الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 2
على طريق العلم
لفضيلة نائب رئيس الجامعة
الشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده وبعد:
فمما لاشك فيه أن العلم هو الدعامة الأساسية التي ترتكز عليها مقومات الحياة البشرية.
وأولى العلوم بالاهتمام والعناية هو معرفة علم الشريعة الإسلامية إذا به تعرف الحكمة التي خلقنا الله سبحانه وتعالى لأجلها وأرسلت الرسل لتحقيقها وبه عرف الله، وبه عبد كما قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ، وقال سبحانه:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} ، وبهاتين الآيتين علمت الحكمة في خلق الجن والإنس، والحكمة في إرسال الرسل، وأية الأمة لا عقيدة لها صحيحة، ولا دين عندها صحيح فهي أمة جاهلة مهما بلغت من الرقي والتقدم في نواحي الحياة كما قال سبحانه:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} . والحياة الطيبة هي الحياة أهل العلم والإيمان كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، وقال سبحانه:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . والعلم النافع لا يمكن الحصول عليه إلا بواسطة المعلم، ولا يمكن لأي إنسان أن يكون معلما إلاّ إذا كان عالما بالمادة التي يعلمها غيره
…
إذ فاقد الشيء لا يعطيه، والعلماء هم ورثة الأنبياء، ولذلك كانت مهمة المعلم من أصعب المهام ولما تتطلبه من الاتصاف بأكمل الصفات حسب الإمكان من علم نافع، وخلق كريم وعمل صالح متواصل وصبر
ومصابرة، وتحمل للمشاق في سبيل إصلاح الطالب، وتربيته تربية إسلامية نقية، وبقدر ما تتوفر صفات الكمال في المدرس يكون نجاحه في مهمته.
وقدوة الجميع وإمامهم هو سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله الهاشمي العربي المكي ثم المدني عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، فلقد كان أكمل الناس في كل الصفات الكريمة، وقد لاقى في توجيه الناس وتعليمهم الصعوبات الكثيرة، والمشاق العظيمة، فصبر على ذلك، وتحمل كل مشقة وصعوبة في سبيل نشر دينه، وإخراج أمته من الظلمات إلى النور، فجزاه الله عن ذلك أفضل الجزاء الحسن وأكمله، وقد تربى على يديه الكريمين جيل صالح يعتبر أفضل الأجيال التي عرفتها البشرية في تاريخها الطويل، ومعلوم أن ذلك ناشئ عن حسن تربيته وتوجيهه لأصحابه، وصبره على ذلك مع توفيق الله لهم وأخذه بأيديهم إلى الحق سبحانه وتعالى.
إذ علم ذلك فإن من أهم المهمات في حق المعلم في كل مكان وزمان، أن يسير على منهج المعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجتهد في معرفة ذلك حتى يطبقه في نفسه، وفي طلابه حسب الإمكان، وما أشد حاجة الأمة في هذا العصر الذي كثر فيه دعاة الهدم وقلّ فيه دعاة البناء والإصلاح إلى المعلم الصالح الذي يتلقى علومه، وما يربي به طلابه من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينشر بينهم أخلاق السلف الصالح من الصدق، والأمانة، والإخلاص في العمل، وتعظيم الأوامر والنواهي، والمسابقة إلى كل فضيلة والحذر من كل رذيلة.
ومما تقدم يعلم أن مهمة المعلم مع كونها من أصعب المهام فهي مع ذلك من أشرف الوظائف ، وأعظمها نفعا، وأجلها قدرا، إذا وفق صاحبها للإخلاص، وحسنت نيته، وبذل جهده. كما أن له من الأجر مثل أجر من انتفع بعلمه وفي الحديث الشريف يقول عليه الصلاة والسلام:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، ويقول عليه والصلاة والسلام:"لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم"، ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم:"من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، ولا ريب أن المعلم هو المربي الروحي للطالب، فينبغي أن يكون ذا أخلاق فاضلة، وسمت حسن حتى يتأسى به تلامذته، كما ينبغي أن يكون حافظاً على المأمورات الشرعية بعيدا عن المنهيات، حافظاً لوقته، قليل المزاح، واسع البال، طلق الوجه، حسن البشر، رحب الصدر، جميل المظهر، ذا كفاية ومقدرة وسعة الاطلاع، كثير العلم بالأساليب العربية ليتمكن من تأدية واجبه على أكمل وجه. ولا شك أن من يعنى بدراسة النفس البشرية من كافة النواحي، ويبحث عن الأسباب المواصلة إلى معرفة الطريقة التي يمكن بواسطتها غرس العلوم في هذه النفس بسهولة ويسر، سوف يحصل على نتائج طيبة في كشف بعض خفاياها، وما انطوت عليه من مشاعر وأحاسيس، ومدى تقبلها للمعلومات المراد غرسها فيها.
وسيخرج من تلك الدراسة والبحث بمعلومات هي في الحقيقة من القواعد العامة التي يقوم عليها صرح التعليم، وهذه القواعد يمكن إجمالها في أنه إذا أراد أي معلم أن يغرس معلوماته في أذهان تلامذته فلا بد له قبل كل شيء أن يكون ذا إلمام تام بالدرس الذي وكل إليه القيام به، وذا معرفة بالغة بطرق التدريس، وكيفية حسن الإلقاء، ولفت نظر طلابه بطريقة جلية واضحة إلى موضوع الأساسي للدرس، وحصره البحث في موضوع الدرس دون الخروج إلى الهوامش قد تبلبل أفكار التلاميذ، وتفوّت عليهم الفائدة، وأن يسلك في تفهيمهم للعلوم التي يلقيها عليهم طرق الإقناع مستخدما وسائل العرض، والتشبيه، والتمثيل، وأن يركز اهتمامه على الأمور الجوهرية التي هي القواعد الأساسية لكل درس من الدروس، وأن يغرس في نفوسهم كليات الأشياء ثم يتطرق إلى الجزئيات شيئا فشيئا؛ إذ المهم في كل أمر أصله، وأما الفروع فهي تبع للأصول، وأن يركز المواد ويقربها إلى أذهان التلاميذ، وأن يحبب إليهم الدرس ويرغبهم في الإصغاء إليه، ويعلمهم بفائدته وغايته، آخذا في الحسبان تفهيم كل طالب ما يلائمه، وباللغة التي يفهمها، فليس كل الطلبة على حد سواء وأن يفسح المجال للمناقشة معهم، وتحمل الأخطاء التي تأتي في مناقشاتهم لكونها ناتجة عن البحث عن الحقائق، وأن يشجعهم على كل بحث يقضي إلى وقوفهم على الحقيقة، آخذاً الحسبان عوامل البيئة والطباع والعادات والنماذج؛ لأن لتلك الأمور تأثيراً بالغاً في نفسيات التلاميذ ينعكس على أفهامهم وسيرتهم وأعمالهم، ولهذا فإن من المسلّم به أن المعلم النابه الذكي الآخذ بهذه الأمور يكون تأثيره على تلامذته أبلغ من تأثير من دونه من المعلمين، ومهمة المعلم أشبه ما تكون بمهمة الطبيب، ومن واجبه أن يعرف ميول طلابه، ومدى حظ كل منهم من الذكاء، وعلى أساس هذه المعرفة يقدر المقاييس الأساسية التي يسير على نهجها في مخاطبة عقولهم وأفهامهم، وتلك من أهم أسباب نجاح
المعلم في مهمته.
وأهم العلوم الواجب تعليمها على الإطلاق هو العناية بإصلاح العقيدة على ضوء الكتاب والسنة، وهدى السلف الصالح، ثم العناية ببقية العلوم الشرعية، ثم العلوم الأخرى التي لاغني للبشر عنها، شريطة أن لا يكون من نتائج تلك العلوم الأعراض عن العلم الأساسي الذي خلق الخلق لأجله، وأن تسخر هذه العلوم للمصلحة العامة دون أن تقف حجرا في طريق العلم النافع، ولقد هدى الله من هدى لتعلم العلم النافع وتعليمه بتوفيق منه وفضل وحكمة بالغة، فنفع الله بهم العباد والبلاد، وفازوا بالذكر الجميل، والسمعة الحسنة، ومضاعفة الأجر، وحسن العاقبة، وحرم التوفيق آخرين بسبب تنكبهم الطريق السوي، فكانت علومهم وبالاً عليهم وعلى تلاميذهم، فضلوا في متاهات الكفر والإلحاد والزندقة، وأضلوا غيرهم فباؤوا بمثل إثمهم، وذلك من عدله سبحانه وحكمته وجزائه لمن حاد عن الحق، وتنكّب الصراط السوي، وتابع الهوى أن يبوء بالخذلان والزيغ عن الهدى كما قال سبحانه:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . والآيات في هذا المعنى كثيرة، ونسأل الله أن يرزقنا وسائر المسلمين العلم النافع والعمل الصالح، وأن يلطف بنا جميعاً ويمنّ علينا بالفقه في الدين، والثبات عليه، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين وقادتهم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم دين.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية.
بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الغزو الفكري وأثره في العالم الإسلامي
للشيخ محي الدين القضماني المدرس بالجامعة
منذ أن بزغ فجر الإسلام قام الصراع بين المسلمين والذين كفروا من أهل الكتاب، وهو حلقة من سلسلة الصراع القائم بين الحق والباطل من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وامتد الفتح الإسلامي في أطراف الأرض، وتقلصت بلاد النصرانية حتى حصرت في بعض أوربا تتربص بالمسلمين وتنتظر منهم غفلة وضعفا، حتى لمست ذلك أيام الحروب الصليبية، فقامت بحملاتها تقذف بلاد الشام وقدسها بالجيوش العاتية، فاحتلت البلاد، وأسّست دويلات، ولكن المسلمين الذين أفاقوا من غفلتهم سرعان ما رجعوا إلى ربهم، فوحدوا صفوفهم، وانطلقوا تحت راية صلاح الدين، وإذا العقيدة الإسلامية نار تحرق الصليبين، وتطارد فلولهم، وترد أوربا المنهزمة على حقدها ومكرها، فتفكر في الوسيلة المجدية في إضعاف المسلمين، والتسلط على بلادهم، ورأت أنّ ذلك لا يتم إلاّ بإضعاف العقيدة في نفوس المسلمين، وإبعادهم عن مصدر قوتهم. وهكذا بدأت تمهّد هذه المرة للاستعمار العسكري بالاستعمار الفكري؛ لأنها عرفت أن الإنسان إذا فقد العقيدة فقد القوة والمنعة.
وأخذت أوربا ترسل جيوش المبشرين إلى الشرق محاولة أن تنزع من المسلمين حبهم لدينهم، وتمسكهم بإسلامهم، وإذا كانت قد فشلت في أن تدخل المسلمين في النصرانية في أكثر البلاد الإسلامية، فإنها قنعت أن تفسد العقيدة، والأخلاق في نفوس المسلمين، فتنزع من هذه النفوس اعتزازها بأمتها وتعاليمها.
