الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خواطر في الدعوة
وحدة الصف ووحدة المنهج
محمد العبدة
إذا كانت وحدة العمل الإسلامي من المطالب الملحة عند كثير من الدعاة الذين
بدأوا يتحسسون مواطن الخلل ومواطن القوة عند المسلمين، وإذا كان هذا المطلب
مما يأمر به الدين ويحث عليه لأنه من التعاون على البر والتقوى، فإنه يزداد
إلحاحاً في هذه الأيام التي تجري فيها تغيرات في العالم لم تكن بالحسبان ولم يتوقعها
أحد؛ انهيارات في الكتل الشرقية، وانحسار للشيوعية، وتقارب بين الغرب
والشرق، والمستفيد حتى الآن هو الغرب الرأسمالي الليبرالي، وقدمت روسيا
تنازلات كثيرة في سبيل التقرب من هذا الغرب، الذي يمتلك التقنية والمال
والسيطرة السياسية، فمن يقف في وجه هذا التكتل على الأقل من الناحية الحضارية
والعقائدية؟ مَن من شعوب العالم الثالث يملك هوية واضحة، ومنهجاً متكاملاً؟ لا
يوجد سوى الإسلام، ومن المفترض أن يقود الشعوب الإسلامية العلماء والدعاة،
وإذا كانوا غير مؤهلين لذلك ولم يستطيعوا الجلوس على مائدة الحوار والتعاون فلمن
تترك الساحة؟
كنت أحاضر في أحد المراكز الإسلامية عن واقع الإسلام اليوم وما يحدث في
أوربا هذه الأيام، وعندما جاء دور الأسئلة أو المناقشة علق أحد الحضور (وأظنه
من العمال المتعلمين) قائلاً: «الدنيا سائرة وإذا كنتم تريدون أن يكون للإسلام
حضور فيجب أن تبدأوا وتسرعوا، وإلا فالناس لا ينتظرونكم طويلاً
…
»
وعجبت من نظرته الواقعية وتذكرت رأي ابن خلدون في أن العوام الذين يملكون
الفطرة السليمة والتجربة العملية عندهم القدرة على معرفة الواقع، وخاصة الواقع
السياسي أكثر من أصحاب التنظير المجرد الغارقين في الثقافة الذهنية الباردة،
وتذكرت قول صديق أرسل لي رسالة قال فيها: «إذا كان المطل [1] ممكناً في
الأسلاف المستحقة مالياً فهو متعذر في الاستحقاقات الحضارية» .
وعندما نتكلم عن وحدة الصف ووحدة العمل الإسلامى فإنما نعني تجمع
أصحاب المنهج الواحد، منهج خير القرون وليس تجمعاً يرضي الجميع مع التساهل
في شيء من شريعة الله، فهذه من مداخل الشيطان التي ظاهرها الخير وتأليف
القلوب، وباطنها تجمع هش لا يصمد في وجه التحديات الداخلية والخارجية.
إن هؤلاء الكفار يمكرون في الليل والنهار ولا يملون من كثرة الاجتماعات
وكثرة المناقشات وتقليب وجهات النظر للاستقرار على أمر يريدونه.
أيطلب أهل الباطل أمرهم بجد ونحن نطلبه ببطء وتراخ؟ وينطبق علينا قول
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز
المؤمن» .
(1) المماطلة.
أخلاق العرب بين الجاهلية والإسلام
محمد الناصر
تمهيد:
للعادات والتقاليد عند العرب، أثر عظيم في تنظيم حياتهم الاجتماعية، ولها
سطوة لا يستطيع الفرد أن يتخلى عنها، وقد تقوم مقام الدين أو القانون.
لقد جاء الإسلام وفي العرب بعض المزايا الحميدة، التي لا يمكن إنكارها،
ولكن طابع الشر والظلم والفساد في التصورات والمعتقدات كان يطغى على ذلك
الخير فيهم ويغمره، وكانوا بحاجة شديدة إلى نور الوحي، فبعث الله فيهم رسوله
الكريم، وأمره أن يبشر وينذر، ويتحمل في سبيل ذلك ضروباً من المجادلة والتعب
والأذى.
ولعلنا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إن تلك المحاسن والمناقب هي من بقايا
دين إبراهيم الخليل وولده إسماعيل عليهما السلام، بقيت بين العرب بشكل أو
بآخر [1]، وهذا ما نجده في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق» [2] .
والواقع أن القيم الرفيعة والخلال الحميدة، انتشرت بين العرب في الجاهلية
انتشاراً واسعاً، عجت بها أشعارهم، وسارت فيها أخبارهم، وكان من هذه الخلال
ما اجتمعوا عليها أو كادوا، وكان منها ما تحلى بها الكثير منهم.
ومن أهم ما اجتمعوا عليه ثلاث: الكرم والشجاعة والغيرة. وأما التي تحلى
بها الكثير منهم فمنها: العفة والترفع عن الدنايا، ومنها الصدق والوفاء، ومنها
حفظ السر والترفع عن جليس السوء.. ومنها الحلم والرزانة وغير ذلك.
على أن القوم ساد بينهم بعض القيم الوضيعة والأخلاق الذميمة، فكما كان
منهم الأوفياء الصادقون، كان منهم الغدارون والكذابون، وكما كان منهم الأوفياء
وحفظة العهود؛ كان منهم الخونة واللصوص والبخلاء [3] .
وسوف أستعرض - بإذنه تعالى- هذه القيم كما صورها الشعر الجاهلي
موضحاً نماذج - تتسع لها صفحات المجلة - من الأخلاق السامية والذميمة. ثم
أستعرض مدى التغيير أو التعديل، أو التقويم الذي جاء به الإسلام مما ينسجم مع
هديه ومعتقداته، وأختم حديثي عن موقفنا من هذه الأخلاق، ومدى تطبيق
مجتمعاتنا المعاصرة لهذه القيم، بعد تجليتها في الجاهلية والإسلام.
