المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الخصخصة) من المنظور الإسلامي - مجلة البيان - جـ ٨٩

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌(الخصخصة) من المنظور الإسلامي

دراسات اقتصادية

(الخصخصة) من المنظور الإسلامي

نظرات في موضوع بيع القطاع العام للأفراد

د.محمد بن عبد الله الشباني

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي باعتباره نظاماً اقتصاديّاً وقوة عالمية، وسَعْي

الدول المكونة والتابعة له إلى التحول إلى نظام السوق، وتبني الفكر الرأسمالي في

تنظيم اقتصاديات تلك الدول، وتفرد النظام الرأسمالي بتوجيه الاقتصاد العالمي

والترويج لهذا الفكر: بأن يكون وحده الفكر الموجه للسياسات الاقتصادية للدول

النامية، بما يمتلكه هذا الفكر من مؤسسات اقتصادية عالمية تتحكم في الحركة

الاقتصادية العالمية من خلال: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمؤسسات

المالية الأخرى المنتشرة في الدول الصناعية الرأسمالية.

لقد أخذت الدول الإسلامية التي كانت تتبع منظومة الاتحاد السوفييتي باعتباره

نظاماً اقتصاديّاً يتبنى الفكر الاشتراكي القائم على تملك الدولة لمختلف الأنشطة

الاقتصادية بتغيير سياستها الاقتصادية بعد سقوط هذا النظام، والتحول إلى اقتصاد

السوق القائم على الفكر الرأسمالي المتهود بدون دراسة للواقع التنظيمي

للاقتصاديات الاجتماعية للدول الصناعية الرأسمالية، وإنما اتجهت إلى تبني ما

يمليه صندوق النقد الدولي من سياسات اقتصادية منزوعة من إطارها الذي قامت

عليه تلك المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، وبدون النظر إلى المسيرة التاريخية

للفكر الرأسمالي من ناحية التشريعات التطبيقية.

إن مفهوم (الخصخصة) كما يتم تداوله في الإعلام هو: تحويل الملكية العامة

للأنشطة الاقتصادية المملوكة للدولة إلى الأفراد والقطاع الخاص، وطرح هذه

الأنشطة حتى لرؤوس الأموال الأجنبية، بل إنه يتم تشجيع رؤوس الأموال

الأجنبية على القدوم للتجارة في هذه الأنشطة؛ ويعود ذلك إلى أن معظم أفراد

شعوب الدول الإسلامية لا يتوفر لديهم رأس المال المدخر الذي يستطيعون به تملك

هذه الأنشطة؛ ولهذا قامت الدول الإسلامية بتقرير سياسات استقطاب رؤوس

الأموال الأجنبية، لشراء هذه الأنشطة الاقتصادية وإدارتها وبيعها إلى مواطني تلك

الدول. إن هذا التوجه سيكون له أثار سياسية متمثلة في تدخل الدول الصناعية في

السياسات الإدارية والإنتاجية لهذه الأنشطة: من خلال حماية رؤوس أمواله

المستثمرة في هذه المشروعات المباعة إلى القطاع الخاص الأجنبي.

وتدور المبررات المطروحة من قبل الأنظمة السياسية التي ترغب في تحويل

أنشطتها الاقتصادية المملوكة للقطاع العام إلى القطاع الخاص والانفتاح على اقتصاد

السوق ضمن إطار فكرة تفعيل الاقتصاد والتخلص من الأنشطة المسببة لخسارة

الاقتصاد الوطني؛ نتيجة لتدني الكفاءة التشغيلية، وغياب الحافز لدى الإدارة وغير

ذلك من المبررات، بجانب الرغبة في الحصول على التمويل من قبل المؤسسات

المالية الدولية والمؤسسات المالية الرأسمالية في الدول الصناعية.

إن تبني مفهوم (الخصخصة) لم يقتصر على الدول الإسلامية التي كانت تأخذ

بنظام الاقتصاد المخطط، الذي يقوم على تملك الدولة لمصادر الإنتاج وتقليص دور

القطاع الخاص، بل شمل الأمر تلك الدول التي كانت تُحسب ضمن معسكر اقتصاد

السوق، وتسمح للأفراد بتملك مختلف الأنشطة الاقتصادية، ولكنها تولت إدارة

وتملك أنشطة اقتصاديات المنافع العامة أو أنشطة اقتصاديات تنمية واستغلال

الموارد الطبيعية، لهذا: فإن من الضروري مناقشة هذا التوجه وإبراز الرؤية

الإسلامية، وهل يمكننا استخلاص تصور من خلال منهج الإسلام لكيفية إدارة

الاقتصاد بحيث يتم تحقيق الكفاية والفاعلية للاقتصاد مع احتفاظه بإطار حقوق الفرد

في تملك المال؟ .

كما سبق أن أوضحت في مقالات سابقة: فإن الإسلام يعطي أهمية خاصة

للمال وحق الفرد في التملك بدون حدود من حيث الكمية وفق ضوابط الحلال

والحرام ومراعاة مقاصد الشريعة الأخرى.

إن حماية الناس من الاستغلال والاحتكار فيما يتعلق بالحصول على المنافع

العامة سواء أكانت منافع خدمية مثل الماء والكهرباء، أو منافع مادية من الأمور

التي أولاها الإسلام عناية خاصة.

إن من أهم الملامح والركائز التي يتميز بها النظام الاقتصادي الإسلامي:

حماية أفراد المجتمع من وقوع القطاعات الاقتصادية التي يحتاجها الناس في مجملهم

في قبضة القوى المالية الفردية أو الجماعية، لقد وردت جملة أحاديث وضعت

الإطار العام لهذا التوجه، فمن ذلك: ما رواه أبيض بن حمال: أنه استقطع الملح

الذي يقال له ملح سدّ مأرب، فأقطعه له، ثم إن الأقرع بن حابس التميمي أتى

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد وردت الملح في

الجاهلية، وهو بأرض ليس بها ماء، ومن ورده أخذه، وهو مثل الماء العِدّ،

فاستقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض بن حمال في قطيعته في الملح،

فقال قد أقلتُك منه على أن تجعله مني صدقة، فقال رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- هو منك صدقة، وهو مثل الماء العِدّ، من ورده أخذه [1] فهذا الحديث

يضع قاعدة عامة تتمثل في: أنه لا يجوز منح امتياز أو تمليك فرد أو جماعة من

الأفراد لأي منتج خدمي أو سلعي إذا كان هذا المنتج يحتاج إليه عامة الناس إلا

ضمن شروط معينة تحفظ للناس حقوقهم، وتمنع عنهم الاستغلال، وتحقق منفعة

لاقتصاد المجتمع.

ويدل على ذلك ما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه

وسلم-: المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار، وثمنه حرام [2] ،

وفي رواية أخرى عن أبي هريرة: ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ، والنار [3]

وهذه الأحاديث في مجملها تؤكد: ضرورة أن يكون استغلال المنافع العامة التي

يحتاج إليها الناس؛ سواء أكانت استغلال موارد طبيعية أو بيع منافع عامة مثل:

منفعة الكهرباء، أو المواصلات، أو التعليم، أو غيرها ضمن نطاق العدل، بحيث

لا يؤدي منح بيع هذه المنافع إلى التحكم في المادة المنتجة أو المنفعة أو الخدمة

المقدمة، وأن على ولي الأمر وضع القواعد والأسس التي تحفظ حق الأمة بدون أن

يؤدي ذلك إلى تعطيل استغلالها وحرمان اقتصاد المجتمع المسلم منها، وفي الوقت

نفسه الالتزام بالتوجيه النبوي الذي أشرت إليه والذي يؤكده أيضاً ما رواه أبو داود

والطبراني في الكبير، عن قيلة بنت مخرمة، قالت: قدمنا على رسول الله -صلى

الله عليه وسلم-، قالت فقدم صاحبي، تعني: حريث بن حسان وافد بكر بن وائل، فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين

بني تميم بالدهناء: ألا يجاوزها إلينا منهم أحد إلا مسافر أو مجاور، فقال: اكتب

له يا غلام بالدهناء، فلما رأيته قد أمر له بها شخص بي وهي وطني وداري،

فقلت: يا رسول الله، إنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك، إنما هي هذه

الدهناء عندك مُقَيّدُ الجمل، ومرعى الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك، قال:

أمسك يا غلام، صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر،

ويتعاونان على الفتان [4] ، إن هذا الحديث يضع قاعدة عامة في التنظيم

الاقتصادي، وذلك: بأنه لا يجوز تخصيص مورد أو منفعة عامة لفئة من الناس

دون أخرى إذا كان هذا التخصيص سوف يؤدي إلى الإضرار بالآخرين، وإن مثل

هذه الإجراءات تثير الفتن والمشاكل في المجتمع.

على ضوء الأدلة السابقة التي تحد من تملك الموارد الطبيعية ذات النفع العام، وكذلك تملك استغلال المنافع العامة ومنع إقطاعها سواء أكان إقطاع تملك أو

إقطاع استغلال منفعة، يثور هنا تساؤل: ما هو التصور الذي يطرحه الإسلام لحل

مشكلة استغلال الموارد المتاحة للمجتمع وإدارة أنشطة اقتصاديات المنافع العامة،

وفق إطار تشجيع تملك هذه الأشياء، أو تمليك استغلال منافع الخدمات العامة،

التي يحتاج الناس إليها مثل: الكهرباء، والهاتف، والمواصلات.. وغير ذلك من

المنافع الخدمية التي يحتاج إليها الناس؟

إن النظرة التكاملية الشمولية التي يتميز بها النظام الإسلامي عن بقية الأنظمة

البشرية تمد الدارس لشريعة الإسلام بالحلول، وذلك من خلال الدراسة المباشرة

لمصدري التشريع (القرآن والسنة) ، فيجد فيهما المخارج العملية لأي إشكال قد

يعترضه، سواء أكان ذلك في المجال التنظيري أو العملي.

إن الإشكالية التي قد تواجهنا هي: كيف يتم التوفيق بين الرغبة في استغلال

الموارد المتاحة، وإشباع حاجات الناس، وتحقيق الكفاءة والفعالية في إدارة

الأنشطة الاقتصادية؟ .