ففي مؤتمر القدس الذي عقده المبشرون أيام الاحتلال البريطاني خطب القسّيس (زويمر) رئيس المبشرين في إخوانه المؤتمرين، فبيّن لهم أهداف التبشير الحقيقة، وقال في بعض خطبته: "إن مهمة التبشير ندبتكم الدول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريما، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بأعمالكم هذه طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية
…
لقد قبضنا أيها الإخوان - في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا - على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير
…
" إلى آخر ما قال.
فالتبشير الذي هو استعمار فكري كان إذن لخدمة الاستعمار العسكري وتمهيدا لدخول الجيوش الأجنبية، وضمان لبقائها في البلاد، وكان هذا الاستعمار العسكري الفكري يعمل ضمن مخططات مدروسة، ويستعين بشتى الوسائل الممكنة.
فقد هال المستعمرون ما رأوه عليه المسلمين من وحد روحية وعادات وآداب مشتركة، فحاولوا تحطيم هذه الوحدة، وتمزيق وشائج القربى بين المسلمين، فأثاروا النعرات القومية، وشجعوا أصحابها، وتآمروا على الخلافة الإسلامية حتى قضوا عليها، ليجعلوا بأس المسلمين بينهم ليعودوا أمماً ضعيفة، لا تملك من أمرها شيئا
…
ورأوا في اعتزاز المسلمين بدينهم واحترامهم لنبيهم خطرا عليهم؛ لأنه يجعل الغربيين الكافرين الغرباء مكروهين، لا يركن المسلمون إليهم، ولا يثقون بهم، ولا يقبلون حكمهم، فحاولوا تغيير هذا ولجأوا إلى وسائل كثيرة منها:
فتح المدارس التبشيرية الكثيرة، وتزويدها بالأساتذة الحاقدين على الإسلام، والإكثار من الإرساليات التبشيرية التي تنشر باسم الدين الدسائس على الإسلام والشبهات والمفتريات على نبي المسلمين، وإنشاء المستشفيات، ومداواة المسلمين مجانا لكسب ثقتهم، وحسن الاتصال بهم، ومنها نشر الكتب التي تدسّ على الإسلام باسم العلم والمدنية والثقافة، وتشجيع المجلات الخليعة الأدب الماجن ،والسيطرة على دور النشر لإفساد النشء الجديد وتمييعه، ومنها قبول عدد كبير من أبناء المسلمين للدراسة في جامعاتهم، وتغذيتهم بأفكارهم، ومنها تمجيد الحضارات القديمة التي كانت في جاهلية الشعوب الإسلامية لإلهائها عن نبيها وتاريخها وحضارتها.
ومنها السيطرة على مناهج التعليم في بلاد المسلمين لتوجيهه كما يريدون، وذلك بإمدادهم بالنظم والخبراء، والعمل على تعيين تلاميذهم ومريدهم في الوظائف التعليمية الحساسة.
ومنها تشجيع المذاهب والمبادئ الهدامة من شيوعية ووجودية وفوضوية وقومية، بتشجيع دعاتها لإشغال المسلمين عن دينهم وإلهائهم عن حقيقة عقيدتهم وشريعتهم.
ومنها إفساد المرأة ودعوتها إلى التبرج باسم الثقافة والحرية والتقدمية لتفسد الأسرة وتصرف الشباب عن دينهم إلى شهواتهم.
وقد كان لهذه المخططات الخبيثة أثرها في المسلمين، مما عمل في إضعافهم وتمكين المستعمرين في بلادهم.
ولو اقتصر أثرهم على عدد من المسلمين دخلوا النصرانية وارتبطوا بالغرب وثقافته نهائيا لهان الأمر، ولكن أثر الغربيين في بلادنا كان أبلغ وأخطر، فقد راع المسلمين ما هم عليه من تخلف مادي وحضاري، وتأخر في مجال العلوم والمكتشفات، ورأوا الغرب يرفل في ثياب المدنية، وظنوا ذلك مرتبطاً بالإسلام، وما فيه من تعاليم، فأعجبوا بالغرب، وبكل ما يأتي به الغرب، وعلى رأس هؤلاء الشباب الذين درسوا في المدارس التبشيرية، وتأثروا بتوجيهها، أو مضوا إلى الغرب ينهلون من ثقافته وعاداته، ثم رجعوا إلى بلادهم وفي أعماقهم احترام الغربيين، واحتقار أمتهم وما هي عليه من عقيدة وثقافة وعادات، وحاولوا جاهدين أن ينشروا المدنية الغربية في بلادهم، وقد أسهم الاستعمار بما له من نفوذ في بعض الأقطار الإسلامية في أن يرفع من قدر هؤلاء، ويلفت إليهم الأنظار، ويوليهم المناصب الحساسة الموجهة في البلاد، وقد كثر هؤلاء، وسيطروا على سياسة التعليم، وخرّجوا أجيالاً تؤمن بما يؤمنون.
وقد تربى هؤلاء على العقيدة القومية ودعوا إلى الحرية في الأخلاق ليفلتوا من رقابة المجتمع، ودعوا إلى تحرير المرأة ولحاقها بالمرأة الغربية. ولم تقف هذه الفئة عند حد في تقليد المجتمع الأوربي وأبت إلا أن تخرج المجتمع الإسلامي من دائرة الإسلام وتقطعه عن ماضيه، وتعلن التلمذة على الغرب، والاستسلام لكل ما يأتي من عنده، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يقدس الغربيين، ويتباكى عليهم إذا كانوا مستعمرين للبلاد وأكرهوا أن يخرجوا منها.
فهذا طه حسين مثلا يكتب مقالاً وهو في مصر عند جلاء الفرنسيين عن سورية ينعى على السوريين كفرهم بالنعمة، وطردهم أساتذتهم ومعلميهم الحضارة، وولى الدين يكن يتوجس خيفة من زوال الاحتلال البريطاني عن مصر مرتعاً للجهالة والتخلف لولا وجود البريطانيين المتحضرين فيها.
وقد نفذت هذه المخططات إلى أعمق من ذلك، فوصلت حتى إلى المصلحين والكتّاب الإسلاميين الذين لم ينجوا من بعض آثارها.
فقد استطاع الغرب بخبثه ودسائسه أن يدفع بعض الأقلام المخلصة لتعريف بعض المفاهيم الإسلامية بنية الدفاع عن الإسلام ورد الشبهات عنه، فإذا كتب المستشرقون أن الإسلام انتشر بقوة السيف، حاولوا أن يجعلوا الجهاد في الإسلام دفاعيا، واجتهدوا في إقناع الناس بأن المسلمين لم يحملوا السلاح لنشر كلمة الله، كأنما نشر دين الله وحمل الناس على الحق عيب يستحي منه.
وإذا كتب المستشرقون الخبثاء أن الإسلام لا يقوم على العقل، جهد بعض الكتاب في أن يردوا ذلك، ويتجاوزوا الحد، فيخضعوا الشرع للعقل، ويفسروا المعاني الإسلامية تفسيرا عقليا بحتا، ونحن نعلن أنه لا تناقص بين الإسلام والعقل السليم، ولكن الإيمان بالله يوجب علينا أن نخضع العقل للنص في الأمور التي يصعب على العقل إدراكها وتفسيرها.
كما حاول بعض المصلحين التقريب بين الإسلام والفكر الأوربي الحديث، ليجعل من الإسلام في رأيه دينا تقدميا يقبله النشء الجديد من المسلمين؛ لأنه لا يتنافى مع العقل والمدنية الحديثة. ورأوا المسلمين متخلفين في ميادين العلوم، وأرادوا لهم التقدم ومجاراة المستعمرين في قوتهم المادية، فدعوا إلى الأخذ بالثقافة الغربية الحديثة، ودعوا إلى عدم التخوف منها، فهي كلها خير، والتاريخ الحديث يخبرنا مثلا عن أحمد خان في الهند الذي رأى أن الثقافة الأوروبية هي سبب تفوق الأوروبيين، فدعا المسلمين في الهند إلى التعلم في مدارس الإنكليز وأدار الجامعة الإسلامية البريطانية في (عليكرة) ، وأرسل ابنه إلى الجامعات الإنكليزية لينهل منها، ولم ينتبه إلى ما في الفكر الأوربي من انحراف وتناقص مع منهج الإسلام وحقائقه، وهدم للشخصية الإسلامية التي حرص الإسلام على استقلالها، فساهم أحمد خان بهذا في هدم هذه الشخصية الإسلامية التي كانت مصدر قلق كبير للإنكليز.
وأنا لا أعني أن نبقى جهالا، وأن لا نستفيد مما عند الغربيين من رقي مادي وتقدم علمي، فالعلم فريضة، ولكن علينا أن نعرف ما نأخذ وما ندع، علينا أن نحسن الاختيار في اقتباسنا، ولا نتهالك على ما عند أعدائنا كما يتهالك الفراش على النار الموقدة. فنحن يمكننا أن نأخذ من الأوروبيين وغيرهم العلوم البحتة كالكيمياء والفيزياء والطب والصناعة وغيرها مما هو نتاج الفكر وحده، فهذا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:"أنتم أعلم بأمر دنياكم". أما ما يتعلق بتصور المسلم عن الحياة والكون والإنسان، وغاية وجوده، وما يتعلق بالمبادئ والشرائع، وما يتعلق بالأخلاق والعادات والقيم والمفاهيم التي تكّون ملامح المجتمع المسلم، فهذا كله لا يجوز أن نأخذه عن الغربيين، ونتلمذ فيه عليهم؛ لأن هذا كله يكون شخصية المسلم ونظرته للحياة، ولا يجوز للمسلم أن يتلقى هذا إلاّ عن ربه، ولا يعتمد في تعلم ذلك إلا على مسلم يثق بعلمه وتقواه، أَوَلَمْ يُنبِّهُنَا الله تعالى إلى خطر الأخذ في مثل هذا عن أهل الكتاب لأنهم ضالون؟ أَوَلَمْ يسمع المسلمون لقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} . إن هؤلاء الغربيين انحرفوا عن الحق حين أعرضوا عن ربهم، وكفروا بالآخرة، ولم يريدوا في تفكيرهم إلاّ الحياة الدنيا، لذلك جاءت حضارتهم منحرفة لا يجوز اتباعها، والثقة بها، والله تعالى يقول:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} .
ولو أخذ المسلمون عن الغربيين ما عندهم من علوم مادية بحتة، واعتمدوا في دراسة العقائد والشرائع والأخلاق والعلوم النفسية والاجتماعية على ما عندهم من مصادر إسلامية لتقدمت البلاد الإسلامية في المجال المادي دون أن تقع فيما وقعت فيه من فساد العقيدة، وانحلال الأخلاق، وضعف الشخصية، مما زاد في تفكك المجتمع الإسلامي وتخلفه.
فالاستعمار الفكري الذي توغل في بلاد المسلمين وكان له أثره الكبير فيها، كان إذاً أخطر من الاستعمار العسكري؛ لأن الاستعمار العسكري مكشوف واضح لكل ذي عينين، وهو يحمل في طبيعته كراهيته، ويدفع الأمة المستعمرة بما فطر الإنسان عليه من حب للحرية والكرامة إلى أن تحاربه وتحاول التخلص منه.
