المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشرك الأصغر تعريفه وأنواعه - مجلة البيان - جـ ٣٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌الشرك الأصغر تعريفه وأنواعه

عقيدة

‌الشرك الأصغر تعريفه وأنواعه

عبد العزيز بن محمد عبد اللطيف

إن الشرك بالله تعالى أعظم ذنب عصي الله به، كما قال جل وعلا:

[إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ][لقمان 13] .

ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم «عن أي الذنب أعظم؟ قال:

أن تجعل لله نداً وهو خلقك» رواه البخاري ومسلم.

ولذا فإن الشرك وحده لا يغفره الله تعالى [إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ]

[النساء 48] ، ومن ثم فهو محبط للأعمال الصالحة [ولَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا

كَانُوا يَعْمَلُونَ] [الأنعام 88] .

ويقسم العلماء الشرك إلى قسمين، أحدهما شرك أكبر، وهو أن يصرف العبد

نوعاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى.

والآخر هو الشرك الأصغر، وهو موضوع هذه المقالة، وهذا الشرك من

الموضوعات المهمة التي تحتاج إلى دراسة وافية، نظراً لخطورته وشدة وعيده،

حيث خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحابته - أكمل الأمة إيماناً -

رضي الله عنهم ولكثرة من وقع فيه من المسلمين، فلا يكاد أحد ينجو منه إلا من

عصم الله، وأرجو من الله تعالى التوفيق في عرض هذا الموضوع المهم الخطير

للأخوة القراء، وهو جهد مقل سعى في جمع كلام أهل العلم في هذا الموضوع من

خلال العناصر التالية:

أولاً- تعريفه:

يمكن أن نعرف الشرك الأصغر بأنه هو: (ما أتى في النصوص أنه شرك،

ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر) [1] .

وهناك دلالات معينة يمكن اعتبارها ضوابط في تبيين الشرك الأصغر من

الأكبر، منها: صريح النص عليه، كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف

ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» رواه أحمد.

ومن الدلالات على الشرك الأصغر أن يأتي منكراً غير معرف، فإن جاء

معرفاً بـ (الـ) دل على أن المقصود به الشرك المخرج من الملة [2] ، ومن ذلك

قوله صلى الله عليه وسلم «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» رواه أحمد وأبو

داود.

ومن الدلالات أيضاً على الشرك الأصغر ما فهمه الصحابة من النص،

فالصحابة أعلم الأمة بمعاني نصوص الكتاب والسنة، ومثاله حديث «الطيرة

شرك، وما منا إلا، ولكنَّ الله يذهبه بالتوكل» رواه أحمد والترمذي.

فإن آخر الحديث على الصحيح هو من قول ابن مسعود رضي الله عنه،

ومعناه: وما منا إلا ويقع له شيء من التطير.

ومن ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «من حلف بغير الله فقد

أشرك» رواه الترمذي وحسنه، فقد فسر ابن عباس رضي الله عنه أن الحلف

بغير الله من الشرك الخفي والذي يعتبر شركاً أصغر.. فقد قال ابن عباس عن قوله

تعالى: [فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ][البقرة 22] ، «الأنداد هو الشرك

أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله،

وحياتك يافلان، وحياتي..» رواه ابن أبي حاتم.

والشرك الخفي يعتبر شركاً أصغر، حيث فسر الرسول -صلى الله عليه

وسلم- الشرك الخفي بالرياء، والذي يعد شركاً أصغر، وإليك الدليل عن أبي سعيد

الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من

المسيح الدجال؟ قالوا: بلى! قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين

صلاته لما يرى من نظر الرجل» رواه أحمد.

وعن شداد بن أوس قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- الشرك الأصغر «رواه الحكم وصححه [3] .

ومن هذه الدلالات أن يفسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الشرك الذي

جاء في نص بما يوضح أن المراد به ما دون الشرك الأكبر، ومن ذلك حديث

معاوية الليثي مرفوعاً:» يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقاً من رزقه،

فيصبحون مشركين؛ يقولون: مطرنا بنوء كذا «رواه أحمد. فالمراد بهذا الشرك

هو كفر النعمة ضد الشكر، وهو من الكفر الأصغر (العملي) ، لما أخرجه الشيخان

من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء (أي مطر) كانت من الليل، فلما

انصرف أقبل على الناس، فقال:» هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله

ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا

بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا

وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب «. وفي رواية لمسلم عن ابن عباس مرفوعاً:» أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد

صدق نوء كذا وكذا «.