إن معالجة هذه الإشكالية يتمثل في اتباع الآتي:

إبقاء أصل ملكية الموارد الطبيعية بيد الدولة، ومشاركة الدولة في استثمار

هذه الموارد، مع إتاحة الفرصة للأفراد باعتبارهم عنصراً من عناصر الإنتاج

(وهو عنصر العمل) بالمشاركة في استغلال هذه الموارد، مع إشراك رأس المال

من خلال استغلال رؤوس الأموال عن طريق: قيام الدولة بتوفير الأصول الثابتة

التي تساعد قوة العمل على ممارسة النشاط بواسطة المشاركة في العملية الإنتاجية

بالعمل، ومشاركة أصحاب رؤوس الأموال من خلال: توفير رؤوس الأموال

التشغيلية، يُستدل على ذلك بدليلين: الأول ما رواه البخاري مرسلاً، عن قيس بن

مسلم عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث

والربع، وزارع علي وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي، وابن سيرين، وقال

عبد الرحمن بن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع، وعامل

عمر الناس على: إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم

كذا [5]، وأشار البيهقي في سننه: أن عمر بن الخطاب أجلى أهل نجران واشترى

عقرهم وأموالهم، وأجلى أهل ضمك وتيماء وأهل خيبر واستعمل يعلى بن منبه،

فأعطى البياض على: إن كان البذر والبقر والحديد من عمر، فلعمر الثلثان ولهم

الثلث، وإن كان منهم فلهم الشطر، وأعطى النخل والعنب على أن لعمر الثلثين

ولهم الثلث.

إن عمل عمر رضي الله عنه مستمد من فعل رسول الله -صلى الله عليه

وسلم-؛ فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر لليهود؛ على أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها [6] إن هذا المنهج الذي فعله رسول الله -صلى الله

عليه وسلم-؛ وتبعه في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه تطبيقاً لعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة مهمة في إدارة الاقتصاد الإسلامي فيما يتعلق بكيفية استثمار واستغلال عناصر الإنتاج مع الإبقاء على روح المبادأة الفردية والبعد عن البيروقراطية، فَفِعْلُ عمر رضي الله عنه يحدد لنا منهجاً يمكن ممارسته في هذا العصر، بل إن ممارسته سوف تحل كثيراً من المشاكل فيما يتعلق منها بإيجاد الموارد المالية للدولة بدون اللجوء إلى فرض الضرائب؛ وذلك من خلال قيام الدولة بتوفير مستلزمات الإنتاج بتوفير ما يعرف محاسبياً بالأصول الثابتة، وتفويض استغلال هذه الموارد الطبيعية إلى أفراد الأمة من خلال إعطائهم حق

الاستغلال بدون تدخل في كيفية الإدارة، على أن يكون نصيب الدولة مربوطاً

بالإنتاج وليس بالربح، فالدولة في هذه الحالة لا تتدخل في كيفية إدارة النشاط،

ولكنها تتحصل على نسبة من الدخل يكون مصدراً من مصادر الواردات العامة،

وبهذا الأسلوب نكون قد حققنا الاستغلال لهذه الموارد بالأسلوب الذي يحقق الكفاية

والفعالية الإدارية بعيداً عن تدخل الدولة في إدارة النشاط، والشيء نفسه يمكن

تطبيقه على أنشطة خدمات المنافع العامة، فمثلاً: حق النقل الجوي أو البري،

يمكن للدولة أن تجعله مورداً ماليّاً لها، وفي الوقت نفسه تتحقق الكفاءة في الإدارة،

من خلال ما يمكن أن نطلق عليه تمليك إدارة النشاط، فتقوم الدولة مثلاً: بإنشاء

السكك الحديدية وتوفير العربات سواء أكان ذلك لنقل البضائع أو الركاب، أي:

توفير الأصول الثابتة، ثم عرض إدارة تشغيل هذه المنفعة على الأفراد أو الشركات، مقابل جزء من الدخل العام يتناسب مع ما صرف من أصول ثابتة، أي: أن

يكون نصيب الدولة من الدخل يعادل قيمة الأصول الثابتة المستثمرة في هذ النشاط

ونسبة إضافية تكون عائداً لاستثمار مال الدولة؛ ليكون مورداً من موارد الخزينة

العامة، بهذا الأسلوب: فإن الدولة تحقق أمرين: الأول: توفير الخدمة التي يحتاج

إليها الناس واستغلال الموارد الطبيعية، وتحقيق عائد مالي يكون رافداً من روافد

الإيرادات العامة.

الثاني: تحقيق الفعالية الاقتصادية والبعد عن البيروقراطية الحكومية في إدارة

الأنشطة الاقتصادية من خلال: تحفيز القوى البشرية ورأس المال المتاح من قبَل

أفراد الأمة، لتحقيق الفعالية للنشاط الاقتصادي الذي هو ميزة النظام الرأسمالي.

الدليل الثاني: ما رواه بطرق عدة وروايات متعددة الحافظ أبو عبيد القاسم بن

سلام في كتابه الأموال، فقد أورد عدداً من النصوص حول ما ارتآه عمر بن

الخطاب رضي الله عنه ووافقه عليه الصحابة فيما يتعلق بالأراضي المفتوحة من

إبقائها ملكاً عامّاً للمسلمين، ووضع الخراج عليها؛ فقد روى عن إبراهيم التميمي

أنه قال: لما فتح المسلمون السواد قالوا لعمر: اقسمه بيننا، فإنا افتتحناه عنوة،

قال: فأبى وقال: فمن لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا

بينكم في المياه، قال: فأقر أهل السواد في أراضيهم، وضرب على رؤوسهم

الجزية وعلى أراضيهم الخراج، ولم يقسمها بينهم [7] . إن تصرف عمر (رضي

الله عنه) بإبقاء الأرض للمسلمين وتحصيل خراج عليها، إنما هدف منه توفير

الموارد المالية للدولة، بدليل ما أخرجه البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:

سمعت عمر قال: لولا آخر الناس ما افتتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله -

صلى الله عليه وسلم خيبر [8] ، فالعلة التي بنى عليها عمر رضي الله عنه

اجتهاده واتخاذه قراراً بوقف الأرض بجعلها ملكاً للمسلمين عامة: هو العمل على

توفير مصدر دائم لدخل الدولة، حتى يتم الصرف منه على شؤون المجتمع، هذا

الاجتهاد الذي بنى عليه عمر رضي الله عنه حكمه، إنما كان بناءً على استشارة

الفقهاء وعلماء الصحابة، فقد أورد الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام رواية أخرى

عن هذا الموضوع بسنده، قال: أخبرني عبد الله بن أبي قيس، قال: قدم عمر

الجابيه فأراد قسم الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ: والله إذاً ليكونن ما تكره! ؛ إنك إن قسمتها صار الربع العظيم في أيدي القوم مم يبدون، فيصير ذلك إلى

الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام سدّاً، وهم لا

يجدون شيئاً، فانظر أمراً ليسع أولهم وآخرهم [9] .

ووفقاً لذلك التعليل وتلك النظرة الثاقبة للصحابي الجليل معاذ بن جبل (رضي

الله عنه) : اتخذ عمر قراره بإبقاء الأرض، فأبقى الأرض يجبي ريعها لبيت مال

المسلمين، فهل يمكن الأخذ بهذا الإجراء فيما يتعلق بالأراضي البور التي تحتاج

إلى إصلاح، فتقوم الدولة بذلك، وتهيئها للمستغلين، وتنال جزءاً من إنتاجها، مع

إبقاء الأرض لصالح الأجيال القادمة، وعدم إقطاعها، وكذا: ما يختص بتمليك

استغلال المنافع العامة؟ . لكن السؤال الذي يثور هنا هو: كيف يمكن التوفيق بين

هذا والنصوص التي أشارت إلى جواز إقطاع ولي أمر المسلمين تمليك الأرض قبل

إحيائها، حسب ما جاء في الحديث: الذي رواه هاشم بن عروة عن أبيه أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لعرق ظالم

حق [10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق [11]، وما رواه عبد الله بن أبي بكر قال: جاء بلال بن الحارث المزني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقطعه أرضاً فقطعها له طويلة عريضة، فلما ولي عمر قال له: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً طويلة عريضة قطعها لك، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليمنع شيئاً يسأله، وإنك لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل، قال: انظر ما قويت عليه منها فأمسكه، ومالم تطق فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله؛ شيء اقتطعنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين [12] .

إن الأخذ بفكرة إبقاء ملكية الأراضي وحق إبقاء استغلال أنشطة خدمات

المنافع للدولة قياساً على ما عمله عمر مع أراضي البلاد المفتوحة، يحقق مصلحة

عامة؛ حيث: محدودية الأراضي البور سواء أكانت قد مُلكت في الماضي وهجرت

ولا يعرف مالكها، أو لم يتم تملكها وإحياؤها، على أن يقتصر الإقطاع على ما يتم

إقطاعه لأغراض السكنى، وأن يكون الإقطاع إقطاع استئجار، أي: إنه إقطاع

مشروط بالاستغلال، وإن للمُستَقْطَع له أن يتملك ويتصرف، لكن بشرط قدرته

على الاستغلال واستمراريته واستثماره في مجاله الذي من أجله منح، أما في حالة

عجز من أقطع له أو من تملكه بعد من استقطعه وعجز عن استغلاله: فترجع ملكية

الأصل إلى الدولة، وذلك في حالة عدم وجود أصول استثمارية موضوعة على

الأرض المقطوعة، وأما في حالة وجود أصول موضوعة لغرض الاستفادة من

الأرض: فتمنح لمن يقدر على استغلالها على أن يعطى المالك غير القادر على

الاستغلال جزءاً من الإنتاج لقاء هذه الأصول الموضوعة وفق القاعدة الشرعية

لاضرر ولا ضرار، وبهذا نبقي على سريان نصوص أحاديث الإقطاع، وفي

الوقت نفسه عدم تعطيل الأرض بحجة إقطاعها، والأخذ بهذا الرأي قد استند فهمه

إلى ما رواه الدارقطني وأبو داود عن عبيد الله بن حميد عن عبد الرحمن الحميدي

أن عامر الشعبي حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من وجد دابة قد

عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيبوها فأخذها الرجل فأحياها فهي له [13] ، ويمكن

أن يقاس على هذا الحديث الأراضي المستقطعة وغير المستغلة وأي أصل مملوك لا

يستغل لعجز مالكه عن استغلاله، بأن تقوم الدولة بمنحه لمن يقدر على استغلاله؛

وفق إجراءات تنظيمية تحقق العدالة والمصلحة العامة للمجتمع المسلم.

ثانياً: الرقابة على أسعار بيع المنتجات السلعية للموارد الطبيعية والمنافع

الخدمية، التي مُنح الأفراد تملك منافعها من خلال تشغيل هذه الأنشطة بوساطة

العمل أو بالعمل ورأس المال، بحيث تُراعي هذه الأسعار مصلحة المنتفعين بهذه

السلع والخدمات من ناحية، وتحقيق عائد مجز لمن يقوم بالاستثمار، سواء أكان

ذلك من خلال تقديم المال، أو الجهد، لإدارة تشغيل هذه الأنشطة الاقتصادية من

ناحية أخرى.