لذلك لم يستطع الاستعمار العسكري أن يدوم طويلا في بلاد المسلمين لأن الإسلام بما يغرسه في نفوس المسلمين من روح الجهاد وحب الشهادة في سبيل الله، وبما يزرعه في أذهان المسلمين من أنّ المشركين نجس، وأنه يحرم على المسلم أن يخضع لحكم كافر، وأن عليه أن يجاهده ويقضي عليه ما وجد إلى ذلك سبيلا، كل هذا كان كافيا في أن لا يمكن للمستعمرين، ولا يديمهم طويلا في بلاد المسلمين.
إذا كان هذا الشأن الاستعمار العسكري، فإن الاستعمار الفكري يختلف كثيرا عنه، فهو كالشرك الخفي، أخفى من دبيب النمل، وهو أشد إيذاء وفتكا بأبناء البلاد المستعمرة؛ لأنه يجعل من أبناء البلاد أعوانا للمستعمرين دون أن يشعروا بجريمتهم، وهم بدورهم أشد جرأة على هدم شخصية الأمة وتحطيم بنيانها من المستعمرين الغرباء.
وقد استطاع أعداء الإسلام على يد تلامذتهم الفكريين أن يحطموا وحدة العالم الإسلامي، ويهدموا بنيان أخلاقه وعقيدته، فإذا الروح القومية تجعل المسلمين دويلات يسهل على المستعمرين اقتسامها، وإذا تحررت المرأة من حيائها، وتحرر الرجل من أخلاقه، يهدم في المسلمين تماسكهم، ويميت روح الجهاد في نفوسهم، فيميلون إلى تخنث، والاستمتاع بالدنيا شهواتها، وإذا باحترام المسلمين للغربيين والشعور بالنقص أمامهم وأمام حضارتهم الزائفة يجعل من المسلمين تلاميذ متواضعين، يقفون كالمتسولين، يأخذون كل ما تجود به فضلات موائد المستعمرين من أفكار هدامة وفلسفات منحرفة وأنظمة مخالفة لطبيعة البلاد الإسلامية.
ويقف المسلمون المخلصون متألمين، بينما يبيت المستعمرون الخبثاء ناعمي البال، وقد حمل عنهم بعض المسلمين الأغبياء التهديد والتخريب وكفوهم مؤونة الحرب.
وهكذا نرى أن استعمار أفكار الأمة أخطر من استعمار بلادها، ومرافقها العامة، وأن الدول الأجنبية مهما ملكت من طاقات جبارة لا تملك أن تخطط للمسلمين وأن تقودهم وفق مصلحتها بشكل أفضل مما يقوم به العملاء المنحرفون من خدمة لهذه الدول الأجنبية والعمل في مخططاتها.
ولا يفوتني أن أنبه إلى أنني لا أرى أن حالة المسلمين قبل احتكاكهم بالغرب وتأثرهم به كانت حالة مرضية، لا فقد كانت أوضاعهم سيئة، ولكن هذا العالم الإسلامي الذي صحا على أصوات المدافع الغربيين تدك حصونه، وتقتل أبناءه، كان عليه أن يلتمس طريقه الصحيح، ويبني قوته على أساس متين، ويقتبس من الغرب ما ينفعه ويهجر ما يضر، ولكنه لم يفعل بل تخبط في مسيرته، وانحرف اتجاهه، حتى وصل إلى حالة من الضعف مزرية.
رب يوم بكيت فيه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
ولكن الفرصة لم تفتنا فبعد أن تحررت معظم أقطار المسلمين من الاستعمار العسكري ما علينا إلاّ أن نعمل لنحرر نفوس المسلمين مما علق بها من آثار الاستعمار الفكري، وهذه المصادر الشريعة لا تزال بين أيدينا خالصة من كل تحريف، وما وصلنا إليه من فوضى فكرية كاف لأن يعيدنا إلى ديننا تائبين {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} .
الجامعي بين التحصيل والتبليغ
للشيخ ممدوح فخري المدرس بالجامعة
يظن بعض الجامعيين خطأ أنّ فترة التحصيل معناها الانقطاع التام عن التبليغ، والتفرغ الكلي لاستيعاب الدروس وهضم المقرر، وأما التبليغ فمهمة تنتظر الجامعي يوم يتخرج ويحمل المؤهلات التي ترشحه للقيام بالمهمة الجديدة.
وفي هذه الفكرة الخاطئة خطر كبير محقق على دور الطالب في الدعوة والتبليغ وشل كبير لنشاطه، وإخماده لدفقة الحياة في عروقه وإطفاء لجذوة النور في مرحلته التي تعتبر ربيع حياته كلها، وكيف لا وهي مرحلة الشباب الدافقة بالخير والحركة، وإذا كان في هذه الفكرة صرف الطالب عن مهمته في الحياة، فالمنتظر من الطالب الواعي المدرك لمركزه في هذا الوجود، ولدوره في الحياة أن يبادر إلى طرح هذه الفكرة جانبا، والالتحاق فورا بركب المجاهدين من جميع المسلمين العاملين على فهم الدين والعمل به وتبليغه، وهذه النقاط الثلاث الأخيرة هي في الحقيقة محور حياة كل مسلم، سواء كان عاميا أو جامعيا، ولكن الذي يقدر عليه الجامعي من ذلك لا يقدر عليه من سواه.
ولتوضيح هذه الفكرة توضيحا أكثر وعرضها عرضا محددا دقيقا، لا بد من التركيز ووضع النقاط على الحروف كما يقال، ووضع برنامج بارز المعالم يمكن لكل من بيتغي الخير لنفسه وأمته والإنسانية أن يلتزمه.
لاشك في أن التحصيل واستيعاب الدروس هي المهمة الأولى في حياة الطالب التي وقف عليها الجزء الأعظم من حياته، ولأن الطالب الذي يخفق في مهمته الأولى جدير أن يخفق فيما يليها من المهمات من باب أولى، ولكن هذه المهمة ليست كل شيء في حياة الطالب، وإذا كان ذلك كذلك، فما هي الجوانب الأخرى غير الدراسية التي يجب أن يلعب فيها الطالب دوره.
هنالك حقائق أساسية في حياة كل مسلم ينبغي أن تتوفر، وخاصة في الطالب المسلم، ذلك الإنسان الواعي المتعلم المنظم في تفكيره وسلوكه:
- وأولى هذه الحقائق المبادرة إلى التوبة إلى الله من جميع الكبائر والصغائر، وغسل القلب من كل درن لحق به، وتنقيه النفس من كل ران تراكم عليها؛ لأن القلب المظلم لا يمكنه أن ينير الطريق أمام الآخرين؛ ولأن النفس العاصية والمصرة على عصيانها لا يمكنها أن تردع الآخرين عن المعصية، ومن يرى القذى في عين أخيه فلير الخشبة في عينه، ولا يستقيم الظل والعود أعوج.
- ثانيا: إخلاص النية لله تعالى في كل عمل.
والإخلاص هو الركن الأعظم في جميع الأعمال، وهو الأساس الذي يتقبل الله به العمل، وإنّ أمثال الجبال من الأعمال لا تزن عند الله حبة خردل ما لم يكن أساسها التجرد لله.
- ثالثا: استغلال الوقت بكل جزئياته في صالح النافع من الأعمال، وعند هذا تنتهي حكمة الحكماء، والوقت هو الحياة، وقد بخس الوقت كثيراً حداً من قال:"الوقت من ذهب"، وهذا منطق عباد الذهب والمادة، وأما منطق عباد الله فالوقت في نظرهم أسمى من ذلك وأهم، وهو الذي يتوصل به إلى جوار الله والنظر في وجهه الكريم، والتقلب في جنات النعيم، ومن أروع ما قيل في إظهار قيمة الوقت ما قاله الحسن البصري رحمه الله:"يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضك".
- رابعا: استدامة ذكر الله تبارك وتعالى في السر والعلن، والليل والنهار، ورأس ذلك تلاوة كتاب الله تعالى، فهو أفضل ذكر. ويتأكد من الذكر ما كان موقوتا بأوقات معينة كأذكار الصباح والمساء، وسائر أحوال الإنسان، والذكر به حياة القلوب والأرواح، وهو ماؤها ونماؤها، والقلب الغافل عن ذكر الله قلب مظلم ميت، واللسان الذي لا يكون رطبا بذكر الله لسان محبوس عن الخير، مطلق في اللغو الفارغ ومالا طائل تحته، ولابد في هذا المجال من تحصيل بعض كتب الأذكار التي تكلفت ببيان أذكار رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحيانه، وأفضل هذه الكتب في نظري كتاب (تحفة الذاكرين بشرح عدة الحصن الحصين) ، الأصل لابن الجزري، والشرح للشوكاني - رحمهما الله - وكذلك كتاب (الأذكار) للإمام النووي، وقد قيل فيه:"بِعِ الدار واشتر الأذكار".
- خامسا: الاتصال الوثيق الدائم بالتراث الإسلامي قديمه وحديثه، يتطلب هذا تحديد عيون الكتب من كل فن من المكتبة الإسلامية الزاخرة، فلابد من الرجوع إلى الأمهات، ولابد من الرجوع إلى الثمرات الجديدة التي نتجت من تلك الأمهات، من كتب الثقافة الإسلامية التي تعتبر ترجمة للإسلام إلى لغة العصر، ومحاولة مباركة لإخضاع هذا العصر لفكرة الإسلام ونظامه، وأما تحديد الكتب من القديم والجديد فله مجال آخر غير هذا.
- سادسا: إدراك الواقع الذي يعيشه الطالب والاحاطة قدر الإمكان بوقائع الحياة ومشاكل العصر، والعلم بالتيارات الفكرية التي تتقاسم العلم وتتنازعه، وما هي الاتجاهات الجديدة للشعوب والأمم، وما موقف الإسلام من كل ذلك، وما هو دور الطالب إزاء كل ذلك. إنّ الحركة الطلابية في العالم تلعب دورها الكبير والخطير في توجيه السياسات، وتبني الشعارات وقيادات التيارات المختلفة، وهي وإن كانت في معظمها تحت تأثيرات، وسيطرة أعوان الشر ودعاة الكفر والظلال، ولكنها على أيّ حال قوة جبارة وقادرة على فعل الكثير إذا ما تسلمتها الأيدي النظيفة المنداة بالوضوء.
والطالب المسلم له دوره القيادي في هذه الحركة لأنه صاحب عقيدة وصاحب منهج وصاحب ماض مشرق مجيد يشهد بجلال تلك العقيدة وروعه ذلك المنهج (المجلات والصحف) ، ومن خلال إدراك الطالب لواقعه ومشاكل بيئته ومعضلات عصره يستطيع أن يلعب دوره في مقاومة جميع المنكرات والضلالات التي تواجهه، والتي تتلاءم مع عقيدته وفكرته ونظرته للحياة، وهو الذي يحدد الزمان والمكان والأسلوب الذي تقتضيه الحالة مع مراعاة "إن الله يعطي بالرفق مالا يعطي بغيره.. وما يكون الرفق في شيء إلاّ زانه، ولا ينزع منه شيء إلاّ شانه، ومن يحرم الرفق يحرم الخير كله".