ومن الشرك الأصغر ما يكون شركاً بحسب قائله ومقصده [4] ، فمثلاً الحلف

بغير الله تعالى - في حد ذاته - من الشرك الأصغر (شرك الألفاظ) ، لكن إن قصد

قائله تعظيم غير الله تعالى كتعظيم الله تعالى مثلاً، فهذا شرك أكبر.

ولا أنسى أن أشير إلى أن الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله قد

عرف الشرك الأصغر بما يلي:» كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك

الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة « [5] . ويبدو لي

والله أعلم أن الحد السابق للشرك الأصغر أكثر دقة وانضباطاً من هذا الحد الذي لا

يمكن تمييزه وحصره.

ثانيا: الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر:

إن الشرك الأكبر محكوم على صاحبه بالخروج من الإسلام في الدنيا،

والتخليد في النار، وتحريم الجنة في الآخرة، وأما الشرك الأصغر فهو بخلاف ذلك، فلا يحكم على صاحبه بالكفر ولا الخروج من الإسلام، ولا يخلد في النار.

كما أن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال، بينما الأصغر يحبط العمل الذي

قارنه.

وتبقى مسألة - هي محل خلاف - وهي هل الشرك الأصغر لا يغفر إلا

بالتوبة كالأكبر أم هو مثل الكبائر تحت المشيئة الإلهية؟

هناك من العلماء من قال: إن الشرك الأصغر لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة

لعموم الآية: [إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ] ، لكن يدخل تحت الموازنة بخلاف

الأكبر الذي يحبط كل الأعمال كما سبق، فإن حصل معه حسنات راجحة على

ذنوبه دخل الجنة وإلا دخل النار [6] .

وكأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يميل إلى ذلك حيث يقول مثلاً:

» وأعظم الذنوب عند الله الشرك به وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما

دون ذلك لمن يشاء، والشرك من جليل ودقيق، وخفي وجلي « [7] .

ويقول بعبارة أصرح من السابقة:» وقد يقال: الشرك لا يغفر منه شيء لا

أكبر ولا أصغر على مقتضى القرآن، وإن كان صاحب الشرك [أي الأصغر] يموت

مسلماً، لكن شركه لا يغفر له بل يعاقب عليه، وإن دخل بعد ذلك الجنة « [8] .

لكن يفهم من عبارات ابن القيم أن الشرك الأصغر تحت المشيئة، حيث يقول

رحمه الله:» فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة ونجاسة مخففة،

فالمغلظة الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، والمخففة

الشرك الأصغر كيسير الرياء « [9] .

ومرة يقول:» الشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه [10] «إلى أن

يقول:» وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للمخلوق [11] «

وقد ذكر العلامة السعدي كلاماً مهماً في هذه المسألة، أنقل بعضه:» من

لحظ إلى عموم الآية [يعني قوله تعالى:] إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [] ، وأنه

لم يخص شركاً دون شرك، أدخل فيها الشرك الأصغر، وقال: إنه لا يغفر، بل

لا بد أن يعذب صاحبه؛ لأن من لم يغفر له لا بد أن يعاقب، ولكن القائلين بهذا لا

يحكمون بكفره ولا بخلوده في النار، وإنما يقولون: يعذب عذاباً بقدر شركه، ثم

بعد ذلك مآله إلى الجنة. وأما من قال: إن الشرك الأصغر لا يدخل في الشرك

المذكور في هذه الآية، وإنما هو تحت المشيئة، فإنهم يحتجون بقوله تعالى: [إنَّهُ

مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ومَأْوَاهُ النَّارُ] [المائدة 72]، فيقولون: كما

أنه بإجماع الأئمة أن الشرك الأصغر لا يدخل في تلك الآ ية، وكذلك لا يدخل في

قوله تعالى: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ][الزمر 165] ؛ لأن العمل هنا مفرد

مضاف ويشمل الأعمال كلها، ولا يحبط الأعمال الصالحة كلها إلا الشرك الأكبر.

