المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العدد 3الإسلام والصراع الطبقي - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌العدد 3الإسلام والصراع الطبقي

‌العدد 3

الإسلام والصراع الطبقي

للدكتور محمود بابللي

تقوم بعض المذاهب الاجتماعية المعاصرة على فكرة الطبقية وتمايز بعض الطبقات على بعضها الآخر كما كانت عليه هذه الفكرة في العهود القديمة زمن اليونان والرومان، حيث كانت تسيطر هنالك طبقة السادة فقط، ولا قيمة للعبيد فيها. إذ أنهم مِلك يباع ويشترى ويتم التصرف فيهم استغلالا واستثمارا وتعذيبا على أبشع ما يمكن أن يتصور من الفوارق الصارخة بين هاتين الطبقتين.

حتى إن كلمة (ديمقراطية) لا تعني في مفهومها الحديث ما كانت تعنيه عند أهلها ومنشئي كلمتها، أي عند الأمة اليونانية، إذ أنها كانت تعني طبقة الشعب الحاكم، أي طبقة السادة، ولا وجود للطبقة المستغلة (العبيد) في مفهوم كلمة الديمقراطية القديم.

لذلك فإن كلمة (حكم الشعب للشعب) تعني آنئذ حكم طبقة السادة.

وكذلك الحال عند الرومانيين وما كانت عليه الطبقية لدى الفئة الحاكمة منهم، ومن يلوذ بها من أمراء وفرسان وغيرهم، ولا قيمة تذكر لفئات الفلاحين والطبقات المتوسطة والفقيرة وطبقة العبيد والأسرى.

وقد ظهرت فكرة الطبقية في زمننا الحاضر في مفهوم مغاير، وهو الصراع الطبقي بين الطبقة العاملة-من عمال وفلاحين-وبين طبقة الأغنياء أو متوسطي الحال، أو بين (الرأسمالية والاشتراكية) ومن بعدها الشيوعية، لأن الشيوعية هي الغاية للاشتراكية كما يعبر عن ذلك أصحابها.

وهذه الفكرة الطبقية أظهرت للوجود نوعان من الحكم المتسلط الغاشم باسم طبقة من الشعب ليس لها من هذا الحكم إلا الاسم ضد الطبقات الأخرى.

وتقوم هذه الفكرة على إثارة الصراع الدامي المستمر بين الطبقات وإيجاد الأسباب الدائمة لإثارته لإشغال الفئة المخدوعة به عن حقيقة أوضاعها

ص: 386

وكذلك تقوم هذه الفكرة على خلق جو من الاضطرابات والفوضى في كل بلد يمكن أن تعمل فيها هذه الأفكار لتتوهم الشعوب المخدوعة من أن الفردوس المنشود لا يتحقق إلا إذا قام هذا الصراع الدموي وانمحت الطبقات الغنية (الأرستقراطية والرأسمالية)

ولما كانت هذه الفكرة تستند إلى مذهب اجتماعي لا يؤمن بدين أو عقيدة لذلك فإنها تهدف إلى تهديم كل معتقد لا يكون مبنيا على الأسباب المادية وتعتبر أن الدين مخدر (أفيون) للشعوب، وتستغل تأخر بعض الشعوب المتدينة لتثبت لها من واقع تأخرها أن سبب هذا التأخر مردّه إلى هذا الدين الذي تعتنقه.

وأكثر ما يعتمد عليه أصحاب هذه الفكرة لترويجها هو واقع الشعوب وتأخر الكثير منها وسيطرة القوي منها على الضعيف، وأن هذه السيطرة ناشئة عن الفكرة الاستغلالية المتولدة عن الرأسمالية وأن التقدم العلمي لا يجتمع أو يأتلف مع الأفكار الدينية التي تشل من قدرة هذا التقدم عن أن يأخذ سبيله دون عائق.

ويعللون لمزاعمهم هذه بواقع الأمم الأوربية في العصور الوسطى عندما كانت الكنيسة مسيطرة، وما انقلبت إليه أحوال هذه الأمم بعد ما انعتقت من أسار هذه السيطرة الكهنونية حتى إنهم يسمون هذا المنطلق بداية عصر النهضة.

ص: 387

وقد انخدع بعض المثقفين ثقافة غربية من المسلمين وأخذوا بهذه الحضارة المادية وهذا التقدم الكبير وظنوا-وهما منهم-أن الدين الإسلامي عائق للأمة الإسلامية عن الانطلاقة في هذا الميدان وأنه يحرّم النظر والبحث في مثل هذه المسائل، وأن علم الدين يقتصر على الأمور التعبدية وبعض المعاملات المالية التي كانت معروفة في العصور الغابرة، وأن القرآن قد أدى مهمته في العصر الذي أنزل فيه وأنه لا يمكن أن يُتخذ دستورا-كمفهوم الدساتير الحديثة في هذا العصر-لأنه كتاب يتعلق بالأمور التعبدية ولم يقصد منه أن يكون كل شيء في حياة الناس وإن صح أن الإسلام فيه من المفاهيم الأخلاقية ما نجعله دعوة أخلاقية سامية، فإن هذه المفاهيم لا تكفي وحدها ليبنى عليها نهضة علمية كهذه النهضة المعاصرة، وشتان بين ما وصل إليه الغربيون والشرقيون من مستويات عالية جدا في شتى العلوم وبين ما عليه الأمة الإسلامية مع اختلاف الأجناس فيها. مما يؤكد أن الوحدة الجامعة التي تشد بهؤلاء إلى الوراء هي الدين والدين وحده.

هذه هي حجة بعض المثقفين الغربيين (من المسلمين) وحجة المخدوعين بهم وبالمظاهر المادية المتعددة الجوانب في الحضارة المعاصرة.

ولو محّصنا هذه الحجة تمحيصا دقيقا لوجدنا أنها حجة واهية لا تستند إلى أساس، وسنورد بعض النقاط الرئيسية التي يمكن أن تشير إلى ضعف هذه الحجة وعدم إمكانية اتخاذها مستندا لتبرير هجر التعاليم الإسلامية وعدم الأخذ بها.

وأول هذه النقاط، وأعتقد أنها أهم النقاط الأخرى وهى:

1-

جهل هؤلاء المثقفين بعقيدتهم الإسلامية وبما تتضمنه هذه العقيدة من أسس قويمة.

وقد قيل في الأمثال العربية: "من جهل شيئا عاداه". وهؤلاء معذورون من هذه الناحية لأنهم يجهلون حقيقة الإسلام.

ص: 388

ولو سألت أحدا منهم أن يذكر لك ما يفقهه من الإسلام؟ لقال لك: إنني ولدت من أبوين مسلمين ووجدتهما يعتنقان الإسلام دينا فنشأت أقلدهما في هذا المعتقد وأقوم بما يقومان به من عبادات. أو أقلدهما فيما يقومان به دون أن أفقه الفائدة من هذه العبادات لأنني لم أجد لها مردودا أو أثر إيجابيا في نفسي كما لم أجد ذلك فيهما ولا في محيطي الذي أعيش فيه ولا في واقع المسلمين كلهم.

وإن هذه هي الحقيقة بالنظرة التي تنطبق على واقع الأكثرية من المسلمين. إذ هم الغالبية العظمى، فكيف تريد من هذه الكثرة أن تعطي انعكاسا صحيحا عن الإسلام ما دامت تعيش على هامشه ولا تعرف منه إلا صورا مشوهة من مظاهره فتزعم أنها أمة مسلمة وتحسب نفسها في عداد المسلمين، وليس بينها وبين الإسلام إلا صلة الاسم الوراثي.

والنقطة الثانية هي:

2-

الأسباب التاريخية في تخلف المسلمين الحالي:

ص: 389

تحفل كتب التاريخ بذكر الانقسامات التي حصلت في البلاد الإسلامية نتيجة لعوامل متعددة أهمها الترف وثانيها: انشغال أولي الأمر بأنفسهم للحفاظ على مكاسبهم الشخصية الكيد لبعضهم بعضا، وثالثها: انصراف العلماء عن أداء واجبهم من الجهر بالحق والوقوف إلى جانبه_باستثناء أفراد أفذاذ لا يخلوا زمان منهم-ورابعها: استغلال أعداء الدين وعلى رأسهم الشعوبيون لهذه التفرقة والعمل على توسعتها والحصول على مكاسب بسببها. وخامسها: انصراف الخاصة والعامة من المسلمين عن متابعة الجهد العلمي والتفوق قيه إلى مراقبة هذا الصراع المتجدد والمتعدد بين زعماء الأمة الإسلامية وانغماس أكثرهم فيه. وسادسها: حصول النكبات الطبيعية والهجمات البربرية التي قوضت أركان المعارف والعلوم مرات عدة. ومن ثم ما يعقب هذه الهزات من ركود طويل نسبيا إلى أن خالطت الأمم الغربية الأمة الإسلامية إبان الحروب الصليبية وأخذت عنها الكثير من حضارتها زيادة عما كانت اقتبسته منها عن طريق الأندلس أو البحر الأبيض المتوسط الذي كان يدعى آنئذ (بحر العرب) . واستمر هذا التقارب مدة طويلة من الزمن ينتج عنه التقارب مدة طويلة من الزمن ينتج عنه تدهور أوضاع الأمة الإسلامية وازدهار أحوال الأمم الغربية ولم تغير الخلافة العثمانية على ما كانت عليه في بداية منطلقها من قوة وصلابة من واقع هذه الأمة شيئا فبقيت على حالها بعيدة عن الأخذ بأسباب العلم، لأن لغة العلم التي كانت العربية قبيل التغلب العثماني على الدويلات والإمارات الإسلامية العديدة أهملت وأصبحت اللغة التركية هي اللغة الرسمية للأمة الإسلامية مما أثر على النتاج العلمي فأصبح في غالبيته يقوم على شرح المتون وشرح وتلخيص هذه الشروح.. إلى آخر ما وصل إلى أيدينا من مخلفات هذه العصور المتأخرة.

ص: 390

ولما أن تمكن الغرب من تقطيع أوصال الخلافة العثمانية عمل على أن يقتلعها من جذورها فكان له ذلك وعاونه على تحقيق هذه الغاية بعض أبناء هذه الأمة لأسباب متعددة. وأعقبت هذه النتيجة توسع سيطرة المستعمر الغربي على البلاد الإسلامية وخضوع أغلب هذه البلاد الإسلامية لهذه السيطرة بأشكال متعددة وظروف مختلفة، إلى أن تولد عن هذه السيطرة (الأجنبية) تيقظ بعض رجالات المسلمين فعملوا على تنبيه أمتهم من غفلتها وتحذيرها من الاستمرار في هذه الغفلة، وظهرت بعض الإشاعات الخفيفة في جنبات هذه الظلمة الواسعة التي عمّت البلاد الإسلامية فترة طويلة من الزمن وتلاحقت هذه الأنوار-رغم شدة الظلام المخيم على كثير من بلاد العالم الإسلامي-، ولكن النور لا يخفى أثره مهما اشتدت الظلمة.

وهكذا تكشّفت حقيقة الواقع المؤلم لبعض القلوب التي تفتحت بنور الإيمان وأخذت تعمل بإخلاص وجد في إيقاظ العالم الإسلامي وردّه بتؤدة وصبر وعزيمة إلى معتقده.

ولابد لهذه الجهود المخلصة أن تؤتي ثمارها، لأن النهضات لا تتحقق والعثرات لا تقال إلا بإخلاص العاملين من كل صنف وفي كل زمان.

وأرى أن بوادر الخير ظاهرة في الأمة الإسلامية رغم تلاحق الشدائد عليها، لأن من سنن الله سبحانه أن لا يضيع الشدائد لا تخرج عن كونها ابتلاءات تتمخض عن إنابة إلى الحق بإذن الله.

وثالث هذه النقاط:

3-

أن العقلية الغالبة-حتى الآن-على علماء العالم الإسلامي ورجالاته هي صفة الفردية، وعدم الاطمئنان للآخرين أو الثقة بهم وبهذا لا يتحقق التعاون المنشود بين رجالات العالم الإسلامي على جميع المستويات.

وداء الفردية داء فتاك في جسم الأمة، لأن العبقرية، مهما تكن فذة فإنها لا تبدع إن لم يكن إلى جانبها ما يشحذ من مضائها.

ص: 391

والحذر أو اليقظة شيء مطلوب ولكن شدّة الشك وعدم الاطمئنان أو الثقة بالآخرين يبعد الشقة بين الإخوة ويبقي ثغرات مفتوحة لكي يتسلل منها المخربون والمفسدون

وإن تبادل الزيارات- على جميع المستويات-بين رجالات الأمة الإسلامية وتولي وسائل الإعلام في بلاد العالم الإسلامي مهمة التقريب بين الشعوب الإسلامية يزيد في التقارب ويقضي على كثير من الخلافات التي صنعها الجهل والاستعمار وأعداء الإسلام.

واعتقد أن هذه النقاط الثلاث التي عرضتها آنفا يمكن أن تكون نقاطا رئيسية للأسباب التي نتج عنها التخلف الذي ورثه هذا الجيل المسلم عن آبائه وأجداده من العصور المتأخرة.

وإن إحساسه بهذا الواقع وشعوره بالتخلف عن الحضارة المادية ستدفع به لأن يغير من أوضاعه الشاذة ويعود إلى سلوك الجادة المستقيمة التي يدعوه إليها الإسلام.

وتبقى النقطة الأخيرة التي أود عرضها وهي في الحقيقة رد على تساؤلات الكثير من المسلمين أصحاب الثقافة الغربية الذين لاحظّ لهم من الإسلام إلا صلة النسب، وهي:

4-

هل الإسلام تسبب في هذا التخلف؟

إن التخلف العلمي الذي يشمل غالبية البلاد الإسلامية أمر لا نكران فيه فهل تسبب الإسلام بهذا التخلف؟ أو هل كان الإسلام سببا له؟

إن جوابي على هذا التساؤل هو دعوة (هؤلاء الجهال بدينهم) إلى أن يطلعوا على تعاليم هذا الدين من أبنائه أصحاب الاختصاص لا من (المستشرقين) أعداء الدين الإسلامي، وأن يخصصوا لذلك بعضا من وقتهم، وأن يدققوا في هذه التعاليم ومن ثم ّلا يترددون بإعطاء رأيهم فيما سيتوصلون إليه.

وإني على يقين أن غالبيتهم ستأخذها الدهشة والألم معا:

ص: 392

الدهشة من اكتشاف أن الدين ليس دينا كهنوتيا كمفهوم الدين لدى الغربيين، وإنما هو نظام دقيق جامع لشؤون الحياة، دنيا وأخرى، لا يرتضي لأتباعه التخلف والجمود والضعف والجهل، وإنما يدعوهم للأخذ بأسباب الحياة بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

وسيأخذهم الألم لهذه الغربة التي اكتشفوها في أنفسهم عن الإسلام الذي ينتسبون إليه، وعن هذه القوى المهدورة من جهودهم وأوقاتهم التي ضاعت في غير تثبيت مفاهيم الإسلام في أنفسهم وعن هذا المثل السيئ الذي يعطونه عن المثقف الذي يجهل حقيقة ما يتصل به اتصال نسب وتاريخ وحضارة.

وسيتبين لهم أن الإسلام يريد من أتباعه أن يكونوا متميزين عن غيرهم في كل شيء تميزا لجهة الفضيلة والصلاح، ويريدهم أن يكونوا متفوقين في كل شيء تفوق ارتقاء وسمو في معاني الإنسانية ومفاهيمها.

ويحرص على أن يكون أتباعه روادا للحق ودعاة للخير وأمثلة حية لذلك.

وإن دعوة الإسلام إلى العلم دعوة مفتوحة لا حدود لها [1] إلا فيما لا خير فيه، وإننا لن نجد في غير الإسلام تقديرا للعلم وإشادة بالعلماء كما نجده فيه. وان أبرز ما في هذا الدين الإسلامي أنه لا يحجز العقل والمواهب الأخرى التي يتمتع بها الإنسان عن إن تؤدي وظيفتها على أحسن وجه وأتمه.

وسوف يتحقق لهؤلاء (المخدوعين) بالثقافة الغربية أن الإسلام لا يحول دون الأخذ بالصالح من هذه الثقافة وأن الإسلام لا يدعو أتباعه إلاّ لكل ما هو مفيد ونافع ومثمر.

وسيتبين لهم أن تخلف المسلمين ناشئ عن عدم تفهمهم لتعاليم دينهم وعن عدم أخذهم بالأسباب التي تجعل منهم خير أمة أخرجت للناس.

وأن الحضارة المادية المعاصرة بحاجة إلى الرجل المسلم الذي يرتفع به عن الطريق المنحرف إلى الصراط المستقيم لتؤدي خير ما فيها لبني الإنسان وتحول بينهم وبين شرورها، لأن الوازع الديني والعامل الأخلاقي وفق التعاليم الإسلامية غير متوفر برجالات هذه الحضارة.

ص: 393

والكتاب القيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"للداعية الإسلامي الكبير أبي الحسن الندوي فيه الكثير من النقاط التي يجب أن يعيها الشاب المسلم المثقف على مدى هذه الخسارة التي حاقت بأسره من جراء هذا التخلف.

وإنني أرجوا من هؤلاء ومن كل مسلم أن يرجع إلى تعاليم دينه، وإلى النبع الأساسي الذي بنيت عليه التعاليم الإسلامية، وهو الكتاب والسنة خاصة، وأن يتحققوا بأنفسهم من صلاحية هذا الدين الإسلامي لأن يكون دين الإنسانية قاطبة. ولا أريدهم أن يتأثروا بما أقول دون تثبت من صحة ذلك لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تلتقي عنده هذه الإنسانية، فهو وحده الذي أعلن تكريمه لعنصرها وتفضيله على سائر المخلوقات، ولأنه الدين الوحيد الذي يجمع أبناء الإنسانية على صعيد واحد لا فرق بينهم بسبب العرق أو اللون أو النسب وإنما التفاصيل بينهم بالتقوى وبعمل الخير، ولأن هذا الدين أعلن المساواة بين الناس فلا طبقية ولا تصارع وإنما هو وحدة ومساواة.

وإن الإنسانية لا يهنأ لها عيش إن لم تسد هذه المبادئ وتتغلب على نوازع الشر ومواطن السوء.

وإن الصراع الطبقي الذي يسود في بعض العقائد المنحرفة على اختلاف أنواعه، بما في ذلك التفرقة العنصرية في عصر المدنية والتفوق العلمي، لا وجود له في الإسلام ولا يقبل به إطلاقا.

لهذا كله فإن الإنسانية بحاجة إلى مسلمين إسلام الحنيفية السمحة ليعودوا بها إلى الجادة التي انحرفت عنها فضلّت وتاهت في ظلمات الشرك والوثنية وعبادة المادة ودعوات الإلحاد والعلمانية.

وصدق الله العظيم:

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام 153) .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 394

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

انظر المقالين المنشورين في جريدة المدينة العدد (1343و1361) بعنوان: الإسلام والتسابق العلمي المعاصر، ودعوة الإسلام إلى العلم

ص: 395

التضامن الإسلامي

لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فلا ريب أن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له كما قال عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بهذه العبادة وبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب لبيان هذا الحق وتفصيله والدعوة إليه كما قال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} ومعنى قضى في هذه الآية أمر ووصّى وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاًَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} .

وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} ففي هذه الآيات الكريمات الأمر بعبادته سبحانه والتصريح بأنه خلق الثقلين لهذه العبادة وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة اليها0

ص: 396

وحقيقة هذه العبادة هي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالإخلاص لله في جميع الأعمال والامتثال لأوامره والحذر من نواهيه والتعاون في ذلك كله وتوجيه القلوب إليه سبحانه في كل ما يهمها وسؤاله عزوجل جميع الحاجات عن ذل وخضوع وإيمان وإخلاص وصدق وتوكل عليه سبحانه ورغبة ورهبة مع القيام بالأسباب التي شرعها لعباده وأمرهم بها وأباح لهم مباشرتها0

وبهذا كله يستقيم أمر الدنيا والدين وتنتظم مصالح العباد في أمر المعاش والمعاد ولا صلاح للعباد ولا راحة لقلوبهم ولا طمأنينة لضمائرهم إلا بالإقبال على الله عز وجل والعبادة له وحده والتعظيم لحرماته والخضوع لأوامره والكف عن مناهيه والتواصي بينهم بذلك والتعاون عليه والوقوف عند الحدود التي حد لعباده كما قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ومن المعلوم أنه لا يتم أمر العباد فيما بينهم ولا تنتظم مصالحهم ولا تجتمع كلمتهم ولا يهابهم عدوهم إلا بالتضامن الإسلامي الذي حقيقته التعاون على البر والتقوى والتكافل والتناصر والتعاطف والتناصح والتواصي بالحق والصبر عليه0ولا شك أن هذا من أهم الواجبات الإسلامية والفرائض اللازمة وقد نصت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية 0على أن التضامن الإسلامي بين المسلمين أفرادا وجماعات حكومات وشعوبا من أهم المهمات ومن الواجبات التي لابد منها لصلاح الجميع وإقامة دينهم وحل مشاكلهم وتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم ضد عدوهم المشترك0

ص: 397

والنصوص الواردة في هذا الباب من الآيات والأحاديث كثيرة جدا، وهي وإن لم ترد بلفظ التضامن فقد وردت بمعناه وما يدل عليه عند أهل العلم والأشياء بحقائقها ومعانيها لا بألفاظها المجردة فالتضامن معناه التعاون والتكاتف والتكافل والتناصر والتناصح والتواصي وما أدى هذا المعنى من الألفاظ ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه وإرشاد الناس إلى أسباب السعادة والنجاة وما فيه صلاح أمر الدنيا والآخرة ويدخل في ذلك أيضا تعليم الجاهل وإغاثة الملهوف ونصر المظلوم ورد الظالم عن ظلمه وإقامة الحدود وحفظ الأمن والأخذ على أيدي المفسدين والمخرّبين وحماية الطرق بين المسلمين داخلا وخارجا وتوفير المواصلات البرية والبحرية والجوية والاتصالات السلكية واللاسلكية بينهم لتحقيق المصالح المشتركة الدينية وتسهيل التعاون بين المسلمين في كل ما يحفظ الحق ويقيم العدل وينشر الأمن والسلام في كل مكان ويدخل في التضامن أيضا الإصلاح بين المسلمين وحل النزاع المسلح بينهم وقتال الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله عملا بقول الله عز وجل:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}

ص: 398

ففي هذه الآيات الكريمات أمر الله المسلمين جميعا بتقواه سبحانه والقيام بالإصلاح بينهم عموما وبالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين منهم خصوصا وقتال الطائفة الباغية حتى ترجع عن بغيها وأن يكون الصلح على أسس سليمة قائمة على العدل والإنصاف لا على الميل والجور، وفيها التصريح بأن المؤمنين جميعا إخوة وإن اختلفت ألوانهم ولغاتهم وتناءت ديارهم فالإسلام يجمعهم ويوحّد بينهم ويوجب عليهم العدل فيما بينهم والتصافي والكف من عدوان بعضهم على بعض ويوجب على إخوانهم الإصلاح بينهم إذا تنازعوا 0ثم ختم الله هذه الآية بالأمر بالتقوى وعلّق الرحمة على ذلك فقال:{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فدلّ ذلك على أن تقوى الله في كل الأمور هي سبب الرحمة والعصمة والنجاة وصلاح الأحوال الظاهرة والباطنة ويدخل في التضامن أيضا تبادل التمثيل السياسي أو ما يقوم مقامه بين الحكومات الإسلامية لقصد التعاون على الخير وحلّ المشاكل التي قد تعرض بينهم بالطرق الشرعية واختيار الرجال الأكفاء في عملهم ودينهم وأمانتهم لهذه المهمة العظيمة، ويدخل في التضامن أيضا توجيه وسائل الإعلام إلى ما فيه مصلحة الجميع وسعادة الجميع في أمر الدين والدنيا وتطهيرها مما يضاد ذلك، ومما ورد في هذا الأصل الأصيل وهو التضامن الإسلامي والتعاون على البر والتقوى قوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أمر الله سبحانه في هذه الآية الكريمة عباده المؤمنين بأن يتقوه حق تقاته ويستمروا على ذلك ويستقيموا عليه حتى يأتيهم الموت وهم على ذلك، وما ذاك إلا لما في تقوى الله عز وجل من صلاح الظاهر والباطن وجمع الكلمة وتوحيد الصف وإعداد العبد لأن يكون صالحا مصلحا وهاديا مهديا باذلا النفع لإخوانه كافا للأذى عنهم معينا لهم على خير ولهذا أمر الله المؤمنين بعد ذلك بالاعتصام بحبله فقال:

ص: 399

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وحبل الله سبحانه هو دينه الذي أنزل به كتابه الكريم وبعث به رسوله الأمين محمدا صلى الله عليه وسلم والاعتصام به هو التمسك به والعمل بما فيه والدعوة الى ذلك والاجتماع عليه حتى يكون هدف المسلمين جميعا ومحورهم الذي عليه المدار ومركز قوتهم هو اعتصامهم بحبله وتحاكمهم إليه وحل مشاكلهم على نوره وهداه وبذلك تجتمع كلمتهم ويتحد هدفهم ويكونون ملجأ لكل مسلم في أطراف الدنيا وغوثا لكل ملهوف وقلعة منيعة وحصنا حصينا ضد أعدائهم وبهذا الاجتماع وهذا الاتحاد وهذا التضامن تعظم هيبتهم في قلوب أعدائهم ويستحقون النصر والتأييد من الله عز وجل ويحفظهم سبحانه من مكائد العدو ومهما كانت كثرتهم كما وقع ذلك (بالفعل) لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان في صدر هذه الأمة ففتحوا البلاد وسادوا العباد وحكموا بالحق وحقق الله لهم وعده الذي لا يخلف كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .

ص: 400

وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ففي هذه الآيات الكريمات حثّ المسلمين وتشجيعهم على التمسك بدينهم والقيام بنصره وذلك هو نصر الله فإنه سبحانه وتعالى في غاية الغنى عن عباده وإنما المراد بنصره هو نصر دينه وشريعته وأوليائه والله ناصر من نصره وخاذل من خذله وهو القوي العزيز وفي هذه الآيات أيضا البشارة العظيمة بأن الله عز وجل ينصر من نصره ويستخلفه في الأرض ويمكن له ويحفظه من مكائد الأعداء فالواجب على المسلمين جميعا أينما كانوا هو الاعتصام بدين الله والتمسك به والتضامن فيما بينهم والتعاون على البر والتقوى ومناصحة من ولاه الله أمرهم والحذر من أسباب الشقاق والخلاف والرجوع في حلّ المشاكل إلى كتاب ربهم وسنّة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتواصي في ذلك كله بالحق والصبر عليه مع الحذر من طاعة النفس والشيطان وبذلك يفلحون وينجحون ويسلمون من كيد أعدائهم ويكتب الله لهم العز والنصر والتمكين في الأرض والعاقبة الحميدة ويؤلف بين قلوبهم وينزع منها الغل والشحناء وينجيهم من عذابه يوم القيامة0

ص: 401

وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تُنَاصحوا من ولاه الله أمركم" أخرجه مسلم في صحيحه ومما ورد في التضامن الإسلامي قوله جل وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وهذه الآية الكريمة من أصرح الآيات في وجوب التضامن الإسلامي الذي حقيقته ومعناه التعاون على البر والتقوى كما سلف بيان ذلك وفيها تحذير المسلمين من التعاون على الإثم والعدوان لما في ذلك من الفساد الكبير والعواقب الوخيمة والتعرض لغضب الله سبحانه وتسليط الأعداء وتفريق الكلمة واختلاف الصفوف وحصول التنازع المفضي إلى الفشل والخذلان0 نسأل الله للمسلمين العافية من ذلك وفي قوله سبحانه في ختام الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تحذير للمسمين من مخالفة أمره وارتكاب نهيه فينزل بهم عقابه الذي لا طاقة لهم به، ومن الآيات الواردة في التضامن أيضا قوله عز وجل:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهذه الصفات العظيمة هي جماع الخير وعنوان السعادة وسبب صلاح أمر الدنيا والآخرة ولهذا علّق سبحانه وتعالى رحمتهم على هذه الصفات الجليلة فقال: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فتبين بذلك أن الرحمة والنصر على العدو وسلامة العاقبة كل ذلك مرتب على القيام بحق الله وحق عباده ولا يتم ذلك إلا بالتناصح والتعاون والتضامن والصدق في طلب الآخرة والرغبة فيما عند الله والإنصاف من النفس وتحري سبيل العدل وفي هذا

ص: 402

المعنى يقول عز زجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} ويقول عز وجل في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وفي هاتين الآيتين أمر المؤمنين أن يقوموا لله بالقسط وأن يشهدوا له بذلك في حق العدو والصديق والقريب والبعيد تحذيرهم من أن يحملهم الهوى حتى يحكموه فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضى ويسلموا تسليما0 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ومما ورد من الأحاديث الشريفة في التضامن الإسلامي الذي هو التعاون على البر والتقوى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"قيل لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" أخرجه مسلم في صحيحه وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"وشبك أصابعه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما00 فهذه الأحاديث وما جاء في

ص: 403

معناها تدل دلالة ظاهرة على وجوب التضامن بين المسلمين والتراحم والتعاطف والتعاون على كل خير0 وفي تشبيههم بالبناء الواحد والجسد الواحد ما يدل على أنهم بتضامنهم وتعاونهم وتراحمهم تجتمع كلمتهم وينتظم صفهم ويسلَمون من شر عدوهم ومما يبشّر بخير ومستقبل أفضل أن جلالة الملك فيصل وفقه الله قد تبنى الدعوة لهذا الأمر الجليل وهو تضامن المسلمين وتعاونهم على كل ما فيه إقامة دينهم وحفظ كيانهم وحصول مصالحهم المشتركة وحل مشاكلهم وقد بذل جلالته في هذا السبيل جهودا مشكورة وقام باتصالات موفقة بعدد من الملوك والزعماء لشرح هذه الفكرة العظيمة والغرس النبيل وقد تكللت (بحمد الله) هذه الاتصالات بنجاح كبير وحصل لها في الأوساط الإسلامية آثار حسنة وانتشرت هذه الدعوة بين المسلمين وتناقلتها أجهزة الإعلام في كل مكان0ولا ريب أن جلالته يشكر شكرا جزيلا على ما بذله في هذا السبيل من الجهود المباركة التي أدرك كل منصف آثارها الصالحة ونتائجها الطيبة. نسأل الله أن يجزل مثوبته وأن يمنحه القوة والنشاط في مواصلة جهوده الطيبة في هذا السبيل الخير وان يكلل بالنجاح إنه خير مسؤول0

ص: 404

ومن المعلوم أن الدعوة إلى هذا الأمر أعني التضامن الإسلامي وبذل ما يمكن من الجهود في تحقيقه من أهم الأمور ومن الواجبات المشتركة المتأكدة على جلالة الملك فيصل وعلى غيره من ملوك المسلمين وزعمائهم وعلمائهم وأعيانهم ولكن خادم الحرمين الشريفين أولى الناس بالقيام بهذا الأمر وتحمل أعبائه وتكريس الجهود الممكنة في تحقيقه لكونه في الحقيقة هو قائد المسلمين ورائدهم في هذا العصر وموضع آمالهم الكبيرة (بعد الله عز وجل ولديه من كرم الله وجوده من الإمكانات ما يعينه على ذلك والمسلمون في كل مكان يرجون من جلالته مضاعفة الجهود في هذا السبيل والصبر على ذلك حتى يحقق الله للمسلمين على يديه ما يرجون من عزة وكرامة وجمع كلمة واتحاد صف وحفظ كيان وانتشار للحق وإقامة للعدل ونشر للأمن والسلام في أرجاء المعمورة ويرجو المسلمون أيضا من سائر ملوكهم وزعمائهم وعلمائهم وأعيانهم أن يضموا أصواتهم إلى صوت جلالة الملك فيصل وجهودهم إلى جهوده وأن يشاركوه في تحمل عبء هذه الرسالة العظيمة والمسؤولية الكبرى التي في تحقيقها سعادة الجميع وعزتهم في الدنيا والآخرة وان يبذلوا جميعا ما يستطيعون من الوسائل في نشر هذه الدعوة ومساندة الداعين إليها وشرح محاسنها ومصالحها لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم حتى يتحقق للجميع إنشاء الله ما وراء هذه الدعوة المباركة من خير وأمن وسلام للجميع عملا بقول الله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} . وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وأمام الجميع في هذه الدعوة العظيمة وقدوتهم في هذا السبيل القيم هو نبيهم وسيدهم وقائدهم الأعظم نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أول

ص: 405

من دعا هذه الأمة إلى توحيد ربها والاعتصام بحبله وجمع كلمتها على الحق والوقوف صفا واحدا في وجه عدوها المشترك، وفي تحقيق مصالحها وقضاياها العادلة عملا بقوله تعالى مخاطبا له:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .

وقد سار على نهجه القويم صحابته الكرام وأتباعهم بإحسان رضي الله عنهم وأرضاهم فنجحوا في ذلك غاية النجاح وحقق الله لهم ما وعدهم به من عزة وكرامة ونصر كما سبق التنبيه على ذلك والإشارة اليه في أول هذه الكلمة، ولا ريب أن الله عز وجل إنما حقق لهم ما تقدمت الإشارة إليه بإيمانهم الصادق وجهادهم العظيم وأعمالهم الصالحة وصبرهم ومصابرتهم وصدقهم في القول والعمل وتضامنهم وتكاتفهم في ذلك لا بأنسابهم ولا بأموالهم0

ص: 406

كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" أخرجهما مسلم في صحيحه فمن سار على سبيلهم ونهج نهجهم أعطاه الله كما أعطاهم وأيّده كما أيدهم فهو القائل عز وجل في كتابه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وهو القائل سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وهو القائل عز وجل: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} والله عز وجل المسؤول أن يجمع كلمة المسلمين على الهدى وأن يفقههم في دينه وأن يصلح ولاة أمرهم ويهديهم جميعا صراطه المستقيم وأن يمنحهم الصدق في التضامن بينهم والتناصح والتعاون على الخير وأن يعيذهم من التفرق والاختلاف ومضلات الفتن وأن يحفظهم من مكائد الأعداء إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين0

نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 407

مقومات النصر في حروب الإسلام

للشيخ أحمد مختار بزرة المدرس في الجامعة

الحمد لله رب العالمين، ولي المؤمنين، وناصر المخلصين، وعدا عليه حقا في القرآن العظيم، الذي فتح أبواب الجنة للمجاهدين: الشهداء والمنتصرين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وخير المجاهدين الذي أمده ربّه بالملائكة مردفين، وأنزل عليه النصر المبين، وجعله للمؤمنين شفيعا يوم الدين.

لا يماري أحد في أن الانتصارات العظيمة التي حققها الإسلام في فجر بزوغه وانتشاره يكمن سرها في قدرة المسلمين أنفسهم على تمثل هذا الدين عقيدة وإقامته عبادة وعملا، وفي اندفاعهم وامتثالهم لإنفاذ الأوامر الإلهية في أدق صورة يستطيع مؤمن أدائها.

ولا يماري أحد أن سرّ ذلك يكمن في طاقة الجهاد العظمى التي فجّرها هذا الدين في نفوس أتباعه على مثال لا يعرف تاريخ البشر له شبيها.

والحق أن قصة الإسلام الأولى هي مراحل الجهاد الشاق العنيف المتواصل الذي بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غزا شعاعه نفوس الداخلين في دين الله أفواجا حتى هجمت بهم صدور الخيل على سور الصين ولجج بحر الظلمات.

إن المسلم ليتغنى بأنشودة عذبة ساحرة، أنشودة الأمجاد الخالدة التي ابتناها المؤمنون السابقون.

وإننا لنستبقي نحن المسلمين ذكرى هذه الانتصارات حية في غدّونا ورواحنا نرنو إليها بمزيد من الحنو ونتوجه إليها بكثير من الشوق والحنين وإنها لتزداد توهجا في ضمائرنا في هذه الأيام الحالكات إذ الهزائم تنزل بنا، ونحن من العجز حسرى، ومن الفم سكارى، وفي براثن العذاب أسارى، لا يكون منا إلا التوجع والشكوى، فنطبق الأجفان على واقع أليم، ونشط بالذكرى إلى ملاحم الإسلام وانتصارات الأجداد الفاتحين صرفا لأنفسنا عن اليأس وتزودا بالرجاء وتمسكا بما فيه عزا.

ص: 408

ولكننا لانفعل بأنفسنا خيرا إن أََمتنا شعورنا بالواقع بما نورد عليه من جميل الذكريات الخالدات، وهربنا من شقوتنا وتعاستنا إلى حمى سعادة غابرة ليس من حقنا أن ننعم بها لأنا لسنا محققيها: هل نحن حققنا تلك السعادة؟ هل نحن رفعنا أعمدة المجد الشامخ؟؟ كلا.. إننا قطعنا حلقة الاتصال بيننا وبين أصحابها، لكننا لسنا بأحفاد أولئك الذين ينتشي التاريخ بالحديث عن بطولاتهم ومآثرهم ومكرماتهم الإنسانية؟.

كيف يكون الخير إذن في تذكارها؟ وكيف ننتفع بها في وصل ما انقطع من أيام الإسلام المجيدة؟

إن الانتفاع بها لعظيم، وإن فيها الوقدة الذاكية القادرة على أن تضرم في قلوب الملايين من المسلمين حميّة الجهاد وحب الاستشهاد، وأن تهز القلوب والأعصاب منهم هزا، وأن تنفض الكرى والسبات عنهم نفضا، وأن تخرجهم من التبلد والخمول إخراجا.

ولكن كيف تستطيع أيام الإسلام أن تفعل في أنفسنا هذه المعجزة المنتظرة؟

إنّ ذكرى بدر وحنين واليرموك والقادسية وحطين تغمر نفوسنا غمرا ولكن لا يحسن بنا أن نرضى منها بالأطياف بل لا بد أن تفعم قلوبنا بمبادئها وأهدافها وأن نعي خططها لنصنع أنفسنا في معملها صنعا مجددا، وإننا نحياها حق الحياة إذا استنتجنا منها الدرس العملي التطبيقي في تحقيق النصر الأكبر، وليس من شك أنّ هذه الحروب هي التي صاغت المسلمين كما شاء الله لهم أن يكونوا ورفعت لهم أمجادهم، وهي وحدها قادرة على أن تصنعنا بمشيئة الله وقد جعل الله لنا منها قدوة، وجعل لنا في أصحابها أسوة. وإننا مضطرون إن كنا جادين في طلب النصر إلى العودة إليها للتحري والتقصي عما فيها من الأعمال والخطى التي رجعت بالنصر المبين.

إن الله تعالى علّم المسلمين الأولين كيف يصنعون النصر بأيديهم، وما أحوجنا أن نتعلم كما تعلموا.

ص: 409

إننا مدعوون شئنا أم أبينا إلى خوض معركة فاصلة مع أعدائنا يكتب لنا فيها البقاء أو الفناء، وهذه المعركة هي أشد ما تعرّض له المسلمون من محن في تاريخهم لأنها لا تستهدف من الغلبة الاستيلاء على الحكم فحسب وإنما تستهدف ذات وجودنا روحا وقلبا ووطنا فإما أن نبقى وإما أن نذهب إلى الفناء.

أقول: إننا مدعوون راضين أو كارهين إلى المعركة الفاصلة، فإن لم نتقدم إليها بتخطيطنا وتصميمنا استقدَمنا إليها أعداؤنا استقداما، فهم جادون في تنفيذ ما حلموا به قرونا وأزمانا وما أيسر انتصارهم علينا إن جرونا إليها جرا لا يكون أمرنا أصعب من أمر الأنعام التي تساق إلى المسلخ مقهورة وما أمنعنا وأشدنا إن كنا نحن البادئين المفاجئين قد عقدنا العزم وأعددنا العدة، وأمسكنا بزمام الأمر وأخذنا مطالع السبل وأحطنا بالعدو ثم أدرنا عليه الدائرة.

وقد جعل الله للنصر أسبابا وللظفر سبلا هدى إليها المؤمنين المخلصين فكانوا بها الغالبين والفاتحين، ولو أخذنا في إحصائها لوجدنا من أهمها:

أ- بناء الحياة الإسلامية على قاعدة الجهاد:

علينا أن نبادر إلى إقرار حقيقة لا تُدفع هي: أن الانتصارات العظمى في تاريخ الأمة الإسلامية قد قامت على قاعدة راسخة تجعل من الجهاد في سبيل الله الأساس في كيان الجماعة الإسلامية ومنطلقهم إلى العالم والحياة، إن الوجود الراكد لا يقبله ديننا، بل هو في جوهره إخراج الناس من الركود إلى الحركة، أو من الحركة المشتتة المخربة إلى الحركة المنظمة البناءة التي تهب السعادة وتنشر البشر والخير، وهي القاعدة التي أقام الله عليها الوجود الإنساني كله، قال تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [1]

ص: 410

ولقد أكمل الله الدين للمسلمين وأتم عليهم نعمته، ومن ذينك الكمال والتمام أن يجعل منهم القوة الدافعة في الأرض لتجتث جذور الكفر ولإفساد.

إن إكرام الله للمسلمين لن يجعل منهم جنده المنتصرين المنصورين.

تلك هي الحقيقة يزيدها سطوعا ما أعلمناه الله من استغنائه عن خلقه، واستقلاله بالنصرة دونهم لمن شاء من عباده، وأنه ما حمّلهم أمانة الجهاد والانتصار لله إلا إنقاذاً لهم وتكريما، فعرّف المؤمنين ما كان من نصره للرسل وحده وللنبي محمداً صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:{إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [2] فأين كانوا وكيف كانوا يوم أنزل جنوده وحمى نبيه.!

وفي محكم الكتاب آيات مفصلات لكثير من المواقف الحرجة التي تنزل فيها نصر الله على رسله وعباده الصالحين في ساعة اليأس، فقد نصر الله يوسف عليه السلام بعد أن ألقاه إخوته في غيابة الجب في بيداء منقطعة ثم مكّن له في الأرض، وأنقذ موسى وقومه من فرعون الطاغية ولم يقاتلوا ولم يناوشوا فضرب لهم في البحر طريقا يبسا وأغرق فرعون وجنوده بعد أن كاد الهلع يأتي على قلوب بني إسرائيل، كذلك منّ على أصحاب الكهف لما خافوا أن يغلبوا على أمرهم وأن يفتنوا عن دينهم فلجئوا إلى الله لا يرون ربا غيره ولا يطيبون عن إيمانهم نفسا، فنادوا متضرعين مستنجدين. {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [3] فآواهم إلى الكهف وضرب عليهم النوم قرونا وحماهم بمعجزة عليا هو وحده عليها قادر.

تلك هي معجزات الله لو شاء الله أن يستغني عنا في نصرة الدين لفعل، ولكن كان التكليف بها منة منه علينا وإفضالا وإكراما؟ إنها ثقة الله في عباده المؤمنين الطائعين.

ص: 411

وحسبنا أن نعلم أن الأمة المسلمة تدين بوجودها وبقائها لما أيدها الله به من انتصارات وفتوحات باهرات.

فإن الجماعات التي تعجز في الدفاع عن كيانها تنتهي كما انتهى كثير من شعوب الأرض-إلى الزوال.

وقد كان المسلمون في فجر الدعوة والهجرة قلة مستضعفين لم تسلم لهم القبائل والبلاد المحيطة بهم باعتراف رسمي، وكانوا هدفا للعدوان يخشون أن ينصب عليهم من جهات الأرض، فاستل الله من قلوبهم الخوف إذ قادهم بأمره وتقديره إلى بدر ليجربوا بلائهم لأول مرة وليستمرئوا طعم الظفر حتى يمعنوا في طلبه، وليمن عليهم بنصر علوي يرفعهم لذروة الفخار والاعتزاز فلا يرضون بعدها بخسف أو ذل، وليشعروا بأنهم قادرون على حمل أعدائهم على أن يخلوا بينهم وبين أنفسهم يعبدون الله أحرار ويدعون إلى سبيله أحرارا.

أيها الإخوة.

إننا مدينون بدين صعب الوفاء لهؤلاء البدريين-رضوان الله عليهم-الذين صنع الله على أيديهم النصر الأول قاعدة مجاهدة الأعداء بالسيف.

وقد أمر الله المؤمنين أن يذكروا معتبرين ذلك اليوم العظيم الذي وطّد كيانهم وأخرجهم من الخوف إلى الأمن ومن التردد إلى الحزم ومن التوقف إلى العمل، ومن الدفاع إلى الهجوم، قال تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [4]

ولاشك أن الله سبحانه إذ فُرض القتال على المسلمين طريقا إلى النصر اختار لهم منهجا سويا سليما يحفظهم من آفات الحضارة، ومن أمراض النفس ودواعي الخزي والذل والموت إذ ركّب الله في النفس البشرية قوتين متعارضتين وميلين متناقضين:

ص: 412

الميل إلى الدعة والسكون والتبلّد، والميل إلى النشاط والفعالية والتوثب ومستقبل الإنسان بينهما فإن بسط الأول عليه سلطانه كان أدنى إلى الحيوان المتمتع المستهلك، وإن غلب عليه الثاني كان الإنسان الفعال المنتج ويتجاذب الإنسان هذان الميلان فإن انتصرت إيجابيته على سلبيته كان هذا النصر الداخلي مقدمه للنصر الخارجي فإن لم ينتصر الإنسان على نفسه فلا رجاء في أي انتصار خارجها.

ومن ثم أمرنا الله أن نقهر في ذواتنا رغبات القعود، وبيّن لنا أنه قد خلقنا لأمانة كبرى لا ينهض بها إلا أولو العزم من المجاهدين، وأن إهمال هذه الأمانة حطّّ للإنسان من قدر ذاته وهوان يجره بتقاعسه على نفسه، وحذرنا من الإخلاد إلى الأرض فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ قَلِيل} [5] فقد جعل الله جلت حكمته من القتال معهدا يتخرّج فيه المجاهدون في السبيل الله، ومن الحروب مصنعا ينتج أبطالا متفوقين يستصغرون الدنيا ويستعذبون الموت، فتنصهر بهذه الممارسة العملية والمعاناة الجادة للصعوبات والتضحيات القوى الفعالة البنّاءة في النفس وتنهزم الشهوات والاستسلام للدعة والترف ومغريات الأرض.

إنّ الجهاد في حقيقته تربية لنفوس صحية سليمة واقعية، إذ يضعها دائما في ظروف مشحونة بالأخطار لتتغلب عليها وتنجو منها، فتتعود فيها الصبر والاحتمال وتصبح الأخطار مهنتها المتقنة ومجالها المفضل الذي تحقق فيه ذاتها وتكشف عن إمكانياتها وإذا وصلت النفوس إلى هذا المستوى من الشدة وردود الفعل الناجحة اقتربت من نصر الله.

ص: 413

وهذا هو الانتصار الداخلي في النفس الذي لا يكون النصر المسلح إلا به، وإن أية تجربة عسكرية لا ترتكز إليه مقضي عليها بالإخفاق، وكان الله عليما حكيما إذ أخرج المؤمنين في السنة الثانية من الهجرة من المدينة حيث الظل والشجر والأمن إلى بدر وكان فريق منهم ألفوا هذه الحياة المطمئنة فأرادوا عيشا يسيرا من غير جهد، وأراده الله لهم مجبولا بالعرق، غاليا كالمهج وصور لنا نفوسهم فقال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم:{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [6]

لقد قضت سنة الله أن يحق الحق بسيوف عباده الذين انتدبهم لنصرة الحق، وهم لا يقدرون على النصر حتى يؤثروا الجهاد على ارتباطات الحياة كلها، ولا يجدوا في الموت ضيرا ومن ثم أوجب الله تعويد النفوس حب ما تكره من القتال، وكره ما تحب من ملازمة الأرض وإيثار السلامة.

قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون} . [7]

ص: 414

ذلك أن طلبها للسلامة يزيّن لها الاستسلام فتمرض مرضا عصي، وتفسد حياتها فسادا ذريعا، فلا يبرؤها إلا أن تحب ما كرهته من الانتقاض على القعود ولا يتم لها هذا إلا بمعارضة نفسية داخلية تصرع فيها حوافز الكفاح والنضال المثبطات والمعوقات الذاتية، حتى يصبح الكفاح قاعدة الحياة وغايتها ولا يتحقق ذلك إلا بالمعاناة المريرة وإقحام النفس في المسالك الوعرة والشعاب الشاقة التي يتعثر فيها الصاعدون فتتمزق بالأحجار الناتئة أقدامهم وأيديهم وهم يتشبثون بأطراف الصخور ليصلوا إلى الأعالي، فمنهم من يستشهد ومنهم من يبلغ القمة ويركز فيها الراية. إن هذا لهو البلاء الحسن الذي ذكره الله تعالى فقال:{وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [8]

أجل إنه البلاء الذي يصنع نفوس الأبطال ويخرج خير الأمم والشعوب وبذاك يعيش المؤمنون تجربة الإيمان حية دفاقة قد دفعوا في ثمنها من دمائهم، فتغلو لديهم وتعلو، وتصبح الجزء الذي لا يتجزأ من وجودهم، بل تسمو عليه فلا يجدون الموت من أجلها كثيرا أو صعبا، فصار الدين بذلك أنفس النفائس لدى المؤمنين.

