليس في مكتبته كتاب من كتب سيد قطب،

وفضلاً عن ذلك فقد ترجمت هذه الكتب إلى معظم لغات العالم.

رحم الله الأستاذ سيد قطب رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين كل

خير.

ص: 8

إنما أعظكم بواحدة

عبد العزيز بن ناصر السعد

[

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (43) وَمَا

آتَيْنَاهُم مِن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن

قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم

بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ

لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] [سبأ: 43-46]

من هذه الآيات البينات يتضح أن الموعظة الموجهة إلى مشركي قريش كانت

بسبب اتهامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب تارة وبالسحر تارة أخرى

دون تفكير أو تدبر، شأنهم في ذلك شأن الذين يتبعون أهواءهم وآثار آبائهم

ومتبوعيهم دون دليل.

وقد أقام الله عز وجل هذه الموعظة العظيمة التي من أخذها بجميع مقوماتها

فلا بد أن يصل إلى الحق وهو في الآية كون النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً

من عند الله عز وجل، ونذيراً لهم بين يدي عذاب شديد، وليس كما يزعمون

ويرددون دون وعي ولا نظر بأنه ساحر أو كاذب أو مجنون، [مَا بِصَاحِبِكُم مِن

جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] ولكي يحصل الانتفاع بهذه الموعظة

العظيمة فلابد من الأخذ بجميع المقومات التي قامت عليها هذه الموعظة وهي:

- القيام لله تعالى: [أَن تَقُومُوا لله] والتجرد في طلب الحق.

- مراجعة النفس والخلوة بها أو مع شخص ثانٍ [مَثْنَى وَفُرَادَى] .

- التفكر والاجتهاد فيما يقوله المخالف [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] .

وتظهر أهمية هذه المقومات في كلام علماء التفسير رحمهم الله تعالى. يقول

الشوكاني في (فتح القدير) حول قوله تعالى [إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ] : أي أحذركم

بواحدة وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه وأوصيكم بخصلة واحدة وهي [أَن تَقُومُوا

لله مَثْنَى وَفُرَادَى] . وهذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها أي هي: قيامكم

وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين وواحداً واحداً لأن

الاجتماع يشوش الفكر، وليس المراد القيام على الرجلين بل المراد القيام لطلب

الحق وإصداق الفكر فيه [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما

جاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن [مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ] وذلك لأنهم

كانوا يقولون أن محمداً مجنون، فقال لهم: اعتبروا أمري بواحدة وهي أن تقوموا

لله وفي ذاته مجتمعين ومتفرقين، فيقول الرجل لصاحبه هلم فلنصدق هل رأينا بهذا

الرجل من جنة أي جنون أو جربنا عليه كذباً ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه وليتفكر

ولينظر. فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق وأنه

رسول من عند الله عز وجل وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون اهـ.

ويقول النسفي في تفسيره [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ] : أي بخصلة واحدة وقد

فسرها بقوله [أَن تَقُومُوا لله] الآية. على أن عطف بيان لها. وقيل في محل

الرفع والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي [أَن

تَقُومُوا لله] أي لوجه الله خالصة لا لحمية ولا لعصبية بل لطلب الحق. [مَثْنَى]

اثنين اثنين، و [فُرَادى] فرداً فرداً [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] في أمر محمد وما جاء به،

أما الاثنان فيتفكران يعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران

نظرة الصدق والإنصاف حتى يؤدي النظر الصحيح إلى الحق. وكذلك الفرد يتفكر

مع نفسه بعدل وإنصاف وبعرض فكره على عقله. ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن

الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمي البصائر ويمنع الروية ويقلل الإنصاف فيه

ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب ولا يسمع إلا نصرة المذهب. اهـ.

ويقول الشيخ السعدي (في تفسير الكريم المنان) في تفسيره لهذه الآية: أي

أعظكم بخصلة واحدة أشير عليكم بها وأنصح لكم في سلوكها وهي طريق نصف

لست أدعوكم إلى اتباع قولي ولا إلى ترك قولكم من دون موجب لذلك وهي [أَن

تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى] أي تنهضوا بهمة ونشاط وقصد لاتباع الصواب وإخلاص

لله عز وجل مجتمعين ومتباحثين في ذلك ومتناظرين وفرادى كل واحد يخاطب

نفسه بذلك فإذا قمتم لله مثنى وفرادى واستعملتم فكركم وأجلتموه وتدبرتم أحوال

رسولكم هل هو مجنون فيه صفات المجانين من كلامه، وهيئته ووصفه، أم هو

نبي صادق منذر لكم؟ فلو قبلوا هذه الموعظة واستعملوها لتبين لهم أكثر من غيرهم

أن رسول الله ليس بمجنون، لأن هيئته ليست كهيئة المجانين وخنقهم واختلاجها..

فكل من رأى أحواله وقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا سواء تفكر وحده أو

مع غيره؛ جزم بأنه رسول الله حقاً وتبين صدقه. اهـ.