ويؤيد قولهم أن الموازنة واقعة بين الحسنات والسيئات التي هي دون الشرك

الأكبر؛ لأن الشرك الأكبر لا موازنة بينه وبين غيره؛ فإنه لا يبقى معه عمل

ينفع « [12] .

ثالثاً: أمثلة الشرك الأصغر وصوره:

الشرك الأصغر قد يكون ظاهراً جلياً، وربما كان خفياً دقيقاً، كما أنه يكون

في الإرادات والنيات، ويكون في الأقوال والأفعال.

- فمن أمثلة هذا الشرك: التطير: وهو التشاؤم بالطيور، والأسماء،

والألفاظ، والبقاع وغيرها، فنهى الشارع عن التطير وذم المتطيرين، قال تعالى:

[أَلا إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ][الأعراف: 131] .

وقال صلى الله عليه وسلم:» لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر «،

وعن ابن مسعود مرفوعاً:» الطيرة شرك «رواه أبو داود والترمذي.

إن التطير سوء ظن بالله تعالى، وتعلق بأسباب موهومة.. ومن ثم فإن

التشاؤم إنما هو في نفس الشخص المتشائم لا في الشيء المتشائم منه، فوهمه

وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه، ولذا لما قال معاوية بن

الحكم السلمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ومنا أناس يتطيرون. فقال:

» ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم «رواه مسلم. لقد كان رسول الله -

صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ويكره الطيرة، لأن الفأل الحسن إنما هو حسن

ظن بالله تعالى، ودون تعلق للقلب بغير الله، بل فيه من المصلحة والسرور وتقوية

النفوس، وموافقة الفطرة إلى ما يلائمها.

وقد جاءت الأحاديث في بيان علاج ذلك منها:» من ردته الطيرة عن حاجته

فقد أشرك، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا

طير إلا طيرك، ولا إله غيرك «رواه أحمد.

ولأبي داود عن عقبة بن عامر قال:» ذكرت الطيرة عند رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- فقال: «أحسنها الفأل ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره

فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا

قوة إلا بك» .

إن هؤلاء المتشائمين والواقعين في شَرَك هذا الشرك الأصغر إنما هو لظنهم

أن التطير سبب في حصول نفع أو دفع ضر، ومن ثم فإنه يتعين على المكلف أن

يعرف في الأسباب ثلاثة أمور:

أحدها: أن لا يجعل منها سبباً إلا ما ثبت أنه سبب شرعاً أو قدراً، والطيرة

ليست كذلك، فالشارع نهى عنه، وأما القدر فإن التطير ليس سبباً مادياً معهوداً في

حصول المقصود، ومن ثم فلا بد من إبطال التطير وإلغائه.

ثانياً: أن لا يعتمد العبد عليها بل يعتمد على مسببها ومقدرها مع قيامه

بالمشروع منها وحرصه على المنافع منها.

ثالثاً: أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله

وقدره ولا خروج لها عنه [13] .

ومن أمثلة هذا الشرك، شرك الألفاظ، ومنه الحلف بغير الله لما جاء في

الأحاديث الكثيرة من التحذير من ذلك، ووصفه بأنه شرك، ومنه قوله - صلى الله

عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» رواه أحمد وأبو داود.

وكذلك حديث ابن عمر مرفوعاً: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان

حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» أخرجاه، وعن بريدة مرفوعاً: «من حلف

بالأمانة فليس منا» رواه أبو داود، وقد جاءت كفارة ذلك من حديث أبي هريرة

مرفوعاً: «من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله» رواه البخاري ومسلم.

ومن شرك الألفاظ ما ورد عن ابن عباس في قوله تعالى: [فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ

أَندَاداً] [البقرة 22]، حيث قال رضي الله عنه: الأنداد هو الشرك أخفى من

دبيب النمل على صخرة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك

يافلان، وحياتي، وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار

لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا

الله وفلان، لا تجعل فيها «فلان» هذا كله شرك. رواه ابن أبي حاتم.

ومن الشرك الأصغر: الشرك الخفي: وهو الشرك في الإرادات والنيات،

ورحم الله ابن القيم عندما يقول عن هذا الشرك: «فذلك البحر الذي لا ساحل له،

وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، ونوى شيئاً غير التقرب إليه

وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته» .