وإذا غدا القتال طريق الأمجاد ونشيد الفخار تسابق إليه المتسابقون وكثير طلابه، وخجل من تركه من خشي على نفسه السقوط في الاعتبارين الإلهي والاجتماعي وكل خطير من الأمور تهابه النفوس ابتداء ثم تألفه اعتيادا، وتحرص عليه لما يعطيها من خير، كذلك كان شأن المسلمين قبل بدر منهم من يؤثر الغنيمة الباردة، فلما وشفوا من رضاب النصر الأمل مجت أفواههم غيره، ودبت الغيرة في النفوس فصار الذين لم ينالوا شرف البدرية يتمنون لقاء العدو ليفوزوا بالأجر والفخر كما فاز بهما إخوانهم في بدر.

ما أسعد الأمة وأمنعها إذا كانت البطولة والجهاد مثلها الأعلى وما أشقاها وأهونها إذا رضيت باللين والترف والتخنث حظا وقسما.

ص: 415

وهكذا نجد أن الجهاد باعتباره قاعدة الحياة يبعث في نفوس أتباعه القدرة على الانتصار الذاتي أولا ثم ينهض بهم إلى قهر خصومهم وتثبيت مركزهم وتأثيل ملكهم، ثم يحبب إليهم الاستزادة من الانتصارات والارتقاء في سلم السؤدد والمكرمات.

على أننا بوصفنا الجهاد بأنه قاعدة الوجود الإسلامي الدنيوي نعطيه نصف الحقيقة والحقيقة التامة أن الجهاد ركيزة حياة المؤمن في الدنيا والآخرة معا: إنه جواز سفره إلى الجنة قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [9] إن الانتصارات الحربية تصبح تافهة الشأن إذا قيست بالهدف العلوي الذي يسعى إليه المسلمون المجاهدون.. أقدامهم ثابتة في أرض المعركة وآمالهم في السماء يتحينون النصر أو الشهادة طمعا بالجنة. وهؤلاء المؤمنون الذين يحملون بين جنوبهم قلوبا يعمرها الإيمان بالله والشوق إلى جنانه هم الذين أمروا بالقتال، قال تعالى:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [10]

وهكذا يطيف الجهاد بالمؤمنين من جوانب حياتهم كلها: في حاضرهم ومستقبلهم، فهو السد المنيع لهم من الخذلان في الدنيا، والجنة من عذاب لله في الآخرة.

ص: 416

وليس أدل على كونه أساسا وسياجا من أن الله هددنا بالذل المقيم والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة إن نحن قعدنا عنه ورمينا بهذا الواجب عرض الحائط فقد أعلمنا الله عز وجل أنه ما خلقنا إلا لنجاهد في سبيله فإن لم يجدنا أهلا لأمانة الجهاد وأعباء القتال قضى علينا بالفناء وكرم غيرنا بنصرة دينه فقال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [11]

أجل إننا لا نضر الله شيئا إذ له جنود السماوات والأرض وما نضر إلا أنفسنا بحرمانها شرف الجهاد فوق الاعتبارات والارتباطات المادية والعاطفية كلها في الحياة حتى لا يحول بيننا وبينه حائل، ولا ينفعنا بتركه اعتذار فهو فوق العواطف الأبوية والبنوية والأخوية والزوجية والقبلية والوطنية وفوق الرغبات المادية، فإن قدمنا شيئا منها عليه تخوفنا على أنفسنا من الله سخطا عظيما وقد أوعد الله به في معرض الدعوة إلى قتال المشركين:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [12]

نسألك اللهم إلا تحقق فينا وعيدك وأن تعيننا على أنفسنا وأن ترفع عنا ما أصابنا من الخزي والعجز، وأن تجعل منا جندك المخلصين.

2-

إنشاء جيش مسلم فريد في خصائصه:

ص: 417

لقد بينا أن القتال هو الفقار والصلب في حياة المسلمين، لا يستطيعون له تركا، أو تساهلا به وإنهم لفي صراع دائم لأعداء الدين إذا أرادوا أن يكونوا دائما موضع مرضاة ربهم، والخلفاء في الأرض الذين لا ينقطعون عن الكيد لهم، وعن تبييتهم بالمؤامرات، والغارة عليهم ما أصابوا منهم نهزة، فقد أبى هؤلاء الدخول في ديننا وهم يحولون بيننا وبين الدعوة إلى كلمة الله فلا معدي لنا عن منازلتهم، وإحباط خططهم، وتشتيت قوتهم حتى يسلم لدولة الإسلام الأمن والاستقلال والسيادة لذلك كان نشوء جيش إسلامي نشوءا تلقائيا طبيعيا أمر تفرضه الضرورة وطبيعة الدين الإسلامي.

وهذا الجيش ذو خصائص نادرة مختصة به ثابتة فيه، لا يكون جيشا إسلاميا إلا بها، ولم يتمتع بها أحد من شعوب الأرض قديما أو حديثا إلا جيوش بعض الأنبياء والصالحين: كجنود طالوت وذي القرنين، وهؤلاء قد انقطع الزمان بهم، أما الجيش الإسلامي فهو ممكن الوجود في أي حقبة يستجمع أفراده هذه الصفات الخاصة عاملين بالتوجيه الإلهي..

إنه جيش الله المتجدد ما حافظ المؤمنون على الإيمان الحق، فإذا خلت صفوفهم من هؤلاء الجنود النادرين تراجعوا رجوعا ظاهرا.

فما أبرز خصائص الجيش الإسلامي؟

1-

القتال من أجل هدف علوي:

فإذا كانت الأمم ترسل بجيوشها إلى الجبهات حلا لأزماتها: كالتزايد في السكان أو التضخم في الإنتاج، أو لتأمين مواد أولية وأسواق لمصانعها أو للسيطرة على بقاع من الأرض وبسط النفوذ على شعوب تسخرهم فيما يلائم مصالحها وحاجاتها فإن المسلمين لم يقاتلوا لواحدة من هذه أو أشباهها، ولا ينبغي لهم أن يقاتلوا لمثل هذه الأغراض، بل نحق الحق إذا قلنا إن الله بعثهم يقاتلون ذات الإغراض، ويقدمون للإنسانية مثلا جديدا من أمثال التحرك الإنساني: تحركا يثير الخير، ويئد الشر.

ص: 418

إن الجندي المسلم يبرز للنزال وهو خالي الذهن من أي غرض ذاتي أو حاجة دنيوية ليس له من هم إلا أن يعلم الله مكانه ويرى بلاءه، ويفوز بمرضاته منتصرا أو شهيدا. لقد حل ارتباطات نفسه من الأرض ووصلها بربه الذي به آمن وعليه اتكل، وأحبه حبا يسرع به إلى رضاه ولو اصطلحت عليه الأخطار وترصد له الردى. ولا نبالغ إذا ادعينا أن المؤمن المحارب يكاد يشعر أن وسط الأخطار والمحن والزلازل والتضحيات وسطه الحقيقي فإنه ينفذ منه إلى الجنة ومازلنا نذكر كيف ألقى عمير بن الحمام، أخو بني سلمة ثمرات كانت بيده يأكلهن قائلا:"بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل"[13] كان عمير رضي الله عنه يعالج بقتاله باب الجنة حتى فتح له.

لقد قضى الجندي المسلم على شبح الخوف من الموت، فلم يبق له حساب في سير المعركة، يقينا منه أن الاستشهاد فيها خير من ثمرات البقاء التي يقاتل لها الكفرة، قال-تعالى:{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [14]

وهل يخاف الذاهب إلى ربه! إنه لن يضيع أبدا وما كان الله ليضيعه وقد لبى نداءه وحمل رايته وضرب في سبيله، لا يرى الموت إلا منه من الله عليه! إذ قال –تعالى-لكل مؤمن {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُم} [15]

ص: 419

وكيف يشعر بالضياع وهو عارف مستقبله يراه في يقين رأي العين؟ ألم يحدثه الله عن هذا المستقبل العظيم؟ ألم يخبره بما أعد له من نعيم في دار البقاء ومن التكريم في أعلى درجات الجنة؟ إن الشهادة عنده هي الفوز: هي بدأ الحياة الحقيقية: حياة الخلود إنه سمع قول الله {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [16]

سمع قول الله فوعاه وعي المؤمن المصدق فكان الخوف من الموت شيئا منسيا.

وليس من حقنا أن نبرئ المسلم من حرصه على المنفعة الذاتية، بل هو يطلبها لنفسه طلبا حريصا وما كان ليبذل مهجته سدى، وما يعطيها إلا بحقها، وإنه يتقاضى الثمن من الله عز وجل: إذ عقد معه بيعا رابحا: فهو يبيع لله نفسه بجنة عرضها السماوات والأرض قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [17]

ص: 420

هؤلاء المحاربون الذين يبلغون هذا المدى من العمق الإيماني يقبلون طواعية على هذه الصفقة الرابحة، وعلى أيديهم يجعل الله النصر إن شاء ولا يصل الجندي المسلم هذا المستوى الرفيع حتى يحقق لذاته صفات وخلالا تجعل كيانه إيمانيا عمليا كله، تبتدئ في سلوكه من جزيئات سلوكه المغموسة بالإيمان غمسا، وأول مسلك له أن يتوب إلى الله من ذنوبه فإن فن طلب التوبة اعترافا بالتقصير واستعدادا للبذل والتضحية ثم يقبل على عبادة الواحد الأحد عبادة يتجلى فيها الإخلاص قولا وعملا، حامدا ربه على نعمة الإيمان وما خص به من الإكرام في تكليفه بالواجبات، وعلى ما منحه من حرية الجهاد وقد كانت الطواغيت تخنق قلبه وتكبل يديه ثم لا يفتر عن التسبيح والتهليل ولا يسهو عن الصلاة ولا يخطو خطوة إلا ليأمر بمعروف وينهى عن منكر، فلا تفارقه التقوى ولا يتجاوز حدود الله. وهذه الصفات أو الشروط في المجاهد ليست من اقتراح إنسان وإنما نص الله على وجوب توفرها في جنده المحاربين فذكرها مفصلة بعد الآية السابقة التي حدث فيها عن اشتراء أنفس المؤمنين بالجنة فقال عز وجل:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [18]

وقد ربح بيع المؤمنين الذين لم يكونوا شيئا مذكورا ثم صاروا أمة تقاتل معهم الملائكة وتستغفر لهم وتشد أزرهم ثم يمكن الله لهم في الأرض إن هذا لهو الفضل المبين.

2-

القدرة على احتمال الزلزلة في القتال:

ص: 421

ومن خصائص هذا الجيش أن أفراده المبشرين بالنصر لا يجنون ثمرته حتى يستفرغوا جهدهم في القتال، ويثبتوا ثباتا يقطع عزم الأعداء، لأن هذه القدرة من الاحتمال هي البرهان العملي على ما وقر في القلب من حل التضحية قال تعالى:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [19] ثم يخرجون من هذه التجارب أصلب من الصخور الراسية لا تجتاحهم عاصفة من رهبة ولا سيل من غزو، وقد وضع الله المسلمين الأولين في ميادين الاختبار ورماهم بالعدو الكثير العنيد الحقود فظفروا بمرضاة الله وكانوا أحق بها وأهلها وذكر الله ما لقوا من عدوهم في غزوة الأحزاب فقال:{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [20]

وقد جعل الله لهذه المعاناة للزلزلة سنة خالدة في الأولين والآخرين يأخذ سبيلها من أراد أن يرتفع إلى مقام الأبطال وأن تفتح له أبواب الجنة فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [21]

ص: 422

أجل إن نصر الله قريب.. قريب في هذه اللحظة التي يشعر فيها المؤمن المقاتل أن لم يبق بينه وبين الجنة إلا ضربة بسيف أو طعنة برمح أو قذف بقنبلة أو انقضاض بطائرة في هذه اللحظة بالذات تأخذ الغيوم تتقشع وتتسرب أشعة الشمس من خلال الشقوق بين السحب الدكناء ويتبدى النصر للمجاهدين قليلا قليلا وهم يعانون المآسي ويحتملون الآلام ويبذلون التضحيات إنهم لا يستروحون عبير النصر حتى يشرفوا على لحظات اليأس، وإذ ذاك يتدفق الأمل في النفوس حيا ثجاجا عجاجا ويتنزل النصر من عند الله فيتمسكون به ويضنون به، وإذا تعودت النفوس العزة كبر عليها الذل فتخجل من النكوص على العقبين ومن الارتداد إلى الهزيمة.

أجل إن نصر الله قريب ولكنه ليس قريبا إذا استجدى المسلمون إيقاف القتال وعدوهم عليهم ظاهر ولم يكن طعم من ردود الفعل إلا الدموع والتظلم والشكوى.

3-

المصابرة والمرابطة والثبات:

ومن ثم صدرت الأوامر من الله إلى الجيش الإسلامي بالمصابرة والمرابطة والثبات، فإنها أعمدة النصر المنتظر إن رفعت على تقوى الله والتزام حدوده فقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [22]

والسر في ذلك أن الصبر من الحرب كالروح من الجسد، وأن الفريق الأجلد والأصبر هو الفائز بالنتائج الرابحة في المعركة ولذلك أمرنا الله أن نصابر الكافرين في القتال حتى نغلبهم في الصبر وقد أرشدنا سبحانه إلى القوة التي يستمد منها الصبر وتعين عليه ألا وهي تقوى الله، فإن الفار يبوء بغضبه ومن يخشه يمتثل أمره ويثبت قدميه في مستنفع الموت لا يرتدون خائبين وبالصبر أحبط المسلمون يوم الخندق خطة الأحزاب وكان من دواعي فخرهم إن صبروا ويشهد بذلك شعر قاله كعب بن مالك رضوان الله عليه يوم الخندق:

ولو شهدت رأتنا صابرينا

وسائلة تسائل ما لقينا

ص: 423

صبرنا لا نرى لله عدل

وبين أن للصبر غاية منبعها التقوى:

نكون عباد صدق مخلصينا

لننصر أحمد والله حتى

وأحزاب أتوا متحزبينا

ويعلم أهل مكة حين ساروا

وأن الله مولى المؤمنينا [23]

بأن الله ليس له شريك

والمرابطة من المصابرة ولكنها الصبر المستديم غير المبتوت الجامع للحذر والتيقظ والرصد الدائم لتحركات العدو. ولا يحفظ بلاد الإسلام إلا المرابطون في الثغور والحدود يصدون عنها الطامعين ومنها ينطلقون فاتحين فهم في حالة دائمة من الاستعداد والتنبيه والتوثب وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دور هؤلاء المرابطين فبشرهم بالثواب الطيب فقال من حديث له: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن يشفع لم يشفع"[24]

ولو أنعمنا النظر في كثير من حروب الإسلام الهامة لوجدنا أن الثبات العظيم الذي لبسته فئة مختارة من المجاهدين كان له الأثر البليغ في تلك المعارك وفي مستقبل المسلمين.

ص: 424

ففي معركة أحد جهد المشركون للوصول إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والحقوا به أذى حتى ظنوا أنه قد قتل ولكن نفرا من الصحابة استماتوا في حياطته والدفاع عنه، فجالدوا جلادا عنيفا، وكان منهم أبو دجانة (ترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل)[25] ومنهم سعد ابن أبي وقاص وكان يرشقهم بالنبل رشقا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول يناوله السهام وهو يقول: "ارم، فداك أبي وأمي"[26] وأظهر بعضهم من نادر البطولات، في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقايته من المشركين ما رفعهم إلى منزلة الشهداء وهم أحياء فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في طلحة بن عبيد الله-وكان له في أحد المنجد المعوان-:"من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله"[27]

ويوم حنين ولى المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خيل للمرتابين هزيمتهم، وما إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس رضي الله عنه أن ينادى: (يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب الشجرة [28] حتى تيقظت في النفوس الذكريات، وتأججت العواطف الخالدة فأجابوا:"لبيك لبيك"[29] وأسرعوا إليه، وما أن تجمع منهم مائة حتى حمى الوطيس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبتوا للعدو، وأخذوا في زحزحته وتقطيعه، (فما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم [30] فحقق الله نصره بسيوف هذه المائة من الصابرين وبقلوبهم المؤمنة.

4-

القوة المعنوية العظمى.

ص: 425

وقد جعل الله الثبات والصبر في متناول المسلمين، لما نفحهم به من روح معنوية غالبة على إمكانيات العدو النفسية كلها: إذ أمرهم ألا يسمحوا للوهن أن يجد إلى نفوسهم مدخلا، وبين لهم أن المؤمن الذي يريد أن يسلم له الإيمان نقيا من الشوائب بريئا من المفسدات، هو الذي يضل الخوف عن قلبه شلا، قال-تعالى:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [31] فلا يحق للمؤمن في تعاليم الله أن يدخل عليه الإحساس بالضعف والفتور، فإن فتر فقد مركز المتفوق والعلو.

ص: 426

ذلك أن الوهن النفسي أول الهزيمة ولا يسببه إلا استعظام الموت والجراحات ولا يبعده إلا تناسيها وتهوين أمر المصائب وهي من طبائع الحروب، ولا حرب من غير خسائر تنزل بالفريقين معا: قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [32] وقد أولى الله هذا العامل النفسي اهتماما كبيرا لأثره الفعال في تقرير مصير المجاهدين، فكان القرآن حريصا على أن يسمو بروحهم المعنوية في المعركة، وقبل أن يدخلها، وبعد أن يخرجوا منها، يتتبع حركات نفوسهم، ولا يسمح لهم بتنازل-وإن قل-في شعور الاستعلاء على العدو، وينهاهم عن السعي إلى السلم فرارا من الزحف قال تعالى:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [33] والسبب في ذلك جلي الجلاء الساطع فإننا إن نخرج من المعركة ضعاف النفوس تكن خسارتنا مضاعفة في الجانب المعنوي والجانب المادي معا أما إذا خرجنا بنفوس مستعيلة فلم نخسر ماديا إلا مثل ما أصبنا به أعداءنا فنحن وهم في القروح سواء ونفضلهم بالإيمان وعظم النفس فتبقى لنا الغلبة عليهم.

ص: 427

ولذلك أقر النبي عليه الصلاة والسلام ما فعله بعض المؤمنين في القتال مما فيه دلالة على رفعة معنوياتهم، وهو عند الله ورسوله مبغض في غير هذا الموطن: ففي يوم أحد أخذ أبو دجانة السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه، وهو أن يقاتل به حتى ينحني. فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه وكان إذا اعلم بها علم الناس أنه سيقاتل، وجعل يتبختر بين الصفين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر:"إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن"[34] وكانت القوة المعنوية التي كان المسلمون عليها قبل القتال سر انتصارهم في كثير من المعارك التي لم يحرزوا فيها نصرا فكانت السر يوم بدر إذ خرج المسلمون قلة، وكثرتهم قريش بالرجال والخيل، ولم يكن للمسلمين قبلها بلاء مشهود، وكان يظلهم خوف أن يتخطفوا عن قلة.

وعلم الله ما في نفوسهم وهم يستغيثون فوضع في أيديهم مفتاح النصر ألا وهو التفوق النفسي في المعركة إذ أخبرهم أنهم ليسوا وحدهم في الميدان، وأن الملائكة لتقاتل معهم فكانت البشرى التي حلقت بهم إلى القمة من الثقة فانقضوا على المشركين كالشهاب فشردوهم كل مشرد، قال تعالى يذكرهم هذه المنة الكبرى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [35]

فكيف لا يصبرون بعدها؟ ومن تحدثه نفسه بفرار وهو يعلم أن الملائكة تضرب وترمي معه إن هذه البشرى هي التي جعلت الجندي المسلم يوم بدر غلابا لعشرة من المشركين بما نفخت فيه من الحمية والحماسة.

ص: 428

فإن قال قائل منا: "وأنى لنا ببشرى كهاتيك حتى تهدأ نفوسنا وتطمئن للنصر اطمئنان البدريين وأمثالهم؟ فإنه يجد الجواب في كتاب الله_تعالى الذي يهبنا البشرى ذاتها ذلك إن ربنا الكريم الرؤوف الرحيم وعدنا النصر القاطع إن اجتمعت لنا مقومات النصر التي أمرنا بحيازتها. أو ليس هو القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [36] إنه وعده الحق، ولا مبدل لكلمات الله.

وفى القرآن وصف مفصل للعملية الإلهية التي رفعت معنويات المسلمين في بدر وكان الهدف منها إزالة المخاوف والهواجس ووساوس الشيطان وإحلال السكينة محل هذا كله فعمد إلى الخواطر المضطربة والعواطف المصطرعة والأعصاب الثائرة فمحا ما بها بالنوم فذهب القلق وأنزلت السكينة. فناموا فى ليلة لا ينام فيها الخائف أبدا. وصحوا طيبين قريرين ليجدوا السماء قد جادت بالماء فمالت لهم الوديان ولبدت لهم الرمل بينهم وبين العدو. فاغتسلوا وتوضؤوا وشربوا، فطهروا نفسا وجسدا، وتيقنوا فضل الله، وصدقوا وعده، فأقبلوا على القتال لا يرون إلا النصر.

فثبتوا، وكان الثبات النتيجة الأخيرة لمرحلة الإعداد النفسي، وخرجوا يومئذ أبطالا، ولكن من صنع الله لا من صنع أنفسهم. قال تعالى:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَام} [37] وبالنوم أيضا هدأ الله خواطر المؤمنين وثبت فيهم اليقين عقب معركة أحد، وأخرجهم من ظلل الغم فقال تعالى:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [38] فكان ذلك وسيلة من وسائل الله للربط على قلوب المسلمين وحشد طاقتهم النفسية في مواطن البأس والغم.

ص: 429

ومن هذه العملية النفسية أن الله سبحانه وتعالى أزال من نفوس المؤمنين استعظام خطر الكافرين، بل هو شأنهم، وضاءل في أعينهم خطرهم حتى جرأهم وشجعهم في مهاجمتهم، ولو استعظموا أمرهم لتراجعوا عنهم لأنه وهو الرب يعلم حقيقة النفس البشرية وما هو لها قوة، وما هو لها تثبيط. قال تعالى:{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [39]

إن الهدف الأولي ظاهر وهو نصر المؤمنين على المشركين فجعل السبب إلى ذلك استقلال المسلمين لهم من به، ويذهب عنكم رجز الشيطان جانب واستهانة المشركين بالمؤمنين من جانب ولا شك أن المسلمين لم يجدوا جمع الكفرة كثيرا لما رفع الله من معنوياتهم فهانت عليهم الكثرة فكانت كالقلة، وأن الكافرين استهانوا بالمؤمنين لأنهم قدروهم تقديرا عدديا ولم يفطنوا لما كانت عليه النفوس من الشدة والصلابة والتأجج، فوجدوا عند الصدام ما لم يحتسبوا.

فالجيش الإسلامي لا ينبغي له أن يستعظم عدوه أو أن يهوله خطره حتى لا يداخله شيء من الوهن. ولكن يجب علينا أن ندرك الفرق واضحا بين الاستقلال للعدو وبين الاستهانة به فمع الاستقلال والاستصغار له الاستعداد الأوفى والتحفز الأعلى والتآلف الأقوى والإقدام الأمضى. ومع الاستهانة به التراخي والخطأ في التقدير والإهمال والتشتت والجبن. فلا يحق لنا أن نستقل عدونا حتى نعرفه حق المعرفة.