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى حول ظلال هذه الآية: وهنا يدعوهم دعوة

خالصة إلى منهج البحث عن الحق [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ] الآية، إنها دعوة إلى

القيام لله عز وجل بعيداً عن الهوى

بعيداً عن المصلحة، بعيداً عن ملابسات

الأرض.. بعيداً عن التأثر بالتيارات في البيئة والمؤثرات الشائعة في الجماعة،

بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تستشجر في القلب فتبعد به عن الله تعالى. دعوة

إلى التعامل مع الواقع البسيط لا مع القضايا والدعاوى الرائجة ولا مع العبارات

المطاطة التي يبتعد القلب والعقل عن مواجهة الحقيقة في بساطتها، دعوة إلى منطق

الفطرة الهادي الصافي بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس والرؤية المضطربة

والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة، وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن

الحقيقة، منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والمؤثرات، وعلى مراقبة

الله عز رجل وتقواه وهي [وَاحِدَةٍ] إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق:

القيام لله لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة.. التجرد.. الخلوص.. ثم

التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.. [أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى] مثنى ليراجع أحدهما الآخر ويأخذ معه ويعطي في

غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في

هدوء، وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق. [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا]

فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر. وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده.

إن هو إلا القول المحكم القوي المبين اهـ.

وبعد هذه النقول من بعض كتب التفسير حول هذه الآية نستطيع الآن توضيح

مقومات هذه الموعظة العظيمة وشروط الانتفاع بها بما يلي:

الشرط الأول: [أَن تَقُومُوا لله] :

إن هذا الشرط هو الأساس لكل عمل، وبدونه يفسد العمل، ولا يوفق فيه

صاحبه ولا يبارك له فيه، فالقيام لله عز وجل هو المنطلق لصحة العمل إذا اقترن

ذلك مع المتابعة فيه للرسول صلى الله عليه وسلم.

فالإخلاص في البحث عن الحق والصدق في طلبه شرط أساسي للوصول إلى

ذلك الحق، وعندما يغيب الإخلاص ينعدم الانقياد إلى الحق حتى ولو كان مثل فلق

الصبح، لأن من تعلق قصده بغير وجه ربه عز وجل ثقل عليه الانقياد للحق

وقصرت همته عن بلوغه والعمل به.

فوجب على من أراد معرفة وجه الحق في أي أمر أن يخلص قصده ونيته لله

عز وجل وأن يتجرد لاتباع الحق عند ظهوره، ولو على لسان مخالفه، وأن يعلم

أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

ولكن قد يكتنف القائم لله عز وجل بعض الملابسات والظروف التي قد تغطي

على الحق أو تلبسه بالباطل، فيقبل الباطل ظاناً أنه الحق وذلك بسبب بعض

الظروف المحيطة به لذلك فإنه لامناص من توفر باقي الشروط للانتفاع بموعظة الله

عز وجل ومنهجه السوي في الوصول إلى الحق المنشود وذلك من.

الشرط الثاني: [مَثْنَى وَفُرَادَى] :

والالتزام بهذا الشرط يقضي على عامل مهم من العوامل التي تغطي الحق أو

تشوه وجهه، وذلك في مثل الأجواء الجماعية والجماهير الجاهلة والتي غالباً ما

تتصف بالغوغائية والتقليد الأعمى واتباع كل ناعق من رؤوس الضلال، مما قد

يؤدي بطالب الحق المخلص إلى اتباع الأكثرية من الناس متهماً نفسه وظاناً أن

الحق مع الأكثرية، دون أن يدري أن هذه الحركة الغوغائية قد غطت الحق،

وضيعت معالمه، فاشتبه مع غيره، خاصة عند من قلت بصيرته وقل نصيبه من

هدى الله عز وجل وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حدث من اتهام

قريش للرسول صلى الله عليه وسلم بشكل جماهيري غوغائي، وقولهم ساحر

وكاهن ومجنون.. الخ، فوعظهم الله عز وجل أن يقوموا لله ويخلصوا وجوههم له

ويبتعدوا عن هذه الأجواء ويرجعوا إلى أنفسهم، حيث يقف الإنسان مع نفسه أو

معه صاحبه ويصحب ذلك التفكير العميق والتدبر لحال الرسول صلى الله عليه

وسلم، فلابد أن يصلوا إلى الحق والهدى وهو ما جاء في ختام الآية [مَا بِصَاحِبِكُم

مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] .

ونخرج من هذه الآية بفائدة سيأتي تفصيلها في ثنايا البحث إن شاء الله، وهي أن القاصد للحق أو الباحث في مسألة خلافية كبيرة أو صغيرة عليه أن يتجنب

المناظرة في جو جماعي، لأن المناظر يكون أقرب إلى ترك رأيه إذا تبين أن الحق

في خلافه إذا كان التفكير مع شخص واحد، بخلاف حال الجماعة فقد يعز عليه

الاعتراف بالخطأ أمام مؤيديه أو مخالفيه المجتمعين حوله، والله تعالى عليم

بمسارب نفوس خلقه، خبير بطبائعهم فلذلك وعظهم موعظة من يعلم حالهم ويعلم ما

يصلحهم ويهديهم إلى صراطه المستقيم ومنهجه القويم [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ

اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] .