ومن هذا الشرك: يسير الرياء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن يسير

الرياء شرك» رواه ابن ماجه وأما الرياء المحض فهذا من النفاق الأكبر المخرج

من الملة، كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم. وقد سمى

رسول الله صلى الله عليه وسلم الرياء شركاً خفياً، وسماه شرك السرائر، فعن

أبي سعيد مرفوعاً: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟

قالوا: بلى. قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من

نظر الرجل» رواه أحمد.

وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: خرج النبي -صلى الله عليه

وسلم- فقال: «يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الرجل

إليه، فذلك شرك السرائر» رواه ابن خزيمة.

إن الرياء داء عضال، وآفة عظيمة تحتاج إلى علاج شديد وتمرين النفس

على الإخلاص ومجاهدتها في مدافعة خواطر الرياء والاستعانة بالله على

دفعها [14] .

وكما قال الطيبي عن الرياء: «هو من أضر غوائل النفس، وبواطن

مكائدها، يبتلى به العلماء والعباد، والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة، فإنهم مهما قهروا نفوسهم وفطموها عن الشهوات، وصانوها عن الشبهات عجزت

نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة، الواقعة على الجوارح، فطلبت

الاستراحة إلى التظاهر بالخير وإظهار العلم والعمل، فوجدت مخلصاً من مشقه

المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق، ولم تقنع باطلاع الخالق تبارك وتعالى،

وفرحت بحمد الناس، ولم تقنع بحمده الله وحده، فأحبت مدحهم، وتبركهم

بمشاهدته وخدمته وإكرامه وتقديمه في المحافل، فأصابت النفس في ذلك أعظم

اللذات، وأعظم الشهوات، وهو يظن أن حياته بالله تعالى وبعبادته، وإنما حياته

هذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافذة، قد أثبت اسمه عند الله من

المنافقين، وهو يظن أنه عند الله من عباده المقربين، وهذه مكيدة للنفس لا يسلم

منها إلا الصديقون، ولذلك قيل:» آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب

الرياسة «.

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:» فمن خلصت نيته في الحق ولو

على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله [15] «.

وقد أرشد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى علاج لهذا الشرك، فقد جاء

في حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذات يوم فقال:» أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، فقيل

له: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا اللهم إنا

نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه «رواه أحمد [16] .

(1) انظر حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على كتاب التوحيد ص 50.

(2)

انظر اقتضاء الصراط المستقيم 1/208.

(3)

أكثر هذه الدلالات استفدتها مما كتبه الشيخ عايض القرني في رسالته الماجستير: ضوابط التكفير عند أهل السنة - جامعة أم القرى بمكة - ص 257-258، وكتاب حد الإسلام وحقيقة الإيمان لعبد المجيد الشاذلي ص 183.

(4)

انظر مدارج السالكين 1/344.

(5)

القول السديد في مقاصد التوحيد ص 43، انظر كتابه سؤال وجواب في أهم المهمات ص 18.

(6)

انظر حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد ص 50-1هـ، وانظر الدين الخالص لمحمد صديق 1/388، وقد أشار الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد باب من الشرك لبس الحلقة إلى أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.

(7)

جامع الرسائل 2/254.

(8)

الرد على البكري (تلخيص كتاب الاستغاثة) ص 146، وانظر رسالة البيان الأظهر لعبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين ص10، وانظر تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص 98.

(9)

إغاثة اللهفان 1/98، وانظر الجواب الكافي ص 177.

(10)

مدارج السالكين 1/339.

(11)

المرجع السابق 1/341.

(12)

عن كتاب الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العناد، حيث نقل هذا الكلام عن فتوى بعثها السعدي للشيخ عبد الرحمن الحصين سنة 1374هـ ص 188، 189.

(13)

انظر الفتاوى لشيخ الإسلام 1/137، والقول السديد للسعدي ص 33- 34.

(14)

انظر الرياء وأحكامه وعلاجه في الإحياء للغزالي، وكتاب مقاصد المكلفين للدكتور عمر الأشقر.

(15)

انظر تعليق ابن القيم على هذه العبارة في إعلام الموقعين 2/178.