1-
الكرم:
بواعث الكرم في العصر الجاهلي:
لقد تميز العرب بإكرام الضيف، وتاهوا بهذه المكرمة، وافتخروا بها على
الأمم، ولم تكن خصلة عندهم تفوق خصلة الكرم، وقد بعثتها فيهم حياة الصحراء
القاسية، وما فيها من إجداب وإمحال، حيث «كان العرب يعيشون في بادية
شحيحة بالزاد وحياتهم ترحال وتجوال، وكل واحد منهم معرض لأن ينفذ زاده،
فهو يقري ضيفه اليوم لأنه سيضطر إلى أن يضيف عند غيره في يوم، فليس في
البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ ملاجئ تعتبر
قوارب النجاة.. والعرف أن الضيافة ثلاثة أيام، وثلاث ليال، فإذا انتهت المدة
سقط حق الضيافة إلا إذا جدد المضيف وزاد عليها» [4] .
على أن العرب كانوا يكرمون الضيف لكلفهم بحسن الأحدوثة وطيب الثناء،
ولأنهم ذوو أريحية تسعد نفوسهم بمساعدة المحتاج وإطعام الجائع.. وكان المال
وسيلة عندهم لا غاية، وسيلة إلى كسب المحامد.
كان الكرم وسيلة هامة من وسائل السيادة.. يقول حاتم الطائى:
يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد
…
وما كنت لولا ما تقولون سيدا [5]
والعربي ينكر البخل، لأنه مزر بأخلاق الرجال، وواضع من عوالي
الصفات.. فالشاعر عمرو بن الأهتم يدعو زوجته لأن تدع لومه لبذله المال، فهو
يشفق على الحسب الذي رفع بناءه، والكرام يتقون الذم ببذل القرى، ثم يتطرق
إلى ضيف طرقه ليلاً وكيف رحب به، ويصف لنا ذلك اللقاء:
ذريني فإن البخلَ يا أمَ هيثم
…
لصالح أخلاق الرجال شروق
ذريني وحطي في هواي فإنني
…
على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
ومستنبحٍ بعد الهدوء دعوته
…
وقد حل من نجم الشتاء خفوق
فقتلت له: أهلاً وسهلاً ومرحباً
…
فهذا صبوح راهن وصديق
وكل كريم يتقي الذم بالقرى
…
وللخير بين الصالحين طريق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
…
ولكن أخلاق الرجال تضيق [6]
صورة رائعة من صور الكرم عند العربي، يستقبل ضيفه بالترحاب والطعام، وهو يتقي الذم والقالة؛ بالإطعام والقِرى.
لقد أصبح الكرم عند كثير من العرب طبعاً وسجية، إذ ملك عليهم نفوسهم
حتى أن حاتم الطائي يخاطب زوجته ويوصيها إذا صنعت له الطعام، أن تطلب له
ضيفاً ليشاركه فيه، فهو لا يريد أن يأكل وحده مخافة أن يتحدث الناس عنه بالبخل
بعد موته. فهو يقول:
أيا ابنة عبد الله وابنةَ مالك
…
ويا ابنةَ ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له
…
أكيلاً فإني لست آكله وحدي
أخاً طارقاً أو جارَ بيت فإنني
…
أخاف مذماتِ الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف مادام ثاوياً
…
وما فيَّ إلا تلك من شيمةِ العبد [7]
مظاهر الكرم عند العرب وصدق تطبيقهم لهذا الخلق [8] :
بالغ العرب في الحفاوة بالضيف والتعهد له، وتفننوا في إكرامه، وتلمس
الأسباب التي تدخل على نفسه السرور، ومن ذلك بسط الوجه له ومضاحكته
والترحيب به ساعة قدومه حتى يأنس وينزل وهو مطمئن. يقول عمرو بن الأهتم:
وضاحكته من قبل عرفاني اسمه
…
ليأنس، إني للكسير رفيق [9]
بل كانوا يقدمون له أشهى ما يملكون، مع إيناسهم له. قالوا:" اتمام الضيافة: الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المؤاكلة ".
ولن يتلهى العربي عن ضيفه حتى ولا بالزوجة والولد. يقول عروة بن الورد:
فراشي فراش الضيف والبيت بيته
…
ولم يلهني عنه غزال مقنع
أحادثه إن الحديث من القرى
…
وتعلم نفسي أنه سوف يهجع [10]
وكانوا خير رفيق لصاحب الطريق، لا يختصون أنفسهم دونه بمال أو بظهر
أو بماء.
وعرف بعض الأجواد بكرمهم، ومن أجواد العرب أزواد الركب وهم ثلاثة
من قريش، وإنما قيل لهم أزواد الركب، لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد، ولم يسم بذلك غير هؤلاء الثلاثة، وهم: مسافر بن أبي عمرو من بني عبد شمس، وأبو أمية المغيرة من بني مخزوم، وزمعة بن الأسود بن المطلب [11] .
ومن صدق تطبيقهم لهذا الخلق تعميم الدعوة إلى الطعام ليحضره كل من له
إليه حاجة، ومن شؤونهم التي تدعو إلى العجب والإكبار حبهم لكلابهم بسبب ما
كان يجلبه نباحها من الأضياف وضلال الطريق من المسافرين.
