الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
المعصية الفردية والمعصية الجماعية
المعصية الفردية يرتكبها صاحبها مستتراً، يتوارى من المجاهرة بها افتخاراً
وتحدياً لمشاعر الجماهير، وقد يرتكبها وهو معتقد أنها حرام، وأنه ينتهك بارتكابها
شرع الله، فيتوارى بفعلته تلك عن الأنظار ويصده الحياء عن تحدي المجتمع بذلك، وإذا ما لاحقه شؤم فعله فافتضح فإنه يذهب يلتمس المعاذير التي يعتذر بها عادة
المقصرون، وقد يتوب إلى الله فيتوب الله عليه، ويردف السيئة بالحسنات؛ فينسى
الناس ما كان بدر منه [ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحاً فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَاباً][الفرقان: 71] .
هذا النوع من المعاصي خطْبه سهل - مقارناً بالنوع الثاني وهو المعصية
الجماعية - فشؤمه وعواقبه الوخيمة تقتصر على مرتكبه، ودائرته الضيقة التي
يتحرك فيها.
أما المعصية الجماعية فلها شأن آخر، فهي من حيث التطبيق ينتظم فيها عدد
كثير يتواطؤون على فعلها ولا يزال هذا العدد يكبر ويكبر حتى يشمل المجتمع كله.
- ومن حيث صورتها يجاهَر بها على رؤوس الأشهاد، وقد يصبح فعلها
مجال فخر وخيلاء واعتزاز وتطاول على الآخرين، فقد تتخذها الجماعة أو الشعب
شعاراً وتعتقد أنه يجلب لها المجد والرفعة.
-ومن حيث أثرها السيئ، فإن نتيجتها لا تحيط بأهلها فقط بل بالمجتمع كله
مع وجود أناس قد يشمئزون من فعلها في ذلك المجتمع.
- إن أثر المعصية الجماعية مدمر ومخيف لاتساع المساحة التي يظهر فيها
شؤم هذا الأثر، فهي تعرض المجتمع الذي فشت فيه بأسره لغضب الله وانتقامه،
وتجعله فاقد المناعة، يهوي ويندثر عند تعرضه لأدنى هزة.
هذا مع أنه قد يعجب الناظر إليه، ويخدع الذي لا يتعمق في تفحص جوهره، فيحسبه سليماً متماسكاً، وهو المعلول الذي يعد الحكماء والأطباء - وما أقلهم -
له الأيام والساعات.
لقد قص الله عز وجل علينا في القرآن الكريم خبر كثير من الأمم التي
أهلكها بسبب المعاصي الجماعية، وذكر لنا جريمتهم التي استحقوا بها ذلك العقاب،
مثل قوم عاد:
[وتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وعَصَوْا رُسُلَهُ واتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ]
[هود: 59] .
ومثل قوم لوط:
[فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
مَّنضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ومَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] [هود: 82-83] .
ومثل قوم شعيب:
[ولَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وأَخَذَتِ الَذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا
بَعِدَتْ ثَمُودُ] [هود: 94-95] .
ثم يبين الله - تعالى - سنته المطردة في عقوبة المجتمعات التي تفشو فيها
المعاصي التى يتواطأ عليها المجتمع ويقرها أهله فيقول - عز من قائل -:
[وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ][هود: 102] ،
[ومَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ][هود: 117] .
