الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقال
درس من يوغوسلافيا
كان دعاة القومية والعلمانية في أوائل هذا القرن يضغطون باتجاه إقامة نظام
الدولة على أساس تجاهل النزعة الدينية، متخذين من ضعف الدولة العثمانية وفساد
مؤسساتها أدلة على وجوب تنحية الدين أن يكون عاملاً له أهميته في بناء الدول
وحياة الأمم.
ومن أبرز دعاة هذا الاتجاه ساطع الحصري الذي يشكل مجموع آرائه مرجعاً
لدعاة القومية والعلمانية، وعلى الرغم من صيرورة معظم هذه الآراء موضع شك
من خلال التطبيق؛ إلا أن القيمين الذين ورثوا آراء الحصري لا زالوا في ضلالهم
القديم، ولم تفدهم الحوادث ووقائع التاريخ الحديث عبرة، وهذا (مركز دراسات
الوحدة العربية) يشرف على إعادة طباعة مؤلفات ساطع الحصري تحت عنوان: (سلسلة التراث القومي) .
وهذا المركز على الرغم من أنه يعلن من جملة أهدافه أنه: (يهدف إلى
ايصال نداء الوحدة للجماهير العربية والأوساط الفكرية على تعدد اتجاهاتها) - إلا
أنه يتبنى الوجهة القومية والعلمانية التي كان يؤمن بها ساطع الحصري بحذافيرها،
ولم نجد له ما يناقض ذلك سوى إحساس باهت بفشل كثير مما طرحه أنصار تلك
الأفكار؛ ولذلك فإنه تبنى إقامة عدة ندوات اشترك فيها أصحاب الاتجاه القومي
والعلماني ومن انتقاهم ممن يتحدثون عن الإسلام وبالإسلام. ولكن المراجع لهذه
المناقشات يكتشف بسهولة ويسر أين يقف هذا المركز وما هي الأفكار التي يروج
لها.
وقد يظن ظان أننا ضد شيء يسمى الوحدة العربية، وهذا وهم يؤمن به من
يجهل الحقيقة أو من يقصد تشويه السمعة والتلاعب بالعواطف. فإذا كان هناك
فريق يرى الاتحاد ونبذ الفرقة أصلاً من أصول العقيدة لا مبدأً ثبت بالتجربة
البشرية فائدته فقط فهم المسلمون، ولكن الخلاف هو حول الأساس والرابطة التي
تجتمع عليها هذه الشعوب التي توالت على حكمها جهات مختلفة، فبينما يذكر
القوميون عناصر اختاروها ليؤكدوا على أهميتها ويتجاهلون الدين كعامل أساسي في
هذا المجال، بحجة أن الدين يفرّق والقومية تجمّع، وهذا القول يقصد به إهمال
دين الأغلبية، وتحييده أن يلعب دوره الطبيعي في الحياة، وإلا فإن كثيراً من
هؤلاء - مع إعلانهم وتوكيدهم هذه المزاعم - لا يهملون أديان الأقلية، بل يُولُونها
كل التقدير والاحترام ويعطونها ما لها وما ليس لها من التجلة والتبجيل، بل إن
الهجوم القولي والعملي على دين الاغلبية يصب في مصلحتها وينعكس امتيازات
وتقوية مركز لأتباعها.
واللوم لا يتوجه إلى أتباع أي دين أن ينصروا أهل دينهم، ويقفوا إلى جانبهم
في السراء والضراء - فهذا شيء طبيعي - ولكنه يتوجه إلى من يتنصل من دينه
وينخلع منه إرضاءً لمن يبقى في قرارة نفسه وفياً لمبادئه ينصرها بالحق والباطل،
إن هذا الضرب من الناس يتحول إلى عدو شرس يذيق أبناء جلدته المر، ويسومهم
أنواع النكال ولا يشفي غليله إلا أن يصبحوا مثله في إهمال دينهم والحملة عليه،
وكل ذلك من أجل إرضاء (إخوانه في الوطنية!) فيغيظ الألوف المؤلفة ويقطع
أواصره معهم من أجل حفنة يحرص على رضاها والحصول على ثقتها، وليس
بقادر على ذلك مهما فعل. هذا هو منطق القوميين الأعوج الذي يتجاهل التاريخ،
ويناقض الفطرة البشرية.