وبعد هذا كله تأتي المرحلة السابقة والأخيرة والتي تضع جميع المراحل السابقة حيز التنفيذ، وتخرجها من عالم النظريات والمثل إلى عالم الحس والواقع ألا وهو الالتقاء على كلمة الله والتعاون على تنفيذ أوامر الله، والاعتصام بحبل الله، وتجمع المسلمين الصالحين الصادقين أفرادا وشعوبا وحكومات على دين الله القويم وصراطه المستقيم، الأمر الذي يتوقف عليه أكثر من غيره استعادة المسلمين لكل مجد وعز فقدوه، وبدون التعاون والالتقاء لو عاد كل مسلم وليا يمشي على الماء ويطير في الهواء لما نفع المسلمين شيئا، وما أوسع مجال التعارف والالتقاء أمام طالب الجامعة الإسلامية التي تعتبر قبلة المسلمين، ومنهلهم العذب الزلال، لتحصيل العلم الخالص من كل شائبة، وهي تضم بين جدرانها أفلاذ أكباد العالم والنخبة الخيِّرة من شبابه.
إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
للشيخ إبراهيم السلقيني المدرس في الجامعة
ما أحوج العالم اليوم في اصطراعه، واضطرابه، وبلبلته، واعوجاج خطاه، وحيرة قادته، وثورة شعوبه، إلى قبس من نور الإسلام الخالد، يبدد به الظلمة، ويبصره عواقب هذا النضال، الذي يوشك أن يعيد المأساة، ويذهب من جديد، بما ادخره من أخضر ويابس، ونفس ونفيس، ويلقي بها كلها طعمة لنيران الحقد والانتقام والطمع والهوى.
وما أحوجنا في مشكلاتنا الاجتماعية التي تنعقد يوما بعد يوم ويأخذ بعضهم برقاب بعض، ويتسع خرقها على الراقع إلى أن نسمع كلمة الإسلام فيها، لنتبين وجه الصواب في علاجها، وسلامة المبادئ التي ترد إليها الحلول القويمة، مع رعاية الظروف وما استجد في الحياة من مطالب.
فلنعالج بالقوة التي أضفاها الإسلام على الروح، فمكن لها وجعل لها الغلبة على نزوات المادة، دون أن يقل من شأن هذه المادة ما دامت تؤتى من وجهها، وتصرف في مصارفها الصحيحة، ولنعالج حالنا بوسائل الإسلام في مكافحة الآفات الاجتماعية التي تهدد كياننا، وتقوض أركان نهضتنا.
وما أحوجنا لتعرف وسائل الإسلام في دعم الأسرة، والإحاطة بقدر ما حبا به هذه الخلية الحية في جسم الأمة، وما وفر لها من أسباب الرخاء والاستقرار، وما جنبها من عوامل الشقاء والانحلال.
وما أحوجنا إلى تعرف وسائل الإسلام في طرائق المعاملات، وكيف حض على احترام العهود والعقود، وكيف نظم البر ودعا إليه، وجعله أقرب قربات إلى الله تعالى.
وما أحوجنا أن نعرف أيدت أحدث النظريات الحديثة في التربية والطب والاجتماع، نظرة الإسلام الثاقبة في تربية الجسم والعقل والخلق، وما حرم من المتاع صونا للروح والجسد من آفة الانحلال والمرض، وما أحل منه رغبة في تصفية الذوق، وتهذيب النفس، وإذكاء الشعور الطيب، وما حرم من عبث ليجعل النفوس بمنجاة عن الإسفاف والفسوق، واللهو الفارغ، ومغريات الشهوات الدنية.
لقد تناولت تعاليم الإسلام حياة الإنسان في جميع أحواله، تناولته غنيا ففرضت في أمواله حقاً لطائفة من المجتمع {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، فرض الإسلام على الأغنياء الزكاة وأوجب عليهم بذل المال أيضا في ميادين ومناسبات أخرى: كصدقة الفطر، وكفارة اليمين، وغيرها من الكفارات، وندب إلى الإنفاق في سائر وجوه البر في آيات أخرى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم} ، مما يكفل إنعاش الفقراء وهنائهم ورفاهيتهم، ودعت إلى التلطف في إيصال الصداقات، واستحسنت في أن تكون في خفية حتى لا يجرح من شعور الفقير ولا ينال من كرامته، وفي القرآن الكريم:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} .
لهذا التشريع غايته السامية فهو (إلى أنه؟؟) تعاون بين الغني والفقير، يسد من حاجة الفقير، ويخفف عنه المرارة والحرمان، وهو بالتالي إصلاح لحال المجتمع من الانهيار، وتناولت تعاليم الإسلام، وحياة الإنسان عاملا وصاحب عمل، وفلاحا وصاحب أرض، وموظفا ومستخدما، ورئيسا ومرؤوسا، فدعت الجميع إلى إتقان العمل والوفاء والإخلاص والأمانة، وتجنب الخيانة والغش، وعدّت الغاش والخائن شاذّاً عن الجماعة الإسلامية، كما كرّهت الشريعة أن يخلد الإنسان إلى البطالة، ودعت إلى العمل، وألحّت الدعوة، وفي الحديث:"لأن يأخذ أحدكم حبلة فيحتطب خير من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه".
وتناولت تعاليم الإسلام حياة الإنسان جاهلا ففرضت عليه أن يتعلم من العلم ما يحتاج إليه في شؤون دينه ودنياه، وتناولته عالما، ففتحت له أبواب العلم على مصارعها ليعرف أسرار الله في خلقه، وليستنبط من هذه الأسرار المبادئ العلمية الصحيحة التي تسهل لله سبل العيش، وترفه عليه وسائل الحياة، وأغرته بالاستزادة من العلم {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} ، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} ، وتناولت تعاليم الإسلام حياة الإنسان في بيعه وشرائه ومطعمه وملبسه وحديثه وحركاته وسكناته، ووضعت له فيها جميعا أسمى مبادئ اللياقة والذوق، وهكذا لم يترك الإسلام شاردة ولا واردة إلاّ تعهدها ووضعها، بحيث تكفّل سعادة الإنسان وهناءه، فالصلاة مثلا حيث يقف العبد أمام رب العالمين يناجيه، فبين الفينة والفينة مجبور على أن يتذكر أن له ربا يراقبه على حركاته وسكناته، يراقبه على أعماله صغيرها وكبيرها، عظيمها وحقيرها، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} ، فكيف يكذب؟ أم كيف يخون؟ أم كيف يسرق؟ أم كيف يغش؟ أم كيف يتغافل عن الواجب الملقى على عاتقه؟ وهكذا فالصلاة وحدها جعلت من الإنسان ملكا من الملائكة {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} ، ناهيك عن المساواة التي في الصلاة حيث عجزت عنها أعظم النظم الحديثة، فيسجد الغني والفقير والعظيم والكبير والحقير والصغير والجندي إلى جانب القائد، ليس هناك رأس مرتفع على رأس، بل كلها خاضعة لله وحده، ويقفون بجانب بعضهم، ليس هناك أمكنة مخصصة لأناس (من لا يخضع للخالق يخضع لأحقر مخلوقاته، ومن يخضع للخالق تتلاشى في عينيه قدرة المخلوقات) ، فهذا عرض موجز لبعض التعاليم الإسلام في بعض شئون الحياة، وليس من المستطاع عرض كل ما احتوته الشريعة الإسلامية في هذه النواحي وفي غيرها، ولكن من المستطاع أن نقول إنها كلها على هذا النمط من السمو، وأنها تهدف إلى سعادة الفرد والمجتمع،
وتوفير حياة الأمن والاستقرار للبشرية عامة، وأنها أسس صالحة لأرقى مدينة تتطلع إليها الإنسانية.
وقد يقول قائل: إذا كانت التعاليم الإسلام كافية في إصلاح البشرية وشفائها، فلماذا نرى أثرها قد تخلف عنها؟ ولهؤلاء أقول: ليس العيب عيب الشريعة، ولكن الوزر كل الوزر على الذين انحرفوا عنها، وعادوها وظنوا جهلا منهم أنها تقف بعيدا عن مقتضيات الرقي الصحيح، ومع ذلك لازالوا يتسمون بأسماء إسلامية، ويحسبون في عداد المسلمين، ومثل الشريعة الإسلامية للبشر مثل الدواء الشافي يصفه الطبيب الماهر للمريض، ولكن المريض لا يتعاطاه تهاونا منه، فلا يكون العيب إذن عيب الطبيب، ولا عيب الدواء، ولكن العيب كله عيب المريض المتهاون في تعاطي الدواء.
ويزداد الأمر وضوحا لهؤلاء أن نذكّرهم بحال الأمة الإسلامية في صدر الإسلام، وما بلغته من مجد، وما بهرت به العالم من نهوض علمي واجتماعي في زمن وجيز لا يزال مثار عجب العلماء والفلاسفة، ومحل بحثهم، وليس له من سر في حقيقة إلاّ أن أولئك المسلمين السابقين أخلصوا لدينهم، وأخذوا بأحكامه وآدابه بجد وإيمان، فقادهم إلى مواطن المجد وأنزلتهم منازل السيادة والعز {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِه، ِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
الشباب.. ومستقبل الإسلام
للشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس في الجامعة
إن الشباب هو الجيل الوارث، وهو في كل أمة مصدر قوتها، وعنوان مجهدها، وصمام حياتها، وعليه مدار مستقبلها، فإن كان شباب الأمة واعياً مدركاً لمسؤولياته، مضطلعا بأعباء رسالته، صالحا جسما وروحا، قويا بنية وعقيدة، كان جديرا أن يحقق لأمته كل ما تصبوا إليه من خير وسعادة، ومجد وسيادة، وإن كان الشباب جاهلا غير مدرك لمسؤولياته، ولا مستعد للنهوض بأعباء رسالته في الإصلاح والبناء والتعمير، كان أحرى بتلك الأمة التي هذا شبابها أن تضيع حياتها، وتخسر مستقبلها، وتقتل في نفسها آمالها وأحلامها في العزة والكرامة والمجد والسيادة.
إنّ هذه حقيقة علمية لا تكاد تخطىء، وسنة كونية لا يرجى أن تتخلف، وعليه - وأمة الإسلام اليوم تتطلع إلى مستقبل تسترد فيه مجهدها وكرامتها، وتسترجع قيادتها وسيادتها، وتعيد فيها إلى العالم الإنساني ما فقد من خير هداية، وما خسر من سعادة صلاح - فإنّ عليها أن تعي هذه الحقيقة، وتتفهم هذه السنة، وتجعل سلمها الوحيد الذي تريد أن ترقى به إلى أمجادها هو شبابها، وحينئذ فلتنظر في شبابها نظرة جد وحزم لترى في أي شيء هو، وعلى أيّ مستوى من مستويات القوة والصلاح، فإن وجدته الشباب المدرك الواعي، والقوي العصامي، الذي لا يباري في طموحه، شعاره حب الكفاح، والرغبة الصادقة في الإصلاح، هدفه الخير وغايته الشرف، اطمأنت عندئذ إلى مستقبلها السعيد، وإلى غدها المشرق القريب. وإن وجدته شبابا خائر القوى، فاقد العزيمة، ضعيف الإرادة، تتقاسمه التيارات الجارفة، وتتنازعه المبادئ الفاسدة، والأفكار المنحرفة، فاقد الوعي، محروم التفكير الصالح، يعيش بلا هدف، ويحيا بلا غاية، هو إلى اليأس أقرب منه إلى الأمل، وإلى الأماني الكاذبة أدنى منه إلى الآمال الصادقة، وجب عليها أن تفكر في الجد، وبسرعة في إصلاح شبابها، الذي هو وارث حياتها، وعدة مستقبلها، وقوام قوتها، ومفتاح سعادتها، لتجعله - بإذن الله - في مستوى المسؤولية، وعلى قدر المهمة التي تعلقها عليه وتنيطها به.