(16)

هذا المبحث - أعني صور الشرك الأصغر وأمثلته - مأخوذ في غالبه من كتاب تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وانظر تفسير ابن كثير 2/475، عند قوله تعالى:[ومَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلَاّ وهُم مُّشْرِكُونَ][يوسف 106] .

ص: 38

نحن والغرب

لمحات في طرق نقل التقنية

والتخلف التقني في العالم الإسلامي

د. عبد الله بن صالح الضويان

إن المتأمل في أحوال الدول يجد أن القرار بيد تلك الدول القوية عسكرياً

والتي وصلت إلى مستوى متقدم من حيث امتلاك التكنولوجيا. وعلى النقيض تجد

أن الدول المتخلفة (والمسماة مجاملة بالنامية) ، وفي مقدمتها الدول الإسلامية لا تملك

أي قدرة على اتخاذ القرار فيما يتعلق بالأحداث الدولية، بل فيما يتعلق بأوضاعها

الداخلية، ولا ريب أن السنن الربانية اقتضت أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا

ما بأنفسهم، وعملية التغيير النفسي هذه تشمل التغيير في شتى المجالات، فنرى أن

العالم الإسلامي متخلف سياسياً، واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، سواء على مستوى

الأفراد أو المؤسسات أو الحكومات. ولا شك أيضاً أن عملية التغيير الشاملة هذه لا

بد أن تكون ضمن إطار متكامل ومتزن ثابت في جوانب، متطور في جوانب

أخرى، ذلكم هو المنهج الإسلامي الصافي من الخرافات والبدع الملائم لكل زمان

ومكان.

قال تعالى: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي

الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم

مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ

الفَاسِقُونَ] ، وإن انتشار ظاهرة التدين بين الأمة وخاصة الشباب لهي بشارة خير،

ومع قناعتنا أن هذا الرجوع إلى الله وهذه الصحوة لابد أن تقرأ التاريخ، وتتمسك

بمنهج أهل السنة، حفاظاً عليها من الوقوع في الانحراف - أي انحراف كان - في

مجال التربية أو الفكر، فإنه لابد لهذه الصحوة أن تأخذ دورها في جميع المجالات:

الإعلامية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتكنولوجية، إننا نعيش في مرحلة

تأسيس تكنولوجي للعالم الإسلامي، وذلك يستلزم الابتداء من حيث انتهى الغرب،

هنا لابد من نقل ما توصل إليه من رقي تكنولوجي، واستلام عجلة القيادة منه، إن

عملية النقل عملية شاقة وطويلة، مضخمة، تأخذ بعين الاعتبار الضوابط الشرعية

التي تدين بها الأمة وهي مرتكزة على مبدأ إسلامي: [وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن

قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ] . وهذا البحث ما هو إلا

لمحات في قضية التخلف التكنولوجي (التقني) لدى الأمة الآن، وسبل تخطيها

ونقل التكنولوجيا إليها من دول سبقتها، قمت بتجميعه من مصادر متنوعة،

بالاضافة إلى بعض الاقتراحات والتي أدرجتها في آخر البحث. ولا بد أن أذكر

مرة أخرى بأن الأمة ما عادت تثق إلا بجيل الصحوة، وطرحت كل فكر ومفكر

وقائد ملحد علماني لا يقيم لدين الأمة وزناً، فهل نأخذ زمام المبادرة؟

ما هي التكنولوجيا:

إن تجديد المصطلحات أمر في غاية الأهمية، إذ بدونه سندور في حلقة

مفرغة، ولا نستطيع أن ننطلق من مفاهيم واضحة للوصول إلى حل أي مشكلة،

ونظراً للمطاطية التي اكتسبها مفهوم التكنولوجيا، فقد أصبح من الصعب التوصل

إلى تعريف دقيق موحد للتكنولوجيا يقبل به جميع المهتمين بالموضوع، لاسيما وقد

ارتبط لفظ تكنيك technique وهو قديم بلفظ تكنولوجيا technology، وهو

حديث نسبياً.

