المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أدب وتاريخ (قصة قصيرة) ‌ ‌المخادع خولة درويش   ما رأيت مثل (عائدة) اعتزازاً بزوجها، - مجلة البيان - جـ ٢٣

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: أدب وتاريخ (قصة قصيرة) ‌ ‌المخادع خولة درويش   ما رأيت مثل (عائدة) اعتزازاً بزوجها،

أدب وتاريخ (قصة قصيرة)

‌المخادع

خولة درويش

ما رأيت مثل (عائدة) اعتزازاً بزوجها، وزهواً بآرائه وتصرفاته، والتي

تعتبرها (كياسة ولباقة) .

إنني كلما أكبرت فيها إعجابها بزوجها، وتقديرها له، رحت أتساءل: - (أهي محقة في ذلك؟ !) .

وأتاح تقاربنا في السن، أن أتعرف على مكنونات نفسها خلال ما تفضيه إلي

من آمالها ومسراتها، فضلاً عن علاقة الجوار والزمالة.

وكثيراً ما حدثتني بسعادة وانشراح عن مغامرات زوجها الطبيب (بديع)

ومقالبه الناجحة، التي كانت أشبه بصفقات تجارية من حيث نتائجها المادية

وأرباحها الخيالية.

وإن أنس لا أنسى يوم كانت ضحكاتها العالية، وقهقهاتها الرنانة تملأ أرجاء

البيت وهي تحدثنا عن آخر (شطاراته) بقولها:

- (في صباح الأحد الماضي كان الضباب يخيم على كل شيء، على الجبال

والشعاب والشجيرات المتناثرة التي حال الظلم دون الاستمتاع برؤيتها.

كان الدكتور (بديع) يقود سيارته مسرعاً إلى مقر عمله في الضاحية المجاورة.

وأثناء الانحدار إلى سفح الجبل، ومع السرعة الكبيرة، ارتطمت سيارته ارتطاماً

عنيفاً بسيارة العامل المسكين التي كانت أمامه، والتي رغم وضاعتها كان يصحب

عائلته فيها

(قالت ذلك بتقزز وامتعاض) أحس (بديع) على أثرها بدوار شديد

أنسته إياه المواقف المتلاحقة. فهاهو قد نقل مع سائق السيارة المصابة إلى

المستشفي، وكان ذلك المسكين جسداً لا حراك فيه. أما طفلاه اللذان كانا في المقعد

الخلفي فقد أُخِذا إلى غرفة العمليات لعلاج كسور مختلفة في جسميهما فضلاً عن

جروحهما التي كانت تنزف بشدة..

وتتفاخر (عائدة) - سامحها الله - وتقول ضاحكة:

- لكن بديع بديع! ليس كغيره. تحامل على نفسه، ثم تناسى آلامه ومتاعبه، وهبّ واقفاً يمسك بيد السائق المسجى، ثم يصب في أذنيه كلمات يعلنها بكل ثقة

وصلابة:

- (أنا طبيب وأعرف أنك لا تشكو من شيء؟ قم فوالله إن لم تفتح عينيك

حالاً، لأخذت حقي منك، ولدفعت الثمن غالياً. فأغرمك أجور عيادتي بسبب

حادثك المفتعل

! ! فأنت المعتدي، ثم يردف مردداً مقولته التي يدأب على

إعلانها:

- (والشرع يرضي الجميع

! !) .

وأردفت تقول بفرح واعتزاز:

- تصوروا بعد لحظات، ومجرد أن أفاق المسكين، وفتح عينيه المذعورتين

بعدما سمع التهديد، أشار إلى الشرطة.

- (دعوه يسامحني، فأنا غير مصاب

! !) ثم تتابع (عائدة) :

وركب (بديع) سيارته وذهب سعيداً إلى عمله، وكأن شيئا لم يكن

استمعت إلى قصة (عائدة) وأنا في ذهول، وصرت أحدث نفسي:

- (حقا لقد كان الضباب يغلف كل شيء، حتى القلوب البشرية؟ ! حتى قلوب الأطباء الذين تحتم عليهم رسالتهم تضميد جراح الآخرين ومسح آلاماهم؟ !

وتوالت الخواطر والتساؤلات:

- أهذا أمر يدعو إلى الزهو؟ ! أين التدين الذي كانت تنشده (عائدة) في

زوجها؟ ! بل أين الكياسة؟ !

لقد تزوجت منه وهي تعتبره (لقطة) فريدة في عصرها، مركز مرموق.

وثقافة عالية، فضلاً عن يسر حال أهله، أما هو فإن لم يكن كثير المال، لكن ثراء

(عائدة) يمكنها من الاحتفاظ بمستواها المعيشي الراقي، ثم إنه فوق ذلك: (متدين

عصري) كما كانت تقول.