والسؤال الذي يبرز هنا: هل يجوز التدخل في تحديد الأسعار، أي: تسعير

المنتجات والخدمات؟ وما هي حدود هذا التدخل في حالة جوازه؟ ، وما هي

الوسائل التي هي أكثر فعالية لتحقيق التوازن لحماية مصالح المستهلكين من ناحية،

وعدم الإضرار بمصالح المنتجين وبائعي منافع الأنشطة الخدمية من ناحية أخرى؟ .

تتطلب عملية حماية المستهلكين التدخل في تحديد أسعار المنتجات السلعية أو

الخدمية، وعملية التدخل في التسعير سوف تؤدي إلى تعطيل فعالية قانون العرض

والطلب، وبالتالي: حصول الخلل في الأنشطة الاقتصادية، لما للتدخل في تحديد

الأسعار من أثار سلبية على فعالية وكفاءة النشاط الاقتصادي، كما أن ترك

المستهلكين تحت رحمة المنتجين وبخاصة تلك السلع والخدمات التي يحتاج إليها

الناس في غالبيتهم فيه ظلم لهم وفتح لباب الاحتكار، لقد وردت أحاديث تمنع

التدخل في التسعير؛ من ذلك: ما رواه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة: أن

رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، سعّر،

قال: بل أدع، ثم جاءه رجل، فقال: يا رسول الله سعّر، قال: بل الله يرفع

ويخفض، وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة [14] ، كما روى

ابن ماجة عن أنس بن مالك، قال: غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، قد غلا السعر فسعّر لنا، فقال: إن الله هو

المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحدٌ يطلبني

بمظلمة في دم ولا مال [15] .

إن هذه الأحاديث تؤكد أن الإسلام لا يحبذ التدخل في التسعير، بل يترك

الأمر لقوى السوق، وهي التي تصحح الاختلال ما بين العرض والطلب، لكن

هناك آثاراً ذكرت تصرفات صدرت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد يفهم

منها معارضة هذه الأحاديث، ومن ذلك: ما رواه الإمام مالك والبيهقي عن سعيد بن

المسيب: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيب له بالسوق، فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا وفي

رواية للبيهقي: أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بسوق المصلى وبين يديه

غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعر له مدين لكل درهم، فقال له

عمر رضي الله عنه حُدّثنا بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً، وهم يعتبرون

بسعرك، فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت،

كما روى الإمام مالك عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن عمر بن الخطاب (رضي

الله عنه) يأخذ من النبط من الحنطة والزبيب نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر

الحمل إلى المدينة، ويأخذ من القطنية العشر، كما روى البخاري: أنهم كانوا

يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث

عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه، حتى ينقلوه حيث يباع الطعام [16] ،

وذكر البيهقي في رواية: أن الغاية من منع البيع: حتى ينقلوه إلى سوقه؛ لئلا

يغلو الطعام هناك على من يفد، وأنه في ذلك الموقع أرخص، يتضح من هذه

الأحاديث أن هناك نوعاً من التدخل في التأثير على التسعير، بل إن ما طلبه عمر

رضي الله عنه من حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه يوحي بالتسعير؛ حيث: طالبه برفع السعر أو رفع بضاعته من السوق، وأن هذا قد يعارض ما جاء عن

الرسول صلى الله عليه وسلم في عدم استجابته لطلب الناس بالتسعير للوهلة

الأولى.

ولكن واقع الأمر: أن عمر رضي الله عنه في جميع ما ورد عنه لم يقم

بالتسعير وتحديد السعر، وهو الذي رفضه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما

اتبع أساليب تنظيمية مراعاة للمصحلة العامة، فهو لم يحدد سعراً معيناً ألزم به

حاطب بن أبي بلتعة، ولكنه حينما علم أن سعره سوف يضر بجلب السلعة في

المستقبل؛ لأن عدم تحقق سعر مجز للجالب للسلعة سوف يؤدي ولابد إلى الامتناع

عن الجلب في المستقبل؛ وهذا فيه ضرر على توفير الكميات المعروضة، مما

سوف يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، لهذا: أمره بأن يرفع بضاعته من السوق أو يرفع

سعره، وهذا ليس من باب التدخل في السعر، وإنما هو أسلوب من أساليب الرقابة

السعرية، وهذا أمر يختلف عن التسعير وتحديد السعر، وقد مارس هذا الفعل

الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث البخاري: حينما منع الناس

من تلقي الجلب، ومن شراء الطعام قبل أن يجلب في مكان البيع حتى يتحقق

التنافس الكامل بين المشترين والبائعين، فلا يُحْمَلُ غبن لأي طرف.

لهذا: نجد أن الإسلام لا يتدخل في التسعير، ولكنه يتدخل في التأثير على

العوامل المؤثرة في جانبي العرض والطلب.

إن السؤال الذي يمكن طرحه هو: إذا اتّبعَ المنهج الإسلامي كما أشرنا إليه

فيما سبق من حيث: مشاركة الدولة استغلال الموارد الطبيعية، وممارسة بيع

المنافع الخدمية، مع إعطاء عنصري العمل ورأس المال حق مشاركة الدولة وتوفير

المرونة للقطاع الخاص لممارسة دوره الفعال في إدارة الأنشطة الاقتصادية، مع

الإبقاء على دور الدولة فاعلاً ومؤثراً سواء في الإبقاء على التملك، أو التدخل في

الرقابة على الأسعار بدون التسبب في إضعاف المبادأة الفردية.. فكيف يتم

المحافظة على توفير الاحتياجات الأساسية للأفراد ذوي الدخول الضعيفة مع

الارتكاز على توفير الظروف الملائمة لتحقيق العائد المجزئ لمن فُتح لهم مجال

العمل في الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالموارد الطبيعية وبيع المنافع الخدمية؟ .

إن الإسلام حينما وضع منهجيته لتشجيع القوى الفاعلة من القوى العاملة

وأصحاب رؤوس الأموال مع اتباع سياسة التحفيز كما أوضحناه فيما سبق لم يترك

معالجة أوضاع كثير من الفئات التي تحتاج إلى هذه المنتجات والخدمات مع كونها

لا تستطيع شراء هذه السلع والمنافع لقلة مواردها، فقد وضع منهجاً ماليّاً من خلال

أساليب الإنفاق من الموارد العامة للدولة.

يتميز الإسلام في منهجيته في توزيع موارد الدولة بتقسيم الموارد المالية

للدولة إلى قسمين: القسم الأول: ما يتعلق بالزكاة، فقد خصصها للإنفاق على

أفراد المجتمع بقصد تحقيق الرفاه الاجتماعي بحيث: لا تنفق موارد الزكاة إلا

للأصناف الثمانية التي حددها القرآن، أما المصالح العامة وهي القسم الثاني: فيتم

الإنفاق عليها من الموارد العامة للدولة، ومن ضمن هذه الموارد العائد من مشاركات

الدولة في استغلال الموارد الطبيعية والعائد من تأجير الأصول الثابتة الخاصة ببيع

المنافع العامة [17] .

(1) أخرجه ابن ماجة: كتاب الرهون، باب: إقطاع الأرض والعيون، ح/ 2475، صحيح سنن ابن ماجة ح/2006، ج2 ص6465 وحسنه الألباني.

(2)

أخرجه ابن ماجة: كتاب الرهون، باب: المسلمين شركاء في ثلاثة، ح/2472، صحيح سنن ابن ماجة ج2 ص64، ح/2004، قال الألباني: صحيح دون ثمنُهُ حرام.

(3)

سنن ابن ماجة: كتاب: الرهون، باب: المسلمون شركاء في ثلاثة، ح/2473، صحيح سنن ابن ماجة ح/2005، ج2 ص64.

(4)

سنن أبي داود: كتاب الإمارة، باب في إقطاع الأرضين، ح/3070، وقال الألباني: ضعيف الإسناد، وانظر ضعيف سنن أبي داود ص309 ومقيد الجمل: أي: مرعى الجمل ومسرحه، فهو لا يبرح منه ولا يتجاوزه في طلب المرعى - البيان.

(5)

البخاري، كتاب: الحرث والمزارعة، باب: المزارعة بالشطر ونحوه.

(6)

البخاري، كتاب: الحرث والمزارعة، باب: المزارعة مع اليهود، ح/ 2331، الفتح: ج5 ص19.

(7)

البخاري، كتاب: الحرث والمزارعة، باب: المزارعة مع اليهود، ح/ 2331، الفتح: ج5 ص19.

(8)

البخاري، كتاب: الحرث والمزارعة، ح/2334 وبعد فهذا الطرح اجتهاد مني، أرغب أن يتم إثارة الحوار حوله حتى تتلاقح الأفكار للخروج برأي سديد في مثل هذه الموضوعات المستجدة.

(9)

البخاري، كتاب: الحرث والمزارعة، ح/2334 وبعد فهذا الطرح اجتهاد مني، أرغب أن يتم إثارة الحوار حوله حتى تتلاقح الأفكار للخروج برأي سديد في مثل هذه الموضوعات المستجدة.

(10)

البخاري: كتاب: الحرث والمزارعة، باب: من أحيا أرضاً مواتاً، رواه البخاري بصيغة التحريض في ترجمة الباب، (انظر الفتح ج5 ص23) .

(11)

البخاري: كتاب الحرث والمزارعة، باب من أحيا أرضاً مواتاً ح/ 335.

(12)

أخرجه مالك في الموطأ، والدارمي.

(13)

أخرجه أبو داود: ح/3456 وصححه الألباني، انظر صحيح سنن أبي داود ح/3950، ج2 ص67.

(14)

أخرجه أبو داود، كتاب: المبايعة، باب: في التسعير، ح/3450، وصححه الألباني: صحيح أبي داود ج2 ص611.

(15)

أخرجه ابن ماجة، كتاب: التجارات، باب: من كره أن يسعر، ح/ 220، وصححه الألباني: صحيح ابن ماجة: ج2، ص1415.

(16)

البخاري: كتاب البيوع، باب: ما ذكر في الأسواق، ح/2123.

(17)

لمزيد من معرفة هيكلية الموارد العامة وأساليب تحديد طرق إنفاق الموارد العامة للدولة الإسلامية وأسلوب ومنهجية الإسلام في معالجة قضية إدارة المالية العامة للدولة على ضوء الظروف والمعطيات المعاصرة يراجع كتابنا (المالية العامة على ضوء الشريعة الإسلامية) .