إن القوميين - في غلوائهم لإثبات آرائهم - يدوسون الحقائق، ويغمضون
أعينهم عن الوقائع الناطقة التي قد تخرس تكلفاً لا طبعاً، إن الإنسان ناطق بطبعه،
وقد يعرض له ما يعقل لسانه فيمنعه من الكلام، فهو في هذه الحالة أبكم لمن يراه،
ولكن الناظرين إليه يتمايزون فئتين:
فئة ترى أنه أبكم طبعاً.
وفئة ترى أنه كذلك لعارض عرض له.
وهذا هو مثل يوغوسلافيا. فقد رأى القوميون فيها نموذجاً يُحتذى لإقامة
الدول على أساس قومي، يقول ساطع الحصري: (إن هذه الدولة الجديدة اصطدمت في بادئ الأمر بمشاكل داخلية كبيرة؛ لأن اختلاف التربية والتقاليد
الإدارية والثقافية التي سادت المقاطعات المذكورة منذ قررن عديدة - انضم إلى
اختلاف الثقافة فأوجد نزعات إقليمية عرضت كيان الدولة إلى مخاطر جدية.
إن الكروات والسلوفن كانوا أرقى من الصرب من وجهة العلم والثقافة. ولكن
الصرب كانوا أرقى من هؤلاء من حيث التشكيلات الحكومية والتنظيمات العسكرية.
فكان من الطبيعي أن يحدث تنافس وتنازع بين هذين العنصرين لتولّي الحكم
وكان من الطبيعي أن تتعرض الدولة التي تتكون منهما لأزمات خطيرة، ولكن
الشعور بالوحدة القومية كان كفيلاً بالتغلب على هذه المشاكل كلها وبالقضاء على
النزعات الإقليمية بأجمعها.
وهذا ما حدث فعلاً: بعد زوال أزمات الحكم الأولى، وتلاشي نزعات
الإقليمية المختلفة، رأى القوم أن يتركوا الاسم المركب الأول، وأن يسموا الدولة
باسم مختصر يكون أكثر دلالة على الوحدة القومية من الاسم الأول واختاروا لذلك
اسم (يوغوسلافيا) بالنسبة إلى اللغة التي تربط جميع العناصر بعضها ببعض،
والدولة اليوغوسلافية التي تأسست بهذه الصورة وبعد اجتياز مرحلة الولادة العسيرة
أصبحت متحدة ومتماسكة بكل معنى الكلمة.
ومن المعلوم أن شدة هذا التماسك والاتحاد بهرت الأنظار وأدهشت الأذهان
خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها) . [1]
…
ونحن نرى هذا التحليل التاريخي الاجتماعي لقيام يوغوسلافيا قاصراً ولا
يجيب على أسئلة تنبع من سياقه، وهو تحليل أُحادي وليس شاملاً، وقد صِيغ بلغة
تبشيرية [2] فهو يشير إلى اختلاف المذاهب، وهذا يعني الاختلاف بين الصرب
الأرثوذكس وبين الكروات والسلوفين الكاثوليك، لكن ماذا عن الإسلام الموجود في
يوغوسلافيا؟
وهو يقول: (ولكن الشعور بالوحدة القومية كان كفيلاً بالتغلب على هذه المشاكل كلها، وبالقضاء على النزعات الإقليمية بأجمعها) . هل صحيح أن المشاكل كلها والنزعات الإقليمية بأجمعها قد زالت من وغوسلافيا بعد أن سُميت بهذا الاسم المختصر؟ !
وكذلك القول: إن الدولة اليوغوسلافية (أصبحت متحدة ومتماسكة بكل معنى
الكلمة. ومن المعلوم أن شدة هذا التماسك والاتحاد بهرت الأنظار وأدهشت الأذهان
خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها) .
