المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 1 فهرس المحتويات 1- أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم: للشيخ - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 1 فهرس المحتويات 1- أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم: للشيخ

‌العدد 1

فهرس المحتويات

1-

أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم: للشيخ عبد المحسن العباد

2-

الاختبار: للشيخ عبد العزيز القاري

3-

البضاعة الفاسدة: للشيخ أبي بكر جابر الجزائري

4-

الثقافة الإسلامية: للشيخ أحمد حسن

5-

الجامعة الإسلامية

6-

ندوة الطلبة: كيف نعمل للإسلام - لجلال الدين مراد

7-

الفتاوى: الشيخ عبد العزيز بن باز

8-

الفقه في الدين: للشيخ حماد الأنصاري

9-

القدس.. والفتوحات: لمحمد محمد صالح ضيائي

10-

دروس من الوحي: للشيخ محمد شريف الزيبق

11-

ذكرياتي في أفريقيا: للشيخ محمد العبودي

12-

شكوى: للشاعر محمد إقبال

13-

صفحة من التاريخ: للشيخ أبي عمر

14-

طرائف - وسوانح

15-

طرق الدعوة إلى الله: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد

16-

قبسات من نور النبوة في الدعوة والتعليم: للشيخ صالح رضا

17 -

ماليزيا: لمحمد أحمد ملاك

18-

مشاكل الطلاب الجامعيين وحلها على ضوء الإسلام: للشيخ عطية سالم

19-

مع الصحافة: الطريق إلى مجتمع عصري: لأحمد علي الإمام

20-

معركة الإسلام على مدى التاريخ: للشهيد سيد قطب

21-

مكتبات المدينة ومخطوطاتها: للشيخ محمود ميره

22-

ملحمة قرآنية: للشيخ محمد المجذوب

23-

هذه المجلة: لفضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية - الشيخ عبد العزيز بن باز

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 1

هذه المجلة

لفضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:-

فهذا هو العدد الأول من مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، نقدمه إلى القراء الكرام راجين أن يجدوا فيه ما يفيدهم وينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وما يزيدهم بصيرة وفقها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

كما نرجو أن تكون هذه المجلة نبراسا لحل مشاكلهم وإنارة السبيل لهم.

ولقد تأخر صدور مجلة الجامعة الإسلامية وكان هناك بعض الآراء تقول بأنه لا ينبغي ذلك بل ينبغي أن تصدر مجلة الجامعة مع افتتاح الجامعة نفسها حتى تكون تلك المجلة لسانا ناطقا للجامعة يشرح أهدافها ومراميها ويوضح سير أمورها إلى غايتها.

إلا أن الرأي الأغلب قد استقر على أن يترك الحديث لأعمال الجامعة في مرحلة تأسيسها لا لأقوالها وأن تكون ثمرتها ملموسة لا موصوفة. وهكذا أوعزنا إلى المسئولين عن المجلة بأن تكون ميدانا تجري فيه أقلام المنتمين إلى الجامعة الإسلامية وغيرهم من رجال الفكر والعلم في جميع الأقطار لتكون بمثابة نقطة الالتقاء تتجمع حولها تلك الأقلام، لاسيما وهي المجلة التي تصدر عن المدينة المنورة عاصمة المسلمين الأولى ومنطلق الغزاة والفاتحين والدعاة المصلحين. وإن هذه المجلة تستهدف أن تكون ذات مستوى يتمكن من فهمه أغلبية القراء في البلدان الإسلامية وغيرها فهما يمكنهم من متابعة ما ينشر فيها وهضمه، ولن تكون مقصورة على الصفوة من العلماء والفقهاء والباحثين قصرا يمنع سواهم من ذوي الثقافات المتوسطة أو المستويات العليمة المحدودة أن يفهموها وينتفعوا بما ينشر فيها. الشيء الذي ستتجنبه المجلة إنما هو لغو القول وسفساف الأمور وكلما في نشره ضرر للمسلين أو خطر على وحدتهم وتضامنهم. وستكون – بإذن الله – مجلة إسلامية ثقافية لا مجلة سياسية حزبية تلك هي خطتها وذلك هو هدفها.

ص: 2

إن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة مؤسسة حديثة التكوين بالنسبة إلى عمر الجامعات والمؤسسات العلمية الكبرى فهي لم تستكمل من عمرها السابعة؛ ولكنها – بحمد الله – قد قطعت شوطا بل أشواطا طيبة إلى الهدف المقصود من إنشائها، فتخرج منها مئات من الطلاب الذين ينتسبون إلى عشرات من أوطان المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وأخذوا أماكنهم في تلك الأوطان وغيرها يعلمون الناس الخير ويرشدونهم إلى الصواب.

ولن أفيض هنا بالتحدث عن هذه الجامعة فذلك له مكان آخر من المجلة وإنما القصد هنا الإشارة إلى هدف المجلة. وأسأل الله مخلصا أن يأخذ بأيدينا إلى مواقع الحق والصواب. وأن يرزقنا جميعا صادق القول وصالح العمل وأن ينصر دينه ويعلي كلمته إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.

نائب رئيس الجامعة الإسلامية

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 3

أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم

للشيخ عبد المحسن العباد

المدرس في الجامعة

الحمد لله حمداً كثيراً طيبا مبارك فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده سبحانه ولا نحصي ثناء عليه أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فارتضى له الإسلام دينا، وجعل القرآن له خلقا، أمتن عليه بالصفات الفاضلة، ثم أثنى عليه قائلا:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .ونشهد أن لا إ له إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر وبيده الخير وهو على كل شيء قدير، يعطي من يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، قسم بينهم أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم فجعل نصيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من الرزق كفافا ومن الأخلاق أكملها وأحسنها وأوفاها، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ص: 4

ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه بعثه الله إلى أهل المعمورة ليجدد به صلة السماء بالأرض، فأنزل عليه الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، ختم به الرسل وختم بكتابه الكتب وجعله معجزته الخالدة، فهدى الناس به إلى الصراط المستقيم وحذرهم السبل التي تنتهي بهم إلى الجحيم، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن وحشة القلوب وتقلباتها في أنواع المعبودات إلى انسها وثباتها على عبادة فاطر السموات والأرض، قد أعظم الله عليه المنة وأتم به وعليه النعمة إذ بعثه ليتم مكارم الأخلاق. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين اختارهم الله لصحبته ونشر سنته، فجعلهم طليعة الخيار، وصفوة الأبرار، وعلى من سلك سبيلهم وسار على منوالهم مترسما خطاهم، مقتفيا آثارهم، عامر القلب بحبهم، رطب اللسان بذكرهم بالجميل اللائق بهم بالثناء عليهم بما هم أهله والدعاء لهم بما علمنا الله في قوله:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .

ص: 5

أما بعد: فموضوع هذه المحاضرة موضوع حبيب إلى النفوس المؤمنة هو (أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها) وكيف لا يكون حبيبا إلى النفوس الحديث عن أخلاق نبي بعثة الله رحمة للعالمين، نبي لا نكون مؤمنين حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا والناس أجمعين، نبي لا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعا لما جاء به صلى الله عليه وسلم، نبي رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من ذكره عنده فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه إلى يوم الدين. وهذا الموضوع العظيم الذي اخترته وآثرت الحديث فيه اعتذر مقدما عن تقصيري في توفيته حقه واعتقد أن توفيته حقه على الحقيقة نادر إن لم يكن متعذرا لكن كما يقولون.. ما لا يدرك كثيرة لا يترك قليلة.

نعم إن جهد المقل أعرضه في هذه السوق التي أتاحت لي رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أن أساهم فيها، وأسأل الله العظيم رب كل شئ ومليكه أن يوفقنا جميعا للتأدب بآداب هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وأن يحينا على دين الإسلام الذي ارتضاه لنا دينا حتى يتوفانا عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا به. وقبل الشروع في نفس الموضوع أرى أن أتحدث بين يديه إجمالا عن شدة الحاجة إلى بعثته صلى الله عليه وسلم، واختيار الله له واعتزاز المشركين على ذلك، والامتنان على الناس ببعثته، وضرب أمثلة للأمور والخصال التي حصلت بين يدي بعثته توطئة وتمهيدا لها.

شدة الحاجة إلى بعثته صلى الله عليه وسلم:

ص: 6

ما أكثر نعم الله على عباده وما أحوجهم دائما وأبداً إلى شكره سبحانه على هذه النعم التي أمتن عليهم بها في قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} وقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وأعظم نعمة أنعم بها على هذه الأمة أن بعث فيها رسولها الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ليرشد إلى كل نافع في الحاضر والمستقبل، ويحذر من كل ضار في العاجل والآجل، أرسله على حين فترة من الرسل، واند راس من الكتب في وقت انتشرت فيه الضلالة وعمت فيه الجهالة وبلغت البشرية منتهى الانحطاط في العقائد والعادات والأخلاق فانتشلهم به من هوة الضلالة ورفعهم إلى صرح العلم والهداية، فأزاح به عن النفوس تعلقها بغير خالقها وفاطرها سبحانه وتعالى، ووجهها إليه بقلبها وقالبها حتى لا يكون فيها محل لغيره سبحانه، بل تكون معمورة بحبة وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه تستسلم لأوامره، وترعوي عن زواجره ونواهيه. شيء من أمراض القلوب التي انتشرت قبيل بعثته صلى الله عليه وسلم، وكيف عالجها صلوات الله وسلامه عليه. خلق الله الإنسان مركبا من شيئين بدون وروح، وجعل لكل منهما ما يغذيه وينميه، وأرشد إلى طرق العلاج التي يعالج بها كل منهما عندما يطرأ عليه مرض أو سقم فقد أغدق نعمه على عباده وقال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} . أما الروح فقد استحكمت أمراضها قبل بعثته صلوات الله وسلامه عليه حتى كانت من قبيل الأموات فأحياها الله بما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} . وأرشد سبحانه إلى أن شفاء أمراضها وجلاء أسقامها إنما هو بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ

ص: 7

وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} .

نعم لقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم في مجتمع انتشرت فيه الأمراض القلبية على اختلافها وتنوعها وأعظم هذه الأمراض على الإطلاق تعلق القلوب بغير الله وصرف خالص حقه سبحانه إلى غيره من مخلوقاته، فعالج صلى الله عليه وسلم هذا المرض الخطير والداء العضال باستئصاله وتطهير القلوب من أدرانه أولا، ثم شغلها وعمارتها بحب الله وخوفه ورجائه وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له لكونه سبحانه المتفرد بالخلق والإيجاد، فهو بحق المستحق لأن يعبد وحده لا يعبد معه غيره كائنا ما كان، وقد لقي صلوات الله وسلامه عليه من المشركين في هذا السبيل ألوانا مختلفة من الإيذاء، فصبر حتى ظفر بنصر الله وتأييده وكانت العاقبة له صلى الله عليه وسلم وأنصاره والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين والعاقبة للمتقين والعاقبة للتقوى، ولقي أيضا منهم ألوانا من المعارضة والتعنت أوضحها الله في كتابه العزيز في سورة الحجر والإسراء وغيرها من سور القرآن ومن ذلك ما ذكره الله عنهم في سورة ص {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} . وقد حملهم على هذه المقالة الكبر والحسد، ومثل هذه المقالة التي حكاها الله عن كفار قريش ما ذكره الله سبحانه في سورة القمر عن قوم صالح بقوله:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} وأبرز الطرق التي عالج بها صلى الله عليه وسلم ذلك الداء الذي هو

ص: 8

أعظم الأدواء على الإطلاق إلزام الكفار بأن يفردوا الله في العبادة لما كانوا معترفين بانفراده سبحانه بالربوبية، وأكتفي بالتمثيل لذلك بما ذكره الله سبحانه في سورة النمل من الآيات التي أوضحت تلك الطريقة غاية الإيضاح وذلك قوله سبحانه:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وبما ذكره الله سبحانه في سورة الحج من التصوير العجيب والتمثيل البليغ لعجز المعبودات التي أشركوها مع الله حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ..} .

ص: 9

ومن الأمراض التي عالجها صلى الله عليه وسلم بحكمته الظلم والجور، وازدراء المساكين، والتفاخر بالأحساب والأنساب. فنشر فيهم العدل، وعمهم الاطمئنان والاستقرار، وصار مقياس الفضل بينهم تقوى الله بدلا من اعتبار ذلك بالحسب والنسب، وقد أعلنها صلى الله عليه وسلم صريحة في حجة الوداع في أعظم جمع شاهده عليه الصلاة والسلام حيث قال:"ألا لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، الناس لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم " أو كما قال. ولما بلغه صلى الله عليه وسلم شأن المخزومية التي سرقت أمر بقطع يدها فراجعه أسامه بن زيد فأنكر صلى الله عليه وسلم عليه ذلك وقال صلى الله عليه وسلم المقالة التي برهن بها عن مدى تحقيق العدالة: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". وقد أشار صلى الله عليه وسلم في جوابه لأسامة ابن زيد بأن العدول عن العدل سبب هلاك الأمم المتقدمة حيث قال: "إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.."

ص: 10

ولما قسم صلى الله عليه وسلم غنائم حنين وأكثر العطاء للمؤلفة قلوبهم وجد الأنصار رضي الله عنهم في أنفسهم شيئا إذا لم يصبهم ما أصاب الناس، فأتى إليهم صلى الله عليه وسلم وقال:"ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم بي، وعالة فأغناكم الله بي" وقد ذكرهم الله سبحانه في كتابه العزيز بهذه النعمة وأنها من أعظم النعم عليهم فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} . وقال سبحانه: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

ص: 11

هذه بعض الأمراض التي انتشرت قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، منّ الله سبحانه وتعالى على البشرية بإرسال رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لينقلها من ذل عبادة المخلوق إلى عز طاعة الخالق جل وعلا، ومن الظلم والجور وسفك الدماء إلى ساحة العدل والأمن والاطمئنان، من الفرقة والاختلاف إلى الاجتماع والائتلاف، من التعاون على الإثم والعدوان إلى التعاون على البر والتقوى، من الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الغش والخيانة إلى النصح والأمانة، من الجزع والهلع والاعتراض على قضاء الله إلى الصبر والثبات والرضى بما قدره الله وقضاه، وفي الجملة: من كل ضار عاجلا وآجلا إلى كل نافع في الحال والمآل. وقد أرشد الله سبحانه إلى شكره على ذلك بعبادته وحده لا شريك له في قوله سبحانه: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} .

اختيار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:

ص: 12

يقول الله سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} . هذه الآية الكريمة تدل على أن الله سبحانه وتعالى منفرد بالخلق يقول للشيء الذي أراده كن فيكون، وتدل أيضا على أن تلك المخلوقات التي أوجدها من العدم لم يسوها أختار منها ما شاء وله الحكمة البالغة فخصه بالتفضيل، فقد اختار من أرضه مكة حرسها الله فجعلها مقر بيته الحرام من دخله كان آمنا وصرف قلوب الناس إليه وأوجب على المستطيع منهم حجة، وحرم صيده، وقطع شجره، وضاعف الأعمال الصالحة فيه، وحذر من الخروج عن طاعته سبحانه وأشار إلى عقوبة إرادة السوء في الحرم بقوله سبحانه:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . ويلي ذلك مهاجر رسوله صلى الله عليه وسلم هذه المدينة المباركة حرم رسول الله صلى عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". واختار سبحانه من الشهور شهر رمضان ففضله على سائر الشهور، واختار منه ليلة القدر ففضلها على سائر الليالي، واختار من الأيام يوم عرفه فجعله أفضل الأيام، واختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة فجعله أفضلها، وأختار من الملائكة جبريل وإسرافيل وميكائيل فوكلهم بأسباب الحياة، واختار من البشر أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ففضلهم على غيرهم وجعل أفضلهم أولي العزم منهم، واختار الخليلين إبراهيم ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما فجعلهما أفضلهم، وجعل محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الخليلين، وأمته خير الأمم فهو عليه الصلاة والسلام إمام المتقين وسيد المرسلين وخليل رب العالمين وخاتم النبيين، أقام الله به الحجة على الثقلين الجن والإنس، وأول قبر ينشق عند النفخ في الصور قبره، ولا يدخل الجنة أحد قبله، واختصه سبحانه بالمقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون وهو الشفاعة العظمى في فصل القضاء التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل كل واحد يقول نفسي

ص: 13

نفسي أذهبوا إلى غيري حتى تنتهي إليه صلوات الله وسلامه عليه فيقول: "أنا لها" ثم يشفع فيشفعه الله وصدق الله العظيم حيث يقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وقد أشار سبحانه في كتابة العزيز إلى اختياره من يشاء بقوله سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" فهو صلى الله عليه وسلم بنص هذا الحديث الشريف خلاصة خلاصة خلاصة باعتبار شرف النسب كما كان خلاصة باعتبار الفضل وعلو المنزلة عند الله.

اعتراض المشركين على اختيار الله له صلى الله عليه وسلم

ص: 14

ولما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ليهديهم به إلى الصراط المستقيم قابله المشركون بما يستطيعونه من الأذى والمناوأة وتأليب الناس عليه وتحذيرهم منه، فوصفوه بأشنع الأوصاف فقالوا:"أنه ساحر"وقالوا: "أخرى أنه كاهن"وقالوا: "مجنون"هذا وهم أعلم الناس بماضيه المشرق الوضاء، ولكن الذي حملهم على ذلك الكبر والحسد. فقد أخبر الله عنهم في كتابه العزيز أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير مازا دهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وقال سبحانه وتعالى مخبرا عنهم:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} . إلى أن قال مشيرا إلى حسدهم له صلوات الله وسلامه عليه: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} . وقال سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} . ثم قال مخبرا عن اعتراضهم على الله في اختياره لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . فأنكر عليهم ذلك وبين أن الأمر أمره، والخلق خلقه، والفضل فضله يؤتيه من يشاء فهو أعلم حيث يجعل رسالته فقال سبحانه:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} . ونظير هذا قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} . وقال سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ

ص: 15

لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ - إلى أن قال- قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُم} . وقال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} وقد روى الحاكم بسند على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به"فأنزل الله {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} . وروي أن الأخنس بن شريق دخل على أبي جهل فقال: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا"فقال أبو جهل: "ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي بالسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش"، وقال:"تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي ينزل عليه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به ولا نصدقه". وهكذا يبلغ الكبر والحسد بهؤلاء القوم الذين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، حملهم ذلك على تجاهل الحقيقة وإبداء خلاف المستقر في القلوب، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم متبعين في ذلك إمامهم في الضلال والحسد إبليس اللعين حيث فسق عن أمر ربه له بالسجود لآدم كبرا وحسدا استنادا منه لعنة الله على أنه أفضل منه على زعمه، لكونه خلق من نار وآدم عليه الصلاة والسلام خلق من طين..

امتنان الله سبحانه على الثقلين برسالته صلى الله عليه وسلم

ص: 16

من رحمة الله سبحانه بعباده أن أرسل فيهم رسله يبشرون وينذرون كلما ذهب نبي خلفه نبي حتى ختمهم نبي الرحمة محمدا صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَة} . ولقد اختار منهم سيدهم وإمامهم فجعله خاتم النبيين واختصه بخصائص ومزايا لم يشاركه فيها أحد منهم، كما اختص أمته بخصائص ليست لغيرهم من الأمم السالفة، ومن تلك المزايا التي أمتاز بها على غيره من المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين أن بعثه إلى الأسود والأحمر بل إلى الجن والإنس جميعا كما قال الله سبحانه عن الجن الذين استمعوا لقراءته صلى الله عليه وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين:{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي -فذكر من بينها- وكان النبي يبعث إلى قومه خاص وبعثت إلى الناس عامة". وفي ذلك يقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} ويقول: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . وقد أوضح ذلك صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحة حيث قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.." قال سعيد بن جبير رحمه الله مصداق ذلك في كتاب الله عز وجل قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ

ص: 17

مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} . ولا شك أن أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض هي إرسال هذا النبي الكريم الذي أكمل الله به الدين وجعله حجة على الناس أجمعين. وقد أخبر الله في كتابه العزيز عن إبراهيم بأدعية من بينها: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .وقد أجاب الله دعائه فبعث في الأمين وفي غيرهم محمدا صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وتلك النعمة العظمى والمنة الجسيمة نوه الله بها في معرض الثناء على نفسه سبحانه في آيات كثيرة منها قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . ومنها قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} . ومنها قوله سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ

ص: 18

رَحِيمٌ} . وإنما كان إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الناس أعظم منة أمتن بها على عباده لأن في ذلك تخليص من وفقه الله وهداه منهم من العذاب السرمدي بسبب الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والابتعاد عن الشرك الذي لا يغفره الله كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .

التمهيد لبعثته صلى الله عليه وسلم

ومن حكمة الله وفضله أن هيأ لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه جميع أسباب الشرف والرفعة وعلو المنزلة، ووفر فيه جميع الخصال التي تؤهله للقيام بأعباء الرسالة العظمى التي اصطفاه واختاره لها صلوات الله وسلامه عليه، وفيما يلي أذكر على سبيل المثال بعض تلك الأسباب والخصال وأبين كيف كانت توطئة وتقدمة لبعثته صلى الله عليه وسلم:

أولا: أن الله سبحانه جعله عريق النسب، كريم المنبت، اصطفاه من أشرف قبائل العرب قبيلة قريش التي شهد لها غيرها بالسيادة والقيادة، وهذه سنة الله في رسله كما جاء ذلك في سؤال هرقل ملك الروم لأبي سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كيف نسبه فيكم"قال أبو سفيان: "هو فينا ذو نسب"ثم قال هرقل عند ذلك: "الرسل تبعث في نسب قومها"وإنما كانت هذه سنة الله في رسله ليسد على أعدائهم باب القدح فيهم والتنقيص لهم، فلا يجد أعداؤهم سبيلا إلى إلصاق العيوب بهم.

ص: 19

ثانيا: أنه صلى الله عليه وسلم نشأ فقيرا يتيما في كفالة جده عبد المطلب ثم عمه أبي طالب وذلك من أسباب التواضع والتحلي بالصفات الحميدة والبعد عن الصفات الذميمة كالكبر والظلم وغير ذلك، وقد ذكر الله ذلك منوها بتفضله على نبيه صلى الله عليه وسلم بإيوائه وإغنائه وهدايته حيث قال سبحانه:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} . ثم أرشده إلى شكر هذه النعمة بأن يعطف على اليتامى والمساكين ويتحدث بنعمة الله عليه قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} . وهذه تربية إلهية لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ذكرها الله في كتابه العزيز تنبيها لعباده المؤمنين بأن يحملوا أنفسهم على تلك الصفات الحميدة وغيرها شكرا لله سبحانه على توفيقه لهم بالهداية بعد الضلالة، والغنى بعد الفقر، وغير ذلك من نعمه عليهم، والمعنى لا تقهر ولا تنهر الفقير فقد كنت فقيرا تكره أن تنهر، ولا شك أن تذكير الإنسان بنعمة الله عليه من أقوى الأسباب في الإقدام على الخير والأحجام عن الشر لمن وفقه الله..

ص: 20

ثالثا: إن الله سبحانه وتعالى نشأه نشأة صالحة، وأنبته نباتا حسنا متحليا بكل خلق كريم بعيدا عن كل وصف ذميم، شهد له بذلك موالوه ومعادوه، ولكن من لم يشأ الله هدايته تعامى عن هذا كله وأظهر خلاف ما يبطنه كبرا وحسدا، وفي توفيق الله لنبيه صلى الله عليه وسلم للاتصاف بالصفات النبيلة والسلامة من الأخلاق الرذيلة قطع لألسنة أعدائه وإسكات لهم عن أن يعيروه بأدنى عيب، أو يصفوه بشيء من النقص، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يغدر قال:"لا"ولم يستطع مع شدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن يقول أكثر من قوله بعد نفي الغدر عنه: "ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها"قال: "ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة". وقد تحرز من الكذب خوفا من ملك الروم فأعداؤه صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون وصفه حقيقة بوصف معيب، أما الكذب والافتراء عليه صلى الله عليه وسلم فقد قالوا عنه:"أنه ساحر"وقالوا عنه: "شاعر"وقالوا عنه: "أنه كاهن"وغير ذلك، وقد صانه الله سبحانه من ذلك الذي الصقوه به ومن كل عيب، وأنكر على المشركين افتراءهم وكذبهم عليه وأخبر بأنه من ذلك براء فقال سبحانه:{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} . وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} .

ص: 21

رابعا: أنه صلى الله عليه وسلم نشأ أميا بين أميين لا يقرأ ولا يكتب، ثم جاء من الله بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وفي نشأته صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة قطع للطريق التي ينفذ منها الكفار إلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.. فيما جاء به عن الله وأنه من أساطير الأولين قرأها أو كتبها لو كان كذلك، وقد أوضح الله ذلك بقوله:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} . ثم أشار إلى حصول الريبة من أعدائه لو كان قارئا كاتبا بقوله: {إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . وتلك الطريق التي قطعت عليهم بجعله صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب سلكوها كذبا وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم التام ببعده صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا إنما يعلمه بشر ويأبى الله إلا إن يتم نوره ويظهر دينه فيجيبهم بأن لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا الذي جاءهم به لسان عربي مبين. ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى عند إنكاره على قومه صلى الله عليه وسلم ما يقومون به من المعارضة والمناوأة له صلى الله عليه وسلم يلفت أنظارهم إلى ماضيه المشرق الوضاء، ويذكرهم بعلمهم ومعرفتهم التامة لحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه فيقول سبحانه:{أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} ويقول: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . ثم إنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأنه ليس له إلا التبليغ عن الله، وأنه لو شاء الله

ص: 22

ما حصلت منه صلى الله عليه وسلم تلاوة ولا حصل لهم علم بذلك فقال: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} . ثم ذكرهم بماضيه قبل إنزال القرآن عليه وما اتصفت به من جميل الصفات، وأنه قد بقي فيهم قبل أن يبعثه الله أربعين سنة ملازما لأسباب الرفعة بعيدا عن أسباب الضعة والهوان فقال:{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} . أنكر عليهم وصفهم له بالكذب والافتراء مع أنهم أعلم الناس به، وأن ذلك مخالف للفطر والعقول السليمة فقال:{أَفَلا تَعْقِلُونَ} . ثم أخبر بأنه لا أحد أشد ظلما وأكبر جريمة من أثنين المفتري على الله والمكذب بما جاء عن الله فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ..} .

خامسا: ومن الأمور التي حصلت بين يدي بعثته صلى الله عليه وسلم توطئة وتمهيدا لها الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كما ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره.

ص: 23

سادسا: أنه صلى الله عليه وسلم رعى الغنم بمكة وفي ذلك تمهيد وتهيئة لإرساله إلى الناس كافة ليرشدهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وتحذيرهم مما يعود عليهم بالأضرار العاجلة والآجلة، وإنما كان رعية الغنم بمكة توطئة وتقدمة لبعثته صلى الله عليه وسلم لأن هذا العمل مدعاة إلى التحلي بجميل الصفات كالتواضع والسكينة والوقار مع مافيه من اشتغال الراعي بالرعية وبذله الأسباب التي تؤدي إلى سلامتها وقوتها فيعتني بها ويرتاد لها المراعي الخصبة ويبتعد بها عن الأراضي المجدبة، ويحميها من الذئاب، ويسلك بها الطرق السهلة ويحيد بها عن السبل ذات الشدة والوعورة، وهذه سنة الله في رسله كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامة عليه ولله الحكمة البالغة في ذلك، فمزاولة مثل هذا العمل فيه ترويض للنفس وتهيئة لها للقيام بأعباء الرسالة، فهو بلا شك درس عملي لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم يكسبهم مرونة وخبرة لينتقلوا من تربية الحيوان إلى تربية بني الإنسان..

أخلاقه صلى الله عليه وسلم

تعريف الخلق:

الخلق بضم اللام وسكونها الدين والطبع والسجية قاله ابن الأثير في غريب الحديث: "وفي الاصطلاح يطلق إطلاقين أحدهما أعم من الثاني فيطلق على الصفة التي تقوم بالنفس على سبيل الرسوخ ويستحق الموصوف بها المدح أو الذم، ويطلق على التمسك بأحكام الشرع وآدابه فعلا وتركا، ومن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة قال يا رسول الله أخلقين – تخلقت بهما أم جبلت عليهما قال "بل جبلت عليهما"قال: "الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله"ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق" وقول عائشة رضي الله عنها في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} كان خلقه القرآن.

ص: 24

هذا تعريف الخلق في اللغة والاصطلاح. ننتقل بعده إلى الحديث عن أخلاقه الفاضلة وسجاياه الحميدة في جميع مراحل حياته صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا أجتمع فيه من أوصاف المدح والثناء ما تفرق في غيره، قد صانه الله سبحانه وحفظه من أدنى وصف يعاب صاحبه كل ذلك حصل له من ربه فضلا ومنه قطعا لألسنة أعدائه الذين يتربصون به ويقفون في طريق دعوته مؤذين له محذرين منه أحب شيء إليهم تحصيل شيء يعيبونه به وأنى لهم ذلك.

فقد نشأ صلى الله عليه وسلم في أول أمره إلى آخرة لحظة من لحظاته متحليا بكل خلق كريم، مبتعدا عن كل وصف ذميم، فهو أعلم الناس وأنصحهم وأفصحهم لسانا، وأقواهم بيانا، وأكثرهم حياء، يضرب به المثل في الأمانة والصدق والعفاف. أدبه الله فأحسن تأديبه فكان أرجح الناس عقلا، وأكثرهم أدبا، وأوفرهم حلما، وأكملهم قوة وشجاعة وشفقة، وأكرمهم نفسا، وأعلاهم منزلة، وبالجملة كل خلق محمود يليق بالإنسان فله صلى الله عليه وسلم منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه شهد له بذلك العدو والصديق.

وفيما يلي أورد بعض الشهادات التي شهد له بها الموالون له والمعادون الدالة دلالة بينة على تمسكه بالأخلاق الحسنة قبل أن يبعثه الله تعالى وذلك معلوم من الدين بالضرورة:

1-

شهادة خديجة رضي الله عنها:

لما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في غار حراء لأول مرة ورجع إلى خديجة أخبرها الخبر وقال: "لقد خشيت على نفسي". فقالت له رضي الله عنها: "كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق".رواه البخاري.

2-

شهادة كفار قريش عند بنائهم الكعبة:

ص: 25

ولما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا جميعا وقالوا جاء الأمين جاء محمد. وقد كانوا يلقبونه بلقب الأمين لما يعلمونه من أمانته صلوات الله وسلامه عليه

3 -

شهادة كفار قريش بصدقه صلى الله عليه وسلم:

ثبت في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي – لبطون قريش – حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي" قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال: أبو لهب: "تبا لك ألهذا جمعتنا.."

4 -

شهادة أبي جهل بصدقه صلى الله عليه وسلم:

تقديم الحديث الذي رواه الحاكم بسند على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نكذبك لكن نكذب ما جئت به". فأنزل الله {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .

ولما قال له الأخنس بن شريق: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ "فقال: "ويحك والله إن محمدا صادق وما كذب محمد قط"الخ..

5-

شهادة أبي سفيان بين يدي هرقل ملك الروم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ووفائه:

ص: 26

فقد روى البخاري في صحيحة عن ابن عباس رضي الله عنه أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا ذهبوا إلى الشام لأجل التجارة في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادا فيها أبا سفيان وكفار قريش.فأتوه بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: "أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي"فقال: "أبو سفيان فقلت أنا أقربهم نسبا"فقال: "أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال: لترجمانه قل لهم أني سائل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه. فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبا لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: "كيف نسبه فيكم"قلت: "هو فينا ذو نسب"قال: "فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله"قلت: "لا"قال: "فهل كان من آبائه من ملك"قلت: "لا"قال: "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفائهم"فقلت: "بل ضعفاؤهم"قال: "أيزيدون أم ينقصون"قلت: "بل يزيدون"قال: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه" قلت: "لا"قال: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال"قلت: "لا"قال: "فهل يغدر"قلت: "لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة"قال: "فهل قاتلتموه"قلت: "نعم"قال: "فكيف كان قتالكم إياه"قلت: "الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه"قال: "بماذا يأمركم"قلت: "يقول أعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة"فقال: "للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذالك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله قط؟ فذكرت أن لا، قلت فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه

ص: 27

بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، قلت لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم إتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون

وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.

ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به إليه مع دحية بن خليفة الكلبي – فقرأه قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات فأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام..

ففي هذه القضية آيات بينان ودلالات واضحات على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به ومحل الشاهد من القصة شهادة أبي سفيان بن حرب وهو من أشد أعدائه في ذلك الوقت على – اتصاف الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله بالصدق وأنهم لا يتهمونه بالكذب وبالوفاء وأنه لا يغدر.

6 -

شهادة السائب المخزومي له صلى الله عليه وسلم بحسن المعاملة والرفق قبل النبوة:

ص: 28

روى أبو داود وغيره أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: "مرحبا بأخي وشريكي لا تداري ولا تماري، وفي لفظ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداريني ولا تماريني، وفي لفظ شريكي ونعم الشريك كنت لا تداري ولا تماري".

7 -

شهادة عبد الله بن سلام رضي الله عنه بصدقه صلى الله عليه وسلم:

روى أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كنت ممن أنجفل فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فسمعته يقول: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ".

8 -

شهادة مكرز بن حفص بن الأحنف له صلى الله عليه وسلم بالوفاء في جميع مراحل حياته:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية قد أبرم صلحا بينه وبين قريش على أن يرجع ويعتمر من العام المقبل، ومن الشروط التي اشترطتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة بسلاح الراكب فقط (السيوف مغمدة) فلما قدم صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء استعد بالخيل والسلاح لا ليدخل بها الحرم وإنما لتكون في متناول يده لو نكثت قريش، وعندما قرب صلى الله عليه وسلم من الحرم بعث بها إلى يأجح. وكان خبر ذلك السلاح قد بلغ قريشا فبعثت مكرز بن حفص في نفر من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:"يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر". فقال صلى الله عليه وسلم: "وقد بعثنا به إلى يأجح" فقال مكرز: "بهذا عرفناك بالبر والوفاء".

(أخلاقه صلى الله عليه وسلم في القرآن)

ص: 29

تفضل الله تعالى على خليله محمد صلى الله عليه وسلم بتوفيقه للاتصاف بمكارم الأخلاق وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ثم أثنى عليه ونوه بذكر ما يتحلى به من جميل الصفات في آيات كثيرة من كتاب الله العزيز أقتصر على إيراد بعضها من ذلك قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فقد أخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة عما كان عليه المصطفى من أخلاق فاضلة ووصف خلقه صلى الله عليه وسلم بأنه عظيم، وأكد ذلك بثلاثة أشياء بالأقسام عليه بالقلم وما يسطرون، وتصديره بأن، وإدخال اللام على الخبر، وكلها من أدوات تأكيد الكلام، وذلك الخلق العظيم الذي كان صلى الله عليه وسلم ورد تفسيره عن السلف الصالح بعبارات متقاربة، ففسره ابن عباس رضي الله عنه بأن الدين العظيم وهو دين الإسلام وبهذا التفسير فسره أيضا مجاهد والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيرهم، وفسره الحسن بأنه آداب القرآن، وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنه أنها سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت:"كان خلقه القرآن"ومعنى ذلك أن امتثال ماأمره الله به واجتناب ما نهاه عنه في القرآن وصار له خلقا وسجيه، وقد أشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما يوضح هذا المعنى في حديث آخر متفق على صحته وهو أنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه سبحانك اللهم وبحمدك اللهم أغفر لي يتأول القرآن" أي كان يدعوا بهذا الدعاء امتثالا لما أمره الله به في سورة النصر في قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه..} .

ص: 30

وقد نوه سبحانه بما جبل نبيه عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة والرأفة بالمؤمنين والحرص على ما ينفعهم في دينهم وأخراهم، والتألم من كل ما يشق عليهم بقوله سبحانه ممتنا على المؤمنين بإرساله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ والأغلال} ، وقال:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} .وأشار سبحانه إلى ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من اللطف والرفق بأمته بقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} . أما ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من النصح والأمانة والقيام بأداء الرسالة على الوجه الذي أراده الله فقد ذكره سبحانه

بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . ويقول تعالى يعني محمدا صلى الله عليه وسلم: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} وفيها قراءتان -بالظاء - والمراد به المتهم، وبالضاد والمراد به البخيل، وكلا هذين منفي عنه صلى الله عليه وسلم فليس هو - متهم بكتمان ما أرسله الله به وليس ببخيل بما أنزل الله عليه بل يبذله لكل أحد-.

أخلاقه صلى الله عليه وسلم في سنته وأقوال صحابته رضي الله عنهم:

ص: 31

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله بالرسالة العظمى في الذروة العليا من الأخلاق الحسنة صدقا وأمانة وكرما وحلما وشجاعة وعفة وقناعة وغير ذلك من الصفات التي يحظى بالإجلال والإكبار من حصل على واحدة منها فضلا عمن جمعت له وتوفرت فيه.