الشرط الثالث: [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] :

وهذا الشرط هو الوسيلة الأساسية للوصول إلى الحق بعد الالتزام بالشرطين

السابقين، فالتفكير والعلم وإعمال الرأي هو المتمم لهذا المنهج الإلهي للوصول إلى

الحق وتبين الهدى من الضلال، وهذا الشرط يقودنا إلى قضية هامة ألا وهي قضية

العلم الشرعي، ومعرفة دين الله عز وجل، وإقامة الدليل والبرهان على ما يعتقد

أنه الحق، وإذا كان الكفار الذين خوطبوا مباشرة بهذه الآية ووجهت إليهم هذه

الموعظة العظيمة ما كان عندهم علم شرعي وليس عندهم الدليل فيما يعتقدونه فلذلك

كان المطلوب منهم التفكير بحال الرسول صلى الله عليه وسلم وإقامة الدليل على

ما يتهمونه به، إذا كان الأمر بالتفكير مع الكفار بهذه الصورة فإن الأمر بالنسبة

لطالب الحق في المسائل الشرعية والعقائدية والفكرية فلا بد أن يكون مؤهلاً من

الناحية العلمية لبحث هذه المسألة، ودراسة أوجه الخلاف حولها، وإلا لم يكن

للتفكير فائدة كمن يحارب بغير سلاح ولا عدة، وقد كان عند كفار مكة من العلم

بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته وصدقه وأمانته ما يكفي، ولو أنهم

فكروا في ذلك لقادهم ذلك إلى الإذعان والانقياد للحق الذي جاءهم به الرسول صلى

الله عليه وسلم. وكذلك الحال لكل مختلفين أو متناظرين إذا لم يكن لديهم علم بما

يختلفون فيه فإنه لا فائدة من التفكير، لأن أداة التفكير الأساسية هي العلم بحال

القضية المختلف فيها فالمقصود إذن بالتفكير هنا هو البحث عن الأدلة الشرعية

والتحقق من ثبوتها ودلالتها على المراد، كما يدخل في العلم أيضاً العلم بحال

القضية المختلف حولها وملابساتها.. الخ. فالجاهل بذلك كله لا يستطيع الوصول

إلى الحق لفقده الأدوات الموصلة إليه، فلذلك نجد مثال هؤلاء يوجههم التقليد

الأعمى دون فكر أو نظر.

وإذا كان الله عز وجل قد بين لنا في كتابه الكريم منهجاً للوصول إلى الحق

فيما اختلف فيه، فإن هذا المنهج وذلك الطريق السوي يمر أحياناً عبر أنواع من

الحوار والمناظرة لابد منها، فالمتتبع لمنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في

الدعوة إلى الله وحده يجد أن أكثرهم قد وقف مع قومه موقف المناظرة وإقامة الحجة

والنصح، وتبين الحق من الباطل، والصبر على ذلك، مع شدة رفضهم للحق

وعنادهم وتعنتهم، ولكن مهمة البلاغ والدعوة إلى الله عز وجل تستلزم شيئاً من

ضبط النفس والتحمل حتى يتم البلاغ على أكمل وجه. ولكثرة الخلاف الواقع بين

طوائف المسلمين اليوم، وخاصة بين الطوائف إلى أهل السنة؛ فإنا نقدم هذه

الكلمات التي نحسب أن فيها إشارة إلى الطريقة المثلى في الحوار والمناظرة المؤدية

بإذن الله عز وجل إلى الاجتماع والائتلاف في حدود منهج السلف وأصول الشريعة، وقد اتضح من الآية السابقة التي هي موضع البحث أصول للحوار نطرحها بهذه

المناسبة ونضيف عليها ما وقع عليه الفكر والنظر من آداب الخلاف، وقبل ذكر

هذه الأصول يحسن التقدمة لها بأهمية هذا الموضوع، وبعض التعريفات والوقفات

السريعة.

أهمية هذا الموضوع:

إن الإلمام بآداب الحوار والاختلاف أمر مهم ينفع صاحبه في حياته كلها،

وبخاصة الداعية إلى الله عز وجل، وهذه الجوانب المفيدة كثيرة نقتصر منها على

ما يلي:

1-

من المعلوم أن مهمة الداعية إلى الله عز وجل هي بذل الأسباب في هداية

الناس ودلالتهم إلى الخير، ولابد أن يواجهه في ذلك التواءات النفوس وخلافهم معه

في الرأي، فإذا لم يكن لديه من الإلمام بآداب الحوار والاختلاف الشيء الكافي لكي

يصبر ويستمر في دعوته فقد ينفر الناس منه وهو يسعى لجمعهم وهدايتهم إلى

الصراط المستقيم.

2-

إن أهمية الإلمام بآداب الحوار والاختلاف ترجع للظروف الملحة في هذا

العصر الذي يعد عصر تعدد الجماعات الإسلامية والفرقة الموجودة بينهم، وذلك

لأن الإلمام بذلك يساعد في تقارب القلوب وتفهم الأفكار مما يكون له الأثر في

تضييق هوة الخلاف والتماس العذر للعاملين في الدعوة الإسلامية، وهذا يؤدي إلى

الوحدة المنشودة.