إن كلمة تكنولوجيا إغريقية الأصل، وهي تعني في عصر الحضارة اليونانية

والرومانية القديمة كل الفنون المتعلقة بالمهارة والبراعة وحذق الصناعة، وهي

الجهد المنظم الرامي لاستخدام نتائج البحث العلمي في تطوير أساليب العمليات

الانتاجية لتسخير البيئة المحيطة بالإنسان وتطويع ما فيها من مواد وطاقة لإشباع

مصالحه الضرورية والحاجية والتحسينية.. وبصورة عامة مجموع السبل التي

توفر للإنسان حياة مادية آمنة.

إن هذا التعريف فيه شيء من الشمولية المرضية، مع أنه يوجد تعريفات

أخرى ويستطيع أي واحد منا أن يعطي نفس التعريف، ولكن بألفاظ يختارها من

عنده، ومن التعريف يتضح الارتباط الوثيق بين لفظ العلم ولفظ التكنولوجيا.

العلم والتكنولوجيا:

للتفرقة بين العلم والتكنولوجيا نستطيع القول بأن العلم هو معرفة السبب (لماذا

Know - why) في حين أن التكنولوجيا هي معرفة (الكيف Know - how) .

العلم يأتي بالنظريات والقوانين العامة، والتكنولوجيا تحولها إلى أساليب

وتطبيقات في مختلف النشاطات والميادين، فمثلاً: إذا كانت العلوم الفضائية قد

توصلت إلى نظريات محددة عن طبيعة القمر وتنبأت بإمكانية إنزال الإنسان على

سطحه، فإن التكنولوجيا الفضائية قد استطاعت أن تصل إليه وتحصل على عينة

من تربته وتعيدها إلى الأرض ليتم فحصها من قبل العلماء لمعرفة مدى تطابق

خصائصها مع ما توقعته نظرياتهم.

كذلك يمكن القول بأن العلم يملك صفة العمومية أما التكنولوجيا فتملك صفة

الخصوصية، فالعلم نتاج فكري، أما التكنولوجيا فهي نتاج عملي، كذلك نلاحظ أن

العلم متاح لكل من يملك الذكاء والقدرة المادية لتحصيله على خلاف التكنولوجيا.

ومن هذا يأتي الفرق بين الاكتشاف والاختراع، فمثلاً اكتشف نيوتن قانون الجاذبية

وأينشتين النظرية النسبية، واكتشف الإنسان النار ضمن احتكاك حجرين ولكن

اخترع طرقاً وأساليب لتوليدها وهكذا، ولا نخلط بينهما بسبب حدوث بعضها

(الاكتشافات والاختراعات) بالصدفة كما هو معلوم. هذه مقدمة موجزة لتعريف

بعض المصطلحات الجافة والفكر الذي يوجه أمة من الأمم.

تأثير صراع الايديولوجيات على توجيه العلم:

يظن الكثير أن حقائق العلم غير قابلة للصراع الأيديولوجي، وفي حقيقة

الأمر يتعرض العلم والتكنولوجيا للخضوع للنزاعات الايديولوجية والقومية، وهذا

أمر نجده بصورة قليلة فيما يتعلق بكشف القانون العلمي، ولكن بصورة كبيرة في

الجانب التكنولوجي، وللتوضيح نورد بعض الأمثلة.

1-

عندما هرب أينشتين من الحكم النازي ولجأ إلى السويد ثم أمريكا،

هوجمت نظرياته في ألمانيا، وقوطعت فيزياء أينشتين لفترة طويلة، وكان ينظر

في الاتحاد السوفييتي إلى النسبية على أنها نظرية مثالية.

2-

لعب اليهود دوراً بارزاً للترويج لنظرية دارون في أوربا نكاية بالكنيسة،

وكانت من الأسباب التي غيرت فكرة الأوربيين حول عقيدة الخطيئة وصلب المسيح

(في عقيدتهم) لاسيما في بدء عصر النهضة في أوربا آنذاك.

3-

في فترة من الفترات كان عالم الأحياء السوفييتي (لايسنكر) يحصل على

دعم السلطة الشيوعية، فكان يوفق بين نظرياته العلمية وبين النظرية الشيوعية كما

كان يحجب الكثير من الأبحاث العلمية عن أصدقائه ومواطنيه الذين كانوا على

خلاف معه، وكانت نتيجة ذلك تأخر هذا الفرع من المعرفة في هذه البلاد. ولهذا

فإن نتائج العلم تطوع أحياناً لفلسفات باطلة تبين علاقة الإنسان بالمجتمع والكون.