ولما بعثه الله سبحانه بالنور والهدى إلى الثقلين الجن والإنس زاده الله قوة في هذه الخصال الحميدة إلى قوته حتى بلغ الحد الأعلى الذي يمكن أن يصل إليه إنسان مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إنما بعثت لأتم صالح الأخلاق"وقد نوه الله سبحانه بتفضله وامتنانه على نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} . وقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} .

ص: 32

وقد اختار سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أصحابا هم خير هذه الأمة المحمدية التي هي خير الأمم، وقفوا حياتهم في سبيل تبليغ دعوته وحفظ سنته تحقيقا لقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ورثوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما جاء به من الحق ورثوه لمن جاء بعدهم حتى هيأ الله له رجالا قاموا بتدوينه منهم بل على رأسهم الإمامان الجليلان البخاري ومسلم وغيريهما من المحدثين فقد أفنوا أعمارهم جزاهم الله خيرا الجزاء في تقييد تلك الدور الثمينة التي ورثوها عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة السلاسل الذهبية المتصلة بأمثال مالك ونافع وشعبة وأحمد وعلي بن المديني وغيرهم من خيار هذه الأمة وهذه الدرر الثمينة التي توارثوها ونعم الإرث هي تشمل أقواله صلى الله عليه سلم وأفعاله وتقريرا ته وبيان خلقه وأخلاقه ولهذا يعرف المحدثون الحديث بأنه ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي.

ولقد اعتنى هؤلاء الورثة الكرام بتدوين ما جاءهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم، وبما يتعلق بأخلاقه ومزاياه على سبيل الخصوص، فمنهم من أفرد ذلك بالتأليف، ومنهم من عقد له أبوابا خاصة ضمن المؤلفات العامة أورد فيها ما يتصل بخوفه صلى الله عليه وسلم ورجائه وخشيته لربه، وجوده وكرمه وإيثاره وحياته ووفائه وصدقة وأمانته وإخلاصه وشكره وصبره وحلمه وكثرة احتماله، ورفقه بأمته وحرصه على التيسير عليها، وعفوه وشجاعته وتواضعه وعدله وزهده وقناعته، وصلته لرحمه، وكثرة تبسمه، وعفته وغيرته، إلى غير ذلك من آحاد حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.

تفصيل القول في أخلاقه صلى الله عليه وسلم:

ص: 33

وهذه الأخلاق التي أشرنا على بعض آحادها يحتاج تفصيلها وبسط القول فيها إلى عدة محاضرات. أما المحاضرة الواحدة فلا تكفي إلا للإشارة على بعض تلك الأخلاق والمزايا الحميدة التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، فأجدني مضطرا إلى الاقتضاب والإيجاز حسب الإمكان..

1-

جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم:

وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه في خلق الجود والكرم مبلغا لم يبلغه غيره، ووصل فيه إلى الغاية التي ينتهي عندها الكمال الإنساني. ومن توفيق الله له صلى الله عليه وسلم أن جعل جوده يتضاعف في الأزمنة الفاضلة يقول ابن عباس رضي الله عنه في الحديث الصحيح:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة". جاد بنفسه في سبيل الله فكسرت رباعيته وشج وجهه وسال الدم منه صلوات الله وسلامه عليه. والجود بالنفس أقصى غاية الجود؛ وجاد بجاهه ومن أمثلة ذلك شفاعته صلى الله عليه وسلم لمغيث زوج بريرة رضي الله عنهما لما عتقت واختارت فراقه أشار عليها أن تبقى في عصمته رحمة منه صلى الله عليه وسلم بزوجها مغيث. وأخص الأمثلة في ذلك ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من شفاعته في أهل الموقف التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل فتنتهي إليه فيقول أنا لها صلى الله عليه وسلم وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل نبي دعوة مستجابة قد دعا بها فاستجيب له، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" وجاد صلى الله عليه وسلم بما أعطاه الله من المال فما سئل صلى الله عليه وسلم شيئا من الدنيا قط فقال لا ولقد جاءت إليه صلى الله عليه وسلم امرأة ببردة منسوجة فقالت نسجتها بيدي لأكسوكها فأخذها صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها ولبسها فقل رجل من الصحابة: "أكسينها يا رسول الله". فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم"

ص: 34

فدخل منزله فطواها وبعث بها إليه فقال له بعض الصحابة: "ما أحسنت، لبسها رسول الله عليه وسلم محتاجا إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلا". فقال: "إني والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني"قال سهل بن سعد رضي الله عنه: "فكانت كفنه"، هذا مثل من أمثال اتصافه صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الكريم فهل بعد هذا كرم يصدر من مخلوق؟ وهل وراء هذا الإيثار إيثار؟. ولقد وصف الله الأنصار في كتابه العزيز بصفة الإيثار في قوله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . وهذه الصفة الكريمة التي اتصفوا بها أسوتهم فيها وفي غيرها من مكارم الأخلاق سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام يقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . ولما رجع من حنين التف حوله الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أعطوني ردائي فلو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا..".

ص: 35

وجوده صلى الله عليه وسلم في العطاء لبعض الناس إنما هو لتأليفهم على الإسلام، فكثيرا ما كان يخص حديثي العهد بالإسلام بوافر العطاء دون من تمكن الإيمان في نفوسهم. ففي غزوة حنين أعطى أكابر قريش المئات من الإبل ومنهم صفوان بن أمية فقد روى مسلم في صحيحة أنه قال:"لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ فما برح يعطيني حتى إنه من أحب الناس إلي"، وروى أيضا عن أنس رضي الله عنه قال:"ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر". وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل تلك الغنم الكثيرة التي لكثرتها ملأت ما بين جبلين وماذا كانت نتيجة هذا الإعطاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد كانت حصول الغرض الذي من أجله أعطاه وهي أنه أصبح داعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كان بدافع من نفسه رسولا لرسول الله إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام ويبين لهم كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبذل المال في سبيل نصرة الإسلام والدعوة إليه والترغيب فيه، ينفق مال الله الذي آتاه في سبيل الله حتى توفاه الله ودرعه مرهونة في دين عليه صلوات الله وسلامه عليه.

ص: 36

الاختبار

عبد العزيز القاري

ليست هذه دعوة للقضاء على الاختبارات، ولا هي مطالبة بتخفيف العلم، ولكنها أحاسيس طالب نقلها بأمانة.

العين جاحظة والظهر منكوس

والرأس قد سئمت منه الكراريس

هذي الدفاتر والأسفار قد نثرت

فوق البساط وما تقوى لها العيس

فكيف أحملها أم كيف أحفظها

والذهن قد حشرت فيه القواميس

ماذا جنيت إذا ما زيد يضربه

عمرو و (أخفشهم) بالحكم مهووس

أصبحت قاضيهم إن حائض طلقت

أو بائع جأرت منه المفاليس

ماذا عليّ إذا ما دولة سقطت

أو دولة نشأت أو قال قسيس!

هذا مهم وهذا غير ذاك وذا

مالت إلى حفظة مني الأحاسيس

عل السؤال به يأتي إذا حشروا

كل الرفاق، وما في القصد تلبيس

فيا لها كتبا هزت مضاجعنا

فهل ترى فسدت منا المقاييس؟

حتى تروعنا من طول وطأتها

فنحن فيه غزاة أو محابيس؟

والاختبار بدأ في الأفق بارقة

فالقلب قد قرعت فيه النواقيس

يوم القيامة يا هذا الكسول أتى

هذا النعيم وهذا الروع ملموس

ذاك النفير ألم تسمع بضجته

وهذه غرف فيها المتاريس

قد هيئوا لك أمرا لو فطنت له

ما ابتاع عقلك طول العام إبليس

هذا المجد بدت في الأفق جنته

والنار قد سقطت فيها المناحيس

من هول محشرها ذابت مفاصلهم

فالغيظ منكتم والآه محبوس

فالله أسأله من عونه مددا

به يعود اختياري وهو مأنوس

ص: 37

البضاعة الفاسدة

للشيخ أبي بكر جابر الجزائري

المدرس في الجامعة

أداء لواجب نصيحة الأخوة المسلمين ألفت نظرهم إلى أن هناك بضاعة فاسدة قد حملت إلى الديار الإسلامية بواسطة الأحداث المفترين، ومع الأسف فقد خفي فساد هذه البضاعة المستوردة على كثير من أبناء الإسلام، وانطلى عليهم زيفها، فتورطوا فيها أكبر تورط ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وكعينات لهذه البضاعة الخبيثة أقدم ما يلي:

1-

إرضاء الضمير والإخلاص للوطن.

2-

سكتة حداد على أرواح كذا..

3-

الرجعية والرجعيون.

وأوضح ذلك فأقول: إنك ترى الرجل إذا قام بعمل إصلاحي، أو أحسن خدمة ما، يقول فعلت كذا إرضاء لضميري، أو إخلاصا لوطني، ويعجب بذلك المغرورون من إخوان الإسلام، وما يدرون أن هذا التعبير دخيل على الإسلام وليس مما هو معروف لدى المسلمين بحال، بل هو يتنافى مع جوهر العقيدة الإسلامية التي هي الإخلاص لله في كل عمل صالح، وطلب مرضاة الله بكل خير يقدمه الإنسان.

فالمسلم إذا عمل صالحا، أو أتقن عملا، يقول فعلت كذا أو أتقنت عمل كذا ابتغاء وجه الله، وطلبا لمرضاته سبحانه وتعالى، فلم يجعل من ضميره أو وطنه إلها يطلب مرضاته ويخلص العمل له. وإنما يفعل هذا إنسان لا يؤمن بالله ولا يرجو رحمته أو يخاف عذابه.

وبذلك عرفنا أن هذه العبارة بضاعة فاسدة مستوردة من البلاد التي لا يؤمن أهلها بالله ولا يرجون له وقارا.

فليحذر المسلم فإنها خبيثة منتنة، ومنها ما شاع بين الناس اليوم من قولهم عند المناسبات:

سكتة حداد على أرواح الشهداء. فهذه السكتة لم يعرفها الإسلام ولم يقرها نظامه بحال من الأحوال، لأنها تتنافى أيضا مع مبادئه وتعاليمه، فالمسلمون عند ما يذكرون شهداءهم وأمواتهم يصلون عليهم أو يسغفرون لهم ويترحمون عليهم. أما أن يسكتوا فقط فلا لا..

ص: 38

فهذه (السكتة الحداد) إذا بضاعة مستوردة من ديار لا يؤمن أهلها بأن للروح بعد الموت حياة أكمل من هذه الحياة قد تتنعم فيها أو تعذب بحسب كسبها في هذه الدار، فلذا هم لا يصلون ولا يستغفرون أو يترحمون، فليحذر هذا المسلمون، وليبعدوا هذه النفايات الشيوعية خارج ديارهم فإنها خطر على وجودهم الروحي وكرامتهم الإسلامية.

وأخيرا كلمة (الرجعية)

إن هذه الكلمة وإن كانت مستوردة بدون شك ومن البلاد الناقمة على الدين والمتدينين، فإن لها شبها لدى المسلمين وهو كلمة (السلفية) التي هي عبارة عن التمسك بما كان عليه سلف هذه الأمة من عقائد وآداب وأخلاق، ولذا فهي كلمة مدح لا ذم، والسلفي من الرجال مبجل مكرم عند المسلمين.

أما كلمة الرجعية الخبيثة فالأصل فيها أن الدول البلشفية لما ثارت على الكنيسة وقضت على الديانة المسيحية في بلادها، وانقلبت البلاد إلى شيوعية بحتة لا مجال فيها للدين أو التدين أصبح كل من يحن إلى عهد التدين الماضي ولو بعبادة أو ما دونها كإشارة يتهم بعدم الرضا عن العهد الشيوعي ويوصف بكلمة (رجعي) ليسهل عليهم الانتقام منه والضرب على يديه تحت ستار كلمة الرجعية المجملة المبهمة والتي يخفي معناها على سواد الناس، وتفسر عندهم بالفساد والجمود، في حين أن معناها ما ذكرنا: الالتفات إلى عهد الدين والتدين الماضي، فلهذا كان من الظلم والكفر أن يوصف بها المسلم، أو تقال بين المسلمين. لأن وصف المسلم بها ومعناها كما سبق: السخرية بالإسلام وإظهار النقمة عليه.

وخلاصة القول أن كلمة الرجعية كسابقتها من البضاعة المستوردة الخبيثة التي وصلت إلى الديار الإسلامية بواسطة ترجمة ونقل الأحداث المغرورين من أنباء الإسلام، فعلى المسلمين إذا أن ينتبهوا لمثل هذه البضاعة الرخيصة وأن يلفظوها بعيدا عنهم فإنها من نفايات الأفكار، من رجس الشيوعية والإلحاد، وقى الله المسلمين وديارهم كل سوء ومكروه آمين.

الإخلاص والرياء

ص: 39

لا تحتقر عملا قدمته بنية خالصة فالقليل مع الإخلاص كثير، والكثير مع الرياء قليل، والمحاسب الخبير لا تعجبه كثرة الدنانير، وإنما تعجبه جودتها..

((هكذا علمتني الحياة))

ص: 40

الثقافة الإسلامية

للشيخ أحمد حسن

المدرس في الجامعة

خصائصها، تاريخها، مستقبلها..

إنه عنوان كتاب جديد صدر أخيرا عن (دار الإرشاد) اللبنانية للدكتور عبد الكريم عثمان المدرس بجامعة الرياض، ولا بأس أخي القارئ من أن تضع يدك في يدي لنسير معا نرتاد آفاق هذا الكتاب، ونعيش مع مؤلفه لحظات هانئة، فلعلنا بذلك نعوض ما فاتنا من الاستماع إلى حديثه العذب، ونبراته القوية، ولفتاته البارعة، حيث تحدث في هذا الموضوع حديثا حيا على مدرج جامعة الرياض.

إن الحديث عن الثقافة الإسلامية حديث شيق وممتع وضروري، وذلك لما للثقافة من أثر كبير في حياتنا المعاصرة وخاصة بعد أن تعرضت ثقافتنا الإسلامية لأعنف هجوم فكري وغزو حضاري في تاريخها، ولقد صدر عدد من الكتب حول هذا الموضوع، فقد أصدر الأستاذ مالك بن نبي كتابا أسماه (مشكلة الثقافة) ، كما صدر كتاب آخر عن مؤسسة فرانكلين الأمريكية بعنوان (الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة) .

وهو يشتمل على عدة بحوث ألقيت في مؤتمر عقد بأمريكا في صيف سنة 1953واشتركت في الدعوة إليه جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس. وهذا الكتاب يمثل حلقة من حلقات الغزو الفكري للثقافة الإسلامية، وهو تخطيط غير مباشر للمنحنيات والدروب التي ينبغي أن يسير فيها البحث الإسلامي والثقافة الإسلامية، وهو باختصار الشرك الذي وضعته الولايات المتحدة للفكر الإسلامي المعاصر، وهي تريد من ذلك إسلاما أمريكيا يصنع على عينها. أما كتاب الأستاذ مالك فهو ليس مقصورا على الثقافة الإسلامية، وإنما هو يبحث عن الثقافة بشكل عام وتدخل فيه الثقافة الإسلامية كما تدخل غيرها، وهو يريد دائما - على طريقته في كل بحوثه - أن يصل إلى قوانين عامة، وخطوط عريضة، وهو حين يتحدث عن الثقافة الإسلامية إنما يتحدث عنها في إطار الثقافة العالمية، ولا شك أنه أول كتاب من نوعه في المكتبة العربية، وننصح المثقفين بالرجوع إليه، والإفادة منه.

ص: 41

أما كتاب الدكتور عبد الكريم عثمان (موضوع حديثنا) فهو أول كتاب من نوعه يتناول خصائص الثقافة الإسلامية، وتاريخها ومستقبلها، - وما أظن كتابا عالج هذه القضايا مجتمعة - ومن هنا تأتي أهمية الكتاب، فبالرغم من صغر حجمه، إلا أنه قد ألم بالخطوط الرئيسية لهذه القضايا الكبرى ووضعها في إطارها المناسب، وكنا نتمنى لو توسع الدكتور عبد الكريم في هذا البحث - الشاغر المكان في المكتبة الإسلامية - ولعل الله يهيئ له الوقت المناسب فيتحفنا بدراسة مستفيضة في الطبعة الثانية إن شاء الله.

يبدأ الدكتور عبد الكريم محاضرته بمقدمة يتحدث فيها عن أزمة العالم الإسلامي الناتجة من مواجهته للحضارة الغربية، وعن واجب المفكرين في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة، "وإذا كانت المشكلة الرئيسية التي يعاني منها المسلمون تتمثل في أنهم لم يستطيعوا حتى الآن أن يضعوا أيديهم على أبعاد شخصيتهم وحقيقتها وأهدافها"فإن "واجب المفكر المسلم أن يحس هذه الأزمة ويحياها، فلا يصح أن تكون مساهمته في مجرد ذكرها والحديث عنها.. واهتمام المفكر في هذه الأزمة يجب أن يتوجه إلى المشاكل الأساسية في الكيان الفردي والاجتماعي مقدما الأهم على المهم، والمهم على الحقير التافه في السياسة والاقتصاد، في الاجتماع والثقافة. ولا شك في أن التعرف على الثقافة الإسلامية هو أول خطوة في طريقنا إلى تحديد أبعاد شخصية هذه الأمة، لوضع منهج للتفكير وخطة للعمل".

وبين يدي المحاضرة يقدم تعريفا لمصطلحات (الثقافة) و (الحضارة) و (المدنية) حيث يقصد (بالمدنية) الجانب المادي والمظهري من الحياة، ويقصد ب (الثقافة) ما يقابل المدينة من الناحية المعنوية في حياة الناس بما في ذلك ما يتصل بالروح والفكر والعقل والذوق والمشاعر وكل ما يتصل بتثقيف العقل والنفس. أما الحضارة بمفهومها الحديث فيعنى بها "الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة، وهي مجموع الحياة في صورها وأنماطها المادية والمعنوية".

ص: 42

أما خصائص الثقافة الإسلامية فهي: ربانية المصدر - عالمية الأفق والرسالة - شاملة - متوازنة - إيجابية فاعلة -.

فهي ربانية المصدر: (لأن تصورها مستمد من الله تلقاه الإنسان كاملا بخصائصه هذه ليتكيف به ويطبق مقتضياته في حياته..) وإذا كانت الثقافة المادية لا تهتم إلا بالأسباب القريبة، فإن الثقافة الإسلامية تهتم بغايات الأشياء وأصولها البعيدة، وهي تجمع بين الغايات والوسائل وبين العلم والإيمان، وكونها تستمد كيانها من مبادئ الدين، لا يعني تخليها عن العقل والعلم فاعتماد الثقافة الإسلامية عليهما واحتفاؤها بهما أمر لا يحتاج إلى بيان، فالدين أبدا ليس بديلا عن العلم والحضارة ولا عدوا لهما، وإنما هو إطار ومحور ومنهج لهما في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم شؤون الحياة.

وهي: عالمية الأفق والرسالة، لأنها تنظر إلى الناس بمقياس واحد لا تفسده القومية أوالعنصرية، أو الجنس أو اللون، فالعقيدة هي الجنسية، والله وحده هو الغاية المثلى، والقيمة الخالدة، والهدف الأسمى الذي يمكن أن تلتقي في رحابه الإنسانية أفرادا وجماعات.. وكان من نتيجة هذه النزعة أن الثقافة الإسلامية استطاعت أن تنتظم عباقرة الأمم جميعا، فهي تستطيع أن تفاخر بالنوابغ الذين أقاموا صرحها من جميع الشعوب والأمم.

ومن خصائص الثقافة الإسلامية الشمول والتوازن: الشمول الذي ينظر فيه إلى كل جوانب هذه الأطوار جميعا، وهذا الشمول هو الذي هيأ لها صمودا كبيرا أمام التحديات الفكرية الأخرى، والخصيصة الأخيرة للثقافة الإسلامية، وهي الإيجابية والفاعلية في علاقة الإنسان بالكون وهي في صميمها قوة دافعة إلى النمو المطرد، وانطلاق إلى الحركة، وتحقيق الذات في أسلوب نظيف. إن العمل والإيجابية صورة أخلاقية في الثقافة الإسلامية.

ص: 43

وبعد أن ينتهي المحاضر من حديثه عن خصائص الثقافة الإسلامية ينتقل لبيان آثار هذه الثقافة التي قدمت للفكر الإنساني كل جديد في كل جانب من جوانب نشاطه، ففي مجال المثل والقيم، دعت الثقافة الإسلامية إلى مثل جديدة تعتمد على الإيمان والحق والعدالة.. وهي تنبثق من نظرة الإسلام إلى الإنسان وتكريمه، وخلافته على الأرض، كما قدمت نظرة شاملة متوازنة إلى الكون وسننه، وإلى الإنسان وعمله ومسؤوليته.

وفي مجال العلاقات الاجتماعية، قدمت الثقافة الإسلامية فلسفة جديدة للروابط بين الفرد والأسرة والمجتمع.. فلسفة تقوم على تكافل هذه الحلقات جميعا وتوجيهها للعمل من أجل صالح الإنسانية.

وفي مفهوم الدولة وعلاقة الشعب بالحكمة وعلاقة الدول مع غيرها كان الفكر الإسلامي سابقا إلى تحديد هدف بعيد للدولة الفاضلة التي تحكم أمر الله في كل شؤونها، وتحرر الفرد من كل عبودية لغير الله.

وكان من آثار الثقافة الإسلامية أنها أعطت العرب والمسلمين عموما شخصية فكرية متميزة لم تكن لهم من قبل، حيث كانوا يفتقدون أهم ما يكون الأمة ويكمل شخصيتها شعورها بذاتها ويمنحها الثقة بنفسها ألا وهو الرسالة والعقيدة والفكر الموحد.

وكان من آثار هذه الثقافة في مجال الفكر والتقدم العلمي: أن ساهم المسلمون خلال القسم الأول من القرون الوسطي بما لم يساهم به شعب من الشعوب، وظلت اللغة العربية لغة العلوم والآداب والتقدم الفكري لمدة قرون في جميع أنحاء العالم المتمدن آنذاك، ولا شك أن لمبادئ الإسلام في الإيجابية والعمل أثرها في اصطباغ هذه المعارف بالصبغة العملية، ونستطيع أن نتصور كم تكون عليه حال العلوم والمعارف من النماء لو أن المفكرين المسلمين حافظوا على أصالة التوجيه الإسلامي ولم ينحرفوا عن النهج الصحيح إلى الاستغراق في جدل ونقاش فلسفي ومذهبي كان من نتيجته ضياع الطاقات الذهنية في غير ما جدوى.

ص: 44

ثم ينتقل المحاضر إلى الحديث عن التحديات التي جابهتها الثقافة الإسلامية فيبين أن الثقافة الإسلامية تعرضت مع نهاية العصر الأموي إلى حملات من الزندقة والإلحاد والتشكيك بعقيدة التوحيد، وخاض الناس فيما أمتنع عنه الصحابة والمسلمون من قبل ونشأ علم الكلام ودخل فيه شؤون كثيرة غير ضرورية، وأصبح الجدل نفسه غاية وهدفا بعد أن كان وسيلة لبيان الحق والدفاع عنه، وكان لابد من عودة الفكر الإسلامي إلى صفائه ونقائه وتميزه وكان للائمة ابن حنبل وابن تيمية الأثر الكبير في إعادة الأمور إلى نصابها، فقد تحمل الأول عنت السلطة وجبروتها، بينما جعل الثاني الاحتجاج بالقرآن الكريم والحديث النبوي أساسا للوصول إلى نفس الهدف.

ومن التحديات التي جابهتها الثقافة الإسلامية الغزو الفكري اليوناني حيث أصبحت الفلسفة اليونانية بدعة المثقفين في العصر العباسي، وبرز عدد من الذين يمثلون هذه الفلسفة ويدعون إلى الاستعاضه بها عن الفكر الأصيل، كالفارابي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل، وكان طبيعيا أن يقف رجال الثقافة الإسلامية الأصيلة أمام هذا الغزو الجديد لإعادة النقاء إلى الفكر الإسلامي. وكان لابن تيمية وأمثاله جهاد أفضل في الدفاع عن وجه الثقافة الإسلامية الأصيل..

وبعد هذا البيان ينتقل المحاضر إلى الحديث عن تحديات الثقافة الغربية وحضارتها، فيبين أن الغزو الغربي هو أعظم تحد عرفته الثقافة الإسلامية على وجه العموم وقد أتخذ هذا الغزو شكلين: الغزو المسلح، والغزو الفكري. وكان الخطر من الغزو الفكري كامنا أولا: في طبيعة الثقافة الغربية واختلافها في معظم مبادئها عن الثقافة الإسلامية، وأنها كانت نتيجة الصراع بين العلم ورجال الدين. وقد تبنت فصل الدين عن الدولة في الحياة الاجتماعية والسياسية وتغلغلت روح الإلحاد والتحلل عن قيود الدين في أسلوب المفكرين وفي علومها وآدابها وفلسفتها.

ص: 45

ويمكن الخطر ثانيا في تبني الحضارة الغربية للمؤسسات التعليمية والثقافية التي تبث ثقافتها وتعمل في الوقت نفسه على إظهار الإسلام بما ليس هو على الحقيقة وطمس معالمه الصحيحة. وقد عمد المستشرقون في دراساتهم إلى إضعاف مثل الإسلام وقيمة العليا من جانب، وإثبات تفوق المثل الغربية وعظمتها من جانب آخر، وعملوا على إحياء حضارات ما قبل الإسلام، الحضارة الفرعونية ولغتها في مصر، والحضارة الآشورية ولغتها في العراق، والبربرية في أفريقيا الشمالية، والفينيقية في سواحل فلسطين وسوريا ولبنان.

ومن الوسائل العملية التي اتبعها المستشرقون ومن تأثر بهم من المسلمين والعرب في هذا الخصوص، ومن الدعوات التي مارسوا النشاط لها وترويجها:

1-

القول ببشرية القرآن الكريم، وأنه ليس أكثر من تعبير عن انطباع البيئة العربية في نفس الرسول.

2-

القرآن الكريم تعبير عن الحياة التي وجد الرسول فيها، وهو لا يصلح لزمن آخر. وقد تولى كبر هذه الدعوة في بلادنا طه حسين.

3-

لغة القرآن الفصحى لا تساير حاجات العصر فلا بد من العامية والحروف اللاتينية.

4-

الإسلام لم يطبق إلا فترة قصيرة لذا فهو لا يوافق التطور.

5-

التخلف عن تنفيذ تعاليم الإسلام أمر تميله الضرورة تحت ضغط الظروف.

6-

تطوير الإسلام ليتفق مع الحضارة الغربية.

7-

البحث عن مواضع الضعف وإبرازها لأجل غاية دينية أو سياسية.

8-

تجريد الفكر الإسلامي من كل أصالة.

وقد استطاع المستشرقون أن يحققوا كثيرا من الأهداف التي خططوا لها، وأثاروا في العالم الإسلامي شبهات حول الإسلام ونبي الإسلام والمصادر الإسلامية، وأحدثوا في نفوس بعض المسلمين يأسا من مستقبل الإسلام، ومقتا على حاضره، وسوء ظن بماضيه، ومما ساعد المستشرقين على الوصول إلى أهدافهم:

1-

وجود عدد من المسلمين الذين تبنوا آراءهم ونفذوا خططهم.

2-

جمود التفكير الإسلامي.

3-

الضعف السياسي وفقدان الثقة.

4-

تحميل الإسلام مسؤولية التخلف.

ص: 46

5-

الأخذ بنظام التعليم الغربي الذي هو ظل لعقائد واضعيه ونفسيتهم وغاياتهم، مع أن الثقافة الإسلامية والمدنية الغربية يقومان على فكرتين في الحياة متناقضتين تماما ولا يمكن أن يتفقا.

وإذا كان هذا هو غزو الثقافة الغربية والذي ما يزال قائما، فما هو موقف المفكرين في البلاد الإسلامية من هذا الغزو؟ هذا ما يجيب عليه المحاضر بقوله: نستطيع أن نميز عدة اتجاهات:

1-

أولها: يتخذ موقفا سلبيا من الحضارة الغربية ويرفضها شكلا وموضوعا.

2-

ثانيهما: يدعو إلى التغريب وأخذها بخيرها وشرها.

3-

ثالثها: يدعوا إلى التوفيق بينهما على حساب الإسلام والعمل على تطويره.

4-

رابعها: يدعو إلى الاحتفاظ بالإسلام حسب القرآن والسنة والأخذ من الحضارة الغربية بما لا يتعارض مع الإسلام.

أما الاتجاه الأول فلا يستحق الوقوف عنده لأنه سوء تفسير للدين الذي يحث على استعمال العقل، والتفكير في الكون، واقتباس الصالح النافع، وإعداد القوة.

أما الاتجاه الثاني فهو موقف المستسلم للحضارة الغربية، المقلد لها، وقد مثل هذا الاتجاه مصطفى كمال في تركيا، ووجه كفاحه إلى محاربة الإسلام وإقامة المجتمع التركي على العلمانية وقطع كل صلة له بالإسلام وبالعربية. وفي الهند تحمس لاتجاه التغريب أحمد خان والمدرسة الفكرية التي أسسها والتي تدعو إلى تقليد الحضارة الغربية وأسسها المادية واقتباس العلوم العصرية بحذافيرها وعلى علاتها، وتفسير الإسلام والقرآن تفسيرا مطابقا لما وصلت إليه المدنية الحديثة في آخر القرن التاسع عشر المسيحي.

ص: 47

أما في مصر فقد كان الاتجاه إلى التغريب قويا ومتحمسا، ويمثل هذا الاتجاه كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) لطه حسين حيث يؤكد فيه أن صلة المصريين بأوروبا أكثر من صلتهم بالشرق، وأن الثقافة المصرية جزء من الثقافة الغربية الأوربية، وأن فترة الحكم الإسلامي كله لم تغير من الأمر شيئا. ونهضة مصر في نظرة امتداد لمصر الفرعونية "وأنا من أجل ذلك – يقول الدكتور طه – مؤمن بأن مصر الجديدة لن تبتكر ابتكارا، ولن تخترع اختراعا، ولن تقوم إلا على مصر القديمة لخالدة، ومن أجل هذا لا أحب أن نفكر في مستقبل الثقافة في مصر إلا على ضوء ما ضيها البعيد - الفرعوني - وحاضرها القريب" ثم يقول: "فأما الآن وقد عرفنا تاريخها، وأحسسنا أنفسنا، واستشعرتا القوة والكرامة، واستيقنا أن ليس بيننا وبين الأوربيين فرق في الجوهر، ولا في الطبع، ولا في المزاج، فإني لا أخاف على المصريين أن يفنوا في الأوربيين".

أما الاتجاه الثالث وهو اتجاه تطوير الإسلام والتوفيق بينه وبين الثقافة الغربية، فإنه يرى أن صالح الثقافة والمجتمعات الإسلامية في التطوير كيما يوافق الإسلام الأمر الواقع في الحياة العصرية.. وخطر هذا الاتجاه يأتي من وجهين: فهو إفساد للإسلام يشوش قيمة ومفاهيمة الأصلية بإدخال الزيف على الصحيح وإثبات الدخيل الغريب وتأكيده، أما الوجه الآخر فهو أن هذا التطوير سينتهي بالمسلمين إلى الفرقة التي لا اجتماع بعدها، لأن كل جماعة منهم سوف تذهب مذهبا يخالف غيرها من الجماعات ومع توالي الأيام نجد ثقافة إسلامية تركية وهندية وإيرانية وعربية.. وقد استدرج الشيخ محمد عبده لهذا الاتجاه، كما كان من دعاته فيما بعد قاسم أمين الذي تبنى العمل على تطوير وضع المرأة والعلاقات الاجتماعية عموما، وعلي عبد الرزاق وسعد زغلول اللذان تبنيا الدعوة إلى الوطنية والقومية والعناية بالتاريخ الفرعوني، والأخذ بالنظام السياسي الغربي على أساس أن الإسلام دين لا حكم.

ص: 48

أما الاتجاه الأخير الذي اتجه إليه المسلمون في تحدي الثقافة الغربية لهم فهو ذلك الذي يواجه الحضارة الغربية مواجهة الواثق بنفسه المتمكن مما عنده من إمكانات وطاقات، فهو يميز بين الثقافة كمذهب ورأي وروح تتميز به الأمة عن غيرها، وبين شؤون الحضارة والعمران والمدنية، ويدعو إلى إيجاد تيار قوي يواجه الحضارة الغربية بشجاعة وإيمان.. هذا الاتجاه يأخذ الإسلام عقيدة وعبادة ونظام حياة، في الوقت الذي يأخذ فيه من الغرب: الآلات والوسائل الفنية - إلى أمد - ويعامل الحضارة الغربية كمادة خام يستفاد منها للخير أو الشر.

وقد ظهر هذا الاتجاه في عدد من البلاد الإسلامية: ففي الهند ندوة العلماء التي أعلنت عن أهدافها بعبارات محددة "إحداث فكر جديد يجمع بين محاسن القديم والجديد، بين القديم الصالح والجديد النافع، بين التصلب في الأصول والغايات والمرونة في الفروع والآلات". وفي باكستان تحدد الجماعة الإسلامية أهدافها على النحو التالي: "عبادة الله وعدم الإشراك به - إخلاص الدين لله، وتزكية النفس من شوائب النفاق، والأعمال من التناقض - إحداث إصلاح عام في أصول الحكم الحاضر، وانتزاع الإمامة الفكرية من الطواغيت والكفرة والفجرة ليأخذها رجال لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا".

ص: 49

وفي السعودية فقد بدأت الحركة الإصلاحية الإسلامية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وملخص ما دعا إليه ابن عبد الوهاب العودة إلى الدين الصحيح، ونبذ البدع والخرافات وكل ما هو دخيل على الإسلام والفكر الإسلامي، والاستقاء من معين الإسلام الصافي: القرآن، والسنة وعلم السلف الصالح. ومن الحركات التي نحت هذا المنحى في الدعوة إلى الاحتفاظ بالإسلام وثقافته وشخصيته الأمة الإسلامية مستقلة متميزة الحركة السنوسية في ليبيا، وجمعية العلماء الجزائريين في الجزائر وزعيمها عبد الحميد بن باديس ثم الشيخ الإبراهيمي من بعده، التي استطاعت عن طريق مدارسها المختلفة أن تحافظ على ثقافة الشعب الجزائري الأصيلة وارتباطه بالإسلام والعروبة.

أما في إندونيسيا فإن أبرز الجماعات الداعية إلى هذا الاتجاه جماعة دار الإسلام، وفي تركية نجد الحركة النورية التي أسسها الشيخ سعيد النورسي رحمه الله.

ومن هذه الحركات أيضا جماعة الإخوان المسلمين التي تشمل البلاد العربية بلا استثناء، والتي تعد أوسع حركة إسلامية شاملة عرفها المسلمون في العصر الحديث.

ولقد اشترك الكثيرون من المفكرين المسلمين من أصحاب هذا الاتجاه في نقد الثقافة الغربية، وإعادة الثقة بالثقافة الإسلامية ومنابعها الأصلية، وقد تركت مؤلفات حسن البنا، وسيد قطب، وأبو الأعلى المودودي، ومالك بن نبي، وعلي سامي النشار، والأمير شكيب أرسلان، وأبو الحسن الندوي، ومحمد البهي، والدكتور محمد محمد حسين، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمد الخضر حسي، ن ومصطفى السباعي أثرا كبيرا، وأوجدت تيارا قوي الثقة بالنفس بعد أن وصل فقدان المسلمين الثقة بأنفسهم ومظاهر شخصيتهم حدا مخجلا جعل الدكتور طه حسين يعتذر عن بدء محاضرة له في اللغة والأدب بحمد الله والصلاة على نبيه قائلا:"سيضحك مني بعض الحاضرين إذا سمعني ابدأ المحاضرة بحمد الله والصلاة على نبيه لأن ذلك يخالف عادة العصر".

ص: 50

ثم ينتقل المحاضر للحديث عن مستقبل الثقافة الإسلامية ليقرر أن مستقبلها يتصل بأمور ثلاثة:

طبيعة الإسلام الذي يعطى هذه الثقافة طابعها المميز - طبيعة الثقافة ذاتها وقدرتها على البقاء والنمو - وجود الحاجة إليها أو فقدانها.

أما طبيعة الإسلام فنحن المسلمين نعتقد أن القرآن باق أبد الدهر، وإذن فالمعين دائم ثر لا ينضب، وقد أثبت الإسلام قدرته على البقاء في مختلف الظروف.