ص: 430

هذا وإن ما يعرفه العدو عن معنويات المسلمين يؤثر تأثيرا بعيدا في كفه عنهم أو تجرئه عليهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد العناية أن يعرف عنه المشركون مواصلة الكفاح بهمم شماء وما زال بالمسلمين يملؤهم بقوة النفس خوفا من انحسارها فيهم. ولقد عادوا من أحد وفيهم الجراح البليغة والأحزان الدكناء وندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملاحقة قريش حتى لا يظنوا بالمسلمين خورا فاجلبه المؤمنون والجروح عليها الضماد والركائب في كلل. فلما رأى أبو سفيان منهم الجد والعزم تهيب الكرة عليهم فانتصروا عليه بعلو-معنوياتهم وردوه بصبرهم في هذا الموقف العظيم وأمثاله بلغ المسلمون الذروة في القوة النفسية فلم يلقوا بعدها إلا النصر وقد أثنى الله عز وجل عليهم في محكم كتابه فقال: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [40]

5-

التآلف والتآزر:

ص: 431

ومن ثم جعل الله سبحانه للقوة المعنوية موارد عديدة يورد المؤمنين منها ما شاء، على أنه من عليهم بمورد دائم فياض لا يغيض ولا ينضب ماؤه يذكي فيهم الحمية والشجاعة ما نهلوا منه إلا وهو منهل التآلف والتعاضد والمؤمن إن رأى نفسه عضوا في جماعة كبيرة متساندة متآخية متحدة الكلمة والرأي استشعر ثقة كبرى، وإن علم أنه يقاتل في جيش يتسابق أفراده إلى الشهادة امتلك حينئذ الثبات والإقدام امتلاكا والحق أن هذه الوحدة في الفكر والشعور هي أظهر ما يميز الجيش الإسلامي، بل هي شعاره ورايته ولم يمن الله عليه بالنصر إلا بها إنها كلمة السر في انتصارات المسلمين وفي عزهم وظهورهم وقد ذكر الله نبيه نعمته تلك في الحديث عن بدر فقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ} [41]

ومن نافلة القول أن نذكر أن سبب التأليف هو وحدة العقيدة والتزامهم بها، وأن حظهم من قوة التآلف يقاس بمقدار ما هم عليه من الارتباط بها والاندماج فيها. وما زال الله يجمع بين المؤمنين بالإيمان حتى صنع منهم مثلا لا يدانى في وحدة الصف والكلمة وهل نجد في التاريخ كله مشهدا أقوى اتحادا من مشهد المؤمنين يوم بيعة الرضوان في الحديبية إذ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصبر أو الموت.

ص: 432

وكانوا في ثياب الإحرام فلم يبالوا إن كانت أكفانهم. في هذا الموقف العظيم لم تكن قوة المشركين مهما عتت قادرة على الصمود في وجه الجيش الإسلامي المتحد، قال تعالى في تلك المناسبة:{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [42] ولكن كلمة الله الجليلة أرادت لهم غير القتال ولقد اطلع الله على المؤمنين وهم يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم حقيقة صدقهم فعجل لهم الثواب من غير عناء قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [43] وكان راضيا عنهم لأنهم ارتفعوا إلى أفق من الإيمان والتسليم لله ما يرتفع إليه المؤمنون إلا نصرهم إن شاء قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [44] وليس عندي من التصرف في القول ما أقوى معه على وصف ما كان عليه الجيش الإسلامي الأول من وحدة في الفكر والعمل وما يجب أن يكون عليه جيش الإسلام في كل عصر ومصر ولكن الله وصفهم بنفسه إذ قال في المبايعين بيعة الرضوان في الآية الأخيرة من سورة الفتح:

ص: 433

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [45]

هؤلاء هم عناصر الجيش الإسلامي صهرهم الإيمان والإخلاص للفرد الصمد فتراحموا فيما بينهم وإذا لقوا الكفار أذاقوهم بأسا مرا. ولقد تكاملوا بالإيمان شيئا فشيئا وصنع الله بعضهم من بعض فلا ينفذ إلى صفوهم وهن أو تفريق كما يتكامل النبات خلية حتى يصير زرعا ناميا معطاء فإذا الجذور والساق والأوراق والأنسجة واللحاء والقشرة يعين بعضها في استقلال تام عن الأجسام القريبة.

إن هذا لهو المثل الحق لجيش الإسلام. فمتى يخرج المسلمون جيشا مثله؟

3-

تشكيل قيادة إسلامية:

ص: 434

وسارت بهذا الجيش الفريد في دروب النصر قيادة إسلامية فريدة يعزى إليها الفضل في إنجاح الخطط وكسب المعارك، ويشهد الاستقراء التاريخي أن الحاكم الأعلى للمسلمين هو القائد الأعلى لقواتهم المسلحة وهو رئيس هيئة أركان حرب الجيش لا يبتعد عن الدراية الدقيقة بمواقف الجند المسلمين، ودرجة استعدادهم وفعاليتهم، وبالمهام المناطة بهم ويظهر من بعض أحاديث الرسول ومن سيرته أنه يستحسن للقائد الأعلى الاشتراك الفعلي في الحروب كلها، أو أكثرها، فكان عليه الصلاة والسلام القائد في الغزوات الشهيرة وكان يتمنى لو استطاع أن يكون على رأس السرايا كلها فقال في حديث له:"لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه، ويشق على أن يتخلفوا عني"[46]

كما يشهد التاريخ أن الذين عهدت إليهم المسؤوليات في الفتوحات الكبرى كانوا أدهى الناس في شؤون الحرب وأشدهم مراسا لقتال. ولهؤلاء القادة العسكريين صفات لا تكاد تختلف ولا بد من توفرها فيهم ويمكننا التعرف عليها بيسر إذا تقرينا أخبار قادتنا أمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاصم بن ثابت ابن أبي الأفلج وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحه وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص والمثنى ابن حارثة وقتيبة بن مسلم الباهلي وأفذاذ غيرهم، ولا شك أنهم اختيروا للمركز القيادي لما جعل الله فيهم من الخصال الشماء، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد تولى الله اختياره فكان مثلا في القيادة لا يجارى ولا يدانى، وأما القواد الآخرون فاختارهم الحكام اختبارا وبلاء..

ومن سير هؤلاء نستخلص مميزات القيادة فنجد أهمها:

أ- الشجاعة الخارقة:

فلم يكن للعدو هيبة ولا للموت رهبة في نفوسهم يجذبهم إلى الإقدام جاذب لا يدفع ويدعمهم عزم لا يقطع.

ص: 435

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إلى مصادر الفزع يسبق الناس إليها على صهوة جواده وحده وأثبتهم في قتال إذا ولى الناس [47] وربما نازل قائد سرية مسلحة لا تتجاوز ستة نفر جمعا كثيرا حتى يقتل [48] وضرب زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحه مثلا في الثبات حتى الموت يرفعون الراية غير مبالين بالسيوف تأخذ من أوصالهم. [49]

وإذا كانت الشجاعة أسعدتهم بالشهادة فقد كللت غيرهم بالظفر وكلاهما عند الله فوز وهذه الخليقة لا بد منها في المقاتل قائدا كان أو مقودا إلا أنها في القائد ذات اعتبار خاص فإن تقدمه صفوف المقاتلة يرفع من معنويات الجندي إقتداء به ويستخرج أقصى الجندي إقتداء به ويستخرج أقصى ما عندهم من الثبات والهجوم.

ب- الأمانة: ذلك أنه ما تحقق نصر في تاريخ الإسلام إلا بقيادة مخلصة نابعة من أعماق المسلمين الذين التفوا حولها فأخذوا من حكمتها وإخلاصها وأعطوها من صدقهم ونصيحتهم ولقد يبدوا هذا القول من المسلمات الأولى ولكن يصبح النص عليه لازما إذا خلى المسلمون القيادة لفئة ليست منهم يترقبون من قبلها نصرا فتقتحم عليهم الهزائم من كل باب، فهم يفقدون فيها الأمانة والغيرة على أوطانهم ومصالحهم والرفق بهم الشفقة عليهم من المكاره والذل ولا يجدون إلا غلظة وإباحة للحمى وقسوة وامتهانا ولعلنا نستطيع أن نفهم معنى الفضل الإلهي حق الفهم في خطاب الله المؤمنين:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [50]

ص: 436

ج- قوة الشخصية: وهي أبرز صفات القائد وقد بين الله معالمها الكبرى في شخصية طالوت إذ اختاره الله ملكا على بني إسرائيل فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [51] واستبعد الله الإسرائيليين الجماعين المناعين وكانوا أرادوا الملك لأنفسهم فقالوا معترضين: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [52] . وما استبعدهم الله إلا لأن الأثرة تتعارض تعارضا تاما مع التضحية والإيثار.

وضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا في التخفف من أعباء المال فكان يرفع نفقة عياله لسنة ويرد الباقي في موازنة الدفاع. [53] حتى لا تتأثر النفس بشيء من حب الدنيا فتجنح إلى الطيب اللين من العيش فتثاقل إلى الأرض لأن التقشف كان يحفظ نفوسهم من فتور الدعة ويبقى لها شدتها وتنبهها وفعاليتها ومن ثم لم يدخل الاعتبار المادي في اختبار الرسول والخلفاء الراشدين القواد والأمراء وكان عمر رضي الله عنه يعزل العمال الجانحين إلى لين العيش ويستبقي المخشوشنين والحق أن من يتولى القيادة لا يؤثر على الأتباع بغنى وسيع أو مال منتشر ولكن بما يكنون له من تقدير واحترام ومحبة هي الاعتراف بمزاياه وبقوة شخصيته.

د- الطاعة: ولا بد من أن تحظى هذه القيادة برضى المسلمين عنها وطاعتهم لها وتنفيذ أوامرها بدقة فهي الرأس المفكر وهم الجوارح المنفذة فإن التجاوب بينها وبين عناصر الجيش كفيل بالنظام والنجاح وقد أمرنا بالطاعة ما لم تكن معصية فإن كانت معصية فلا سمع ولا طاعة [54] وأعظم الطاعات مردودا ما انبعث من المحبة والثقة بالقائد،

ص: 437

فيعتصب الجيش بقيادته اعتصابا ويندمج فيها وتندمج فيه فتتناسق العمليات والخطا وتقل الأخطاء ويعطي الجيش طاقاته كلها في خطة منسقة محققة للنصر، ولو قرأنا أخبار الفتوحات الإسلامية وما حققته من باهر الانتصارات فلن نخطئ أبدا إذا حكمنا بأن جانبا كبيرا من النصر يعزى إلى التواثق والتجاوب بين القيادة والجندي، وفي تاريخنا مواقف خالدة لهذه الطاعة الراضية المرضية فقد بحث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها في من أقبل معه إلى بدر في أول مشهد عظيم فوجدها فيهم وارتضاها كان يقول:"أشيروا علي أيها الناس"[55] يستوثق من أصحابه، وكل يجيبه بالطاعة والرضا، وفي مقالة المقداد بن عمرو ما يفحص عن هذه الطاعة التي لا تعرف حدا للإذعان والاستجابة. قال المقداد:"يا رسول الله أمض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوا الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجا لدنا معك من دونه حتى تبلغه".

وقد علمت المؤمنين الأحداث أن طاعة قيادتهم تقتضي التنفيذ الفعلي الدقيق للأوامر كلها، ولا يحق لأي وحدة من وحدات الجيش أن تتصرف تصرفا خاصا بها، وقد دفعوا يوم أحد الثمن غاليا إذ خالف الرماة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا عن الجبل طمعا في الغنيمة لما أيقنوا هزيمة القوم فالتفت عليهم خيل المشركين وكلفتهم هذه المخالفة سبعين شهيدا وكانت درسا قاسيا علمت المسلمين بعدها الالتزام الشامل للأوامر الصادرة من رسول صلى الله عليه وسلام فكان أحدهم يوم الخندق إذا أراد الذهاب لبعض حاجته استأذن الرسول عليه الصلاة والسلام فيأذن له.

ص: 438

ويدخل في باب الطاعة أن يردوا القيادة النظر في الأنباء التي تأتيهم عن أحوال العدو وأن يتورعوا عن نشر الشائعات التي تتعلق بأمن الدولة خوف البلبلة والتشويش قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَاّ قَلِيلاً} [56]

هـ الخبرة والدراية والإخلاص:

ص: 439

ويختار لمراكز القيادة العسكرية أفذاذ الرجل الذين شهد لهم بالموهبة وعرفوا بالعبقرية في فنون القتال. وهؤلاء يجب أن يبقوا في منأى عن سياسة الدولة منصرفين لدارسة إمكانيات الدفاع والهجوم متتبعين لوسائل الحرب وفنونها. وعليهم أن يتلقوا من القائد الأعلى للمسلمين وهو خليفتهم الأوامر فينفذها على وجهها، ولنا في خالد بن الوليد رضي الله عنه أسوة حسنة إذ أسلم القيادة لأبي عبيدة بن الجراح أمراً من الخليفة عمر عقب انتصار المسلمين في اليرموك وأن الانصراف عن المسائل العامة هو الذي يمكن العسكريين من التعمق في التخصص واستغلال ملكاتهم أحسن استغلال. وإننا لنذكر والأسى العميق يقطع أنياط قلوبنا ما فعلته العصبية القبلية أو المشاركات لسياسية في عديد من قادتنا الكبار منهم قتيبة بن مسلم الباهلي فاتح المشرق وموسى بن نصير فاتح المغرب وطارق بن زياد فاتح أسبانيا. والله وحده يعلم ما كان يمكن أن يكون عليه مستقبل تلك البلاد في المشرق والمغرب لو قدر لهؤلاء القواد أن يبقوا على رأس جيوشهم يتابعون رسالة الفتح ويوطدون الملك في الأقاليم الجديدة قبل أن تتسرب إليها الخلافات وتدب فيها عوامل الضعف حتى انتهى بعضها إلى الانهيار واضطر المسلمون للجلاء عنها بعد قرون من فتحها وعمرانها ويجدر التنبيه على أن التفكير السياسي لكثير من قواد الدولة الإسلامية كان من أكبر عوامل التجزئة فيها، إذ طمع بعضهم بالملك فجعل لنفسه الأمر في البلاد التي ولي عليها ولم يبق له بالخلافة إلا اتصال اسمي فتعددت القيادات في الدولة الإسلامية ولم تكن على وفاق فقاتلت في جهات متعددة وهي متفرقة حين لم يكن بعضها يقاتل بعضا ولا أدل على ذلك من أن سيف الدولة الحمداني في القرن الرابع الهجري حمل وحده عبء الجهاد وغزو الدولة البيزنطية حتى استنفذ قواه ولم يبق له بقية من صمود، وأن الصليبيين لما دخلوا بيت المقدس ذبحوا خمسين ألفا من أبنائه المسلمين والمسلمون من

ص: 440

حولهم أعجز من الأوتاد عن نصرتهم ولم يسترد صلاح الدين الأيوبي القدس إلا وهو على رأس قيادة إسلامية موحدة ولن يستردها غدا إلا مثلها.

لقد ذكرنا بعض ما يجب أن تمتاز به القيادة الإسلامية، ونوهنا بدورها الكبير في تحقيق النصر ولكن مهما بلغ شأن الأفراد فيها من علو القدر وقوة الشخصية وتجمع الثقة بهم يجب ألا يؤثر فقدهم على مجرى الحروب وموقف الجندي مهما بلغ حبهم وإعظامهم لأن القائد كغيره من الناس يلقى الأجل المحتوم فهو ذاهب ورسالة الإسلام باقية. ولقد نبه الله تعالى المسلمين إلى هذه الحقيقة عندما ظن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل فكاد بعضهم يستيأس قال تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [57]

4-

تطهير صفوف الجيش ومراكز انطلاق المسمين من المنافقين والعملاء:

ص: 441

ولا يخلو المجتمع الإسلامي من أعداء فيه ينتسبون إلى الإسلام وهم يبطنون الكفر ويتربصون بالمسلمين الدوائر. وهؤلاء تكشفهم الأحداث التي تحيق بالمسلمين فيسفرون عن وجوههم كالحة كلما زحفت إلينا الأخطار وأحاط بنا الأعداء، فيمسون الأعوان لهم واليد الحذاء بالتآمر معهم، ولكن لا ينكر المسلمون منهم شيئا في الأمن والسلم فهم يشعرونهم أن أهدافهم أهداف المسلمين وأمانيهم أماني المسلمين فيطمئنون إليهم في غير موضع اطمئنان إليهم، ويتركون موضع المخافة من غير حراسة فإذا أدلهم الخطب أجهضوا قوة المسلمين إجهاضا. وكان تنبيه القرآن إليهم ملحا وتحذيره منهم كثيرا شديدا. ومما قاله تعالى في صفتهم:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [58] .

ومن أظهر خصائصهم الجبن لما تجن صدورهم من البغضاء للمؤمنين والغدر بهم والخيانة لهم. فهم أكبر مصدر من مصادر الخذلان في الجيش، ولقد رأيناهم يرجعون قبل البدء بالقتال أو المسير إليه في كثير من حروب الرسول صلى الله عليه وسلم فرجعوا عنه في بدر وأحد والأحزاب وتبوك وغيرها يريدون تشكيك المؤمنين وضعضعة معنوياتهم.

ص: 442

ولقد عاتب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عندما إذن لهم في الخروج معه إلى تبوك فلم يتجاوزوا ثنيات الوداع من المدينة فقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [59] فأعلمنا إن استبعادهم من صفوف الجند واجب لما له من ضرر بالغ في نفوس المقاتلة بتثبيط الهمم فهم يخيلون للمجاهدين عبث الخروج ومضيعة الاحتشاد والسير بقولهم لهم كما حكى الله عنهم {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ} . فإن كانت الحرب واستجاب لله المؤمنون فكرم منهم من شاء بالشهادة حركوا الأسى في نفوس ذوي الشهداء: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [60] وهم يتربصون بالمؤمنين هزيمة ماحقة ليكشفوا عن السرائر: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَاّ يَسِيراً..} [61] ومن هنا يتوجب على المسلمين أن يطهروا صفوفهم منهم عملا بالأمر الإلهي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [62]

ويتفرغ من هذا وجوب التخلص من الذين يتوقع منهم خطر دائم من خيانة أو غدر أو تأليب على المسلمين، وذلك إما بإجلائهم عن مركز انطلاق المسلمين أو بقتلهم كما كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم مع بني النضير وبني قريظة، الذين وضعت غزوة الأحزاب تصفية نهائية لهم وكانت هذه التصفية ركيزة النصر في الحروب التي تلتها.

ص: 443

وقد أثبتت الأحداث أن الكفار واليهود بخاصة لا عهد لهم، ولن يألوا غدرا وتآمرا، ولن يفسحوا في حرية الانطلاق لتبليغ أمر الله ونشر رسالته في الأرض، وأنهم إن وادعوا المسلمين باليد لم يوادعوهم باللسان، وإن أظهر لهم المسلمون مودة أبطنوا لهم كراهية وحقدا وإن أشركوهم في بعض مصالحهم أفسدوها عليهم ولقد لقي رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه غدرا بليغا وأسى كبيرا من المشركين كغدرهم بالمسلمين في غزوة الرجيع وبئر معونة إذ لا عهد لهم ولا ذمة، ولذلك نزل الأمر الإلهي بتنظيف الجزيرة العربية من المشركين والكفرة المتآمرين ليأمنوا من ورائهم إذا انطلقوا إلى فتح العالم.

وهكذا نجد أن في مقومات النصر الأساسية

أ-إبعاد المعوقين عن صفوف الجيش.

ب- تطهير مراكز تجمع المسلمين وانطلاقهم من الأعداء الحقيقيين.

5-

التسلح والتعبئة العامة:

تمتاز حروب المسلمين بأنها حققت منجزات كثيرة بأعداد قليلة، أعانهم على ذلك عامل خطير، ألا وهو إرهاب العدو وإرعابه. قال عليه الصلاة والسلام من حديث له "ونصرت بالرعب" [63] وأشار تعالى إلى هذا العامل الحاسم في هزيمة المشركين فقال:{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [64] وقال في بني قريظة وكانوا معتصمين بالحصون المنيعة، فأسلموها واستسلموا:{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [65] ذلك أن الرعب يقضى على العدو بالهزيمة النفسية، وهي الهزيمة الحقيقية وظل هذا السلاح مقدمة الجيوش الإسلامية ما ضربت في الأرض فاتحة، ترتعد فرائص العدو إذا أحسوا لها اقترابا.

ص: 444

وثمة أسباب للرعب، منها متابعة الغزو في بلاد العدو حتى لا يعرف منا إلا البأس الشديد والنكال الوفاق، فيتهيب إقدامنا ويهزمه الخوف قبل أن يلقى المقاتلة، وفي هذا قصد في الخسائر وكسب في المغانم وتحدثنا كتب السيرة عن الغزوات العديدة المتلاحقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون بين الغزوة والغزوة إلا الأشهر القليلة، وإذا كانت طبيعة الدعوة اقتضت تتابع الغزو زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المسلمين صبروا على هذه السنة بضعة قرون ولما أغمدوا السيوف وانقطع والغزو جاءهم العدو من كل مكان إذ لم يبق لهم صيت مرعب.

ومنها التسلح الأتم والاستعداد العسكري الأوفى، وقد نصت على ذلك الآية في قوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [66]

فإن العدة مصدر لا يستهان به من مصادر الرهبة، وقد أمر المسلمون باستكمالها، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجعل ما زاد عن نفقة أهله في السلاح، وحين أفاء الله عليه من أموال بني قريظة بعث بسبايا منهم وبأموال إلى نجد ليشتري بها خيل للمسلمين ذلك أن المسلمين لا ينبغي لهم أن يسمحوا لعدوهم أن يفوقهم في درجة الاستعداد العسكري، وعليهم أن يسابقوه إلى التسلح لتبقى رهبتهم في قلبه وعليهم أن يجدوا في ابتكار الوسائل والمخترعات التي تقرب النصر، وتوفر على المسلمين العناء والخسارة كان الخندق الذي احتفره الرسول والمؤمنون في غزوة الأحزاب حول المدينة تخطيطا عسكريا فوجئ به العرب-وكان سلمان الفارسي قد أشار بحفره-حتى زعم بعض المشركين أن هذا الخندق هو الذي ردهم على أعقابهم:

لدمرنا عليهم اجمعينا [67]

لولا خندق كانوا لديه

ص: 445

كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام أول من رمى بالمنجنيق في الإسلام في حصار الطائف. وكان لدى الجيش الإسلامي زمن الأمويين والعباسيين مبتكرات ووفرة في السلاح لا يضاهى بمثلها.

ومن هنا كان من مقومات النصر الأولى أن يزداد المسلمون في التسلح حتى يتفوقوا على أعدائهم إرهابا له وتمكينا لأنفسهم، وأن من واجبهم أن يصنعوا هم ذلك السلاح ما استطاعوا لصنعه سبيلا كما يدل احتفار الخندق وتركيب المنجنيق فهذا أوعى للتوثق والاطمئنان، وعلى المسلمين وحدهم تقع المسئولية أمام الله إذا سبقوا إلى استحداث سلاح فتاك يهدد وجودهم بالفناء فلم يستحدثوا مثله أو أمضى منه ذلك أن قوام كل نصر بسبب مادي وسبب معنوي فإذا استوى المسلمون والكفرة في العدة والسلاح غلب المؤمنون بإذن الله لتفوقهم المعنوي الظاهر، ولأنه وعد الله ولا يخلف الله وعده.

ومنها التعبئة العامة وهي كما كانت عند المسلمين الأولين إجابة داعي الله إلى الجهاد من كل قادر على حمل السلاح، وحشد القوى المالية والنفسية واستخراج ما في الوسع. وكانت النساء ينهضن بعبء الدفاع المدني، جاء في الحديث:[68] عن الربيع بنت معوذ قالت: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة"

فإذا استتم المؤمنون الاستعداد واستوفوا شروطه وعزموا على القتال توكلوا عندها على الله حق توكله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [69]

6-

ذكر الله واستغفاره في القتال:

ص: 446

ومن أسس النصر في حروب الإسلام: استغفار الله في المعركة والإكثار من ذكره، يقينا أن النصر من عنده وحده، فتخلص له النفوس وتتجه إليه متوكلة صابرة، وقد أمر الله بالذكر فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [70] وعلم المؤمنين الدعاء عند لقاء العدو: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [71]

وينبني على هذا أن تدابير المؤمنين في الحذر والاستعداد والتخطيط لا غناء فيها إلا باليقين المطلق أن لا نصر إلا بالله، ولا تنفع من غيره كثرة ولا عدة وكانت موقعة حنين درسا بليغا للمسلمين إذ قال قائل منهم:"لن نغلب اليوم من قلة"[72] ، فطارت الكثرة شعاعا عند الصدمة الأولى فانهزمت وجاء الله بالظفر على يد القلة المؤمنة التي لبت نداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وصبرت. قال تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [73] .

لذلك كانت مسألة النصر في حياة المسلمين غاية في الحساسية [74] ، وإن مثلهم مثل جهاز دقيق الصنع عجيب التركيب رهف الآلية لا يصيب الخلل جزءا ضئيلا من أجزائه إلا اضطرب سيره.