فادعاء التماسك والاتحاد بكل معنى الكلمة يأتي الواقع العملي اليوم ليكشف ما
فيه من المجازفة والإصرار على الأوهام، فحال يوغوسلافيا لا تنبّئ بذلك بل
بعكسه (بكل معنى الكلمة) وتكاد الأزمة الحالية تنجلي عن استحالة أن تعود أجزاء
يوغوسلافيا إلى الالتئام ثانية.
وكذلك الاعتماد على ما حدث في يوغوسلافيا خلال الحرب العالمية الثانية وما
بعدها كدليل على ثبات هذا الاتحاد.
فقد يتعاون الأعداء وأصحاب المصالح المتعارضة من أجل دفع عدو آخر،
وهذا ما حدث عند الاحتلال النازي والفاشي ليوغوسلافيا، تناسى هؤلاء
اليوغوسلاف إِحَنهم الداخلية المتأصلة لإخراج الغزاة من أرضهم، لأنهم لا يمكنهم
ذلك إلا بهذه الطريقة، وهذا يذكّرنا بحالة التحالف بين دول مختلفة لإخراج
العراقيين من الكويت، فلا أحد يدَّعي أن قوة ذلك التحالف هي نتيجة لوجود وحدة
قومية بين أعضائه في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل. هذا من جهة،
ومن جهة أخرى فإن وجود شخصية مهيمنة مثل (تيتو) قد غطى على هذه المشكلة. وإن ظن الكثير من المخدوعين وأصحاب الأفكار الآنية أنه حلها إلى الأبد، وهذا
الأمر له دلالة ثانية، فالكبت والقهر لا يقتلع المشاكل، وإن بدت غائبة عن الأنظار
بل يجمدها أو يجعلها تتوارى تحت السطح مثل الهوام وخشاش الأرض في مرحلة
البيات الشتوي، حتى إذا جاء (سعد الخبايا) وزالت العوائق خرجت الخبايا من
الأرض لتتمتع بالدفء وتحيا حياتها الطبيعية من جديد.
إن الهدوء الذي كان يخيّم على يوغوسلافيا بعد الحرب العالمية الثانية،
وخلال الحكم الشيوعي في عهد تيتو لم يكن نهاية المطاف، وإنما هو بَكَمٌ عارض
وصمت مصطنع فرضته عوامل وقتية، وقد زال بزوالها.
(1) ساطع الحصري، محاضرات في نشوء الفكرة القومية، ص84.
(2)
كل ما كتبه ساطع الحصري متأثر بهذه اللغة التبشيرية ونعني بها اللغة التي تدعو الناس إلى اعتناق شيء من خلال إظهار محاسنه والحماسة في الحديث حوله، مقابل الإهمال والتجاهل والاشمئزاز مما يراد لهم إهماله وتجاهله.
تحزيب القرآن
(2)
محمد بن عبد الله الدويش
وروى أبو عبيد (277) وابن أبي شيبة (2/502) عن السائب بن يزيد أن
رجلاً سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلاة طلحة بن عبد الله فقال إن شئت
أخبرتك عن صلاة عثمان قال نعم قال قلت لأغلبن الليلة على الحِجْر - يعني
المقام - فقمت فلما قمت إذا أنا برجل متقمع يزحمني فنظرت فإذا عثمان بن عفان فتأخرت عنه فصلى فإذا هو سجد سجود القرآن حتى إذا قلت هذه هوادي الفجر أوتر بركعة لم يصلِّ غيرها ثم انطلق، ولابن أبي شيبة (2/503) فتنحيت وتقدم فقرأ القرآن كله في ركعة ثم انصرف. وصححه ابن كثير في فضائل القرآن (50) .
وأخرج أبو عبيد (278) وابن أبي شيبة (1/367، 2/503) عن نائلة بنت
الفرافصة الكلبية حين دخلوا على عثمان ليقتلوه فقالت: (إن تقتلوه أو تدعوه فقد
كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن) وحسنه ابن كثير في فضائل القرآن
(50)
.
وأخرج أبو عبيد أيضاً (279) وابن أبي شيبة (2/502) عن تميم الداري أنه
قرأ القرآن في ركعة. وكذا أخرجا عن سعيد بن جبير أنه قرأ القرآن في ركعة في
البيت وصححهما ابن كثير (50) .