ومن مظاهر كرمهم العجيبة هداية الضيوف ليلاً بالنار التي يوقدونها لإنضاج
الطعام، أو للاستدفاء، وكانوا يوقدونها على المرتفعات لتكون أبين وأوضح. يقول
حاتم الطائي لغلامه في ليلة باردة الريح:
أوقد فإن الليل ليل قرُّ
…
والريح يا غلام ريح صر
إن جلبت ضيفاً فأنت حر [12]
الإسلام والكرم:
جاء الإسلام فأقر هذا الخلق الكريم، وشجع على البذل والسخاء، وحث على
إكرام الضيف، إلا أنه جعل إخلاص النية لرب العالمين يرتفع بمنزلة العمل
الدنيوي البحت فيجعله عبادة متقبلة. قال تعالى: [إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ
مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُوراً] [الإنسان: 9] .
وابتعد الإسلام في هديه عن المن والأذى والرياء، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَذِينَ
آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ والأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
والْيَوْمِ الآخِرِ] [البقرة: 264] .
وحث الإسلام على البذل إلا أنه نهى عن الإسراف والتبذير [إنَّ المُبَذِّرِينَ
كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً] [الإسراء: 27] .
ونفر من الشح وكنز الأموال، فقد روى البخاري في صحيحه: «ولا
صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه فاتحاً فاه،
فإذا فر منه سمع من يناديه: خذ كنزك الذي خبأت فأنا عنه غني، فإذا رأى أنه
لابد له منه سلك يده في فمه فيقضمها قضم الفحل» .
فهذه الأموال والكنوز المستخفية في الخزائن أشبه بالثعابين الكامنة في
جحورها كأنها رصيد الأذى لأصحابها، بل إنها تتحول إلى حيات فعلاً تطارد
صاحبها لتقضم يده التي غلبها الشح ومنع حق المسلمين فيها.
والمسلم كريم يؤثر إخوانه على نفسه، ويقدم من كسبه الحلال الطيب إلى
إخوته الأتقياء، ولا يغدق أمواله بسخاء على غيرهم ولا يرضى أن يكون بقرة
حلوباً لسفلة القوم من الملحدين الطغام اتقاء شرهم [13] .
وهذا ما يصوره الحديث الشريف إذ يقول عليه الصلاة والسلام: «لا
تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي» [14] .
الجود والعطاء عند الرعيل الأول من هذه الأمة:
إن الجود والسخاء يتمثلان فيمن اصطفي الله من عباده كالنبيين والصديقين،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، ولذا
فقد انتقل إلى الرفيق الأعلى «وما ترك ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا وليداً،
وترك درعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير» [15] .
وقد حث رسول الله أصحابه على الإنفاق في سبيل الله ورغبهم في السخاء
فكانوا يصدرون عن طبع أصيل وسجية محبة للخير. قال تعالى: [لَن تَنَالُوا البِرَّ
حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] [آل عمران: 92] .
وكان بذل الصحابة مضرب الأمثال، فقد أخرج الشيخان عن أنس -رضي
الله عنه-: وقد تصدق أبو طلحة رضي الله عنه بعين بيرحاء وكانت مستقبلة
المسجد، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء
فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: [لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله، وذكر الآية ثم قال: إن أحب أموالي إليّ بيرحاء وإنها صدقة لله، أرجو برها
وذخرها عند الله، فضعها يارسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول
الله: «بخٍ! ذلك مال رابح! ذلك مال رابح» [16] .
ولما نزلت الآية الكريمة: [مَن ذَا الَذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً]
…
[البقرة: 245] قال أبو الدحداح رضي الله عنه: يارسول الله قد أقرضت ربي
…
حائطي، وفيه ستمائة نخلة، فجاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعيالها، فنادى يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي « [17] .
…
وكان الجود والسخاء من أبرز صفات المؤمنين طوال القرون واشتهر أجواد
في الإسلام أنسوا الناس ذكر حاتم الطائي وابن سعدى وكعبة بن مامة [18] وغيرهم
مثل أجواد الحجاز الثلاثة: عبيد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن
العاص [19] .
تنفير الإسلام من ظاهرة الشح:
حذر الإسلام من البخل لأنه يقطع الأواصر، ويحبط الأعمال، ولا يورث إلا
التباعد والتحاسد.
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
» اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم « [20] .
وقال تعالى: [ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] .
ظاهرة الشح في الحضارة الحديثة:
مما سبق يتبين لنا أن العربي كريم في جاهليته، جواد سخي في إسلامه،
على اختلاف الدوافع والنوايا، أما أدعياء الحضارة الحديثة فلا يفهمون هذه القيم،
إذ لا يهتم المفتون منهم بحضارة الإفرنج إلا لمصلحته الخاصة، فإذا هو يعاني
خواء روحياً وجفافاً عاطفياً، نتج عنهما شعور عميق بالحرمان من الصداقة
والأصدقاء المخلصين..
لقد غاب عن الأذهان في حضارة هذا القرن، الإيثار والتضحية بين الأهل
والجيران وذلك بسبب لوثة هذه المدنية الحديثة
…
فالأنانية طاغية، والتبرم سائد،
رغم كثرة الأموال، لكنه الهلع من شبح الفقر، والخوف على فوات الملذات.
إن النفس الشحيحة لن يصدر عنها خير، والنفس المجدبة لن تستطيع التأثير
والإفادة، ولو زعم صاحبها أنه من كبار الدعاة إلى الله.
الواجب على المربين أن يغرسوا خلق السخاء والكرم في نفوس الناشئة،
فالنفس التي تعود على البذل، ستكون بإذن الله نفساً خيرة معطاء، مجاهدة في
سبيل ربها، مرتفعة على شهوات الدنيا، وجواذب الأرض الهابطة. ستكون هذه
النفس مشاعل خير نيرة، تضىء الطريق أمام صحوة جادة على طريق الرعيل
الأول بإذن الله. والحمد لله رب العالمين.
(1) انظر: أدب الحنيفية: رسالة ماجستير، أم القرى، حبيب بن حنش الزهراني، ص 381 383.
(2)
رواه الإمام أحمد في مسنده: 2 / 381.