3-

كما يفيد تفهم هذه الآداب أيضاً في معالجة وجهات النظر المختلفة التي

تكون بين أفراد المجموعة الواحدة، بل أفراد العائلة الواحدة لأن فقد هذه الآداب

يضخم المشاكل ويجعل من الحبة قبة كما يقولون.

الفرد بين الجدال والحوار:

الجدال: مصدر جادل وهو المناقشة على سبيل المخاصمة، ومقابلة الحجة

بالحجة.

والحوار: الجواب. حاوره محاورة وحواراً جاوبه وراجعه. فهو مراجعة في

الكلام بين طرفين أو اكثر دون ما يدل بالضرورة على وجود خصومة بينهما، وقد

يكون الجدل والحوار بمعنى واحد إذا خلا الجدل من العناد والتعنت للرأي كما ذكر

تعالى في سورة المجادلة حيث قال: [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا

وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] فسمى الله سبحانه

وتعالى مجادلة المرأة للرسول صلى الله عليه وسلم ومجاوبته لها محاورة، والله

أعلم. وعلى أية حال فالحوار كلمة غالباً ما تستعمل في المناظرة الهادئة التي يسود

عليها الألفة والبحث عن الحق. والجدال غالباً ما يكون جوه صاخباً وقد ينشأ عنه

خصومة وعناد.

ما هي نتيجة الحوار؟

ليس شرطاً للحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر

ويتفقان على موقف واحد فهذا نجاح لاشك فيه. وإنما يعتبر الحوار ناجحاً أيضاً إذا

توصل الطرفان إلى أن كل قول يقوله أحدهما هو صحيح. أو في الإطار الذي

يسعه الخلاف، أما فشل الحوار فيكون عندما يتشبث كل طرف برأيه ويُخَطِّىء

الطرف الآخر.

بعض الآيات والأحاديث الواردة في آداب الحوار وحسن المناظرة:

قال تعالى:

-[وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً]

-[وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ] .

-[وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ] .

-[وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ] .

-[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ] .

-[وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] .

-[لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ

بَيْنَ النَّاسِ] .

-[فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] . والآيات في ذلك كثيرة.

أما الأحاديث النبوية فمنها:

- «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» .

- «الكلمة الطيبة صدقة» .

- «تبسمك في وجه أخيك صدقة» .

- «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟» .

- «الكبر بطر الحق وغمط الناس» .

- «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها» .

- «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» .

- «ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» .

- «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطيه على العنف،

ومالا يعطي على سواه» .

والأحاديث في ذلك كثيرة.

والآن وبعد هذه التعريفات والآيات والأحاديث التي تشير إلى الآداب

الإسلامية في المعاملة مع الناس ومحاورتهم نأتي لتفصيل أصول الحوار في ضوء

الآية الكريمة التي كانت منطلق هذا البحث وهي قوله تعالى: [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم

بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ

لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ] .

وكما تمت الإشارة في تفسير هذه الآية وما يتعلق بها أنها تعتبر منهجاً قويماً

لمن أراد الوصول إلى الحق، ولأن الحوار المقصود منه الوصول إلى الحق فإن

هذه الآية الكريمة ترسم لنا بمقوماتها الثلاثة أصول الحوار الصادق، وذلك فيما يلي:

الأصل الأول: الإخلاص لله عز رجل والتجرد الكامل قبل الحوار وأثناءه

وبعده [أَن تَقُومُوا لله] .

الأصل الثاني: العلم بحقيقة واقع القضية المطروحة من الناحية الشرعية

والواقعية [ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] .

الأصل الثالث: اعتبار مراعاة ظروف الحوار والمحاورة [مَثْنَى وَفُرَادَى] .

الأصل الأول: الإخلاص لله عز وجل والقيام له وحده [أَن تَقُومُوا لله] :

ويدخل تحت هذا الأصل عدة متعلقات نذكر منها ما يلي:

أ - تصحيح النية قبل الدخول في الحوار: وذلك بمساءلة النفس عن الغرض

من الحوار هل هو إرادة الحق فحسب، أو أن هناك أغراضاً أخرى كحب الظهور

وإفحام الخصم أو أن يرى الناس مكانه، فإذا كانت هذه الأغراض موجودة فليحجم

المحاور عن الحوار حتى تتجرد نيته تماماً لله عز وجل وأنه يريد الحق ولو ظهر

على لسان الطرف الآخر.

ب - حسن الاستماع والاهتمام بكلام الطرف الآخر: فالمتحدث البارع مستمع

بارع فلابد من حسن الاستماع والانتباه لما يقوله الطرف المقابل وعدم مقاطعته

وتركه حتى ينتهي ويدون أي فكرة تطرأ أثناء كلامه حتى يفرغ تماماً وهذا من

التواضع وإعطاء الأهمية لكلام الآخرين حتى لا يحصل العجب بالنفس وأنه الذي

ينبغي أن يستمع له وأن غيره ليس عنده ما يستحق ذلك، كذلك على المحاور

المخلص أن يراعي الوقت أثناء حديثه فلا يستأثر بالكلام كله بل يعطي الفرصة

المكافئة للطرف الآخر حتى لا يحصل العجب بالنفس المنافي للإخلاص أو الاحتقار

للطرف الآخر، وكذلك لأن المستمع لا يستطيع أن يركز في سماع من يحاوره دون

مقاطعة له أو انشغال عنه أكثر من ربع ساعة وبعد ذلك يكل الذهن ويقل التركيز

وكما يقال: (إذا أردت أن ينفض الناس من حولك ويسخرون منك فتكلم بغير انقطاع ولا تعطي لأحد الفرصة في الحديث) .