وأخرج أبو عبيد (281) والفريابي (140) عن علقمة أنه قرأ القرآن في ليلة
طاف بالبيت أسبوعاً ثم أتى المقام فصلى عنده بالمِئِين، ثم طاف أسبوعاً ثم أتى
المقام فصلى عنده بالمئين، ثم طاف أسبوعاً ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية
القرآن. وصححه ابن كثير (50) ورواه ابن أبي شيبة (2/503) مختصراً بلفظ أنه
قرأ القرآن في ليلة بمكة.
وأخرج أبو عبيد (282) وابن أبي شيبة (3/502) عن سليم بن عتر التجيبي
أنه كان يختم القرآن في الليلة ثلاث مرات.
ونقل النووي في التبيان والأذكار جملة من ذلك فقال في التبيان (46) (ومن
الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات سليم بن عمر رضي الله عنه قاضي مصر
في خلافة معاوية رضي الله عنه. وروى أبو بكر بن أبي داود أنه كان يختم
في الليلة أربع ختمات. قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي - رضي الله
عنه -: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول: كان ابتن الكاتب - رضي الله
عنه - يختم بالنهار أربع ختمات، وهذا أكثر ما بلغنا من اليوم والليلة. وروى
السيد الجليل أحمد الدروقي بإسناده عن منصور بن زادان من عُباد التابعين -
رضي الله عنه أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر ويختمه أيضاً فيما
بين المغرب والعشاء في رمضان ختمتين، وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى
أن يمضي ربع الليل، وروى أبو داود بإسناده الصحيح أن مجاهداً كان يختم القرآن
فيما بين المغرب والعشاء وعن منصور قال كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب
والعشاء كل ليلة من رمضان، وعن إبراهيم بن سعد قال كان أبي يحتبي فيما يحل
حبوته حتى يختم القرآن، وأما الذي يختم في ركعة فلا يحصون لكثرتهم
…
) [1] .
المسألة الخامسة: أقل ما يُختم فيه القرآن:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفقه مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث» . أخرجه أبو داود (1394) والترمذي (2950) والنسائي وابن ماجه (1347)
…
وأحمد (2/ 164، 165) وأبو عبيد وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه النووي في التبيان (ص48) .
وأخرج أبو عبيد وابن أبي شيبة والمروزي عن معاذ بن جبل - رضي الله
عنه - أنه كان يكره (أن يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث) وصححه الحافظ ابن كثير.
وأخرج ابن أبي شيبة (2/502) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
أنه قال: (اقرأوا القرآن في سبع ولا تقرأوه في ثلاث) وأخرج سعيد بن منصور
وابن أبي داود - كما في الفتوحات (231/3) - عنه رضي الله عنه أنه قال:
(لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث) . وأخرج ابن أبي شيبة وأبو عبيد والطبراني في
الكبير كما في المجمع (2/269) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
(من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز) . وقال أبو عبيد: (إلا أن الذي أختار من ذلك أن لا نقرأ القرآن في أقل من ثلاث للأحاديث التي ذكرناها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الكراهة لذلك) .
وقال النووي في التبيان (ص48) : (وقد كره جماعة من المتقدمين الختم في
يوم وليلة، ويدل عليه الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي
الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفقه من قرأ القرآن في
أقل من ثلاث) وقال الحافظ ابن كثير: (وقد كره غير واحد من السلف قراءة
القرآن في أقل من ثلاث) كما هو مذهب أبي عبيدة وإسحاق بن راهويه وغيرهما
من الخلف أيضاً) .
وقال شيخ الإسلام: (فالصحيح عندهم أنه أمره - عبد الله بن عمرو - ابتداءً
بقراءته في الشهر، فجعل الحد ما بين الشهر إلى الأسبوع.. ولا يلزم إذا شرع
فعل ذلك أحياناً - التثليث - لبعض الناس أن تكون المداومة على ذلك مستحبة،
ولهذا لم يُعلم من الصحابة على عهده مَن دوام على ذلك؛ أعني على قراءته دائماً
فيما دون السبع؛ ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يقرؤه في كل سبع) .