وعندما كان والدها الشيخ (عادل) رحمه الله يقول لها مبيناً رأيه:

- إنني لا يعجبني هذا الصنف من الناس. إذ كثيراً ما يكتنفه الكذب

والغموض. وحيث كان الكذب والمراوغة كان الزيغ أو النفاق

لكن (عائدة) ساهمت مع إخوتها بإقناعه أن (بديعاً) مسلم مثقف ودبلوماسي

لبق، يحسن التصرف وتدبير الأمور و

إنه يحرص على أن يتصدر الصفوف

الأولى في المحافل الدينية، ويجيد المناظرة ولو كان قرنه من كبار العلماء. وهذا

ما اكتسبه من طول مرافقتهم.

وتم الزواج السعيد، وهو دؤوبة على ذكر أخباره وأسفاره.

كم كانت فرحة، وهي تحدثنا عن قصة الفلاح الطيب وهو يلبس ثيابه

البسيطة، ويضرب باب العيادة بعصاه ويقول؛ وتحاول عائدة أن تقلده بصوت

مرتفع أجش:

- (السلام عليكم يا دكتور

أدخل؟ !)

ثم يدخل ويشكو ألماً في بطنه لا يحتاج إلى أكثر من مسكن، فربما كان ألمه

بسبب برد عارض في تلك الأيام.

ولكن الطبيب (بديع) بديع! !

هول الأمر وضخمه وأمر (المسكين) أن يمض يومه في العيادة في غرفة

مجاورة لغرفة الطبيب، وذلك لمراقبته خوفاً من نتائج خطيرة قد تعود على صحته

إذا أهمل نفسه ويحاسب الله عليها الطبيب

!

ويتكرر ذلك لمدة أسبوع للاحتياط، فالحذر طيب، ومراقبة الله واجبة! !

يوماً يجري (بديع) بعض الفحوصات للمسكين، ويوماً تعمل له بعض

التحاليل وآخر يعطى المسكنات مع تدليك لبطنه! ثم تتابع (عائدة) :

- وبعد الأسبوع المشهود، كانت فرحة الفلاح لا توصف عندما أخبره (بديع) أنه تماثل للشفاء، وتعلق بمزيد من المرح:

- أما نحن فقد فاض عن حاجتنا آنذاك البيض الطازج، والدجاج البلدي،

وهدايا الجبن والزبد التي يأتي بها للطبيب الماهر، فهو سيساعده في شفائه من

الأمراض الخبيثة....

وتضيف قائلة على لسان زوجها: (الحياة شطارة والسعي على العيال فيه

الأجر والثواب) ويسوء ذلك الموقف الحاضرات، فتستنكر إحداهن بقولها: - (وهل يثاب المرء على مثل هذا الكسب، وقد خالطه الخداع؟ ! وتساندها أخرى: - ألم يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن يطبع على الخلال

كلها إلا الكذب والخداع؟ !

ولكن (عائدة) لم تلق بالاً لكل ما يقال:

وحتى السيدة والدته لم تسلم من مقالبه

كانت عائدة تتمنى أن تسافر إلى أوربا حيث لم يتح لها السفر لقضاء شهر

العسل، وهي تريده سفراً على نفقة (بديع) وأنى له ذلك بإمكانياته المادية المحدودة؟! وتسر لي (عائدة) أن (بديعاً) قد عمل لوالدته فصلاً مسرحياً خفيف الدم، فقد

تودد لها واستعطفها، وزين لها أنه يريد الذهاب إلى أوربا ليكمل دراسته وهي

فرصة العمر

ويعود بعدها ليصبح من أحسن أطباء البلد لاختصاصه النادر الذي

سيحصل عليه. ويقول لها وهو يشبع يديها لثماً وتقبيلاً:

- لا تحرمينى من تحسين مستقبلي. ثم يرجوها قائلاً:

- سأكون ابنك البار الذي يدخله رضاك الجنة إن شاء الله..! وتتابع عائدة:

وكانت دراسته من روائع ما يتصوره الدارسون

في ملاهي باريس

وشواطئ إيطاليا

وكنت رفيقته على نفقة الحاجة والدته رحمها الله

أسأل الله الهدى لعائدة: إني كلما ذكّرتها بعدم الحرص على المتع الفانية،

كانت تسخر مني وتقول:

- نحن نرضي الله، ولا نهمل العبادة، ونعيش دنيانا كما نحب.

وعندما سألتها مشفقة عليها:

- وهل يرضيك الاختلاط على الشواطىء، وهو محرم في ديننا؟ !

ردت بانفعال:

- سامحك الله، وهل تظين أنني أسكت على مثل هذا؟

والله لقد ذكرته مرة حين كان يتحدث عن جمال الحسناوات على الشاطىء

بحديث قدسي للرسول صلى الله عليه وسلم: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس

من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه» .

فابتسم وهو يقول:

- إنها غيرة النساء، ثم إني لا أعيرهن أكثر من نظرة أخوية بريئة! ! .