ص: 37

نص شعري

يارب

مروان كجك

لَكَ العُتْبَى [1] لَقْد صِرْنَا

وإلى ضَعْفٍ وإعْياءِ

وأصْفادٍ تَدُورُ بنا

على أعتَابِ أعداءِ

نَرُومُ العِزّ عندَهُمُ

وهُمْ بَوّابةُ الداءِ

نَظُنّ النّصْرَ بالإغضا

ء عن كُفْرٍ وأخْطاءِ

وعُدْوانٍ يَلُفّ النا

سَ مِنْ دانٍ إلى نائي

ونَخْطُبُ [2] وُدّ من كانوا

بني حِقْدٍ وَبَغْضاءِ

فَتأخُذُنَا خَطَايَانَا

إلى ذُلّ ولأوَاءِ [3]

وننسَى أننا كُنّا

شِفَا مِنْ كُلّ بأساءِ

وأنّا أمْةٌ التّحْرِي

رِ من ألِفٍ إلى ياءِ

* * *

لكَ العُتبى، لَقَدْ حِرْنا

لِمَيْنٍ [4] رائحٍ جائي!

يُقامرُنا على الأحلا

مِ في خُبْثٍ وإلْهاءِ

يقولُ: غَداً، وأي غَدٍ

نقَدّمْهُ لأبناءِ؟

وهذا الحاضِرُ المنكُو

د يَعْطِبُ كلّ أشيائي

يُبَعْثِرُها يُشَتّتُها

يُقَيّدْها لأعدائي

***

لكَ العُتْبَى سُنُونَ ال

قَحْطِ قَدْ عَاثَتْ بأرجائي

تَلُفّ الناسَ بالآثا

مِ مِنْ ذَلْقٍ [5] لِتأتاءِ

ولمْ تَبْخَلْ على أحَدٍ

بإعْنات وإزْراءِ [6]

فكُلّ القَوْمِ طُعْمَتُها

ولوْ جَنَحُوا لإغْماءِ

وتخشى صَحْوَهُم يَوْماً

على إيقاع حَدّاءِ [7]

يَسُوسُ الناسَ بالحُسْنى

ويأتيهمْ بأنباءِ

***

لكَ العُتْبَى ولوْ عَصَفَتْ

أعاصيرٌ ببَيْدائي

أو ازْدَحَمَتْ على بابي

جِنَاياتي وأرزائي

أو اقْتَحَمَتْ جُنُودُ البَغْ

يِ أوطاني وأحيائي

أو اختَبَأتْ لِيَ الأهْوا

لُ في نفسي وأهوائي

وأقْبَلَ كُلّ جبارٍ

بأوْشابٍ وغَوْغَاءِ [8]

وسارَ بهم إلى قتلي

وتمزيقي وإفنائي

ولو مَلَكُوا نواصِي الأرْ

ضِ أو صَعِدوا لجَوْزاءِ

فَلَنْ أرتَدّ عن ديني

ولا أهلي وأنحائي

ولن أرضَى سِوى الإسلا

مِ مِنْهاجاً لأبنائي

فَلَيلُ الظلمِ، مهما طا

لَ، لنْ يَرْقى لعْليائي

ولَنْ يَحْظى بما يَبْغِي

هِ من قَهْرِي وإحْنَائي

(1) العتبى: الرضى.

(2)

نخطب: نطلب.

(3)

اللأواء: الشدة.

(4)

المين: الكذب.

(5)

ذلق: فصيح اللسان.

(6)

الإعنات: الشدة، الإزراء: التحقير والتهوين والعيب.

(7)

حداء: منشد.

(8)

الأوشاب: الأخلاط.

ص: 49

من قضايا المنهج

لمحات في فن الحوار

الحلقة الثالثة

[معوقات الحوار]

محمد محمد بدري

المتأمل في أكثر حواراتنا الإسلامية يجد أن بعضنا يحمل في كيانه جراثيم

تمنع الحوار الصحي، وتعوق تنمية أفكارنا وتلاقحها خلال الحوار! !

ومن هنا: فإن كل خلاف في حواراتنا لا يُنتج إلا حرق جسور التواصل بيننا، لنصل إلى حالة اللا حوار.. ومن ثم: الفرقة والتناحر..

ومن هذه الجراثيم أعني المعوقات ما يلي:

التعصب والحزبية:

جناحا التعصب هما: ضعف النفس وجهل العقل.. ومن ثم: يؤدي التعصب

إلى الحزبية التي يبتلى بها كثير من المنتسبين إلى طائفة في العلم أو الدين أو إلى

رئيس معظّم عندهم، فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقهاً ولا رواية إلا ما جاءت به

طائفتهم. [1] ولا يميلون إلا إلى الاجتماع برفقائهم في الطائفة نفسها أو الحزب

الذين يحملون أفكارهم نفسها، فإذا اجتمعوا بمن يخالفونهم في بعض الآراء؛ فهم

معزولون عنهم بحاجز نفسي هو اهتمامهم بسحق المخالف وإفحامه، بل وإذلاله! !

وهم لا يرون الوجود حولهم إلا من خلال هذا اللون الحزبي الذي يوقعهم في الكثير

من الأخطاء.. فهم مثلاً: يرون أن ما عندهم هو الحق المطلق، وأن ما عند

الآخرين هو الخطأ المطلق.. وهذا يدفعهم إلى التعصب ضد الآخرين والتحامل

عليهم، لأن هؤلاء الآخرين لا يمكن عندهم إلا أن يكونوا خبيثين، ليس ما عندهم

إلا خطأ لا يحتمل الصواب! ! ومن ثم: فهم لا يرون الاستماع إلى هؤلاء الخبثاء

الجهلاء! فضلاً عن مناقشة آرائهم وعرضها على بساط البحث والنظر.. بل كل

جهد الحزبيين إنما يوجهونه للدفاع عن آرائهم، واستحضار الأدلة والبراهين

للاحتفاظ بها.

وهكذا يتحول الحوار بينهم وبين الآخرين إلى سباق يحاولون فيه إسماع

الآخرين ما يستطيعون من الأفكار التي يحملونها، في جو من النزال والمصارعة

الحوارية التي تواجه فيها كل كلمة بضدها، وكل فكرة بما يقابلها، ويقترن فيها

رفع الصوت مع ضعف الحجة، بل إن بعضنا قد يلجأ إلى تخانة الأحبال الصوتية

تعويضاً عن عمق الحجة، وكما قيل بحق الماء العميق أهدأ إذ تجد الصخب

والضجيج على الشاطئ حيث الماءالضحل ولا جواهر ولا درر، وتجد الهدوء

والسكون لدى الماء الأعمق حيث النفائس والكنوز [2] .

إن الضحالة الفكرية وغياب نفائس الأدلة لدى الحزبيين مع التعصب

المذموم.. كل ذلك: من أكبر معوقات الحوار، ومن أهم أسباب تعكير صفو المتحاورين وترسيخ الجهالة في قلوب العوام والمقلدين، بل أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها [3] .

إننا نرى في جلسات الحوار بين الحزبيين كيف تتزاوج الأفكار دون أن

تنجب أفكاراً جديدة.. وما ذلك إلا لأن الحزبية تؤدي إلى العقم الفكري الذي لا يرى

في الحوار إلا لوناً من ألوان النزاع الذي يجب تجنبه إذا أردنا أن تبقى علاقاتنا

وصلاتنا.. وهذا من عجائب التفكير الحزبي، وأعجب منه: أن الحزبيين إذا

وجدوا آية من كتاب الله توافق رأيهم أظهروا أنهم يأخذون بها، وإذا وجدوا آية

نظيرها تخالف قولهم لم يأخذوا بها، وطلبوا لها وجوه التأويل وإخراجها عن

ظاهرها حيث توافق رأيهم، وهكذا يفعلون في نصوص السنة سواء: إذا وجدوا

حديثاً صحيحاً يوافق قولهم، أخذوا به، وقالوا: لنا قول رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- كيت وكيت، وإذا وجدوا مئة حديث صحيح بل وأكثر تخالف قولهم،

لم يلتفتوا إلى حديث منها [4] .

إن من يدخل ساحة الحوار بقوالب فكرية معدة مسبقاً وانتماءات حزبية مقررة

سلفاً: إنما يدخل الحوار لتقرير رأيه، والمدافعة عنه، والتعصب له، وليس عنده

الاستعداد أبداً أن يتنازل عن رأيه، حتى وإن تبين له خطؤه.. ومن هنا: تتصدع

جسور التواصل بين المتحاورين، ولا يصل الحوار إلى أي نتيجة بحال.

إن الحوار الفعال يحتاج دائماً إلى طاقة عالية من الحب، تحرر العقل من

الخوف، وتوفر الأمان الفكري الذي يسمح بتبادل الأفكار على أساس من رؤية

واضحة ومتحررة من القيود الفكرية، وفي مقدمتها قيدا التعصب والحزبية.

التصنيف المتعسف:

يمثل هذا المرض الحواري (التصنيف المتعسف) لوناً من ألوان الإعاقة الذاتية

لسير الحوار في طريقه الواضحة المستقيمة.. ذلك أن أصحاب هذه الطريقة في

التفكير يسيطر عليهم التصنيف المتعسف وغير الحقيقي للآخر، ويجعلون من هذا

التصنيف الخاطئ ما يمكن أن نطلق عليه الفلتر الذي يتلقون من خلاله ما يعرضه

عليهم الآخر من أفكار، بل ليس عندهم أدنى استعداد لتغيير هذا الفلتر مهما أتى

الآخر من أقوال أو أفعال تدل على تغير أفكاره! ! فالحوار يبدأ بالتصنيف وتُفسر

الأقوال والأفعال بناءً على هذا التصنيف حتى ولو كانت لا تدل عليه! !

ومثل هذه الحال يشبه تماماً ما حكاه الإمام الشاطبي رحمه الله عن الإمام

الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال:

عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين

والمنكرين.. إن صدقت من دعاني لموافقته سمّاني موافقاً، وإن وقفت في حرف

من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفاً، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب

والسنة بخلاف ذلك وارد سمّاني خارجيّاً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني

مشبهاً، وإن كان في الرؤية سماني سالميّاً، وإن كان في الإيمان سماني مرجئيّاً،

وإن كان في الأعمال سماني قدريّاً، وإن كان في المعرفة، سماني كراميّاً، وإن

كان في فضائل أبي بكر وعمر، سماني ناصبيّاً، وإن كان في فضائل أهل البيت،

سماني رافضيّاً، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما،

سماني ظاهريّاً، وإن أجبت بغيرهما، سماني باطنيّاً، وإن أجبت بتأويل، سماني

أشعريّاً وإن جحدتهما، سماني معتزليّاً، وإن كان في السنن مثل القراءة، سماني

شافعيّاً، وإن كان في القنوت، سماني حنفيّاً، وإن كان في القرآن، سماني حنبليّاً،

وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخيار إذ ليس في الحكم والحديث

محاباة قالوا: طعن في تزكيتهم..

ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون عليّ من أحاديث رسول الله -

صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني

غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى ، ولن يغنوا عني من الله

شيئاً [5] .

فانظر (رحمك الله) إلى تلك الحال التي حكاها الإمام ابن بطة، وقارنها

بواقعنا.. هل تجد فرقاً؟

إن الكثيرين منا يدخلون الحوار مع الآخر وقد صنفوا هذا الآخر على أنه من

معسكرات الخصوم.. ومن ثم: يبدؤون في مصارعته عبر حوار شعاره: قاتل أو

مقتول، تستخدم فيه الأدلة لتشويه الآخر واتهام نواياه والطعن في مقاصده، ثم

يحشد المحاور مع الأدلة الأتباع المقربين عبر تعبئة عامة مفادها أن من ليس منا

فهوعلينا وأنه لا يمكن بناء كياننا إلا عبر تدمير كيانات الآخرين! ! .

ويبدأ الأسلوب العجيب في التصنيف؛ فيدان الفرد عبر تصنيف خاطئ

متعسف، ثم يدان كل شخص ينتسب إليه مجرد انتساب.. فتكون النتيجة الحتمية

هي ضمور الحوار الإيجابي، ثم يتطور الأمر عبر الروح الانفعالية ليصل إلى

موت الحوار تماماً.. ومن ثم: تحدث الفرقة المقيتة والتصارع المخزي.. تلك

الفرقة وذلك التصارع اللذان ينتجهما الزهد في سماع الآخر، فضلاً عن الرغبة في

التعاون معه بسبب من أخطر أمراضنا الحوارية وهو: التصنيف المتعسف.

الذوات المتورمة:

الإحساس بالذات في إطار إنجاز حقيقي، قد يكون أمراً مقبولاً.. أمّا الشعور

بتضخم الذات مع العجز والفشل فهو ما نقصده بمرض الذوات المتورمة؛ يرمونهم

بالسطحية، وضيق الأفق، والخلو من عمق الفهم.. بل إنهم يرون الآخرين

قاصرين في تفكيرهم، لم يصلوا بعد إلى النضج الذي وصلوا هم إليه! ! .

إنهم يرون أنفسهم الأساتذة الذين يفهمون كل شيء، ويعرفون كل الأمور! !

إنهم يرون أنفسهم أساتذة يجب أن يُعَلِّموا ولا يتعلّموا، ومن ثم: لا يقبلون

الاستماع إلى الآخر أيّاً كان هذا الآخر وإذا جلس أحدهم في حوار مضطرّاً، فهو

يحس في أعماق نفسه أنه أعلى من المكان الذي يجلس فيه، وأنه لا حاجة له في

سماع ما يقوله الآخر! !

إن الواحد من هؤلاء يمارس ما لا يصلح له من العلوم دون تأهل اغتراراً

بقدرته وذهولاً عن حقيقة علمه ومجاله، وتسمعه يتكلم فيما لا يحسنه، ولم يبلغ

الدرجة التي تؤهله للخوض فيه وإبداء الرأي في مسائله، فيضع الأمور في غير

موضعها فيضل ويضل [6] . ويدفعه تورم ذاته إلى ترك الحق الذي عليه الآخر،

كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: الكبر: مَنْ بَطِرَ الحق

وغَمَطَ الناس [7] ، ولا شك أن هذا الصنف من المحاورين لا يمكن أن يكون

حوارهم إلا فرصة لتورم ذواتهم، وليس لحل المشكلات أو الاختلافات المعروضة

للحوار، ولذلك تراهم يستبدون بآرائهم، ويسرقون الأدلة والبراهين لتسفيه الآخر

والتهكم منه والاستخفاف به، مع اعتقاد خفي بأن ما يصدر عنهم سداد لا خطأ فيه،

وأن ما يصدر عن الآخرين خطأ لا سداد فيه، ومن ثم: يعز عليهم الرجوع عما هم

عليه، فيبقون على أخطائهم لا يجدي معهم تفهيم ولا محاورة! !

إن المحاور أجدر الناس بالبعد عن الكبر بشتى صوره، فإن الطرف الآخر إذا

رأى منه ازدراءً له واحتقاراً بالقول أو الفعل فإن ذلك ينفره منه، ويؤدي إلى

كراهته وكراهة ما عنده من الحق، لأن الناس جبلوا على محبة المتواضعين

وكراهية المتكبرين [8] ، وما أفسد علينا أكثر حواراتنا إلا التعالي على الآخرين

وتجاهلهم والزهد فيما عندهم بسبب أحد أمراضنا الحوارية، وهو مرض تورم

الذات.

النظرة الأحادية:

النظرة الأحادية هي لون من ألوان الأمراض الحوارية التي يمكننا أن نطلق

عليه: عمى الألوان، حيث تسيطر على صاحبه فكرة واحدة، يرفض ما عداها من

الأفكار.. ففكرته في حقيقتها سجن يمنعه من الاطلاع على أفكار الآخرين،

ونظرته عمى يحول بينه وبين رؤية البدائل المطروحة من الآخرين، فضلاً عن

الإفادة منها.

إن أصحاب النظرة الأحادية يرون أنهم يملكون كل المعرفة، بينما لا يرون

أن الآخرين يمكن أن يملكوا ولو جزءاً من هذه المعرفة.. وحالهم في ذلك يشبه حال

من ذكرهم الإمام الغزالي في الإحياء في قصة رمزية تستحق التأمل مفادها: أن

ثلاثة من العميان أُدخلوا على فيل ولم يكونوا عرفوه من قبل فوضع أحدهم يده على

رجله، ووضع الآخر يده على ذيله، ووضع الثالث يده على بطنه، فلما خرجوا

سألوهم: ما الفيل؟ فقال الأول: الفيل: كسارية المسجد، وقال الآخر: الفيل:

كخرطوم طويل به شعر كثيف، وقال الثالث: الفيل: الجبل العظيم الأملس..

فأدخلوا مرة أخرى على الفيل، وأمسكوا بجميع أجزائه، وعندها ضحكوا من

تعريفاتهم السابقة للفيل، واستطاعوا أن يصفوه على حقيقته.

وهكذا أصحاب النظرة الأحادية، يرى الواحد منهم جزءاً من الحقيقة، ويظن

أنه يرى كل الحقيقة؛ فيصف الأمور بغير أوصافها.. فإن حدّثه الآخر عن بقية

الحقيقة التي يجهلها، لم يكلف نفسه مجرد محاولة التعرف على ما يريد الآخر قوله، بل يَنْقَض عليه متهماً إياه بالضلال والانحراف والجهل.. ولا يترك له فرصة

الحوار، بل يسعى لمصادرة آرائه والحجر عليه، فيصم أذنيه ويغلق عينيه، فلا

يسمع له رأياً ولا يقبل له طرحاً.. هكذا.. مهما بلغ الآخر من الفهم والتخصص

فيما يحدثه فيه ويعرضه عليه! !

إن النظرة الأحادية هي نظرة تفتقد إلى الشمولية والتوازن وضبط النسب،

ولذلك: فهي من المعوقات الكبيرة في طريق نجاح حواراتنا، فهل نتخلص منها؟

الحجة الدائرية:

إذا كانت الحجة الرأسية هي إحدى ميزات الحوار.. وكانت الحجة الأفقية

هي من عيوب الحوار [9]، فإن من معوقات الحوار ما يمكن أن نطلق عليه:

الحجة الدائرية.. فما هي تلك الحجة؟

إن الحوار مثلاً يكون حول المستوى التربوي لأفراد الحركة الإسلامية،

فيطلق أحد المتحاورين حكماً عامّاً بأن المعاصرين منهم ليسوا على مستوى

القدامى.. فيعترض الثاني ويسمي اثنين أو ثلاثة من أفراد الحركة الإسلامية المعاصرين.. وهنا يقول الأول: نعم.. ولكني لا أرى أن من ذكرتهم من المعاصرين بالمعنى الصحيح.. فيجيبه الثاني: وكيف تميز المعاصرين من القدامى؟ فيرد الأول: باستطاعتك أن تعرفهم بمستواهم التربوي الفائق!

وهكذا.. يعود الحوار إلى المكان نفسه الذي بدأ منه وكأنه يسير في دائرة! ! .

ولا شك أن أصحاب هذه الحجة الدائرية يغلب عليهم التنظير والسفسطة، مع

قلة من طرق مسدودة.

ومن هذه المغالطات الحوارية: أن يعمد أحدهم إلى فكرة الآخر فيقطعها أجزاءً

صغيرة، ثم يخضع كل جزء لامتحان دقيق ليظهره بلا قيمة وبلا فائدة، فإذا انتهى

من جميع أجزاء الفكرة خلص إلى تفاهة فكرة الآخر على الجملة! !

ومن مغالطات أصحاب الحجة الدائرية: أنهم يحاولون إحراق الجزئيات

بعرض الكليات.. فإذا تحدث المحاور عن ضرورة الحجاب مثلاً، تأوه هؤلاء

وبدؤوا في عرض آلام الأمة وأحزانها ليحيدوا عن مواجهة الموضوع الأساس

للحوار [10] .

ومن مغالطاتهم أيضاً: أن يستدل الواحد منهم على ما يراه بمؤهلاته العلمية،

أو قناعته الشخصية، أو يمينه المغلظة.. هكذا، وكأن مؤهلاته تصلح بديلاً عن

الحجة الواضحة.. أو أن قناعته الشخصية يمكن أن تحل محل الفكرة المقنعة.. أو

أن يمينه المغلظة يمكن أن تكون دليلاً؟ !

وهكذا تتعدد المغالطات الحوارية من الاحتجاج بالواهيات من الأدلة إلى

الاحتجاج بالكثرة من الدهماء على الباطل لمجرد كثرتهم.. إلى غير ذلك.

ومن طرائف هذا الصنف من المحاورين: ما حكاه الماوردي رحمه الله قال: رأيت رجلاً يناظر في مجلس حفل، وقد استدل عليه خصمه بدلالة صحيحة،

فكان جوابه أن قال: إن هذه دلالة فاسدة؛ ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما

لم يذكره الشيخ لا خير فيه! ! [11] .