صور للمعصية الجماعية:
بقي أن نزيد المعصية الجماعية تعريفاً وتحديداً ولا نكتفي بأمثلة من القرآن
الكريم، بل ننظر في واقعنا - نحن المسلمين - لنرى هل لأمثال هذه المعاصي
وجود؟
فنقول: المعصية الجماعية هى التى يقترفها جماعة من الناس (شعب، قبيلة، أهل مدينة، أو قرية،
…
) وتصبح شيئاً مألوفاً عندهم، وقد يفعلها الجيل بعد
الجيل منهم، ولو استنكرها عليهم أحد واجهوه بالإنكار عليه ومحاربته حرباً جماعية
أيضاً، لأنهم يرون فيه تهديداً لوحدتهم، بل لوجودهم أحياناً! وهكذا يصبح هذا
المنكر أمراً معروفاً ومطلوباً، وقد يصبح شعاراً لهم يُعرفون به، ويفتخرون به،
ويمتازون به عن غيرهم. ولو نظرنا في واقعنا اليوم لوجدنا كثيراً من هذه
المنكرات التى أصبحت قوانين ودساتير محمية بقوة السلاح وبسلطة الدولة. وأن
من يتجرأ على نقدها وبيان عيوبها وخطئها وخطرها يعرض نفسه لحرب شاملة
على كل صعيد: مادياً ومعنوياً. وليس المقصود بهذه المنكرات ما يتبادر إلى أذهان
الكثيرين لأول وهلة كالزنا وشرب الخمر مثلاً بل إن دائرة المنكرات دائرة واسعة
تشمل هذه وتشمل غيرها من المبتدعات التى فرقت المسلمين وأضعفت صفوفهم
وأذهبت ريحهم وجعلتهم طعمة لكل طامع، وضحكة لكل ساخر، ولعبة لكل عابث، كالنعرة القومية والقبلية والإقليمية، والجنسية، والحزبية، والمذهبية، والتعصب
لهذه الأصنام التى لا تقل خطراً عن الأصنام التي حطمها أبو الحنيفية (إبراهيم
الخليل) وحطمها من بعده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم فتح
مكة وهو يتلو: [وقُلْ جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً]
[الإسراء: 81] .
والعذاب والبأس الذي أنزله الله بمن يتعارفون ويتميزون بهذه المنكرات
ويفتخرون بها ويبذلون الأموال الطائلة في استنباتها وترسيخها بين الناس - قد
يكون من الكوارث والجوائح التي تجعلهم نكالاً لمن يأتي من بعدهم كما عذب
القرون السابقة، وقد يكون غير ذلك من البلاء والفتن التى تسلبهم نعمة الأمن
والاستقرار وتضربهم بالخوف والجوع والذلة والمسكنة كما قال - تعالى -: [قُلْ
هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً
ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ]
[الأنعام: 65] .
وفي الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه لما نزل قوله - تعالى
-[قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ] قال: «أعوذ بوجهك،
[أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] قال: أعوذ بوجهك، [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم
بَأْسَ بَعْضٍ] ، قال: هاتان أهون» .
وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله لن يستأصل هذه الأمة كما
استأصل الأمم السابقة، بل سيكون عقابه لها في الدنيا أن يلبسهم شيعاً ويذيق
بعضهم بأس بعض، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض
حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأن مُلك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وإني
أُعطيت الكنزين الأبيض والأحمر وإني سألت ربي عز وجل أن لا يهلك أمتي
بسَنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً فيهلكهم بعامة، وأن لا يلبسهم شيعاً ولا يذيق
بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد: إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني قد
أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سواهم
فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم
يسبي بعضاً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أخاف على أمتي إلا
الأئمة المضلين، فإذا وُضع السيف في أمتي لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة»
[ابن كثير: 2/141][1] .
والناظر في حال الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل إلى اليوم يرى محنتها
الرئيسية ليست المجاعات، ولا الفقر، ولا تسلط الأعداء عليها بل تسلط بعضهم
على بعض، وتفرق كلمتهم، والتيه الذي يعيشون فيه بسبب الدعوات الهدامة
المفرقة لأهدافهم، المشتتة لجهودهم.
فالمسلمون لم يؤتوا من ضيق ذات اليد، ولا من نقص في الموارد بل أُتُوا من
غفلتهم عما يسبب التفرق لهم من نكبات، ومن قصر النظر الذي يجعلهم يفضلون
الأدنى على الأبقى، ويضحون بالمصلحة العامة في سبيل المصلحة الخاصة، ومن
إخلالهم بتطبيق قاعدة الولاء والبراء، واضطرابهم في فهم الأولويات؛ فتراهم
يصرفون الجهود العظيمة على السنن والمندوبات ويهملون الفروض والواجبات
[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَاّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ][الأعراف: 96-99] .
(1) انظر مزيداً من الروايات في تفسير الآية رقم 65 من سورة الأنعام في تفسير ابن كثير.
الخصائص المميزة لمنهج أهل السنة والجماعة
-2-
هشام إسماعيل
الميزة الرابعة: عقيدة منصورة:
وهي التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تزال
طائفة من أمتى قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي
أمر الله، وهم ظاهرون على الناس» [1] .