ج - مراقبة النفس أثناء الحوار: جرت العادة عند أكثر المتحاورين أن

يركزوا انتباههم على الطرف الآخر يحصرون الملاحظات على فكرته وطريقته في

الحوار، دون أن يراقبوا أنفسهم بنفس المقياس، فينسى الإنسان نفسه ونوازعها

ونبرات صوته وطريقته في الرد مما يكون له أثر سيء على الحوار.

ولاشك أن الإخلاص في الحوار يجعل الإنسان ينتبه لنفسه وعيوبه أكثر من

غيره، وضعف الإخلاص يحدث في النفس عجباً وشعوراً بأنها فوق الملاحظات.

د - التسليم بالخطأ: الإنسان بشر يخطىء ويصيب، فمن الطبيعي أن

يخطىء المحاور في مناقشاته وحواره مع غيره، والإخلاص لله عز وجل يفرض

عليه التسليم بالخطأ عندما يتبين له وجه الصواب، بل يشكر لصاحبه فضله في

تبصيره له بالخطأ.

هـ - الحذر من الكذب والغموض واللف والدوران: قد يلجأ المحاور إلى

الأساليب الغامضة بل الكذب أحياناً إذا أحس بضعف حجته، أو أنه يريد أن يلبس

على الطرف الآخر ويوهمه بما ليس له حقيقة، وهذه صفة ذميمة يرفضها

الإخلاص لله تعالى والخلق الكريم، بل إن الحوار المبارك هو الحوار الصادق الذي

يطمئن كل طرف فيه إلى الآخر، وإذا طرح سؤال لا يريد أحد الطرفين الإجابة

عليه فيعتذر عن الإجابة، ولا يلجأ إلى الغموض واللف والدوران لأنه إذا فقدت

الثقة بين الطرفين فقد فشل الحوار.

و الأمانة: لابد من الأمانة في العرض والنقل واحترام الحقيقة وأن لا

تقطع عبارة عن سابقتها أو لاحقتها عند الاقتباس لتخضعها لخدمة فكرتك فهذا نقص

في الدين والإخلاص لأنه أخو الكذب فضلاً عن أنه يُعرِّض من هذه صفته للسخرية

وعدم الثقة به لتلاعبه بالنصوص.

ز - الإنصاف: من الإنصاف أن يبدي المحاور إعجابه وثناءه على الأفكار

الصحيحة والأدلة الجيدة وحسن الاستدلال والمعلومات الجديدة التي يوردها الطرف

الآخر ويسلم بها وأن يذكر الطرف الآخر الإيجابيات والحسنات التي تتمثل فيه أو

في فكرته وإن ظهر معها جوانب سلبية، كما أن من الإنصاف وضع النفس موضع

الطرف الآخر والظروف المحيطة به والتي أدت به إلى الرأي المخالف.

ح - وضع الخطأ في حجمه الطبيعي وتجنب الشماتة: عند وضوح خطأ

الطرف الآخر يجب أن يشعر بأن الخطأ ميسور التصحيح حتى لا يداخله الشيطان

وتفقده الدعوة من جراء خطئه كما أن تواضع الطرف المصيب أمر مهم حتى لا

يداخله الشيطان فيشعر بالتعالي على الطرف الآخر أو يشمت به وبفكرته الخاطئة،

فالمسلم المخلص يقصد من الحوار إظهار الحق ولو على لسان مخالفه.

ط - على كل طرف في الحوار تجنب الهزء والسخرية وكل ما يشعر باحتقار

أحدهما للآخر أو ازدرائه لفكرته أو وسمه بالجهل أو قلة الفهم أو التبسمات

والضحكات التي تدل على السخرية.

ي - تجنب ضمائر المتكلم أثناء الحديث: حتى لا يدخل الشيطان إلى النفس

فيقع فيها العجب والغرور، ينبغي تجنب إدخال ضمائر المتكلم أو ضمير الجماعة

في الحديث كتكرار (نحن، أنا، عندنا

الخ) مع ما فيها من المضايقة للطرف

الآخر.

*يتبع*

ص: 17

قراءة في فكر مالك بن نبي

- الحلقة الأخيرة -

محمد العبدة

بعد الحلقة الأخيرة في قراءة فكر مالك بن نبي كانت النية متجهة للكتابة عن

بعض أخطائه ضمن الكتابة عن المدرسة التي تأثرت به، وفي مكان آخر غير

صفحات هذه المجلة، ولكن بعض القراء أشاروا وطلبوا أن تكون الكتابة عن مالك

في المجلة حتى تتضح الصورة، وتظهر الإيجابيات والسلبيات كي تقع الفائدة

المرجوة وتتجنب الأخطاء، واستجابة لهذا سأكتب عن الأخطاء ضمن المنهج

الصحيح في الجرح والتعديل؛ وهو أنه إذا غلب على الرجل الخير فالأولى تقديم

إيجابياته والتغاضي عن سلبياته أو ذكرها مجملة ما أمكن ذلك، وما أردت في

المقالات السابقة إلا عرض خلاصة أفكاره عن أمراض العالم الإسلامي وشروط

النهضة، وهي أفكار تستحق الدراسة والتأمل، ونتمنى أن يستفيد منه المسلمون في

كل مكان. فقد أصاب فيها المحز، ووضع الإصبع على الجرح، ورغم مرور

سنين على طرحها، لكن مشكلة المسلمين لا زالت كما حللها وكتب عنها.