فتأمل (رحمك الله) هذه الحجة وأمثالها مما لا يفيد معها منطق ولا يجدي معها

برهان.. ألا ترى أن الحوار لا يمكن معها الاستمرار فيه؟ وأن النتيجة البدهية لها

هي دوران الحوار في حلقة مفرغة بسبب من ترك محكمات الأدلة إلى متشابهاتها،

بل إلى ما ليس من الأدلة، وإنما هو حجة وهمية نطلق عليها جدلاً الحجة

الدائرية

*وثمة معوقات أخرى لا توقف الحوار فقط، بل يصبح الحوار معها أمراً

مستحيلاً، نذكر منها أحدها لكي ندرك أنه مع التزامنا بضوابط الحوار، وإتقاننا

لأساليبه، ومعرفتنا بمعوقاته.. فإن كل هذا لا يعني بالضرورة قبول الآخر لما

نقول من أفكار أو نعرض من آراء..

وهذا العائق هو..

كراهية الآخر:

في بعض الحوارات يظهر الحق جليّاً، ولكن يبقى صراع الآخر قائماً بتأثير

عوامل نفسية لا يجدي معها دليل ولا منطق.. ومن هذه العوامل النفسية: كره

المحاور لمن يحاوره، ذلك الكره الذي يدفعه إلى رفض ما عنده وإن كان صواباً..

وذلك كحال اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد كانوا يعرفون الحق قبل

ظهوره صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم هو به لم ينقادوا له حسداً وكرهاً.

إن من يدخل الحوار وقد انطوت نفسه على كره الآخر تراه يشتد في الحوار

حول ما يعرضه الآخر عليه من أمور لو أتته من غير هذا المحاور لقبلها بلا

جدال.. ومن هنا: فإن أمثال هذه الحوارات تفتقد الاعتماد على الحجة، بل هي في الحقيقة حوارات (طرشان) لا يسمع طرفٌ فيها الآخر، وإنما يتفنن كل طرف في أساليب العداء تجاه الآخر، تلك الأساليب التي تبدأ بوصم المخالف بأقبح الألقاب وأحط الأسماء، ثم تنتقل خطوة أخرى في العداء: فيبدأ المكر والكيد والتربص بأمر السوء حتى يصل العداء إلى أسلوب لأقتلنك حيث يرى الآخر أن قتل محاوره هو البديل للحجة والبيان، فيحل السيف والسنان محل القلم واللسان،

وتصبح المواجهة الوحشية والإرهاب والعدوان هي وسائل التحاور.. أو إن شئت قلت: وسائل فرض الرأي على الآخر..

وهكذا يعود الحوار إلى جاهلية الفكر التي واجهها رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- بالدعوة لتدبر الأمور والتفكر فيها، بينما يريد من يتربص بنا السوء من بني

جلدتنا أن يرجعونا إلى التحاور وفق ضوابطها في الصراع والتناحر، وعبر

أساليبها التي تحرق جسور التواصل بين المتحاورين لتصل بهم إلى الفرقة والتشرذم

والشتات والعار..

وبعد..

فهذه المقالة ليست رأياً لي أسجله، وإنما هي محاولة للمشاركة في تغيير واقع

حواراتنا عن طريق الكلمة المكتوبة.. ولست أدعي لهذه المحاولة الكمال، وإنما

هي خطوة على الطريق يعوزها التواصل المستمر.

فلتكن هذه المقالة دعوة للكتابة المستمرة والتذكير الدائم بقواعد الحوار وفنون

التحاور.

ولتكن هذه المقالة وصية لي ولإخواني بعدم الانقطاع عن الكتابة في هذا

الموضوع المهم تحت دعوى أننا عذرنا أنفسنا، وأدينا أمانة الكلمة بما كتبناه ذات

مرة حول لمحات في فن الحوار.

(1) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، ص8.

(2)

انظر: أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب المسلم، ط3 سنة 1408 هـ، ص76.

(3)

الشاطبي: الاعتصام، ج2، ص230.

(4)

ابن القيم: إعلام الموقعين، ج2، ص214، بتصرف.

(5)

الشاطبي: الاعتصام، ج1، ص28 - 29.

(6)

محمد العبدة: مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين، ص104.

(7)

أخرجه أبو داود: كتاب اللباس، باب ما جاء في الكبر، وقال الألباني: صحيح الإسناد (صحيح الجامع الصغير 4608) ؛ انظر صحيح سنن أبي داود، ج2، ص177.

(8)

د محسن عبد الناظر: الحوار مع أهل الكتاب، ص171، بتصرف.

(9)

راجع إن شئت: (ضوابط الحوار) .

(10)

د طارق الحبيب: كيف تحاور؟ ص72، بتصرف.

(11)

الماوردي: أدب الدنيا والدين، ص78.

ص: 52

سياسة شرعية

العلاقات والحصانات الدبلوماسية

في الفقة الإسلامي والقانون الدولي

(1)

بقلم: علي مقبول

نبذة تاريخية عن أهمية التمثيل الدبلوماسي:

قبل البدء في أخذ فكرة تاريخية مختصرة عن التمثيلالدبلوماسي، لابد لنا من وقفة لتعريف الدبلوماسية:

- ما أصل تسميتها؟ ، وما حدها؟ .

- وما موضوعها؟ .

* أصل تسمية الدبلوماسية:

إن هذه الكلمة مشتقة من الفعل اليوناني (Diploma) ومعناه (طوى) ، وكانت تطلق في العهد الروماني على الوثائق التي

كانت تطوى (طيتين) ، كجوازات السفر، وتذاكر المرور، أو الوثائق والصكوك

الصادرة عن الملوك والأمراء، والمتضمنة منح شخص ما توصية خاصة، أو

امتيازات استثنائية.

ثم أصبحت هذه الكلمة تطلق على الأوراق والوثائق الرسمية، أو تلك التي

تتضمن نص الاتفاقات أو المعاهدات المعقودة [1] .

وقد دخلت هذه الكلمة المعجم الدولي منذ أواسط القرن السابع عشر حين حلت

محل كلمة المفاوضة (Negotiation) ، وقد تطور مدلول الدبلوماسية مع الزمن

وأصبح يشير إلى معانٍ شتى [2] .

* المفاهيم المختلفة لكلمة الدبلوماسية:

لقد اختلف أساتذة القانون الدولي خاصة منهم الذي اهتم بدراسة العلاقات الدبلوماسية في تحديد معنى الدبلوماسية، وسنشير إلى أهم الآراء في تعريف هذه الكلمة:

1-

الدبلوماسية هي: علم علاقات الدول ومصالح كل منها، أو: فن التوفيق

بين مصالح الشعوب، وبشكل أدق: علم وفن المفاوضات [3] .

2-

وقيل: فن وعلم معالجة الشؤون الخارجية الدولية [4] .

وخلاصة القول: إن بعض الكُتّاب يستعمل الدبلوماسية بمعنى توجيه العلاقات

الدولية، وآخرون يقصدون بها: الأشخاص الذين يتولون الإشراف على العلاقات

الدولية في كل دولة، وقد استخدم المسلمون معاني هذه الكلمة في أول الأمر وسيلة

لنشر الدعوة الإسلامية، فقد بادر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إرسال

الرسل، داعياً ملوك وأمراء زمنه للإسلام [5] .

* تحديد موضوع الدبلوماسية:

يشتمل موضوع الدبلوماسية على دراسة المبادئ العامة والأساليب والأصول التي تتعلق بتمثيل الدول والعلاقات المتبادلة بينها.

والمسؤولون عن هذا التمثيل هم عادة رؤساء الدول، ورؤساء الحكومات،

ووزراء الخارجية، والممثلون الدبلوماسيون، ومع أن الذين يقومون بالتمثيل فعلاً

هم المبعوثون الدبلوماسيون؛ إلا إن لكل من رئيس الدولة، ورئيس الحكومة،

ووزير الخارجية دوره في التوجيه حسب أهمية مركزه [6] .

* نبذة تاريخية عن مراحل تطور الدبلوماسية:

يدل استقراء التاريخ أن المجتمعات السياسية تبادلت فيما بينها البعثات الدبلوماسية منذ أقدم العصور.

ففي سنة 2353 (ق. م) كان الإمبراطور ياو إمبراطور الصين يستقبل

مبعوثي البلاد المجاورة وفقاً لقواعد دقيقة ومراسيم مختلفة.

وعند الإغريق كانت المدينة هي الوحدة السياسية، وكان من الضروري أن

تدخل هذه المدن في مفاوضات وعلاقات فيما بينها، فكانت هذه المدن تحرص على

أن ترسل أبناءها الصالحين للتفاوض مع الآخرين.

أما الإمبراطورية الرومانية، فقد كان إرسال الرسل والسفراء عندها أمراً

شائعاً وطبيعياً، كما ساعد نشوء قانون الشعوب؛ وما احتواه هذا القانون من قواعد

تحكم علاقات الرومان بغيرهم على استقرار القواعد المتعلقة بالتمثيل

الدبلوماسي [7] .

أما العصور الأوروبية الوسطى فإنها امتازت عن سابقتها العصور القديمة

بأنها عصور تدهور وتأخر.

ولا شك أن النظام الإقطاعي الأوروبي قد لعب الدور الأكبر في هذا التدهور

والتأخر في العصور الوسطى، ومن البدهي أن نظاماً كنظام الإقطاع يستند على

الحروب والانعزالية والجهل لا يكون فيه أي مكان لتبادل الممثلين وعقد المعاهدات

وإجراء المفاوضات [8] .

أما عن الدبلوماسية في العصر الحديث التمثيل الدبلوماسي الدائم: فإن مؤتمر

(فيينا) لعام 1815م، وما أقره من قواعد دولية ثابتة يعتبر حجر الأساس في بناء

الدبلوماسية الحديثة، فقد اكتسبت بعده الخدمة الدبلوماسية أبعادها الخاصة بوصفها

مهنة مميزة عن حرفة السياسي، أو رجل الحكم، وأصبحت لها قواعدها،

وإجراءاتها، ومراسمها الخاصة بها.

ولم يكن من باب الصدفة اختيار (فيينا) بالذات لاجتماع مؤتمر الأمم المتحدة

للعلاقات والحصانات الدبلوماسية الذي بدأ أعماله في شهر مارس 1961م ففي

(فيينا) تم التصديق على أول اتفاق لتحديد الوضع القانوني للممثلين الدبلوماسيين

ومراتبهم [9] .

- صورة التمثيل الدبلوماسي في عصر صدر الإسلام:

يعطي الإسلام أهمية عظمى للتمثيل السياسي وتأمين السفراء؛ لأنه عن

طريقهم يمكن أن تتعرف سائر الشعوب على تعاليم الإسلام، ومبادئه، ويسهل

تبادل المعرفة والتعرف على الحضارات، والصناعات، وسائر التحركات الموالية

أو المعادية [10] .