وأهل السنة والجماعة - وإن مر عليهم زمن قل فيه وجودهم - إلا أنهم يبقون
ظاهرين على غيرهم بالسيف والسلطان، أو بالحجة والبيان، أو بهما معاً،
وظاهرين أي أنهم مشهورون غير مستترين [2] .
وهم منصورون بدلالة هذا الحديث، وبدلالة قوله - تعالى -: [إنَّا لَنَنصُرُ
رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] [غافر: 51] .
ومن عجيب نصر الله عز وجل لأهل السنة ما ذكره شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله بقوله: (وقد تبين لك أن الطوائف التي في كلامها ما يعارضون به كلام الشارع من العقليات - سواء عارضوا به في الظاهر أو الباطن
- كل منهم يقول جمهور العقلاء: إن عقلياته تلك باطلة ويبينون فساد عقلياته
بالعقليات الصحيحة الصريحة التي لا يمكن ردها) [3] .
وهذا من نصر الله عز وجل لأهل السنة في الحياة الدنيا، وأما في
الآخرة ففي عدة مواطن، منها ما قاله ابن عباس رضي الله عنه في قوله -
تعالى -: [يَوْمَ تَبْيَضُّ وجُوهٌ وتَسْوَدُّ وجُوهٌ][آل عمران: 106]، قال: تبيض
وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة [4] .
وكونها عقيدة منصورة يدل على أنها ثابتة لا تتبدل ولا تتغير على مر
العصور والأزمان، وثباتها ناشئ من ثبات مصدرها، بينما نجد أن الفرق الأخرى
إما أن يحدث تطور في معتقداتها كما في المرجئة والخوارج وغيرهم، وإما أن
تنقرض ولا يبقى لها أثر إلا في بطون الكتب، ككثير من فرق الخوارج وغيرهم.
الميزة الخامسة: عقيدة وسط (الوسطية) :
قال الله سبحانه وتعالى: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] قال ابن جرير - رحمه
الله تعالى -: (وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسُّطهم في
الدين، فلا غلو فيه، غلو أهل النصارى الذين غلوا بالترهب وقِيلهم في عيسى ما
قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا
أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه،
فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها) [5] .
والله عز وجل (جعل هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين، وسطاً في
الأنبياء، بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفا منهم كاليهود، بأن آمنوا بهم، كلٌّ على الوجه اللائق بذلك.
ووسطاً في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى،
وفي باب الطهارة، والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بِيعهم
وكنائسهم ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وحرمت عليهم الطيبات عقوبة لهم،
ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئاً، ولا يحرمون شيئاً، بل أباحوا ما دب ودرج، بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح لهم الطيبات من المطاعم والمشارب
والملابس والمناكح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها،
ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا
أمة وسطاً، كاملين معتدلين، ليكونوا شهداء على الناس بسبب عدالتهم وحكمهم
بالقسط، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم) [6] .
وكذلك هذه الأمة أمة وسط في التصور والاعتقاد
…
أمة وسطاً في التفكير
والشعور، لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة، ولا تتبع -
كذلك - كل ناعق.. إنما تتمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر
في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارهم الدائم: (الحقيقة ضالة المؤمن أنَّى وجدها
أخذها في تثبت ويقين) .
أمة وسط في التنظيم والتنسيق
…
لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر،
ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب، إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب،
وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب، وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس
إلى سوط السلطان، ولا تكلهم - كذلك - إلى وحي الوجدان، ولكن مزاج من هذا
وذاك [7] . قال ابن تيمية: (وكذلك أهل السنة في الإسلام متوسطون في جميع
الأمور فهم في (عليّ) وسط بين الخوارج والروافض، وكذلك في عثمان وسط بين المروانية وبين الزيدية، وكذلك في سائر الصحابة وسط بين الغلاة فيهم والطاعنين عليهم، وهم في الوعيد وسط بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة، وهم في القَدَر وسط بين القدرية من المعتزلة ونحوهم، وبين القدرية المجبرة من الجهمية ونحوهم، وهم في المعتزلة وسط بين المعطلة وبين الممثّلة.
والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار رسول الله -
صلى الله عليه وسلم فلا ينفردون عن سائر طوائف الأمة إلا بقول فاسد، لا
ينفردون قط بقول صحيح، وكل من كان عن السنة أبعد كان انفراده بالأقوال
والأفعال الباطلة أكثر) [8] .
الميزة السادسة: عقيدة عادلة:
يقول الله عز وجل: [إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ وإيتَاءِ ذِي القُرْبَى
ويَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] [النحل: 90] ، ويقول
سبحانه وتعالى: [ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [المائدة: 8] .
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: (يعني بذلك - جل ثناؤه -: يا أيها
الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل
في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم، وأفعالكم، فتجاوزوا ما حددت لكم
في أعدائكم لعداوتهم لكم ولا تقصروا في ما حددت لكم من أحكامي وحدودي في
أوليائكم لولايتهم لكم، انتهوا في جميعهم إلى حدي، واعملوا فيه بأمري) [9] .
ويقول العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: [ولا يجرمنكم] أي لا يحملنكم [شنآن قوم] : أي بغضهم [على ألا تعدلوا] كما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط بل كما تشهدون لوليكم فاشهدوا، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، فلو كان كافراً أو مبتدعاً فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لا لأنه قاله ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق [10] .
من عدل أهل السنة أنه وجد من العلماء من كان له قدم خير وسبق في نشر
الإسلام والدفاع عنه، ويكون قد وقعت منه أخطاء عقَدية اجتهاداً منه في طلب حق
لم يوفق له، فأمثال هؤلاء العلماء ينبغي أن يسلك فيهم مسلك الوسط، فلا إفراط في
مدحهم ولا تفريط في ذمهم، بل ينبغى أن يقال فيهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله عن بعضهم: (قلت أبو ذر - الهروي - فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به. وكان قد قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم كأبي نصر السجزي، وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين، بما ليس هذا موضعه
…
ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة،
وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة
والدين ما لا يخفى عليه من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل
وإنصاف
…
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع من أهل العلم والدين، والله
- تعالى - يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] [الحشر: 10] .
ولا ريب أن مَن اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول - صلى الله
عليه وسلم- وأخطأ في بعض ذلك؛ فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي
استجاب الله لنبيه وللمؤمنين، حيث قالوا:[رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا]
[البقرة: 286] .
ومن اتبع ظنه وهواه، فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه
صواباً بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك في
المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس
الرسالة، الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك
والارتياب) [11] .
وما ذكره ابن تيمية يبين عدل أهل السنة، ويبين كذلك منهجهم مع من أخطأ
أو ضل في بعض مسائل الدين. وممن اتخذ هذا المنهج العدل في نقد الآخرين -
سواء كانوا موافقين له أو مخالفين - الحافظ الذهبي رحمه الله وذلك في ترجمته
لكثير من العلماء، حيث يصف كل من ترجم له بعلم وعدل وإنصاف - نحسبه
كذلك ولا نزكي على الله أحداً [12] .
كما يتجلى عدل أهل السنة والجماعة في كتب الجرح والتعديل، حيث إنهم
يذكرون أن فلاناً صدوق، وإن كان من أهل البدع، وأن فلاناً ضعيف سيئ الحفظ
وإن كان من أهل السنة.
وانظر على سبيل المثال ما قاله العلماء في عبد الله بن لهيعة، وهو من
محدثي أهل السنة والجماعة:
قال عنه ابن حجر في التقريب (3563) : صدوق خلط بعد احتراق كتبه.
وقال عن عمران بن حطان الخارجي: صدوق. إلا أنه كان على مذهب
الخوارج. كما في التقريب (5152) .
فانظر إلى اختلاف ما بين الرجلين في المعتقد، وإلى وصف كل منهما بأنه
صدوق، فكون ابن لهيعة من أهل السنة لم يكن دافعاً لعلماء الجرح بأن يوثقوه،
كما لم تكن بدعة عمران بن حطان سبباً في تضعيفه، بل وصفوا كلاً منهما بما
يستحق من جهة حفظه وضبطه، وذكر ما فيهما من بدعة أو سنة، والأمثلة في
غيرهما كثيرة.