طبيعة الحروب الإسلامية:

ص: 447

قال تعالى في المؤمنين المنصورين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [75] ويلزم في كونهم خير أمة أن انتصاراتهم خير الانتصارات، وأن حروبهم خير الحروب، فما طبيعة تلك الحروب؟ فإن معرفة طبيعتها من الأهمية بمكان إذ مقومات النصر في هذه الطبيعة نفسها: إنها:

أ- حرب إيمانية:

حمل المسلمون أمانتها لينشروا دين الله في الأرض، ولم تثرها دواعي الطمع، ولم تبلغ ما بلغت من الروعة والقوة بالجشع وهي حروب فذة في تاريخ البشر وقد عين الله هدفها الإيماني وهدف الحرب الكافرة في قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [76]

ولهذا لا يكون للكفار غرض سوى زحزحة المؤمنين عن دينهم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [77] وتخصيص الحرب الإسلامية بهذا الهدف دلالة على أن فكر الإنسان وقلبه أفضل ما فيه، ولذلك وكان القضاء على العقيدة أو تحويل الناس عنها أعظم جرما من إراقة الدم وإزهاق النفس:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [78] فأمر الله بالقتال حتى يسلم الدين وتوأد الفتنة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَاّّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [79]

ومن البين أن القتال لدفع الفتنة ليس مادي الغاية، وإنما هو دفاع عن الإنسان المفكر الذي تختنق الطواغيت قلبه وتكرهه على معتقداتها وفلسفاتها بالبطش والنكال.

إن أعظم ما في حروب الإسلام أنها قامت لحماية قلب الإنسان وعقله، وهما أساس سموه وازدهاره الحضاري.

ص: 448

ولنا على ذلك أدلة كثيرة منها: منع شن الحرب لغاية مادية، ومنع الانتهازيين، أرباب المكاسب الشخصية، من الاشتراك فيها: إذ كان مفهوم الغزو عند الجاهليين الحيازة والغنم، فألغى الإسلام هذا المفهوم البائد وأحل مفهوما جديدا: هو القتال لإعلاء كلمة الله: وفي القرآن الكريم تصوير للنفسية العربية وهي تعاني النقلة من القتال المادي إلى القتال من أجل الله، قال تعالى في سورة الفتح:{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَاّ قَلِيلاً} [80] وكشف لهم عن حقيقة الحرب الجديدة لا مغنم فيها إلا الأجر ولا غاية إلا نشر الدين ليصيروا حملة رسالة بعد أن كانوا مطية ضلالة قال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [81]

ومن الأدلة على ذلك أنه قبل علانية الذين يعلنون إسلامهم على تخوف من الأسر أو القتل ونهى عن قتلهم أو أسرهم: فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [82] .

ص: 449

ومنها ما نظم من أمر الغنيمة والفيء النظام المعروف في الإسلام، بعد إن كانت الغنيمة في الجاهلية للغانم وحده أو بشركة سيد القبيلة.

ب- حرب إنسانية:

ولذلك يمكننا أن نصف الحروب الإسلامية بحق أنها حرب إنسانية إذ جعل الله رسالة المؤمن أن يكافح الأذى والسوء وأن يقضي على الطغيان في الأرض وفد قضت سنة الله أن الشر لا يدفعه إلا الخير، وأن الظلم لا يرفعه إلا الحق.

وهذه الصفة ظاهرة في حروب الإسلام فلم تكن إلا دفاع في المضطهدين عربا كانوا أو عجما، وليس في حروب المسلمين غير هذا المعنى مهما جهد المؤرخون في وضع النظريات لمنشأ الحروب وغاياتها، إنها حرب إنسانية بأوسع ما في هذه العبارة من معنى سواء كانت دفاعا عن النفس أو عن الآخرين.

فإذا كانت دفاعا عن النفس فللرد على ظلم غاشم ومن صفات المؤمنين الأصلية في كتاب الله الأنفة من قبول البغي {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [83] ويفرض الله عليهم إن يكونوا حماة المضطهدين والذائدين عن حقوقهم، إذ قال تعالى في استنهاضهم:{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [84]

وقد جعلت لها صفتها الإنسانية آثارا بعيدة المدى باقية على الزمان إذ أعانت على انتشار الإسلام، فأقبل الناس عليه إقبال الغرقى على سفينة النجاة، ولم يلق المقاومة والكيد إلا في الموتورين الحاقدين على الدين والإنسانية كلها. أما الحروب المنبعثة من الجشع أو شهوة القهر والسلطان فإن آثارها تزول بزوال أصحابها.

ص: 450

وطبيعتها الإنسانية لا تمنع أن تكون حربا هجومية، إنها هجومية في أقوى مضمون لهذه الكلمة، لا نداجي ولا نجامل ولا نخجل من هذا المحتوى ولا يحملنا حاضر المسلمين التعيس على إلقاء ظلال كاذبة زائفة على حروبنا، فهي هجوم على الكفر والإلحاد والطغيان ودفاع عن الروح والعقيدة والإنسان إن هذه الصفة باقية لها ما بقى للإلحاد تطاول في وجه الإيمان.

وهذه الصفة الإيمانية الإنسانية تفرض أن يكون لها شعار واحد ثابت على الدهور، هو:"لا اله إلا الله، محمد رسول الله"وإنها لتفقد جوهرها وتفرغ من مضمونها إن اتخذت ستارا غيره ولا تسمى حربا إسلامية أي حرب اتخذت شعارا يعارض الحقيقة التي ينبثق منها هذا الشعار، وإن كان وقود هذه الحرب جنودا من أبناء المسلمين.

د- حرب عادلة:

وتتجلى عدالتها في مواقف المسلمين السمحاء، باعتراف من أعدائهم، ومردها إلى التزامهم تعاليم الله التي شرعها لهم في معاملة المغلوبين والمعتدين. ويكفي أن نشير إلى العدالة المطلوبة في الحال التي تدعو إلى الرد على العدوان: إذ جعل الله للرد مقدار هو جزاء المثل، وقيده بالتقوى. قال تعالى:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [85] فأوجب الله على المسلم أن يحكم التقوى في سلوكه في المواقف كلها، وفي اللحظة التي لا يخشى في البطش حسيبا من الناس، ولكنه يخشى الله-عز وجل-فيمسك فإذا هو المحارب التقي العادل.

ويعطي الرد العادل أطيب النتائج للفريقين معا، فهو يكف عن المسلمين بأس الذين كفروا، ويفتح لهؤلاء باب الدخول في الإسلام وقد وجدوا جنده مثلا في العدل والرفق.

ص: 451

وهكذا يدخل المسلمون الحرب بقانون ويديرونها بقانون ويمسكون عنها بقانون، وفي كل المواقف تبقى إنسانيتهم التي أعطاهموها الدين ظاهرة فليس غريبا بعد هذا أن يقول كاتب غربي:"لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب"[86]

استبقاء النصر:

لقد حاز المسلمون هذه المقومات فحرروا أنفسهم والعالم من عبادة الطاغوت ثم دبت فيهم عوامل الضعف على مدى القرون، ففقدوا كثيرا منها، وقد يستعيدونها مرة أخرى - إن شاء الله لهم استعادتها- ويحملون راية الجهاد لإنقاذ البشرية من ويلات أمرا أفدح مما كانت تعانيه قبل ظهور الإسلام، فإذا قدر لهم الله ذلك كان عليهم أن يحتفظوا بالنصر وبأسبابه وليس من بحثنا أن نتحرى عن تلك الأسباب ولكن نعتقد أن الله قد جمعها في الآية الكريمة:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [87] .

وصية..

كان عمر بن الخطاب إذا بعث أمراء الجيوش أوصاهم بتقوى الله ثم قال لهم:

"بسم الله، وعلى عون الله، وامضوا بتأييد الله بالنصر وبلزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين.. لا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرما، ولا امرأة ولا وليدا، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وفي شن الغارات، ونزهوا الجهاد عن غرض الدنيا. وذلك هو الفوز العظيم".

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

البقرة الآية: 251.

[2]

الأنفال الآية:26.

[3]

الكهف آية 10.

[4]

الأنفال الآية:26

[5]

التوبة: الآية:38

[6]

الأنفال: الآيات:5-8

[7]

البقرة: الآية:216

ص: 452

[8]

الأنفال: الآية:17

[9]

آل عمران: الآية:142

[10]

النساء: الآية:74

[11]

التوبة: الآية 39

[12]

التوبة: الآية:23

[13]

السيرة النبوية لابن هشام: ق1ص627. تحقيق السقا

[14]

آل عمران: الآية157-158

[15]

محمد: الآيات4-5

[16]

آل عمران: 169-171.

[17]

التوبة: الآية111

[18]

التوبة: الآية112

[19]

آل عمران: الآية154

[20]

الأحزاب: الآية11

[21]

البقرة: الآية:214

[22]

آل عمران: الآية2..

[23]

السيرة النبوية لابن هشام: ق2 ص255. تحقيق السقا.

[24]

صحيح البخاري: باب الجهاد: ح4ص28

[25]

السيرة النبوية لابن هشام: ق2ص82

[26]

السيرة النبوية لابن هشام: ق2ص80

[27]

السيرة النبوية لابن هشام: ق2ص8.

[28]

السيرة لابن هشام ق2ص

[29]

السيرة لابن هشام ق2ص

[30]

السيرة لابن هشام ق2ص

[31]

آل عمران: الآية:139

[32]

آل عمران: الآيتان:14.-141

[33]

محمد: الآية:7

[34]

السيرة لابن هشام: ق2ص66

[35]

الأنفال: الآيتان:9-1.

[36]

محمد: الآية7

[37]

الأنفال: الآيتان:43-44

[38]

الأنفال: الآية:11

[39]

آل عمران: الآية:155

[40]

آل عمران: الآية123

[41]

الأنفال: الآيتان:62-63

[42]

الفتح: الآية22

[43]

الفتح: الآية18

[44]

الفتح: الآية10

[45]

الفتح: الآية39

[46]

الصحيح البخاري ج 4ص42

[47]

انظر صحيح البخاري ج 4باب الجهاد

[48]

أنظر السيرة: غزوة الرجيع. ق، ص169

[49]

انظر السيرة: غزوة مؤتة. ق2ص373

[50]

التوبة: الآية:139

[51]

البقرة: الآية247

[52]

البقرة: الآية247

[53]

صحيح البخاري ج4:باب الجهاد

[54]

انظر صحيح البخاري ج 4باب الجهاد

[55]

السيرة لابن هشام: ق2ص615

[56]

النساء: الآية83

[57]

آل عمران: الآية144

ص: 453

[58]

المنافقون: الآية2

[59]

التوبة: الآية:43

[60]

آل عمران: الآية:168

[61]

الأحزاب: الآية:14

[62]

آل عمران: الآية:118

[63]

صحيح البخاري ج4باب الجهاد

[64]

الأنفال: الآية12

[65]

الحشر: الأية2

[66]

الأنفال: الأية6

[67]

السيرة لابن هشام: ق 2ص255

[68]

صحيح البخاري ج4 باب الجهاد

[69]

آل عمران: الآية159

[70]

الأنفال: الآية45

[71]

آل عمران: الآية147

[72]

السيرة: ق2ص444

[73]

التوبة:25 الآية

[74]

راجع في هذا الباب وصية عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص.

[75]

آل عمران: الآية110.

[76]

النساء: الآية:76

[77]

البقرة: الآية:217

[78]

البقرة: الآية:217

[79]

البقرة: الآية:193

[80]

الفتح: الآية:15

[81]

الفتح: الآية:16

[82]

النساء: الآية:94

[83]

الشورى: الآية:42

[84]

النساء: الآية:75

[85]

البقرة: الآية:194

[86]

هو غستاف لوبون.

[87]

الحج: الآية:41

ص: 454

منهج البحث العلمي في الإسلام

للشيخ إبراهيم السلقيني المدرس في الجامعة

بزغ فجر الإسلام فوجد الناس قد انصرفوا عن العلم فانصرف العلم عنهم، وخاصة العرب منهم، فتخلف الناس نتيجة لذلك، وتأخروا في كل ميدان، لذلك كان ابرز ما جاء به الدين الإسلامي ودعا اليه تعلم العلم وتعليمه..

فقد رفع الإسلام من قدر العلم كثيرا، كان ذلك منه في عصور سادتها الجهالة وقد جاءت آيات وأحاديث كثيرة تحث على العلم وتبين فضله، وترفع من شأن ذويه، وحسبك تقديرا للعلم أن أول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [1] . ولقد ذكر اسم العلم معرفة ونكرة في عشرات الآيات من القرآن الكريم تناهز المائة وهو يطبق على علوم الدين والدنيا، لا تقف عند حد، ولا تنتهي عند نوع خاص من المعرفة، فمن العلم المطلق قوله تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [2] أي لاتتبع ما ليس لك به علم يثبت عندك بالرؤية البصرية، وبالروايات السمعية أو البراهين القطعية، فإن الله تعالى يسألك عما أعطاك من آلات هذا العلم ولقد جعل الله تبارك وتعالى العلم مقياس التفاضل بين الناس وبه ترتفع أقدارهم فقال سبحانه:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [3]

ص: 455

ذلك لأن الشخصية الإنسانية لا يقومها ولا يرقيها شيء غير العلم، لذلك حكم الله سبحانه أن أهله يمتازون عمن سواهم، ثم ترى القرآن الكريم في آية أخرى يصرح بأن العلماء لهم درجات عند ربهم وميزات يخصهم بها، قال تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [4] كما أنه سبحانه أاعتد بشهادة أهل العلم في وحدانية فقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [5] ومن ناحية أخرى نزل القرآن الكريم يسجل على الذين لا يعلمون حكما لا يرضاه ذو إدراك لنفسه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [6] كذلك يقول تعالى رادا على المستبدين: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [7] وذلك حتى يخففوا من كبريائهم ويعدوا أنفسهم لتلقي نقد الناقدين، ويطلب القرآن من المؤمن أن يكون دائما في استزادة من العلم {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [8] ويبين القرآن الكريم أن الإنسان مهما ضرب في ساحات العلم فإنه لا يزال في البداية:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} [9] ولم يكن العبد الصالح الذي ذكر في سورة الكهف متبوعا وسيدنا موسى تابعا إلا أنه حظي بهبة العلم من الله الواسع العليم قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [10] .

ص: 456

وقد بين الله سبحانه سبب اختيار طالوت ملكا على بني إسرائيل رادا على من اعترض: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [11] .

فأولاد يهوذا أغنياء وطالوت من الفقراء فأرادوا أن ينازعوه الملك فرد عليهم الله سبحانه إن الملك ينال وترقى سدته بالعلم رمز القوة المعنوية، والجسم رمز القوة المادية.

ص: 457

ولقد بين صلى الله عليه وسلم أن التنافس لا يكون إلا بالعلم ففيه ليتنافس المتنافسون، والتسابق لا يكون إلا على تحصيل المعرفة فعليه ليتسابق المتسابقون، لأن الخير كل الخير في العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من يرد الله به خيرا يفقه في الدين"[12] وأن العلم المقرون بالعمل والعبادة يرفع الله صاحبه منزلة لا تعلوها منزلة هي منزلة الرسالة والنبوة من ناحية الفضل لا من ناحية الوحي والتشريع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل منكم"[13] . كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الأنبياء عليهم السلام تركتهم أسمى من المال وورثهم أفضل الوارثين، العلم تركتهم، والعلماء ورثتهم ومن ورث العلم الصحيح الذي يرشد إلى الخير ويهدي من ناله سواء السبيل فقد فاز وكان من المفلحين عن أبي الدرداء أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"[14] كما يعتبر الإسلام التعليم إجباريا، قال عليه السلام:"طلب العلم فريضة على كل مسلم"[15] فطلب العلم فريضة لا تقتصر على مراحل الطفولة والمراهقة بل من المهد إلى اللحد والعلوم في نظر الإسلام نوعان:

أ- علوم هي فرض عين:

كتعلم أمور العقيدة والعبادة على القدر الذي تصح فيه وتعلم حسن المعاملة، وحدود المنكرات، وتعلم العلوم المسلكية لكل فرد كتعلم شؤون التجارة وأحكامها للتاجر، والزراعة للزراع.. [16] الخ.

ب- علوم فرض كفاية:

بقية العلوم الأخرى، كالطب والهندسة والكيمياء والكهرباء والذرة والعلوم الصناعية والحربية وهذا يدل على ضرورة التخصص فإذا لم يتخصص أحد من المسلمين أثموا جميعا، مما يقود إلى توفير المختصين في كل المجالات الحيوية.

ص: 458

وإذا كان طلب العلم فريضة فتارك العلم تارك لفريضة فرضها الله ومن البديهي أن تارك الفريضة له عقوبته عند الله سبحانه، أما العقوبة الدنيوية لتارك التعليم فقد ذكرها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما سمع بقبيلتين متجاورتين إحداهما عالمة والأخرى جاهلة لا تقوم الأولى بواجبها من تعليم العلم، ولا تقوم الثانية بواجبها من تعلم العلم إذ صعد المنبر وخطب الناس وقال:"ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم، ولا يفقهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون، والله ليعلمن قوم جيرانهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم أو لأعاجلنهم العقوبة"[17] فقوله صلى الله عليه وسلم أو لأعاجلنهم العقوبة يشير إلى العقوبة الدنيوية، أما ما هي هذه العقوبة؟ ما نوعها؟ وما مقدارها؟ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبينها فهي خاضعة إذاً لمبدأ التعزير يقدرها الحاكم يما يصلح أحوال الناس.

وإننا لنلحظ أن الإسلام أول نظام في العالم يفرض العلم فرضا ويعاقب من لا يتعلم، إن هذا النظام لم يصل إليه أبناء القرن العشرين مع ما يدعون من مدينة ومن شعارات براقة زائفة.

كما أن التعليم في الإسلام مجاني فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم المعلمين إلى القبائل يبذلون العلم مجانا وكذلك سار على هذا الهدي علماء الإسلام الأجلاء وأئمة المسلمين فهذا الإمام مالك رضي الله عنه يجلس في المسجد ليعلم الناس دون أن يتقاضى على ذلك أي أجر وهذا سعيد بن المسيب وأبو حنيفة والأوزاعي وغيرهم

وغيرهم لم يعهد عن أحد منهم أنه أخذ أجرا، وإن افتى العلماء بجواز أخذ الأجرة مقابل التفرغ للقيام بأعباء التعليم.

ص: 459

ولم يكتف الإسلام بكل ذلك بل بنى أصوله على العلم الصحيح والتفكير السليم فالعقيدة تقوم النظر لا على التقليد أو الهوى فالطريق الموصل إلى الإيمان بالله عز وجل هو التأمل في ملكوت السموات والأرض والاعتبار بما في كتاب الكون من آيات ناطقة بقدرته تعالى وعظمته: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرض لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [18] كما يأمر الإسلام بالحذر من الظنون والأوهام ويعلل ذلك بأنهما من الأسباب التي أدت إلى تضليل الناس وإفساد نفوسهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} [19] ويقول سبحانه: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [20] . والقرآن يأمر بالاعتماد على العلم اليقيني لا على الأهواء والأوهام وينعى على أقوام غامروا بعقولهم في متاهات من الظنون والأهواء التي من شأنها أن تغطي الحقائق بدلا من أن تكشف عنها: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [21] وقال سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [22] .

والإسلام دين الحجة والبرهان فهو يأمر بألا يقبل الإنسان شيئا على أنه حق إلا اذا أقام عليه البرهان: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [23]

ص: 460

ولا يجوز الإيمان بشيء إلا ببرهان فإذا سئل المؤمنون عن معتقداتهم لم يتلعثموا في الجواب كما هو شأن المقلدين الذين لا ينظرون فيما يلقى اليهم نظر تمحيص: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون} [24] ويقول تعالى مطالبا المشركين بالبرهان مطالبة تعجيز {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [25]

كما أن الإسلام عدو التقليد الأعمى فهو يشدد النكير على أناس كانوا يتمسكون بالرأي لا لأنهم عقلوه ولكن لأن آباءهم فعلوه {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [26] والقرآن ينفر الشعوب من التقليد الأعمى للقادة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [27]

والقرآن لا يكتفي بالنهي عن التقليد للآباء والانقياد الأعمى للقادة والزعماء بل دعى للأخذ بالأحسن {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} [28]

وهكذا أضفى الإسلام الصفة الدينية على البحث عن الحقيقة العلمية سواء أكانت من نوع الخبر أو من نوع الإنشاء وبديهي أن القيام بهذه المهمة يتوقف على وضع منهج للبحث ومعلوم أنه بقدر ما يكون المنهج صافيا سليما تكون الغاية صحيحة سليمة.

ص: 461

لذلك لا غرابة إذا رأينا أن الإسلام يرفع من شأن العقل ويأمر باستخدامه في قضايا الحياة الصغرى منها والكبرى وجعل الذين يحكمون [29] . عقولهم ويستنفدون طاقات تفكيرهم في كشف حقائق الحياة واكتناه أسرارها وحدهم أهلا لأن يوجه إليهم الخطاب وأما أولئك الذين أوقفوا حركة العقل وأوصدوا في وجهه باب المعرفة فليس لهم من شرف الإنسانية حظ ولا من كرامة البشر نصيب وإذا استعرضنا ما جاء في القرآن الكريم وحده في معرض الثناء على العقل أو في سياق الحث على إعماله والنهي عن إهماله وجدنا أنه قد ذكر في القرآن الكريم وحده ما يقرب من سبعين مرة، فالشرع لم يتبين إلا بالعقل والعقل لن يهتدي إلا بالشرع والحقائق العلمية إما أن تكون فكرية محضة وإما أن تكون مستندة إلى الحواس.

أولا: الفكرية المحضة

كثير من الحقائق لا يتوقف إثباتها على الحواس بل يكفي في إثباتها الفكر وحده دون حاجة إلى تأييدها بمشاهدة أو تجربة، ومن هذه الحقائق ما يسمى (بالبدهيات) وهي القضايا التي إذا عرضت على العقل السليم كان مجرد عرضها كافيا في إثباتها والتسليم بمقتضياتها فهي في غنى عن أن يبرهن عليها مثل الواحد نصف الاثنين، والضد ان لا يجتمعان والأثر لا بد له من مؤثر وما شابه ذلك.

وهذه الحقائق البديهية هي الأساس في إثبات القضايا العقلية المحضة ولولا هذه الحقائق البديهية الفطرية المودعة في كل نفس لما استطاع الإنسان الوصول إلى حقيقة عقلية، إذ لا بد للإنسان في طريق وصوله إلى حقيقة عقلية من أن يستند إلى هذه البديهيات وأن يجعلها العماد الذي يرتكز عليه في حياته العقلية.

ص: 462

ثانيا- الفكرية المستندة إلى الحواس أو التجربة: هناك نوع من القضايا العلمية اليقينية ما يكون الفكر فيها وسيلة فقط وهو مفتقر في إثباتها إلى أن يستند إلى الحس أو التجربة، مثل المعادن تتمدد بالحرارة، والماء مركب من الأوكسجين والهيدروجين، والحديد جسم صلب والحرير ناعم، وما شابه ذلك وهذه الحقائق وإن كانت لها مكانة معتبرة في الاستدلال لكنها لا تبلغ من حيث التقويم منزلة القسم الأول في الاستدلال ذلك لأن الإدراك الحسي قد يعتريه الخطأ كمن هو مصاب بمرض عمى الألوان فقد يحكم على اللون الأحمر بأنه أصفر أو بالعكس ومن أسباب الخطأ الضلال ويكون بسبب التفسير الخاطئ الناجم عن الحالة النفسية للشخص فالخائف ينظر إلى ظل شجرة فيحسبها شخصا يتربص به، أو يرى ثوبا معلقا فيتوهمه شبحا ينقض عليه، والتجربة إنما تبرهن عن نفسها في الماضي والحاضر فقط أما في المستقبل فلا تستطيع أن تثبت نفسها فيه، لأن التجربة مبنية على أن شيئا ما قد تكرر على شكل معين، ومن تكراره فقط نشأت علميته، والتكرار إنما كان في الماضي ويمكن التأكد منه في الحال أما في المستقبل حال كونه مستقبلا فلا يمكن التكرار فيه لأنه لم يأت، وإذا جاء وأمكن التكرار فيه أصبح ماضيا، ومن الممكن أن تنحل القضايا التجريبية في يوم من الأيام بتجارب أخرى جديدة، ولكن ليس في الإمكان أن ينحل دليل عقلي منطقي. قال ستيوارت ميل الفيلسوف الإنكليزي وهو من أكبر علماء المذهب التجريبي: إنه وإن كانت بعض التجارب غير منحلة وغير منتقضة فليست كل تجربة ممكنة الإنحلال والانتقاض. على أن ذلك لا يكون طاعنا في الدليل المستند إلى الحسن والتجربة بل ليتبين عند التقويم ما للقضايا الأخرى، ثم إننا من جهة أخرى نجد أن العقل وحده هو الذي يفسر التجربة والمحسوس ويستخرج منهما المعنى الذهني، وهما ليسا بشيء بدون العقل فالإحساس بدونه أمي والتجربة بدونه خرساء.