أما ما نقل عن السلف مما ذكرنا طرفاً منه فقد اختلفت مسالك العلماء في
الإجابة عليه، فمنهم من حمل ذلك على أنه لم يبلغهم النهي ومنهم مَن رأى أنهم لم
يحملوا الحديث على المنع من ذلك، ومنهم مَن رأى أن ذلك يختلف باختلاف
الأشخاص.
وها هنا أمور لعل بها يتضح وجه المسألة:
أولاً: أن ورود ذلك عن السلف والصحابة بوجه أخص لا يعني المداومة عليه؛ خاصة أن الكثير ممن روي عنه ذلك - كعثمان وتميم وغيرهم - رُوي عنه أنه
كان يختم في سبع، بل قد نفى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله وهو من أعلم الناس
في مثل ذلك فقال: (ولهذا لم يعلم في الصحابة على عهده من دوام على ذلك أعني
قراءته دائماً فيما دون السبع) .
ثانياً: علل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بعلتين الأولى عدم الفقه،
والثانية قوله لعبد الله (فإن لزوجك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً ولأهلك عليك
حقاً) . فالرجل عليه مسؤولية تجاه أسرته ومنزله وضيفه وكذلك عليه الرفق
بنفسه. وختم القرآن في أقل من ثلاث على حساب ذلك غالباً.
ثالثاً: يجب أن يربط ذلك بالنصوص الأخرى التي تحث على القصد
والمقاربة (إن هذا الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة واعلموا أنه لن يدخل أحد منكم الجنة
بعمله) . وفي رواية الإمام أحمد لحديث عبد الله بن عمرو (6477) : (فإن كل
عابد شرّة ولكل شرة فترة، فإما إلى سُنة وإما إلى بدعة، فمَن كانت فترته إلى سنة
فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) .
رابعاً: أن خير الهدْي هديه صلى الله عليه وسلم وهو أعبد الناس
وأخشاهم لله وقد غضب على الذين تقالُّوا عبادته، وفي رواية أحمد لحديث عبد الله
ابن عمرو أنه قال له: «لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام، وأمس النساء فمَن
رغب عن سنتي فليس مني» وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها
أنها قالت: (ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة،
ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان) ونحن متعبدون
باتباع سُنته وهديه. مع ما نكنّه في نفوسنا من تقدير وإكبار وإجلال لسلف الأمة.
ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها لما قيل لها إن رجالاً يقوم أحدهم القرآن في
ليلة مرتين أو ثلاثاً - (قرأوا أو لم يقرأوا كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة التمام فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا ورغب ولا بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ) والحديث ذكره في الفتوحات (2/231) ونُسب للحافظ أنه قال: (والحديث حسن أخرجه ابن أبي داود
وأخرج أحمد المرفوع منه فقط) .
خامساً: هناك وظائف شرعية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والدعوة إلى الله وإصلاح الناس، والتي هي من فروض الكفاية ومن أفضل الأعمال
الصالحة والأمة لا تستغني عن جهود أبنائها في ذلك. ففي التفرغ لتلاوة القرآن
على هذا النحو تعطيل لهذه الوظائف خاصة في هذا العصر، وقد أشار النووي -
رحمه الله إلى شيء من ذلك حين قال في التبيان (ص48) : (وكذا مَن كان
مشغولاً بنشر العلم وغيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين فليقتصر على قدر لا
يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له) .
سادساً: في مقابل هؤلاء الذين نقل عنهم الإكثار من ختم القرآن نقل عن
غيرهم بل أكثر السلف التسبيع، فَلِمَ يكون رأي أولئك أَوْلى بالقبول من هؤلاء وهم
أكثر وفعلهم يتأيد بالسنة الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم.
المسألة السادسة: هل يكون التحزب بالسور أو الأجزاء؟
عقد شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة فصلاً في الجزء الثالث عشر من
مجموع الفتاوى ورأى أن التحزيب المشروع هو أن يكون بالسور للأمور الآتية:
1-
أن المنقول عن الصحابة هو التحزيب بالسور لا بالأجزاء وذكر حديث
أوس بن حذيفة، وقد سبق في أول البحث.