وإن قيل: فما هو طريق إصلاح هذا الشباب المسلم؟ ولم لا تسهم أيها الكاتب في بيان هذا الطريق؟
فجوابي: إني مع اعترافي بالعجز عن وضع خطة ناجحة لإصلاح الشباب المسلم، أو توضيح طريق معين لذلك، فإني لا أبخل بجهد المقل، وأحرم نفسي شرف الإسهام والمشاركة في وضع خطة لابد أن توضع، وبيان طريق لابد أن يبين، إذ هو من ضروريات بقاء هذه الأمة المسلمة، ووصولها إلى غايتها وأهدافها في العزة والكرامة والجد والسيادة.
فلذا أتقدم إلى الذين يعنيهم شأن أمة الإسلام ويهمهم الأمر بقائها وسعادتها باقتراح يتمثل في الفكرة التالية: وهي إنشاء منظمة للشباب المسلم تديرها مؤمنة من المفكرين ذوي الكفاءة والإخلاص، يكون مقرها الدائم المدينة المنورة حيث ترعاها الحكومة المسلمة، ويدعمها حامي الحرمين الشريفين.
ومن المدينة منطلق الهداية الأولى ومصدر الإلهام للإسلام، تنطلق دعوة الإصلاح للشباب المسلم، وتعاليم نافعة وتوجيهات صالحة وإرشادات هادية، وخطط للعمل والسلوك محكمة صائبة، يحملها فتيان الإيمان ورسل الإسلام السلام إلى كل بلد فيه للإسلام شباب، وللمسلمين آمال عذاب، في مستقبل طاهر زاهر، وحياة شريفة سعيدة، حيث تتلقى الرسالة أيد قوية مؤمنة، وتعيه قلوب طاهرة نقية، فتجعل لها في كل مدينة قاهرة وقرية ظاهرة دارا كدار الأرقم ابن الأرقم، حيث يجتمع المؤمنون وينطلق الهداة المصلحون.
وما هي إلاّ أزمنة محدودة إن لم تكن أيام معدودة وإذا المسلمون قد تلاقت على الإيمان والحب قلوبهم
…
وتعارفت على البر والتقوى نفوسهم، أمرهم واحد على من سواهم عزة قعساء، وراية تناطح الجوزاء.
دعاة ينشرون أروقة الرحمة والعدل على كل البشر، وهداة يبذلون المعروف والخير لكل أبيض وأصفر.
الإيمان المنقذ
للشيخ صالح رضا المدرس في الجامعة
وتتلاطم الأمواج وتعلو حتى تغطي كل شيء في هذه الدنيا، فمن لم تفرّقه أصابته برشاشها، ومن لم تجرفه مزّقت شيئا من ثيابه، وينظر المسلم إلى هذا الفساد الشائع فيحار ماذا يفعل؟! وينظر إلى السبل التي تؤديه إلى السلامة، وتوصله إلى بر الأمان
…
فتتلاشى جميع هذه السبل أمام الواقع المر والحقيقة الماثلة، ولا يبقى أمامه إلاّ الصراط الذي اختاره الله لهذه البشرية، ألا وهو الإيمان.
نعم..الإيمان هو سبيل الوحيد لإنقاذ البشرية، وهداية الإنسانية في متاهات هذه الحياة وظلمات هذا الفساد
…
والإيمان المقصود هنا الإيمان الكامل الذي تظهر آثاره على صاحبه، الإيمان الذي تغلغل في القلب حتى أذاق صاحبه حلاوته، الإيمان الذي كان زرعة الحب، وثمرته الإيثار والبذل والفداء، الإيمان الذي شع نوره في الروح حتى أبرزت الجوارح كل أعمالها من وحيه، فصدرت الأعمال وعليها نور الساطع، وبريقه المشرق، وغدا اللسان يحكي إيمان الفؤاد، فيغزو بكلامه الأفئدة، وتصغي إليه القلوب لتكرع من بحره الصافي الماء السلسل الشافي، الإيمان الذي تتمثله فئة من الناس ثم تحمله إلى الكون كله فتدعوهم إليه بقولها وفعلها وأخلاقها.
إنه الإيمان الذي نحتاج في تيار الدنيا الجارف، الإيمان الذي له نعمل لنعلي كلمة الحق، ولتزوي أمامه دولة الباطل، الإيمان الذي يقضي مضاجع الباطل، ويفرق له الطواغيت، ويقلق لوجوده الكفر
…
فيحيك الحبائل والشباك لصيد أصحابه، فتكون تلك الشباك والحبائل مدعاة لإظهار هذا الإيمان وسببا لثبات أصحابه، وتقوية لحامليه، وأمثلة تحتذي من بعدهم.
والدعوة التي تسير في الطريق المستقيم والخط الصحيح هي التي تقدم لنا صورا كثيرة، وأمثلة عديدة يحمل أصحابها هذا الإيمان، وينطلقون للحق دعاة لا يثنيهم عن دعوتهم باطل، ولا يوقفهم عن سيرهم مشاغب، ولا يحرفهم عن سبيلهم سياسة، ولا يردهم عن مقصدهم غرض قريب، وأمل عاجل، بل كل هذه الدنيا وما فيها في ناظريهم سراب خادع، ومتاع قليل، وظل زائل.
وللناظر في تاريخ الإنسانية أن يقص علينا روائع القصص عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتلامذتهم..، تحكي إيمانهم الثابت، ويقينهم الراسخ.
ويمثل التاريخ الإسلامي السجل الحافل لهذه الصور الرائعة التي تنم عن إيمان صادق يقف أمام الطغاة والظالمين وقفة العزة والكبرياء، وما الفتوح التي رأيناها في الشرق والغرب إلاّ صورة كبيرة لهذا الإيمان، فقد وقف المسلمون وهم أقل عددا وأفقر عتادا أمام الجيوش الجرارة التي تفوقهم في الجند والسلاح، وغلبوهم بقوة الإيمان وثبات ويقينهم.. وعزمهم الأكيد لإحقاق الحق وإبطال الباطل. وأما الأمثلة الخاصة والقصص الفردية فهي أكثر من أن تحصى وأعظم من أن توصف، وأذكر أمثلة من حياة الصحابة رضي الله عنهم.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه آمن في منزله مع أهله وأولاده، يأتيه الخبر بأن قريشا تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يلبث أن يمضي خارج منزله ليقابل قريشا كلها، وهو فريد وحيد يقدم غير هياب ولا خائف، ويقف أمام هذا الجموع المتكاثفة ليقول لهم:"أتقتلون رجلا يقول: ربي الله"، ولا يكتفي بالكلام بل يحاول بكل ما آتاه الله من قوة ليدفع القوم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلا يستطيع أن ينقذ النبي صلى الله عليه وسلم من بين أيديهم، ولكن الفداء هو نفسه، فتتحول قريش إلى أبي بكر لتنزل به ما كانت تنزله بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما تركوه إلاّ وهو على الأرض مقطوع إحدى ضفيرتيه.. والدم ينزف من وجهه حتى يغطيه فلا يدري أنفه من وجهه.
هذه صورة من صور الإيمان الذي نفقد، والذي نريد، إنه الإيمان الذي دفع صاحبه لأن يؤثر التعب على الراحة، والضرب على الأمن، والموت على الحياة.. ويحمل أبو بكر إلى منزله وهو مغمى عليه لا يدري ما حوله، والناس لا يشكون في موته، ولكن الله عز وجل لم يكتب عليه الموت بعد فيفتح عينيه وتتحرك شفتاه.. ليسمع التاريخ بماذا يتكلم هذا الرجل هل يريد ماء؟ هل يريد راحة؟ لا، لا هذا ولا ذاك، إنه يقول:"ماذا فعل بمحمد"، إنه سؤال الفؤاد المشبع بالإيمان، سؤال العالم بأن رسالة الإسلام لم تتم بعد، وتمامها موقوف على بقاء هذا النبي، فأما هو فرجل من الرجال، فخوفه إذاً كان على الإسلام، على الإيمان الذي لا يمكن أن يتم إذا استطاع المشركون أن ينالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على صغر قامته، وضعف جسمه، وقلة عشيرته في قومه، يطلب أن يكون الذي يسمع قريشا القرآن الكريم، والإسلام حينئذ ضعيف، والمسلمون حينئذ يسامون من العذاب أشده، ويمضي وحيدا إلى الكعبة عزيزا بعزة الإسلام، وينطلق لسانه بتلاوة كتاب الله تعالى، فما يكون نصيبه إلاّ أن يقع مغشيا عليه من الضرب والإيذاء.. فليندم على فعله إذاً، وليصمم على أن لا يعود إلى مثل ذلك.. لأن الندم على الحق ليس من صفات المؤمن بل يدعوه إيمانه الثابت الراسخ ليكون مرة ثانية صوت الإسلام المدوي في الكعبة بكتاب الله وآياته ليغيظ الكفار.
صورة شاهدة على تقديم رضا الله سبحانه على كل شيء في الوجود، قصص تعتبر لنا عن سر انتشار هذا الإسلام الواسع، الذي ما عرف التاريخ أسرع منه قصصا، ومن أراد المزيد منها فليستنطق التاريخ عن أمثلة الإيمان، وخاصة قصص الفتوحات الأولى حيث غنم الجنود الكنوز، ومع ذلك لم تمتد أيديهم إلى شيء منها، وتصل بتمامها سالمة إلى خليفة المسلمين..
إنه الإيمان وراء هذا كله..الإيمان بالله وحده الرقيب على الإنسان، الحسيب على أعماله.
فإلى الله تعالى نجأر بالدعاء لنكون من أولئك الذين طلقوا الدنيا وأرادوا الآخرة، وقدموا كل ما يملكون في سبيل الله وحده، وكانوا صورة للإيمان الكامل الذي يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
مشكلات الطلاب الجامعيين وحلها على ضوء الإسلام
للشيخ عطية سالم القاضي في المدينة
ثالثا: التوجيه الخارجي:
وهو تدخل الحكومة أو تأثير السياسة أو أي شخصية غير تعليمية فإن ذلك يؤدي إلى تغيير اتجاه سير التعليم ويحيد بالجامعات عن الغاية المرجوة ويجعلها تسير وفق رغبات أصحابه. وهكذا الجامعات تصنع رجالا أو على الأصح تصنع أفكارا وفق إرادة من يوجهونها، وقد كشف عن هذا المبدأ قديما نابليون في خطاب له قال:"لن يكون استقرار سياسي إلاّ بتحديد أغراض التعليم تحديدا لا شك فيه، فحيث لا يعرف الناس إن كان التعليم يرمي إلى يخلق منهم جمهوريين أو ملوكيين، نصارى أو كافرين، لا توجد جامعة جديرة بهذا الاسم".