أما عن طبيعة الثقافة المنبثقة عنه، فقد علمنا أنها ثقافة شاملة متكاملة، وأقرب الثقافات إلى البقاء والصمود ما كان كذلك. أما عن الحاجة إلى هذه الثقافة فنحن نعتقد أنها متجددة على الدوام، وذلك في نطاق العرب والمسلمين والإنسانية جمعاء، فالعرب والمسلمون دون الإسلام مفرقون ضائعون فاقدون لكل مقومات الحياة، وهم بالإسلام أمة واحدة وكيان قوي واثق من نفسه شاعر بعظم الرسالة التي يحملها وأفضليتها، وقد يصبحون القوة الأولى في العالم إذا أدركوا قيمة رسالتهم. ولا تقل حاجة الإنسانية للإسلام عن حاجة العرب والمسلمين، لأن الحضارة الغربية تخلت عن المثل والقيم وأصبحت الآلة وسيلة إضرار وانقلب الإنسان إلى وحش كبير.

---

راجع كتاب دراسات إسلامية (إسلام أمريكاني) حصوننا مهدودة من داخلها، صفحة:15

ص: 51

الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

تأسيسها: إن إنشاء الجامعة الإسلامية بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أمنية حققها الله تعالى على يد الحكومة السعودية السنية التي شرفها الله تعالى بخدمة الحرمين الشريفين وعلى رأسها جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز حفظه الله ورعاه. وكانت أول خطوة اتخذت لإخراجها إلى حيز الوجود هي استقدام عدد من كبار العلماء المسلمين الأجلاء من أماكن مختلفة من العالم لاستشارتهم والاستنارة بآرائهم وخبراتهم في وضع النظام الأساسي والمنهج الدراسي للجامعة. وقد تم اللقاء بين أولئك العلماء وإخوانهم العلماء السعوديين تحت رئاسة سماحة مفتى الديار السعودية ورئيس الجامعة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله، ثم تم بعد ذلك اختيار موقعها في أحسن بقعة حول المدينة المنورة من حيث نقاء الهواء وطيب التربة، وهو في سلطانه قرب الصغرى في وادي العقيق. هذا وقد بدأت الدراسة في الجامعة في يوم الأحد الموافق 2/6/1381 هـ وكان عدد الطلبة في عامها الدراسي الأول 256 طالبا..

ص: 52

المنح الدراسية: تقوم رئاسة الجامعة بتوزيع المنح التي تخصصها الدولة في كل عام دراسي على الأقطار الإسلامية على النحو الذي يقرره مجلس الجامعة في كل عام دراسي. ويوفر للطلبة كافة الوسائل التي بها يتمكنون من متابعة دراستهم بارتياح وطمأنينة، إذ تقوم الجامعة ببذل الأموال لستقدامهم من بلادهم على حسابها، كما تقوم بترحيل المتخرجين منهم إلى بلادهم، وتصرف لكل منهم مكافأة شهرية قدرها ثلاثمائة ريال، كما يدفع لطلبة المعهد الثانوي التابع للجامعة 250ريال شهريا، هذا بالإضافة إلى توفير المساكن الصحية المزودة بالماء والكهرباء والأثاث اللازم مجانا، وبالإضافة إلى تأمين وسائل النقل لهم من المدينة إلى مقر الجامعة صباحا ومنها إلى المدينة ظهرا وتنقلهم من بعد صلاة العصر يوميا إلى المدينة لأداء الصلوات في المسجد النبوي وتعود بهم إلى الجامعة بعد العشاء، كما تؤمن لهم العلاج الطبي مجانا داخل الجامعة بما في ذلك صرف الأدوية والوصفات الطبية، وكذلك توفر لهم الكتب الدراسية مجاناً، أي بالإضافة إلى مكافآتهم إلى غير ذلك من الخدمات التي تقدمها الجامعة الإسلامية لطلبتها بفضل الله تعالى ثم بما تجود به الحكومة السنية التي وفقها الله لافتتاحها ثم برعايتها وبذل التسهيلات التي تمكنها من أداء رسالتها.

مراحلها الدراسية: أسست الجامعة مشتملة على مرحلة عالية فيها كلية الشريعة ومرحلة ثانوية، ثم أنشئت فيها مرحلة إعدادية لإفساح المجال لطلبة البلاد الإسلامية التي لا يوجد فيها المتمكنون من الدراسة في المرحلة الإعدادية، كما أنشأت شعبة لتعليم اللغة العربية لغير العرب، يدخلها الطلبة الذين يصلون للدراسة وهم غير قادرين على متابعة الدراسة باللغة العربية. وفي عام 1386هـ أنشئت كلية أخرى باسم ((كلية الدعوة وأصول الدين)) ويتضح من الملحق رقم ((1)) عدد الطلبة في كل سنة دراسية في جميع الأعوام الستة الماضية من عام 1381هـ إلى عام 1386هـ..

ص: 53

المؤسسات التابعة لإدارة الجامعة الإسلامية:

بالإضافة إلى ما ذكر فإن دار الحديث بالمدينة المنورة تتبع الجامعة الإسلامية في جميع شؤونها ويبلغ عدد الطلبة فيها في أول هذا العام 1387 هـ (270) طالبا موزعين على 19 جنسية، كما يتبع الجامعة من حيث المناهج والإشراف الفني معهد التضامن الإسلامي في مقديشوا وقد بلغ عدد الطلبة فيه 60 طلبا كما بلغ عدد المدرسين فيه (5) .

مدرسو الجامعة:

يبلغ عدد الأساتذة والمدرسين في الجامعة 57مدرسا موزعين كالآتي:

كلية الشريعة: 18

كلية الدعوة وأصول الدين: 10

المعهد الثانوي والقسم الإعدادي وشعبة تعليم اللغة العربية لغير العرب: 16

دار الحديث: 13

أما الفصول الدراسية فهي كالتالي:

كلية الشريعة: 8

كلية الدعوة وأصول الدين: 2

وفي المعهد الثانوي: 5

وفي المعهد الإعدادي وشعبة تعليم اللغة العربية: 5فصول

وفي دار الحديث:10

المتخرجون من المعهد الثانوي التابع للجامعة:

ولم يمض على افتتاح الجامعة ثلاثة أعوام حتى تخرج الفوج الأول من حملة الشهادة الثانوية في المعهد الثانوي التابع للجامعة وعددهم مائة وعشرة طلاب، ثم توالت الدفعات حتى بلغ عدد الحاصلين على الشهادة الثانوية من معهد الجامعة في الأعوام الأربعة من عام 1383هـ إلى عام 1386هـ أربعمائة وتسعة وثلاثين طالبا ينتمون إلى خمسين جنسية.

الحاصلون على الشهادة العالية من كلية الشريعة بالجامعة:

ص: 54

بعد مضي أربع سنوات من الافتتاح تخرج الفوج الأول من حملة الشهادة العالية من كلية الشريعة بالجامعة وعددهم ثلاثة وأربعون جامعيا، ثم تخرج الفوج الثاني وعددهم ستة وأربعون جامعيا، ثم الفوج الثالث وعددهم تسعة وثلاثون جامعيا، فمجموع الجامعيين في الأفواج الثلاثة مائة وثمانية وعشرون جامعيا ينتمون إلى اثنتين وعشرين جنسية. يتضح من الملحق رقم 3 أسماء الجنسيات وعدد الطلبة المنتمين إلى كل جنسية في كل عام من الأعوام الثلاثة، ومما تجدر الإشارة إليه أن الموجودين في السنة النهائية في العام الدراسي 87-1388هـ مائة وأربعة وعشرون طالبا أي ما يقارب مجموع المتخرجين في الأفواج الثلاثة الماضية.

عدد الطلبة في الجامعة وعدد جنسياتهم:

في نهاية العام الدراسي 86-1387هـ بلغ عدد الطلبة في الجامعة في جميع مراحلها الدراسية سبعمائة وأربعة وستين طالبا ينتمون إلى إحدى وستين جنسية. يتبين من الملحق رقم 4 أسماء الجنسيات وعدد طلبة كل جنسية. وقد زاد عدد الجنسيات في الشهر الأول من العام الدراسي الحالي 87-1388هـ فبلغ عددها خمسا وستين جنسية بإضافة روديسيا والبحرين وغيانا في أمريكا الجنوبية واليابان.

نشاط الجامعة:

نظمت الجامعة مواسم ثقافية عامة يحاضر فيها كبار أساتذة الجامعة، وقد طبعت الجامعة كثيرا من تلك المحاضرات وقامت بتوزيعها على الزوار والحجاج وغيرهم، كما زودت كثيرا من الهيئات والمؤسسات الإسلامية في أنحاء العالم بالمحاضرات المذكورة، وبعض الرسائل القيمة والكتب النافعة التي تصدرها، وقد أوفدت رئاسة الجامعة بعثات إلى غرب أفريقيا ووسطها للإطلاع عن كثب على أحوال المسلمين ومساعدة الهيئات الإسلامية ماديا ومعنويا. وهذا بيان بالبعثات التي أوفدتها الجامعة حتى الآن:

1-

في عام 1384هـ بعثة مكونة من ثلاثة أشخاص برئاسة أمين الجامعة.

ص: 55

2-

في عام 1385هـ بعثة مكونة من ثلاثة مشائخ برئاسة فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي كبير المدرسين في الجامعة..

3-

في عام 1386هـ بعثتان إحداهما إلى غرب أفريقيا، والأخرى شرقها ووسطها لاختيار الطلبة.

وقد عادت البعثات المذكورة بتقارير ومعلومات مفصلة عن أحوال المسلمين هناك، كما وزعت مبالغ من المال صرفت بأمر سماحة رئيس الجامعة الإسلامية فيها، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن كثيرا من المتخرجين من الجامعة الإسلامية قد تعاقدت معهم دار الإفتاء وبعثتهم على نفقتها للقيام بالدعوة والتدريس في أقطار متعددة من أفريقيا.

ميزانيات الجامعة:

ومنذ أن تفضلت حكومة هذه البلاد بإنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وهي تنفق عليها بسخاء في سبيل نجاحها، فترصد لها سنويا الملايين من الريالات التي اعتمدت للجامعة في ميزانية الدولة منذ تأسيسها حتى العام الحالي 87-1388هـ والتي هي المصدر الوحيد لتمويل الجامعة:

في عام 81-1382هـ:000ر000 ر3 ملايين ريال. في عام 82-383هـ: 000ر000ر4 ملايين ريال. في عام 83 – 1384 هـ: 00ر210ر4 ملايين ريال. في عام 84 – 1385هـ: 000ر936 ر4 ملايين ريال. في عام 85-1386 هـ 141ر865ر6 ملايين ريال. في عام 86- 1378هـ: 935ر113ر8 ريال. في عام 87-1388هـ: 965ر604ر8ريال.

المشاريع العمرانية:

وكما أولت الحكومة جميع مرافق الجامعة اهتماما ببذل الأموال لتسهيل أداء الجامعة لمهمتها، فقد خصت مشاريعها العمرانية بمزيد من العناية لإظهار الجامعة بالمظهر اللائق، فخصصت مبالغ عظيمة في ميزانيتها لإقامة منشآت لها على أحدث طراز معماري، وعلى سبيل المثال فقد اعتمد في ميزانية الجامعة في العام المالي الحالي 87-1388هـ لمشاريع الجامعة العمرانية ما يزيد على أربعة ملايين ريال، ويجري العمل حاليا في المشاريع المذكورة وهي تشتمل على ما يأتي:

أ – مستودعات كبيرة واسعة للجامعة.

ص: 56

ب- قاعة ضخمة للمحاضرات تشتمل على مدرج يحتوي على 1070 كرسيا عدا الصالات الإضافية، وغرف المحاضرات، والمنصة الواسعة لهم، ومقصورة الشرف لكبار الزائرين.

ج- مبنى المكتبة العامة للجامعة ويشتمل على غرف خزائن الكتب، وقاعات المطالعة، وغرف الإدارة. وقدرت طاقة المكتبة بأنها تتسع لتسعمائة وسبعين ألف كتاب ومجلد.

د- مبنى رئاسة الجامعة يشتمل على مكتب الرئيس، ومكتب الأمين العام، ومكاتب لكبار موظفي الأقسام في الجامعة.

هـ مبنى كلية الشريعة وهو على أحدث طراز في فن المعمار ويشتمل على قاعات للمحاظرات، وفصول واسعة للدراسة، يبلغ مجموع اتساعها حوالي 1700طالبا. هذا بالإضافة إلى أقسام إدارة الكلية، والباحات والحدائق التي يقضي فيها الطلبة أوقاتهم في أثناء الفسح.

أما المباني التي تم إنجازها واستلمتها إدارة الجامعة في العام الماضي فبيانها كالتالي:

أ – مبنى لكلية الدعوة وأصول الدين يشتمل على اثنتي عشرة قاعة للمحاضرات عدا الإدارة ومكتبة الكلية. الخ

ب- فصول للمعهد الثانوي.

ج- ثلاث وحدات سكنية للطلبة تتكون كل واحدة من 22 غرفة إلى جانب قاعة واسعة للاستقبالات والمرافق العامة.

د- مطعم فسيح للطلاب.

هـ حظائر لسيارات الجامعة ومبان للورشة الخاصة بإصلاحها.

ص: 57

ندوة الطلبة

كيف نعمل للإسلام

بقلم: جلال الدين مراد

سنة ثانية شريعة

الحياة صراع بين الحق والباطل، بين الأخيار والأشرار، منذ فجر التاريخ والأخيار هم الذين كلفهم الله وشرفهم ليقوموا بأمره ويتسلموا قيادة البشرية، ويوجهوا دولاب الحياة لما لهم دون غيرهم من حق البقاء وعمارة الأرض، ولهذا أشارت الآية الكريمة {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} .

والحق لم يكن في يوم ما أكثر عددا من الباطل {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} . وإنما كان يتم تسيير دفة سفينة الحياة وفق مواصفات شرط الله توفرها في الدعاة، فإذا التزم الدعاة تلك الشروط وهبهم الله السيادة والتمكين لقوله تعالى:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْض} .

في اليوم الذي تلتقي فيه جهود المخلصين وتتحد كلمتهم ويأخذوا بالأسباب اللازمة وفق سنن الله الكونية سينصرهم، ويومها لن تقوى قوى الباطل (الخشب المسندة) على مجابهة هذه الجذوة المباركة التي انطلقت.

والباطل مهما امتلك من مظاهر القوى المادية فلن يعدو الزبد كما وصفة الله تعالى {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض} . وما نراه الآن من تسلط الأشرار على دولاب الحياة، فبسبب غفلة الصالحين والأخيار.

ص: 58

وليس بعيدا أن تستقيم الأوزان وتستقر الأوضاع، ولكن ذلك رهين الإيمان العميق، والتنظيم الدقيق، والعمل المتواصل. وذلك أن الناس لم يكونوا صالحين قبل ابتعاث محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنهم لم يكونوا فاسدين من بعده.. وإنما ابتدأ الفساد برجل واحد ثم ثان وثالث ثم استشرى الداء وظهر الفساد في البر والبحر. وليس بدعا كذلك أن يبدأ الإصلاح في زماننا هذا برجل واحد ثم ثان وثالث وآخر، ومما لا شك فيه أن اثنين لو اجتمعا على أمر (ما) يكونان به مؤمنين، أقوى من مائة آحادا متفرقين، وهذا ما نعانيه في عصرنا من تفكك أهل الحق ووحدة أهل الباطل!.

إن عالمنا هذا قد ابتلعه هذه المعسكرات شرقيها وغربيها، ولو أنها تختلف فكريا إلا أنها تتفق عمليا في حرب الإسلام، إذ جاءتنا من فوقنا ومن أسفل منا وعن أيماننا وعن شمائلنا، عن طريق المذياع وشاشة السينما والتلفزيون، وهذه الكتب والمجلات الرخيصة الداعرة.. الموجة التي غطت على المكتبات العلمية، وسرقت أرواح شبابنا واستهوت عقولهم بفنها وسحرها، وكدنا من جراء هذه الإستكانة نفقد الأمل في إنجاح عملية البعث الإسلامي المرتقب لولا بقية إيمان..

إن المذاهب المادية المعاصرة قد تسلحت بالوسائل المغرية العديدة والنظم الدقيقة، والنظام لا يقابل بالفوضى، والجمع لا يقابل بالشتات، وقد أضحى واضحا أن من يعمل للإسلام في هذا العصر منفردا كمن يسبح في غير ماء، أو كمن ينقب عن البترول (بالمعول) أو يبحث عن الجواهر (بالشبكة) .

إن الدعوة الإسلامية قد اتسمت بالدقة والنظام، وقد واكبت ذلك منذ فجر تاريخها، ولعل في مراحلها السرية والعلنية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم إشارة ولفت نظر وذكرى.. وأي ذكرى للدعاة في كل عصر ومصر. ولست مدعيا إذا قلت أن كل من رام الإصلاح عفوا لهذا المجتمع المريض، ولم يسع له سعيه اللازم فقد خالف سنة الله الكونية..

ص: 59

ولقد رأيت كثيرا من المصلحين في هذا العصر يعتمدون فقط على الخطب الحماسية كعلاج لأدواء هذا المجتمع، وكثيرا ما يذهب أحدهم وتذهب كلماته أدراج الرياح، وتبقى حالة الناس كما هي.. وما زال الخطباء يخطبون منذ انهيار الدولة الإسلامية وتفكك أوصالها، فهل أفلح الخطباء في تربية جيل مثالي، أو استطاعوا إعداد كتائب إسلامية مجاهدة؟ بينما نجد دعوات باطلة عقديا وسياسيا قد حالفها الحظ، وتمت لها السلطة والتحكم في رقاب الصالحين بفضل التنظيم وقوة العتاد.

إن الدعاة هم أطباء هذه الإنسانية المعذبة، والطبيب البارع هو الذي يعرف مواطن الداء وكيفية استئصاله، وقد يضطر لتنويع الدواء، فيقدم هذا ويؤخر هذا، لما يترتب عليه من تأخر برء أو نحو ذلك. فالشيوعية والقومية والوجودية وغيرها يجب على الداعية أن يحيط بها علما حتى يكشف زيفها على ضوء الإسلام.. ومن عرف سلاح عدوه عرف مواطن ضعفه وإصابة مقاتلة. فالخطب ليست العلاج العملي لمشاكلنا المعاصرة، وإنما يجب أن يسبقها نظام ومنهج تربية ينظم الشباب والناشئة، كما تفعل اليوم الأندية الرياضية، ويعني بمتطلباتهم وحصانتهم لئلا يعيشوا في فراغ اجتماعي، وحياة متناقضة بين القول والتطبيق.

وإذا علمنا ضرورة الإيمان العميق والتنظيم الدقيق كشرط أساسي لصد هذه الأفكار الفاسدة المستوردة، فإنه يتحتم على المنظمات الإسلامية أيا كانت أن تتعاون وتتحد، وهي تصارع هذه الجاهلية على طول الجبهة الممتدة من المحيط إلى المحيط ما دام الهدف والمقصد هو إرضاء الله عز وجل.

إن الحركات الإسلامية تواجه اليوم عدوا مشتركا متعددة وسائلة وفنونه، وما لم تتحد هذه الجماعات وتتعاون فستظل متناثرة حتى يسهل التهامها الواحدة تلو الأخرى، خاصة إذا كانت من بلد واحد، ومما يذكر أنه لأن يجتمع الناس على ضعف في الرأي خير من أن يتفرقوا على صواب فيه.

ص: 60

وأخلص فأقول إنه قد آن الأوان لنبذ الخلافات فيما بيننا، والاتهامات والتجريحات التي لا يستفيد منها إلا أعداء الإسلام، وأن نقف جنبا إلى جنب، وأن ندعوا جميعا لما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفا فيه، إلا خلافا يفضي إلى كفر بواح.

إن قطرات الندى قد تتلاشى لو تناثرت وتباعدت، أما لو اجتمعت وكانت ثجاجا فبها الأرض تهتز والحياة تزهو وتزهو. وإن شئتم فأقرؤوا قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .

ص: 61

الفتاوى

للشيخ عبد العزيز بن باز

س-1- هل تفرض علينا صلاة الجمعة في هذه الديار الأسبانية علما بأنه لا مسجد فيها، ونحن أتينا إلى تلك الديار من أجل الدراسة؟

ن. أ. ص غرناطة

الجواب: قد نص أهل العلم على أنه لا يجب عليكم ولا على أمثالكم إقامة صلاة الجمعة بل في صحتها منكم نظر، وإنما الواجب عليكم صلاة الظهر لأنكم أشبه بالمسافرين وسكان البادية، والجمعة إنما تجب على المستوطنين، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها المسافرين ولا أهل البادية، ولم يفعلها في أسفاره عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه رضي الله عنهم، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع صلى الظهر في عرفة يوم الجمعة ولم يصل الجمعة ولم يأمر الحجاج بذلك لأنهم في حكم المسافرين، ولا أعلم خلافا من علماء الإسلام في هذه المسألة بحمد الله. إلا خلافا شاذا من بعض التابعين لا ينبغي أن يعول عليه. ولكن لو وجد من يصلي الجمعة من المسلمين المستوطنين فالمشروع لكم ولأمثالكم من المقيمين في البلاد إقامة مؤقتة لطلب علم أو تجارة ونحو ذلك، الصلاة معهم لتحصيل فضل الجمعة، ولأن جمعا من أهل العلم قالوا بوجوبها على المسافر تبعا للمستوطن إذا أقام في محل تقام فيه الجمعة تمنعه من قصر الصلاة.

س-1- إذا جامع الرجل أهله ولم ينزل فهل فيه عليه غسل؟

س-2- إذا أحرم الإنسان في إحدى الصلوات الفرائض في المسجد أو غيره منفردا ثم جاء شخص آخر أو أكثر فصف معه هل يصح ذلك؟

س-3- ما حكم حلق اللحى أو تقصيرها هل مكروه أو محرم؟

الإجابة:

ص: 62

ج-1- نعم متى جامع زوجته حتى مس الختان الختان وجب عليه الغسل وإن لم يخرج منه الماء، لما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بذلك ومن الوارد في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل وإن لم ينزل" متفق عليه وهذا لفظ مسلم وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب عليه الغسل" وعنها رضي الله عنها أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كنت أفعله مع هذه -يعني عائشة- ثم نغتسل "أخرجهما مسلم في صحيحة.

ج-2- الصواب صحة ذلك، فإن كان واحدا صف عن يمينه وإن كان الذي حضر أكثر من واحد صفوا خلفه وجعلوه إماما ولا حرج في ذلك في أصح أقوال أهل العلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الليل وحده فجاء ابن عباس فصف عن يساره فجعله عن يمينه وصلى به، والنبي صلى لله عليه وسلم لم ينو الإمامة حين أحرم. وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان في بعض أسفاره يصلي وحده منفردا فجاء اثنان من الصحابة فصفا عن يمينه وشماله فجعلهما خلفه وصلى بهما، وإذا جاز هذا في النافلة جاز في الفريضة لأنهما سواء في الأحكام إلا ما خصه الدليل، ولأن ذلك لو كان لا يجوز في الفريضة لنبههم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن مثل هذا إنما يجوز في النافلة لا في الفريضة. فلما لم يخبرهم بذلك دل على أن الحكم واحد والله الموفق.

ص: 63

ج-3- قد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن ذلك محرم ومنكر ومن صفات المشركين والمجوس. فالواجب على كل مسلم تركه والحذر منه لما في ذلك التشبه بأعداء الله من المشركين والمجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم ولا ينبغي للمسلم أن يغتر بكثرة من فعل ذلك من المسلمين لأن الحق أحق بالاتباع ولو تركه الناس. ومما ورد في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحفوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين"وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحا" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

س-1- ما حكم الاستنجاء من الريح ونحوها من نوا قض الوضوء غير البول والغائط، وإذا كان الناقض البول فقط فهل يجب عليه غسل الدبر تبعا للقضيب؟

م.ع. ع ألمانيا

ص: 64

الجواب: قد دلت الأدلة الشرعية على أن الاستنجاء إنما يكون من البول والغائط خاصة. فأما ما يخرج من الدبر من الريح وهكذا النوم ومس الذكر وأكل لحم الإبل فهذه وأشباهها من النواقض لا يجب فيها استنجاء، بل يكفي فيها الوضوء الشرعي الذي دل عليه قوله سبحانه في سورة المائدة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} الآية. هذه المسألة ليس فيها خلاف بحمد الله بين أهل العلم. قال موفق الدين محمد بن عبدا لله ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغنى: "لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه لا يجب الاستنجاء من النوم والريح"انتهى. والحجة في ذلك الآية السابقة، وما ثبت في الأحاديث الصحيحة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يذكر فيها أنه استنجى من النوم أو الريح ونحوهما، وإنما ثبت استنجاءه من البول والغائط، وإذا كان الناقض البول فقط وجب غسل ما أصاب القضيب من البول، أما الدبر فلا حاجة إلى غسله إذا لم يخرج منه شيء من الغائط عند البول وهكذا الخصيتان لا يجب غسلهما إذا لم يصبهما شيء من البول، لأن المقصود الاستنجاء هو التطهير من النجاسة، فالمحل الذي لم تصبه النجاسة لا يجب غسله، لكن إذا لم تصبه النجاسة لا يجب غسله، لكن إذا كان الناقض هو المذي وهو ما يخرج عند أثر الشهوة عند انتشار القضيب بسبب نظر إلى النساء أو تفكر أو ملامسة فإن هذا المذي يوجب غسل الذكر والأنثيين. الأحاديث وردت في ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمذي غير المني. أما المني فهو أصل الإنسان وهو الذي يخرج بدفق وشهوة عند وجود أسباب ذلك، فهذا يوجب الغسل كما هو معلوم من الأدلة الشرعية.

س-1- ما حكم أكل اللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية وهل هي حلال أم حرام؟.

ص: 65

الجواب: قد أجمع علماء الإسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان ومنكري الأديان ونحوهم من جميع أصناف الكفار غير اليهود والنصارى والمجوس، وأجمعوا على إباحة ذبيحة أهل الكتاب من اليهود والنصارى واختلفوا في ذبيحة المجوس عباد النار. فذهب الأئمة الأربعة والأكثرون إلى تحريمها إلحاقا للمجوس بعباد الأوثان وسائر صنوف الكفار من غير أهل الكتاب. وذهب بعض أهل العلم إلى حل ذبيحتهم إلحاقا لهم بأهل الكتاب وهذا قول ضعيف جداً بال باطل والصواب ما عليه جمهور أهل العلم من تحريم ذبيحة المجوس كذبيحة سائر المشركين لأنهم من جنسهم فيما عدا الجزية، وإنما شابه المجوس أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم فقط، والحجة في ذلك قوله الله سبحانه في كتابه الكريم في سورة المائدة:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُم} .

فصرح سبحانه بأن طعام أهل الكتاب حل لنا، وطعامهم ذبائحهم كما قاله ابن عباس وغيره من أهل العلم. ومفهوم الآية أن طعام غير أهل الكتاب من الكفار حرام علينا. وبذلك قال أهل العلم قاطبة إلا ما عرفت من الخلاف الشاذ الضعيف في ذبيحة المجوس.

ص: 66

إذا علم هذا فاللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية إن علم أنها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين إذا لم يعلم أنها ذبحت على غير الوجه الشرعي إذ الأصل حلها بالنص القرآني فلا يعدل عن ذلك إلا بأمر متحقق يقتضي تحريمها، أما إن كانت اللحوم من ذبائح بقية الكفار فهي حرام على المسلمين ولا يجوز لهم أكلها بالنص والإجماع، ولا تكفي التسمية عليها عند غسلها ولا عند أكلها، أما ما قد يتعلق به من قال ذلك فهو وارد في شأن أناس من المسلمين كانوا حديثي عهد بالكفر، فسأل بعض الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا:"يا رسول الله إن قوما حديثي عهد بالكفر يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سموا الله عليه أنتم وكلوا "رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها وبذلك يصلح أنه لا شبهة لمن استباح اللحوم التي تجلب في الأسواق من ذبح الكفار غير أهل الكتاب بالتسمية عليها، لأن حديث عائشة المذكور وارد في المسلمين لا في الكفار فزالت الشبهة لأن أمر المسلم يحمل على السداد والاستقامة ما لم يعلم منه خلاف ذلك، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أمر هؤلاء الذين سألوه بالتسمية عند الأكل من باب الحيطة وقصد إبطال وساوس الشيطان لا لأن ذلك يبيح ما كان محرما من ذبائحهم. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما كون المسلم في تلك الدول غير الإسلامية يشق عليه تحصيل اللحم المذبوح على الوجه الشرعي ويمل من أكل لحم الدجاج ونحوه، فهذا ونحوه لا يسوغ له أكل اللحوم المحرمة ولا يجعله في حكم المضطر بإجماع المسلمين، فينبغي التنبيه لهذا الأمر والحذر من التساهل الذي لا وجه له. هذا ما ظهر لي في هذه المسألة التي عمت بها البلوى وأسال الله أن يوفق المسلمين لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يعمر قلوبهم بخشية وتعظيم حرماته والحذر مما يخالف شرعه.

ص: 67

الفقه في الدين

للشيخ حماد الأنصاري

المدرس في الجامعة

عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين" الحديث أخرجه البخاري في صحيحة. وزاد أبو يعلى الموصلي عنه "ومن لم يتفقه لم يبال الله به".

عن عبدا لله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله بن مسعود"قلت: "لبيك يا رسول الله ثلاث مرات". قال: "أتدري أي عرى الإيمان أوثق". قال: "قلت الله ورسوله أعلم". قال: "الولاية في الله الحب فيه والبغض فيه". ثم قال: "يا عبد الله بن مسعود"قلت: "لبيك يا رسول الله ثلاث مرات". قال: "أتدري أي الناس أفضل؟ "قال: "قلت الله ورسوله أعلم". قال: "إن أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم". ثم قال: "يا عبد الله بن مسعود"قلت: "لبيك يا رسول الله ثلاث مرات". قال: "أتدري أي أناس أعلم". قال: "قلت الله ورسوله أعلم". قال: "أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل".

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه". قالوا: "بلى"قال: "من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يؤمنهم من مكر الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا علم ليس فيه تفهم، ولا قراءة ليس فيها تريث".

سئل الإمام مالك بن أنس قيل له: "لمن تجوز الفتوى؟ "فقال: "لا تجوز إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه". قيل له: "اختلاف أهل الرأي". قال: "لا، اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم".

ص: 68

قال أبو حيان التيمي: "العلماء ثلاثة عالم بالله وبأمر الله، وعالم بالله وليس بعالم بأمر اله. وعالم بأمر الله وليس بعالم بالله. فأما العالم بالله وبأمره فذلك الخائف لله العالم بسنته وحدوده وفرائضه. وأما العالم بالله وليس بعالم بأمر الله فذلك الخائف لله وليس بعالم بسنته ولا حدوده ولا فرائضه. وأما العالم بأمر الله وليس بعالم بالله فذالك العالم بسنته وحدوده وفرائضه وليس بخائف له".

وقال الخليل بن أحمد: "الرجال أربعة، رجل يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فعلموه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك غافل فنبهوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك مائِق فاحذروه".

وكان الحسن البصري كثيرا ما يتمثل بهذا البيت.

يسر الفتى ما كان قدم من تقى

إذا عرف الداء الذي هو قاتله

أخرجها كلها الحافظ ابن عبد البر ما عدا الأول

الدين الحق

الدين الحق هو الذي يعطيك فلسفة متكاملة للحياة، ونظاماً وافياً بحاجات المجتمع، كالمهندس الماهر يبني لك بيتا متين الدعائم، مستوفي المنافع.

مصطفى السباعي

ص: 69

القدس.. والفتوحات

بقلم: محمد محمد صالح ضيائي

الفتوحات الإسلامية التي شملت أكثر الأقاليم المعروفة في العالم ولسير الفاتحين المسلمين الذين حملوا إلى أمم العالم رسالة الإسلام وتعاليم الشريعة المحمدية الغراء ميزة خاصة على الفتوحات غير الإسلامية التي سبقت الإسلام منذ أقدم العصور أو تلته في العصور المتأخرة على يدي أعداء الإسلام ومناوئيه.

فلقد كان القواد الإسلاميون يهدفون في حروبهم وفتوحاتهم إلى تحرير الأمم وإخراج الشعوب من عبادة الخلق إلى عبادة الخالق، ومن ذل الكفر إلى عز الإيمان، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. كان هذا هو شعار الفاتحين المسلمين في جميع أقطار العالم. قال ذلك ربعي بن عامر أمام كسرى في المدائن، وأروا العالم ذلك عمليا في عدلهم مع الشعوب المغلوبة على أمرهم، ورفقهم بالأسرى في الحروب والفتوحات.

ولكي يظهر الفرق بين سير الفاتحين المسلمين وغير المسلمين، والفارق بين معاملة الفاتحين المسلمين وغير المسلمين مع الشعوب، ولكي يتضح عدل الإسلام والمسلمين ندرس تاريخ بيت المقدس هذه المدينة الإسلامية التي أصبحت الآن ضائعة مهانة تحت أقدام اليهود الغاصبين. هذه المدينة العتيقة من أقدم المدن المعروفة وأكثرها أهمية لدى أهل الأديان السماوية. ولا يعرف التاريخ منذ أقدم العصور مدينة تعرضت للغارات والفتن والتخريب مثل ما تعرضت لها مدينة القدس رغم كونها غير ذات أهمية كبيرة من الناحية التجارية والاقتصادية.

ص: 70

1-

وأقدم فتنة سجلها التاريخ لبيت المقدس هي القتل والتخريب العام الذي قام به بنو إسرائيل عام ألف ومائة وتسعة وثمانين قبل الميلاد: فتقول التوراة: (سفر يوشع الفصل السابع 221)"إن بني إسرائيل خرجوا من أريحا يقصدون فتح مدينة (بيوس) -وهي اسم مدينة القدس آنذاك- فما مروا على مدينة من مدن فلسطين إلا وقتلوا كل من فيها من إنسان وحيوان، فعلوا ذلك في أريحا وبيوس ووو وهي أمهات المدن الفلسطينية آنذاك". ونصوص التوراة تؤكد أن بني إسرائيل كانوا يحرقون كل مدينة فتحوها بعد قتل من فيها من الأميين.

2-

ثم من الفتن التي حفظها التاريخ لبيت المقدس حملة الملك الآشوري (سنحاريب) التي كانت في عام 713 قبل الميلاد - أي بعد الفتنة الأولى ب480عام- فقد استولى الملك الآشوري على القدس وقتل كل من قدر عليه من اليهود وحمل ما استطاع من الأموال وعاد إلى بلاده.

3-

ثم عاد بعد ثلاث سنوات - أي في عام 710 قبل الميلاد - فأجهز على بقية سكانها وخرب المدينة المقدسة. ولكن ما إن ستتب له الأمر في القدس حتى عم جيشه الطاعون فقتل أكثر من مائة وثمانين ألفا من جيشه وكان السبب في إنهاء الحكم الآشوري عن العالم.

4-

ثم هاجم القدس بعد الآشوريين حكام مصر فاحتلوها وأصبح أهلها يؤدون الخراج للفراعنة مدة غير طويلة من الزمن.

5-

ولما استقل اليهود بالحكم في فلسطين بعد ذلك عاثوا في الأرض فسادا كما تقتضيه السجية اليهودية فانتقم الله منهم فسلط عليهم (بختنصر) ملك بابل فهاجم القدس البابليون بقيادة الملك المذكور واحتلوها عام 597 قبل الميلاد فقتل الكثير من سكانها ثم صالح بقية السيف منهم على خراج سنوي يحملونه إلى بابل.

ص: 71

6-

ولكن الإسرائيليين ثاروا ضده وخلعوا طاعته فعاد إليهم عام 586 قبل الميلاد وحاصر القدس مدة سنتين ثم فتحها وقتل كل من شاء من اليهود وأخذ معه أشراف بني إسرائيل وعلى رأسهم (حزقيا) أسرى إلى بابل، وغادر القدس بعد أن أحرق المعبد وهدم المدينة وتركها في صورة مقبرة. وبقيت القدس مهجورة حتى انقرض ملك البابليين واستولى على بابل أحد ملوك فارس الأقدمين المعروف (كورش) فعطف على اليهود وأحسن إليهم وأعادهم إلى القدس وساعدهم في تجديد بناء المدينة المقدسة.

7-

ولما استعاد اليهود حريتهم عادوا إلى الفساد والظلم فسلط الله عليهم أحد خلفاء اسكندر المقدر ني فقد هاجم القدس القائد الروماني (انتيوخوس آبيفانوس) عام 168 قبل الميلاد وأحتلها وخرب المعبد وهدم حصار المدينة وقتل معظم سكانها، ومن هذا التاريخ أصبحت القدس تحت سيطرة الرومان.

8-

وفترة حكم الرومان على فلسطين كانت مدينة القدس معرضة للقتل والتخريب أكثر من أية مدينة فلسطينية أخرى، ولم تخل المدينة من الثورات والفتن يوما من الأيام ففي عام 65 قبل الميلاد حاصر القائد الروماني الجبار (بومبي) مدينة القدس مدة ثلاثة أشهر ثم فتحها وقتل أكثر أهلها.

9-

وكذلك أيام حكم القائد الروماني (بيلاطس) الذي حكم فلسطين من سنة 29إلى 39 بعد الميلاد تعرضت القدس للخراب والهدم عدة مرات طيلة عشر سنوات.