لهذا فحري بأهل الحق أن يستلموا الراية ليوقفوا الفوضى الضاربة الأطناب،

ويضعوا الإنسان في مكانه الصحيح.

أسلمة العلوم:

يأتي دور أسلمة العلوم في شكل متناسق مع عملية النقل التكنولوجي، لا

لإضافة أيديولوجية جديدة إلى العلم - وإن كان هذا مسوغاً لها - ولكن لكي تعيد

للعلم موضوعيته كما كان في عصر الحضارة الإسلامية، إن أسلمة العلوم ضرورة

حتمية، خاصة بعد ظهور نزعات في الغرب الآن مثل (العلموية) التي تقدس العلم

وتعتبره القادر على حل كل شيء. ويقابل ذلك نزعة (التكنوقراطية) والتي تؤكد

على أن التكنولوجيا أفضل من غيرها على صياغة قوانين المجتمع. يقابل هاتين

النزعتين نزعة أخرى وهي (اللاعلمية) وهي معادية للعلم وتحذر منه ومن خطورة

المادية المعاصرة، وأنها ستؤدي بالبشرية إلى الهلاك، ولابد من العودة إلى الفطرة

والبعد الكامل عن العلم. ونشير هنا إلى ذلك التحقيق عن منطقة في ويلز ببريطانيا

يعيش أهلها بعزلة عن العالم (منذ سنتين) ويوجد نفس التفكير عند مجموعات أخرى

في أمريكا.

هذه المسوغات كافية لبيان ضرورة أسلمة العلوم، بالإضافة إلى أن عقيدة

التوحيد تدفع العلم. إلى ما لا يعرفه الغرب؛ لأنها تعطي تصوراً أن هناك علماً

ظاهرياً وآخر غيبياً، ومن ثم يعرف الباحث حدود بحثه. وهذا من شأنه أن يشعر

العالم بالاطمئنان، لأن الظواهر التي يدرسها تتسم بالاضطراد والاستمرارية، حيث

إن مشيئة الله شاءت أن تؤكد استمرارية الأشياء واضطراد الظواهر، وأن التعميم

فيها له معنى من خلاله يتعرف الباحث على قدرة الله، وهذه نقطة مفقودة في

الفلسفة المادية الغربية.

التكنولوجيا فريضة وضرورة:

إن التكنولوجيا وتطورها له دور في توجيه الصراعات القائمة، وهذا يفرض

إعادة نظرة بصورة شاملة في الرؤية التغييرية، وتحديد أساليب العلم من أجل

التنمية المتكاملة للأمة الإسلامية لتفرض نفسها بين الأمم بقوة العلم والجسم، إن

التحديات اليهودية المعاصرة (مثلاً) تفرض على الأقطار الإسلامية الدخول في

عصر العلم والتكنولوجيا، وخلع ربقة التشكيلات والهياكل البالية على جميع

الأصعدة.

إن الغرب والشركات الاحتكارية الدولية الكبرى وهي تعمل على احتكار العلم

والتكنولوجيا، يضعان شروطاً صعبة على حركة المد الإسلامي، وجعلها تعيش في

واقع محدد لا تتعداه، وإن تدمير المفاعل النووي العراقي وخوفها من المفاعل

النووي البكستاني لدليل على سعي أعداء الأمة للحيلولة دون إنجاز تكنولوجيا متقدمة

في العالم الإسلامي، ولسنا بصدد ذكر مقولات قادة الغرب والشرق عن عدوهم

المشترك المقبل ولجوئهم إلى ما يسمى سياسة الوفاق الدولي، والذي هو في حقيقة

الأمر وفاق على عدو مشترك وهو المد (الإسلامي!) المتنامي، مع يقيننا بأن أهل

الباطل يختلفون على المصالح، كيف لا والخلاف قد يحصل بين دعاة الحق.

ولقد أثبتت الأحداث في الخليج ضرورة السعي إلى الاستقلال الكامل لأمة

الإسلام عن أعدائها في المجال الاقتصادي والعسكري والعلمي والفكري

والتكنولوجي، وفي اتخاذ القرار. وكل واحد من هذه المجالات يحتاج إلى بحوث

مستمرة يتبعها عمل جاد.

* يتبع *

ص: 48