والسنة النبوية مليئة بالتصرفات النبوية التي تدل على اهتمام النبي -صلى

الله عليه وسلم- بالسفارات؛ ومن ذلك: الكتب والرسائل التي حملها رسُلهُ -صلى

الله عليه وسلم- إلى الملوك، والرؤساء، والأمراء، داخل الجزيرة العربية

وخارجها.

وأيضاً مما يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالسفارات:

استقباله لرسل أعدائه، ومعاملته لهم؛ وإكرام وفادتهم؛ وهذا دليل على مشروعية

السفارة؛ ومما يؤكد ذلك قوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ

]

[المائدة: 1]

وقد جاء في تفسير العقود أنها ستة، منها: عقد الحلف [11] ؛ ويراد به:

المحالفات، والمعاهدات؛ ولا شك أن عقدها يتم بوساطة السفارات التي يقوم بها

الرسل، ولما أفادت هذه الآية جواز المعاهدات، ومشروعية عقدها، فإن ما

يتوصل به إلى عقدها يكون مشروعاً وجائزاً [12] .

ومعروفة قصة أبي رافع وسفارته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك

قصة سفارة رسولي مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ولقد اتسعت السفارة في عهد الدولة الأموية، وكان لها دور كبير في تثبيت

أركان الدولة وتعاليم الإسلام، وفي الفترات المحدودة التي ساد فيها السلام بين

الدولة الإسلامية والدولة الرومانية: كان هناك شيء من المراسلات، والسفارات،

ذات الطابع الثقافي، أو غيره؛ ومن ذلك: رسالة وردت من قيصر إلى معاوية

رضي الله عنه خليفة المسلمين يسأله عن أشياء، وقد أجابه معاوية عن ذلك [13] .

وقد بعث عبد الملك رسالة مع سفيره الشعبي إلى قيصر الروم، فأعجب

قيصر الروم أشد الإعجاب بعقلية الشعبي، فكتب رسالة خاصة إلى عبد الملك جاء

فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا الرجل كيف ملّكوا غيره [14] .

- الدبلوماسية في الدولة العباسية:

قامت الدولة العباسية عام 750م، وقد تطورت العلاقات الدبلوماسية في ظل

الدولة العباسية تطوراً كبيراً، حيث أقيمت علاقات متطورة مع جميع الدول،

وبخاصة النصرانية في أوروبا، وكان أساس هذه السفارات تبادل السفراء،

كالسفارات بين الخليفة المنصور وكل من الملك بين ملك الإفرنج، وبين الخليفة

هارون الرشيد وشارلمان ملك الإفرنج عامي 797 - 802م، وبين الخليفة

المأمون والبيزنطيين.

والسفارة بين عضد الدولة وبين الإمبراطور باسيل، وقد تبودلت السفارات

في مناسبات مختلفة في عهد الخليفة المقتدر مع بيزنطة سنة 918 م، حيث أرسلت

بيزنطة سفارة تتكون من عشرين شخصاً، وقد احتفوا بهم وأطلعوهم على مباهج

العاصمة بغداد، وقصورها، والأماكن المهمة فيها.

وقد أرسل البلغار وفداً إلى الخليفة المقتدر سنة 309هـ - 921م، للتفاوض

حول إرسال خبراء في بناء الحصون، وفقهاء الدين الإسلامي، وقد أرسل الخليفة

إليهم ذلك [15] .

الحصانات والامتيازات الدبلوماسية في القانون الدولي:

تمهيد: المقصود بالحصانة الدبلوماسية، هو ما يتمتع به المبعوث الأجنبي

من حقوق وامتيازات في الدولة المرسل إليها، ويعتبر هذا الموضوع من أهم

مقومات الدبلوماسية [16] .

ولذلك: فالحصانات والامتيازات ليست في حقيقتها سوى استثناء يرد على

اختصاص الدولة، لأنه من المسلّم به طبقاً لنظرية السيادة للدولة الحق في أن

تمارس اختصاصها على كافة الأفراد الذين يقيمون على إقليمها، والهدف من

الحصانات والامتيازات الدبلوماسية هو إعفاء بعض الأشخاص من سلطات الدولة

واختصاصها القضائي [17] .

* التكييف القانوني للحصانات والامتيازات الدبلوماسية:

يتمتع الممثلون الدبلوماسيون بحصانات وإعفاءات متنوعة في الدول التي يباشرون فيها وظائفهم، وقد تضاربت النظريات حول المبنى القانوني لهذه الحصانات إلى ما يلي:

1-

نظرية امتداد الإقليم: وهي تقرر أن رجل السلك الدبلوماسي حينما يوجد

في إقليم دولة أخرى يعتبر كأنه لا يزال في إقليم دولته، ومن ثم: لا يكون خاضعاً

لما يسري في إقليم الدولة التي يعمل فيها من قوانين.

ويعيب هذه النظرية: أنها قائمة على افتراض لا أساس له من الحقيقة،

ويؤدي إلى نتائج غير مقبولة، فقد استند إليها بعض السفراء في القديم للمطالبة

بإعفاءات تتناول الحي أو المنطقة التي توجد فيها السفارات أو المفوضيات.

2-

نظرية النيابة: ومقتضاها أن الممثل الدبلوماسي حين يباشر وظيفته إنما

ينوب عن رئيس دولته صاحب السيادة، ومن ثم: يتمتع بنفس الإعفاءات المقررة

لرئيس الدولة.

ويؤخذ على هذه النظرية: أنها تضيق عن تفسير ما يتمتع به الممثل

الدبلوماسي من حصانات خارج نطاق عمله الرسمي من جهة، ومن جهة أخرى:

فإن المسلّم به أن الممثل الدبلوماسي لا يتمتع بالمركز نفسه من حيث الإعفاءات

كرئيس الدولة الذي تقضي المبادئ العامة بأنه غير معصوم من الخطأ وتمتنع

مساءلته على أي وجه من الوجوه.

3-

نظرية الوظيفة: وهو الرأي الذي أيده كثير من المتخصصين في القانون

الدولي، وهو الذي يربط بين الحصانات وبين وظيفة الممثل الدبلوماسي، ويقرر

أن أساس الحصانة هو تمكين الممثل الدبلوماسي من مباشرة وظيفته التمثيلية وأداء

عمله دون عائق، وأن الحصانات مقررة للوظيفة ذاتها وليست لفائدة الممثل

الشخصية.

ولقد أخذت اتفاقية (فيينا) سنة 1961م، بنظرية الوظيفة؛ حيث قررت في

الديباجة أن الغرض من الحصانات ليس تحقيق فائدة الأفراد، بل ضمان الأداء

الفعال لوظائف البعثات الدبلوماسية باعتبارها ممثلة للدول.

على أن الإشارة إلى الصفة التمثيلية تفيد ضرورة مراعاة الصفة في تقرير

الحصانات الدبلوماسية.

ولما كانت الحصانات مرتبطة بالوظيفة وملازمة لها ولم تقرر لفائدة الممثل

الشخصية: فإنه يتفرع من ذلك أن الممثل الدبلوماسي لا يعفى من أحكام القانون

كلية بل هو يخضع لها بوجه عام، وإنما يمتنع فقط اتخاذ أية إجراءات إدارية أو

قضائية في مواجهته أمام السلطات الإقليمية، ويترك الأمر في هذا الشأن لسلطات

الدولة التي يتبعها، وذلك حتى لا يكون في اتخاذ هذه الإجراءات بواسطة الدولة

التي يباشر فيها وظيفته ما يعوق الممثل الدبلوماسي عن أداء عمله بحرية واطمئنان، ومن هذا أيضاً: أنه إذا ارتكب جريمة أو أمعن في انتهاك القانون الوطني،

فللدولة أن تطالب من دولة المبعوث الدبلوماسي استدعاءه، بل يجوز لها أن تطرده

من الإقليم [18] .

* ماهية الحصانات والامتيازات الدبلوماسية:

تمهيد: جرى العرف الدولي على تمتع الممثلين الدبلوماسيين بامتيازات عديدة

بعضها خاص بأشخاصهم، وبعضها خاص بأملاكهم وبدور الوكالات السياسية.

وقد تقررت لهم هذه الامتيازات تحقيقاً لاستقلالهم، وحتى لا تمنعهم من القيام

بمهمتهم على أتم وجه.

مع أنه يجب أن يلاحظ فيما يتعلق بهذه الامتيازات، التي سنشرحها تفصيلاً

إن شاء الله أن التمتع بها قاصر على الممثلين الدبلوماسيين الدائمين، تمييزاً لهم عن

الذين يُنتدبون لأداء مهمة خاصة أو لتمثيل دولتهم في مفاوضة أو ما أشبه ذلك،

فهؤلاء الأخيرون لا يتمتعون قانوناً بأي إعفاء.

وسنبين هذه الامتيازات إجمالاً، ثم نتحدث عنها بعد ذلك بشيء من التفصيل، ثم نتحدث عن موقف الشريعة الإسلامية من هذه الحصانات والامتيازات.

وهذه الحصانات والامتيازات بالنسبة للممثلين الدبلوماسيين التي قررها

القانون الدولي يمكن ذكرها إجمالاً فيما يلي:

1-

واجب عدم التعرض لشخص الممثل الدبلوماسي، أو الحصانة الشخصية.

2-

عدم خضوع الممثل الدبلوماسي لقضاء الدولة المبعوث لديها، أو

الحصانة القضائية.

3-

عدم خضوع دار الوكالة ومحتوياتها للقضاء الإقليمي.

4-

الحصانة المالية، أو الإعفاء من الضرائب.

أولاً: الحصانة الشخصية للممثل الدبلوماسي:

تؤكد المادة (29) من اتفاقية (فيينا) حصانة المبعوث الدبلوماسي، وتفصله

بقولها: تكون للممثل الدبلوماسي حصانة، ولا يجوز القبض عليه أو حجزه بأي

شكل من الأشكال، وتعامله الدولة المستقبلة بالاحترام الواجب، وتتخذ جميع

الإجراءات المعقولة لتمنع أي اعتداء على شخصه أو حريته أو كرامته.

ويفهم من هذه المادة: أن على الدولة المعتمد لديها المبعوث واجباً ذا شقين:

الشق الأول: أن تحرص من ناحيتها على عدم المساس بمكانة المبعوث بأي

صورة من الصور، فيتعين عليها معاملته بالاحترام الواجب لمركزه، وتجنب أي

فعل أو تصرف يكون فيه إخلال بهيبته أو امتهان لكرامته أو ازدراء لشخصه أو

تقييد لحريته، وبالأخص القبض عليه أو حجزه لأي سبب من الأسباب.

الشق الثاني: أن تكفل له الحماية اللازمة ضد أي اعتداء يمكن أن يوجه إليه

من الغير، أو أي فعل يكون فيه مساس بذاته أو بصفته.