(3)
انظر رسالة المعتقدات والقيم في الشعر الجاهلي، رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى 1402 هـ، محمد الشيخ محمود صيام.
(4)
تاريخ العرب قبل الإسلام: د جواد علي 4 / 575.
(5)
ديوان حاتم: ط بيروت، ص 8.
(6)
المفضليات: رقم القصيدة (23) ، ص 125.
(7)
ديوان حاتم الطائي، ص 3 4، ط بيروت 63 9 1 م، ونسبها المبرد إلى قيس بن عاصم المنقري في كتابه الكامل.
(8)
انظر تفصيلاً لذلك في: الحياة العربية في الشعر الجاهلي، الموفي، ص311 - 232، والعقائد والقيم في الشعر الجاهلي، ص 309-328.
(9)
الأشباه والنظائر: 2 / 100.
(10)
الديوان: ص 101.
(11)
انظر: بلوغ الأرب للآلوسي: 1 / 91 - 92.
(12)
انظر: الحياة العربية من الشعر الجاهلي، ص 316 - 318، وبلوغ الأرب 1/6.
(13)
انظر شخصية المسلم: د محمد علي الهاشمي، ص 143-213.
(14)
رواه أبو داود والترمذي.
(15)
انظر حديث ابن عباس في مسند الإمام أحمد 1 / 300.
(16)
انظر: حياة الصحابة: 2 / 157.
(17)
انظر: المصدر السابق 2 / 62 1، وقال الهيثمي 9 / 4 32: رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات.
(18)
وكانا مضرب المثل في الجود، يقول جرير يمدح عمر بن عبد العزيز:
…
... فما كعب بن مامة وابن سعدى
…
بأوفى منك يا عمر الجوادا.
(19)
انظر بلوغ الأرب: 1 / 4 9 - 99.
(20)
رواه مسلم: 2578 كتاب البر والصلة.
من أدب الحوار
إنما أعظكم بواحدة
عبد العزيز بن ناصر السعد
تكلم الكاتب في الحلقة السابقة عن الأصل الأول: أن تقوموا الله. ويتابع هنا
عن الأصل الثاني: ثم تتفكروا..
الأصل الثاني: العلم:
ويدخل تحته التفصيلات التالية:
1-
الاتفاق:
على منهج الاستدلال والتلقي قبل البدء في نقاش أي مسألة علمية لأن النقاش
والمنهج مختلف سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة، وسوف لا يسلم أي طرف
لما عند الطرف الآخر من دليل أو استنباط، وحتى تتضح هذه المسالة أكثر نضرب
لذلك بعض الصور كما ذكرها الشاطبي في (الاعتصام، الباب الرابع) تحت عنوان: مآخذ أهل البدع في الاستدلال فذكر منها (باختصار) :
أ - أن من أهل البدع من منهجه الاستدلال بالأحاديث الضعيفة أو
الموضوعة أحياناً في العقائد والأحكام وهذا المأخذ مرفوض عند أهل السنة لأنهم لا
يرضون الاستدلال بالضعيف فضلاً عن الموضوع في باب العقائد والأحكام فإذا لم
يتفق مع الطرف المحاور على هذا المنهج فلن يفلح الحوار في أي نتيجة لأن الأدلة
التي سيشترك بها الطرف الآخر مرفوضة ابتداء من الطرف الثاني لعدم ثبوتها عنده.
ب - ومن أهل البدع من هو عكس الصورة السابقة حيث يرفض الاستدلال
بالأحاديث الصحيحة بحجة أنها آحاد ولا يقبل من ذلك إلا المتواتر، وهذا المنهج
مرفوض أيضاً عند أهل السنة حيث أن الدليل إذا ثبتت صحته أصبح صالحاً
للاستدلال ولو كان آحاداً، وبدون الاتفاق على هذا المنهج ابتداءً فلن يفلح الحوار
في أي نتيجة. إذن فمن الأولى في مثل هذه الحالات وقبل طرح الأدلة ودلالتها عن
المقصود لابد من الاتفاق على قبول الاستدلال بأحاديث الآحاد.
ج - كما أن هناك من أهل البدع من منهجه الاحتجاج بأقوال شيخه أو إمامه
والتعصب لها، ونبذ أي دليل يخالف ذلك بل إن بعض الملل المبتدعة من يرون أن
أقوال أئمتهم ومشايخهم هي التشريع بذاته وممكن أن يأخذ الحلال والحرام من
أقوالهم بل إن لهم نسخ الشريعة وتحليل الحرام أو تحريم الحلال فإذا لم يتفق على
خطاء هذا المنهج وأن ما جاء في الكتاب والسنة هو الأصل وكل ما خالفهما
مرفوض مهما كان قائله فإنه لا فائدة من النقاش.
د- ومن أهل البدع من يعتمد في استدلاله على الرؤى والمكاشفات فيصحح
بهما الضعيف ويضعف الصحيح ويحلل ويحرم ويشرع بهما ما لم يأذن به الله، فإذا
لم يتفق ابتداءً على ضلال وخطأ هذا الاستدلال فلن يفلح الحوار ولن تتحقق أهدافه
أبداً، وصور مآخذ أهل البدع في الاستدلال كثيرة من أراد التوسع فيها فليرجع إلى
الباب المذكور في الاعتصام فإنه مفيد جداً.
2-
مراعاة تفاوت الناس في عقولهم وثقافاتهم:
فالعلم بما عند الطرف الآخر من علم وثقافة يعين على اختيار الأسلوب
والمعلومات التي تناسب عقله وحصيلته العلمية، فتحديث الناس بما يعقلون أمر مهم
في الحوار لأن عدم مراعاة ذلك يحصل بسببه فتنة وتشويش للطرف الآخر ينعكس
أثره على إيجابية الحوار.