ص: 463

واستخراج المعنى وتحقيقه إنما يكون بفضل العقل وحده، فالحقائق الحسية متوفقة توقفا تاما على الحقائق العقلية ومن الخطأ الفادح أن نجعل القيمة الكبرى في الاستدلال للحقائق الحسية والتجريبية وأن نهمل القضايا الذهنية العقلية بعد كل ذلك نستطيع أن نتبين الأسس التي يقوم عليها المنهج الصحيح.

لقد رسم القرآن الكريم منهجا لاكتساب الحقائق العلمية وهذا المنهج لا يمكن الاستغناء عنه لكل باحث عن الحقيقة العلمية ويمكن تلخيص هذا المنهج بما يلي:

أولا- أن أية قضية من القضايا لا يمكن إثباتها بمجرد دعواها بل لا بد أن تكون مستندة إلى دليل يدعمها وبمقدار صحة الدليل وقطعيته تكتسب القضية الصحة والثبوت وهذا ما صرح به القرآن الكريم في مواضع مختلفة منها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [30]

ولكل قضية من القضايا ولكل نوع من الدعاوى نوع من الأدلة العلمية يناسبها، فالدعاوى المتعلقة بطبائع الأشياء المادية يستدل عليها بالبراهين التجريبية المحسوسة والدعاوى المتعلقة بالمجردات لا يقبل معها إلا براهينها المسلمة والدعاوى المتعلقة بحقوق الأفراد والجماعات لا يقبل فيها إلا الشهادات المثبتة لها وهكذا لا تصبح القضية حقيقة علمية إلا بوجود الدليل المناسب لها.

ص: 464

ثانيا- أن الواجب على الباحث أن يفرق أثناء عملية الاستدلال بين الدليل اليقيني وبين الدليل الظني ومادون الظني، وبين النظرية في العلوم والحقيقة العلمية فالدليل اليقيني وحده الذي يصح الاعتماد عليه في الأصول من العقائد [31] والأحكام وهذا ما جاء به القرآن الكريم في كثير من الآيات منها:{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَاّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [32] . أما العقائد عامة والأحكام العملية فيكفي الاستدلال لها بالأدلة الظنية كأخبار الآحاد والقياس.

ثالثا- لابد للباحث من طرح التقليد الأعمى وهو أكبر خطر على الوصول إلى الحقائق واكتشافها بل هو المعول الهدام لصرح العلم الصحيح ولقد كان بين الإسلام وبين التقاليد العمياء صراع عنيف دام فترة من الزمن حتى استطاع أن يقتلع جذوره من نفوس الجاهلين ويفتح عقولهم لتستضيء بنور الحق ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [33]

رابعا- عدم التناقض بين الحقائق إذ لو جاز التناقض بين الحقائق لانهار صرح العلم، وهذا ما جاء موضحا في الآية الكريمة {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [34] إذ التناقض أشد من التفاوت فإذا انتفى التفاوت كان التناقض منفيا من باب أولى.

ص: 465

خامسا- الاعتماد على الحواس فلقد عرفنا أن من القضايا ما يمكن إثباته بطريق الذهن وحده، وأن قسما آخر منها يفتقر في إثباته إلى الاعتماد على الحواس ومن هذا القسم العلوم المادية ولولا اعتمادها على الحواس ومن وراء الحواس العقل لما اتسعت هذه العلوم، ولما تمكن الإنسان من كشف شيء جديد والقرآن يطلب من أولي النهى أن يعملوا حواسهم وعقولهم في مظاهر الحياة وألا يهملوها وسيسألون يوم القيامة عن هذا الإهمال، قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [35] .ومما تقدم تعلم أنه لابد للباحث من أن يأخذ بهذه القواعد التي رسمها القرآن الكريم، وجعلها منهاجا للوصول إلى الحقائق بل لابد من إلتزامها حتى يكون في حرز عن الخطأ ومجافاة الصواب، وسواء أكانت هذه الحقائق دينية أم دنيوية، ومن هنا حكم علماء الإسلام على أن الإيمان المعتبر هو الإيمان القائم على الدليل والبرهان وأن إيمان المقلد غير صحيح إذا كان عنده قدرة على التفكير والاستدلال والنظر فيقبل إيمانه عن طريق التقليد لعجزه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

طريقة الوصول إلى الأحكام الشرعية

وهكذا فإن الإيمان إذا لم يكن قائما على البرهان العقلي لا يكون صحيحا [36] مادام صاحبه قادرا على التفكير والنظر.

ص: 466

ومتى استقر الإيمان بالله، والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الاستدلال كان المؤمن ملزما بأخذ الحلول التي جاءت في الإسلام للمشاكل، والأحكام للحوادث، إذ أن هذه فروع عن الأصل وهو الإيمان والفرع يبنى على الأصل، والجزئيات تبع الكليات، ومعلوم أن مصدر الأحكام الإسلامية القرآن الكريم، والحديث الشريف، ولا بد من الرجوع لهذين المصدرين لأخذ الأحكام منهما من منهج واضح يسهل على الباحث طريق الوصول إلى حكم الله في المسائل التي يتعرض لها ويتجافى به عن الخطأ ويتباعد به عن الخبط والضلال ولذلك وضع علماء المسلمين منهجا دقيقا لاستنباط واضح المعالم بين الخطأ فما على المسلم إلا أن يدرس هذا المنهج دراسة واعية، ثم يطبق خطواته فإذا به يصل إلى مقصودة دون خطأ أو التواء أوغموض.

خطوتا المنهج: وهذا المنهج بعد تطبيق الركائز الخمس التي أشار إليها القرآن الكريم ونوهت عنها يتألف من خطوتين، فلا بد للباحث أن يمر في مرحلتين هما: مرحلة إثبات النص أولا، ثم مرحلة فهم النص ثانيا.

المرحلة الاولى:

مرحلة إثبات النص:-النصوص التي يعتمد عليها الإسلام هي كما مر كتاب الله تعالى وسنة رسول صلى الله عليه وسلم فأما كتاب الله فإن نصوصه ثابتة وقد نقله إلينا بالتواتر علماء المسلمين وتناقلته الأجيال على كيفية لا يمكن أن يتطرق إليها أدنى شك إذ حفظه الله من الأيدي العابثة خلال القرون فلا حاجة إلى المرحلة الأولى مرحلة إثبات النص، وأما السنة فثبوتها يتوقف على أمرين هما: صحة المتن، وصحة السند.

والمتن هو نص الحديث فإذا أردنا أن نحكم على متن الحديث أنه صحيح فلا بد أن يكون خاليا من الأمور التالية: ركاكة اللفظ والمعنى، مخالفته للمنطق السليم، مخالفته لما ثبت في التاريخ الصحيح، والحكم في ذلك لأهل الإختصاص.

أما صحة السند:

ص: 467

السند كما نعلم هو رفع الحديث إلى رجاله الذين يرويه بعضهم عن الآخر إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم ولكي نحكم على حديث أنه صحيح لابد أن ننظر في كل فرد من أفراده فإذا كان كل راو فيه عدلا ضابطا لما حفظ ثم كان سند الحديث متصلا لا انقطاع فيه سالما من الشذوذ والعلة القادحة حكمنا على هذا السند بالصحة والقبول، وإن خلا من شيء من ذلك حكمنا عليه بالضعف.

ولقد وضع العلماء المسلمون علما مستقلا دقيقا يتعرف بوساطته إلى الحديث الصحيح من غير الصحيح ويسمى هذا العلم بمصطلح الحديث.

وتفرع عنه فن آخر هو علم الجرح والتعديل وتفرع من علم الجرح والتعديل علم تراجم الرجال، حيث تلتقي هذه العلوم على وضع ميزان بغاية الدقة، وهكذا احتوت المكتبة الإسلامية التي في كل بلد منها أثر وفي كل مكتبة من مكتبات العالم منها خبر احتوت على مؤلفات كبرى تستعرض معجم الرجال الذين وردت أسماؤهم في أي سند من الأسانيد وتستطيع أن تقف على ترجمة من تشاء منهم جرحا أو تعديلا وأن تعرف الزمن الذي عاش فيه لتعلم من ذلك معاصريه.

هذا عرض سريع فيما يتعلق بتحقيق النقل والخبر ولكن على من يرغب الاستزادة أن يعكف على الفنون التي نوهت عنها ليجد الجهد الغريب وليجد الكثير من علماء الحديث من يقطع مئات الأميال في زمن لا توجد فيه الطائرة ولا السيارة متعرضا للمشاق والمهالك لا لشيء إلا ليلقى عالما يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ليعلمه ويحفظه فحسب ولكن يريد أن يتلقاه منه أيضا ويستأذنه بروايته عنه لكي تزداد طرق هذا الحديث عنده أنه يسهل علينا جدا أن نقرأ إسنادا من هذه الأسانيد في كتاب من كتب الصحاح دون أن نتكلف أي جهد أو مشقة، ولكن المهم أن نتبين صورة ذلك الجهد العجيب الذي بذل وتلك التضحيات التي قدمت في سبيل هذين السطرين فقط من الإسناد الذي لا نلتفت له اليوم بل قد يضيق البعض منا من قراءته.

ص: 468

أما المرحلة الثانية: في المنهج فهي النص وهي تأتي بعد مرحلة إثبات النص فبعد أن يتأكد الباحث من ثبوت النص وصحته يعود إلى النص فيبذل أقصى ما عنده من جهد لفهمه واستنباط الحكم منه، وفهم النص يتوقف على أمور منها:

أ- معرفة اللغة العربية مفردتها وتراكيبها ومعرفة النحو والبيان فمن لا يكون ضليعا باللغة العربية في ميادينها المختلفة ليس أهلا لأن يستنبط الأحكام ومن لا يتطابق فهمه مع أصول اللغة العربية فإنما يكون فهمه وسوسة من وساوس الشيطان.

ب- معرفة أسباب النزول وأسباب الورود فإن معرفة سبب النزول وسبب الورود تلقي ضوءا على النص، وتكشف للباحث السبيل إلى المعنى الحقيقي.

ج- معرفة ما تقدم من النصوص وما تأخر فإن من المعلوم أن التشريع الإسلامي جاء متدرجا كما في تحريم الخمر مثلا فقد يأتي نص من النصوص فينسخ حكم نص سابق، ولذلك يتعين على فاهم النص معرفة السابق من اللاحق من النصوص.

د- معرفة طرائق الاستنباط ولقد وضع العلماء المسلمون علما مستقلا دقيقا يعين على طرائق فهم النص ويعرف هذا العلم (بعلم أصول الفقه) وهو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية وهكذا وضع علماء المسلمين قواعد محصوها تمحيصا وبنوها على أصول أجمعوا عليها إجماعا ومناهج التزموها في اجتهادهم ومعايير دقيقة عميقة كانت متحكمة في أذهانهم وأبحاثهم حتى إذا ما رجعنا إلى فقه كل واحد منهم تيقنا أنهم لم يكتبوا إرضاء لنزعة شخصية، أو انبعاثا عن هوى متبع، أو تحقيقاً لمطلب دنيوي، أو مجاراة لتسلط عابث، ويتخذ من فقههم ومنهجهم فيه نموذجا يهتدي به.

ص: 469

ولقد كان علم أصول الفقه كسابقة علم مصطلح الحديث من العلوم المستحدثة فلقد كان العلماء في الصدر الأول في غينة عنه لأنهم كانوا على تمام العلم باللغة العربية يعرفون معاني ألفاظها وما تقضي به أساليبها وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقربهم منه ومعرفتهم بالأسباب التي من أجلها كانت الشرائع أكسبتهم معرفة بسر التشريع ذلك إضافة إلى ما امتازوا به من صفاء الخاطر وقوة الذكاء وحدة الذهن فلم يكونوا بحاجة إلى شيء وراء ذلك في استنباط الأحكام من مصادرها، فلما جاءت بعدهم أمم اختلطت بغيرها وانقلبت العلوم كلها صناعة احتاج العلماء إلى وضع قواعد هذا العلم لاستفادة الأحكام من الأدلة وليتقيد الفقيه بها في استنباطه حتى لا يخرج عن الجادة دعما للحق وحدا للأهواء.

وهكذا لم يعرف التاريخ حتى الآن أمة من الأمم جعلت لبحثها العلمي منهجا واضحا صحيحا لا يأتيه الضلال من بين يديه ولا من خلفه غير الأمة المسلمة.

ومن هذه الخلاصة السريعة جدا عن المنهج العلمي للبحث عند المسلمين أخذتها من واقع أبحاثهم تبين لنا مدى ما يعتمد عليه العلماء في أبحاثهم من المنهجية والموضوعية المجردة فالعلماء المسلمون يبحثون أول ما يبحثون عن ثبوت النص كما رأينا فإن ثبت عندهم صحة النص بتلك الطريقة الدقيقة الواضحة فلا بد بعد ذلك من فهمه فهما دقيقا ضمن شروط قاسية ودقيقة.

وليس لكل من هب ودب، ولا لأنصاف المتعلمين وأرباعهم وأصفارهم وأدعيائهم، ولا لمن لم تتوفر العدالة فيهم من ملاحدة هدامين، أو فسقة متحللين، ولا من استعمرت الثقافات الأجنبية عقولهم، ولا من يتقربون للزعماء والرؤساء بالتحليل، أو يتملقون العامة بالتحريم أن يتصدر للفتيا والاستنباط وإذا كان الطب والهندسة مباحا للجميع مثلا ولكن لا يجوز لدجال أن يتعرض لعلاج المرضى ولا لمن لم يدرس الهندسة أن بيني سدا أو يصمم حصنا فإن الفهم والاستنباط مباح بهذا المعنى.

ص: 470

وهكذا أعطى المنهج المسلمين حقائق علمية ثابتة لا نظريات متبدلة لذا وجدنا أن سلوك هذا المنهج السليم يضمن للمسلمين الوصول إلى الحقائق العلمية والشرعية وبالتالي يضمن لهم وحدة فكرية ويقضي على أسبابه عدم سلوك هذا المنهج العلمي الصحيح.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

سورة العلق الآية (1-5)

[2]

سورة الاسراء الآية (36)

[3]

سورة زمر الآية (9)

[4]

المجادلة الآية (11)

[5]

سورة آل عمران الآية (18)

[6]

السورة الروم الآية (59)

[7]

سورة يوسف الآية (76)

[8]

سورة طه الآية (114)

[9]

سورة الاسراء الاية (85)

[10]

سورة الكهف الآية (66)

[11]

سورة البقرة الآية (247)

[12]

رواه البخارىج1ص26.

[13]

رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

[14]

رواه ابوا داود والترمذي.

[15]

رواه البيهقي عن أنس والطبراني.

[16]

وظابط هذا أنه يلزم على المسلم أن يتعلم ما لا يسعه جهله في أمور دينه.

[17]

رواه الطبراني

[18]

سورة البقرة (164)

[19]

سورة الأنعام آية (116)

[20]

سورة يونس آية (36)

[21]

سورة الروم آية (29)

[22]

سورة الأنعام آية (119)

[23]

سورة البقرة آية (111)

[24]

سورة المؤمنون:آية (117)

[25]

سورة النمل: آية (64)

[26]

سورة المائدة آية (104)

[27]

سورة البقرة آية (0 17)

[28]

الزمر آية (18)

[29]

والمقصود الطرق العقلية الفطرية هي التي جاء يها القرآن واتفق العقل والشرع وتلازم الرأى والسمع (الجزء الاولص49الفتاوى)

[30]

من سورة البقرة آية (111)

[31]

كالإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره فإنها جميعا في الواقع ثابتة بأدلة قطعية0

[32]

سورة يونس: آية (36)

ص: 471

[33]

سورة البقرة: آية (170)

[34]

سورة الملك: آية (3)

[35]

سورة الأعراف: آية (178)

[36]

المراد بالبرهان العقلي الفطري الذي جاء به القرآن الكريم واتفق العقل والشرع وتلازم الرأي والسمع كما ذكر.

ص: 472

نظرات في دعوة المبشرين

للشيخ ممدوح فخري المدرس في الجامعة الإسلامية

تميز عنصر النهضة في أوربا بالنسبة للمسيحية بظاهرتين متناقضتين، ظاهرة الانكماش في الداخل وظاهرة الانطلاق في الخارج وذلك حينما انجلى الصراع المرير بين الدين والعلم أو بتعبير أدق بين رجال الدين وتيار التطور العلمي الهائل الذي بدأ في أوربا، انجلى ذلك الصراع بهزيمة مروعة لرجال الدين ووضع بذلك حد لذلك الطغيان الذي مارسه أولئك الرجال باسم الدين عبر القرون وكانوا سدا منيعا أمام كل حركة فكرية حرة تحاول إخراج الناس من حكم هذا الكابوس الرهيب الذي يفرض سلطانه باسم الله، ويعتبر كل خروج عليه خروجاً على الله، ويبطش البطشة الكبرى مستهدفا الرؤوس المفكرة والعقول الكبيرة ورواد العلم والمعرفة الذين يهددونه في وجوده وكيانه.

ولكن سنن الله الكونية لا تغالب والظلم لا يدوم ولا يستطيع أحد أن يحول بين العقل وبين استخدام حقه الطبيعي في التفكير والانطلاق، ولا يستطيع الطغيان أن يكون حاجزا أبديا أمام العلم والمعرفة والحرية لذلك سرعان ما انهارت السدود ((المقدسة)) أمام زحف التيار العلمي والتقدم الفكري وأزيحت الكنيسة ورجالها كعقبة رئيسية في طريق التطور وفقدوا بذلك كل سلطان لهم في المجتمع فأقصوا عن مراكز الحكم وطردوا من المدارس وانتزعت منهم أداة التوجيه والتربية وانزوت المسيحية في الكنائس والأديرة وسجنت هناك ولم يعد يسمح لها بأن تدس بأنفها باسم رجالها في شؤون الناس.

أمام هذا الانهزام بحث رجال الدين المسيحي عن ميدان آخر يمارسون فيه نشاطهم ويعرضون فيه بضاعتهم وقد نبذتهم أرضهم ورفضهم أهلهم وأبناؤهم.

ص: 473

وكان المجال الطبيعي لهم هو البلاد المختلفة دينيا وحضاريا وكان العالم الإسلامي في مقدمة هذه البلاد المختلفة لذلك كان الهدف الرئيسي للمبشرين الذين انطلقوا في الأرض يبشرون لا بالديانة المسيحية ولكن بالاستعمار الجديد الذي كانوا يمثلون طلائعه في كل بلد، وكانت مراكزهم ومدارسهم القواعد الفكرية التي مهدت للاستعمار وروجت للغزو الفكري والحضاري وأوجدت القابلية للاحتلال وقدمت المبررات والمسوغات لهذا الغزو باسم العلم والمدنية وعلى أنه الطريق الوحيد للتقدم والرقي واللحاق بركب الحضارة، وقد خدمت حركة التبشير هذه جهتين مختلفتين: الجهة الأولى: هم المبشرون الذين وجدوا مصدرا جديد للارتزاق بعد أن سدت في وجوههم أبواب الرزق في بلادهم، والجهة الثانية هي الدول الاستعمارية ((اللادينية)) التي تولت طرد هؤلاء من بلادهم ثم أمدتهم بعد ذلك بالمال الوفير لا إيمانا منها بدعوتهم ولكن لأن المبشرين كانوا ولم يزالوا طلائع الغزو الاستعماري والممهدين له بغزو فكري مسبق. وعلى هذا الأساس كان هذا التلاقي الغريب بين الأضداد في حركة التبشير.

ولقد حمل المبشرون أوزارهم وجاءوا يدعون إليها في بلاد المسلمين، جاؤوا ببضاعتهم المزجاة وتجارتهم البائرة التي لم تجد لها سوقا رائجة بين أبناء جلدتهم جاؤوا إلى بلاد المسلمين آملين أن يجدوا سوقا نافقة لبضاعة أعرض عنها أهلها وذووها جاؤوا ليجدوا أمة غنية في الأخلاق غنية في التراث العلمي العريق، ذات ماض مجيد وحضارة مشرقة تتلألأ في بطون التاريخ، ووجدوا مع ذلك كله تخلفا مريعا في ميدان العلم والأخذ بأسباب الحياة الجديدة ومسايرة ركب الحضارة، مع جهل فاضح بالدين الذي ينتمون إليه وبالتراث الذي ينسب إليهم.

ص: 474

أضف إلى ذلك فقرا مدقعا يعم أمة تتحكم في مصادر الثروة في العالم تقريب. ومن هذه النوافذ الكبرى والفجوات الواسعة في حياة المسلمين تسرب المبشرون إلى بلادهم ثم إلى قلوبهم وأفكارهم وكان ذلك الانقلاب الهائل في حياة المسلمين على أيدي المثقفين من أبنائهم الذين ربوا في محاضن التبشير وغذوا بألبانهم الفاسدة المصبوغة بصبغة العلم والمعرفة، ذلك الانقلاب الذي يتجسد في جماهير المثقفين المرتدين من أبناء المسلمين المتنكرين لدينهم ولتاريخهم ولتراثهم الفكري والعلمي والقابلين أن يتنازلوا عن مكانتهم في التاريخ ومركزهم في العالم وأن يسيروا في ذنب القافلة يقلدون غيرهم ويحكون أقوالهم وأعمالهم بعد أن كانوا ممسكين بقيادة الإنسانية يوجهونها وجهة الخير بإذن الله.

ولكن المبشرين لم يحملوا إلى بلاد المسلمين شيئا يفتقرون إليه ولا يجدونه عندهم فما هو المعنى الجديد الذي جاء به المبشرون ولم يجدوا لدى المسلمين ما هو أفضل منه؟

ما هو المثل الأعلى الذي آتو به ولم يجدوا عند المسلمين أكرم منه وأمثل؟ ما هي القيم الدينية والخلقية التي أتوا بها ووجدوا المسلمين أفقر وأحوج إليها منهم، أجل لقد أتوا بالوسائل العلمية الجديدة وأتوا بمبتكرات حديثة في الميدان المادي الخالص، وببعض أنواع العلوم العصرية التي كانوا يستخدمونها في الحقيقة كستار وحجاب يستر غرضهم الأساسي وهدفهم الحقيقي وهو التمكين لأنفسهم ولأفكارهم في بلاد المسلمين وذلك بمحاربة الإسلام في نفوس أبنائه بأساليبهم الملتوية الماكرة.

ص: 475

وهنا لابد من الإشارة إلى بعض الحقائق البارزة في دعوة المبشرين وإلقاء الأضواء العابرة على ما فيها من عيوب بادية تصدم العقل السليم والفطرة النظيفة للمسلمين عقيدتهم وشريعتهم ومنهجهم الكامل في الحياة ونظرتهم المتكاملة في الكون والحياة والإنسان وكل ذلك منبثق من كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام فما هي عقيدة المبشرين وما هي شريعتهم وما هو منهجهم الكامل وما هو كتابهم وما هو تاريخهم؟

وأما عقيدتهم: ففيها الطامات الكبرى وأولى هذه الطامات عقيدة التثليث: تلك العقيدة المستعصية على العقول، وذلك اللغز المعقد الذي عجز عن حله أساطين المسيحية عبر القرون لأن كون الواحد ثلاثة والثلاثة واحد وكون كل واحد من الثلاثة هو عين الآخرين شيء تأباه مسلمات العقول وشيء يصطدم مع البديهيات بل هو مما يستحيل فهمه على الإنسان ولهذا تشبعت آراء النصارى في تفسيره فجمهورهم يقولون هذه عقيدة وردت هكذا في الكتاب المقدس، فينبغي قبولها كما هي لأنها ثبتت بالنص، وبعضهم يقول: هذه الأقانيم الثلاثة هي كالصفات للموجود الواحد ومن هؤلاء الفيلسوف الألماني الشهير كانت حيث يقول: (أن الأب والابن وروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت وهي القدرة والمحبة والحكمة أو على ثلاثة فواعل عليا وهي الخلق والحفظ والضبط) .