وفي حالة وقوع اعتداء على المبعوث: يجب على الدولة المعتمد لديها أن

تجري ما يلزم لمؤاخذة أو معاقبة المسؤولين، وتعويض الضرر الذي يكون قد حدث.

ومراعاة مكانة ذات المبعوث الدبلوماسي واجبة ولو لم يتمسك بها فمكانته

تحميه على حد قول فوشي بالرغم منه، إذ هي مقررة لصالح دولته ضماناً لاستقلاله

في أداء مهمته المكلف بها من قبلها أكثر منها لصالحه الخاص.

وعلى رئيس البعثة الدبلوماسية إذا ما وقع عليه أو على أحد أعضائها اعتداء

أن يبلغ ذلك إلى الدولة المعتمد لديها، وعلى الدولة المعتمد لديها إجراء التحقيق

اللازم لذلك، ومجازاة المعتدي، وتقديم الترضية المناسبة، فإذا لم تهتم الدولة

المعتمد لديها بشكواه فإنه يبلغ ذلك لدولته لإجراء اللازم، وقد يطلب من الدولة

المعتمد لديها المغادرة على سبيل الاحتجاج.

ولكن ما الحكم إذا قام المبعوث الدبلوماسي برد الاعتداء الواقع عليه مباشرة؟

مما لا شك فيه أن الممثل الدبلوماسي يتمتع بحق الدفاع الشرعي عن النفس،

وعلى المبعوث هنا ألا ينسى طبيعة مهنته، وعليه أن لا يلجأ إلى الانتقام المباشر

إلا إذا كان في حالة دفاع شرعي عن النفس فعلاً [19] .

وأيضاً على الدولة الموفد إليها أن تمنع إهانة رجال السلك الدبلوماسي أو سبهم

أو التشهير بهم، ويذكر الشراح عادة أن حرية الصحافة تتقيد بهذا الشأن احتراماً

للقانون الدولي العام، ومع ذلك يجوز ممارسة حق النقد العادي في الصحف أو

الخطب [20] .

ويتبع حرمة المبعوث الدبلوماسي، حرمة مسكنه وأمواله، ويكون مسكنه

بمنأى عن التعرض من جانب سلطات الدولة أو من جانب الغير، وعلى الدولة

المعتمد لديها أن توفر الحماية الكافية لمسكن المبعوث الدبلوماسي، وتمشياً مع هذا

الاعتبار تنص المادة (30) من اتفاقية (فيينا) على أنه: يتمتع المسكن الخاص

للممثل الدبلوماسي بنفس الحصانة والحماية المقررة لمباني البعثة.

وتتمتع أيضاً وثائقه ومراسلاته، وكذلك ممتلكاته، باستثناء ما ورد في

الفقرة (3) من المادة (31) بنفس الحصانة، وسيأتي ذلك مفصلاً إن شاء الله عند الحديث عن الحصانة عن دار الوكالة السياسية [21] .

ثانياً: الحصانة القضائية:

تحدثت المادة (31) من اتفاقية (فيينا) عن الحصانة القضائية فقالت:

1-

يتمتع الممثل الدبلوماسي بالحصانة إزاء القضاء الجنائي للدولة المستقبِلة، كما يتمتع بالحصانة إزاء القضاء المدني والإداري لنفس الدولة، فيما عدا الأحوال

الآتية:

أ- دعوى عينية متعلقة بعقار خاص واقع في الدولة المستقبلة، إلا إذا كان

الممثل الدبلوماسي يتمتع بحق ملكيته لحساب حكومته من أجل أغراض البعثة.

ب- دعوى متعلقة بتركة يكون الممثل الدبلوماسي قد عين منفذاً أو مديراً لها،

أو يكون وارثاً أو موصى له بصفته الشخصية وليس باسم الدولة المرسلة.

ج- دعوى متعلقة بمهنة حرة أو نشاط تجاري أيّاً كان نوعه، حين مزاولة

الممثل الدبلوماسي في الدولة المستقبلة له خارج نطاق مهامه الرسمية.

2-

لا يلزم الممثل الدبلوماسي بأداء الشهادة.

3-

لا يجوز اتخاذ أي إجراء تنفيذي حيال الممثل الدبلوماسي، إلا في

الحالات الواردة تحت البنود أ، ب، ج من الفقرة (1) من هذه المادة، وبشرط ألا

تمس هذه الإجراءات مكانة شخصه أو سكنه.

4-

حصانة الممثل الدبلوماسي بالنسبة لقضاء الدولة المستقبلة لا تعفيه من

الخضوع لقضاء الدولة المرسلة [22] .

ومن هذه المادة نرى أنه لم يرد في اتفاقية (فيينا) تعريف محدد للحصانة

القضائية، ولهذا: فقد ذهب القانون إلى أن المقصود بالحصانة القضائية هو:

إعفاء أو استثناء أو عدم خضوع المبعوث الدبلوماسي للاختصاص القضائي المحلي.

ولكن قد يستدرك سائل فيقول: إن الأخذ بالتعريف السابق ينطوي على نقص

في سيادة الدولة المبعوث لديها الممثل الدبلوماسي!

وأجيب عن هذا التساؤل: أن المقصود بالحصانة القضائية هو الحصانة من

ممارسة الاختصاص، أي: إن عدم خضوع المبعوث الدبلوماسي لاختصاص محاكم

الدولة المستقبلة، لا تجعله فوق قوانين تلك الدولة، فالحصانة من الاختصاص

القضائي لا تعني الحصانة من المسؤولية، إذ تبقى مسؤوليته قائمة، وإن ما يترتب

على الدفع بالحصانة هو اختلاف المحاكم التي تتولى الفصل في الدعوى، إذ ينقل

هذا الاختصاص من محاكم الدولة المستقبلة إلى محاكم الدولة المرسلة.

وعلى ذلك يمكن القول إن المقصود بالحصانة القضائية: نقل الاختصاص

القضائي من محاكم الدولة المستقبلة إلى محاكم الدولة المرسلة في الدعوى التي

يكون أحد أطرافها مبعوثاً دبلوماسياً.

ويتحدد نقل الاختصاص في الدعاوى المدنية المقامة على المبعوث الدبلوماسي

وفقاً لأحكام القانون الدولي الخاص، باعتبار أن المبعوث الدبلوماسي شخص أجنبي

يخضع لأحكام تحديد الاختصاص الواردة فيه.

ويتحدد نقل الاختصاص في الدعاوى الجزائية وفقاً لقاعدة: شخصية القانون

الجزائي، التي تقضي بخضوع أفراد الدولة لأحكام قوانينها بغض النظر عن مكان

وقوع الجريمة [23] .

ومما سبق يتبين لنا: أن رجال السلك الدبلوماسي لا يخضعون لولاية الحاكم

في الدولة الموفد إليها بالنسبة لما يرتكبونه من جرائم على اختلاف أنواعها سواء

أكانت: جنايات، أو جنح، أو مخالفات.

ولا يجوز اتخاذ أي إجراء قضائي من قبض وتحقيق وتوجيه اتهام ومحاكمة

ضد أحد رجال السلك الدبلوماسي.

ولكن يحق للدولة الموفد إليها في القضايا الجنائية أن تبلغ دولة المبعوث

المخطئ طالبة سحبه ومحاكمته، وكذلك بإمكان المجني عليهم في الدولة الموفد إليها

التقدم بالشكاوى لوزارة الخارجية للدولة المستقبلة حتى تتخذ الإجراءات الدبلوماسية

اللازمة، وقد تطالب الأخيرة برفع الحصانة عنهم حتى تتمكن من تحقيق العدالة.

أما القضاء المدني: فيذهب الرأي الراجح في القانون إلى تقييد الإعفاء من

القضاء المدني، وذلك بالاستثناءات الواردة في المادة (31) في الفقرة (1)

وتشمل: أ، ب، ج [24] .

(1) د سموحي فوق العادة، الدبلوماسية الحديثة، ص1.

(2)

د محمد عزيز شكري، المدخل إلى القانون الدولي العام وقت السلم، ص319، 320.

(3)

د سموحي فوق العادة، الدبلوماسية الحديثة، ص2.

(4)

د عائشة راتب، التنظيم الدبلوماسي والقنصلي، ص65.

(5)

راجع: د محمد عزيز شكري، المدخل إلى القانون الدولي وقت السلم، ص322.

(6)

د فاضل زكي، الدبلوماسية بين النظريةوالتطبيق، ص14.

(7)

د محمد حافظ غانم، العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، ص35، 36.

(8)

د فاضل زكي، مرجع سابق، ص22.

(9)

راجع: د عدنان البكري، العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، ص34.

(10)

د محمد سلام مدكور، معالم الدولة الإسلامية، ص181.

(11)

انظر حول معنى الآية: كتاب أحكام القرآن للكيا الهراسي، ص7، وأحكام القرآن، للقرطبي، ج6، ص32، وفتح القدير، للشوكاني، ج2، ص4.

(12)

د محمد حسن سفر، السفارات في النظام الإسلامي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد التاسع، السنةالثالثة، شوال وذو القعدة وذو الحجة، عام 1411 هـ، ص18.

(13)

انظر: البداية والنهاية، لابن كثير، ج8، ص102.

(14)

انظر: د محمد الصادق عفيفي، التطور الدبلوماسي في الإسلام، ص35، 36.

(15)

د سهيل الفتلاوي، تطور الدبلوماسية عند العرب، ص106.

(16)

السابق، ص119.

(17)

سلطات الأمن والحصانات والامتيازات الدبلوماسية في الواقع العملي والنظري مقارناً بالشريعة الإسلامية، د فاوي الملاح، ص63.

(18)

انظر: مبادئ القانون الدولي العام، د محمد حافظ غانم، ص 581، 582.

(19)

انظر: التنظيم الدبلوماسي والقنصلي، د عائشة راتب، ص144.

(20)

العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، د محمد حافظ غانم، ص137.

(21)

انظر: القانون الدبلوماسي والقنصلي، د علي صادق أبو هيف، ص176.

(22)

انظر: مواد اتفاقية (فيينا) ، عن وثائق مؤتمر الأمم المتحدة بشأن العلاقات والحصانات والامتيازات الدبلوماسية المنعقد في (فيينا) عام 1961، عن المجلة المصرية للقانون الدولي، المجلد (17) 1961، ص52.

(23)

راجع الحصانة القضائية للمبعوث الدبلوماسي، دراسة مقارنة، د سهيل الفتلاوي، ص8991.

(24)

انظر: التنظيم الدبلوماسي والقنصلي، د عائشة راتب، ص155، والعلاقات الدبلوماسية والقنصلية، د محمد حافظ غانم، ص139.

ص: 60