إذن فالجامعة في نظره مصنع أفكار حسب اتجاه الدولة ولا تملك حق التوجيه أو الابتكار، وفي هذا سلب القيادة عنها، اللهم إلاّ في التعليم المهني كالطب والهندسة والزراعة لأن في ذلك رفعا لمستوى البلد، وكسبا أدبيا في المجال الدولي وكسبا ماديا في الأسواق التجارية العالمية، ولعل مناهج الدراسة في الجامعات الروسية تشير إلى حقيقة هذا القول، بل إن موقف بعض الدول من منظمة اليونسكو يؤيد هذه النظرية.
ومشكلة هذا التحيد العلمي تعطي لونا خاصا من المنهج من جهات:
1-
إلزام الطالب بما تريده الجهة الموجهة وتختاره وإغفال إرادة الطالب واختياره ومن هنا تسد أبواب حرية الفكر ويفوت استقلال الرغبات وبالتالي تموت الملكات، ويصبح الطالب قالبا للون خاص واتجاه معين. فإذا جاءت حكومة أخرى أو غيرت الأمة سياستها، أصبح الطالب بين أحد أمرين: إما أن يصبغ بصبغة أخرى ويصب في قالب أخر وفق السياسة الجديدة ومن ثم يكفر بالمنهج الماضي، وأما أن يظل على ما كان عليه فيصطدم بالمستقبل، ومن ثم تفقد الجامعة كيانها، ويضيع عليها مركزها، وتعجز عن إثبات وجودها بشخصية مستقلة.
ولعل موقف بعض الجامعات من بعض القضايا كان سببا في انصراف الناس عن الثقة كل الثقة بها.
2-
عزل تلك الجامعة - أي الموجهة - عن محيط الجامعات الأخرى حيث لا يمكن تبادل ثقافي معها لا في الكتب ولا في المحاضرات ولا في الأساتذة اللهم ما كان منها وفق اتجاهها. ولا يتأتى هذا الاتفاق إلاّ في النواحي الصناعية الصرفة؛ لأن الإنتاج الصناعي مهما يكن ابتداء من المواد الخام إلى قطع الاستهلاك لا يحمل فكرة ولا يعرف مبدأ وغاية ما فيه إنما هو تنمية للدخل القومي.. أما سياسة الأمة أو تاريخها أو آدابها أو أخلاقها أو دينها فلا دخل له في شيء من ذلك، ولهذا فإن الجامعات الروسية يمكنها تبادل الثقافي مع جامعات العالم في مجال الصناعة والاختراع أما المجالات الفكرية والدينية والسياسية
…
الخ فلا، اللهم إلاّ في نطاق النظام الشيوعي فحسب، ومثل ذلك الجامعات الأخرى بالنسبة إلى المعسكر الروسي.. فهذه مشكلة للجامعة بأكملها لا للطلاب فحسب.
أما علاج ذلك على ضوء الإسلام فإن أول آية نزلت في الإسلام قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ، اقرأ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، كَلاّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} ، فجعل القراءة والكتابة والعلم كلها باسم الله الذي خلق كل شيء، والذي خلق الإنسان بالذات من علق.
فجعل اتجاه العلم مبدأ وغاية من الله وإلى الله، أي لا سلطة لإنسان ولا لجهة ما في توجيه العلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ - إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)، وفي جعل القراءة باسم الرب إشارة إلى أهمية القراءة والتعليم في التربية المفهومة من الربوبية في قوله تعالى:{بِاسْمِ رَبِّكَ} .
كما جعل صلة الموصول صفة الخلق المطلق، ثم خلق الإنسان بالذات إشارة إلى الإنشاء والابتكار والإبداع المفهوم من صفة الخلق المضمنة لقوله تعالى:{خَلَقَ} ، وفي تكرار طلب القراءة مع {وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} إشارة إلى أن المنهج نعمة ومنة وإكرام من الرب الكريم، ثم بيين وجه ذلك الأكرم بقوله:{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم} وأنشأ يفصل ذلك العلم وأهميته بقوله تعالى: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .. ومن هنا كان علم القلم أشرف العلوم لأنه علم الخاصة والقادة وحظ الروح والفكر ووسيلة الإصلاح والتوجيه ومهمة الأنبياء والمرسلين والهادي إلى الصراط المستقيم ومرضاة رب العالمين.
أما علم الصناعات فهو مهما كان وسيلة لا غاية انحط أو ارتفع. ولربما كان سببا للفساد والطغيان والعلو والتكبر والظلم والطغيان..وقد نوه تعالى عن ذلك في نفس الآية بقوله: {كَلاّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} .
إذن فعلاج الإسلام لهذه المشكلة (التدخل الخارجي في توجيه الدراسة الجامعية) هو منعه أصالة وترك المنهج يسير حرا طليقا باسم الرب الخالق ومن سبيل كسب العلوم المجهولة التي لم تعلم من قبل وتوجيه الأمة إلى أقوم سبيل.
وإذا كانت الصحافة قد انتزعت لقب (صاحب الجلالة) لحريتها ومضيها في سبيلها من غير حيف أو تحيز، فالجامعة أحق منها بهذا اللقب أو بما هو أعظم منه فلتلقب صاحبه القيادة أو نحوه لأن الصحافة ما هي إلاّ أثر من آثار الجامعة لأنها نتاج أقلام الجامعيين ومن دونهم.
رابعا: المنهج الجامعي:
من المعلوم أن مناهج الجامعات في كل أمة هي الأساس لتكوينها والصورة لاتجاهها وكل أمة تكيف مناهجها حسب فلسفتها في الحياة، فمناهج الجامعات في المعسكر الروسي خلافها في جامعات المعسكر الغربي.. وهي في المعسكرات الشرقية غيرها في الجميع. وهذا واقع الحياة التعليمية في الجهات المختلفة، ولا يمكن لجهة أن تتخلى عن واقع حياتها.
ولكننا إذا تطلعنا شرقا وغربا نطلب منهجا قويما بحاجات الإنسانية ويكون الإنسان الكامل كوحدة متماسكة يسير به في توازن وينهض به في اعتدال لن نجد منهجا سويا يفي بمقصودنا.
لأنها كلها قد جنحت في مناهجها إلى جانب من جوانب هذا الإنسان وهو الجانب الذي أحست به ولمسته فآمنت بوجوده، وهو الجانب المادي فراحت تعمل لخدمة هذا الجانب من هذه الناحية فرقت الصناعية تسهيلا لمعاشه وطورت الفنون تيسيرا لمسراته وأطلقت من قيود الحرية إشباعا لشهواته فأصبح يأكل ويتمتع ويلهو ويتوسع حتى أعطى هذا الجانب كل متطلباته.
بينما أغفل الجانب الآخر من الإنسان وهو الجانب الروحي الذي به حياته الحقيقة السعيدة وعليه قوامه، وبإغفال هذا الجانب اختل ميزانه وفقد اتزانه وظهر طغيانه.
لأن الإنسان إذا لم يكن له ضمير ينبهه ولا دين يردعه ووجد انطلاقة وراء شهواته وملذاته فلابد من أن يطغى على غيره ليحصل على أكبر قسط لنفسه، سيطغى فردا أو جماعة لإرضاء شهوة النفس من سلطة وسلطان:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
والنفس من طبيعتها الشح كما قال الله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} .. والشح يحمل على الحرص، والحرص يحمل على الأنانية وحب الذاتية، وهما يحملان على الاستزادة والإكثار من كل ما تصل إليه اليد ولو طغيانا وبطرا:{إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} .
وهذا كله نتيجة اختلال التوازن بين متطلبات الإنسانية من ثقافة متوازنة الجانبين: "الروح والمادة".
ولقد شاهد العالم نتيجة الفلسفة المادية والانطلاق من قيود الحرية: شيوعية حمراء ورأسمالية نكراء، التقتا في تسابق ذري مهلك.
أما الإسلام فلم يفصل بين أجزاء الكائن المرتبطة ولم يغفل عوامل الفطرة فزاوج بين جسمه وروحه وعقله وملذاته، فأعطى كل جانب حقه، فساير كل منهما الآخر من غير تقصير ولا طغيان من جانب آخر، وقد تقدم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
فأوجد أمة متماسكة كالبنيان المرصوص، كان قادتها هم قادة الدنيا، وساستها ساسة العالم وعلماؤها هم علماء الدين والدنيا، خلفت حضارة أنارت العلم شرقا وغربا.
وتلك آثار حضارتهم في الطب والهندسة والعمران بل والجغرافيا والصناعة كانت أساسا لحضارة الغربيين جميعا.
فقد وصلوا في القرن الرابع الهجري في ميدان الطب إلى الكشف بالتحليل واستخدام البنج، وكانوا أول من نظم الصيدلية وتوسع فيها وظهر فيهم التخصص في الطب، وقد اكتشفوا بعض العناصر الكيماوية كالبوتاس والنشادر ونترات الفضة كما استعملوا الترشيح والتقطير والبلورة وقد عرفوا المستشفيات، فقد بنى الوليد بن عبد الملك (المارستان) وعددا من الدور للمرضى، وجعل فيها أطباء وأجرى عليها النفقات والأرزاق، وقد كان ابن الهيثم الحسن أبو علي عنوانا على رجال العلم المدني والإنشاء والابتكار في القرن الرابع الهجري، فقد درس نواحي الضوء كانعكاسه وانعطافه
…
إلخ.
وعبد الله البتاني في الفلك والرياضيات.
وأمية بن أبي الصلت حيث ابتكر فكرة استخراج المراكب في قعر البحر.. وكذلك في النواحي العسكرية الحديثة فقد كانوا أول من اخترع القنابل عن طريق معرفتهم لتركيب النار اليونانية واستخدموها سنة 1205 حين حاصروا الأمير يعقوب.
وإذا كان هناك من مبادئ يونانية أو إغريقية أو غيرها فإنهم بلا شك قد زادوا على ما وصلهم وابتكروا ما لم يصلهم كما تقدم من أوليات لهم في الاختراع.
وإذا تأملنا كتاب الله تعالى وهو الدستور السماوي الذي ملك عليهم حواسهم وجوارحهم نجده يشيد بالعلم ويشير إلى شتى العلوم.
فقد لفت الأنظار إلى الطب عن طريق خلق الإنسان في قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، مع بيان قدرة الله تعالى على الخلق والإبداع في قوله تعالى:{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} ، وقد لفت الأنظار إلى الصناعات في قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ، كما وضع أساسا من أسس الصناعة وأصلا من أصول الدقة والإتقان في قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} .
وقد قال بعض العلماء: لقد وضعت آية من كتاب الله تعالى نظرية ثابتة لجميع المخترعات والصناعات وهي قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، فكل موجود صناعي لابد له من مقادير ومقاييس إذا لم تضبط لا يتم وجوده ولو أردنا تطبيقها لوجدناها متمشية من أدنى شيء إلى أعظم اختراع كثوب الإنسان أو ستارة النافذة- وكنظام الذرة منذ أعلن عن اكتشاف الكترونات عام 1897. واستدلوا على أن الذرة المتعادلة لابد أن تكون من جزئين أحدهما موجب والآخر سالب، ومن شحنتين كل منهما مساوية ومضادة للأخرى.