3-
البيان وحسن العرض:
إن قوة التعبير وفصاحة اللسان وحسن البيان والعرض من العوامل في إيضاح
الفكرة وأدلتها، ومما يكون له أكبر الأثر على قبول الطرف الآخر للفكرة، وإقناعه
بحسن الاستدلال عليها، وهنا يجب تجنب الألفاظ الغريبة صعبة الفهم أو الألفاظ
المجملة التي تحتمل عدة معان من غير توضيح للمعنى المراد منها.
4-
البدء بمواطن الاتفاق والنقاط المشتركة:
إن البدء بنقاط الاتفاق لدى الطرفين كالمسلمات والبديهيات وغيرها من الأمور
المتفق عليها كل ذلك يقلل الفجوة ويوثق الصلة بين الطرفين ويحس كل منهما أن
هوة الخلاف قليلة، وهذا له مردوده النفسي في الحوار وبالتالي فإن البدء بنقاط
الخلاف يوسع فجوة الخلاف ولو من الناحية النفسية ولذلك يحرص أن يلقى على
الطرف الآخر الأسئلة التي سيكون جوابها " بنعم " ويتجنب ما يكون جوابه النفي
لأن كلمة " لا " عقبة كؤد يصعب التراجع عنها، والأمثلة في القرآن الكريم كثيرة
فمثلاً في سورة المؤمنون يقول تعالى: [قُل لِّمَنِ الأَرْضُ ومَن فِيهَا إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ
* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ يُجِيرُ ولا يُجَارُ
عَلَيْهِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ] فهنا نجد أن الله -سبحانه
وتعالى- ألقى عليهم الأسئلة التي يعرف جوابهم عليها مسبقاً لكي يصل إلى تقرير
توحيد الألوهية لأن ما وافقوا عليه مستلزم لما أنكروه.
5-
التوثيق:
ينبغي أن تكون مسائل الحوار موثقة من الناحية العلمية والإسنادية فلا يستدل
بشيء إلا مسنداً لقائله ومصدره الذي أخذه منه وأن يستعان بذكر الإحصائيات التي
تخدم الفكرة والمراجع التي رجع إليها لأن ذكر الحقائق مدعمة بذكر المصادر
والإحصائيات الموثقة أعمق أثراً في النفوس من ذكرها مجردة، كما ينبغي في مثل
هذه الحالات الإعراض عن النقول الضعيفة والحجج الواهية.
6-
عدم تعرض أحد الطرفين لكلام الآخر ومناقشته قبل فهم مراده تماماً:
والتفكير العميق في أدلته ثبوتاً ودلالة وأن لا يقدم على تصحيح فكرة ما أو
تخطئتها قبل التأكد من ذلك تماماً.
7 -
الإحاطة بمواطن الخلاف:
في القضية المطروحة للحوار والإلمام بأنواع الاختلاف ما يجوز فيه وما لا
يجوز، لأن جهل هذا الأمر يوسع دائرة الاختلاف فيحصل الاختلاف والفرقة حول
مسألة قد يسع الخلاف فيها والاجتهاد، كما ينبغي الإلمام بأسباب الاختلاف بين
علماء الأمة والتي ذكرها شيخ الإسلام في رسالته القيمة " رفع الملام عن الأئمة
الأعلام ".
وفي هذه المناسبة ينبغي الإشارة إلى مسائل الخلاف، وأنواعها، وما هو
المحمود منها، وما هو المذموم، وما هي المسائل التي يسعها الخلاف، والمسائل
التي لا يسعها، إلى آخر ذلك مما يتعلق بموضوع الاختلاف، فنقول وبالله التوفيق. إن الاختلاف ينقسم إلى قسمين:
1 -
قسم يحمد فيه أحد الطرفين ويذم الطرف الآخر مثل الاختلاف الواقع بين
المؤمنين والكافرين، أو بين أهل السنة وأرباب البدع وهذا القسم الاختلاف فيه هو
المذكور في قوله تعالى: [ولَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ ومِنْهُم مَّن كَفَرَ] ، وكقوله
تعالى: [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ] . فكل ما يتصل بقضايا العقيدة
وأصولها والتي لم يختلف عليها سلف الأمة وإنما ظهر الاختلاف واستشرى بعدهم
فهو داخل تحت هذا القسم.
2 -
قسم يذم فيه الطرفان المختلفان إذا سبب هذا الاختلاف الفرقة والعداوة،
ويحمد فيه الطرف الذي لم يجعل هذا الاختلاف سبباً في الفرقة والمفاصلة، وهذا
النوع من الاختلاف هو الذي وسع السلف -رحمهم الله تعالى-، ولم يحصل بينهم
بسببه افتراق ولا بغضاء، فكل ما وسع السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- فيما
اختلفوا فيه فيجب أن يسعنا، ويندرج تحت هذا القسم عدة صور نجملها فيما يلي.
أ - اختلاف في تحديد موضوع الخلاف: وذلك بأن نجد أحد المختلفين قد
ذهب إلى موضوع من النزاع غير ما ذهب إليه الآخر فذاك سماه باصطلاح معين
والآخر سماه باسم آخر فظهر أن هناك اختلافاً والحقيقة غير ذلك فلو حددت
المصطلحات ودقق في المعاني والألفاظ لظهر أن هناك اتفاقاً وليس اختلافاً ، وهذا
الأمر لا يأتي إلا بالتفكير الهادئ مع الإخلاص لله عز وجل.