إن الأخطاء التي سنتكلم عنها ليست أخطاء عادية مما يقع لكل كاتب، فكان

لابد من ذكرها والتنبيه عليها.

النظرة السطحية للأحداث والشخصيات:

كان مالك بن نبي عميقاً في فهم غور الاستعمار وأساليبه الخفية للتسلط على

العالم الإسلامي، وعميقاً في معالجة (القابلية للاستعمار) عند المسلمين، ولكنه في

عالم الواقع والسياسة فيه سذاجة أو طفولة سياسية، وهذا ليس غريباً فقديماً تعجب

الإمام ابن الجوزي من شخصية أبى حامد الغزالي، كيف يجمع بين الفقه والذكاء

من جهة، وبين الصوفية وحكايات العجائب والخرافات من جهة أخرى.

أ - أعجب مالك بثورة 23 يوليو في مصر، ومدحها ووضع آماله فيها من

ناحية الإصلاح الزراعي والصناعة، وإنشاء وزارة الثقافة والإرشاد، والحياد

الإيجابي، وكل الدجل والشعارات التي أطلقها مهرج هذه الثورة.

فثورة يوليو 1952 عند مالك (من أهم الحوادث بالنسبة للصراع الفكري،

وكان لهذا الحدث تأثير شرارة كهربائية انطلقت في وعي البلاد العربية والعالم

الإسلامي) [1] (وكل عربي يعلم أن نظرة الرئيس جمال عبد الناصر خطت

للنهضة العربية الاتجاه الصحيح الذي يحقق الشرط الأول للانسجام مع القانون

العام

) [2] .

كيف يكون هذا الزعيم بهذه الصفات ونحن لا نعلم أن هناك زعيماً آخر في

العصر الحديث ترك بلاده خراباً مثل جمال عبد الناصر؟ كيف لا يدري مالك بن

نبي وهو من هو في فهم اللعبة الاستعمارية أن عبد الناصر كان ضمن (لعبة الأمم) ،

وأنهم ساعدوه على صنع هذه البطولة المزيفة، وحتى لو كانت هناك بعض

الإصلاحات المادية - وهي لم تتحقق فعلاً - فأين الحديث عن الاستبداد السياسي

وكرامة الشعب المسحوقة؟ بل أين تطبيق الإسلام؟ .

2 -

علق مالك بن نبي آمالاً كبيرة على مؤتمر باندونغ، واعتبره كتلة سلام

للعالم، واعتبر هذا التنوع الذي يضم تسعاً وعشرين دولة، تضم تراثاً فكرياً متفاوتاً

(يمكن بطبيعة الحال أن يقدم العناصر اللازمة لبناء قاعدة متينة للسلام) ، [3] . هذه

نظرته لهذا المؤتمر، والحقيقة أنه كان يحب التكتلات الكبيرة لمواجهة الغرب، وقد

يكون معه بعض الحق في هذا، ولكن مثل هذا التكتل كان يحمل بذور فشله،

وقضية الحياد التي يرفعها لم تكن صحيحة، فكل دولة منحازة، والهند التي كانت

من أبرز أعضاء المؤتمر وتدعي السلام والروحانية كانت تحمل بين جوانحها الكره

العميق للمسلمين، بل إن صورة الهند العداونية كانت من البديهيات عند الشباب

المسلم في الستينات، ولم ينخدعوا بكلام الدبلوماسي الهندي (ليس لدينا من الخشوع

ما يكفينا ونحن ذاهبون إلى باندونغ) [4] ، ويصدق مالك بن نبي أن نهرو حمل

رسالة اللاعنف التي سلمه إياها غاندي، ونهرو هذا يكتب في (المجلة العصرية)

مقالتين ينكر فيهما على الجمعيات المسلمة الحركة ضد القاديانية ويؤيد جانب

القاديانية) [5] ، وهند نهرو هي التي احتلت كشمير وأخذتها بالقوة، فأين السلم وأين الديمقراطية التي تدعيها؟ وما الفرق بين الهند وباكستان في (القابلية للاستعمار) .

وقد أدرك مالك أخيراً عدم جدوى أي محاولة تجمّع ليست عناصره

منسجمة [6] ، كما كان يلمح في آخر حياته بأن ثورة 23 يوليو لم تقم بالواجب، ولاشك أن الكبار من أمثال مالك بن نبي يتراجعون إذا عرفوا الحق.