وقد أعطى القرآن الكريم للإنسان الحق في بذل الوسع واستفراغ الجهد في العمل المادي لتحصيل مصلحتة والحفاظ على دينه الذي استخلفه الله به في الأرض حيث قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، ومعلوم أن إعداد القوة ليس في السلاح فحسب بل في كل شيء اليوم من أنواع الإنتاج من المأكل إلى المقتل، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين حق العمل بمعارفهم الدنيوية حيث لم تتعارض مع الشريعة حيث قال:"أنتم أعرف بأمر دنياكم".
وبجانب هذا المنهج الصناعي في الإسلام تلك الكنوز من المكتبات المليئة بالكتل المشحونة من نتاج الفكر من مُثُل عليا وأخلاق مُثلى مما بهر العالم شرقا وغربا، وجعل سيرة القوم أشد تأثيرا في النفوس من دعوتهم فدخل الناس في دين الله أفوجا فسادت السكينة وعمت الطمأنينة وانتشر السلام وظهرت الفضيلة واختفت الرذيلة وقضي على الظلم والطغيان بالعدل والإحسان يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخليفة الأول في خطابه الأول:"أقواكم عندي ضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي قوي حتى آخذ الحق منه".
تعجز جامعات اليوم مجتمعة أن توجد مثل هذا المثال للمسلم، أو تأتي بأحسن من هذا المنهج لسعادة الأمة أو عدالة حكم.
هذا هو المنهاج الإسلامي في جملته حفاظ على التراث العزيز عند الأمة من دين وخلق.. الخ، تزاوج بين متطلبات هذا الإنسان من مادة وروح في توازن واعتدال.
تربية النفوس على فضيلة انطلاقته في كسب العلوم النافعة لا تقف عند حد البعثات العلمية كما في رحلات العلماء وسفر أبي أيوب من المدينة إلى مصر لحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. التخصص في المادة كما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت لتعلم اللغة ليكتب ويقرأ كتبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
خامسا: أوقات الفراغ:
لاشك أن الزمن هو أساس رأس مال الإنسان في هذه الحياة، والطالب الجامعي وغيره يشعر بفراغ في وقته أثناء الدراسة وفي العطلة، وإذا ترك لنفسه فإنه لا يدري كيف يقضيه وبما يشغل وقته، بينما يحيط به أسباب شغل الوقت بأسباب بعيدة عن مجال الدراسة والتحصيل قريبة من جانب الانحراف والتخلف مع تهيؤ الظروف أمامه وتكامل الأسباب عنده.
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة المرء أي مفسدة
فبدافع عن غريزته وبقهر من شهواته سينطلق حيث دعاء النفس وملذاتها ومن هنا تنشأ المشكلة؛ لديه معلومات تتطلب ما ينميها، وأمامه ملهيات عظم داعيها، ولعل لهذه المشكلة صلة وثيقة بمشكلة أخرى وهي نظرة الكثيرين إلى التعليم على أنه وسيلة لشهادة تفتح أبواب العمل وتيسر سبل العيش، فينصب جهده أثناء العام الدراسي على مقررات المنهج لينجح، ثم يودع الدراسة إلى العام القابل ومن هنا لابد من شغل الوقت بما طاب له.
ولو كانت نظرته للدراسة أن العلم يطلب لذاته استكمالا لشخصية المتعلم لشغل وقته في التحصيل، كما قال أحدهم لأولاده:"تعلموا العلم فإن كنتم فقراء استغنيتم وإن كنتم أغنياء سدتم".
ولهذا فالإسلام لا يعرف فراغا ولا يوجد عند المسلم العامل ما يسبب له هذه المشكلة كيف والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} ، ويقول:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ، وعليه لابد أن يكون في عمل دائم إما لدنياه وإما لآخرته كما خاطب عموم الأمة بقوله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} .
ولكم هذا النوع من الحياة يتطلب إصلاح المجتمعات التي يعيش الطالب في جوها، وإلى ذلك الوقت ستظل مشكلة تشغل فراغ الطالب، ولا سيما مع وجود تلك الملاهي والمغريات وبالأخص أثناء العطلة الدراسية.
ولعل أنجع الوسائل لحل هذه المشكلة على ضوء الإسلام هو كالآتي:
أولا: بتكليف الطلاب الجامعيين أثناء العطلة بنشاط عملي كل على حسب اختصاص دراسته فيقوم طالب الطب مثلاً بتقديم مساعدات من إرشادات وتوجيهات طبية في بلده أو الحي الذي يقطن فيه سواء في المقاهي أو المساجد أو المنتزهات العامة ويقدم تقريراً للجامعة عن أهم الأخطاء الشعبية في النواحي الصحية وأهم طرق علاجها.
وكذلك طالب الزراعة ولو بذهابه إلى الأرياف ومخالطته للمزارعين ومثله في الهندسة.. إلخ وعلى الجامعة أن تهيّيء جوائز مغرية لمن يظهر لعمله أثر بين.
ثانياً: تمنح الجامعة طلابها بطاقات يسمح لهم بموجبها التطبيق العملي على النظريات العلمية كل في مجال دراسته، فمثلاً طالب الطب يسمح له بدخول المستشفيات للاطلاع على سير العلاج والمتزود بمعرفة الأمراض المستوطنة مثلاً وكيف تعالج، أو دخول غرف عمليات الجراحة والضماد ليكسب خبرة عملية ربما تكون أوسع من نطاق الدراسة النظامية.
وكذلك طالب الصيدلية يدخل ما يمكن من الصيدليات ويشارك بالفعل في تحضير بعض الأدوية ولاسيما ذات العناصر البسيطة كالوارند والبزمت والمراهم وإبر الكالسيوم والمحلولات الداخلية.. الخ.
وطالب الأزهر يذهب إلى المحاكم ليرى سير الدفاع والمرافعات أو إلى البنوك ليرى أنواع المعاملات أو إلى المساجد ليسهم في الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الله تعالى.
وكل ذلك سيفتح أمام الطالب مجالاً للدراسة والتحصيل كما سيمكن الجامعة من اكتشاف طاقات مجهولة واستخدام خامات صالحة كما ستكسب الأمة من وراء ذلك فوائد في كل ميدان. وقد تستطيع الحكومة أن تستفيد من مثل هذا العمل فتستعين بالطلاب الجامعيين في بعض الظروف التي كانت تضطر فيها لاستخدام العسكريين في الأمور المدنية فتكسب روحاً علمية وشعورًا وطنياً وعملاً إنسانياً وتنقل الطلاب من فراغ وكسل إلى إنتاج وعمل، {وَقُلِ اعْمَلُوا
…
} .
وقد رسم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريقة في هذا كله قولاً وعملاً.
أما قولاً: فقد مر بقوم يحفرون لحدًا لميت فنظر فإذا به معوجًا فأمرهم أن يصلحوه وقال: "إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يحسنه"، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى إحسان العلم ولو لم يسهم عمليًا.
ومن حديث أبي ذر في الصحيحين أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الرقاب أفضل؟ "قال: "أنفسها"، قلت:"يا رسول الله فإذا لم أفعل؟ "قال: "تعين صانعًا أو تصنع لأخرق"، قلت:"فإن لم أفعل؟ "قال: "تدع شرّك عن الناس فإن ذلك صدقة منك على نفسك".
وأما عملياً فقد مرّ على رجل ذبح شاة له وهو لا يحسن سلخها فقال: "ألا أريك كيف تفعل؟ فأدخل يده صلى الله عليه وسلم بين إهابها واللحم وأدراها، وقال: هكذا فافعل".
فهذا إسهام عملي في توجيه أفراد الأمة حتى في أمور دنياها كما يرشدهم في أمر دينهم.
وقد أسهم صلى الله عليه وسلم في بناء المسجدين: مسجد قباء، ومسجد المدينة المنورة، وحفر الخندق.
وكان السلف يدأبون في طلب العلم ولا يعرفون عطلة ويديمون من أجله الرحلة، ومن أقوالهم:"لا بارك الله في يوم لا أزداد فيه علماً، "من استوى يوماه فهو مغبون"، "الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها".
وفي قصة الخطيب التبريزي مع نسخة كتاب التهذيب ورحلته لأبي العلاء المعري وما حدث عليهما أكبر دليل على حرص السلف على الدأب في طلب العلم مطلقًا وشغل أوقات فراغهم.
سادسًا: التعليم المادي:
وليس المراد به التعليم المهني كالطب والهندسة والزراعة.. الخ، بل التعليم الذي يقصد به صاحبه الحصول عن طريقه على وظيفة يحصل بها على المادة وذلك ما يكون فيمن ينظر إلى وظائف الحكومات التي تستوعب الكثير من المتخرجين، وقل أن تبرز في خضم أعمالها ملكات الموهوبين، فيكون هذا الصنف للحصول على الشهادات فحسب، بخلاف الذين لهم عزم على العمل الحر أو العمل المهني فإن ذلك الصنف يتعلم ليحصل على معلومات تتكون بها شخصيته وبها يكون قوامه ويشق طرق حياته بسلاح الموهبة والشهرة في النجاح في العمل وفرق بين الفريقين:.
1-
فالأول يكتفي بملخص عرض الاستاذ ونقاط الدرس أو المحاضرات بينما الثاني يحرص على تفاصيل الموضوع ويستزيد الأستاذ إيضاحاً.
2-
والأول ينجح في الملخصات والمختصرات بالقدر الذي ينجح في الاختبار بينما الثاني يطمح إلى أمهات الكتب والمطولات إلى الهدف الذي يشبع رغبته.
3-
والأول يتمسك ذهنه على معلوماته إلى أن يسلم ورقة الإجابة عن سؤال الامتحان بينما الثاني يعتبر أسئلة الامتحان درسًا جديدًا يستزيد منه علمًا.
4-
الأول تنتهي صلته بالعلم عند انتهائه من الدراسة وتسلمه الشهادة بينما الثاني يبدأ أبحاثه وتجاربه إلى أن يتسلم الناس عنه أحسن النتائج ومنشأ المشكلة في هذا النوع من حيث أن الطالب أو على الأصح المتخرج الجامعي يفقد خصائص الجامعيين من حب البحث وكثرة الاطلاع وسعة الأفق فيقف حيث سار الناس.
أما حلها على ضوء الإسلام:
فالإسلام قد جعل العلم غاية في ذاته بل جعله متعبدًا يثاب على تحصيله والاشتغال به وفي الحديث: "من سلك طريقًا يطلب فيها علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة"، "لغدوة في طلب العلم أحب إلى الله من مائة غدوة في طلب غيره من الخير"، "ولا يخرج أحد في طلب العلم إلا وملك موكل به يبشره بالجنة".
ولا ينبغي الوقوف بكلمة علم عندما اشتهرت به عند الاطلاق بل يمكن حملها على كل علم يعود على الأمة بالخير إذا صاحبته نية حسنة.