ب - قد يتضح بعد التفكير وتحديد موضع النزاع أن هناك اختلافاً لكن هذا
الاختلاف ليس اختلاف تضاد بمعنى أن المعنى الكلي ليس فيه خلاف إنما الخلاف
في تنوع آحاد هذا الكلي وتعدد الأمثلة التي تحته كمن يذهب إلى معنى جزئي وآخر
يذهب إلى معنى جزئي آخر يندرج كلاهما تحت المعنى العام الكلي، مثال ذلك
تفسير (الصراط المستقيم) في قوله تعالى [اهدنا الصراط المستقيم] فقائل بأنه
القرآن وآخر أنه الإسلام وآخر أنه الرسول صلى الله عليه وسلم فكل هذه
المعاني لا اختلاف بينها لأن مرادها واحد وكل قول داخل تحت الآخر.
ج - وهذه الصورة من الاختلاف الذي وسع السلف -رحمهم الله تعالى- بأن
يكون المعنيان متغايرين لكن ليس بينهما منافاة لأن هذا قول صحيح ورد فيه دليل
وذاك قول صحيح ورد فيه دليل أيضاً ولا يجوز أن يكون هذا سبباً في الاختلاف،
وهذا كثير في المنازعات لعدم معرفة أحد الطرفين بما عند الآخر من دليل، ومثال
ذلك الاختلاف في صفة الإقامة للصلاة فمن قائل بشفعها وقائل بإفرادها والاختلاف
في القراءات.. . الخ.
وكل ما ورد في الشريعة عليه دليل صحيح ووسع السلف الصالح فإنه لا
يجوز أن يكون سبباً في الاختلاف المؤدي إلى الفرقة والتباغض، وهذا بالطبع لا
يأتي إلا نتيجة التفكير والبحث وعدم التعجل في رد قول المخالف إلا بعد الاطلاع
على كل ما يتعلق بالموضوع من أدلة واستنباطات، فقد يتضح بعد البحث أن كلا
القولين ثابت وصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبذلك ينتهي الخلاف.
د - الخلاف حول قضية معينة ورد الدليل عليها وأورد المخالف دليلاً آخر
مخالفاً لها لكن أحد الدليلين أقوى من الآخر وأرجح، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يكون
سبباً في الفرقة لأن ما وسع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة
السلف ينبغي أن يسعنا، وهذا يقع في كثير من الأحكام التي اختلف فيها العلماء
وعندما يعلم أن هؤلاء الأئمة ما اختلفوا لهوى في نفوسهم بل وقف كل منهم مع ما
عنده من الدليل فربما وصل أحدهم ما لم يصل الآخر أو صح عنده ما لم يصح عند
غيره كما بين ذلك شيخ الإسلام في رسالته: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ولكن
مع ذلك فالواجب في هذه الحالة العمل بالدليل الراجح وترك المرجوح عند من تبين
له ذلك بوجه شرعي.
ولكن هذا لا يعني موافقة من يأخذ بالأقوال الشاذة أو بعض سقطات العلماء
والتي يكون الدليل على خلافها بل الواجب تصحيح المخالف وإرجاعه إلى الدليل
وتوضيح وجه الشذوذ فيما أخذ به لأن هناك من يقول (أي قضية لم يجمع عليها
الصحابة فالأمر فيها واسع) وهذا القول ليس صحيحاً على إطلاقه فقد ذكر الشيخ
عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله في رسالة له لم تطبع
بعد، كلاماً جيداً حول هذا الأمر ننقل منه المناسب لموضوعنا. يقول رحمه الله
تعالى-:
" وأما احتجاجه بقول النووي إن العلماء إنما ينكرون على من خالف ما أجمع
عليه وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب.
قال: وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم. انتهى ما حكاه، فيقال
في جوابه: أنت لم تستكمل عبارة النووي بل تصرفت فيها وأخذت ما تهوى
وتركت بقية العبارة لأنه عليك مع اتصالها وتقييد بعضها ببعض. قال النووي بعدما
تقدم: لكن إن أريد به على جهة النصيحة أي الخروج من الخلاف فهذا حسن
محبوب مندوب إلى فعله برفق فإن العلماء متفقون على الحث إلى الخروج من
الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بالسنة أو وقوع في خلاف آخر. هذا كلام النووي
فقد استبان لك أن مراده إذا لم يظهر دليل ولم يترجح جانب الأفكار بكتاب أو سنة
أو إجماع أو قياس جلي.. وأما أقوال الآحاد من العلماء فليست بحجة إذا لم يقترن
بها دليل شرعي ومازال العلماء يردون على من هو أجل منه " أ. هـ.
وبعد هذا التفصيل فيما يجوز الاختلاف فيه ومالا يجوز، نتوجه إلى جميع
المختلفين أن يقفوا وقفة مع نفوسهم، ويسأل كل واحد منهم نفسه أو صاحبه ومن
يخلص له النصح والتذكرة: أين نحن من أنواع الاختلاف، وأين نحن من البغي
والاعتداء في الخلاف، وأين نحن من أدب الخلاف وأخلاقه، وما كانت الأمة
لتفترق إلا بسبب البغي والحسد والجهل فلنقف مع موعظة الله عز وجل لنا ومع
ما جاءنا به القرآن الحكيم والذي جعله الله لنا هدى وشفاء ورحمة وموعظة: [قُلْ
بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] .
8-
أن يعطى كل طرف في الحوار راحته وحريته في التعبير عن فكرته
والاحاطة بها من جميع الوجوه لأن قطع الفكرة أو التشويش عليها يؤثر على تسلسل
الأفكار وترابطها واضطرابتها.
9-
لا أعلم:
وذلك بأن يكون عند أصحاب الحوار من الإخلاص والخوف من الله -عز
وجل- بأن يقول لا أعلم عند السؤال عن مسألة لا يعلمها أو لم يبحثها بحثاً كافياً،
وأن لا يستحي من ذلك وأن يطلب الإمهال حتى لقاء آخر ليأتي بالجواب عنها إن
وجد جواباً.