3 -

كانت روسيا بعد الثورة الشيوعية تدعي أنها دولة صديقة للشعوب وللعالم

الثالث، وأنها ليست دولة استعمارية، وقد صدّق مالك بن نبي هذه المقولة، يقول:

(فالمناخ الاستعماري الذي تكوّن في أوربا وأمريكا على حد سواء، وفي الاتحاد

السوفييتي قبل الثورة أيضاً) ولكن الحقيقة أن روسيا مستعمرة قبل الثورة وبعدها،

ولم تتخل عن جشع الدول الكبرى، وهي وجه آخر للحضارة الغربية.

4 -

نقد مالك الانتخابات السياسية التي تطالب بالحقوق فقط وتنسى الواجبات، وتعتمد أسلوب المظاهرات والحفلات، وهو محق في هذا، ولكنه شارك في هذه

الوسائل، وساعد (مصالي الحاج) في قيام الحزب الوطني، مع أنه ينتقده هو

وحزبه، ولكنه حب الحركة ثم يكتشف الأخطاء بعدئذ.

اللاعنف:

أعجب مالك بن نبي بقصة (اللاعنف) عند غاندي، فهو يذكرها دائماً، بل

يذكرها بخشوع، ويبني عليها أحلامه الفلسفية في السلام العالمي، واتجاه العالم نحو

مناقشة قضاياه بالسلم والحوار والفكر، يقول عن منطقة جنوب شرقي آسيا: (هي

مجال إشعاع الفكر الإسلامي وفكرة اللاعنف، أي مجال إشعاع حضارتين:

الحضارة الإسلامية والحضارة الهندوكية، الحضارتان اللتان تختزنان أكبر ذخيرة

روسية للإنسان اليوم) [7] .

ويحلق في الخيال والطوباوية عندما يقول: (فكذلك رفات غاندي التي ذروها

فإن الأيام ستجمعها في أعماق ضمير الإنسان من حيث سينطلق يوماً انتصار

اللاعنف ونشيد السلم العالمي) [8] . (هذا الرجل (غاندي) كان يتقمص إلى درجة

بليغة الضمير الإنساني في القرن العشرين) . [9] .

إن فكرة (السلم العالمي) بمعنى أن يحل السلام في العالم بشكل دائم، أو أن

العالم يتجه نحو هذا الهدف، هذه الفكرة غير واقعية وغير شرعية، وهي فكرة

خيالية محضة، فهي تنافي مبدأ الصراع الذي ذكره القرآن الكريم [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ

النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] [البقرة: 251] كما تنافي مبدأ الجهاد في

الإسلام، وهي غير واقعية لأن من طبيعة البشر التغالب والعدوان إن لم يردعهم

رادع، والدول الكبيرة القوية تأكل الضعيفة إن لم يكن عسكرياً فاقتصادياً.

والبشرية لن تبلغ رشدها في عمرها الثالث فتصبح الفكرة ذات قيمة قي حد ذاتها كما

يتصور مالك بن نبي [10] ، بل إنها كثيراً ما تتردى من الناحية الإنسانية،

والبشرية لا تبلغ رشدها إلا إذا حكمها الإسلام.

إن فكرة (اللاعنف) و (الإنسانية) من الأفكار الخطيرة التي بذرها مالك

ووسعها بعدئذ تلامذته، وحاولوا اللف والدوران كثيراً حول مبدأ الجهاد الإسلامي.

الإنسانية والعالمية:

وقريب من مبدأ (السلام العالمي) كان مالك يحلم بأن تتوحد الإنسانية في

مجتمع عالمي، ويظن بأن البشرية تسير بهذا الاتجاه، (فالعالم قد دخل إذن في

مرحلة لا يمكن أن تحل فيها أغلبية مشكلاته إلا على أساس نظم الأفكار) [11] ،

(وحين اتجه العالم إلى إنشاء منظمة اليونسكو، كان يهدف إلى (تركيب) ثقافة

إنسانية على المدى البعيد) [12] (وما محكمة العدل في لاهاي والقانون الدولي،

والقانون البحري إلا مظاهر خاصة لذلك الاتجاه العام الذي لايفتأ يمهد الطريق

لتوحيد العالم) [13] .

هذا المفهوم للإنسانية مفهوم وهمي يراد به محو الشخصية الثقافية الحقيقية

لكل مجتمع ولكل أمة، وإذا كان العالم قد تقارب وانتشرت الأفكار في كل مكان،

وقد يستفيد المسلمون من ذلك في نشر دينهم الذي يملك عناصر التأثير والقوة،

ولكن أن يتوحد العالم في مجتمع واحد فهذا مفهوم ذهني مجرد، وإذا كان هو نفسه

شعر بأن فكرة الأفرو آسيوية صعبة التحقيق، ولذلك عاد وكتب عن (الكومنولث

الإسلامي) ؛ فكيف يظن أن العالم يسير نحو الوحدة؟ !

ضعف ثقافته الشرعية:

لم يتصل مالك بن نبي بعلماء عصره ليستفيد منهم، ورغم اعترافه بأهمية

جمعية العلماء في الجزائر التي كان على رأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس؛ إلا

أن علاقته بها كانت فاترة ويعترف هو بعد لأي أنه كان مخطئاً في هذا [14] ،

ولذلك كانت دراسته للإسلام نابعة من قراءاته الشخصية وهي قليلة إذا قيست

بقراءاته في الفكر الغربي، وهذا ما جعله يخطئ في أمور كثيرة سواء كانت في

الفقه والأحكام أو في النظرة لبعض جوانب التاريخ الإسلامي، فمن رموز الثقافة

عنده الفارابي، وابن سينا، وابن رشد [15] .. (والمجتمع الإسلامي في عصر

الفارابي كان يخلق أفكاراً وفي عهد ابن رشد يبلغها إلى أوربا وبعد ابن خلدون لم

يعد قادراً على الخلق ولا على التبليغ) [16] .