ص: 72

10-

ولم تكد القدس تنسى الفتن والغارات التي مر بعضها حتى دهمتها الفتنة التي يقول المؤرخون عنها أنها كانت منقطعة الشبيه في تاريخ القدس المليء بالأحداث والفت: فقد هاجم القدس السفاك الروماني (تيطس) عام 79 بعد الميلاد، وحاصر المدينة مدة طويلة حتى هلك الآلاف من سكانها جوعا، ثم عجز أهلها عن المقاومة فاستسلموا وفي ذلك يقول المؤرخ الشهير (يوسيفوس) الذي كان شاهد الوقعة حين اقتحام (تيطس) وجيشه مدينة القدس: "إن القتلى في ساحة المعبد وحدها بلغت عشرة آلاف نفس معظمها من النساء والصبيان والشيوخ الذين كانوا قد استعاذوا بالمعبد، وكانت الدماء تجري في الشوارع، وحسبنا أن نعلم أن عدد القتلى في هذه الحادثة قدر بنصف مليون نسمة، واستمر القتل مدة أشهر، وكانت النار مشتعلة في أكثر أحياء المدينة عدة أسابيع. وأخذ السفاك معه كثيراً من الشباب وباعهم في روما.

11-

ثم جاء دور الملك الروماني (آدريانوس) فهاجم القدس واحتلها عام 135 بعد الميلاد ووضع السيف في أهلها وهدم المعبد ولم يبق من المدينة حجر على حجر. ولم يقتصر الملك الروماني على قتل اليهود بل قتل من قدر عليه من النصارى، وأمر بإخراجهم من كنائسهم وهدمها وبني معبدين في القدس أحدهما باسم الزهرة، والآخر باسم المشترى.

12-

ثم هاجم القدس عام 614 بعد الميلاد جيش فارس فاحتلوها وقتلوا أكثر من 90 ألفا من سكانها المسيحيين، وبتحريك من اليهود هدموا كنيسة القيامة كما كسروا الصليب المقدس (حسب زعم النصارى) .

ص: 73

هذه بعض الفتن والمصائب مرت بهذه المدينة المقدسة، ولا يخفى أن أكثر الفتن المذكورة في العصور المختلفة كانت اليهود إحدى حجري الرحى فيها وبعد مضي 1700 سنة على القدس وهي تغوص في بحار الدماء وتداس مقدساتها بأقدام الطغاة شهدت القدس جيشا دخلها ولكن اختلفت الأوضاع كما كانت القدس تعهده عند اقتحام الجيوش أبوابها، فقد قصد الجيش الإسلامي فتح الشام (ومنها القدس) في خلافة الصديق فتوجه المسلمون نحو الشام وهم يحملون رسالة الإسلام، وقد أمرهم الصديق الأكبر بالأوامر التالية:"لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تسرفوا في القتل، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا صبيا ولا عجوزا ولا امرأة، ولا تحرقوا نخلا، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لله، وإذا مررتم بقوم اتخذوا صوامع وسكنوها فدعوهم وما هم عليه". ووصلت الجيوش الإسلامية إلى مدينة القدس أوائل خلافة عمر بن الخطاب ثاني الراشدين فحاصر القدس عمرو بن العاص بجيشه عدة أشهر

ورفض السكان تسليم المدينة إلى القائد وإبرام الصلح معه ورضوا بتسليم المدينة لأمير المؤمنين عمر نفسه، فاطلع عمرو أمير المؤمنين على القضية فجاء عمر على بعير يتعاقبه هو وغلامه إلى القدس، وخرج لاستقباله كبار المسيحيين وفي مقدمتهم رجال الدين المسيحي وكتب بينهم المعاهدة التالية:

ص: 74

"هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أهل ايلياء، أمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أنه لا تسكن كنائسهم ولا يهدم ولا ينقض منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بايلياء معهم من اليهود أحد، وعلى أهل ايلياء مقابل ذلك أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن على نفسه وماله وعليه ما على أهل ايلياء من الجزية، ومن أحب من أهل ايلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم فإنهم آمنون على بيعهم وصلبانهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من سائر أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه ما على أهل ايلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى بلده".

وهكذا لأول مرة دخل قائد بجيشه القدس يرحب بهم أهلها، ولم يقتل إنسان واحد باتفاق المؤرخين وبشهادة أعداء الإسلام أنفسهم. وظل المسيحيون يتمتعون بالأمن والاستقرار أيام الحكم الإسلامي على القدس قرابة قرنين ونصف قرن.

13-

حتى تحركت الضغائن الصليبية فهاجم القدس الجيوش الصليبية أكثر من مرة، وضعف المسلمون وعجزوا عن المقاومة فاحتلتها الجيوش الصليبية عام 1099ميلادية وقتل المسيحيون الذين يدعون أنهم رسل السلام والرحمة في يوم الاحتلال سبعين ألفا من المسلمين في القدس. ومكثوا فيها حاكمين ومستولين عليها مدة 90 عاما، حتى قيض الله للإسلام صلاح الدين الأيوبي فأعاد القدس إلى أهلها المسلمين وذلك في عام 1193 ميلادية واستعمل مع المسيحيين من النبل والرفق والسماحة ما جعل الأعداء يشهدون له بالأنصاف والعدل. وهدأت القدس بعد ذلك قرابة ثمانية قرون بفضل الحكام المسلمين.

ص: 75

14-

إلى قيام الحرب العالمية حيث احتلتها القوات البريطانية عام 1919 فوجد اليهود فرصة مناسبة وتستروا وراء بريطانيا وأخذت الأسراب اليهودية تهاجر إلى القدس من جميع أنحاء العالم حتى قامت عصابة منهم وشكلوا دولة احتضنتها الدول الصليبية الحاقدة على الإسلام، وأخذوا جزءا من القدس عام 1948ميلادية.

15-

ثم استولت اليهود على مدينة القدس عام 1967 وهاهي الآن تداس مقدساتها تحت أقدام اليهود، تنتظر صلاح الدين آخر ينقذها من شذاذ الآفاق ويعيدها إلى المسلمين. والله المستعان.

الجمال أم القوة؟

إذا كان الفن يصقل المواهب وينمي الشعور بالجمال فإن الأمة المحاطة بالإعداء، في حاجة إلى ما يفتل السواعد، ويلهب الإيمان، ويقوي الأخلاق، ويفتح العقول، ويدفع عن الأمة خطر الإبادة أو الاحتلال

((هكذا علمتني الحياة))

ص: 76

دروس من الوحي

للشيخ محمد شريف الزيبق

صدر أخيرا عن الدار السعودية للنشر هذا الكتاب الذي يعتبر حلقة من حلقات الأدب الإسلامي، الذي يمتاز بطريقة عرضه وأسلوبه، وهو عبارة عن محاورات إذاعية في ضوء الكتاب والسنة النبوية.

وللأستاذ المجذوب جولات موفقه في كتابة القصة، فقد صدرت له عدة قصص ناجحة مثل: بطل إلى النار، قصص من الصميم، صور من حياتنا، قصص من مجتمعنا، فارس غرناطة وقصص أخرى، ويأتي أخيرا هذا الكتاب (دروس من الوحي) ، صدى لتلك الجلوات الروحية حين كان يخلو بكتاب الله، أو الحديث النبوي بوعي وتفتح، فتنقدح في قلبه انطباعات تطل به على آفاق من السعادة والغبطة والجمال، لا سبيل إلى استيفاء وصفها، ولا سبيل إلى تناسيها..كما يقول في المقدمة.

والموضوعات التي عالجها في هذا الكتاب أو (الدروس) مختارة من القضايا الإسلامية الراهنة التي لها أثرها العميق في حياة المسلمين مثل: التوحيد الخالص - الإيمان باليوم الآخر - الرضا بالقضاء والقدر - أثر العبادات في تقويم السلوك

وقد عمل على ربط هذه الموضوعات بواقع المسلمين في تحليل دقيق عميق.

كما ناقش كثيرا من المشكلات الخطيرة التي واجهت الأمة الإسلامية، ففند الدعوات القومية في فصلي (الشرف الباذخ)(وسوف تسألون) ، وتصدى لبحث الصراع بين الإيمان والكفر في (مكر الليل والنهار) و (حزب الله) ، ودحض الإسرائيليات المدسوسة في كتب التفسير في (قصة الغرانيق) و (لابد من الصراحة) . وفي هذا الفصل الأخير بحث قصة زينب رضي الله عنها وزواج النبي منها، إلى غير ذلك من الموضوعات الهامة.

ص: 77

وقد أتخذ لهذا الكتاب أسلوب الحوار بين (الشيخ) و (التلميذ) فوفق إلى أبعد حدود التوفيق، وكتاب الله العظيم قد أشتمل في كثير من سوره على أنماط من الحوار الرائع. والطريقة الحوارية إلى ما فيها من تشويق، طريقة مفيدة في تبسيط المعاني وتقريبها إلى الأفهام، ولذلك اختارها الحكماء والمجيدون من الكتاب، ولا يحسنها إلا من أوتي طاقة فنية عظيمة كالأستاذ المجذوب، الذي له القدم الراسخة في مختلف ميادين الأدب من شعر ونثر وقصص.

وقد تناول المؤلف في فصل عنوانه: (حي على الصلاة) معارك المسلمين مع الشيوعية والصليبية، داعيا إلى استعادة روح الصلاة الخاشعة، فبها يعيدون شخصيتهم، ويحسنون التصرف بطاقاتهم.. وروح الصلاة تتمثل في المساواة والقضاء على التفاوت الذي تخلفه تعقيدات المدنية بين أصناف الناس وطبقاتهم، مما يسميه التقدميون (الصراع الطبقي) ..ويقول:"الصلاة هي الكفيلة بمحو ذلك القلق وإذا به ذلك التوتر بما تتيحة للمصلى بين ساعة وساعة من فرص التأمل الهادئ والمناجاة الخاشعة للخالق.. حيث يتلاقى المختلفون من البشر كل منهم بجانب الآخر، وقد تفتت من بينهم الحواجز، وتماست المناكب، وتلاقت الجباه على الأرض، تسبح مانح الحياة، وقد عاودها اليقين بوحدة المنبت والشعور بالحاجة إلى رحمة الله.."

ص: 78

وفي الحديث عن أسرار الصلاة يعرب المؤلف عن تجربة من تجاربه الروحية، حيث يجد في الصلاة علاجا للشرايين المرهقة تحت أثقال التفكير، فبالوضوء تبرد حرارة الأعصاب، وبالصلاة تخفف من ضغط الإرهاق.. وكأنه بهذا يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"أرحنا بها يا بلال". وفي فصل آخر عنوانه: (جليس الله) يتناول بالبحث أثر البيئة في توجيه الأفراد حيث يقول: "فنحن نتأثر بالأستاذ والصديق والكتاب والجو والطعام والكساء ونوع الحياة، كل أولئك يترك في حياتنا انطباعاته العميقة، التي يتعذر علينا التحرر منها بغير الحصانة العقلية التي تحسن النقد.." وينتهي إلى المقارنة بين إنسان يألف جو المقاهي، وما فيها من لغو وعبث وفضول وثرثرة لا خير فيها سوى تبديد ساعات العمر.. وبين إنسان آخر أخذ نفسه بملازمة المساجد، فقلبه معلق بها، لا يطمئن إلا حين يعود إليها.. الأول يعيش حياته بروح (المقاهي) صلته بأهله وبالناس صورة مجسمة من صلته برفاق ذلك الجو العابث المحتال، والآخر إنسان يعامل أهله ومجتمعه بروح المسجد الذي عوده الهدوء والوقار وخفض الصوت واستحضار جلال الله من خلال كتابه أثناء مناجاته والرفق بإخوانه المصلي، واستشعار حقهم عليه وواجبة إزاءهم..ذلك أثر الاعتكاف الجزئي في حياة رواد المساجد لأداء الصلوات الخمس فكيف بآثار الاعتكاف الكلي الذي يستغرق الشهر كله أو ثلثه في مصاحبة الله:"إذا شئت أن أخاطب ربي صليت له، وإذا شئت أن يخاطبني قرأت كتابه".

وفي فصل (نماذج مشوهة) يبحث موضوع الصد عن سبيل الله من خلال آيات سورة هود تقارن بين فريقين: الكافرين الذين يصدون عن سبيل الله، والمؤمنين الذين عملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم "مثل الفريقين كالأعمى والأصم، والبصير والسميع، هل يستويان مثلا؟ . أفلا تذكرون؟ "وإليك بعض هذا الحوار البديع:

الشيخ: وقد رأيت ألوانا من هذا المنع في موقف قريش من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 79

التلميذ: أجل رأيت سياط التعذيب تنصب على ياسر وسمية وبلال وزنيرة وإخوتهم من المؤمنات والمؤمنين.

الشيخ: ولعلك لم تنس بعد تلك الألوان الأخرى من المنع تتجلى في دعاية أبي لهب وأبي جهل والنضر بن الحارث الذي حاول صرف الناس عن كتاب الله إلى أساطير الأمم!

التلميذ: ذلك الغوي الذي روى الله في القرآن قوله الوقح: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّه}

الشيخ: هو نفسه. أتذكر موقف قريش من الأعشى الشاعر يوم قدم مكة راغبا في الإسلام أنزل الله؟

التلميذ: ذلك الذي يقول عن ناقته وهو يمدح رسول الله:

فآليت لا ارثي لها من كلالة

ولا من حفي حتى تزور محمدا

نبي يرى ما لاترون، وذكره

أغار لعمري في البلاد وانجدا..

الشيخ: ذاكرة مسعفة، فهل تذكر كيف صدته قريش عن الإسلام؟

التلميذ: لا أستطيع نسيان تلك الوسيلة الخسيسة، التي عمد إليها بعض المشركين يوم ذاك، إذ اعترضوا طريق الشاعر يحاولون تنفيره من الإسلام، بذكر ما يحرمه من الفجور والشرور.

الشيخ: ردوه عن بغيته أخيرا؟

التلميذ: قالوا له: "ولكن محمدا يحرم الخمر.."فأوجس المسكين خيفة.. وقال: "أما هذه فوالله إن في النفس منها لعلالات، وإني منصرف فأتروى عامي هذا، ثم آتيه فأسلم.."الخ

هذا الحوار الذي يعدد نماذج من الصد عن سبيل الله، كالحيل النفسية أو (الدعاية الفكرية السيكولوجية) التي تعتبر أشد الوسائل الإبليسية أثرا في القلوب الهشة والعقول الغضة، إذ سرعان ما تستهويها ببهرج القول.. إنها نماذج مشوهة، كثيرا ما نصطدم بها في حياتنا اليومية!..ومن الصد عن سبيل الله تحويل المجتمع إلى سجن كبير، يفرض على سجنائه ألا يقرأوا إلا ما يكتبه سجانهم، ولا يأكلوا إلا ما يقدمه لهم، ولا يتحركوا إلا في الاتجاه الذي يحدده لهم!..واستمع معي إلى هذا الحوار الرائع:

ص: 80

التلميذ: والغريب في أمر هذا السجان وزمرته أنهم لا يكتمون ما يريدون!. فهم يعلنون في كل مناسبة أنهم يستهدفون تفكيك بنية المجتمع لإعادة بنائه على طريقتهم.

الشيخ: طريقتهم الإبليسية التي يسمونها (العلمية) مبالغة في التضليل!

التلميذ: يا للحصار الجهنمي!.

الشيخ: وهم لا يكتفون من سجنائهم بالسكوت حتى يكرهوهم على الهتاف بحياتهم، وتمجيد جهودهم في سلخهم عن مقوماتهم، والويل للذين يستنكفون عن الخضوع لهذا التخطيط الرهيب!!

التلميذ: مهما يكن هذا الويل فهو أهون من قبول الهوان والكفر.

الشيخ: يبدوا لي أنك لم تسمع حتى الآن بالمحاكمات المزيفة ولا بالتهم المزورة، والإقرارات المأخوذة تحت وقع السياط ونفخ الأحشاء ولذع الكهرباء!

التلميذ: سمعتها.. ولكني لم استطع تصديقها.

الشيخ: من حقك أن تكذبها يا بني.. لأنك لا تعرف حقيقة أصحابها.

التلميذ: وهل تبلغ القسوة بإنسان إلى هذا الحد؟

الشيخ: هؤلاء يا بني انسلخوا من إنسانيتهم، منذ كفروا بلقاء ربهم، وبذلك كانوا على أتم الاستعداد لكل كبيرة تحقق شهواتهم!

التلميذ: لا أكاد أفهم مرادك.

الشيخ: فتذكر أن إنكار البعث أهم الأسباب في فقدان الشعور بالمسؤولية، لأن الكافر بلقاء الله لا يستطيع أن يتصور أن وراء هذه الدنيا حسابا على أي تصرف!.

التلميذ: الآن فهمت معنى قوله تعالى في وصفة ذلك الفريق: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} !

الشيخ: فضم إلى فهمك الجديد أيضا ملاحظة تكرار الضمير في هذا التعبير، ثم سل نفسك عن مدلوله الخ..

ص: 81

وفي قصة الغرانيق لا يتردد الكاتب في القطع بأنها أكذوبة دسها أعداء الإسلام للإساءة إلى مقام صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام. وكيف ينطق الوحي أو النبي صلى الله عليه وسلم بمدح الأصنام التي ما بعث إلا لهدمها، فيقول في اللات والعرى ومناة الثالثة الأخرى:"تلك الغرانيق العلى، وإن شفا عتهن لترتجى"كما تزعم تلك الرواية المدسوسة أيضا أنه تكلم بذلك في نادي قومه، فرضوا بما تكلم به، فلما أمسى أتاه جبريل فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين قال جبريل عليه السلام:"ما جئتك بهاتين! ". فما زال مغموما حتى نزل عليه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِه..} الخ. وفي الحوار التالي يدلل المؤلف على بطلان هذه الرواية:

التلميذ: إني إنكرها كلها، إنني أجد فيها إساءة إلى مقام صاحب الرسالة.

الشيخ: وما حجتك في ذلك؟

التلميذ: معارضتها للآيات التي تؤكد عصمة الرسول من كيد الشيطان وحسبنا منها قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} .

الشيخ: بخ، بخ!. هذا يا بني إدراك الفطرة الصافية، فأضف إليه ما قرره جهابذة الحديث من قدماء العلماء ومحدثيهم أن القصة باطلة موضوعة..

التلميذ: باطلة موضوعة؟!

الشيخ: بل إن ابن خزيمة صاحب الحديث الصحيح المعروف يقول: "إنها من وضع الزنادقة!. (وبعد أن يشير المؤلف إلى أن بعض متأخري المفسرين ينقلون الروايات عن المتقدمين دون مناقشة أو تحقيق يعود فيقول) :

التلميذ: ثق يا بني أن مثل هذا السؤال قد تردد في أفواه الجميع سواء من صدق القصة ومن كذبها..ولكن الوهم إنما جاء المصدقين من براعة الحبكة في تأليف القصة وطرق روايتها!

التلميذ: زدني إيضاحا من فضلك.

ص: 82

الشيخ: لقد رأى هؤلاء الفضلاء ضعف القصة من حيث المضمون ولمسوا ضعفها من حيث الرواية، ولكنهم وجدوا طرقها متعددة فلم يجرؤوا على ردها!

التلميذ: حقا إنه لموقف حرج!

الشيخ: غير أنه حرج موهم..فهي من حيث المضمون متعددة الصور إلى حد التعارض الصريح، كما رأيت ومن حيث السند ليس في طرقها ما يسمو على مستوى الإرسال والضعف أو الجهالة كما يؤكد المحققون.

ويختتم المؤلف بحثه ببيان معنى الآيات موضحا أن الأمنية كالاملية وزنا ومعنى، وهي ما يمليه القارئ أو المتكلم على سواه. فالله سبحانه يخبرنا أن الشيطان لا يكف عن محاولاته لإفساد رسالات الأنبياء فإذا ما بلغوا وحي ربهم على أتم وجه، جاء الشيطان يزين للناس تحريف المعاني الإلهية بزيادة أونقصان ولكن الله برحمته يهيئ للحق رجالا يجلونه أبدا. . ثم يبين الله سبحانه لنا الحكمة من إتاحة الفرصة لمحاولات الشيطان، إذ يجعل ذلك بمثابة امتحان يقيم به الحجة على دعاة الفساد، ويشد عزائم المؤمنين في الاعتصام بالحق.."

وكذلك يفعل في رد قصة زينب في فصل (لابد من الصراحة) مقررا أن مدخل القصة في تفسير الخازن يحمل بنفسه طابع الافتعال.. فهو يعرض المواجهة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وزينب على الطريقة المعروفة في قصص الحب!.. إنسان عادي يرى إنسانة في مظهر مغر، وفي غيبة زوجها، فيقع في هواها!.. ثم يتعرض الرسول.. صلوات الله وسلامه عليه – في زعم الرواية – إلى صراع نفسي، إذ يحاول كتمان هواه خشية كلام الناس!.. فلا يستطيع إلى ذلك سبيلا.. لأن الله قد قضى بإظهاره!

ص: 83

وبعد أن يشير المؤلف إلى نقد المحققين للخبر، وحكم ابن كثير بعدم صحته، يوضح الحقيقة الناصعة وهي أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه النبي بالحرية، لما تزوج زينب كرهته، فلما استيأس منها ومن إمكان استمرار الحياة الزوجية معها أراد أن يطلقها رغم الحاح النبي عليه "أمسك عليك زوجك.." فلما طلقها فرض لله على رسوله الزواج منها ليهدم بذلك عرفا جاهليا كان يقضي باعتبار المتبني ابنا شرعيا تحرم مطلقته على متبنيه لأنها في نظرهم زوجة ابنه:{لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} .. والذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه هو علمه بما قدر الله له من زواجها، إذ كان ربه قد أوحى إليه بذلك، وهذا ما تؤكده أوثق مصادر السنة..الخ

ويصور المؤلف حكم الطواغيت، الذين يفسدون ضمائر العامة بعد إفساد معاني الكلمات، فيسمون الظلم عدلا، والباطل حقا، والكفر تقدميه، والدعوة إلى الإسلام خيانة ورجعية (راجع: مكر الليل والنهار) ويعرض الإخوة الإسلامية في المجتمع الذي أقامه الإسلام، بعد تقويض الروابط الجاهلية، التي تعتبر القرابة الدموية هي ركيزة المجتمع، منددا بالمنحرفين عن أخوة الإسلام إلى الدعوات العصبية والمذاهب المستوردة التي تفتت القوى وتمزق الأرحام.. جاهلية جديدة يدفعون إليها شعوبهم في الطريق المعاكس تماما لأخوة الإسلام..

(راجع حزب الله)

ص: 84

وللتنديد بالدعوات القومية فصول عدة في الكتاب وعلى الخصوص (وسوف تسألون) و (الشرف الباذخ)، تناول بالبحث قوله تعالى:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ..} وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} فبين أن الله سبحانه أنزل كتابه رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، ولكنه خص العرب هنا بالخطاب تشريفا لهم باصطفائهم لتبليغه إلى العالم.. وهي الوظيفة التي حولتهم من قبائل مفككه متطاحنة مغمورة إلى أمة رائدة معلمة تحتل أبرز صفحة في تاريخ الدنيا.. وفي الآية الثانية بشرى وإنذارا.. أما البشرى ففي كون هذه الرسالة شرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم ولقومه، وأما الإنذار ففي تذكيرهم بمسؤلية الدعوة والحفاظ عليها والتزام سبيلها، وتهديدهم بالحساب على كل تقصير في شأنها..

وينتهي إلى القول: "لقد سقطت فلسطين في أيدي الصليبية من قبل فلم ينقذها سوى الإسلام، ووحد الإسلام العرب، فلم تمزق وحدتهم إلا الدعوات الدخلية التي وفدت من وراء جزيرتهم، وهذا يعني ألا مجد ولا حرية ولا وحدة للعرب إلا بالاستمساك بالإسلام.."ولولا خشية التطويل لنقلت لك الحوار الجميل بتمامه.

وإليك قطعة من (الشرف الباذخ) :

الشيخ: وقد وصفهم الله بالأميين ليذكرنا بقدرته التي كونت من خامات الجاهلية الجهلاء خير أمة أخرجت للناس!..

التلميذ: يا لها من معجزة كبيرة!

الشيخ: بل قل يا له من شرف باذخ، أن يعهد الله بأمانته العظمى إلى هذه القبائل الضالة المتناحرة فيخرجها من الظلمات إلى النور ويبوأها عرش القيادة العالمية!

التلميذ: يا له.. من شرف ياذخ! ..

الشيخ: يا بني.. إنه الشرف الذي تقرأه في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟} .

التلميذ: وأي ذكر للعرب أفخر من أن يقترن اسمهم برسالة الإسلام!

ص: 85

الشيخ والآن نتذكر أن هذا الإسلام دعوة الله، لا يملكها أحد ولا تحتكرها أمة.. أخرج الله بها العرب من قوقعة العصبية إلى رحاب الإنسانية.. فهم أحق بشرفها ماداموا في خدمتها، فإذا تخلوا عنها كان كل آخذ بها أحق بذلك الشرف منهم.

التلميذ: كأني بالشيخ الفاضل يردد قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما نبتغ العزة بغيره أذلنا الله.."

الشيخ: رضي الله عن الفاروق.. إنه حين أرسل كلمته كان ينظر إلى هذه الحقيقة الضخمة بنور الله.. فاسأل ربك من هذا النور يا بني..

التلميذ: اللهم إني أسألك لي ولشيخي من هذا النور ما يعيننا على فهم وحيك..

الشيخ: اللهم آمين.. وفي ظل هذا النور ستدرك يا بني معنى {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

التلميذ: كنت على وشك أن أسألك عن هؤلاء الآخرين..

الشيخ: إنهم يا بني جميع الأفراد والأقوام الذين كتب الله لهم الهداية إلى هذا النور.. منذ الصدر الأول حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

التلميذ: وهكذا يجمع الله العرب والعجم على أخوة الإسلام، فلا يبقى لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى.. الموضوعات التي عالجها المؤلف ببراعته وفنه، فأنا أكتفي بما اقتبسته تاركا للقارئ الكريم أن يظفر بمتعته الكاملة حين يخلو إلى (دروس من الوحي) وسيشاركني الرأي بأن المؤلف كثيرا ما يخدع القارئ عن نفسه، ببراعته وحواره البديع، الذي يمسك بأنفاسه، ويغريه بمتابعة القراءة، ظنا منه أنه يقرأ قصة تمثيلية مسلية.. ولكنه لا يلبث أن يدرك أنه وقع في شبكة عالم متبحر، ومفكر عميق التفكير، وداعية إلى الله على بصيرة، وإذا هو يفيد علما، وترشف روحه من منابع الوحي في الكتاب والسنة، وما أكثر ما يجد القارئ نفسه مع المؤلف أمام بحوث علمية عميقة، ولكنها مبسطة، فينال من المتعة الفكرية والروحية أو فى نصيب.

ص: 86

ولغة الكتاب من السهل الممتنع تمتاز ببلاغتها وإشراق عبارتها ووضوح فكرتها، ومن هنا كان لنا أن نقول من غير تردد: أن الكتاب يرتفع بالشادين ويلبي رغبة الخاصة من طلاب العلم المتطلعين إلى الثقافة الإسلامية الأصيلة، وهو مرجع هام ونمط رفيع من الأدب الإسلامي الحديث..

ص: 87

ذكرياتي في أفريقيا

للشيخ محمد العبودي الأمين العام للجامعة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على أشرف خلقه وخاتم أنبيائه ورسله، وعلى آله وصحبه ومن أتبع هداه إلى يوم الدين. وبعد:

لقد طلب مني أن يكون عنوان حديثي إليكم عن مشاهداتي في أفريقيا. إنني أقول حديثي ولا أقول محاضرتي، لأنني سوف أتحدث هنا عن مشاهداتي حديثا مرسلا، لا يصل إلى درجة المحاضرة التي تتطلب البحث العميق والتفصيل الكامل في موضوع من المواضيع.

ومع ذلك أيها الإخوان، فإن الحديث عن أفريقيا مجاله رحب، وفي الحديث عن الإسلام في أفريقيا وأحوال المسلمين هناك ما يحرك العواطف، ويثير الشجون، وإن أحوال المسلمين في أفريقيا لتتطلب لا الأحاديث الكثيرة فقط، وإنما تستدعي من كل مسلم التفكير في خطط العمل الجاد، والمساهمة بقدر ما يستطيع.

أيها الإخوة في الإسلام، إن أفريقيا قارة واسعة شاسعة، ولا يمكن إصدار حكم واحد على مجموعها أو وصفها بصفة تنطبق على كافة أجزائها. فالأحوال في أقطارها متباينة والظروف التي تحيط بأجزائها مختلفة، والمتحدث إليكم لم يشاهد أقطار أفريقيا كلها، ومن الطبيعي أنه لن يتحدث إلا عما شاهدها منها.

ولذلك لا بد من أن نحدد المقصود من أفريقيا حين ترد في حديثنا. فنقول: إننا نريد بها ما وراء الصحراء الكبرى جنوبا. إننا نقصد بإفريقيا إفريقيا الفتية التي تحررت أو تحرر أكثرها من الاستعمار، وأخذت تتطلع إلى المستقبل بعين الأمل والرجاء وهي تريد أن تعوض ما فاتها خلال نومها الطويل تحت ليل الاستعمار، ثم تريد أن تساهم بعد ذلك في البناء الحضاري الإنساني. وهي الآن وقد أخذ يتضح لها زيف المبادئ التي كان قد لقنها المستعمرون لأبنائها تبحث عن مبادئ وقيم جديدة، ولن تجد تلك المبادئ الإنسانية النبيلة التي تتفق مع الفطرة وتصلح لكل زمان ومكان إلا في الإسلام.

ص: 88

لقد أتيح لي – أيها الأحبة في الله – أن ازور أفريقيا مرتين، إحداهما في عام 1384هـ والثانية في عام 1386هـ الموافق للعام الميلادي 1967 م. وقد زرت خلال الرحلتين المذكورتين الأقطار التالية: ارتيريا، الحبشة، الصومال، كينيا، يوغندا، تنجانيقا، بورندي، الكنغو، زامبيا، روديسيا، ملاوي. ولن يتسع الوقت بطبيعة الحال للحديث عن كل تلك الأقطار، فالحديث عنها وخاصة عن الإسلام والمسلمين فيها، حديث ذو شجون – كما قدمت – ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، وفي نطاق الوقت المحدد لهذا الحديث لابد من الإيجاز والاختصار، وإيراد الألفاظ العامة، والأحكام غير المفصلة إلا بالقدر اللازم لفهم الموضوع وفيما لا يتعدى الحقيقة.

أيها الإخوان في الله:

في مطلع هذا الحديث أحب أن أزف إليكم بشارة تحققت منها عن يقين وبعد تدقيق وإمعان وهي: أن الإسلام في أفريقيا بخير، وأن الإسلام في أفريقيا الآن ليس في مكان الدفاع كما يدعى أعداؤه والمتخاذلون من أبنائه، ولكنه الآن في معظم أقطار أفريقيا كنور الشمس الساطع الذي لا يقف أمامه ظلام.

إن الإسلام الآن في أفريقيا ينتشر انتشار النور الساطع الذي يلج – مع كل دقيقة من ارتفاع الشمس – زاوية جديدة، ولكن لا بد أنكم تتساءلون كيف وأين؟ وبأية وسلية كان ويكون انتشاره؟ وأجيبكم بإيجاز فأقول:

لقد وفق الله سبحانه وتعالى لنشر دينه، أبطالا مجهولين للناس، وأنصارا لا يعرف بعضهم بعضا في البلاد الأفريقية المختلفة.

ص: 89

إنهم جماعة بل جماعات من إخواننا الأفريقيين نذروا أنفسهم لله ووقفوا جهودهم وجهادهم بالنفس والمال في سبيل الله، لم يجدوا العون إلا من الله وكفى به وكيلا، وقد التمسوا العون من بعض إخوانهم المسلمين في خارج أفريقيا فما وجدوا لالتماسهم صدى وذهبت أصواتهم صيحة في واد، ونفخه في رماد، وذلك في الوقت الذي تتدفق فيه المساعدات المادية والمعنوية والمعونات المتعددة على المسيحيين وأعداء الإسلام من شيوعيين وملحدين من خارج القارة تدفقا، مما يثبط عزائم أولي العزم من الرجال، ولكن:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .

أيها الإخوان الأعزاء:

سوف أعرض على مسامعكم بعض النماذج، وأضرب لكم بعض الأمثلة، وبإمكانكم أن تقيسوا عليها غيرها.

أولها: شخص حي يرزق اسمه الحاج موسى كسولى. من يوغندا. هذا الرجل ولد مسيحيا ولبث كذلك حتى بلغ الثلاثين من عمره، وقد حدثنا عن نفسه فقال:

"أول ما فتح الله بصيرتي للإسلام أنني لا حظت أن المسلمين عندما يريدون تأدية الصلاة والعبادة، يقومون بتنظيف أعضائهم، وغسلها من الأدران، ثم يذهبون فيضع كل منهم أشرف عضو في جسده وهو جهة على الأرض، خضوعا وخشوعا لله؛ وقارنت بين ما يفعلونه وبين عبادة النصارى التي لا تشترط الطهارة، والتي ليس فيها سجود، فكان ذلك أول ما استرعى انتباهي، وكان أول ما فتح الله به علي وهداني بسببه إلى الإسلام".

ص: 90

لقد اسلم ذلك الرجل الحاج موسى كسولى وحسن إسلامه، وكان ثريا فأنفق جزءا كبيرا من ثروته على الشؤون الإسلامية، ويكفي أن تعلموا أنه بنى وحده عدة مساجد كبيرة بالأسمنت المسلح، وليس ذلك فحسب بل أن كل مسجد يبنيه له عمارة مكونة من دكاكين وشقق للإيجار، ويوقفها عليه لكي يكون للمسجد موارد ثابتة. وكان من آخر ما فعله في هذا الصدد أن اشترى قطعة أرض في مكان يبعد (5) أميال من العاصمة (كمبالا) ، وتبلغ مساحة الأرض المذكورة خمسة افدنة فبنى مسجدا جامعا هناك، ومدرسة إعدادية لتعليم العلوم الإسلامية، وجعل فيها قسما داخليا بحيث يقيم الطلبة فيها وينامون ويأكلون ويشربون، وقد أوقف جميع الأرض على المدرسة والمسجد، ويسعى الآن مع جماعة من إخوانه المسلمين لإعادة بناء المدرسة وتوسعتها.

ومن أواخر المبرات التي قام بها الحاج موسى كسولى أنه فكر في أمر نساء المسلمين في يوغندا، والجهل المطبق بشؤون الدين الذي يرين على عقولهن، فقام على مشروع يرمي إلى تعميم التعليم الإسلامي للنساء وفتح عدة مدارس وكتاتيب بلغ عددها حتى الآن أكثر من مائتي مدرسة، وبلغت ميزانيتها السنوية مائة وعشرين ألف شلن.

ذلك بعض ما قام به هذا الرجل لله وفي الله، نسأل الله سبحانه أن يثيبه على عمله الصالح ويكثر في المسلمين أمثاله إنه سميع قريب. ويقول الحاج موسى كسولى:"إن أمنيته التي يرجو أن تتحقق هي أن يدفن في المدينة المنورة، وقال إنه رصد في البنك مبلغا من المال يكفي لنقله مع مرافقي جنازته إلى المدينة". وهذا أيها الإخوان كان رجلا مسيحيا، ولكنه الإيمان الذي إذا خالطت بشاشته القلوب فعل العجائب، إنه فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

أما المثل الثاني فهو شخص آخر من يوغندا أيضا ولكن من مكان آخر فيها.

ص: 91

إنه الشيخ شعيب اسحق. كان الشيخ شعيب اسحق يملك قطعة من الأرض مقدارها ثمانية وعشرون فدانا، وهي كل ما يملكه وتعتبر من أجود الأراضي في يوغندا، وتقع في كوتومو على بعد (47) ميلا من العاصمة كمبالا، وتنتج الموز الذي منه يأكلون، أو ما يسمونه الماتوكو، والماتوكو نوع من الموز يقطف أخضر ثم يطبخ ويؤكل بالمرق، وهذا الغذاء الرئيسي لسكان مناطق وسط أفريقيا، وهو لهم بمثابة الخبز لسكان الشرق الأوسط، وبمثابة الأرز لسكان الشرق الأقصى، وإلى جانب الموز تنتج الأرض المذكورة محصولا وفيرا من البن.