2-
أن الأجزاء والأحزاب محدثة وفيه حديث أوس أنهم حزّبوه بالسور،
وهذا معلوم بالتواتر فإنه قد علم أن أول ما جُزئ القرآن بالحروف تجزئة ثمانية
وعشرين، وثلاثين، وستين هذه الأجزاء التي تكون في أثناء السورة، وأثناء
القصة ونحو ذلك كان في زمن الحجاج وما بعده وروي أن الحجاج أمر بذلك. ومن
العراق فشا ذلك ولم يكن أهل المدينة يعرفون ذلك (13/409) .
3-
أن هذه التحزيبات تتضمن دائماً الوقوف على بعض الكلام المتصل بما
بعده حتى يتضمن الوقوف على المعطوف دون المعطوف عليه، فيحصل القارئ
في اليوم الثاني مبتدئاً بمعطوف كقوله - تعالى -: [والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَاّ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] [النساء: 24] وقوله [ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ]
[الأحزاب: 31] وأمثال ذلك، ويتضمن الوقف على بعض القصة دون بعض - حتى كلام المتخاطبين - حتى يحصل الابتداء في اليوم الثاني بكلام المجيب كقوله تعالى:[قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً][الكهف: 72] ومثل هذا الوقوف لا يسوغ في المجلس الواحد إذا طال الفصل بينهما بأجنبي، ولهذا لو ألحق بالكلام عطف أو استثناء، أو شرط ونحو ذلك بعد طول الفصل بأجنبي لم يسغ ذلك بلا نزاع.
4-
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عادته الغالبة وعادة أصحابه أن
يقرأ في الصلاة بسورة ك (ق) ونحوها وكما كان عمر رضي الله عنه يقرأ
بيونس ويوسف والنحل.. وأما القراءة بأواخر السور وأواسطها فلم يكن غالباً عليهم.
وقال: (وإذا كان تحزيبه بالحروف إنما هو تقريب لا تحديد، كان ذلك من
جنس تجزئته بالسور هو أيضاً تقريب، فإن بعض الأسباع قد يكون أكثر من بعض
في الحروف وفي ذلك من المصلحة العظيمة بقراءة الكلام المتصل بعضه ببعض،
والافتتاح بما فتح الله به السورة، والاختتام بما ختم به، وتكميل المقصود من كل
سورة ما ليس في ذلك التحزب. وفيه أيضاً من زوال المفاسد الذي في ذلك
التحزيب ما تقدم التنبيه على بعضها) .
وبعد هذه الوقفات السريعة أرى أنه لا يليق بشاب مسلم طالب للعلم، يحمل
بين كاهليه هم الإصلاح والتغيير ودعوة الناس - لا يليق به أن لا يكون له حزب
من كتاب الله قل أو كثر. ومهما ادعى الإنسان المشاغل فهذه الدعوى تحتاج للبينة
ولو أعطي الناس بدعواهم لادعى أقوام دماء أناس وأموالهم. وهذا دليل على قلة
اهتمامه، ومتى كانت تلاوة كتاب الله وإصلاح النفس وعبادة الله عز وجل مما
لا يفعل إلا في وقت الفراغ.
ففي التحزيب تأسٍ بالسلف - رضوان الله عليهم - وفيه علاوة على ذلك
تحقيق لهديه صلى الله عليه وسلم في المداومة على العمل الصالح فقد كان عمله
دائماً، وكان يقول:(إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) . وفيه أن الإنسان
يُكتب له حزبه إذا شغله عنه مرض أو سفر.
وفيه أيضاً تعاهد القرآن كما أمر بذلك صلى الله عليه وسلم فعن أبي
موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعاهدوا
القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها» .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقّلة إن عاهد عليها أمسكها وإن
أطلقها ذهبت) .
(1) لا شك أن في ذلك مبالغة وتساهلاً في التصحيح لعلة منطلق من باب التساهل في تصحيح أو تحسين الأحاديث في فضائل الأعمال وفي الترغيب والترهيب وراجع التعليلات بعد ذلك.