وفي العصر الحديث فإن من رموز الثقافة عنده جمال الدين الأفغاني، وهو

موقظ الشرق، وهو رجل الفطرة

الخ. وإطلاقه هذا القول جزافاً يدل على

ضعف ثقافته الشرعية.

وفي التاريخ يلمز كثيراً بنى أمية دون وضع الضوابط للإنصاف والتقويم

الصحيح. وبسبب عدم وضوح توحيد الألوهية ظن أنه من الممكن اتصال العالم

الإسلامي بروحانية الهند (وليس بوسعنا أن نغض من قيمة الدور الذي يمكن أن يؤديه اتصال العالم الإسلامي بروحانية الهند)[17] .

ولم يشر في كتبه إلى موضوع تحكيم الشريعة الإسلامية، وكان معجباً بدولة

الوحدة عام 1958 مع أنها لا تطبق شرع الله، وهناك أخطاء جزئية لا نريد

التفصيل فيها ونعتقد أنه لو نبه عليها لتراجع.

وقبل أن ننهي هذه القراءة لفكر مالك بن نبي لا بد من التنبه لأمور:

أ - هذه السلبيات والأخطاء يجب أن لا تمنعنا من الاستفادة من الإيجابيات،

فهذا المفكر خبير في نهضة المجتمعات وأمراض المسلم المعاصر.

وكأني أسمع بعض المسلمين يقولون: ما دامت هذه آراؤه فما الفائدة من

قراءة كتبه؟ وهذا خطأ فادح منهم، فنحن نقرأ لأعداء الإسلام ونستفيد منهم؛ فكيف

بمفكر كان يسعى - حسب جهده - لخير المسلمين، وإن أخطأ في مواضع.

2 -

إن مالك بن نبي شخصية كبيرة، فهو يتراجع عن الخطأ إذا تبين له،

لقد نصح جمعية العلماء في الجزائر بصدق وقال كلاماً دقيقاً في هذا (لقد كان على

الحركة الإسلامية أن تبقى متعالية على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية) [18] (وبأي غنيمة أراد العلماء أن يرجعوا من هناك وهم يعلمون أن مفتاح القضية في

روح الأمة لا في مكان آخر) [19] ، وهو يقصد سير العلماء في القافلة السياسية

عام 1936.

ويقول: (فيما يخصني لقد بذلت شطراً من حياتي في سبيل الحركة الإصلاحية، وشهدت في مناسبات مختلفة بالفضل لجمعية العلماء)[20] ، ويتأسف لأن الجمعية لم تدعه للمساهمة في شؤونها الإدارية، ومع ذلك فقد تراجع واعترف أن موقفه من الجمعية لم يكن طبيعياً بسبب نظرته الخاصة للشيخ ابن باديس.

3 -

رغم معرفة مالك الدقيقة بالفكر الغربي، وتأثره به في بعض الأحيان إلا

أن أمله في التغيير بقي معلقاً في الأصالة الإسلامية، وبالرجوع إلى المنبع الأساسي

للمسلمين (فالعالم الإسلامي لا يستطيع أن يجد هداه خارج حدوده بل لا يمكنه في كل حال أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن لا يقطع علاقته بحضارة تمثل أحد التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينظم العلاقة معها)[21] ، (والمسلم لا يزال يحتفظ بالقيمة الخلقية، وهو ما ينقص الفكر الحديث، فالعالم الإسلامي لديه قدر كبير من الشباب الضروري لحمل مسؤولياته مادياً وروحياً)[22] .

فهل يتحمل الشباب هذه المسؤوليات؟ نرجو ذلك.

(1) الصراع الفكري / 22.

(2)

تأملات / 178.

(3)

فكرة الأفرو آسيوية / 98.

(4)

المصدر السابق / 7.

(5)

مسعود الندوي: تاريخ الحركة الإسلامية في الهند / 220.

(6)

- فكرة كومنولث إسلامي / 7.

(7)

في مهب المعركة / 87.

(8)

المصدر السابق لم 208.

(9)

المصدر السابق / 207.

(10)

إنتاج المستشرقين / 35.

(11)

مشكلة الثقافة / 14.

(12)

المصدر السابق / 96.

(13)

وجهة العالم الإسلامي / 154.

(14)

بقي له ملاحظات مهمة على جمعية العلماء سنذكرها في نهاية المقال.

(15)

ثروة النهضة / 71.

(16)

مشكلة الثقافة / 48.

(17)

وجهة العالم الإسلامي / 170.

(18)

شروط النهضة / 38.

(19)

المصدر السابق / 34.

(20)

في مهب المعركة / 190.

(21)

وجهة العالم الإسلامي / 127.

(22)

المصدر السابق / 157.

ص: 29