لقد قام الشيخ شعيب وهو حي يرزق الآن وعمره يقارب التسعين عاما أمد الله في عمره في العمل الصالح فأوقف أرضه تلك لله وبنى فيها ثلاث بنايات إحداها مسجدا جامع، والثانية مدرسة إسلامية، والثالثة أماكن للنوم؛ وقد سمى المدرسة المذكورة مدرسة الدين والتهذيب الإسلامي. ووفر لكل طالب يتعلم فيها أن يعيش في تلك المساكن ثم اشترط عليه بعد تخرجه أن يؤسس مع إخوانه في مناطق مختلفة من البلاد، وخاصة في المناطق التي يكثر فيها المسيحيون والوثنيون، مدارس إسلامية، أو بتعبير أدق فروعا لمدرسته تحمل كل منها اسم (مدرسة الدين والتهذيب الإسلامية) وقد بلغ عددها حتى الآن سبع عشرة مدرسة، وأذكر أننا عند زيارتنا للمدرسة الأم في كوتومو حضرت صلاة الظهر فصلينا معا في المسجد، وكان المطر يهطل مدرارا، فتريثنا في المسجد حتى يخف نزول المطر وقد قدم الشيخ شعيب في المسجد شرابا من عصير الفاكهة للحاضرين، فكان أن بدأ بأحد التلاميذ وكان يجلس في وسط الصف وليس بأول الصف، ولما سألتهم عن السبب أجابوا بقولهم:"أن هذا الأخ دخل في الإسلام حديثا وجاء ليتعلم في المدرسة وقد ترك أهله وذويه، فله علينا حق التقديم والتكريم". وحدثنا بعض الشخصيات أن الذين دخلوا في الإسلام على يد الشيخ شعيب المذكور وتلامذته أكثر من مائتي ألف شخص.

ص: 92

المثال الثالث، من كينيا: وهو في شخص الأخ (محمد داود) ومحمد داود قد نشأ وترقى في الوظائف الدينية حتى بلغ رتبة (قسيس) فيما قيل لنا، وكان يتمتع بامتيازات مالية ومعنوية، وله سلطة على عدد من الناس، فأنار الله بصيرته للإسلام فترك جميع ما كان عليه، وهجر مسقط رأسه ومركز عمله، في المدينة كيسو على ضفة بحيرة (فكتوريا ينانزا) وأخذ يتجول في البلاد يدعو إخوانه ومواطنيه من الأفريقيين إلى الإسلام، وقد عرفنا من فضيلة الشيخ محمد قاسم المزروعي رئيس القضاة في كينيا أنه قد دخل عدد من الأفريقيين إلى الإسلام بواسطته، وقد قابلناه في إحدى جولاته في ناحية بعيدة من كينيا، فرأينا فيه رجلا أشرب قلبه حب الإسلام حتى ظهر ذلك على وجهه بشرا وإشراقا وطمأنينة.

إخواني:

ص: 93

تلكم نماذج فقط، وهي جوانب مشرقة من الصورة، إلا أن هناك في الواقع الإسلامي في أفريقيا جوانب تدعو للأسف إنها نماذج وصور تمثل الوجه الثاني للصورة، تمثل تعطش المسلمين إلى من يرشدونهم ويعلمونهم، وتمثل جهل المسلمين خارج القارة بإخوانهم، إنها نماذج محزنة أذكر لكم بعضها ولا أطيل لأنني لا أريد أن أبعث الألم في نفوسكم، والحسرة في قلوبكم، إليكم مثالا شاهدته في زامبيا أنقل لكم حرفيا من مذكراتي اليومية ما يتعلق به، وهذا نصها: يوم الأحد 19- 6-84 هـ الموافق 25-10-1964م ذهبنا بالسيارة من مدينة اندولا في روديسيا الشمالية (زامبيا الآن) إلى حي أفريقي يبعد ثلاثة أميال عن المدينة المذكورة إلى الشرق منها، وذلك لزيارة الجمعية السلامية الأفريقية في اندولا، وللصلاة في المسجد الجامع الوحيد في تلك المنطقة، وقد قابلنا رئيس الجمعية وأمين سرها كما شاهدنا المسجد فوجدناه نظيفا واسعا يتسع لحوالي (ثلاثمائة مصلي) ، كما أن فيه ركنا مخصصا للنساء، ولكن المسجد بحاجة إلى فرش إذ لم يفرش منه إلا قسم قليل جدا، فرش ببطانيات من الصوف صنعتها النساء المسلمات بأيديهن، أما باقي أرضية المسجد فهي بلاط أقرع، كما أنه لا توجد للمسجد منارة ولا دورة مياه للوضوء، ومن المشاريع التي تدور في أذهان أعضاء الجمعية المذكورة ويعتبرونها حلما يسألون الله تعالى تحقيقه أن يتمكنوا من بناء غرفة للإمام وغرفة للمؤذن بجانب المسجد، أما بناء المسجد نفسه فقد تم بطريقة مؤثرة لقد تقدم نفر من المسلمين الأفريقيين، وهم فقراء كلهم من العمال، تقدموا إلى السلطات الإنجليزية بطلب الترخيص بتكوين جمعية تقوم بجمع مبالغ من المال لبناء المسجد، ثم أخذوا طيلة سبع سنوات يجمعون ما تيسر لهم بالشلن الواحد ونصف الشلن وربعه، يطوفون البلاد من أولئك العمال الفقراء على فقرهم حتى جمعوا مبلغ ستة آلاف جنيه أستراليني، وقد اشتروا بها المواد اللازمة من الحديد والأسمنت والآجر

ص: 94

والحديد اللازم للسقف، أي اشتروا ما يحتاجونه إليه من مواد البناء ولكن لم يبق معهم شيء لأجور العمال.

ومع ذلك لم ييأسوا، فذهبوا إلى مهندس إنجليزي وطلبوا منه الأشراف على العمل، وعندما بدأ التنفيذ شاهد ذلك المهندس الإنجليزي منظرا مؤثرا، لقد شاهد كل من وجد فسحة من وقته منهم، يحضر من كافة الأعمار من الرجال والنساء وحتى الأطفال عندما يفرغون من المدارس والشيوخ والعجائز كل منهم يأتي للمسجد ويساهم في بنائه، ذلك يحمل لبنة وآخر ينقل التراب، وآخرون يساعدون على خلط الأسمنت حتى بعض العمال الذين يعملون الذين كانوا يخرجون محطمين من مناجم النحاس تحت الأرض التي يعملون فيها، والذين يشاهدون عند خروجهم من جوف الأرض كأنما خرجوا من القبور، كل من يستطيع العمل منهم يساهم بقدر ما أبقى جوف الأرض في جسمه من قوة في المسجد.

قالوا لقد غلب التأثر ذلك المهندس الإنجليزي عندما رأي إخلاصهم وصدقهم في بناء المسجد وتنازل لهم عن أجرته في الإشراف على البناء.

وهذا مثل آخر وسوف أنقل لكم هنا فقرة من مذكراتي اليومية أيضا في روديسية:

ص: 95

يوم الثلاثاء الموافق 30 شعبان عام 1386 هـ هنالك في روديسيا يسكن الأفريقيون في أماكن منفصلة ضمن مساحات معينة، تلكم كانت الساسية المتبعة للحكومة الروديسية وقد بنت الحكومة مدينة صغيرة في ضاحية من ضواحي سالسبوري العاصمة وخصصتها للأفريقيين من عمال الشركات والموظفين من القادرين على دفع الأقساط الشهرية المستحقة، وتسمى: هراري. وهي تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة سالسبوري، وتتكون من بيوت جميلة بعضها على شكل دارات (أي فيلات) ، وبعضها على شكل بيوت صغيرة، يتكون كل منها مما يبدوا غرفة كبيرة من الخارج يقسم إلى عدة غرف من الداخل، ويحيط بكل بيت مساحة من الأرض المزروعة، ولولا أن الأرض هناك كلها خضراء لا سميتها حديقة، ويخترق المدينة أو الضاحية المذكورة شوارع واسعة مبلطة وقد عمها النور الكهربائي وأكملت لها المرافق العامة، حتى الملاعب الرياضية منتشرة فيها مما يجعلها تضاهي في المظهر الضواحي الجميلة في مدن الشرق الأوسط إن لم تفقها.

إلا أن ما يضايق الأفريقيين وهو ما يضايق حقا أنهم مجبرون على السكنى منعزلين عن غيرهم من الأوربيين والآسيويين، وحتى الأوربيين والآسيويون، كانوا في السابق ممنوعين حسب أوامر الشرطة من الذهاب إلى مناطق سكن الأفريقيين والاختلاط بهم، ولكن ذلك قد خفت وطأته الآن بسبب المشكلة السياسية التي تتخبط فيها الحكومة الروديسية الحاضرة نتيجة لإعلانها الاستقلال من جانب واحد.

فالإفريقيون في مساكنهم الجميلة تلك كأنما يعيشون في سجن كبي، ًإن ما يهمنا في هذا الموضوع ما يأتي:

ص: 96

يوجد مسجد في تلك الضاحية التي يسكنها الإفريقيون دخلناه فإذا به نظيف جميل البناء، متوسط السعة، يحيط به فناء صغير ألحقت به مدرسة من غرفة واحدة كبيرة، وقد زودت بالمقاعد الدراسية وبالسبورات، وبجانبها غرفتان لسكنى المدرس، والمسجد مع ملحقاته مبني بالآجر، ومفروش بفرش بسطية، ويتسع لحوالي (250) مصليا. والواقع أن بناءه في ذلك المكان وسط حي أغلبية سكانه من الأفريقيين غير المسلمين، مناسب كل المناسبة، وربما يمكن تحويله في المستقبل إلى مركز من مراكز الدعوة الإسلامية في ذلك الحي. وقد تم بناؤه بطريقة جمع التبرعات حيث قام بعض المسلمين الغيورين بجمع المبالغ اللازمة له شيئا فشيئا، وساهمت الجمعية الإسلامية الآسيوية بنصيب كبير من نفقاته.

إلى هنا وكل شيء جميل وسار، ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ لقد عرفنا أن المدرسة الملحقة به ظلت معطلة بسبب عدم وجود مدرس يحسن العربية أو يحسن حتى تدريس المبادئ الإسلامية، والأدهى من ذلك أن الصلاة في ذلك المسجد في كثير من الأوقات كانت تعطل لأنه لا يوجد في ذلك الحي كله إمام يحسن أن يؤم الناس أو يقرأ بعض السور القصار ولو كان لا يفهم معناها، إنه لشيء محزن ولكنه الواقع، وهذا المسجد مثال من أمثلة كثيرة على انعدام الذين يحسنون حتى مبادئ التعليم الإسلامي هناك.

أيها الإخوان إن الأمثلة كثيرة والوقت محدود، ولذلك سوف أعرض على أسماعكم جملا موجزة لإخواننا المسلمين في البلاد التي زرناها.

أولا: ارتيريا والحبشة

يكون المسلمين الأغلبية في تلك البلاد، ولكن ليس في أيديهم من الأمر شيء، ويواجهون ضغطا متزايدا من المبشرين المسيحين، ويشجعهم على ذلك المستشارون الاسرائليون في الحكومة الحبشية، بغية زعرعة الثقة في نفوسهم، وإضعاف روح الإسلام لدى ناشئتهم، وأعظم ميدان نجح فيه أعداء الإسلام ميدان الملاجئ والدور التي تتولى تنشئة أطفال المسلمين من الأيتام ومن لا عائل لهم حتى يشبوا على غير دين الإسلام.

ص: 97

ثانيا: كينيا

يقطن الساحل الكيني أغلبية إسلامية من العرب والسواحليين والصوماليين، ويسود الحركة الإسلامية هناك بعض الركود إلا في المظاهر، حيث يوجد في ذلك الشريط الضيق من الأراضي عدد من الجمعيات الإسلامية التي هي أسماء بلا مسميات، ويدور بين البعض ما تكون منها جدال وخصومات، هي ابعد ما تكون عما ينبغي أن تكون عليه علاقات المسلمين بعضهم ببعض. أما في باقي أنحاء كينيا فإن الإسلام يتقدم وينتشر، وفي كل يوم يزيد عدد الداخلين في الإسلام ويزيد عدد المساجد والكتاتيب الإسلامية، ويذكر هنا أن حكومة الرئيس كينياتا قد أعطت المسلمين الحرية كل الحرية في الدعوة إلى دينهم وسهلت الطرق لإشادة المؤسسات الإسلامية.

ثالثا: أوغندا

في أوغندا يدخل يوميا إلى حظيرة الدين الإسلامي أكبر عدد من الناس، وبالنسبة إلى الأقطار الأفريقية الأخرى، حتى إننا نرى قرية تسمى كاباساندا عرفنا أنها منذ حوالي عشر سنوات لا يوجد فيها مسلمون، والآن دخلت الأغلبية من سكانها إلى الإسلام، وشيدت فيها مدرسة إسلامية وقام أهلها على بناء مسجد جامع كان لي شرف المساهمة بافتتاحه هناك.

ولولا الخلافات التي تمزق صفوف المسلمين هناك، وهي في الأصل خلافات سياسية، ولا يتسع المجال لذكرها، لولا ذلك لقلنا إن وضع المسلمين في أوغندا هو أفضل وضع للمسلمين في البلاد التي يكونون فيها أقلية سكانية.

رابعا: تنزانيا

توجد في بعض البلاد الإسلامية مثل زنجبار ومنطقة دار السلام، ومنطقة تانجا أغلبيات إسلامية، ولكن يسيطر الآن على الوضع في زنجبار حركات ساسية يسارية هي في طبيعتها ضد الإسلام، كما تسود في تنجانيقا فورة من القومية الضيقة إضافة على الاتجاه اليساري هناك، كل ذلك من العوامل غير المشجعة للجهود الجماعية الإسلامية، ومع ذلك فإن هناك في تنجانيقا خاصة جهودا فردية طيبة في نشر الإسلام.

خامسا: بروندي

ص: 98

تقف حكومة بورندي من الأقلية الإسلامية في بلادها موقفا وديا، وحالة المسلمين المادية بالنسبة لغيرهم طيبة، ويعيش المسلمين في العاصمة بزومبورا في حي خاص بهم هو حي:(مويانزى) ، ويتكلمون اللغة السواحلية خلاف بقية السكان من غير المسلمين الذين يتكلمون البورندية، ويتقدم الإسلام من حيث الكمية هناك، وقد تحققنا أنه خلال عيد الفطر المبارك الماضي أسلم من المسيحيين من أهل البلاد أكثر من مائة وعشرة من الناس.

سادسا: الكونغو

يعتبر الكنغوا في الوقت الحاضر من أحسن الميادين لنشر الدعوة الإسلامية، وهناك مناطق من البلاد دخلها الإسلام قديما على أيدي الإفريقيين السواحليين الذين قدموا إليها من ساحل تنجانيقا منذ أكثر من مائة سنة، وذلك في إقليمي (كيفو) والإقليم الشرقي (اوريينتال) كما أن هناك إقليما نائيا بالنسبة للمسلمين هو أقليم (كاساى) دخله الإسلام لأول مرة منذ ست سنوات، وقد علمنا أن الحركة الإسلامية هناك في تقديم ظاهر ولله الحمد، إلا أن العائق عن تقدم الإسلام في الكنغو بصورة أعظم هو ضعف مستوى المسلمين فيه، وقلة المبشرين، وصعوبة الانتقال بين أجزاء البلاد لتساعها وعدم استقرار الأمن الكامل فيها.

سابعا: زامبيا ((روديسيا الشمالية سابقا))

توجد أقلية إسلامية من الإفريقين يعيشون حول (اندولا) وفي أماكن أخرى متفرقة من البلاد ولكن حالتهم المادية ومستوى معيشتهم ضعيف، والحركة الإسلامية هناك غير نشطة مع الأسف.

ثامنا: رديسيا

توجد أقلية إسلامية ولكن الجهل المطبق بأمور الإسلام يشمل جميع المسلمين الإفريقيين هناك، والحركة الإسلامية ضعيفة مع الأسف، مع أن الحكومة لاتتدخل في شؤون الدين ولا تعارض الداعين إليه.

ومعظم المسلمين هناك قد قدموا في الاصل من اقطار مجاورة مثل نياسالاند.

تاسعا: ملاوي

ص: 99

يوجد في ملاوي أكبر عدد من المسلمين في اقطار شرق إفريقيا ووسطها فيما وراء الصحراء إذ تبلغ نسبة المسلمين 42% ولا يرجع دخول كل هذا العدد من السكان في الإسلام إلى الأزمنة الحديثة، بل يعود ذلك إلى زمن قديم حيث دخل الإسلام إلى إقليم سفالة، (أي شمالي موزامبيق) قبل ألف سنة ولكن حالة المسلمين في تلك البلاد من الضعف والانحطاط بحيث يحتاج علاجها إلى جهود كثيرة وإلى وقت طويل. أيها الإخوان الكرام، لقد تفضلتم فاستمعتم إلى شيء من واقع الإسلام والمسلمين في أفريقيا، وإنني أرجو أن تتفضلوا بسماع بعض المقترحات التي أراها لعلاج الحالة المذكورة.

أولا – إنشاء صندوق إسلامي عالمي لتمويل الدعوة الإسلامية في أفريقيا يساهم فيه المسلمون على مستوى الحكومات والجمعيات والأفراد، خاصة وأن هناك من علماء المسلمين من يرون أن الإنفاق على الدعوة الإسلامية من الإنفاق في سبيل الله الذي هو وجه من أوجه مصارف الزكاة.

ونحن لا نشك مطلقا في أن الوقت الحاضر هو أنسب الأوقات للقيام بحملة إسلامية واسعة للدعوة والإرشاد، ونشر محاسن الإسلام أمام الإفريقيين من غير المسلمين، ذلك لأن الدين المسيحي الذي هو المنافس الرئيسي، قد ارتبط في أذهان كثير من أبناء أفريقيا بالاستعمار الأوربي، لأنه جاء إلى أفريقيا مع الرجل الأوربي، ونظرا إلى ضعف سلطان الاستعمار الأوربي، وبالتالي ضعف المنافس، فإن الفرصة سانحة الآن لنجاح الدعوة الإسلامية أكثر من ذي قبل. وذلك كله إضافة إلى ما هو معروف ومعلوم من أن الإسلام دين الفطرة، وهو ببساطته ووضوحه ويسره الدين الوحيد الملائم لكل زمان ومكان.

ص: 100

ثانيا – الإكثار من المنح الدراسية في الجامعات والكليات والمدراس الإسلامية في البلاد الإسلامية، خارج أفريقيا، وذك حتى تتاح الفرصة لأكبر عدد ممكن من أبناء المسلمين في أفريقيا للتزود من العلوم الإسلامية فيها ثم العودة إلى بلادهم مبشرين ومنذرين، وهادين ومهتدين عملا بقوله تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .

ثالثا – المساعدة على إنشاء ملاجئ ودور للأيتام في البلاد الأفريقية التي يقطنها مسلمون. وذلك وقاية لأبناء المسلمين من أن يقعوا في أحضان التربية الكفرية التي تربيهم على الكفر، وتبعدهم حتى عن اسم الإسلام، خاصة وأنه لوحظ أن تلك الطريقة منتشرة انتشارا واسعا، لأنها تكاد تكون الطريقة الوحيدة العملية لإخراج بعض المسلمين من دائرة الإسلام، بعد أن لوحظ أنه ما من مسلم يدخل الإسلام في قلبه ثم ينبذ الإسلام وينضم علنا إلى صفوف المشركين.

رابعا- أن يختار من المدرسين من مختلف البلاد الإسلامية من ذوي الاستعداد للتضحية والعمل في سبيل الله ويرسلوا إلى الأقطار الإفريقية المحتاجة، مع مراعاة الظروف والملابسات السياسية المحيطة بكل بلد إفريقي، وذلك بلا شك علاج سريع.

ص: 101

خامسا – العمل على كثرة طبع الكتب الإسلامية مترجمة إلى اللغات الإقليمية، واللغات العالمية السائدة في أفريقيا مثل الإنجليزية والفرنسية والسواحلية وغيرها وتوزيعها، حيث لا حظنا قلة الكتب الإسلامية بل ندرتها في بعض الأقطار. هذه بعض المقترحات، وهي ليست بصعبة إذا ما صحت العزائم، وخلصت النيات، خاصة وأن الإسلام دين الدعوة والجهاد، ودين العمل والحركة، بل إن كل مسلم سبيله في الحياة أن يدعوا إلى الله على بصيرة كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة..} . وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً..} .

أيها الإخوان: إنه لا بد لي هنا من باب إحقاق الحق، ووضع الأمور في نصابها، من أن اشيد بما قامت به هذه البلاد المقدسة وعلى رأسها حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز حفظه الله، حيث استجاب لكل الاقتراحات التي رفعتها إليه رئاسة الجامعة الإسلامية حول تخصيص المنح والمقاعد الدراسية لأبناء المسلمين في أفريقيا حتى لقد بلغ عدد الأقطار الأفريقية التي يدرس أبناؤها في الجامعة الإسلامية وحدها أكثر من عشرين قطرا، وقد كان لي شرف المساهمة في تنفيذ بعض ما أمر به جلالته من توزيع الإعانات المالية والمساعدات النقدية وغيرها على مختلف الجمعيات والهيئات والمدراس الإسلامية في أفريقيا.

ص: 102

ثم إن جلالته قد أولى ما عرضه مفتى البلاد السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله من إرسال المدرسين والمرشدين إلى مختلف أنحاء أفريقيا غاية الاهتمام، فأصدر موافقته السامية على كل ذلك، وقد قامت دار الإفتاء بإرسال العديد من المدرسين من خريجي الجامعة الإسلامية وغيرهم إلى عدد من الأقطار الإفريقية في شرقي ووسط أفريقيا، وهم الآن يواصلون عملهم بجد ونشاط. كما أننا لا يمكن أن ننسى جهود رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة التي تعمل في هذا الميدان على مختلف المستويات، ولكن العبء ثقيل والميدان واسع، وناهيك بالتخطيط للعمل في قارة من القارات إذا فلا بد من تضافر الجهود، وتكاتف الهمم، نسأل الله تعالى أن ينصر دينه ويعلى كلمته، وأن يوفق المسلمين إلى الرجوع إلى دينهم، والعمل بكتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم إنه سميع قريب.

حينما وصل الشاعر محمد إقبال إلى صقلية عائدا من أوروبا قال:

"أبك أيها الرجل دما لا دمعا فهنا مدفن الحضارة الحجازية".

ص: 103

شكوى

للشاعر محمد إقبال

كنا جبالا في الجبال وربما

سرنا على موج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا

قبل الكتائب يفتح الأمصار

لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها

سجداتنا والأرض تقذف نارا

وكأن ظل السيف ظل حديقة

خضراء تنبت حولنا الأزهار

لم تخش طاغوتا يمار بنا ولو

نصب المنايا حولنا أسوارا

ورؤوسنا يارب فوق أكفنا

نرجو ثوابك مغنما وجوارا

كنا نرى الأصنام من ذهب

فنهدمها ونهدم فوقها الكفار

لو كان غير المسلمين لحازها

كنزا وصاغ الحلي والدينارا

ومن الألى ِِِِحملوا بعزم أكفهم

باب المدينة يوم غزوة خيبرا

أم من رمى نار المجوس فأطفئت

وأبان وجه الحق أبلج نيرا

ومن الذي بذل الحياة رخيصة

ورأى رضاك أعز شئ فاشترى

نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم

والحرب تسقي الأرض جاما أحمرا

جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا

في مسمع الروح الأمين فكبرا

ما بال أغصان الصنوبر قد نأت

عنها قماريها بكل مكان

وتعرت الأشجار من حلل الربى

وطيورها فرت إلى الوديان

يارب إلا بلبلا لم ينتظر

وحي الربيع ولا صبا نيسان

ألحانه بحر جرى متلاطما

فكأنه الحاكي عن الطوفان

يا ليت قومي يسمعون شكاية

هي في ضميري صرخة الوجدان

اسمعهموا يارب ما ألهمتني

وأعد إليهم يقظة الإيمان

أنا أعجمي الدن لكن خمرتي

صنع الحجاز وكرمها الفينان

إن كان لي نغم الهنود ولحنهم

لكن هذا الصوت من عدنان

ص: 104

صفحة من التاريخ

للشيخ أبي عمر المدرس في الجامعة

فرانسوا الأول أحد مشاهير ملوك فرانسة في القرن السادس عشر، يشتبك في حروب طاحنة مع الإمبراطور الكبير شارلكان (1) ملك أسبانيا وأمير ألمانيا، وسيد البلاد الواطئة، وتدور دائرة هذه الحروب على العاهل الفرنسي، وتلتف حول عنقه الأغلال، ويقاد إلى أسبانيا أسيرا صاغرا في أعقاب معركة (بافيا) سنة 1525.

ويضطر الملك الأسير، وهو في قبضة عدوه، إلى أن يوقع معاهدة تمثل إرادة الجانب الظافر يستبد بالجانب المقهور، ثم يطلق سراحه على أثرها، ويعود إلى عاصمته باريز.... وهناك في باريز، وبعد أن يعقد العزم على نقض المعاهدة، والتحلل من كل ما جاء فيها، يتلفت حوله، ويسرح طرفه في المجتمع الدولي، عل الحظ يسعده بحاكم قوي، أو ملك ذي طول، يستنقذه مما حاق به من الكوارث

وأخيرا، وبعد لأي، لا يجد أمامه إلا سيد القسطنطينية، عاصمة الإسلام خلال خمسة قرون، السلطان سليمان الأول

ولكن أنى له أن يستعين بسلطانا مسلما على خصمه شارلكان النصراني الزميت، على أنه هو نفسه (فرا نسو الأول) لا يقل عن شار لكان تزمتا في النصرانية بل لعله يربي عليه، ألم يعتبره البابا دون سائر ملوك أوربة النصراني الأول، والحصن المنيع ضد التوسع الإسلامي الذي أخذ يهدد أوربة من جهة الشرق تحت راية العثمانيين الأوائل؟ أيخيب ثقة حبر روما به؟ أيطرح جانبا تدينه وما يمليه عليه هذا التدين من واجبات؟ أولها ألا يستنصر أعداء دينه على إخوانه فيه.

وهنا تظهر طبيعة الإنسان الغربي التي تحمله في النهاية ودائما على الانقياد (للمنفعة) والتخلي عما سواها، لأنها ليست بالطبيعة الخيرة الصامدة التي تقوى على التزام المبادئ الرفيعة حين لا تجر إلى صاحبها (المنافع) . وأي طبيعة تقوى على ذلك مالم تكن غاية في الكبر، وغاية في الشرف والعظمة مالم تكن مؤمنة حقا؟.

ص: 105

وما أن حل اليوم السادس من كانون الأول سنة 1525 حتى كان سفير فرانسة (فرانكيان) على عتبة الباب العالي يلتمس مقابلة السلطان.. وقد رحب السلطان الداهية بمقدم السفير، وأكرم مثواه، وبالغ بالحفاوة به، لأنه - وهو الخبير بالوضع الدولي في مصر - سيعرف كيف يستغله حتى الثمالة.

وينهي السفير إلى مسامع السلطان حالة مليكه، وأنه وقع في أسر شارلكان، وأنه لم يتخلص من الأسر إلا بعد أن أبرم مع خصمه معاهدة جائرة مهينة، وأنه يرجو جلالة السلطان مساعدته على هذا الخصم العنيد، وذلك بالانقضاض عليه من جهة المجر (هنغاريا) كيما يشغله عن جيوش فرانسة التي أرهقها وفل حدها

وبعد أن تدارس السلطان الحالة مع رجاله يعد السفير في بساطة متناهية باحتلال المجر، ولم ير أن يعقد معه معاهدة بل اكتفى بتزويده في أوائل ربيع الثاني سنة 932هـ برسالة إلى مليكه يعده فيها النصر، وإلى القارئ الكريم خلاصة هذه الرسالة: "الله العلي المعطي المغني المعين:

ص: 106

بعناية حضرة عزة الله جلت قدرته، وعلت كلمته..... أنا سلطان السلاطين، وبرهان الخواقين متوج الملوك، ظل الله في الأرض، سلطان البحر الأبيض، والبحر الأسود والأناضول، والروملي، وقرمان الروم، وولاية ذي القدرية وديار بكر، وكردستان، وأذربيجان والعجم، والشام، وحلب، ومصر، ومكة، والمدينة، والقدس، وجميع بلاد العرب واليمن، وممالك كثيرة أيضا أفتتحها آبائي الكرام، وأجدادي العظام، بقوتهم القاهرة، أنار الله براهينهم، وبلاد أخرى كثيرة، أفتتحتها يد جلالتي بسيف الظفر، أنا السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم خان ابن السلطان بايزيد خان إلى فرنسيس ملك ولاية فرانسة، وصل إلى أعتاب ملجأ السلاطين المكتوب الذي أرسلتموه مع تابعكم (فرانقيان) النشيط مع بعض الأخبار التي أوصيتموه بها شفاهيا، وأعلمنا أن عدوكم استولى على بلادكم، وأنكم الآن محبوسون وتستدعون من هذا الجانب مدد العناية بخصوص خلاصكم، وكل ما قلتموه عرض على أعتاب سرير سدتنا الملوكاتية، وأحاط به علمي الشريف على وجه التفصيل، فصار تمامه معلوما، فلا عجب من حبس الملوك وضيقهم، فكن منشرح الصدر ولا تكن مشغولا الخاطر، فإن آبائي الكرام وأجدادي العظام، نور الله مراقدهم، لم يكونوا خالين من الحرب لأجل فتح البلاد، ورد العدو، ونحن أيضا سالكون على طريقتهم، وفي كل وقت نفتح البلاد الصعبة، والقلاع الحصينة، وخيولنا ليلا ونهارا مسرجة، وسيوفنا مسلولة، فالحق سبحانه وتعالى ييسر الخير بإرادته ومشيئته، وأما باقي الأحوال فتفهمونها من تابعكم المذكور، فليكن معلومكم هذا".

تحريرا في أوائل شهر آخر الربيعين سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة.

دار السلطنة العلية القسطنطينية المحروسة المحمية

ص: 107

لا شك أن أسلوب هذه الرسالة إن من جهة الصياغة أو المضمون لم يعد مألوفا في الأوساط الدبلوماسية المعاصرة، غير أن الذي يهمنا منها الآن شيئان: الأول أنها تعبر عن سمو المنزلة التي كانت تحتلها الدولة الإسلامية في القرن السادس عشر، والثاني أنها لم تكن مجرد تبجح وكلام فارغين، فيها أن صاحبها يعززها بفعال مجيدة لعلها أقوى في عالم الواقع من معاني هذه الرسالة في عالم الرسائل، وآية ذلك أنه ما كاد يحل اليوم الخامس عشر من نيسان سنة 1526حتى كان السلطان نفسه مع وزرائه الثلاثة على رأس جيش جرار في طريقة إلى بلاد المجر (هنغاريا) ، وكان هذا الجيش مؤلفا من مائة ألف مقاتل مدججين بأحدث الأسلحة المعروفة لذلك العصر، منها ثلاثمائة مدفع، ومزودين بثمانمائة سفينة تمخر نهر الدانوب (الطونة) لنقل الجنود والعتاد من جهة إلى أخرى عند الضرورة

(معركة موهاكس)

ص: 108

وبعد أن يستولي الجيش على عدد من الحصون والقلاع الواقعة على نهرالدانوب ينتهي يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة الموافق (28-8-1526) إلى وادي موهاكس، وهناك يبدأ تعبئة تدل على البراعة الفائقة في الفنون العسكرية

لقد جعل ثلاثة خطوط وكمن السلطان ومعه جميع المدافع في الخط الخلفي، ثم نشبت الحرب وحمي الوطيس، وانقض مقاتلة المجر الأشداء المعروفون بالشجاعة والبأس على جنود الخط الأول العثماني، وما هي إلا جولات قصيرة حتى تراجع العثمانيون إلى ما وراء مواقع المدفعية

وما أن أقترب الجيش المجري من المواقع حتى قصفته المدفعية قصفا شديدا، فأذهلته عن نفسه، وملأته رعبا، وأجبرته على التقهقر، وعندها حمل عليه جند الله حملات صاعقة أتوا خلالها على أكثر فرسانه، وفي جملتهم ملكهم الذي هلك ولم يعثر لجيشه على أثر، ومن لم يقتل من هؤلاء هام على وجهه يلتمس النجاة بعار الفرار، وهكذا تحطم الجيش المجري، وضاع استقلال البلاد التي سقطت بأيدي المسلمين

وسار سلطانهم وألوية النصر تخفق فوق رأسه حتى دخل العاصمة في ثالث ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وتسعمائة، وكانت تسمى (بود) وهي بودابست اليوم. واجتمع الأعيان ورجال الدين وقدموا إليه مفتاح العاصمة علامة خضوع واستسلام، ويأبى الفاتح المسلم شأن ذوي النفوس الكبيرة المؤمنة، إلا أن يكون كريما في معاملة الذين كانوا إلى أيام خلت خصومة الألداء، فيعفوا عنهم، ويؤمنهم على أموالهم ونفوسهم وذراريهم، ويتوج عليهم ملكا من بني دينهم، هو (جان زابولي) أمير ترانسلفانيا.

وبعد أن يطمئن السلطان إلى سلامة التدابير التي اتخذها، يعود إلى عاصمته استنبول يحفه النصر ويحدوه الجلال، وقد بر بوعده الذي وعده للعاهل الفرنسي، وتوج ملكا، وبسط حكم الآستانة على مملكة جديدة من ممالك أوربة الشرقية

ص: 109

هكذا أيها القارئ، هكذا كان أجدادنا المسلمون، وإلى عهد ليس ببعيد يدوخون الممالك، ويتوجون الملوك، ويوقدون مشاعل الهداية في طريق الإنسانية التائهة

هذه فعالهم يوم كانوا يعتصمون بالإسلام، يوم كانت تعاليمه تفجر في نفوسهم روح الفداء، وطاقات النصر، يوم كانت تخفق فوق هاماتهم ألوية القرآن والسنة.

إننا لا نريد البكاء، فالبكاء لا يجدي، ولا نريد التأوه فهذا ما نتركه للفتيات، ولكنا نريد تمثلا حقيقيا للإسلام الحقيقي، إسلام القرآن والسنة، إسلام أبي بكر وعمر وخالد وصلاح الدين

الإسلام الذي جعل منا خير أمة أخرجت للناس

أنت معي أيها القارئ في أنه لا داعي لليأس مهما أظلمت الآفاق من حولنا، إن عهدنا بالغلب والمجد ليس ببعيد، والعلاج لواقعنا المرير ما يزال بين أيدينا محفوظا {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فمتى نتحلى بالإخلاص والشجاعة الكافيين لتناوله كما أنزله الله، وفي غير مواربة أو تحريف، فإن مصارع المبادئ في تعاريج المواربة، وفي ظلمات التحريف

في تناول هذا العلاج، وعلى النحو الذي ذكرت، كيما نجدد لأنفسنا وللبشر قاطبة حياة يسري في أوصالها نسغ القرآن والسنة، وتضئ على طريقها مصابيح الحق والعدالة والحرية؟؟

أرى برغم كثافة الظلام مشاعل تضئ في جنبات وجودنا الفكري والاجتماعي، وعما قريب، وبفضل الله ثم بفضل الطلائع الواعية المؤمنة سينجاب الظلام، ويشرق النور.

ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.

أيهما ألزم؟

هل يشفى المريض المدنف باقة من الدهر، أم حقنة من البنسلين؟. وهل يكفي الجائع لحن مطرب، أم رغيف مشبع؟. وهل يسعد الفقير أن تزين له جدرانه بالرسوم، أم أن تهيء له مايحتاجه من أثاث؟ وهل يخاف العدو إذا كنت تحسن الرقص، أم إذا كنت تحسن صناعة الموت؟

ص: 110

((مصطفى السباعي))

---

(1)

ولد هذا الإمبراطور سنة 1500وهو من جهة أمة حفيد فرديناند وايزابلا ملكي أسبانيا اللذين انتهي على عهدهما وجود المسلمين في الندلس، وقد قضى معظم أيامه في محاربة فرنسا والبروتستانت، كما حارب خير الدين باشا أمير البحر العثماني المعروف. وفي سنة 1556سئم الحياة السياسية فتنازل عن أسبانيا لأبنه فيليب الثاني، وعن ألمانيا وما يتبعها لأخيه فرديناند، والتحق بإحدى الأديرة وبقي فيه حتى مات سنة 1558.

ص: 111

طرائف – وسوانح

غرائب الشعر:

ذكروا أن البيت الذي لا يمكن لمسه قول الشاعر:

تقشع غيم الهجر من قمر الحب

وإشراق نور الصلح من ظلمة العتب

لأن كلا من الغيم والهجر والقمر والحب والنور والصلح والظلمة والعتب أشياء لا تلمس. وذكروا أن البيت الذي يعظم وعيده ويصغر خطبه قول عمرو بن كلثوم:

كأن سيوفنا منا ومنهم

مخاريق بأيدي لا عبينا

لأنه أنحط بسيوفهم لما شبهها بمخاريق اللاعبي.