.... وتمر السنون القليلة، وأزور بيت أخيها الكبير لأجد (عائدة) وقد

اختفى مرحها، وظللتها الكآبة والأسى، وأضحت ساهمة الوجه، مقطبة الجبين

تحكي دموعها شقاء حاضرها، وبؤس مستقبلها القاتم، وعلمت من حديث هامس

في الغرفة المجاورة، أنها تعيش أزمة عائلية مع زوجها! !

في الحقيقة، كنا جميعاً في ذهول أمام هذه النتيجة المؤسفة، وتتنهد أختها

الصغرى وهي تقول: هكذا الرجال.. لا عهد لهم!

وتؤمّن امرأة أخيها على تولها - سواء مجاملة أم حقيقة -:

- صدقت، ما رأيت زواجاً سعيداً مثل زواجهما، وهذه نتائجه! .

وتدعو لها بإشفاق: كان الله في عونك يا ست عائدة.

وأتحسس أسباب النكد المفاجئ فأجد أن زوجها قد أخذ منها وكالة ليشرف على

تدبير أموالها وليحفظها لها. وليجنبها الاختلاط بالرجال الذي يحرمه ديننا

ثم

فوجئت أنه قد باع قطعة أرض من أملاكها دون أن يستشيرها، ولما سألته عن

السبب، أشعرها أنه التجاري اليقظ الحريص على مال زوجته. فالأراضي إلى

كساد، وعليه أن يغتنم الفرصة ولا يفوتها، وإضاعة المال حرام

! !

ثم يطمئنها بقوله:

- على كل حال، الأموال موجودة، وإن شئت نسخنا البيع. واسترضاها

بذلك. وبعد مدة وجيزة، اشترى لنفسه (فيلا) جميلة في الشارع المجاور.

ولما ساءلته عن مالها ثمن الأرض. صار يراوغ ويخادع، ويمنيها أن (الفيلا) لها، وإن شاءت سجلها باسمها. أليس هو وإياها كنفس واحدة؟ !

واستفحل الأمر، وتحول إلى مشادة عنيفة عندما بدأت تجابهه بواقعه:

- إنني لو كنت أقدر الأمور، لعرفت النتيجة يوم سفرنا لأوربا، إن من

يكذب على أمه حري به أن يكذب على زوجته والناس أجمعين، ومن يستبيح لنفسه

الكذب فقد زجها في النفاق

تقول ذلك وهي توطن نفسها على تحمل ثورة (بديع) فقد يشتمها أو يلطمها

أو

وتتلمس رأسها بكلتا يديها وهي تنظر إليه بتوجس.

لكنه يقابلها ببرود، ويقول بخبث وملق، وهو يرسم على وجهه ابتسامة باهتة:

- بيدك حق، وكل ما تقولينه جميل ولطيف. والحب الذي بيننا لن تمحوه

هذه الكلمات..

ثم تكشف له النقاب عن سوء طويته بردّها المقتضب اللاذع:

- إنك لا تحب إلا نفسك، إلا المادة والشهوات. إن الذي لا يحب دينه ولا

يصدق مع ربه، لا يمكن أن يصدق مع أحد.

وهنا لا يملك وقد ضاق صدره بالمأزق المهين. إلا أن ينكمش مخذولاً

ويتوارى منهزماً، وقد عذبه الله بالحرص والجشع والخداع، ويتمتم بكلمات مبهمة

تفضح غيظه الدفين.

وتأتي بعدها (عائدة) إلى بيت أخيها. وآخر عهدها بزوجها أن تدافعا عند

الباب وهو يصر على منعها من الخروج، ويسعى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

وتركته يستعطفها بصرخات متشنجة:

- يا عائدة لا تفضحيني، أولست زوجك ولي حق عليك، لا تخرجي وكل ما

تريدينه يأتيك رغباً وطوع أمرك

يا عائدة! !

ولكنها لا تأبه لما يقول وتخرج تشيعها توسلاته ورجاؤه، وهو يبكي على ثقة

الناس به تلك التي عالق حياته يبنيها بخداعه.

وهاهي (عائدة) وقد أسقط في يدها، تتحسر وتتأوه، وهواجسها الدفينة

تأبى إلا أن ينطلق بها لسانها.

- آه لو كنت عاقلة حقاً لما اقتنعت أن هناك (متديناً عصرياً) كما توهمت

طوال حياتي معه.

وبقلب يتحرق أسى، ونفس استيقظت بعد غفلة، تتابع بين آهاتها وشهقاتها:

- رحمك الله يا والدي وطيب ثراك كم كان نظرك بعيداً. ورأيك سديداً وأنت

تقول:

- المؤمن واضح، لا مواربة في سلوكه ولا غموض، آلف مألوف قريب

من النفوس السوية، بعيد عن الخداع والأنانية. يتصرف بميزان الإسلام وأخلاقياته.

ص: 77