10 -
التفريق بين الفكرة وصاحبها:
وذلك بأن يتم تناول الفكرة المطروحة بالبحث والتحليل والنقد أو التزكية بعيداً
عن صاحبها حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية تناقش فيها تصرفات
الأشخاص ونواياهم ولكن في بعض الأحوال ينبغي تناول أصحاب الأفكار أنفسهم
بالجرح والتعديل حسب مقاييس أهل السنة وذلك عندما نخشى ضلالالتهم أو تأثر
الناس بأفكارهم ولكن كل ذلك يتم بإخلاص وإنصاف.
11 -
إقفال المناقشة:
عندما تتسع شقة الاختلاف أو يتضح أثناء النقاش أن هناك أموراً أساسية
برزت لم يتم التحضير لها أو لا يكفي الوقت لمناقشتها فيحسن في مثل هذه الأحوال
إقفال النقاش وتأجيله إلى وقت آخر يتم التحضير والاستعداد الجيد له، كما ينبغي
قفل النقاش عندما يتبين أن الطرف الآخر في الحوار غير جاد أو مستهتر أو كان
دون المستوى المطلوب للخوض في القضايا المعدة للحوار.
الأصل الثالث: ظروف الحوار والمتحاورين
وهذا هو الأصل الثالث الذي يراعى عند الحوار والمناظرة وقد أشارت الآية
الكريمة إلى جانب من ذلك عند قوله تعالى [مثنى وفرادى] وسنشير هنا -إن شاء
الله تعالى- إلى بعض الجوانب التي تتعلق بظروف الحوار لأن إلغاءها يؤثر كثيراً
على طبيعة الحوار ونتيجته، ومن هذه الجوانب ما يلي:
1 -
مراعاة الجو المحيط بالحوار:
ويقصد بالجو هنا الجو النفسي والمؤثرات المحيطة بالحوار وذلك كما في الآية
الكريمة حيث يوجه الله عز وجل طلاب الحق أن يبتعدوا عن الأجواء الجماعية
والغوغائية لأن الحق قد يضيع في مثل هذه الأجواء حيث التقليد الأعمى والتبعية
للأكثرية بينما لو قام الإنسان مع نفسه أو مع شخص آخر للتفكير حول قضية ما
فإنه أقرب إلى إصابة الحق منه في الاجتماعات الكبيرة وبقدر ما يقل المتحاورون
أو السامعون في الحوار بقدر ما ينقاد إلى الحق عند ظهوره.
2 -
مراعاة الجو الحسي للحوار:
وذلك من حيث البرودة والحرارة والاتساع والضيق.. الخ، لأن وجود ما
يؤذي في جو الحوار يؤثر على طبيعة النقاش وخسارة، وقد يبتر النقاش أو
يختصر دون وصول إلى نتيجة وذلك حتى يبتعد عن ما يؤذي في مكان الحوار
كذلك مما يتعلق بهذا الجانب اختيار المكان الهادئ وإتاحة الزمن الكافي للحوار فلا
تصلح أماكن الدراسة والعمل والأسواق للحوار أبداً وذلك لضيق الوقت ولوجود ما
يشغل.
3-
مراعاة الظرف النفسي والاجتماعي للطرف المحاوَر أو المحاوِر:
فلا يصلح أبداً أن يتم الحوار مع شخص يعاني من الإرهاق الجسدي لتعب أو
حاجة لنوم أو بسبب جوع أو يعاني من إرهاق نفسي كهم أو غم أو حزن لأن هذه
الظروف لابد أن تؤثر حتماً على الحوار إما بتره قبل تمامه أو حدوث انفعالات
وغضب وتوتر يؤدي بالحوار إلى الفشل الذريع.
4 -
أهمية المحادثة الأولى والتعارف الذي يسبق الحوار:
إن المحادثات الأولى والتعارف الأول على الطرف المحاور يساعد على
سهولة البدء في المناظرة وسيرها فيما بعد بالشكل المناسب، إذ من الصعب أن
يبتدأ مباشرة بالحوار مع أشخاص لم يتم أي تعارف ولو بسيط معهم. لأن في جلسة
التعارف هذه فائدة في التعرف على طبيعة الطرف الآخر ولو بشكل مبدئي من
خلال مظهره وحديثه ونبرات صوته وحصيلته العلمية مما يكون له الأثر في معرفة
الظروف النفسية والميولات الذهنية للشخص المحاور، وهذا بدوره يساعد في
طريقة وأسلوب الحوار مع الناس كل حسب ظروفه، ويمكن أن تتم جلسة التعارف
هذه على شكل دعوة غداء أو عشاء يتم فيه أحاديث غير رسمية عن الصحة والعمل
والأولاد وعن رأيه في الكتاب الفلاني وفي الفكرة الفلانية، وعن أي أمر عام ليس
له علاقة بموضوع الحوار. فهذه الطريقة على أي حال أفضل بكثير من أن يفاجأ
المرء بأشخاص لم يضع لهم في ذهنه أي تقدير لهم ولظروفهم فيؤدي إلى فشل
الحوار كأن يخبر على أن الشخص لطيف وسهل التعامل وحليم ويفاجأ بالعكس تماماَ.
5 -
أن يكون المتحاوران متقاربين ما أمكن في العلم والجاه وأن يتجنب
مناظرة ذي هيبة يخشى أن يستحي من مناظرته لئلا يؤثر ذلك على قوة الحجة
والجرأة على الإدلاء بها.
6 -
ينبغي اجتماع أصحاب الحوار في مكان واحد وتقابلهما فيه وأن ينظر
بعضهم للآخر لأن رؤية الوجوه والملامح له أثر في قوة الحجة أو ضعفها وفي هذه
الحالة لا تصلح المراسلات للحوار ولا يصلح كذلك الحوار بواسطة الهاتف.