فلسفة الأجواد:

للأجواد والكرماء فلسفة تظهر لك ما وراء سجيتهم من حكمة، ومن ذلك قول حاتم:

أماوي إن المال غاد ورائح

ويبقى من المال الأحاديث والذكر

أماوي ما يغنى الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

أمأوى إن يصبح صداي بقفرة

من الأرض لاماء لدي ولا خمر

ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني

وأن يدي مما بخلت به صفر

أماوي إن المال مال بذلته

فأوله سكر وآخرة ذكر

وللبخلاء أيضا فلسفتهم: فقد ذكر أبو عمرو الجاحظ قال: قال إسماعيل سمعت الكندي يقول: إنما المال لمن حفظه، وإنما الغنى لمن تمسك به، ولحفظ المال بنيت الحيطان، وغلقت الأبواب، واتخذت الصناديق، وعملت الأقفال، ونقشت الرشوم والخواتيم، وتعلم الحساب والكتاب، فلم يتخذون هذه الوقايات دون المال وأنتم آفته، وقد قال الأول أحرس أخاك إلا من نفسه، ولكن احسب أنك قد أخذته في الجو اسق وأودعته الصخور ولم يشعر به صديق ولا رسول ولا معين لك بألا تكون أشد عليه من السارق، وأعدى عليه من الغاصب، وأجعلك قد حضنته من كل يد لا تملكه، كيف لك من أن تحصنه من اليد التي تملكه وهي عليه أقدر، ودواعيها أكثر، وقد علمنا أن حفظ المال أشد من جمعه.. فالمال لمن حفظه والحسرة لمن أتلفه، وإنفاقه هو تلافه وإن حسنتموه بهذا الاسم وزينتموه بهذا اللقب.

وخير من هذا وذاك قول الحكيم الخبير عز وجل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} .

غرائب السؤال:

ص: 112

طلاب العلم يعلمون معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . فالسؤال له حدوده وآدابه، ولكن صنفا من الناس لا يدرك ذلك فيقع منه من التنطع والإغراب في السؤال شيء مضحك، وللعلماء رحمهم الله أجوبة لطيفة ومواقف ظريفة فيها التخلص والتأديب والحكمة، من ذلك ما روي أن عمر وبن قيس وكان أحد العلماء الأجلاء سأله رجل عن الحصاة من حصى المسجد يجدها الرجل في جبهته أو في ثوبه أو خفه فقال:"أرمها"، قال الرجل: "زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد

"فقال: "دعها تصيح حتى ينشق حلقها"، فقال الرجل: "سبحان الله أو لها حلق؟ "قال: "فمن أين تصيح إذن؟ ".

ومن حيلة اللطيفة رحمه الله أنه جلس للدرس يوم الشك من شعبان، فتوارد عليه الناس كل يسأله عن صيام هذا اليوم حتى ضجر منهم، فأرسل إلى منزله فدعا برمانة ووضعها في حجره فكان كلما لمح إنسانا يتقدم للسؤال، أخذ حبة منها وأكلها فيرجع السائل وقد حصل على الجواب، بدون أن يتكلف مئونة الخطاب..

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يكرهون كثرة السؤال والتعمق في المسائل والفرضيات، امتثالا لقول نبيهم صلى الله عليه وسلم:"إن الله كره قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، وقد ذكروا أن ابن عباس وقف عليه رجل في المسجد في حلقته وقال:"لو حدث كذا وكذا فما الحكم"، قال:"أحدث ذلك.."قال الرجل: "لا"، قال:"فدعه حتى يحدث".

ص: 113

وأما كثرة السؤال في المتشابه وفي العقائد، فقد كانوا ينكرون عليه أشد الإنكار، ومن ذلك ما روى البيهقي أن مالكا رحمه الله سأله رجل عن الاستواء فأطرق وأخذته الرحضاء وقال:"الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة أخرجوه"، وروي أن رجلا في عهد عمر يدعى صبيغ بن عسل كان يجادل الناس في المتشابه فدعا به عمر وسأله أن يعيد عليه كلامه، فلما سمع منه أمر بجريد أخضر رطب فأتي بحزم منه، فقال:"سبيل محدثة"، ومازال يجلده حتى أدمي ظهره، ثم تركه حتى برئ فدعا به وجلده حتى أدمي ظهره، ثم تركه حتى برئ ثم دعا به ليجلده فقال الرجل:"إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، وإن كنت تريد مداواتي فقد والله برئت"، فنفاه إلى أرضه وأمر واليها بأن يعتزله الناس ولا يكلموه. وليت شعري: إذا أراد حاكم اليوم أن يتبع سنة الفاروق هذه كم رجلا يجلد.. وكم رجلا يطرد.. فقد أصبح أكثر من رأى نفسه يحمل قلما يتشدق على دين الله بما لا يرضى الله..

فنسأل الله العصمة من الزلل، والسداد في القول والعمل..

ص: 114

طرق الدعوة إلى الله

للشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس في الجامعة

الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد:

فإن الدعوة إلى الله سبحانة وتعالى هي أشرف الوظائف وأفضل الأعمال، فإنها الوظيفة الأساسية للنبيين والمرسلين، والعمل الرئيسي لسائر الهداة المصلحين، وقد نص الله تبارك وتعالى في محكم كتابه على أن أحسن الناس قولا هم الدعاة إلى الله وفي ذلك يقول الله عز وجل:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الداعين إلى الله العاملين بعلمهم المعلمين لغيرهم هم أعلى الناس درجة، وأكثر الناس تأثرا وتأثيرا بالدين الحنيف، وأعظم الناس انتفاعا بالغيث الذي أغاث الله به الأرض. فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".

ص: 115

كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم مثوبة الدعاة عند الله. فقد روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يده يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجوا أن يعطاها فقال: "أين علي أبن أبي طالب؟ " فقيل: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: "فأرسلوا إليه.."فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فقال علي رضي الله عنه: "يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم أدعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه. فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.." يعني من أن تتصدق بأنفس المال.

ولقد رسم القرآن الكريم خير مناهج الدعوة فيما وصف للدعاة من آياته المحكمة، وفيما قص الله تبارك وتعالى عن النبيين والمرسلين من طرق دعوتهم إلى الله تعالى التي تعتبر النموذج الأعلى للداعين إلى الله عز وجل، وقد وضع القرآن الكريم النظام الأساسي للدعوة إلى الله تعالى إذ يقول:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وإذ يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

فقد طلب الله تبارك وتعالى من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين، على حد قول الشاعر:

ص: 116

فقد طلب الله تبارك وتعالى من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين، على حد قول الشاعر:

فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى

ومن الحكمة في الدعوة معرفة نفسيات المدعوين ومنازلهم فدعوة الأمي غير دعوة المتعلم، والمستقيم في الجملة غير المنحرف والمعاند غير خالي الذهن، وسادة القوم غير عامتهم. وهذه القاعدة في الدعوة من أعظم أسباب نجاحها ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أول الأمر سرا ثلاث سنوات. ولذلك كذلك جرب عقلاء الدعاة حتى ولو لم يكونوا مسلمين هذه الطريقة أعني طريقة الحكمة في الدعوة فنجحوا في نشر شرهم، فلقد أثر أن بوذا كان يبعث دعاته إلى نواح متفرقة من بلاد الهند لبث دعوته، وكان لا يبعث الداعية حتى يعقد له اختباراً نفسانياً ليرى مقدار تغلغل الفكرة في نفسه وصلاحيته للقيام بمهمة التبشير بها، ومن أمثلة هذا الإختبار أنه أراد أن يبعث داعية اسمه ((بورنا)) إلى قبيلة معروفة بالشراسة اسمها ((سرونا برانتا)) فقال بوذا للداعية:"إن رجال هذه القبيلة قساة سريعوا الغضب فإذا وجهوا إليك ألفاظا بذيئة خشنة ثم غضبوا عليك وسبوك فماذا كنت فاعلا؟ "فأجاب بورنا: "أقول لاشك أنهم قوم طيبون لينو العريكة لأنهم لم يضربوا بأيديهم ولم يرجموني بالحجارة"فقال: "بوذا فإن ضربوك بأيديهم ورموك بالحجارة فماذا كنت قائلا؟ "قال بورنا أقول: "إنهم طيبون إذا لم يضربوني بالسيوف". قال بوذا: "فإن قاموا عليك بالسيوف فماذا كنت فاعلا؟ " قال: "أقول إنهم طيبون إذا خلصوا روحي من سجن هذا الجسد بلا كبيرة" فقال له بوذا: "أحسنت يابورنا إنك تستطيع أن تسكن في بلاد قبيلة سروانا برانتا فاذهب إليهم وكما تخلصت فخلصهم وكما وصلت إلى الساحل فأوصلهم معك وكما تفريت

ص: 117

ففرهم". فذهب بورنا فدخل جميع أفراد هذه القبيلة في البوذية.

ومن الحكمة الدعوة كذلك إلى اغتنام الفرص الملائمة للدعوة، ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذكر الله تبارك وتعالى في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبه في السجن إذ يقول:{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فهذان السجينان رأى كل واحد منهما رؤيا، وهي رؤيا غريبة تستدعي الاهتمام لذلك بحثا عن معبر لها ولم يختارا غير يوسف الصديق، وكان الذي حملهما على اختياره دون غيره هو ما رأياه عليه من حسن السلوك والإحسان في القول والعمل، وما على وجهه من آثار الصلاح يدل على ذلك كله قوله:{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وحينما رأى يوسف عليه السلام حاجاتهما الماسة لتعبير هذه الرؤيا العجيبة، ورأى كذلك من حسن ظنهما فيه أغتنم هذه الفرصة لدعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، وكان من حكمته عليه السلام أن يبدأ قبل دعوتهما إلى الله وقبل تفسير الرؤيا لهما بزيادة تعريفها بنفسه وتشويقهما إلى حديثه وبيان نعمة الله على أهل التوحيد فقال:{لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} ثم بين لهما أن الشرك بالله سبب لكل شر وأن توحيد الله سبب لكل خير فقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وأتبعت ملة وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} ثم بعد كل

ص: 118

هذه التمهيدات العظيمة جرد الدعوة إلى التوحيد فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وبعد إقامة هذه الحجة على هذه الدعوة العظيمة فسر لكل واحد من صاحبي سجنه رؤياه في عبارة موجزة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} .

ومن اغتنام الفرص في الدعوة كذلك أن يتخول الدعاة المدعوين بالموعظة الحسنة في غير إكثار ممل، فإن كثرة الكلام تنسيه وتمله، ولذلك كان رسول الله يتخول أصحابه بالموعظة الحسنة مخافة السآمة عليهم مع أن حديثه كان أعذب حديث يستمعون إليه على حد قول الشاعر:

مشافهة يملي على فأنقل

ولا حسن إلا سماع حديثكم

وعلى حد قول الشاعر:

أرى الأرض تطوي لي ويدنو بعيدها

وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها

إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

من الخفرات البيض ود جليسها

ص: 119

فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم كأن قطع السكر تتناثر من فمه صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء في حديث أم معبد في قصة الهجرة تصفه صلى الله عليه وسلم لزوجها تقول:"رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه أكحل أزج أقرن في عنقه سطع وفي صوته صحل أي نبرات حلوة". ومع ذاك كله فقد كان لا يكثر على أصحابه وإنما يغتنم الفرصة فيتخولهم بالموعظة الحسنة مخافة أملالهم. فقد روى البخاري ومسلم من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة الاسدي الكوفي رحمة الله قال: "كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس مرة". فقال له رجل: "يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم". فقال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة الحسنة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا".

كما أشعر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قصر الخطبة يوم الجمعة من فقه الرجل فقد روى مسلم في صحيحة من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه" فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، ولذلك كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الكلام جدا على حد قول النابغة الجعدي رضي الله عنه فيه صلى الله عليه وسلم:

ضمنا وليس بجسمه سقم

نذر الكلام من الحياء تخاله

ولقد كان السامع له صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يعد كلامه ومع ذلك إذا تكلم أعاد الكلمة ثلاثا ليفهم عنه صلى الله عليه وسلم.

ص: 120

ومن الحكمة كذلك في الدعوة ملاحظة أقدار الناس وعدم التسرع في الكلام حتى تحين فرصة قد تكون الكلمة فيها خيرا من كثير من الكلام، ومن أمثلة ذلك ما ذكر بعض المشائخ أنه سافر إلى الهند في طلب العلم، وهناك وجد شيخا كبيرا مرهوب الجانب مسموع الكلمة ذائع الصيت يؤم مجلس درسه طلاب كثيرون وكان هذا الشيخ الهندي إذا أبتدأ درسه بدأه بسب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله والتحذير من مذهبه، فلما سمع ذلك الشيخ النجدي لم يسارع في الانكار عليه بل أخذ يدرس الطريقة التي يعرف فيها الشيخ الهندي بحقيقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله دون إزعاج أو إثارة وأخيرا عرف أن الشيخ الهندي يجلس في بعض الأوقات عند بعض المكاتب وأن من عادته إذا جلس أخذ يطالع ما قرب منه من كتب، فاتصل الشيخ النجدي بصاحب المكتبة وصاحبه مدة ثم جاء بكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثم خلع غلافه وما عليه من عنوان ثم وضع الكتاب قرب مجلس الشيخ فلما جلس الشيخ الهندي أخذ كعادته يقلب الكتب ووقع على هذه الرسالة التي لاتحمل عنوانا فلما أخذ يطالعها دهش لصغر حجمها وما أحتوته من قواعد في العقائد، ثم أخذ يسأل صاحب المكتبة عن اسم هذا الكتاب فقرب منه النجدي وقال له:"هل أعجبك يا شيخ؟ "قال: "إن فيه نفس محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله وكأنه من تأليفه". فقال له الطالب: "هذا هو كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله"فقال الشيخ مندهشا: "النجدي؟ النجدي؟ "قال: "نعم"فأخذ يترحم عليه ثم صار لا يجلس مجلسا ألا أثنى فيه على الشيخ كفارة لما كان منه قبل ذلك.

ص: 121

ومن الحكمة في الدعوة كذلك مراعاة بيئة كل مدعو وضرب الأمثال النافعة له من واقع بيئته ولفت نظر المدعوين إلى نعم الله عليهم وإحسانه إليهم دون قسوة أو غلظة، بل يزن الكلام وزنا ويقدره تقديرا قبل أن يتكلم به، ثم يستشعر الداعية في نفسه موقف المدعو وكأنه هو وأن مراده من دعوته إنما هو سعادته في الدنيا والآخرة.

ومن الحكمة كذلك تلوينها فالسرية حين يغلب على الظن أن تنفع السرية والجهرية والليلية حين تواتي الليلية والنهارية حين تواتي النهارية وفي ذلك كله يذكر الله تبارك وتعالى حكمة نوح عليه السلام في دعوته إذ يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} .

ومن الحكمة في الدعوة أن يبدأ بالترغيب في الدنيا والتذكير بنعم الله على المطيعين وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في قصة نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} .

ص: 122

ولذلك كله رأينا مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه يقول لآل فرعون لما هددوا موسى عليه السلام بالقتل قال هذا الداعية الصالح مع كتمانه إيمانه: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم} ثم يقول زيادة في التكتم: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُم..} فقد قدم الكلام على احتمال كذبة على الكلام على احتمال صدقة زيادة في أمر كتمانه أمره، ثم كان من أروع طرق جداله أن يستدل على صدقة بسلامة سلوكه وحسن هديه ولذلك قال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ..}

وكأنه يقول: موسى صادق لأنه مهتد ولو كان كاذبا لم يكن مهتديا، فاستدل باهتدائه على صدقة ثم قال:{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .

ولما رأى أن قومه مصرون على عداوة رسول الله والمحاربة لدين الله

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَات فأ َطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} .

ص: 123

لما قال فرعون هذه المقالة لم يجد هذا المؤمن حيلة من إعلان إيمانه وليكن ما يكون وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} .

ثم يقول: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ. لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} .

أما القاعدة الثانية من قواعد الدعوة إلى الله فهي سلوك الموعظة الحسنة، والأقوال الرقيقة، والعبارات المؤثرة، وقد اشتملت الأمثلة التي ذكرت الكثير منها.

ص: 124

أما القاعدة الثالثة: فهي الجدال بالتي هي أحسن فيبتعد الداعية عن الأقوال الشنيعة والألفاظ البشعة، بل يستدل بالفعل عندما ينفع الاستدلال بالفعل وبالنقل عندما يرى الاستدلال بالنقل، ويلفت نظر المدعوين إلى آيات الله الكونية ويحرص أشد الحرص على الخصم بإقراره، وإلى ذلك كله يشير الله تبارك وتعالى إذ يقول:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

ومن أعظم قواعد الدعوة الشاملة للقواعد الثلاث المتقدمة أن يكون الداعي على بصيرة، وبصيرة الداعية تسلك به أحسن السبل وتهديه أقوم الطرق.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن الدعوة إلى الله عز وجل قولا وعملا وسلوكا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث داعيا أمره بأحسن طرقها. فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: "بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا"كما روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا"

ص: 125

كما روى البخاري ومسلم من طريق ابن أبي بردة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن فقال: "يسرا ولا تعسروا وبشرا ولا تنفروا وتطاوعا ولا تختلفا" وكان من أمثلة ذلك عمليا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روى مسلم في صحيحة من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: "بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه. ما شأنكم تنظرون إلى؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني.. قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأبرز من ذلك ما روى البخاري وغيره "أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله جالس فصلى ركعتين ثم قال: اللهم أرحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لقد تحجرت واسعا"ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد فأسرع إليه الناس فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:" إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ثم أمرهم أن يصبوا على محل بوله ذنوبا من ماء.. ولما فرغ من بوله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:"إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من البول والقذر أنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن.."

ومن أعظم أسباب نجاح الدعاة أن يتحلوا بالصبر ولذلك قال لقمان لأبنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .

ص: 126

كما أن من أعظم أسباب نجاح الدعاة كذلك أن يكونوا عاملين بما يدعون الناس إليه، منتهين عما ينهون الناس عنه، وقد وصف الله الذي يخالف قوله فعله بأنه ممقوت وفي ذلك يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ..}

ولله در الشاعر إذ يقول:

هلا لنفسك كان ذا التعليم

يا أيها الرجل المعلم غيره

كيما يصح به وأنت سقيم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

أبدا بنفسك فانهها عن غيها

بالقول منك وينفع التعليم

فهناك يسمع ما تقول ويهتدى

عار عليك إذا فعلت عظيم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

ولذلك قال العبد الصالح شعيب عليه السلام لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب} .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كحنين مغترب إلى الأوطان

أشواقنا نحو الحجاز تطلعت

تسمو بفطرتها إلى الطيران

إن الطيور وإن قصصت جناحها

عن رقة الماء ولين الحرير

يبتسم المسلم في سلمه

إذا دعا الحرب ونادى النفير

وتبصر الفولاذ في عزمه

ص: 127

قبسات من نور النبوة في الدعوة والتعليم

للشيخ صالح رضا المدرس في الجامعة

أمرنا الله - جلا وعلا - أن ندعو الناس إلى سبيله القويم، وطريقه المستقيم بالحكمة، والحكمة تعني أن يحاول الإنسان - ما استطاع - ليضع الشيء في محله الملائم له، وهذه الحكمة تقتضي الداعي أو المعلم أن يعلم - قبل الدعوة - كيف يخاطب النفوس، وما هي الوسائل التي تؤثر في النفوس الإنسانية فتجعلها تقبل ما يلقى إليها باهتمام وشغف، وبذلك يكون عمله مجديا ودعوته مؤثرة، وتعليمه مثمرا.

والناظر في السنة النبوية يلمح صورا واضحة للطرق القويمة في مخاطبة النفوس، وتبين

له السبل التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم للتأثير في نفوس المخاطبين من الصحابة - رضوان الله عليهم - مما يدل على المعرفة التامة وتربيتها. وإني أحب أن أعرض شيئا من هذه الأمثلة الرائعة لتكون لنا نورا نستضئ به في الطريق الطويل الذي نسير به.

من ذلك ما يعرف الآن في طرق التعليم بإثارة مشكله لإيجاد حل لها، ويكون ذلك بإلقاء سؤال يطلب من المخاطبين الجواب عليه، وإلقاء السؤال يجعل المسئولين في المشكلة ذاتها، فيبحثون عن حل مناسب، وجواب ملائم لما يعرض عليهم، فهم إذن ليسوا بعيدين يتكلمون عن شيء نظري، فها هي المشكلة أمامهم، والسؤال يحتاج إلى جواب، والجواب سيكون من واقع حياتهم، ومن تجاربهم التي يعرفونها، ثم سينتظرون الحكم النهائي والجواب القاطع من النبي صلى الله عليه وسلم فبهذه الطريقة يضمن الداعية شيئين:

1-

وضع السامعين في المشكلة ذاتها.

2-

لفت انتباههم، وإثارة أذهانهم لمعرفة الوجه الحق.

ص: 128

وهذا مما يجعل الجواب المتلقي يتلهف عليه، ويدخل إلى النفس مباشرة، فيمكث فيها دافعا إلى العمل الجاد، ومن هذه الصورة الرائعة في السيرة النبوية الحديث الوارد في السؤال عن (المفلس) ويبدو هذا السؤال سهلا ليس في الجواب عليه شدة وعناء، ولهذا سيكون جوابهم بما يعرفون ويعاينون في واقع حياتهم "المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع". هذه هي الصورة الشائعة المعروفة عندهم، قالوها بكل هدوء وتؤده، ولكن يا ترى: أليس هناك صورة أخرى للمفلس؟ لا شك في هذا الجواب إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد هذا الجواب لما سأل لأنه يعرفه قطعا، ولذا كانت هذه النفوس متعطشة لمعرفة هذا المفلس، أو هذا المعنى الجديد للإفلاس، وسيقترن هذا المعنى الجديد بالمعنى العادي المعروف، فكلما مر المعنى الدارج فستنطلق النفس إلى المعنى الجديد، وتعلو بروحها وفكرها عن كل المعاني القديمة للإفلاس، ويثبت فيها أن المفلس هو "من يأتي بصلاة وصيام وزكاة -أي يأتي بعمل صالح - ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار" وإذا علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يتكلم لم يكن يسرد الحديث سردا، بل لو شاء أن يعده العاد لاستطاع، عرفنا مدى تأثير هذا في نفوس السامعين، فالسامع للسؤال جالت في نفسه صورة الإفلاس الدنيوي، وربما خطر في فكره صور متعددة لأناس قد أفلسوا ولم يبق معهم درهم، ولم يملكوا متاعا، ثم سما بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا التصور إلى صورة جديدة فيقول:"المفلس من جاء بصلاة وصيام وزكاة". وهذا مما يدعوا إلى العجب فينبه العقول تنبيها قويا شديدا إذ كيف يكون من عمل عملا صالحا مفلسا؟ وأصبحت النفوس مستوفزة لتمام معرفة المفلس، وعند ذلك تأتي الصورة الكاملة وأنه قد أساء إلى المجتمع

ص: 129

بأعمال آخر

وهنا تتساءل النفوس وكيف يعد من خلط في عمله مفلسا؟ هل يا ترى أي الأعمال السيئة تبطل الأعمال الصالحة؟! فيأتي الجواب بأن الأعمال الصالحة والأعمال السيئة إنما يجري يوم القيامة بينهما القصاص، فأيهما غلب حكم به على صاحبه، وتستكمل الصورة في نفوس السامعين ويعرفون أن المفلس:(هو الذي غلبت أعماله السيئة أعماله الصالحة مما أدى إلى معاقبته بجهنم) ، فإذاً تنتهي الصورة – صورة المفلس – بالألم، ألم النار، مما يدفع السامع عن كل ما يجعله من المفلسين، وسيحاول أن يكون دائما من الغانمين الرابحين.

بهذا الأسلوب الرائع البديع وصل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى هذه النتيجة التي يريد، وذا رأينا أعمال الصحابة توضح لنا صدق هذه النتيجة وأنهم كانوا أبعد ما يكون عن أعمال المفلس.

فياليتنا نسلك هذه السبيل ونتبعها في الدعوة إلى كل ما نبغيه.

وليس هذا هو المثل الوحيد في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم في دعوته، وإنما هناك أمثلة كثيرة أذكر منها على سبيل التعيين لا الحصر:

- حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا".

يعيد السؤال ثلاث مرات، لتكون الإثارة أتم وأكمل، وتتنبه النفوس عن كل ما يشغلها، وتتهيأ لتلقى معرفة أكبر الكبائر فيقول:"الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"هاتان الكبيرتان اللتان يعرفهما كل مسلم لإشارة القرآن إليهما، وبعدئذ يغير أسلوب الكلام فيقول:"ألا وشهادة الزور"ولم يكتف بذلك فيكررها "وقول الزور"ثم يشرك في التنبيه السمع مع البصر "وكان متكئا فجلس". كل ذلك لتكون النفوس متقبلة آخذه بنهم وإقبال لما تسمع فتكون النتيجة التأثير العمل المطلوب، إذ كلما كان الكلام مؤثرا في النفس كان أكثر دفعا للتطبيق.

وكذا الحديث الوارد في حجة الوداع حين سألهم:

"أي شهر هذا؟! "

ص: 130

سؤال عجيب! رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن شهر ذي الحجة؟ وما عرف الصحابة ما يقولون، أيقولون (ذو الحجة) ؟ وهو يعرف ذلك! ولذا ما كان جوابهم إلا أن قالوا:"الله ورسوله أعلم".

وانتظروا جميعا الاسم الجديد الذي سيطلق على هذا الشهر، وعبر الراوي عن ذلك بقوله:"فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير أسمه". ثم قال: "أليس ذا الحجة؟ "قلنا: "بلى".

ويكرر هذه السبيل في السؤال "أي بلد هذا؟ أي يوم هذا؟ " وهم ينتظرون بعد كل سؤال الاسم الجديد للبلد الحرام وليوم النحر، وليس هناك اسم جديد. وإنما كان ذلك ليجعلهم متهيئين ليسمعوا أحكاما عامة، أحكام المودع، أحكام تشمل حياتهم كلها، ويحرم عليهم ويحل لهم فيقول:

"فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا".

وهنا يبدو الهدف المقصود من السؤال عن الشهر والبلد واليوم، وذلك لأن حرمتها متقررة في النفوس، ثابتة عندهم لاشك فيها ولا ريب، فيعيد إلى الذاكرة حرمتها ليبني عليها حرمة الدماء والأموال والأعراض.. فستقترن هذه الثلاث بتلك، وتكون ثابتة كثبوت الأولى، متقررة كتقررها.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينا مفتاح القلوب، وصمام النفوس بالسؤال، فإذا فتح القلب وتحفزت النفس للسماع، أعطى الجواب، ومنح المراد، ليستقر فيندفع صاحبها إلى العمل.

فصلوات الله عليك وسلامه يا رسول الله! ماذا أقول؟ ألا أنك نبي الله بعثت للعالمين رحمة، وكنت بالمؤمنين رؤوفا رحيما.

فيا ليتنا نتأسى بك، ونهتدي بهديك في الدعوة والتعليمِِِِِِِِِِِِِِِِ

من مثل محمد؟

لم يتفرد محمد صلى الله عليه وسلم بأنه يمثل الكمال الإنساني المطلق من جميع نواحيه فحسب، بل هو يمثل النجاح المعجز في تربية النماذج الإنسانية الكاملة من الأفراد، والأمة الإنسانية الكاملة من بين الشعوب، فمن مثل محمد صلوات الله وسلامه عليه؟

من مثل محمد؟

((الدكتور مصطفى السباعي))

ص: 131

ماليزيا..

بقلم: محمد أحمد ملاك

كلية الشريعة

تقع ماليزيا في منطقة جنوب شرقي آسيا ما بين خطي الطول 100و 110إلى الشرق وخطي العرض 1 إلى 2/ 61 إلى الشمال، يحدها شمالا بحر الصين الجنوبي ومملكة تايلاند

وجزر الفلبين، وجنوبا الجمهورية الإندونيسية، وشرقا المحيط الباسيفيكي، وغربا مضيق ملاكا. وتبلغ مساحتها حوالي 700ر337 كيلومترا مربعا، وتنقسم ماليزيا جغرافيا إلى جزئين: ماليزيا الشرقية وهي الجزء الشمالي من جزيرة بورنيو وفيه ولايتا صباح وسرواك، وماليزيا الغربية وهي شبه جزيرة الملايو وفيها إحدى عشرة ولاية من ولايات الاتحاد الفدرالي الماليزي.

وكان اتحاد الملايو قد نال استقلاله وأصبح دولة مستقلة في 31أغسطس 1957م ثم تكونت بعد ذلك دولة ماليزيا بانضمام ثلاث ولايات أخرى كانت تحت الاستعمار البريطاني وهي سنغافورة وصباح وسرواك إلى اتحاد الملايو المستقل وذلك في 16 سبتمبر 1963م بعد استفتاء كامل شامل دقيق أجراه مندوبو الأمم المتحدة وبعد التحقق من أن رغبات أهالي تلك الولايات الثلاث كانت في صالح الانضمام إلى الملايو في اتحاد فيدرالي واحد، محققا بذلك مشروع ماليزيا غير أن سنغافورة قد خرجت من عضويتها في اتحاد ماليزيا حيث أصبحت دولة مستقلة كاملة السيادة باسم جمهورية سنغافورة في 19 أغسطس 1965م أي بعد حوالي سنتين من عضويتها في الاتحاد.

والولايات المتحدة التي تكون منها اتحاد ماليزيا الآن هي ولايات جوهرر ملاكا، نجري سمبيلان، سلاغور، فاهنج، نيران، كلنتن، نرنفانو، قدح، فرليس، ونولومينغ. وهي الولايات الإحدى عشر في شبه جزيرة الملايو ثم الولايتان في جزيرة بورنيو وهما صباح وسرواك، ويفضل بين ماليزيا الشرقية وماليزيا الغربية فاصل مائي من بحر الصين الجنوبي يبلغ حوالي 400ميلا.

ص: 132

وعاصمة ماليزيا الفيدرالية هي مدينة كوالالمبور التي تقع في ولاية سلا غور في ماليزيا الغربية وفيها جميع المرافق ومجمع الإدارات الحكومية الفيدرالية. وتجمع بين تلك الولايات وأهليها خصائص ومقومات الأمة الواحدة، وهي اللغة الرسمية الواحدة التي تسود على كل اللغات واللهجات الأخرى، ثم الأرض الواحدة والتاريخ المشترك، إلى جانب المثل العليا والأهداف الواحدة المشتركة في الحياة.

وماليزيا تمثل الموقع الإستراتيجي الهام الممتاز في منطقة جنوب شرقي آسيا، ويعتبر موقعها بمثابة حلقة الاتصال بين الشرق الأقصى واستراليا والشرق الأوسط أو آسيا الغربية وأوربا. ويعتبر مضيق ملاكا الذي يفصل بين شبه جزيرة الملايو أو ماليزيا الغربية وجزيرة سومطرة الإندونيسية مضيقا إقليميا بمثابة البحر الأحمر بالنسبة للدول العربية. ثم إن الأراضي التي اتحدت في دولة ماليزيا النامية الناهضة الجديدة تشارك بعضها البعض في المميزات والخصائص الجغرافيه الطبيعية، فهي تتمتع بمناخ استوائي حار رطب وتدر الخيرات الكثيرة مقابل جهد قليل، بأرض غنية بالثروات المعدنية والزراعية، وبمساحات شاسعة تغطيها الأحراش العذراء التي لم تصلها يد الإنسان، وقد شاءت إرادة الله أن يكون وضع ماليزيا الجغرافي الممتاز يجعلها غنية بثرواتها المعدنية والزراعية التي تغطي حاجة البلاد.

(مساحات أرض ماليزيا)

تغطي أراضي ماليزيا مساحات قدرها 282/127 ميلا مربعا مؤلفة بذلك وحدة أقوى وأكثر حيوية وقابلية للتقدم والنهوض من أن لو انفردت كل واحدة من الولايات على حدة. وهذه المساحات تتألف من مساحة أراضي اتحاد الملايو وهي 599/50 ميلا مربعا ومساحة أراضي سرواك 71/47 ميلا مربعا ومساحة أراضي صباح 388/29 ميلا مربعا. ويبلغ تعداد سكانها حوالي 10ملايين نسمة تقريبا. ولننتقل الآن إلى (التكوين البشري لماليزيا) :

ص: 133

يتألف سكان ماليزيا الآن من عدة عناصر وأجناس مختلفة، ولكن السكان الأصليين قد انحدروا أصلا من منبع واحد إلا وهو الجنس الملانيزي الذي يرجع إلى الفرع المغولي من الأجناس البشرية. ففي سرواك نجد أن الداياك هم الأكثرية التي يتألف منهم السكان كما نجد أيضا الملايويين والصينيين فيها، وعنصر الدوسون هو أكثرية السكان في صباح وهم الذين يعيشون في المدن والمناطق الغربية من الغابات، ويتألف سكان شبه جزيرة الملايو أو ماليزيا الغربية من ثلاثة عناصر رئيسية وهي عنصر الملايو وهم السكان الأصليون، والصينيون والهنود والباكستانيون وغيرهم من الجنسيات الأخرى.

ص: 134

ويبلغ عدد سكان جزيرة الملايو (ماليزيا الغربية) حوالي 70 مليون نسمة. ويكون المهاجرون الصينيون والهنود والباكستانيون وغيرهم حوالي 45% من سكان البلاد أي أن نسبة السكان الأصليين إلى السكان من أصل المهاجرين 55% إلى 45% ويبلغ تعداد الصينيين حوالي 31% و14% هنود وباكستانيون وسيلانيون وأجناس أخرى. وقد هاجر هؤلاء الناس إلى مختلف مناطق ماليزيا بصنع الاستعمار البريطاني والبحث عن الحياة والمعيشة الأفضل. والملاويويون هم السكان الأصليون لشبه جزيرة الملايو، ويرجعون إلى العنصر الملاينزي كما قلت آنفا ويشاركون جيرانهم الأندونيسين والبورنيويين في كثير من الخصائص اللغوية والدينية لأنهم يتكلمون اللغة الملايوية ويدينون بالإسلام. وللصينيين تاريخ حافل من الهجرة إلى مناطق ماليزيا يعود إلى مئات السنين ولكن هجرتهم الرئيسية حدثت خلال الأعوام الثمانين من القرن الماضي وفي عام 1920م أيضا، وجاءت أكثريتهم من العنصر الصيني الجنوبي ويتكلمون بالكانتونية والهوكيانية والهولنيلانية وأكثرهم يدينون بالبوذية، وجاء معظم الهنود الذين قطنوا ماليزيا من المنطقة الجنوبية الهندية للعمل في صناعة المطاط المزدهرة وذلك خلال العقود الثلاث الأولى من القرن الحالي، ومعظمهم يتكلمون باللغة التاميلية ويدينون بالهندوكية. ويتكلم كل من عنصر الداياك في سرواك والدوسون والموروت في صباح لغاتهم الخاصة إلى جانب إجادتهم اللغة الملايوية وهي اللغة الرسمية الآن في ماليزيا.

(نظام الحكم في ماليزيا) :

ص: 135

تنص مقدمة إعلان استقلال ماليزيا على أنها دولة ملكية دستورية شرعية، مؤسسة على الديموقراطية البرلمانية إن هذه الدولة تعمل على حماية حقوق وامتيازات أصحاب الجلالة السلاطين، وحقوق وحريات الشعب الأساسية، وأن يكون الاتحاد دائما دولة ديموقراطية مستقلة مبنية على مبدأ الحرية والعدالة، ويعمل دوما لتحسين حالة الشعب والحفاظ على السلام الحقيقي بين كافة الدول وخاصة الدول الإسلامية، وعلى سبيل المثال: أوجز الرسالة التي بعث بها السيد تنكو عبد الرحمن فترا الحاج رئيس وزراء ماليزيا إلى الأمين العام للجامعة العربية بمناسبة انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العرب ومؤتمر القمة العربي الأول في لقاهرة إذ جاء فيها: موقف ماليزيا من القضايا العربية

"إن الوحدة التي أظهرتها الدول العربية قد عززت اعتقادي الراسخ بأنه من الضروري أن تقف البلدان الإسلامية في العالم أجمع موقفا موحدا، وأنه إذا توفرت الأناة والنية الحسنة لدى الجميع كان في الإمكان إحراز هذا الهدف بسرعة. وكونوا على يقين من أن ماليزيا تؤيد تأييدا حازما قضية الوحدة العربية، وحقوق الدول العربية المشروعة في فلسطين، ومن أن ماليزيا لن تأتي بعمل يضر بهذه القضية، هذا بالإضافة إلى أن من سياسة ماليزيا نصرة كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تحقيق الغاية المقدسة التي تصبوا إليها شعوب العالم وهي الحصول على الحرية والاستقلال عن الاستعمار بجميع أشكاله ومظاهره وأنه من أهم سياسة ماليزيا الخارجية) .