ص: 476

وكل كلام في الحقيقة في هذا الثالوث عبث وذلك لأن العقول لم تعط القدرة على فهم المستحيلات، هذه هي العقيدة التي يريد المبشرون من المسلمين أن يقبلوها ويتخلوا في سبيلها عن عقيدتهم الواضحة التي تغزو القلوب والأرواح ببساطتها وملاءمتها للفطر السليمة والعقول المستقيمة، إله واحد متصف بكل كمال منزه عن كل نقص {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، أرسل الرسل وأنزل الكتب وكلف الناس بتعاليم وتكاليف هي في مقدورهم وجعل لهم يوما لا ريب فيه يحاسب فيه كل إنسان على ما قدم بالعدل والقسطاس المستقيم. هذه هي العقيدة التي تجتذب إليها القلوب اجتذابا والتي يريد المبشرون أن يتخلى عنها المسلمون ليؤمنوا بدلا منها بعقيدة لا تجد لها مكانا أصلا لا في العقل ولا في القلب مع العلم بأن عقيدة الثالوث عقيدة وثنية معروفة في التاريخ عند المصريين والهنود وغيرهم ومن عقائدهم أيضا: الصلب والفداء: ومعنى هذه العقيدة باختصار شديد أن الناس جميعا يولدون عصاة آثمين وذلك لأنهم يرثون معصية أبيهم آدم وقد جاء المسيح وهو الإله وابن الإله ليصلب ويفتدي خطايا اتباعه الذين يولدون وهم موصومون بها. والإسلام يحل هذه المشكلة ببساطة متناهية: فيقول القرآن الكريم: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} وعند هذا انتهت هذه القصة التي جعلها النصارى معضلة مبنية على أساس التعارض بين عدل الله ورحمته وبين عدل الله الذي يصر على معاقبة آدم العاصي ورحمته التي تصر على مغفرة ذنبه، ثم لا يكون المخرج من هذا النزاع إلا بالفداء وصلب المسيح الإله وابن الإله، وكأن التوبة لم تخطر لهم على بال. وعلى هذا فالإنسان في ظل الإسلام يولد نظيفا بريئا وعلى الفطرة ولا يتحمل آثام غيره التي لم يتسبب فيها وهو يتحمل تبعة التكليف ويحاسب على ما كلف به فقط. ومن عقائدهم: عصمة الكنيسة وعلى رأسها البابا في فهم الكتاب

ص: 477

المقدس وفيما يجتمع عليه الرأي وهذا في الحقيقة إلزام بالخطأ من إنسان يشهد العقل والحس بعدم عصمته، وجعل الكنيسة مصدرا دائما من مصادر التشريع، وهذا لا يعدو عبادة الرأي والعقل والهوى، وفرق بين عصمة الكنيسة وإجماع المجتهدين من أئمة الإسلام وذلك لأن إجماع المجتهدين لا يكون إلا على دليل ومستند من كتاب أو سنة ومن عقائدهم: توسط رجال الدين بين الله وعباده وأنهم يمنحون البركة والمغفرة بإذنه ويقسمون رحمة الله بين خلقه فيمنعونها عمن يشاءون ويعطونها لمن يشاؤون0

وقد استغل رجال الدين هذه المكانة أشنع استغلال وأصبحوا يتصرفون بجنة الله وهم في الأرض وكأنهم يمارسون سلطة الله، وحادثة بيع صكوك الغفران في أوروبا كلها أمر شائع في التاريخ، حيث طبع أحد الباباوات بطاقات يبيع بموجبها مساحات من الجنة وذلك لقاء مبلغ من المال. وكراسي الاعتراف تشهد كل حين اعترافات المذنبين أمام رجال الدين بجميع الذنوب التي اقترفوها وذلك ليغفرها هؤلاء أو ليتوسطوا لمغفرتها-وقد حرر الإسلام الإنسان من هذه الوساطة وفتح أمامه أبواب السماء وأطلقه من هذه الوصاية وقد أونس منه الرشد وربطه مباشرة بربه يتصل به متى شاء وأين شاء:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}

أضف إلى ما سبق تقييد أماكن العبادة في الكنائس فقط مع ما في هذا من الحجر على عباد الله وتضييق الأرض الواسعة، مع عبادة مريم عليها السلام عند بعضهم وعبادة القديسين الذين لا يعلم عددهم إلا الله، وعبادة هؤلاء غالبا ما تكون بالتوسل بهم والاستعانة وتعظيم صورهم التي قلما تخلوا منها كنيسة0 ونحن نعلم أن الفرق المسيحية ليست مجمعة على جميع ما ذكرنا، ولكن الفرقة التي لا توافق على شيء مما ذكرناه، فإنها تقترف شيئا آخر هو أعظم بكثير مما استنكرته.

ص: 478

هذه لمحات عن عقائد المبشرين ولم نقصد الاستقصاء وفيما ذكر عبرة لمعتبر. وأما شريعة هؤلاء، فلا وجود لها في الحقيقة والواقع، وذلك لأن الإنجيل خال عن كل تشريع وهو مجموعة مواعظ وإرشادات أخلاقية وهو العهد الجديد وأما العهد القديم وهو التوراة ففيها شريعة ورغم أنها شريعة محدودة وشريعة شعب خاص وتفرق بين اليهودي وغيره في المعاملة ومع ذلك فإن المنسوبين إلى المسيح عليه السلام كتلاميذ فقد نسخوا شيئا كثيرا منها وفي بعض الروايات نسخوا جميعها وذلك لما منحوه لأنفسهم من حق التشريع وهو نقلهم عن المسيح عليه السلام أنه قال لهم قبل وفاته بزعمهم:(ما حللتموه في الأرض محلول في السماء وما ربطتموه في الأرض مربوط في السماء) .

وقد استعملوا هذا الحق في نسخ ما شاءوا من شريعة التوراة رغم إقرار المسيح لها: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ومن قول المسيح المروي في الإنجيل ما جئت لأنقض الناموس (وهو التوراة) ولكن لأتمم.

ونظرا لهذا الافتقار إلى الشريعة التي تنظم سائر أحوال الأمة كانت الأمم المسيحية عالة على غيرها وأحيانا على غير المؤمنين في التشريع وما قيمة دعوة لا تملك تشريعا ينظم أحوال المؤمنين بها. وأما الشريعة الإسلامية فهي تحمل شهادات دولية من مجامع قانونية عالمية على أصالتها وشمولها لجميع أحوال الإنسان وقابليتها للتطبيق في كل زمان ومكان وهذه كتب التراث الإسلامي تشهد بكل ذلك، ومع هذا فالمبشرون يريدون من المسلمين العدول عن هذا الصراط المستقيم الذي تولى الله سبحانه رسمه وإقامة معالمه وأناط سعادة الإنسان به، إلى لا شيء فاعجبوا أيها الناس.

ص: 479

إن المتأمل في كتب المبشرين وأسفارهم المقدسة يخرج بنتيجة حتمية واحدة وهي إن هذه الدعوة لا تملك لا عقيدة ولا شريعة وخلاصة ما تدعو إليه بعض مكارم الأخلاق كالزهد والحلم والتواضع ولين الجانب والإقبال على العبادة والتنسك وهذا لاشك جانب من الدعوة ولكن لا بد مع هذا من عقيدة تقنع العقل وتشبع القلب ومن شريعة تنظيم سلوك الإنسان وترشده في متاهات الحياة ونظرة متكاملة تعطي الإنسان تفسيرا عن هذا الكون وكل هذه الأمور تفتقر إليها دعوة المبشرين.

بل نقول أكثر من هذا وما نحن بمبالغين وهو أن هذه الدعوة تفتقر إلى الأصول والمنابع الأولى التي تستمد منها أفكارها وآراءها ومبادئها وذلك لأن ما تعتمد عليه من كتب مقدسة ومن سيرة صاحبها الأول وهو المسيح عليه السلام لا يصلح أن يكون أساسا لدعوة متكاملة لا من حيث النقل والثبوت ولا من حيث المضمون والمحتوى.

وأما من حيث النقل والثبوت فمن المتفق عليه عند المؤرخين والمنصفين من الناس أن أية أمة من أمم الأرض لا تستطيع أن تروي عن نبيها خبراً واحداً من كتاب أو سنة يرقى إلى مرتبة أخبار الآحاد عند المسلمين وأن بين هذه الكتب ومن أنزلت إليهم مفاوز من الانقطاع والمجاهيل التي لا يدري عنها أحد شيئا وكذلك الأقوال المروية عنهم لا يعرف لها سند أصلا وإنما وجدت هكذا وولدت كما هي وقبلت كما وجدت وكما ولدت.

ص: 480

وأما العهد القديم الذي هو التوراة فقد ضاعت بإجماع المؤرخين من اليهود والنصارى وذلك حينما غزا البابليون بيت المقدس وأحرقوا هيكل اليهود وأن التوراة الماثلة بين أيديهم فهي التوراة التي أعاد كتابتها عزيز بخارقة تمت على يديه فاليهود والنصارى عالة على عزيز هذا في أصل دينهم وهذا كما ترون شيء لا يستسيغه العلم ولا يقره وذلك أن يعيد رجل كتابة كتاب مفقود بواسطة حلم أو تجلي ملك أو بقذف نور في قلبه، أو بشر به من ماء مبارك أو أكلة من شجرة مباركة، ولابد من إثبات الكيفية التي تمت بها إعادة كتابة التوراة بشكل يرتضيه العلم ولا سبيل إلى ذلك، وتوراة اليهود تخالف توراة النصارى، وتوراة السامرة من اليهود تخالف التوراتيين السابقين. والأناجيل تبلغ الأربعة المعترف بها فهي من جملة أناجيل تبلغ العشرات كتبت جميعها بعد رفع المسيح عليه السلام.

ولم تعتمد رسميا إلا في القرن الرابع المسيحي وذلك أن اليهود قاتلهم الله حينما حرضوا الرومان على قتل المسيح ووشوا به إليهم وسعوا للقضاء عليه وعلى دعوته شدد الرومان الحملة على المسيح واتباعه فرفع المسيح عليه السلام وشرد اتباعه في الأرض وتخفوا بدينهم وفي هذه الأثناء دخل بولس اليهودي في المسيحية لإفسادها، وزعم أن المسيح تجلى له وأنه يتلقى الإنجيل من المسيح مباشرة وأنه لا يجوز أخذ الإنجيل من غيره أي من غير بولس فكتب إنجيله ودس فيه ما دس من تعاليم الوثنية الباطلة وروج لهذا الإنجيل وجمع حوله أناسا يقولون بقوله فانتشرت آراؤه في الناس ووضعت في المقابل أناجيل أخرى ووقع التعارض فيما بينها وثار النزاع حول المسيح وحقيقة شخصيته وعم الجدل فعقد مجمع نيقية عام (325) لوضع حد لهذه المنازعات في عهد الملك قسطنطين الذي كان قد تنصر بتأثير أمه وعرض في هذا المجمع سبعون إنجيلا وبعد أخذ ورد وقع إختيار الملك ومن معه على الأناجيل الأربعة.

ص: 481

ورفض غيرها واعتبرت غير قانونية، وألزم الناس رسميا بهذه الأناجيل على ما فيها وهذه الأناجيل متعارضة فيما بينها وكل واحد منها يخالف الآخر ولا نكون مبالغين أبدا إن قلنا إن كل صفحة منها يوجد فيها ما يخالف غيرها من سائر الأناجيل، وهي مختلفة في الحادثة الواحدة والشخص الواحد والقصة الواحدة، وهي في الحقيقة عبارة عن تواريخ ومذكرات كتبها أناس وضعت أسماؤهم عليها أو نسبت إليهم وهي خليط من كلام المسيح وكلام الإنجيل وسير ووقائع جرت مع المسيح عليه السلام وهي مليئة بالخرافات والكفريات والضلال ويتخلل ذلك شيء من الزهديات التي تعتبر كل شيء في الإنجيل والنزاع قائم في كل ما يتعلق بهذه الأناجيل فهي غير مسلمة شكلا وموضوعا ولا نعرف تماما اللغة التي كتبت بها هذه الأناجيل ولا تاريخ كتابتها ولا الأشخاص الذين كتبوها.

ص: 482

ولو كانت هذه الكتب مسلمة الثبوت من حيث السند لكان كافيا لفقدان الثقة بها الترجمات التي تعرضت لها إذ أنه من الثابت أن الترجمة تقتل النص وتفقده جوهره، والترجمة الحقيقية المطابقة للأصل لا يمكن أن توجد أصلا. ومع ما في هذه الأناجيل من الأباطيل والتحريفات فإن الله سبحانه حفظ فيها ما يقيم به الحجة عليهم من التبشير بمحمد عليه الصلاة والسلام ففي إنجيل يوحنا:(7:لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم انطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم0)(12: وإن لي كلاما كثيرا أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن 13وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي) . فهذا الكلام لا يمكن حمله: إلا على محمد عليه الصلاة والسلام مع وجود إنجيل برنابا الذي يوافق القرآن في كثير مما قاله عن المسيحية ويقيم الحجة على النصارى ويخالف الأناجيل الأخرى المعتبرة في أسسها وعقائدها الكبرى، وهذا الإنجيل أكتشف في الغرب ولم يعرف في الشرق بل قالوا إنه وجد في مكتبة أحد البابوات وكان سببا في إسلام القيم على تلك المكتبة.

ص: 483

هذه هي كتب المبشرين التي يريدون من المسلمين أن يتخلوا عن قرآنهم لأجلها يريدون أن نتخلى عن قرآننا الذي تعرف كل سورة منه بل كل آية متى نزلت وأين نزلت ولماذا نزلت وتعرف اللغة التي نزلت بها ودون منذ اللحظة التي نزل فيها واستظهره الناس لفورهم وتلوه في صلواتهم ليل نهار وتعلمه طلاب العلم في المساجد والمدارس وتدارسته الصبية في الكتاتيب والنساء في البيوت وانطلق به المجاهدون في أرجاء الأرض والذي لم يتعرض لترجمة أصلا فهو يحتفظ وسيبقى بحفظ الله محتفظا بطابعه الذي نزل فيه، مع خلوه من التناقض والتضارب واحتوائه لمنهج متكامل في العقيدة والشريعة والعبادة والأخلاق وإعطائه تفسيرا سليما سديدا عن الكون والحياة والإنسان مع ثبوته بجدارة واعتزاز أمام النظر العلمي المتجرد في كل ما ذكر، مع شهادة الواقع والتاريخ على تلك الجدارة {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}

{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}

فهذا هو القرآن وهذه هي الأناجيل فيا حسرة على عباد يعطلون عقولهم ويكابرون الواقع ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.

ص: 484

وأما الرسول الذي يزعم المبشرون اتباعه فهو المسيح عليه السلام، وهو نبي كريم وهو عبد الله ورسوله وقد أدى رسالة ربه ومهد لظهور أخيه محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن المعروف من حياة المسيح عليه السلام وهديه في شؤونه الخاصة والعامة لا يكفي بشكل من الأشكال لجعل تلك السيرة قدوة ومنهاجا لإنسان يؤمن بالمسيح ويريد أن يتبعه ورغم قصر المدة التي قضاها المسيح عليه السلام في التبليغ ورغم رفع الله له إلى السماء في سن مبكرة فإن شطرا كبيرا من تلك المدة القصيرة مجهول غير محفوظ، فبعض المواعظ والرقائق مع بعض التعديلات في التوراة لا يكفي لأمة تحتاج في كل ناحية من نواحي حياتها لمرشد يهديها سبيل الرشاد، وهل هذا المرشد إلا هذا النبي. وإذا لم تحفظ الأيام حياة النبي وسيرته بشكل مفصل وواف ومقبول، ومنقول نقلا صحيحا فكيف نتبعه. وأمام هذا تستطيع أن نقول بدون تردد في النبي العظيم محمد عليه الصلاة والسلام: أن أمته لم تفقد منه فعلا إلا جسده الشريف وأما أقواله وأعماله وشؤون حياته كلها في مجالاته الخاصة والعامة بل حتى شؤونه الشخصية البحت من أكله وشربه ونومه واستيقاظه وضحكه وتبسمه وملابسه وأوانيه ودوابه وأسماء هذه الدواب وجلوسه ومشيه واتكائه والتفاته وشكله ولونه وطوله وعرضه ولون شعره وبشره وغير ذلك من جميع شمائله وخصائصه وشئون حياته وكل ما يتصل به من قريب أو بعيد كل ذلك قد دون وأحصي ودرس وسجل في كتب السير والشمائل والتاريخ بشكل لا مزيد عليه ونقل كل ذلك إلينا بطريق علمية تبهر علماء التاريخ من الأوروبيين، مع حفظ أسماء النقلة وأحوالهم وكتبهم. ومن أراد أن يتتبع حياة الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل ولادته إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ويعيش معه حياته المباركة بكل تفاصيلها الجليلة والدقيقة من شئون البيت ومداعبة الأطفال وملاطفة النساء إلى خصف النعل وغير ذلك من كل ما يخطر ببالك من شأنه ما عليه إلا أن يقرأ كتب السيرة

ص: 485

والشمائل وحسبه من ذلك على سبيل المثال، كتاب زاد المعاد لابن القيم رحمه الله وكتاب الشفا للقاضي عياض رحمه الله وكتاب السيرة النبوية لابن هشام وإمتاع الأسماع للمقريزي وعيون الأثر لابن سيد الناس، مع كتب التاريخ التي لا سبيل إلى حصرها، وهذه الكتب زيادة على المعروف المشهور من كتب السنة المتداولة كالصحاح والسنن والمساند في هذه الحياة الكريمة والسيرة العطرة يجد المسلم كل ما يحتاج إليه في حياته الخاصة والعامة. وليقل بعد هذا كل عاقل هل من تكريم العقل والعدل والعلم والإنصاف أن يعدل الإنسان عن هذه السرة الكاملة والمحفوظة والمضبوطة والمنقولة نقلا صحيحا لاشك فيه إلى سيرة مجهولة ناقصة المحفوظ منها لا يفي بحاجة الإنسان في أية ناحية يستفتيها ومع جهالتها ونقصها لم تنقل نقلا صحيحا وكما أن القرآن الكريم هو الكتب السماوي الوحيد الذي حفظه الله وصانه ووضع فيه أسس السعادة والصلاح لكل زمان ومكان ويمثل بين دفتيه حكم الله خالصا وقادرا على تنظيم حياة الإنسان في كل مجالاتها، فكذلك سيرة الرسول عليه الصلاة، هي السيرة المحفوظة المتاكملة الوحيدة والقادرة على مد الإنسان بكل ما يحتاج إليه في دقائق حياته كلها. وبعد هذا كله فما الذي قدمته النصرانية للإنسان عبر التاريخ، أي حل قدمته للإنسان في مشاكله العقائدية والأخلاقية والتشريعية، وما هي القيم التي قدمتها وما هي المثل التي صدرتها، وما هي الأمجاد التي حققتها وما هي الحضارة التي نشأت في ظلها ورعايتها؟

ص: 486

إن الذي يحفظه التاريخ للمسيحية من كل ذلك باختصار شديد هو ما يلي جماعة من رجال الدين في كل عصر تستطيل على الناس بسلطانها الديني وتتطاول على كراسي الحكم بغير حق وتدعي لنفسها أنها ظل الله في الأرض فتتحكم في رقاب البشر باسم الله والله من كل ذلك الظلم بريء، وتخدر الناس بالرضا بالواقع لأنه حكم الله. وتعتبر كل خروج على آرائها خروجا على الله، وتقمع جميع الحركات التحررية والعلمية، وتخنق الثورات والنهضات بهذه الحجة وتجعل حصيلة كل ذلك وسيلة لشهوات حفنة قليلة من رجال الدين برئاسة البابا، وقد كان لموقف رجال الدين من النهضة العلمية في أوربا ضرره البالغ على الديانات كلها في العالم وعلى الإسلام بوجه أخص، وذلك حينما وقفت العقول المتحجرة سدا منيعا أمام التيار العلمي المتدفق وحرمت على الناس استخدام حقهم الطبيعي في التفكير والإبداع وبررت ذلك التحجير والتحريم باسم الدين.

كفر العلماء بذلك الدين المتحجر الذي يقاوم وجودهم ويهددهم في حياتهم وفي مبتكراتهم العلمية ويكرههم على البقاء في ظلمة الجهل والتخلف، وكنتيجة طبيعية لهذا الموقف نشأت الحركة العلمية في ظل الإلحاد ثم غزت العالم كله وهي تحمل هذا الطابع وتنفر بالتالي من كل دين ومن كل ما يمت إلى الله بصلة وقد نسيت أن تميز في حركة اندفاعها وشرودها عن الكنيسة وعن دينها ورجالها أن تميز بين دين ودين وحكمت على الديانات كلها بالإعدام واعتبرتها منافية للعقل والعلم وأخرجتها بذلك من ميدان الحقائق العلمية المسلمة إلى عالم الخرافات والأحلام والشعوذة ففقدت الديانات بذلك قدسيتها وتأثيرها على الناس وأصبح الدين كالمجرم الذي أدين ووضع في قفص الاتهام وعلى أثر انزواء الدين من المجتمعات طغت فيها مردة الأبالسة من الملاحدة وخرج الأمر كله بذلك من يد أهل الخير والصلاح.

ص: 487

هذا ما جنته الكنيسة على الإنسانية في الماضي والحاضر وهذا ما قدمته لها، وأما قيم الإسلام ومثله العليا ورسالته التي أنقذ بها العالم والحضارة الإنسانية الشاملة التي شيد صورها والحركات العلمية التي أنبتها نباتا حسنا في ظل رعايته عبر التاريخ شيء يغنينا اشتهاره عن الإطالة فيه، ولا تزال آثاره ماثلة على مرأى من الأوروبيين في بلادهم وفي التراث العلمي العريق الذي خلفه المسلمون في مكتبتهم الزاخرة العامرة. والسؤال الذي يهجم على الإنسان الآن بعد ما تقدم هو ما يلي: إذا كانت للمسلمين هذه الحصانة في العقيدة والشريعة والكتاب والرسول وهذه الأمجاد التاريخية فكيف يتسرب إلى صفوفهم المبشرون وهم من وصفت في العقيدة والشريعة والرسول والكتاب والتاريخ؟ والجواب عن هذا السؤال هو أن المبشرين لم يأتوا إلى المسلمين بشيء أفضل مما عندهم فيما ذكر ولكنهم وجدوا في المسلمين ثغرتين كبيرتين تسربوا منهما إلى بيوت المسلمين وقلوبهم. هاتان الثغرتين هما تخلف المسلمين الاقتصادي وتخلفهم العلمي، وأما التخلف الاقتصادي فأمر ينتظم العالم الإسلامي كله والفقر المدقع عامل مشترك بين أبناء الأمة الإسلامية التي تتربع على منابع الثروات العالمية، والتخلف الاقتصادي في الحقيقة نتيجة طبيعية للتخلف العلمي الذي يعاني منه المسلمون في كل ميدان من ميادين الحياة.

ص: 488

إن المسلمين بحاجة إلى الكثير من فقه المادة إن صح هذا التعبير ليعرفوا كيف يستغلون هذه الثروات الطبيعية الهائلة التي يجثمون فوقها والتي يسرقها أعداؤهم على مرأى منهم مسمع. والإنعاش الاقتصادي ليس في الحقيقة إلا جزءا من إنعاش عام يشمل جميع جوانب الحياة في الأمة، فما لم يعرف المسلمون كيف يحسنون الاستفادة من الكنوز التي يملكون مفاتيحها سيبقون في حاجة دائمة لعدوهم الذي يجود عليهم بمالهم مقابل الخروج عن دينهم والتنكر لتراثهم. وقد قيل قديما: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك، وهذا يبين السبب الذي يبيع به بعض ضعاف الإيمان من المسلمين دينهم برغيف يبقي لهم حياتهم، والسبب هو جهلهم بدينهم وبأساليب الحياة الحديثة وبمبتكرات الحركة العلمية التي وضع أسلافهم أصولها باعتراف أعدائهم.

وأما جهلهم بدينهم فقد سمع للمبشرين بأن يدسوا على الإسلام ما شاءوا من مفتريات وأباطيل وبأن يشوهوا جمال الإسلام في نفوس أهله ويزعزعوا مكانه ذلك الدين في قلوب أبنائه مما يضعف روح المقاومة عندهم ويوجد لديهم قابلية الانهزام والتبعية والذوبان مما يمهد الطريق أمام المبشرين لسلخهم عن دينهم.

وأما عدم الأخذ بأسباب الحياة العلمية الحديثة فقد جعل المسلمين يعجبون بما لدى أعدائهم من تقدم علمي هائل يتصاغر أمامه الإنسان الجاهل، ويفتن بما يرى ويكبر في نفسه وفي عينه من تحققت تلك المعجزات على يديه ومن جلبها إلى بلاده وبالتالي وكنتيجة طبيعية يزدري ما عنده وهنا يصل المبشورن إلى الغاية المنشودة حيث تسقط عزة المسلم الجاهل أمام بريق الحضارة الخداع فيزداد تضاؤلا في نفسه وتعظيما لغيره حريصا كل الحرص على تقليد من شاد هذه الحضارة ورفع منارتها مستعدا لبذل ما لديه من دين وخلق في سبيل التشبه بهم.