وفي المقابل إذا نظرنا إلى ما كتبه بعض أهل البدع - كالكوثري في كتابه (تأنيب الخطيب) - فهو لم يؤنب الخطيب البغدادي فقط، بل جرح كثيراً من ثقات
علماء أهل السنة، بل حتى بعض الصحابة لم يسلموا منه، كأنس بن مالك -
رضي الله عنه وأرضاه -[13] .
وفي الوقت نفسه قام بتوثيق كثير من ضعفاء أهل الأهواء والبدع [14] ومن
هنا يتضح لنا عدل أهل السنة والجماعة، وجور أهل البدعة والضلالة.
الميزة السابعة: عقيدة سهلة ميسرة:
فهي - كما قلنا - عقيدة ربانية المصدر، تعتمد على الكتاب والسنة، والله -
عز وجل يقول عن كتابه في كتابه: [ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ]
[القمر: 17] ويقول سبحانه وتعالى عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم:
[وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ][النحل: 44] ،
وكل مَن يطلع على الأدلة من الكتاب والسنة أو من كلام السلف الصالح على أمور
الإسلام عامة، ومسائل العقيدة خاصة - يجدها ميسرة سهلة لا غموض فيها ولا
لبس ولا تكلف، ومما يدل على ذلك أن وقت نزول القرآن، ووقت تحدث النبي -
صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه في مجالسه العامة، كان يوجد العالم والجاهل،
وسريع الفهم وبطيئه، بل كان يحضرها الصغار والأعراب، الذين يأتون من
البادية لبعض حوائجهم، وكلهم كان يسمع الآيات القرآنية التى تنزل على الرسول
صلى الله عليه وسلم، والأحاديث النبوية وهو يقولها لأصحابه - رضوان الله
عليهم - ثم لا يَشُكل عليهم فهمها إلا ما ندر.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله:
(إن التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها، ليسعه الدخول تحت
…
حكمها) [15] .
ثم يقول عن الأمور العقدية بأنها:
(تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور،
مَن كان منهم ثاقب الفهم أو بليداً، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص، لم تكن
الشريعة عامة، وقد ثبت كونها كذلك، فلابد أن تكون المعاني المطلوب علمها
واعتقادها سهلة المآخذ) [16] .
وأما عقائد أهل البدع والضلال، فهي جافة غامضة، صعبة الفهم، فهم
يعتمدون على علم المنطق، وعلم الكلام، وفلسفة الوثنيين، أي أنهم يعتمدون على
العقل البشري المجرد عن الوحي الإلهي والنور الرباني.
بل شهد مَن رجع إلى الحق منهم، أنهم كانوا في ضلال وحيرة عظيمة، لا
تماثلها حيرة، وأنهم كانوا في شك من دينهم، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله .
وأما أهل السنة والجماعة فهم - والحمد لله - في عافية من الشك والارتياب،
ومن الحيرة والضلال الذي وقع فيه أهل البدع ببدعهم. ونجا منه أهل السنة باتباع
سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين.
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/101، والحديث مخرَّج في الكتب الستة إلا النسائي، وانظر الألفاظ الصحيحة في صحيح الجامع من رقم (7287) إلى (7296) .
(2)
انظر: فتح الباري 13/407.
(3)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (10/317-318) .
(4)
تفسير ابن كثير (2/391) .
(5)
تفسير ابن جرير الطبري، 3/142.
(6)
تفسير السعدي، 1/158.
(7)
في ظلال القرآن، 1/131 باختصار.
(8)
انظر: منهاج السنة النبوية 5، /168-173.
(9)
جامع البيان للطبري، 10/95.
(10)
انظر: تفسير السعدي، 2/259.
(11)
انظر: درء تعارض العقل والنقل، 2/101-103.
(12)
انظر على سبيل المثال " سير أعلام النبلاء "، 7/361، 11/526، 14/183، 14/220 وغيرها من المواطن.
(13)
الطليعة للعلاّمة المعلمي، 65.
(14)
انظر: كتاب التنكيل (قسم التراجم) ، 1/84 وما بعدها.
(15)
الموافقات، 2/88.
(16)
الموافقات، 2/88.