ص: 136

والجدير بالذكر أن من أمتيازات أصحاب الجلالة السلاطين الحفاظ على دين الإسلام وتعاليمه ومقوماته الأساسية ونشرها بين أفراد الشعب المسلم، وأنه مما نص به دستور الدولة الماليزية الإسلام هو دين دولة ماليزيا الرسمي، وعليه أنفقت الحكومة المركزية وحكومات الولايات مبالغ طائلة كل عام من إيراداتها على بناء المساجد وصيانتها/ وإنشاء المدارس الدينية الابتدائية والمتوسطة في الأرياف والكلية الإسلامية في كلانغ بولاية سلاغور بأقسامها الثلاثة الإعدادي والعالي والدبلوم، وإرسال خريجيها إلى جامعات أخرى مثل جامع الأزهر ليواصلوا دراستهم في قسم الدراسات العليا فيها. وفي عام 1382هـ 1962 قرر مجلس أصحاب الجلالة السلاطين الاعتراف بوجود الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة كمؤسسة علمية دينية ويوجد الآن 32طالبا ماليزيا بها. ومن أعظم المساجد التي بنتها الحكومة (مسجد نقارا) أي المسجد الوطني. يقع في وسط عاصمة ماليزيا كوالالمبور ويعتبر أكبر مسجد في الشرق الأقصى، وقد حضر افتتاحه وفود من الدولة العربية والإسلامية وذلك في عام 1385هـ- 1965م وتجري في شهر رمضان من كل عام مسابقة بين المقرئين المحليين لتلاوة القرآن الكريم داخل بناية المسجد الوطني، وكذلك مسابقة أخرى بين الدول التي فيها المسلمون مثل اندونيسيا باكستان، وسيلان، والهند، وكوريا الجنوبية، وكامبوجا وغيرها. ويعطى المشتركون في المسابقة هدايا تذكارية وللفائزين جوائز قيمة، وقد دأبت حكومة المملكة العربية السعودية، والسودان، والجمهورية العربية المتحدة، خلال السنوات الماضية على إرسال وفد من الحكام لهذه المسابقة.

وفي مجال الدعوة أسست في ماليزيا جمعية الدعوة وتسمى (دار الأرقم) تحت إشراف الحكومة، ومهمتها دعوة سكان ماليزيا غير المسلمين إلى الإسلام، وقد أسلم خلال السنوات الماضية الكثير من أجناس مختلفة من الصينيين والهنود والأوروبيين وغيرهم.

ص: 137

وقد أرسلت حكومة ماليزيا وفدا إلى الرابطة الإسلامية برئاسة داتؤ دكتور عبد الجليل حسن، وذلك تلبية لدعوة صاحب الجلالة الملك فيصل، وكان ذلك عند تأسيس رابطة العالم الإسلامي في أول مجلس عقد بمكة المكرمة، وانتخب داتؤ دكتور عبد الجليل عضوا دائما للمجلس التأسيسي للرابطة الذي يعقد في شعبان من كل عام.

وهذا كله دليل على تقدم الإسلام والمسلمين في ذلك القطر الإسلامي (ماليزيا) بجانب وجود التيارات المختلفة المناوئة للإسلام مع توفر إمكانياتها ومقوماتها إلا أن إرادة الله سبحانه وتعالى حالت بينها وبين تحقيق أهدافها الشريرة.

وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ثواب الجهاد

لا تنتظر جزاءك من أمتك على ما قدمت لها من خدمات، فهي مهما كافأتك، فإنما تكافئك كفرد، وأنت أحسنت إليها كأمة، وانتظر الجزاء بما لا يفنى ممن لا يفنى.

((هكذا علمتني الحياة))

ص: 138

مشاكل الطلاب الجامعيين وحلها على ضوء الإسلام

للشيخ عطية سالم المدرس في الجامعة

إن مشاكل الطلاب الجامعيين جزء من مشاكل الأمة التي أقامت تلك الجامعة، ولهذا فإن لكل مجتمع جامعي مشاكله الخاصة المنبعثة من مجتمعه المحيط به.

فمن أراد دراسة مشاكل الطلبة الجامعية لزمه دراسة مشاكل الأمة وتتبع الحياة الدراسية من مبدئها حيث أنها تمتد وتندرج من البيت إلى المدرسة ثم إلى الجامعة في عقلية الطالب وتفكيره وظروفه.

يستلزم شمول النظر لمنهاج الدراسة في الأمة كلها والتنسيق بينها حتى تصبح وحده متكاملة يكمل بعضها البعض كحلقات عمر الإنسان في نشأته من طفولته إلى شبابه إلى رجولته خلقا سويا ثم إنتاجه في الحياة.

وألزم ما يكون ذلك النظر على الجامعة نفسها حيث أنها تتلقى الطلاب من المدارس فتعمل على صبغتهم بالصبغة الجامعية المتميزة، وحيث أنها هي التي تمد المدارس برجال التربية والتعليم منها وإليها يكون أمر الطالب.

وتتبع ذلك يستلزم مجهودا في الدراسة، وإمكانيات في العمل، وفسخه من الزمن كعمل إيجابي كلي. وإلى ذلك الوقت تنبغي العناية بأهم المشاكل الحاضرة وتطلب حلها حلا سليما.

والعناية بمشاكل الطلبة عناية بالجامعة كلها، والعناية بالجامعة هي بلا شك عناية بالأمة. وكما قلنا أن على الجامعة نفسها العمل لإيجاد حلول لمشاكلها فالجامعات في الأمم كالقلب في الجسم ينبض حيوية بالدم لتغذية الجسم كله فيفيض حيوية ونشاطا وهو بدوره يستنفذ قدرا مضاعفا من التغذية ليقاوم عمله الدائم وجهاده المتواصل في سيبل حيوية هذا الجسم، وكالطبيب يسهر لمعالجة الأمة يجب عليه أن يعنى بنفسه.

ص: 139

وكذلك الجامعة في عنايتها بمشاكل الأمة وتوجيه أبنائها وتهيئتهم على النحو الذي يتحملون به أعباء الحياة، والسير قدما إلى الغاية المرجوة، وإصابة الهدف المقصود، إن عليها أن تعنى بمشاكلها الذاتية وتوليها كل اهتمامها لتصبح من القوة والسلامة بحيث تمكنها من الاضطلاع بأعباء القدوة والتوجيه والرسم والتخطيط والدعوة والإرشاد وتوفير أسباب السعادة والسمو.

تحديد المشاكل

غير أن المشاكل الجامعية تختلف في نظر الجامعيين اختلاف البيئات التي تقوم بها، وقد تكون موضع اتفاق أو موضع خلاف من ذلك الآتي على سبيل المثال:

1-

الاختلاط المزدوج بين الجنسين كما في بعض البلاد الإسلامية.

2-

التعليم الثنائي: أ- الديني ب- المدني كلاهما على انفراد وعزله، الذي أوجده الاستعمار وبقيت آثاره من بعده.

3-

التوجيه الخارجي الذي تمليه الدولة أو فكرة ما.

4-

التعليم المهني الذي دعت إليه الحاجة يوما ما.

5-

النفقات الدراسية كما في بعض البلدان التي لا تخصص مكافآت للطلاب.

6-

إشغال الفراغ الذي يتجاذب الطالب بين المذاكرة أو اللهو والأشغال.

فبعض هذه المشاكل قد تكون موجودة في بلد غير موجودة في أخرى وقد تكون مشكلة في بلد آخر.

أما في نظر الإسلام فإنها إن وجدت مشكلة في أي بلد كانت مشكلة عنده في جميع البلدان وعلى مر الزمان حتى تعالج. أما كون تلك المسائل مشاكل في ذاتها فكالأتي:

أولا – الاختلاط المزدوج – ما من شك في أن هذا النوع من الاختلاط دخيل على الجامعات العربية انتقل إليها مع بعض النظم التعليمية الغربية. والباحثون إزاء هذا الاختلاط على قسمين:

أ – قسم يراه ضروريا للحياة الجديدة، ويعلل لذلك بأنه يكسب كلا من الطرفين الصقل للسفور والوداعة في الأخلاق واللطف في المعاملة. ولا مانع عندهم أن تدفع الأمة الثمن إزاء ذلك ما يثبت في سجل الحوادث لدى الجامعات.

ص: 140

ب- بينما القسم الآخر يراه معولا يهدم البيت العربي، والخلق الإسلامي، والقيم الإنسانية، والقوى الشخصية، حيث تنهار قوة كل من الطرفين أمام سلطان الآخر.

وهاتان النظرتان جزء من الاختلاط العام سواء في الجامعة أو المجتمعات الأخرى. إلا أنها في الجامعة أخطر لطول المكث ودوام الصلة وقوة المعرفة.

وأخطر من هذا كله بالنسبة للجامعة ما يتعلق بالمنهج والدراسة، حيث ساوت بين مختلفين في أصل الخلقة والفطرة والنزعة والاستعداد العقلي والفكري والجسمي. ولنأخذ لذلك مثلا: كليتي الحربية والهندسة كيف تساير الفتاة أخاها في الكلية الحربية في الآتي:

1-

التدريب العسكري المفروض يوميا بحركات عنيفة. وهبها سايرته بجهد، كيف تتخلى عن عواطفها ورقتها وشعورها كأنثى إلى شدة وقوة وغلظة فتملأ قلبها غيظا وحماسة ورغبة للقاء العدو.

إن في تكليفها ذلك إخراج لها عن فطرتها وتحميل لها فوق طاقتها:

وعلى الغانيات جر الذيول

خلق الله للحرب رجالا

2-

وكذلك الحال في الهندسة: إنها إن أحسنت صنع الخرائط لذوقها ولطف إحساسها، لن تستطيع أن تشد السقالة وتصعيد إلى أعلاها لتشرف على تنفيذ رسمها، كما أنها لا تقوى على شق الصحراء وتسلق الجبال أو هبوط الوديان لوضع مخطط على الطبيعة لأي مشروع ما.

فكيف نكلفها دراسة كل ذلك عمليا بجوار الشاب الكامل الاستعداد الخلقي والفطري. وكيف تستطيع الجامعة أن توفق بين الجنسين المختلفين في دراسة منهج موحد وإعدادهما معا لمستقبل واحد.

أما علاج هذه المشكلة على ضوء الإسلام في حل المشاكل منهج جذري يتتبع أصل الداء فيستأصله وباستئصال الداء يحصل الشفاء.

ومن هنا كان علاج هذه المشكلة بالذات كالأتي:

ص: 141

أولا من الناحية الخلقية وأن عدها البعض شكلية. فهو يمنع هذا الاختلاط لا في الجامعة فحسب بل في كل الاجتماعات {وإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وفي وقار وحشمة بعيدا عن مظان الفتنة وفي سياج من العفة.

وإذا لزمت خلطة ضرورية فبوقاية وتحفظ: في القول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} والنظرة بالعين: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} .

{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِن} .

ثانيا من الناحية المنهجية إن صحت هذه التسمية: فقد خص الإسلام كل جنس بما يليق به وبتكوينه الذاتي واستعداده الخلقي وذلك من جانبين:

1-

جانب تعليمي: وهو قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة} فجعلهن في بيوتهن معلمات للكتاب والحكمة.

2-

وجانب عملي: وذلك من قول عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله غلبنا الرجال على الجهاد فلا نجاهد. فقال: "ألا أدلك على جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة".

ص: 142

فقد تطلعت عائشة رضي الله عنها إلى عظمة الجهاد وعظيم الأجر فتاقت نفسها إليه فأرشدها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما يليق بها من الحج والعمرة وهما عملان يجمعان بين المصالح الاجتماعية والعبادات البدنية والمالية لما فيها من معرفة أحوال الناس والإنفاق على المحتاجين وشهود المنافع المبنية عليها بقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم} . وبجانب ذلك أيضا السماح لبعض النسوة لمصاحبة الجيوش لا لحمل السلاح ولكن لسقى الماء وتضميد الجرحى كما في حديث أم عطية.

وكما في عمل فاطمة رضي الله عنها لتضميد جراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد.

وكذلك تجنب المرأة مواقف الزحام والاختلاط كما في طلب عائشة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصلي بالبيت (الكعبة) كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي الرجال فأخذ بيدها إلى حجر إسماعيل وقال لها: "صلي ههنا فإنه من البيت".

وما من شك أن علاج المشكلة باستئصال جذورها خير من الإبقاء على تلك الجذور وتطلب حلول لنتائجها وفروعها.

وما قاله الفريق الداعي إلى الاختلاط من صقل الشعور واعتداد بالشخصية وتلطف في المعاملة والسلوك الخ. مع بقاء العفة وسلامة الكرامة مقاومة للقوى الطبيعية ومغالطة للفطرة الأصلية.

ولهذا كان الثمن غاليا وأكثر مما زعموا من بعض حوادث ثبتت في سجل العقوبات، لأنها قطرة من بحر بالنسبة إلى ما يسجله المجتمع نفسه مما لا يصل إلى المسئولين ولا يوضع في سجلات المراقبين ولا تحويه ملفات الطلاب.

وتصديقا لنظرية الإسلام في هذا الحل فقد وجد بعض الجامعات الغربية (جامعة كمبردج) بإنجلترا لا تسمح للبنات أن يصبحن أعضاء فيها (ص 31 الجامعي) .

كما لمس المشرفون على التعليم في بعض البلاد الإسلامية نتيجة تلك التجربة ورأوا ثمرة هذا التقليد فأنشأوا كليات للبنات في بعض الجامعات كجامعة (عين شمس) .

فقد بدأت المشكلة من الجامعة وبدأت الجامعة بالتخلص منها.

ص: 143

والجامعة الإسلامية تهيب بالجامعات المدنية أن تعمل بحرية على توسيع نطاق العلاج لهذه المشكلة فيشمل خارج الجامعة كالحفلات والصالونات وحلبة السباق والبلاجات مما لا تدعو إليه عندنا حاجة أو تلجئ إليه ظرورة.

وتكون الجامعة بذاك قد حملت لواء الإصلاح في المجتمع كله. فتحقق هدفا من أهدافها الأصلية.

ولا يفهم من ذلك أن الجامعة لا ترى تعميم التعليم للجنسين فتاريخ المسلمين حافل بالمتعلمات من النساء.

أولاهن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تروي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفتي فيما تسأل فيه. وإذا جئنا إلى الأواخر نجد لأخت صلاح الدين الأيوبي إجازة على نسخة لسنن أبي داود بخطها وتوقيعها عليه. كما نجد بنت شيخ الإسلام تقي الدين السبكي من شيوخ جلال الدين السيوطي. ولكن في صيانة وعفة ونزاهة وحشمة وتعليم في ميادين صالحة لها، لا تخرجها عن نطاقها وتبعد بها عن فطرتها، فنكلفها عنتا ونجهدها عملا. ولا سيما بعد تقرير ديوان الموظفين بمصر عام 1361 إزاء عمل المرأة في مختلف الوظائف.

ثانيا: التعليم الثنائي:

ذلك التعليم الذي عزل الدين عن الدولة وأوجد منهجين متنافسين وقام بجانب أحدهما يسانده بالمال والجاه ويفتح أمامه أبواب المناصب العالية.

وقد بدأ هذا النوع بعد الحملة الفرنسية على مصر وحاجة محمد علي إلى إعداد موظفين للحكومة، وجاء بعد ذلك الاحتلال الغربي فضيق حدود التعليم واقتصر على طبقة معينة من الشعب فأنتجت تفرقة بغضيه وأوجدت هوة سحيقة بين الطبقات:

1.

طائفة قليلة أتيح لها التعليم المدني.

2.

أكثرية لم تستطع الدراسة.

3.

طلبة العلم المدني مفتحة أمامهم أبواب العمل وتغدق عليهم الأموال.

4.

طلبة العلم الديني توصد دونهم الأبواب ويحرمون المساعدات.

ص: 144

5.

وأخطر من هذا كله تضارب بعض المواد في البلد الواحد. فبينما طالب الجامعة الأزهرية مثلا يدرس تحريم الربا يدرس زميلة في كلية التجارة جوازه ضمن أعمال البنوك. فكان لا بد من إيجاد تفكك في الأمة، وقلق وعدم استقرار في التعليم واضطراب.

وقد ظلت تلك الطريقة سارية، وهذه السياسية ماضية، وبالتالي كانت النتيجة تزداد سوءا، والهوة بين أبناء الأمة تزداد بعدا، حتى أنه لو اجتمع أخوان أحدهما متعلم تعليما مدنيا والآخر متعلم تعليما دينيا لخلته اجتماعا بين رجلين أحدهما غربي والأخر شرقي، لبعد مابين الصبغتين اللتين أصبغ بها كل منهما، وعليه فإن أحدهما سيهدم ما يبنيه الآخر وستكون الحكومة بجانب أحدهما.

ولقد تنبه لذلك كثير من رجال الفكر ومشايخ الأزهر منذ أواسط القرن الثالث عشر هجري كالشيخ حسن العطار الذي شهد أواخر العهد التركي وثلاثين سنة حكم محمد على وتولي مشيخة الأزهر سنة 1246وتوفي سنة 1250. والشيخ مصطفى العروسي الذي تولى مشيخة الأزهر سنة 1281إلى 1287 وقد تقدم للخديوي إسماعيل في السادس عشر من ربيع الثاني 1282 بلائحة لتنظيم الأزهر ومما جاء فيها: البند الرابع والعشرون – ما نصه: "بما أن الجامع الأزهر من أشهر مدارس الدنيا وأجلها قدرا وارفعها في جميع الأقطار ذكرا، والمقرر في أذهان العالم أنه مشحون بالعلماء المحققين والفضلاء الراسخين مملوء بالأفاضل الحائزين من كل فن طرفا ومن كل علم من العلوم الشرعية والعقلية طرفا، والحال بخلاف ذلك. وإن كان....."الخ (عبد الواحد وافي)

ص: 145

ثم مضت المذكرة تعدد الفنون التي ترغب إدخالها في الدراسة ولكن كلها مساع لم يتم فيها شيء إلى أن جاء جمال الدين الأفغاني وتلميذه النبيل الشيخ محمد عبده فأنشأ في عهده مجلس إدارة الأزهر بأمر من الخديوي عباس حلمي الثاني سنة 1312 وتكون المجلس من كبار علماء الأزهر من اختصاصه الأشراف على سير الدراسة في الأزهر فادخل بعض الدروس كأدب البحث والمصطلح ومتن اللغة ورسم الحروف والعروض..الخ.

ثم قسم المنهج إلى مراحل ثلاث: مرحلة أولية ومرحلة ثانوية ومرحلة عالية بقانون واستبدل به ثلاث كليات عالية بقانون 1326 وهكذا إلى سنة 1352 في عهد الشيخ محمد الأحمدي الظواهري فألغى القسم العالي واستبدل به ثلاث كليات: أ- كلية أصول الدين. ب– كلية الشريعة. ج- كلية اللغة العربية.

وكانت نهاية هذه الإجراءات قانون 1930 ميلادية الذي حدد وظائف المتخرجين مابين أعمال كتابية وتدريس ووعظ وقضاء بالمحاكم الشرعية. ثم جاء التعديل الأخير بعد الثورة. والذي يظهر من كل هذه التعديلات أنها كانت تتجه بالأزهر نحو وجهة التعليم المدني من حيث الشكل والنتيجة وإن اختلفت من حيث الموضوع وكلها باسم الإصلاح والتقريب بين المناهج المختلفة في البلد الواحد حتى لا يبقى للفوارق بين متعلمي الأمة مكان، وتيسير سبل العمل بعد التخرج لتكسر حدة الحقد ويقصر أمد التطلع.

إذن فالتعليم الثنائي من مشاكل التعليم الجامعي حيثما كان، والقائمون على التعليم يعملون على إصلاحه منذ كان، غير أنها كلها حلول مؤقتة ومجهودات فردية لم تصل إلى الغاية المنشودة.

أما حل هذه المشكلة على ضوء الإسلام:

فإنه كما سبق يكون بالعمل على استئصال سبب الإشكال واقتلاع جذور المشكلة من أول ظهورها، والحل هنا بالذات من جهتين:

الأولى: النظر في المنهج الإسلامي للتعليم.

الثانية: تكييف مناهجنا العلمية الحديثة على ضوئه.

ص: 146

أما منهج الإسلام في التعليم فواضح بين. ومن المعلوم أن أهم أسس المناهج الحديثة التي ينبني عليها الميراث الثقافي للأمة، وإن كان لكل أمة ميراثها الذي تعتز به وتحافظ عليه فإن من أهم عناصره الدين واللغة العربية والعادات والتاريخ وعليها يتوقف كيان الأمة، لأنه إذا ضاع دينها فقد وجودها، وإذا اندرست لغتها إنماعت في غيرها، وإذا تركت عاداتها ضاعت صبغتها، وإذا نسي تاريخها انقطعت صلتها بماضيها فتاهت في مجاهل الزمن لا تدري أين تسير ولا تعرف نقطة الانطلاق فضلا عن حرمانها نتائج التجارب والقدوة بالأبطال والتأسي بالعظماء ممن شادوا التاريخ وسجلوه.

والمنهج الإسلامي وفي طليعته كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كالشمس في رابعة النهار وكالكنز مفتح الأبواب، يبدأ مع الصبيان في الكتاب وينتهي مع الرجال في المساجد كما هو الحال في المدينة المنورة في صدر الإسلام. وتخرج على ذلك أئمة الأمة وقادتها من علماء الصحابة والتابعين كما قال مسروق: "سامعت أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة:

إلى عمر وعلي وعبد الله (ابن مسعود) ومعاذ وآبي الدر داء وزيد بن ثابت".

وقد انتشروا في الأمصار ونشروا العلوم حيثما كانوا؛ أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي موسى ومعاذ إلى اليمن. وأرسل عمر ابن مسعود إلى الكوفة. الخ. وهل كان ابن عباس حبر الأمة ومجاهد وعطاء وغيرهم إلا تلاميذ المسجد؟ وقد اتسعت حلق المسجد للموالي مع الأشراف فانتشر العلم وكثر العلماء من جميع الطبقات.

وكذالك الحال في مصر بعد سقوط بغداد، يبدأ التعليم من المكتب وينتهي بالأزهر، وقد قام الأزهر وما أقيم بجوراه من مدارس إسلامية كالمدرسة الناصرية للشافعية والقمحية للمالكية والسيوفية للحنفية وكلها بالقاهرة.

والمدرسة البيهقية بنيسابور والنظامية ببغداد، وقد قام الجميع بنقل تراث الأمة والحفاظ على كيانها إلى اليوم الحاضر.

ص: 147

وكان لزاما على الجامعات الشرقية في البلاد الإسلامية أن تبقى على هذا الأساس للمنهج الدراسي وتضيف عليه ما شاءت من العلوم والفنون.

غير أن الجامعات الشرقية كانت في يوم ما تسير وفق خطة مرسومة خارج نطاقها ولم تكن تملك الخروج عنها، بل ربما حوربت عند قيامها كجامعة القاهرة عند إنشائها.

أما اليوم وقد أصبحت الجامعات ولله الحمد في أيدي أبنائها ولا نظارة لأجنبي عليها فقد تطلعت إلى إصلاح ذاتها وتطوير مناهجها إلى أن تحقق الغرض من إنشائها.

ومما يؤيد تطلع الجامعات إلى إصلاح وتطور ما أعلن في أوائل يناير من هذه السنة 1963عن المجلس الأعلى للعلوم بالقاهرة أن دعا ستة علماء بارزين في بريطانيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الغربية للحضور إلى القاهرة للمساهمة مع العلماء العرب في تنفيذ بحوث الخطة العلمية للجمهورية العربية المتحدة (مجلة دعوة الحق العدد الرابع السنة السادسة يناير 1963) فأصبح لهذه البلاد الحق في أن ترسم لنفسها خطة دراستها والعمل على تطويرها. وألزم ما يكون إنما هو الحفاظ على تراث الأمة من دين ولغة وتاريخ.

ومن هنا يتضح الجواب على السؤال الآتي: هل الأولى في الإصلاح إدخال العلوم الدينية في مناهج الجامعات المدنية أم إدخال العلوم المدنية في مناهج الجامعات الدينية بغية التقرب بينهما؟.ومهما يكن من شيء فإن لكل جهة دعاتها وأنصارها.

غير أن الواقع العملي والشعور الديني يؤيدان الرأي الأول، حيث أن حاجة الطالب المدني إلى العلوم الدينية أشد من حاجة الطالب الديني إلى العلوم المدنية.

ص: 148

وما دمنا نؤمن بضرورة التخصص في العلوم فيكون الحل الوسط لهذه الحالة أن نوسع نطاق الإصلاح ونضع في عين الاعتبار المرحلتين السابقتين اللتين هما كجزء تحضيري للجامعة، فنعطي الطالب القسط الأوفى من المنهج الديني وإذا وصل إلى الجامعة جعلنا منه ما ينمي له ما تأصل عنده من قبل عملا بفحوى قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

فقد جعلت الآية الكريمة السعي إلى الصلاة عند النداء واجبا يترك من أجله البيع والشراء، وأنه خير لمن يعلم، وهذا بمثابة المرحلة الأولى وجعلت قضاء الصلاة مؤذنا بالانتشار في الأرض ابتغاء من فضل الله وهذا بمثابة المرحلة الثانية، دين ودنيا، لأن الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله يشمل جميع ميادين العمل، غير أنها لم تدع هذا الشخص في انطلاقه غافلا منقطعها عن ربه بل ربطته بما لا يعوق عمله ولا يعطل إنتاجه، بل فيه عون له وفلاح {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ". حيث جعل الفترة الأولى من سني الدراسة للدين الماثل في الصلاة التي هي عماده، وجعل الفترة الثانية للشؤون الاجتماعية الماثلة في الاستقلال الذاتي والعمل الفردي المشعر بتميز حق كل فرد فيما يأتي وما يدع، فيعرف ما له فلا يتعداه وما عليه فلا يأباه وصدق الله العظيم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك} .

ص: 149

مع الصحافة

إعداد: أحمد علي الإمام

الطريق إلى مجتمع عصري

تحت هذا العنوان نشرت مجلة (الوعي الإسلامي) الكويتية مقالا في عددها الرابع والثلاثين لشهر ذي القعدة 1387: للأستاذ محمد جلال كشك جاء فيه ما يلي:

كانت روما سيدة البحار بلا منازع، وكان البحر الأبيض بحيرة رومانية حقا وصدقا.. من سيطرة كاملة على الشواطئ جميعا إلى التفرد بامتلاك الأسطول الوحيد العامل في هذه المياه.. وعمر ابن الخطاب.. قاهر البحر، لم ير البحر، والبحر، ولا ركب سفينة في حياته.. بل يطلب من فصيح أن يصف له البحر، فيصفه بعبارات بليغة تفزع عمر رضي الله عنه، شفقة على رعيته.. فيقسم ألا يحمل المسلمين عليه أبدا. .. ومع ذلك طردت رومانيا من شواطئ البحر الأبيض.. وما تكاد تمضي سنوات حتى ينزلوا بروما هزيمة بحرية ساحقة في موقعة ذات الصواري التي لا تقل أهمية عن موقعة ألا رمادا. ماذا كان يملك العرب.. لاشيء سوى العقيدة.

التفوق الروحي.. .. الإحساس بأنهم يقاتلون من أجل قيم أفضل ونظرة للوجود.. للإنسان.. للحياة

أفضل من نظرة خصمهم وأحق بأن تنتصر.. أنظر إلى قيصر يرسل جاسوساً إلى معسكر المسلمين يتجسس له ليعرف سر انتصار هؤلاء الحفاة الذين صبروا عليهم في حصار حمص وقالوا هؤلاء الحفاة إذا جاء الشتاء..تجمدت أقدامهم وانهزموا.. فما راعهم إلا أنهم أكثر ثباتا على الصقيع منهم في نعالهم الثقيلة وملابسهم الغليظة!..

ص: 150

يروي الطبري نقلا عن شيوخه.. أن قيصر بعث جاسوسه فعاد إليه بصفة المسلمين قال: ".. بالليل رهبان.. وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن أحد ملوكهم قطعوا يده، ولو زنى رجم، فإنه الحق فيهم". لا أريد أن أناقش الجانب التاريخي من الواقعة فربما بعث قيصر، وربما لم يبعث، ولكن القصة تعكس فهم المسلمين لسر انتصارهم.. إنه أبدا ليس التفوق التكنولوجي

بل التفوق الروحي.. بالعقيدة.. بها انتصروا.. وتعلموا.. وصنعوا..واخترعوا

العقيدة.. وأثروا التاريخ البشري..نقطة البدء في كل حضارة هي العقيدة.. هي القيم الموجهة للجماهي، ر هي الأفكار التي توجه سلوك قيادتها.. والذين تسمموا بالغزو الفكري، يظنون أنه مما يتنافى مع التقدم الآلي أن يتمسك المرء بدينه ناسين أن الباب المفضي إلى المخابرات الأمريكية منقوش عليه آية من الإنجيل (1) ..

وأن أول دبابة إسرائيلية دخلت سيناء كانت تحمل نصا من التوراة.. يستخلصون لنا من أحداث الخامس من يونيه.. عبرة التكنولوجيا ثم لا يتساءلون ما الذي جعل المجتمع الذي يضم أخلاط الشعوب أكثر وحدة وأكثر تماسكا وأكثر إصرارا على الباطل، وأكثر قدرة على إنجاز التكنولوجيا والتفوق الآلي.. لأن شازار وبن جوريون يرفضان ركوب سيارة في لندن يوم السبت لأنه محرم في الديانة اليهودية.

وعندما اقترح أحدهم يوم الثامن من يونية أن يلغى الاحتفال بالمولد النبوي حتى لا يتعطل المجهود الحربي..! صحيح أن اقتراحه قد رفض، ولكن مجرد الاقتراح يكشف طبيعة التفكير العصري الذي قادنا إلى ما صرنا إليه.. ونحن تركنا من يتطاول على قرأننا وأمكن أن يطبع في بلد عربي مقال فيه سب الله سبحانه وتعالى قبيل النكسة بأيام!..

اليهود الذين عبدوا عجل الذهب.. عندما أرادوا أن يبنوا دولة ويقاتلوا.. عرفوا قيمة القيم الروحية..

ص: 151

فلا سبيل أمام مجتمع متخلف ينشد الانقلاب الصناعي إلا اعتناق فلسفة خاصة وعقيدة خاصة مستقلة.. فابدأوا بالعقيدة قبل أن تتحدثوا عن العصرية.. وإذا كان الجميع يعترفون اليوم بأن ما طرح بيننا من وسائل إيقاظ القوى المعنوية لم يثمر ثمرته المرجوة، فإن من حق الأمة العربية أن تطالب اليوم

وتقول التفتوا هنا.. فأين هذه الأمة..

لا يصلح أخرها إلا بما صلح به أولها.. عودوا إلى الإسلام وامنحوا الجماهير عقيدة تقاتل تحتها.. وتنتصر من أجلها وبها..

تخوف من بعث إسلامي جديد في تركيا

نشرت صحيفة الجارديان البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 27-4-1968المقال التالي عن استنبول.

بعد أربعين سنة من قبول مبدأ العلمانية في تركيا بدأ التيار الرجعي الإسلامي ينتشر من جديد ويزحف متقدما في مختلف أنحاء البلاد، وقد أخذت الدوائر التقدمية التركية تشعر بقلق كبير وعميق من هذا التيار الذي يضطرد نموه، فهم يعتبرونه خطرا يتهدد الأسس العصرية التي يقوم عليها المجتمع التركي الذي أسسه كمال أتاتورك منذ أربعين سنة.

ولكن حكومة السيدسليمان ديميريل المحافظة وحزب العدالة الحاكم ينفيان وجود مثل هذا الخطر. ووجهه الرسمية تقوم على أساس أن الحوادث المتفرقة من الهجوم على أتاتورك تنظر فيها المحاكم الرسمية، وأما فيما عدا ذلك فيجب أن لا يكون ثمة قيود على حرية العبادة.

ظلت مسألة الحرية الدينية موضع خلاف شديد في تركيا منذ انتهاء الحكم الثيوقراطي (الديني) فيها. فلم يكن للعصبية الدينية الإسلامية أية وسيلة للتعبير في عهد أتاتورك ونظام الحزب الواحد، وإنما ظهر التيار الرجعي وبرز بعد أن تم إدخال نظام الديمقراطية البرلمانية عام 1950.

ص: 152

ففي ذلك الحين خفف الحزب الديمقراطي الحاكم الضغط عن العصبية الدينية، وسمح بها من أجل كسب وتأييد أصوات الجماهير في المناطق الريفية الكبيرة والمحافظة (قام انقلاب عسكري في تركيا عام 1960 وأطاح بحكم الحزب الديمقراطي الذي كان يرأسه عدنان مندريس، وأعدم مندريس بعد ذلك بسنة) واليوم يوجه اللوم إلى حزب العدالة الحاكم لاتباعه سياسة الحزب الديمقراطي، ومن الجدير بالذكر أن حزب العدالة يعتبر الوريث الطبيعي للحزب الديمقراطي.

تساهلات

والواقع أن دعاة البعث الإسلامي الجديد في تركيا يستمدون شجاعتهم - فيما يبدو- من الموقف المتساهل الذي تتخذه الحكومة الحالية. ففي كثير من المساجد بدأ الخطباء والأئمة يهاجمون إصلاحات أتاتورك، بل إن بعضهم دعا علنا إلى العودة للعمل بالشريعة الإسلامية. وحث بعضهم -وهم في فورة الغضب من الرداء القصيص (المينى جوب) - النساء على الاحتشام وتغطية أجسادهن ورؤوسهن.

كذلك فقد وقعت عدة حوادث ضد تماثيل وصور أتاتورك وهي توجد في كل مكان في البلاد. وبدأت الصحف والمجلات الرجعية تظهر فجأة - وبكثرة - في الشهور الأخيرة، بل لقد دعت بعض هذه الصحف والمجلات صراحة إلى العودة إلى نظام الحكم الديني (التيوقراطية) .

ومن جهة أخرى فإن ثمة عددا من المنظمات المغرقة في التدين قد بدأت تعمل وتنشط، وهي تقوم بتوزيع رسائل ونشرات تدعو فيها إلى تغيير الدستور القائم وإعادة نظام الخلافة، وأشياء أخرى كذلك. ومن المعروف أن هذه المنظمات تتلقى التوجيه والتشجيع من جماعة الإخوان المسلمين والمنظمات الإسلامية الموجود في البلاد العربية المجاورة.

وفي القرى تجد المعلمين المسلمين (الخوجا) ينشطون وينافسون المدارس العلمانية، والمشكلة الأساسية هي عدم وجود عدد كاف من المدارس العلمانية الرسمية في جميع القرى والمجتمعات الصغيرة ومن ثم يبقى المجال مفتوحا للمتدينين المتعصبين.

عدو

ص: 153

وفي أنقرة، أضرب طلاب كلية الشريعة احتجاجا على طرد زميلة لهم أصرت على ارتداء الخمار في قاعة الدرس. وقد طالب الطلاب باستقالة عميد الكلية ووصفوه بأنه - عدو الطلاب -ولقد تداولت الصحف بحث هذه القضية مطولا وهي الآن معروضة أمام البرلمان بعد أن تقدم بعض نواب حزب العدالة بطلب بحثها، وذلك دفاعا عن الفتاة.

هذا وقد قامت بعض المنظمات التي تطلق على نفسها أسماء - الوطنية – و المحافظة - بتنظيم مظاهرات عامة بحجة التنديد بالشيوعية وبالتنشيط اليساري المتزايد في البلاد. ولقد سار المتظاهرون في أنقرة واستانبول مؤخرا وهم يحملون أعلام خضراء - تمثل اللون الإسلامي - ورددوا هتافات تدعوا إلى - إعلاء كلمة الإسلام في تركيا – ولقد كانت هذه المظاهرات تناهض العلمانية والدعوة العصرية أكثر مما تناهض الشيوعية.

ومن جهة ثانية فإن مؤتمرا كبيرا للمنظمات اليمنية المختلفة عقد في أوائل شهر ابريل في مدية بورصة، ندد بإصلاحات أتاتورك وبثورة 1960.. وقد دعا الخطباء في المؤتمر إلى (إسلامية) المدارس والفنون والأدب - بما فيها المسارح ودور السينما كذلك! -.. كذلك فقد أعلنوا معارضتهم لتجديد اللغة التركية وألحوا في المطالبة بإلغاء المجلس العلمي للغة التركية - الذي يحاول تنقية اللغة التركية من الكلمات العربية - كما دعوا إلى جعل يوم الجمعة يوم العطلة الرسمية بدلا من يوم الأحد.

عداء

وتدخل السياسة كذلك في الحملة الجديدة، فيما يسمى بالمنظمات الوطنية والمحافظة، وأئمة وخطباء المساجد كذلك لا يقتصرون في موقفهم العدائي على مناهضة اليساريين فحسب، بل هم يعادون كذلك أكبر أحزاب المعارضة وهو حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك والذي لا يعتبر يساريا بل هو من اليسار المعتدل.

ص: 154

وتشتد هذه الحملة مع اقتراب الانتخابات المحلية الفرعية لمجلس الشيوخ، والمحدد لها يوم 2 يونيو.. وقد صرح عصمت اينانو زعيم حزب الشعب الجمهوري بأن هذه الحملة قد تؤدي إلى عداء حاد بين المواطنين، ولقد أصبحت حماية الأسس العلمانية التي تقوم عليها الجمهورية التركية ضرورة حتمية على جميع العناصر التقدمية في البلاد.