ص: 489

هاتان هما الثغرتان الكبيرتان في واقع المسلمين نفذ منهما المبشرون وأسيادهم المستعمرون إلى نفوس المسلمين وبلدانهم واستطاعوا أن يوقعوا في شباكهم فريقين من الناس: فريق جائع محتاج ساوموه على حياته واشتروه، وفريق جاهل غرروا به وضللوه وأما أن يكسبوا لدينهم مسلما واحدا عن إيمان وقناعة فلا سبيل إليه أبدا، لأن دينا لا يفهمه الداعون إليه أجدر أن لا يفهمه المدعون وهذان الفريقان من ضحايا المبشرين لا يؤبه لهما في الحقيقة إزاء ما استطاع هؤلاء أن يحققوه في مجال آخر بقي على ولائه الأسمى للإسلام ولكن جوهره قد تدنس بكل أباطيل المبشرين وخبائثهم، هذا المجال هو مجال المثقفين المسلمين. إن كان المبشرون قد استطاعوا أن يشتروا بعض المعوزين ويظللوا بعض الجاهلين فإنهم استطاعوا أن يشككوا الجمهور الأعظم من المثقفين ويزعزعوا إيمانهم ويهزوا يقينهم ويخدروا شعورهم الديني بحيث يكون الباقي منهم على دينه، مشلولا مخدرا قلق نهبا للصراع النفسي العنيف بين عقيدته والشبهات التي ألقيت حول هذه العقيدة وكثيرا ما انتهى هذا الأمر بهذا الصنف من المثقفين إلى الارتداد العملي عن الإسلام وإن لم يصحب ذلك تصريح بإعلان الارتداد. وما هذه الموجة العارمة من الارتداد والتي تجتاح المثقفين المسلمين إلا حصاد طبيعي لما زرعه المبشرون من بذور التشكيك في قلوبهم ومجال التشكيك والتظليل هو أهم ما يستهدفه المبشرون ويقنعون بذلك أمام صلابة العقيدة الإسلامية وقوتها. وقد خطط المبشرون وأولياء أمورهم من المستعمرين لمن وقع في حبائلهم من المثقفين ووضعوا مقدرات الأمة الإسلامية في أيديهم وجعلوا الكثيرين منهم في مراكز الحكم والتوجيه وذلك إما ليستمروا في أداء مهمتهم التخريبية وظل هذا النوع من المسؤولين الذين ربوهم على أعينهم ونشؤوهم في حضانتهم ورعايتهم وإما لكي ينوب هذا النوع من المسئولين في القيام بمهمة المبشرين في بلاد المسلمين من حرب لدينهم وصرف لهم

ص: 490

عن تراثهم وتاريخهم وحمل لهم على الانسلاخ عن قيمهم في القلب والقالب.

وقد استطاع هذا النوع الجديد من المبشرين المحليين أن يخرجوا بشكل أعظم من المبشرين الأباعد، وذلك مستترين بالفلالة الرقيقة من الأسماء الإسلامية التي تنم عما تحتها من المخازي والفضائح.

إن المسلمين يجابهون بقوى لا طاقة لهم بها وهم على وضعهم الحالي، فهناك المبشرون المفسدون في المجال الفكري، ومن خلفهم المستعمرون المفسدون في جميع المجالات ومعهم عملاؤهم في الداخل من أبناء المسلمين المخدوعين بهم، ووراء كل ذلك اليهودية العالمية بأساليبها الماكرة التي توجه السياسة العالمية، ومع هذا الجيش الهائل من الأعداء فإن عزيمة الشباب المؤمن (ذخيرة هذه الأمة) لا تلين ولا تضعف وهي تثق بنصر الله وتأييده ولن يزيدها تكالب الأعداء وتألبهم على دينه وأمته إلا مضاعفة النشاط والجهاد والتصميم على النصر حتى النهاية.

وبعد فهذه معلومات أولية وأساسية في هذا الموضوع وكل فقرة منه تصلح أن تكون مقالة مستقلة والفكرة ككل لا يتسع لها كتاب ولكن إن هي إلا محاولة عاجلة وعابرة مع علمي بأن المسيحية أضعف عدو يمكن أن يجابه الإسلام، وأن التيارات الملحدة التي تكتسح الشباب في العالم الإسلامي هي الخطر الحقيقي والأكيد على الإسلام ولكن نظرا لأن دعوات التبشير وإرسالياته تمد تلك التيارات الملحدة بهذا الشباب المرتد بما تتسبب به من تشكيك في الإسلام وصرف عنه وحرب له فتكون بذلك بمثابة المورد بالخامات لتلك التيارات أقتضى التنويه على أصل الخطر مع عدم الغفلة عن الفرع.

ص: 491

هذه إسلاميتنا. .

للشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس في الجامعة

وهذه مبادئها:

1-

الإيمان الصادق

2-

العمل الصلح

3-

التضامن الحق

وهذا هدفها:

رضوان الله تعالى، ومرافقة الصالحين، في الملكوت الأعلى في الجنة دار السلام.

قال الله تعالى:

{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

وبعد: فهذا أصل إسلاميتنا. ومن هنا استوحينا مبادئها، واستقينا هدفها، وغايتها.

من هنا من كتاب الله تعالى، لا من الرأسمالية الغربية، ولا من الشيوعية الماركسية، وإنما من كتاب الله عز وجل، كتاب محمد نبي الرحمة ورسول الهدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وفي الأسطر التالية عرض سريع لمبادئها، وهدفها، وغايتها، لمن أراد أن يعرف ذلك منها:

1-

الإيمان الصادق:

من مبادئ إسلاميتنا: الإيمان الصادق، فلا مكان بيننا لشيوعي ملحد، ولا لاشتراكي منافق، ولا لماسوني زنديق، إذ إننا وإياهم على طرفي نقيض.

نحن نؤمن بالله تعالى الخلق ربا وإلها فنعبده ونطيعه راجين رحمته، خائفين من عذابه، وهم يكفرون به، ولا يعترفون بربوبيته كيلا يعبدوه ويطيعوه، فهم غير راجين ولا خائفين.

نحن نؤمن بلقاء الله تعالى، وصدق وعده ووعيده فنكيف حياتنا كلها بحسب ذلك وهم يكذبون بلقاء الله تعالى، ويجحدونه ليعيشوا إباحيين مستهترين لا يتقيدون بخلق فاضل، ولا بمروءة شريفة أو دين.

نحن نؤمن برسل الله تعالى، ورسالاتهم إلى البشر، ونؤمن أن سعادة الإنسانية في اتباع أولئك الرسل، والعمل بتلك الرسالات، فلذا نحن نجل الرسل ونعظمهم، ونقدس تلك الرسالات، ونقدرها، ولا يرون رسالانهم إلا مادة تخدير للإنسان، وإيقاف لنشاطه العقلي، ونمائه الفكري!!

ص: 492

نحن نؤمن بقانون الأخلاق، والقيم الروحية، ونزن الأفراد بأخلاقهم، وقيمهم الروحية، وكمالاتهم النفسية، ونرى الحياة بدون خلق ودين لا قيمة لها، ولا معنى لوجودها وهم لا يعترفون بذلك، ولا يرون الأخلاق الفاضلة من حياء وعفة إلا عجزا وضعفا، ولا الخوف من الله تعالى، ومراقبته، والشوق إلى الملكوت الأعلى، ومرافقة الصالحين إليه، ومجاورتهم فيه إلا ضربا من المرض النفسي، والجنون العقلي.

نحن نؤمن بحتمية القضاء والقدر، وأن التخطيط الكامل للحياة بأسرها قد سبقها بأزمان، ووضع لها قبل أن تكون الأكوان، وأن شيئا ما وكائنا ما كان لا يمكن أن يكون على غير وفق ما رسم أزلا، وخطط قديما في كتاب المقادير، وأننا لذلك لا نتبرم من الحياة مهما كانت قاسية، ولا نجزع منها أو نسخط، كما لا نيأس أو نقنط، أو ننزع عند العجز إلى الانتقام والبطش.

فحياتنا دائما تتسم بالرضا والطمأنينة والعدل والرحمة، وهم لا يؤمنون بذلك ولا يرونه أمرا كائنا في نظام الحياة، فهم لذلك يكثر في حياتهم القلق والاضطراب ويعم جوانب كثيرة منه اليأس والقنوط، وتتسم في غالبها بسمة الشدة والقسوة وتطبع بطابع الظلم العنف، ولا سيما عند الشعور بالعجز أمام تصاريف القدر، ومجاري القضاء، فينزعون إلى البطش والانتقام، وإلى التنكيل بالأبرياء والتعذيب كما يشهد بذلك تاريخ حياتهم، وتنطق به أعمالهم في أي مكان حلوا به أو واد نزلوا فيه وعياذا بالله تعالى منهم.

وإلى اللقاء مع مبدأ العمل الصالح في العدد القادم إن شاء الله تعالى

ص: 493

في إفريقية الخضراء

للشيخ محمد ناصر العبودي الأمين العام للجامعة

السفر إلى روديسيه..

خرجنا إلى مطار بالانتيو في ملاوي ويسمونه مطار تشاليجا لأنه يقع في منطقة تسمى بهذا الاسم وذلك في تمام الساعة التاسعة صباحا.

وقد وقفنا في الردهة الخارجية للمطار مدة لا تقل عن نصف ساعة بدون أن يؤذن لنا بالدخول إلى ضابط الجوازات لإنهاء الإجراءات الخاصة بجوازاتنا ولم يكن في المكان مقاعد كما لم يكن هناك من يرشدنا فرأيت ضابطا يتجول فسألته عن مكان الجوازات وأين ينبغي لنا أن نذهب الآن فأجاب أنه ضابط الجوازات ذلك. ثم أخذ يحدثني فسألني هل أنتم سعوديون؟ فقلت نعم من أين عرفت؟ قال لقد رأيتكم عند قدومكم إلى ملاوي منذ ستة أيام ثم سألني ما هي لغتكم؟ مع أنه يعرف أننا عرب سعوديون فقلت: العربية وليست لغتنا وحدنا بل هي لغة جميع الأقطار العربية في الشرق الأوسط وشمالي إفريقية. وأخذت أعدِّد له الأقطار التي تتكلم العربية، فقال لي وماذا عن إسرائيل وهل هي من الأقطار العربية؟.

ومع ذلك فلكي لا أغمط هذا الضابط الذكي حقه أنه عندما حان الوقت ودخل إلى مكتبه كان لطيفا معنا وأنهى إجراءات سفرنا وجميع المسافرين بسهولة ويسر.

إلى سالسبوري..

قامت بنا الطائرة من بلانتيو إلى سالسبورى في تمام الساعة العاشرة إلا ربعا بعد أن أعلنت المضيفة أن مدة السفر ستكون ساعة وعشر دقائق والطائرة من طراز (دي، سي، سكس) ذات المحركات الأربعة تابعة لشركة خطوط ملاوي الجوية. ولكن الذي يظهر الأوروبيين هم الذين يقومون على إدارتها لأن جميع هيئة الطائرة من الأوروبيين.

سارت الطائرة رخوا في سماء أرض ذات وهاد وجبال خضر تتخللها مسايل الماء التي تجري وتنعكس عليها أشعة الشمس عندما نحاذيها، ثم ارتفعت الطائرة فلم نعد نستبين من معالم الأرض شيئا خاصة وأن هناك بعض السحب المرتفعة والمنخفضة.

ص: 494

وقبل هبوط الطائرة بثلث ساعة اتضحت لنا الأرض وإذا بها لا تكاد تختلف مناظرها عن منظر الأرض في زامبية حيث كثافة الخضرة أقل بكثير من كثافة الخضرة في البلدان الإستوائية. وقبل هبوط الطائرة بدت مدينة سالسبورى وضواحيها جميلة منسقة بل غاية في الجمال

في مطار سالسبوري..

هبطت بنا الطائرة ولسنا على ثقة من دخول روديسية لأنه ليس معنا تأشيرات دخول إليها، وقد كان جميع الموظفين الذين استقبلوا الطائرة من الأوروبيين. والمطار نظيف جدا وفخم يكاد يقارن بمطار نيروبي حقا. وكان جميع الموظفين فيه من الأوروبيين، وقد عجبت جدا لسهولة الإجراءات وسرعتها، فالطابور الذي يتقدمنا من المسافرين وهو يتكون من ستة أشخاص لم تستغرق إجراءاتهم أكثر من ثلاث دقائق، أي أن كل شخص لم يقف أمام ضابط الجوازات أكثر من نصف دقيقة، وهذا شيء لا يصدق ولكن هذا هو الواقع. وعندما جاء دورنا، ونحن كما قلت ندخل البلاد بدون أن نحصل على إذن مسبق بالدخول، سألنا ضابط الجوازات بلطف هل معكم فيزا إلى روديسية؟ فلما أجبناه بالنفي أسرع إلى أوراقه وكتب لنا تأشيرة دخول في أقل من دقيقتين، وطلب منا رسم التأشيرة وقدره جنيه لكل واحد، ولما أجبناه بأنه لا توجد لدينا عملة روديسية وإنما هي عملة ملاوي قال إنها تكفى، مع أنها أقل قليلا في الصرف من عملة روديسية..

ص: 495

وعلى رغم أن جوازاتنا غريبة في هذه البلاد فلم يبد استغرابه لنا وإنما نظر إلى أحد الجوازين وقال: هل الآخر مثله؟ فقلنا: نعم. فاكتفى بنظر الأول ثم قال هل معكم تذكرة عودة إلى بلادكم قلت نعم. ولم يطلب إبرازها أو النظر فيها. ونظرنا إلى أننا قد أنهينا بعد جميع المسافرين فقد وقف قريبا منا رجل أوروبي كهل عرفنا فيما بعد أنه ضابط في جمرك المطار وأرشدنا إلى مكان حقائبنا، وكنت أحمل معي في يدي حقيبة يدوية، وحقيبتي الكبيرة الثقيلة فقد أسرع ليحمل بنفسه حقيبتي إلى مكان التفتيش وذلك مع كونه أسن مني وعندما مانعت في ذلك حمل حقيبتي اليدوية وحملت أنا حقيبتي الكبيرة ولا أدري أين الحمالون. وعندما وصلنا إلى مكان التفتيش سألني أوروبي شاب عن النقود التي نحملها فأخرجناها لنعدها فقال إنه لاداعى لعدها اكتبوا ما شئتم، ثم فسحوا لنا الطريق للخروج من المطار بدون أن يفتشوا شيئا من حقائبنا لا الكبيرة ولا الصغيرة حتى إيصالات الحقائب لم يطلبوا منا أن نعطيهم إياها.

مدينة سالسبورى..

ركبنا حافلة إلى البلد والمسافة بينهما (12) كم والأجرة شلنان ونصف أي ريال ونصف تقريبا. إنه شيء زهيد نظرا لفخامة الحافلة وبعد المسافة.

نزلنا في (فندق إليزابيث) وهو فندق أوروبي ولم أر فيه أحدا من غيرهم ولا أدري هل ذلك من باب المصادفة أم أنهم لا يسمحون بذلك.

يديره إيطاليون على رأسهم عجوز هي التي وجدناها في الإدارة وفي المكتب عجوز أخرى أوربية كأنها كاتبة، وأجرة الغرفة الواحدة فيه ذات السرير الواحد جنيه إسترليني وسبعة شلنات أي ما يساوي سبعة عشر ريالا تقريبا، ومستواه مستوى فنادق الدرجة الأولى في البلاد العربية فهو غاية في النظافة وفيه مطعم فخم ورياشه من أغلى الرياش والمياه في الغرفة حارة وباردة. وعلى كل حال فهو أرخص فندق نزلناه بالنسبة لمستواه في أي بلد آخر.

ص: 496

ذهبنا نبحث عن جامع سالسبوري وعن السيد علي آدم رئيس الجمعية الإسلامية هناك، فبدت لنا مدينة سالسبوري حديثة كبيرة تفوق مدينة نيروبي في كل شيء تقريبا، شوارعها واسعة، وحدائقها كثيرة، وحركة السيارات فيها عظيمة، وعماراتها ضخمة ولكن دون الحد الذي يخرجها عن الجمال، أما متجرها فهي غاصة بالسلع المختلفة. وأما نظافتها فتكاد تبلغ حد الإسراف، شيء لم أراه في أية مدينة أخرى في إفريقية، والواقع أنه يمكن القول - بحق - إنها مدينة أوروبية في إفريقية، لأنه ليس للإفريقيين فيها أي نصيب إلا أن يكونوا من زبائن المحلات التجارية.

أما سكانها الأوروبيون فيظهر عليهم الثراء والنعمة، وأما الإفريقيون فإنهم في لباسهم ومظهرهم الصحي فوق مستوى كثير من الإفريقيين في البلاد الإفريقية التي مررنا بها.

إلا أنهم مع ذلك تبدو عليهم المسكنة وعدم الشعور بأنهم في مستوى الآخرين من غير الإفريقيين، ولاشك أن ذلك ناشئ عن السياسة العنصرية التي كانت ولا تزال سائدة في تلك البلاد وإن يكن أقل تطرفا من السياسة المتبعة في جنوب إفريقية.

وعندما رأيت مدينة سالسبوري بهذه المثابة من الثراء والحركة التجارية العظيمة لم أستطع أن أصدق بأن روديسية تعاني حصارا اقتصاديا، حتى السيارات تسمع لها جلبة عظيمة لكثرتها وتنوعها فأين الحصار الاقتصادي الذي يشمل القيود العظيمة على إرسال النفط وغيره إليها. لاشك أن ذلك الحصار ليس فعلا والسبب في ذلك هو جمهورية جنوب أفريقية (الباب الخلفي) لروديسية أو (باك دور) كما يقول الأوروبيون، فجميع احتياجات روديسية تأتي عن طريق ذلك الباب الخلفي لأن حكومة جنوب إفريقية أكثر عراقة في سياسة التمييز العنصري ولذلك فإنه لا يعقل أن تطبق العقوبات الإقتصادية المفروضة على روديسية كما أن روديسية تجد متنفسا في مستعمرة موزنبيق المجاورة فعن طريقها تصدّر كثيرا من بضائعها وتستورد بعضها.

ص: 497

ومدينة سالسبوري عبارة عن مدينة رئيسية وضواح فالمدينة الرئيسية للأوروبيين فقط ولا يجوز لأي إفريقي أن يسكن فيها أو يفتح فيها محلا تجاريا، وأما ضواحيها فهي منفصلة عنها فإنها مساكن مخصصة للإفريقيين ولا يجوز لغيرهم أن يسكن فيها. أما الأسيويون وهم هنا الهنود فقط فإنهم قلة وهم يسكنون في الوسط بين الأوروبيين والإفريقيين، وليس عليهم من التمييز العنصري ما على الإفريقيين.

وقد رأينا بعض مظاهر الزينة في سالسبوري لا تزال باقية بعد احتفالهم بالعيد الأول لاغتصابهم الاستقلال. ويتمثل أكثرها في أشكال هندسية متعددة من الأضواء الكهربائية وأقواس النصر في الشوارع.

مع رئيس الجمعية الإسلامية..

قابلنا السيد علي آدم رئيس الجمعية الإسلامية الآسيوية وهو هندي الأصل واقتصادي كبير يملك رأس مال عظيم وهو ذكي سريع الفهم وطيب القلب، وقد رأينا متجره واسعا كبيرا يعمل لديه أكثر من اثني عشر موظفا، وقد حدثنا بأن له مصنعا كبيرا لغزل القطن ونسجه وتفصيل القماش.

وقد حدثنا عن تجارته فقال إن قضية اغتصاب الاستقلال قد أثرت على الصناعة في روديسية بعض الشيء بالنسبة لما كانت عليه الحال قبل ذلك لأن كثيرا من البلاد الإفريقية تقاطع روديسية اقتصاديا في الوقت الحاضر، ولولا وجود جنوب إفريقية بجانب روديسية لما استطاعت أن تعيش طويلا.

في جامع سالسبوري..

ص: 498

قصدنا جامع سالسبوري وهو في موقع متوسط من المدينة في الحد الفاصل تقريبا بين مساكن الأوربيين والآسيويين وأدينا فيه صلاة المغرب فوجدناه لا يختلف عن بقية مساجد المسلمين في الروديسيتين ونياسالاند كما قدمت وصفها، وهو عبارة عن بناء متوسط السعة مقدمته مسجد ومؤخرته ردهة في جانب منها المنافع الضرورية وفي الجانب الثاني عدة غرف خصصت لسكنى إمام المسجد، وفيه غرفة كبيرة كانت فيها المدرسة الإسلامية قبل انتقالها إلى مكان واسع كما قالوا إلا أن المسجد صغير نوعا وردهاته ضيقة ليس فيها حديقة وقد امتلأ المسجد بالمصلين قبل آذان المغرب وقد أذن المؤذن جملة لم أسمعها إلا في هذه المنطقة أي منطقة الروديسيتي (ونياسالاند) وهي (اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة دائمة أي ليوم الدين ثم يقيم الصلاة بعدها مباشرة، فيدخل الإمام بعد ذلك مباشرة دون أن يلتفت إلى المأمومين أو يأمرهم بتسوية الصفوف ولم يجهر أحد بالتأمين لأن القوم حنفية ولم يكن في المسجد من الإفريقيين أحد، لأن مساكن الإفريقيين في مكان بعيد عن البلد وبعد الصلاة وأداء الراتبة مباشرة سلمنا على الإمام وعلى جماعة القوم وقد سرني أنني لم أسمع بعد الصلاة شيئا مما كنت أسمعه في شرق افريقية من الدعاء الجماعي والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت يظن كثير من العامة منهم أنها جزء متمم للصلاة لا تصح بدونها وقد لبثنا فترة طويلة نتحدث مع الإمام، واسمه الشيخ عبد الله صديق الصوفي، ومعه شيخ آخر اسمه الشيخ موسى.. هو نائب الإمام ومدرس أيضا مثله في المدرسة الإسلامية هناك وهم الهنود. ولقد لقينا من القوم استقبالا طيبا ومشاعر نبيلة..

ص: 499

ثم ذهبنا من المسجد إلى بيت السيد علي آدم وكان قد دعانا لتناول العشاء في بيته فوجدنا قصرا فخما في ربوة علية تطل على سالسبوري من إحدى الضواحي القريبة، وبه جناح خاص مجهز بكل ما يلزم. وقد دعانا إلى أن نمكث فيه ونكون ضيوفه مدة إقامتنا في سالسبوري فشكرناه على ذلك واعتذرنا له بأننا قد ارتبطنا مع الفندق بوعد في أن نقيم عنده، وبعد العشاء أوصلنا بسيارته إلى الفندق أو على الأصح بإحدى سياراته فلديه أكثر من خمس سيارات للركوب فقط ويقول إن تعدد السيارات لديه ينفعه لأن البنزين مقنن في روديسية لكل سيارة قدر معلوم وهو جالون إلا ربع يوميا وقيمة الجالون ستة شلنات ونصف أي أن قيمة الصفيحة 26شلنا أي ما يساوي ستة عشر ريالا سعوديا تقريبا. ويقول السيد علي أنه يستطيع أن يوفر من البنزين لسد حاجاته كلها منه بسبب تعدد السيارات لديه وله ثلاثة أولاد يشتغلون معه ويدرس اثنان منهم في جامعة روديسية بسالسبوري وقد أكملا مدة من الدراسة في لندن في وقت سابق وذكرا لي أنهما تعرفا على عدد من طلبة العرب هناك ومنهم طلبة سعوديون وذكر أحدهما أنه كان عضوا في جمعية الطلبة العرب على الرغم من أنه ليس عربيا بالجنسية وإنما ذلك لمحبته العرب وقال أنه أيضا في الشكل يشبه العرب.

هل نحن سعوديون حقا؟..

مديرة الفندق الذي نسكن فيه عجوز إيطالية ما إن رأت كتابتنا على سجل الفندق بأننا من المملكة العربية السعودية حتى بانت عليها الدهشة وقالت: لم أكن أتصور أن سكان الجزيرة العربية بيض الألوان فأخبرنها بأننا في الجزيرة العربية ديننا الإسلام ولا نلقي إلى اللون بالا وإنما نزن المرء بأعماله وبقدر ما يحسن، وما يقدمه من عمل صالح وعلى ما في هذه الإجابة من عدم المجاملة لها فإنني قد ركزت عليها ولم أر أن تفوت هذه المسألة بغير أن أبين لها موقف الإسلام من الألوان..

ص: 500