7 -
مراعاة الآداب الإسلامية (القولي منها والعملي) ، والذي يكون له مردوده
النفسي على أطراف الحوار وسلامة قلوبهم وصفائها، والانقياد للحق عند ظهوره،
ومن هذه الآداب:
أ- احترام الطرف الآخر والتأدب معه وحفظ اللسان عما يسوءه من الألفاظ،
وعدم السخرية برأيه، وأن يثني عليه بما فيه، وفكرته من الإيجابيات والخير
الكثير.
ب - التلطف في العبارات أثناء الحوار، فبعض العبارات قد تفتح مغاليق
النفوس وهي يسيرة على من يسرها الله عليه من الكلمة الطيبة التي تقرب النفوس
وتزيل الجفوة وتهيء النفوس لاستقبال الحق، والأمثلة في ذلك كثيرة كمناداة
الطرف الآخر بكنيته وإذا كان أكبر سناً أو علماً بياأستاذي وشيخي.. اسمح لي..
عفواً.
ج -ابتسم في وجه محدثك وأطلق أسارير الوجه أثناء الحوار فهذا يضفي على
الحوار جو الألفة والأنس.
د - اجتنب الغضب ما أمكن ولو عارضك الطرف الآخر أو أغلظ القول لك،
واستخدم الرفق واللين.
هـ -تجنب اللوم المباشر عند وضوح خطأ الطرف الآخر فالنفس غالباً لا
تتحمل قول (أخطأت) أو (سأثبت لك أنك مخطئ) أو (أنا أخالفك في الرأي) فهذه
الألفاظ قد تجرح عند بعض الناس كبرياءه وشخصيته.
لكن عندما يبدو الخطأ فيمكن معالجته بمثل قولك: لكن أرى رأياً آخر قد
أكون مخطئاً فيه، أو لعلك تصلح لي خطأي. وإذا كان الخطأ يمكن إصلاحه
ببعض الإضافات فتقول: هل لك أن تفعل هذا أو ما رأيك في إضافة هذه العبارة..
أو ما المانع لو اتفقنا على هذا التعديل.. الخ.
8-
التحدي والإفحام: وهذا الأسلوب يلجأ إليه المماحكين الذين همهم الجدال
والاستهزاء وإثارة الشبه وتضليل الناس فمثل هؤلاء لا ينفع معهم اللين والرفق
وإنما الذي ينبغي في حقهم إفحامهم ومناظرتهم على الملأ الذين قد ضلل بسببهم
وذلك حتى تدحض حجتهم وتسقط هيبتهم من النفوس وتبين وهن فكرتهم
واضطرابها. لكن ينبغي لمن أراد مناظرتهم أن يكون على مستوى من العلم والذكاء
والشجاعة بحيث لا يؤتى من قبل قلة علمه أو سطحيته أو نحو ذلك.
9-
المحافظة على هدف الحوار والوصول إلى نتيجة:
تحديد هدف الحوار قبل الدخول فيه أمر مهم والمحافظة على الهدف أثناء
الحوار أيضاً أمر مهم لأن ذلك يحافظ على التركيز وعدم الخروج عن موضوع
الحوار بمناقشة جزئيات أو أمور جانبية بعيدة عن موضوع الحوار مما يكون له
الأثر في ضياع الوقت وعدم الوصول إلى نتيجة في آخر الأمر.
وبعد:
فهذه جملة في أصول الحوار وآدابه أعرضها على علاتها ونقصها لعلها تفتح
المجال لعلماء الأمة ودعاتها بأن يفصلوا الأمر حول هذا الموضوع ويكملوا ما نقص
منه، فالمسلمون في حاجة ماسة إلى استقصائه وإتمامه.
كما أسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الحديث القلوب المخلصة التي أدمتها
الخلافات وخيم اليأس على بعضهم، ولعل الأخوة الذين صاروا أعداء وهم أقرب
الناس بعضهم إلى بعض أن يقوموا لله عز وجل ويتفكروا مع أنفسهم أو مع
بعضهم البعض وأن يحفظ كل واحد منهم حق أخيه ويعلم وإن كان مخطئاً في شيء
فقد أصاب في أشياء أكثر مادام أنه من أهل السنة وأتباع السلف.
فيا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ويا محبي محمد - صلى الله عليه
وسلم - جردوا أنفسكم لله تعالى واقتدوا بسلف الأمة الذين كانوا حريصين على جمع
الكلمة وسلامة القلوب، وكان أبغض شئ لديهم الفرقة والاختلاف، فهذا عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه عندما قيل له: أن عثمان بن عفان أتمَّ بالمسلمين في منى
وكانت السنة القصر، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم لم يمنعه ذلك من أن يأتم
بعثمان ويتم الصلاة معه أربعاً، فلما قيل له في ذلك قال: إن الخلاف شر. فحري
بمن أحب السلف والتزم بمنهجهم أن يلتزم بمنهجهم الشامل في الاعتقاد والسلوك،
وما تم عرضه في هذا البحث يمثل إن شاء الله تعالى بعض آداب السلف الصالح
في حوارهم واختلافهم وهي بدورها الآداب التي هدانا الشرع إليها لنخرج من
الاختلاف الذي قدره الله تعالى على كل أمة، وأن لا نستسلم لهذا الاختلاف بل
ننازعه بقدر الله عز وجل وأسبابه الشرعية التي شرعها الله لنا والتي لا سبيل
للنجاة والخلوص من الشرور إلا بالرجوع إليها، ومن سلك سبيل الهدى وصدق مع
الله عز وجل في طلبه للجماعة والائتلاف يسر الله له سبيله وألف بينه وبين
إخوانه من الدعاة الصادقين، ومن سلك سبيل الضلال من الزيغ والفرقة والاختلاف
أضل الله سبيله وأزاغه عن الهدى [والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ
المُحْسِنِينَ] ، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.