إن كثيرا من الأتراك مهتمون وقلقون مما يمكن أن يؤدي إليه التيار الجديد، وهم يتخوفون من أن هذا التيار قد يؤدي إلى انقسام عميق الجذور في صفوف الأمة، ويتهدد الاستقرار البرلماني في البلاد وقد علقت صحيفة (المدينة) السعودية على هذا المقال بما يلي:

الكاتب اليهودي الغيور على مصلحة تركيا يحرض على ضرب المسلمين فيها. تركيا كانت قلعة الإسلام في الماضي، وفي عودتها إلى حظيرته خطر كبير على أعدائه

ثمة عدد من الملاحظات تثار في الذهن لدى قراءة هذا المقال. وأولى هذه الملاحظات هي تخوف الكاتب وقلقه البالغ على ضياع العلمانية في تركيا. ذلك الحرص الذي يشبه في كلاحته حرص البخيل على جوهرة غالية ثمينة كلفته جهدا ومشقة كبيرتين حتى امتلكها. فالمقال يصور التيار الإسلامي الجديد في تركيا وكأنه غول رهيب يتجمع لينقض على الحمل الوديع الجميل الذي هو العلمانية، ويفترسه معملا فيه أنيابه تمزيقا وتقطيعا. ولا شك أن لهذا الخوف أسبابه الكثيرة.

ظلت تركيا فترة طويلة تقف عملاقا ضخما في وجه تيارات الصليبية والإلحاد التي حاولت غزو العالم الإسلامي. وكان وقوف تركيا هذه الوقفة السبب المباشر في فشل كل المخططات التي أعدت لإخضاع الشرق الأوسط لسيطرة أوروبا. ويشهد التاريخ أن الاستعمار الأوروبي لم يستطع أن يغزوا العالم الإسلامي إلا بعد ضعف تركيا. ومن ذلك كان المخطط الاستعماري المجرم سلخ تركيا عن صبغتها الإسلامية..

ص: 155

وواضح من المقال خوف الكاتب وذعره من الحقيقة الهائلة من حقائق دين الإسلام وهي أنه برغم مرور أربعين عاما على تأسيس المجتمع العلماني في تركيا التي كانت قلعة الإسلام فإن شبابا ناشئين قد بدأوا يركزون على الدعوة إلى العودة إلى الله. إن هؤلاء الشباب الذين نشأوا في ظلال وتحت سيطرة العلمانية نفسها التي يخشى عليها الكاتب.. قد عرفوا خواءها وهزالها، ودعوا بدعوة الحق. وأن الكاتب وأمثاله يعرفون أن معنى عودة الإسلام إلى تركيا وسيادته فيها عقيدة ونظام حياة سيعنى أن تعود للإسلام قلعته الكبرى، ومن ثم ينطلق انطلاقه جديدة تقضي على محاولات ومخططات أعدائه. ومن هنا كانت دعوة الكاتب إلى أخذ الحذر من التيار الجديد.

والكاتب معذور - لا شك - في تخوفه، فهو يهودي عريق وعتيق، وهو يعلم أن انطلاقة إسلامية جديدة ستعني - من بين ما تعني - إعادة الحق إلى نصابه في فلسطين، واقتلاع الوجود اليهودي فيها من جذوره، وهذا تفسير علامات الهلع في مقالته.

ولكن دعوة الإسلام ستنطلق إن شاء الله، وتحطم العلمانية وأسسها، وتزيل ذلك الذل الذي جلبته على تركيا المسلمة، والذي من مظاهره أن يهوديا مثل سام كوهين هذا، يكتب مقالا يحذر فيه من الإسلام بحجة التخوف على (مكاسب) العلمانية. ألست ترى حقده الأسود، ومكتنفات نفسه الكالحة تلمح بين سطور مقاله، ودليل على ذلك تلك الشواهد التي استشهد بها. فهو ينكر على أئمة المساجد إنكارهم للبس المرآة الرداء القصيص (الميني جوب) ويتشفى من الفتاة المسلمة التي أصرت على ارتداء خمارها في قاعة الدرس. لماذا يرى كوهين أن بحث القضية في البرلمان أمرا ذا مغزى خطير؟..

ص: 156

والكاتب اليهودي يحرض تحريضا واضحا يضمنه سطور كلماته بأنه لا بد من اتخاذ إجراءات سريعة وفعالة لوقف التيار الإسلامي الذي يصفه بالرجعية (تماما مثل أدعياء التقدمية في بلادنا) قبل أن يلتهم هذا التيار العلمانية المحببة إلى كوهين وأمثاله من الحاقدين. والإجراءات التي يلمح إليها كوهين هي:

1-

إقصاء حزب العدالة الحاكم في تركيا عن الحكم لأنه (محافظ)(ومتساهل) ما يمكن لهذا التيار الإسلامي سبيل الانتشار والمد. وسواء كان هذا الإقصاء بانتخابات مزيفة أو بانقلاب عسكري جديد فالمهم عنده هو فرض حزب الشعب الجمهوري على حكم البلاد لأنه حزب أتاتورك، ولأنه سيقمع بشدة كل من ينتقد أتاتورك.

2-

توجيه ضربة قاضية إلى المنظمات الوطنية والمحافظة التي انتقدت ما اسماه - إصلاحات -أتاتورك، حتى لا تقوم لها قائمة، ولا مانع بعد ذلك إن جاءت الشيوعية إلى تركيا، نظرا لانعدام مقاومة اليمين بعد ضرب تلك المنظمات. أو ليست ستشجع البنات على لبس الرداء القصير (الميني جوب) وستغلق كلية الشريعة فلا يضرب طلابها من أجل زميلة؟

3-

حظر كافة الصحف والمجلات التي تدعو إلى التمسك بتعاليم الإسلام، نظرا لما يكتنفه وجود مثل هذه الوسائل الإعلامية من خطر، إذ تذكر الناس بماضيهم الإسلامي المجيد، فيسعون إليه بعد أن (حررتهم) منه العلمانية.

4-

تنظيم ضربة ماحقة تنزل بكل الحركات الإسلامية في البلاد العربية المجاورة لتركيا، حتى لا يتسرب نشاطها لتركيا

ص: 157

ولا بد لنا هنا من وقفة صغيرة لنمحص قول الكاتب اليهودي بأن الحركات التي تصطبغ بالصبغة الإسلامية تتلقى التوجيه والتشجيع من الحركات الإسلامية القائمة في البلاد العربية المجاورة. ترى كيف سبيل هذا التوجيه وما هي طبيعة ذلك التشجيع؟. إن الدولتين العربيتين الوحيدتين المجاورتين لتركيا هما سوريا والعراق، ولقد كانت العلاقات بين سوريا وتركيا طوال السنين الماضية علاقات غير طبيعية أو ودية. والحكم القائم في سوريا منذ خمس سنوات حكم يدخل في نطاق الأنظمة التي يصفها كوهين بأنها (تقدمية) وهو يعمل على سلخ سوريا من صبغتها الإسلامية، وهو لا يترك سبيلا للضرب على يد الحركة الإسلامية في سوريا إلا ويتبعه. والحركات الإسلامية هناك ليس لديها وقت يكفيها لأداء واجبها في مقاومة الزحف الإلحادي الذي يدعمه الحاكمون، وإيقافه عند حده. وأما في العراق فقد بدأت العلاقات بين تركيا والعراق مؤخرا تتجه إلى العودة إلى سابق عهدها بعد توتر طويل. وأين الحركة الإسلامية في العراق؟، وأين جماعة الإخوان المسلمين الذين يشير إليهم كوهين وإلى نشاطهم ودعمهم للمد (الرجعي) في تركيا؟.

إن كوهين إنما يحرض على ضرورة توجيه ضربة قاصمة لكل الحركات الإسلامية في بلاد العالم الإسلامي حتى لا يتردد صوت الإسلام فيزعج حسه المرهف، وحس أمثاله من اليهود الحاقدين. ففي ظهور الإسلام نهايته ونهاية إسرائيل واليهودية العالمية.

ترى هل نتنبه إلى خطر اليهود كما يتنبهون إلى أخطارنا؟ وهل نعي كلمة هذا اليهودي أم ستمر كما مر غيرها كثيرا؟.

لا حرية في الهدم

من أراد أن يحمل المعول ليهدم بيتي لا أتركه يتم عمله باسم الحرية، ولكن آخذ على يده باسم الحق، ولا أدعه يتلذذ بمناظر الخراب باسم الفن، ولكن أجرعه مرارة العقاب باسم القانون.

((هكذا علمتني الحياة))

---

(1)

من كتاب الحكومة الخفية.

ص: 158

معركة الإسلام على مدى التاريخ

للشهيد سيد قطب

إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائما هو الذي بصورة هذه الآيات: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} .

لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين، وسنتكلم أولا عن المشركين ثم عن أهل الكتاب:

وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إنما ختم بهذه الرسالة، وأن موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق، فإن أبعاد المعركة تترامى، ويتجلى الموقف على حقيقته، كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء!.

ماذا صنع المشركون مع نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وشعيب، وموسى، عليهم صلوات الله وسلامة والمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع المشركون مع محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به كذلك؟ .. إنهم لم يرقبوا فيهم إلاٍ ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم..

وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار؟ ثم ماذا يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرنا بالمسلمين في كل مكان؟ .. إنهم لا يرقبون فيهم إلاٍ ولا ذمة، كما يقرر النص القرآني الخالد..

ص: 159

عندما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية والتي نكتفي فيها بمقتطفات سريعة من تاريخ أبي الفداء (ابن كثير) المسمى (البداية والنهاية) فيما رواه من أحداث عام 656هـ:

"ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان. ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشو ش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أيام لا يظهرون. وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسلحة حتى ترى الميازيب من الدماء في الأزقة فإنا لله وإنا له راجعون - كذلك في المساجد والجوامع والربط. ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم (1) وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار اخذوا أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.

ص: 160

وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.. وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الموقعة. فقيل ثمانمائة ألف. وقيل ألف ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس - فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم - وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما.. وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر، وعفي قبره وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام.. وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة. ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم..

وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبدا لله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحد بعد واحد. منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين ايبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.. وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي ابن النيار. وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن. وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد.."

ص: 161

"ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما، بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون. فإنا لله وإنا إليه راجعون.."

"ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا، فلا يعرف الوالد ولده، والأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى..".

هذه صورة من الواقع التاريخي، حينما ظهر المشركون على المسلمين فلم يرقبوا فيهم إلاٍ ولا ذمة.

فهل كانت صورة تاريخية من الماضي البعيد الموغل في الظلمات، اختص بها التتار في ذلك الزمان؟

ص: 162

كلا! إن الواقع التاريخي الحديث لا تختلف صورة عن هذه الصور!.. إن ما وقع من الوثنين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد.. إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند -ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فأثروا الهجرة على البقاء - قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط! أما الملايين الخمسة الباقية فقد قضوا في الطريق.. طلعت عليهم العصابات الهندية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيدا والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية، فذبحتهم كالخراف على طول الطريق، وتركت جثثهم نهبا للطير والوحش بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة لا تقل - إن لم تزد - على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد!.. أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان، حيث تم الإنفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان، واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف.. ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية.. وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار!. لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة القطار في النفق، ولم تسمح له بالمضيء في طريقة إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء!. وصدق قول الله سبحانه:{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّة} .. وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى حتى الآن..

ص: 163

ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك؟.. لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليونا.. بمعدل مليون في السنة.. وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق.. ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان. لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين، فحفرت له حفرة في الطريق العام، وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب، أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية - التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعا لتستخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام!! - فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته.. وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات!.

كذلك فعلت يوغوسلافيا بالمسلمين فيها. حتى أبادت منهم مليونا منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي - التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين في (مفارم) اللحوم التي تصنع لحوم (البولوبيف) ليخرجوا من الناحية الأخرى عجيبة من اللحم والعظام والدماء - ماضية إلى الآن!!.

وما يجري في يوغوسلافيا يجري في جميع الدول الشيوعية والوثنية.. الآن.. في هذا الزمان.. ويصدق قول الله سبحانه: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} ، {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} ..

هذا ما كان من شأن الوثنين حينما ظهروا على المسلمين، فماذا كان من شأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى؟

فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم وحربهم، وقد وعى التاريخ من ذلك كله مالم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة!.

ص: 164

ولسنا هنا في مجال عرض هذا التاريخ الطويل، ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ..

لقد استقبل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولا يعرفون صدقه، ودينا يعرفون أنه الحق..

استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود.. شككوا في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه، واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو، وبالتهم والأكاذيب. وما فعلوه في حادث تحويل الكعبة، وما فعلوه في حادث الإفك، وما فعلوه في كل مناسبة ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم.. وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم، وسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير..

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} .. [البقرة 89- 90]

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .. (البقرة 101) .

ص: 165

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .. (البقرة 142) .

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟} . (آل عمران 70-71) .

{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . (آل عمران 72)

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . (آل عمران 78)

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . (آل عمران 89-99) .

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَات..} . (النساء 153) .

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .. (التوبة 32) .

ص: 166

كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر. كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب مما هو معروف مشهور. ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ.. كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير.. وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي رضي الله عنه ومعاوية.. وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير.. وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية..

فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض، وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي، وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي!.

ذلك شأن اليهود، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب فهو لا يقل إصرارا على العداوة والحرب من شأن اليهود!.

لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون.. ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة، وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته.. (المسيحية) وهو ركام من الوثنيات القديمة، والأضاليل الكنسية، متلبسا ببقايا من كلمات المسيح- عليه السلام وتاريخه.. حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخية قديمة، وعداوات وثارات عميقة ليواجهوا هذا الدين الجديد.

ص: 167

ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين، وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامل بصري من قبل الروم، وكان المسلمون يؤمنون الرسل ولكن النصارى غدروا برسول النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوه مما جعل رسول الله يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدا لله بن رواحه، في غزوة (مؤتة) فوجدوا تجمعا للروم تقول الروايات عنه: إنه مائة ألف من الروم ومعهم من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى، وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل. وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة.

ثم كانت غزوة تبوك التي يدور عليها معظم سورة التوبة. ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته، ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر رضي الله عنه إلى أطراف الشام، لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين! ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال افريقية وجزر البحر الأبيض، ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية.

ص: 168

إن (الحروب الصليبية) المعروفة بهذا الاسم في التاريخ لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام.. لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير.. لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد.. منذ أن نسي الرومان عداوتهم مع الفرس، وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة. ثم بعد ذلك في (مؤتة) ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة.. ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عندما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربا، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيرا من قبل.. وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم، ولا تراعي في المسلمين إلا ولا ذمة..

ومما جاء في كتاب (حضارة العرب) لجوستاف لوبون وهو فرنسي مسيحي "كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب، مما بكرة أبيهم فقتل منهم اثنا عشر ألفا وألقى الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة! ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص، حين منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا. أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد أثناء مرضهما"(1) .

كذلك كتب كاتب مسيحي آخر اسمه (يورجا) 2 يقول:

ص: 169

"ابتدأ الصليبون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها. وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون، ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبين، ووفى لهم بجميع عهوده، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطؤوهم مهاد رأفتهم، حتى أن الملك العادل شقيق السلطان، أطلق ألف من الأسرى ومنّ على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن".

ولا يتسع المجال هنا لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية - على مدى التاريخ - ولكن يكفى أن نقول: إن هذه الحروب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية. ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثا حيث أبيد المسلمون فيها عن جوعا وعطش، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد!. ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في أريترية وفي قلب الحبشة، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال!. ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي!.

ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه:

"لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة ولكنا بعد اختبار لم نجد مبررا لمثل هذا الخوف.. لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، والخطر البلشفي. إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه! إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد!. ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا. أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها. ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي"(1)

---

ص: 170

[1]

ذلك أن اليهود والنصارى (من أهل الذمة) كانوا ممن كاتب التتار لغزو عاصمة الخلافة والقضاء على الإسلام والمسلمين فيها، وممن دلوا على عورات المدينة وشاركوا مشاركة فعلية في هذه الكارثة، واستقبلوا التتار الوثنيين بالترحاب، ليقظوا لهم على المسلمين الذين أعطوهم ذمتهم ووفروا لهم الأمن والحياة.

[2]

نقلا عن كتاب، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام للأستاذ علي منصور.

[3]

من كتاب جورج براون نقلا عن كتاب: التبشير والاستعمار في البلاد العربية للدكتور مصطفى خالدي، والدكتور عمر فروخ.

ص: 171

مكتبات المدينة ومخطوطاتها

للشيخ محمود ميره

المدرس في الجامعة

كانت المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى، منها انطلقت رسالته تحمل إلى العالم أروع حضارة عرفها الإنسان أو سيعرفها، وقد كان العلم في مقدمة الأسس التي شيد عليها صرح هذه الحضارة الشامخ، وكلنا يعلم كم حض الإسلام على طلب العلم، وكم رفع من شأن العلماء، وكم أقبل المسلمون على الدرس والتحصيل حتى ملؤوا العالم الإسلامي من قرطبة إلى القاهرة، ومن دمشق إلى بغداد.. إلى بخارى وسمرقند كتبا ومكتبات، بحيث عاش العالم كله تحت سيطرة المسلمين الفكرية قرابة خمسة قرون!!

ولولا الحروب الداخلية، والخصومات المحلية، التي أوهت العالم الإسلامي، وفتتت قواه، وعاقت مسيرته العلمية الحقيقية، لبقي لواء زعامة المعرفة معقودا للمسلمين حتى يوم الناس هذا.. وحسبنا أن نعلم أن جامعات الغرب كانت إلى عهد ليس ببعيد تعتمد على المؤلفات التي جادت بها قرائح المسلمين، وأضاءت من آفاق المكتبات الإسلامية، فكتاب (القانون في الطب) لابن سينا لبث من القرن الثاني عشر حتى القرن السابع عشر الكتاب الأول الذي تعول عليه جامعات فرنسا وإيطاليا كلها في دراسة الطب، بل كانت المحاضرات تلقى حوله حتى بداية القرن التاسع عشر!! وقد أتى على باريز حين من الزمن كان كتاب (الحاوي) للرازي أحد تسعة مراجع تتألف منها مكتبة الهيئة الطبية فيها!!

ص: 172

فليس من المستغرب – إذن- أن نرى المدينة المنورة، عاصمة الإسلام الأولى، تملأ المكتبات جنباتها، فالحرم المدني - مثلا - يضم مكتبتين عظيمتين هما المكتبة المحمودية، ومكتبة الحرم، وتقع إلى جانبه من الجهة الجنوبية مكتبتان أخريان هامتان هما مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، ومكتبة المدينة المنورة، وقد ضمت هذه المكتبات كثيرا من المخطوطات التي تعتبر من عيون التراث الذي خلفه لنا أجدادنا الأفذاذ.. وبودنا أن نعرف بأهم هذه المخطوطات خدمة للعلم وإنقاذا من الإهمال وربما الضياع، ومخطوطتنا التي سنتكلم عنها اليوم هي لعالم علامة، وحافظ فذ واع، هو الإمام أحمد بن الحسين البيهقي.

وصف المخطوطة

عدد أوراقها 285 ورقة قياسها 21×14سم في كل صفحة 23سطرا، في كل سطر 11كلمة خطها جيد وصفحاتها مذهبة الإطار.

لم تبين سنة كتابتها، ويظهر أنها من خطوط المتأخرين، ولا يوجد عليها سماعات ولا بلاغات ولا مقابلات من أولها إلى أخرها وهي بحالة سليمة.

مجموعة للبيهقي

عدد أوراقها: 285ورقة رقم 78مجاميع حديث.

تضم الكتب التالية:

1-

مجموع كلام الإمام الشافعي رحمه الله في أحكام القرآن العظيم. عدد أوراقها 2-82

2-

كتب الانتقاد على أبي عبد الله الشافعي رحمه الله. عدد الأوراق: 82- 116.

3-

كتاب حياة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. عدد الأوراق 116- 132.

4-

الكلام على حديث الجد يباري عدد الأوراق: 132-221.

5-

إثبات عذاب القبر. عدد الأوراق: 221-225.

6-

كتاب بيان خطأ من أخطأ على الشافعي رحمه الله. عدد الأوراق 225-230

7-

جماع أبواب قراءة القرآن في الصلاة على الإمام والمأموم. عدد الأوراق: 230-235.

8-

فصل في الخاتم من كتاب الجامع له رحمة الله تعالى. عدد الأوراق: 235-243.

9-

رسالة إلى أبي محمد الجو يني رضي الله عنه. عدد الأوراق: 243-285.

التعريف بالكتاب الأول

ص: 173

وصف جزء من مجموع كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في أحكام القرآن قال البيهقي في الصفحة الأولى:

"وقد صنف غير واحد من المتقدمين والمتأخرين في تفسير القرآن ومعانيه وإعرابه ومبانيه، وذكر كل واحد منهم في أحكامه ما بلغه علمه وربما يوافق قوله قولنا وربما يخالفه، ولقد رأيت من دلت الدلالة لنا على صحة قوله أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله قد أتى على بيان ما يجب علينا معرفته من أحكام القرآن، وكان ذلك مفرقا في كتبه المصنفة في الأصول والأحكام فميزته وجمعته في هذه الأجزاء على ترتيب المختصر ليكون ذلك منه على من أراده أيسر

"

ثم قال: "فصل ذكره الشافعي في التحريض على تعلم أحكام القرآن".

ثم ثنى "فصل في معرفة العموم والخصوص".

ثم ثلث "في فرض الله عز وجل في كتابه اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم".

ثم "فصل في تثبيت خبر الواحد من الكتاب".

حيث كتب في آخر النسخة ما يلي:

"نقل من أصل نسخة مسموعة على الشيخ الإمام أبي محمد عبد الجبار محمد الجواري البيهقي بروايته عن المصنف سماعا أو بالإجازة التي لا شك فيها بقراءة أحمد بن إسماعيل القزويني، وسمع المرادي وابن فادوا ولعالي الطبري، وعورض بها والحمد لله أولا وآخرا.

وعلق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في آخر هذا الجزء بأنه الجزء الأول فقط.

كتاب بيان خطأ من اخطأ على الشافعي رحمه الله

قال البيهقي في ص 2:

"ثم حين صنفت كتاب معرفة السنن والآثار عن الشافعي تبينت فيه ما عثرت عليه من خطأ من اخطأ عليه في الأخبار، فسألني بعض إخواني من أهل العلم بالحديث إفراده بالذكر عن كتاب المعرفة لما فيه من زيادة المنفعة لمن تتبع السند أو المختصر في الوقوف عليه ولم يهتد من كتاب المعرفة إليه فأجبته

"

حديث في العقول

حديث في السواك

حديث في فضل الوضوء وثوابه

لم يذكر في آخرة أي شيء.

عدد الأوراق: 81-114.

ص: 174

الأول والثاني من الانتقاد على أبي عبدا لله بن إدريس الشافعي. رحمه الله تعالى

أما بعد فقد انتقد على الإمام الشافعي بعض المخالفين حروفا من العربية زعموا أنه خالف فيها أهل اللغة، وقد ذكرنا في كتاب المناقب في الجزء العاشر منه شهادة جماعة من أئمة أهل اللغة للشافعي رحمه الله بأنه إمام في اللغة، وأن قوله فيها حجة. فأول ما نتقد عليه قوله:115- 130

جماع أبواب وجوب قراءة القرآن في الصلاة على الإمام والمأموم والتفرقة في كل ركعة منها وبيان تعيينها بفاتحة الكتاب

أوله: الدليل على أن قراءة القرآن ركن في الصلاة وأنها واجبة في كل ركعة منها. 131-219 ص (220) كتاب:

فيه ما ورد في حياة الأنبياء صلوات الله عليهم بعد وفاتهم، وفصل في كتاب الجامع في الخاتمة، والكلام على الحديث الذي رواه أحمد بن عبد الله الجويباري بإسناده عن عبد الله ابن سلام وفيه ألف مسألة سئلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

جمع الشيخ أبي بكر أحمد بن الحسي البيهقي رحمه الله.

رواية ابنه أبي علي إسماعيل بن أحمد أنبأ به عنه الشيخ الإمام الحافظ أبو بكر محمد ابن عبد الله بن أحمد بن جيبة العامري البغدادي أيده الله، وأخبرنا بكتاب الأنبياء وبالفصل في كتابه إلينا من نيسابور الشيخ الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوا زن القشيري عن البيهقي.

كتاب حياة الأنبياء

220-

224

فصل من كتاب الجامع في الخاتم 225-229

الكلام على حديث الجويبباري 230- 233

رسالة نفذها الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي إلى الإمام أبي محمد الجو يني مستدركا فيها عليه في أول تصنيف شرع فيه سماه المحيط استدراكا فيما يتعلق بعلم الحديث وغيره.

234-

242

وهي رسالة مهمة. قال في أخرها: "فلما وصلت إليه هذه الرسالة وقرئت عليه قال هكذا بركة العلم وترك تمام التصنيف".

ص: 175

كتاب إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين على ما وردت به الشريعة بالآيات المتلوة والأخبار المروية، وأتى قبل سلف هذه الأمة مع جواز ذلك بالفعل في قدرة الله سبحانه وتعالى. 243- 285

ختم ب أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا العباس ابن محمد حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبو عقيل عن يزيد بن عبد الله بن الشخير قال:

"بينما رجل يسير في أرض إذ انتهى إلى قبر فسمع صاحبه يقول: آه آه فقام على قبره قال:

فضحك عملك وافتضحت". تم بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً كثيرا.

اتفق الفراغ منه يوم الاثنين خامس عشر ربيع الأول من سنة ست وعشرين وستمائة بدمشق على أصله ما صورته رأيت في نسخة الإمام أبي مسعد السمعاني الذي نسخ هذه النسخة وهو كتاب الزهد في خمسة أجزاء منه هذه النسخة ما صورته هذه: قرأ كتاب الزهد الكبير الإمام الحافظ أبو القاسم على بن الحسين بن هبة الله الدمشقي على أبي القاسم السماعي وسمع

زاهر والإمام الأمير أبو المعالي طفر لشاه بن محمد بن الحسين الكاشفري في رجب سنة ثلاثين وخمسمائة بنيسابور نقله ابن الوزير الدمشقي من خط الإمام الحافظ زاهر بن طاهر بن محمد الشحامي حرس الله جماله وغفر له.

في جمادى الآخر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة بمرو والحمد لله وحده. نقله كما شاهده عبد الجليل بن عبد الجبار..

قوبل بأصل الحافظ أبي القاسم الذي بخطه والحمد الله وحده.

هذا وللبحث بقية ستأتي إن شاء الله نوضح كل رسالة وكتاب من الرسائل والكتب المتقدمة، ونذكر إن كان مطبوعا أو لازال في عالم الغيب مخطوطا، ونذكر النسخ الموجودة منه في المكتبات العالمية، ونشير إلى أهمية هذه المخطوطات ونعرف بالتفصيل بكل منها.

ص: 176

ملحمة قرآنية

للشيخ محمد المجذوب المدرس في الجامعة

قصة موسى للقلوب ذكر

لا تنتهي، وللعقول عبر

اليتم وافاه إلى بطن أمه

واستقبل الفقر بزوغ نجمه

وصب فرعون على الأطفال

من قوم موسى حمم الِنكا

مجزرة رهيبة عصيبة

قد نال منها جلهم نصيبه

وذاك أن الكاهنين أخبروا

أن هؤلا كاسحا سيظهر

يكون في حلوله النهاية

لعرشه، وفي رداه آية

وكل ذا على يدي وليد

من آل يعقوب على التحديد

فلم يجد جسرا إلى النجاة

إلا على الأشلاء والهامات

فأترع الغاشم بالدم الثرى

وأتخم السياط من لحم الورى

من كل مولود بعمر البرعم

لم يقترف نكرا ولما يأثم

حتى رأى الجزار أن الخطرا

قد زال عن حياته وانحسرا

-2-

وذات يوم حمل الماء إلى

حدائق الطاغي وعاء مقفلا

فأقبلوا يستطلعون أمره

ليحملوا إلى الظلوم سره

ففوجئوا بطلعة كالقمر

يزوي سناها برفيف الزهر

طفة تسبي القلوب والنه

بما تسربلت به من النهى

..وهم فرعون بأن يسلبه

حق الحياة يتحدى ربه

لكن أمر الله كان الغالبا

فكف عنه لطفه المعاطبا

وهكذا احتواه قصر القاتل

فكان فيه بهجة المحافل

كل يود لو يراه راضيا

عنه ليحظى بالثناء غاليا

وهكذا صين من الإيذاء

وهو بكف شارب الدماء

في غمرة اللظى ولا يحترق

لا بدع فالله هو الموفق

أن يرد الأمر يسهل سبله

حتى ترى أعداءه يسعون له

فهم برغم أنفهم في خدمته

ليعلن الله خفي حكمته

.. وأمسك الطفل عن الأثداء

وعاف كل لبن وماء

فانطلقوا يلتمسون مرضعة

تسعد ذا الطفل ولا تشقى معه

وكانت أخته تقص أثره

عن كثب وتستبين خبره

فابتدرت ترشدهم إلى اللتي

لما تزل ترقبه في لهفة

ورد للأم فطارت جذلا

بعد فراق كاد يمحوا الأملا

- 3-

وراح موسى في ظلام الكفر

يشب كالواحة وسط القفر

ما أن تزيده خطى الليالي

إلا نفارا من أولي الضلا

.. وهاله البغي الذي رآه

يصبه الطاغي على أسراه

فبات يغلي صدره بالحنق

على أولئك العتاة النزق

لكنه لم يدر ماذا يصنع

وهو الذي ليس له من يسمع

وذات يوم بينما يسير

ص: 177

بين الجموع وهو لا يحير

أتاه صوت خائف مظلوم

يلتمس العون على ظلوم

فلم يطق صبرا على ما وجدا

ووكز العادي فوافاه الردى

فبات موسى خائفا يرتقب

حصاد ما جر عليه الغضب

ولم يطل مقامه حتى مضى

مسلما زمامه إلى القضا

-4-

وبعد لأي ساقه التيار

إلى شعيب، ولنعم الجار

وقص فحوى أمره عليه

ثم أصاخ مطرقا إليه

فقال: أنت آمن في كنفي

ومن يعذ بربه لم يخف

ولبث الفتى بظل مدينا

ثمانيا كن له فوق المنى

حتى إذا وفى صداق أهله

فارقه في لهفة لأهله

وفي الظلام أدرك المخاض

أم بنية، وخلا الوفاض

ولاح عن بعد له لألاء..

فقال: دفء ذاك أو ضياء

لكنه ما أن دنا حتى سرى

في سمعه مالم يكن منتظرا

..ورقت النجوى وطاب الكلم

ونال موسى علم مالا يعلم

ومن هنا مضى نبيا مرسلا

يحمل أمر الله والآي العلى

-5-

وما سوى إيمانه من عون

واقتحم القصر على فرعون

محاولا بث الهدى في قلبه

وبلغ الطاغي وحي ربه

ولم يزده اللين إلا عسرا

لكنه لم يبد إلا كبرا

ذاك الغشوم المستبد العاتي

وظل رغم رؤية الآيات

لقهر موسى كل من به اشتهر

قد ظنها سحرا فنادى فحشر

عند ازدحام القوم في المدينة

وجعل الموعد يوم الزينة

واظطرم البغي، وجن الغي

وصفت الأحبل والعصي

فخيلوا الساق إليهم رأسا

واسترهب المشعوذون الناسا

لولا نتداء من وراء الحجب:

وكاد يعرو الخوف أعصاب النبي

إذن ترى الباطل كيف يزهق

لا تخش واقذف بالعصا ما اختلقوا

إذا أبصروا خلف عصا موسى الهدى

هنا خر الساحرون سجدا

فطاش حتى لم يطق من صبر

وكان فرعون يرى ما يجري

كادت تشل فجأة سريرة

ويالها فضيحة كبيرة

يكبح عنه يقظة الألباب

لذاك لم يلف سوى الإرهاب

مقطعي الأوصال والأعضاد

فعلق القوم على الأعواد

إلا الذي تشاهدونه هنا

يقول: ليس للعصاة عندنا

عن أمرنا.. والويل للمخالف!

ذاك المصير حظ كل صادف

-6-

وامتحنت مصر بالآفات الكبر

من شؤم فرعون ورهطه الأشر

فالدم والقمل والضفادع

بعض الذي جاءت به الفجائع

فلم يروا منجي من الدواهي

ص: 178

إلا بإطلاق عباد الله

فقاد موسى تلكم الأساري

إلى عرين الأسد في الصحاري

لينفضوا عن طبعهم ما علقا

من دنس الذلة في عهد الشقا

لكن فرعون ومن قد صانعه

رأوا خلاص القوم خسرا وضعه

لذا عدا وراءهم بقوته

يريد ردهم لصون هيبته

فصاح: كلا.. لا مكان للوهن

إن معي ربي سيدفع المحن

-7-

وجاءه الوحي: أن أضرب بالعصا

في البحر يفسح للحيارى مخلصا

وشد فرعون وراء القوم

فكان للباغين شر يوم

إذ أطبق الموج عليهم أجمعا

فلم يدع لراج مطمعا

وهاهنا أقر فرعون بما

أنكر من قبل عنادا وعمى

يهتف آمنت برب موسى

والموت ماض يخطف النفوسا!

وأبهج المستضعفين أن يروا

معذبيهم يصطلون ما جنوا

.. ويقذف البحر أخيرا بدنه

لينشق المضللون تتنه

فيعلموا أن الذي قد عبدوا

لم يك إلا جيفة وتفسد!

-8-

لكن موسى لم يجز ذا الخطرا

حتى تلقى من يهود الأخطرا

فكم عليه فتنه أثاروا

وفرية ليس لها قرار

حتى لقد رموه بالفجور

وهو الذي في الطهر صنوا النور

وكان ذا على يدي قارون

ويل أمه من آفك مأفون

أثقله الله بأعباء النعم

فقابل الفضل بأصناف النقم

وراح يستعدي على الرسول

كل دني النفس والميول

حتى لقد أغرى به، وما أرعوى،

ذات سفاه من حظيات الهوى

زودها بالتهم الحقيرة

ومدها بالمنح الكبيرة

فأقبلت تقذفه بالمنكر

في قحة الوغد، وكيد الفجر

ويا لهول المأزق المضعضع

أي حجي في مثله لم يضع

لكنها النبوة العلية

موصولة بضابط البرية

سر من الله الذي لا يغلب

وليس عن عينية شيء يعزب

فثق إذا بنصره يا موسى

ألست في عصمته محروسا؟

-9-

وفي وقار الرسل الهداة

واجه موسى خطط الغواة

فقام يستنطقها مستحلفا

بمن لهم شق الخضم واصطفى

(إلا كشفت عن دفين الصدر

حتى يبين الحق دون ستر)

ولم تطق صبرا على الكتمان

أمام ذاك الوازع الرباني

فاندفعت تصرخ في غير هدى:

قارون قد أضلني وأفسدا،،

واتضحت قواعد المؤامرة

لكل ذي بصيرة وباصره

فلم يعد خيرا بقاء الظالم

يشيع روح الإثم والمظالم

فأمر الله الثرى فامتثلا

ص: 179

لأمر موسى وغدا مذللا

فصاح: يا أرض خذيه وابلعي

قصوره وما حوت من متع

وغاص قارون.. وغاص الذهب

وعقد الألسن ثم الرهب

وقال كل راغب في ما ملك

الحمد لله نجونا وهلك

لو لم يمن ربنا علينا

لساق مثل خزيه إلينا!

-10-

وهكذا يرتفع اليتيم

ويسقط الظلوم والعظيم

وكم بذاك وبذا من عبر

يتحفنا لها لسان القدر

ليعلم المستيئسون الغفل

بأن نصر الله حتما مقبل

وليس فرعون وقارون إذن..

سوى مثال البغي في كل زمن

يكرر التاريخ فيه نفسه

فيومه يكاد ينسي أمسه

فانظر هنا، ثم تأمل ثما

تر الأباة يجرعون السم

حتى العذاري يقتحمن الحمما

مهتكات يجتررن العلقما

وليس من ذنب سوى الإيمان

أن لا حياة بسوي القرآن

وكل ما يدعونه عدالة

في غيره ليس سوى ضلالة

..فقل لجلادي الهداة الشرفا

والقاذفي بالإفك جند المصطفى:

الله أعلى منكم وأقدر

ومكره من كل مكر أكبر

لكنه يمهل أهل الباطل

حتى تموت حجة المجادل

وعند ذاك يبدأ الحساب

والويل حين يهجم العذاب

وقد لمستم – لو عقلتم – نذره

بالنكبات السابقات غيره

فالنمل والسيول والحرائق

والجدب والإفلاس والبوائق

حتى حقولكم، وكانت مصدرا

للرزق غاض خيرها فما يرى

فأنتم لولا هبات الغربا

ما وجدت بطونكم غير الهبا

وليتكم تنتفعون بالنوب

إذن دفعتم عن حماكم العطب

لكنكم ألفتم الظلاما

فلا ترون في الجنون داما

وهو لعمري الخلق القديم

يعيد ما قد لقي الكليم

فارتقبوا عواقب الجناة

واستيئسوا من أمل النجاة

.. ويا جنود الحق: صبرا إنها

هنيهة.. ثم يكون المنتهى.

ص: 180