كالطبيب إذا قصد بعلمه مؤاساة مريض وتخفيف آلام مصاب، والمهندس إذا قصد بعلمه إيواء مسكين أو إنشاء مدرسة لتربية أبناء الأمة فضلاً عن مسجد ونحوه، والزراعي لو قصد تنمية المحاصيل لإشباع جائع وتوفير الغذاء، بل والكاتب وأي موظف لو قصد خدمة الإنسانية والإسهام في هذا البناء العظيم، وكل بحسب نيته كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، وعلى الجامعة أن تحبب العلم لطلابها وأن تقدمه بصورة شيقة تحملهم على الحرص عليه والاستزادة. والله ولي التوفيق، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه، آمين.
من تاريخ المذاهب الهدّامة:
كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة (1)
بقلم محمد بن مالك اليماني
لا يخفي تغلغل دعاة الباطنية في مختلف الأقطار الإسلامية ونشرهم مذهبهم الداعي إلى الإلحاد والإباحية وهدم وحدة المسلمين. فقد انتقل مؤسس الباطنية ميمون بن ديصان من أصبهان إلى الأهواز ثم إلى البصرة ثم إلى سلمية الشام واتخذها معقلا له، مدعيا الانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ومن سلمية بعث دعاته إلى الكوفة واليمن والمغرب.. وقامت دولة العبيديين (التي دعوها بالفاطمية) في المغرب ومصر واليمن حتى جاء الحاكم بأمر الله حيث ادعى الألوهية
…
ومن البارزين بين الباطنية حمدان بن الأشعت (الملقب بقرمط) في سواد الكوفة وأخوه ميمون المبعوث إلى خراسان وأبو سعيد حسن بن بهرام الجنابي وابناه أبو طاهر وسعيد
…
وقد استولى أبو طاهر على الحجاز وفتك بالحجيج يوم التروية واستولى على الحجر الأسود
…
وإن مؤامرات الفرق الباطنية على المسلمين وتأييدهم للصليبين، ودعواهم ألوهية أئمتهم عما هو مشهور لا يحتاج إلى بيان....
وهذا كتاب نادر في هذا الباب يشرح فيه مؤلفه وهو أحد الفقهاء السنة في القرن الخامس الهجري كثيرا من الأسرار التي استطاع الاطلاع عليها بعد أن تمكن من الاندساس بين الصليحيين - وهم قراطمة اليمن - واطلع على خفاياهم. وسيرد في آخر الكتاب أن علي بن محمد الصليحي بعد استيلائه على حصن (مسار) في (حراز) فوق مدينة مناخة كتب إلى صاحب مصر (مصر المستنصر الفاطمية) سنة 453هـ.
وقد رأت مجلة الجامعة الإسلامية أن تنشر هذا الكتاب لأهميته، وها نحن نقدم الحلقة الأولى.
قال محمد بن مالك رحمه الله "إعلموا أيها الناس المسلمون - عصمكم الله بالإسلام وجنبنا وإياكم طريق الآثام وأصلحكم وأرشدكم ووفقكم لمرضاة وسدّدكم - أني كنت أسمع ما يقال عن هذا الرجل الصليحي كما يسمعون وما يتكلم به عليه من سيّء الإذاعة وقبح الشناعة، فإذا قال القائل: "هو يفعل ويصنع"قلت: "أنت تشهد عليه غداً"فيقول: "ما شهدت ولا عاينت بل أقول كما يقول الناس"فكنت أتعجب من هذا أولا ولا أكاد أصدق ولا أكذب ما قد أجمع عليه الناس ونطقت به الألسن، فتارة أقول: هذا ما لا يفعله أحد من العرب والعجم، ولا سمع به فيما تقدم من سالف الأمم إنما هذه عدواة له من الناس للمآل الذي بلغه من غير أصل ولا أساس، وكنت كثيرا ما أسمعه يقول: "حكم الله لنا على من يظلمنا ويرمينا بما ليس فينا".
فرأيت أن أدخل في مذهبه لأتيقّن صدق ما قيل فيه من كذبه، ولأطلع على سرائره وكتبه، فلما تصفحت جميع ما فيه وعرفت معانيها رأيت أن أبرهن على ذلك ليعلم المسلمون عمدة مقالته وأكشف لهم عن كفره وضلالته نصحة لله وللمسلمين وتحذيرا ممن يحاول بغض هذا الدين، والله موهن كيد الكافرين.
فأول ما أشهد به وأشرحه وأبينه للمسلمين وأوضحه أنّ له نوابا يسميهم الدعاة المأذونين، وآخرين يلقبهم المكلبين تشبيها لهم بكلاب الصيد لأنهم ينصبون للناس الحبائل ويكيدون لهم بالغوائل، وينقضون على كل عاقل، ويلبسون على كل جاهل، بكلمة حق يراد بها الباطل يحضونه على شرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام، كالذي ينثر الحب للطير ليقع في شركه فيقيم فيه أكثر من سنة يمضون به وينظرون صبره، ويتصفحون أمره، ويخدعونه بروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم محرفة، وأقوال مزخرفة، ويتلون عليه القرآن على خير وجهه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فإذا رأوا منه الانهماك والركون والقبول والإعجاب بجميع ما يعملونه والانقياد بما يأمرونه قالوا حينئذ: إكشف عن السرائر ولا ترضى لنفسك، ولا تقنع بما قد قنع به العوام من الظواهر وتدبر القرآن ورموزه واعرف مثله وممثوله واعرف الصلاة والطهارة وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرموز والإشارة دون التصريح في ذلك والعبارة فإنما جميع ما عليه الناس أمثال مضروبة لممثولات محجوبة، فاعرف الصلاة وما فيها وقف على باطنها ومعانيها لأن العمل بغير العلم لا ينتفع صاحبه به فيقول: عم أسأل؟ فيقول: قال الله تعالى: {َأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} .. فالزكاة المفروضة في كل عام مرة وكذلك الصلاة من صلاها مرة في السنة فقد أقام الصلاة بغير تكرار، وأيضا فالصلاة والزكاة لهما باطن لأن الصلاة صلاتان، والزكاة زكاتان، والصوم صومان، والحج حجان، وما خلق الله سبحانه من ظاهر إلاّ وله باطن، يدل على ذلك {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} ، و {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ، ألا ترى أن البيضة لها ظاهر وباطن، فالظاهر ما تساوي به الناس وعرفه الخاص والعام، وأما الباطن فقصر علم الناس به عن العلم به فلا يعرفه إلاّ القليل، من ذلك قوله: {وَقَلِيلٌ مَا
هُمْ} ، وقوله:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ، فالأقل من الأكثر الذين لا عقول لهم.
والصلاة والزكاة سبعة أحرف دليل على محمد وعلى صلى الله عليه وسلم عليهما لأنهما سبعة أحرف فالمعنى بالصلاة والزكاة ولاية محمد وعلي، فمن تولاهما فقد أقام الصلاة وآتى الزكاة، فيوهمون على من لا يعرف لزوم الشريعة والقرآن وسنن النبي صلى الله عليه وسلم فيقع هذا من ذلك المخدوع بموقع الاتفاق والموافقة لأنه مذهب الراحة والإباحة يريحهم مما تلزمهم الشرائع من طاعة الله ويبيح لهم ما حظر عليهم من محارم الله فإذا قبل منهم ذلك المغرور هذا قالوا له: قرب قربانا يكون لك سلما ونجوى ونسأل لك مولانا يحط عنك الصلاة ويضع عنك هذا الإصر، فيدفع اثني عشر دينار فيقول ذلك الداعي:"يا مولانا! إنّ عبدك فلان قد عرف الصلاة ومعانيها فاطرح عنه الصلاة وضع عنه هذا الإصر"، وهذا نجواه اثنا عشر دينار، فيقولك "اشهدوا أني قد وضعت عنه الصلاة، ويقرأ له {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} .
فعند ذلك يقبل عليه أهل هذه الدعوة يهنئونه ويقولون: "الحمد لله الذي وضع عنك {وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} ، ثم يقول له ذلك الداعي الملعون بعد مدة: "قد عرفت الصلاة وهي أول درجة، وأنا أرجوا أن يبلغك الله إلى أعلى الدرجات فاسأل وابحث"، فيقول: "عم أسأل؟ "فيقول له: "سل عن الخمر والميسر اللذين نهى الله تعالى عنهما أبو بكر وعمر لمخالفتهما على علي وأخذهما الخلافة من دونه، فأما ما يعمل من العنب والزبيب والحنطة وغير ذلك فليس بحرام؛ لأنه مما أنبتت الأرض ويتلوا عليه {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} إلى آخر الآية.
ويتلو عليه {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} إلى آخر الآية، والصوم الكتمان فيتلو عليه {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه} ، يريد كتمان الأئمة في وقت استتارهم خوفاً من الظالمين ويتلو عليه {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} ، فلو كان عني بالصيام ترك الطعام، لقال:"فلن أطعم اليوم شيئا فدل على أن الصيام الصوت".
فحينئذ يزداد ذلك المخدوع طغيانا وكفرا، وينهمك إلى قول ذلك الداعي الملعون؛ لأنه أتاه بما يوافق هواه والنفس الأمارة بالسوء.
ثم يقول له: "إدفع النجوى تكون سلما ووسيلة حتى نسأل مولانا يضع عنك الصوم"فيدفع اثني عشر دينارا فيمضي به إليه فيقول: "يا مولانا.. عبدك فلان قد عرف معنى الصوم على الحقيقة فأبح له الأكل برمضان"فيقول له: "قد وثقته وأمنته على سرائرنا؟ "فيقول له: "نعم"فيقول: "قد وضعت عنك ذلك"، ثم يقيم بعد مدة فيأتيه ذلك الداعي الملعون فيقول له:"لقد عرفت ثلاث درجات فاعرف الطهارة وما هي؟ وما معنى الجنابة ما هي في التأويل؟ "فيقول: "فسر لي ذلك؟ "فيقول له: "إعلم أن معنى الطهارة طهارة القلب، وأن المؤمن طاهر بذاته، والكافر النجس لا يطهره ماء ولا غيره، وأن الجنابة هي موالاة الأضداد، أضداد الأنبياء والأئمة، فأما المني فليس بنجس منه خلق الله الأنبياء والأولياء وأهل الطاعة، وكيف يكون نجسا وهو مبدأ خلق الإنسان وعليه يكون أساس البنيان، فلو كان التطهير منه من أمر الدين لكان الغسل من الغائط والبول أوجب لأنهما نجسان، وإنما معنى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ، معناه فإن كنتم جهلة بالعلم الباطن فتعلموا واعرفوا العلم الذي هو حياة الأرواح كالماء الذي هو حياة الأبدان.
قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ} .. وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} ، فلما سماه الله بهذا دل على طهارته"، ويوهمون ذلك المخدوع بهذه المقالة، ثم يأمره ذلك الداعي أن فيدفع اثني عشر دينارا ويقول: "يا مولانا
…
عبدك فلان قد عرف معنى الطهارة الحقيقة، وهذا قربانه إليك"فيقول:"اشهدوا أنني قد أحللت له ترك الغسل من الجناة".
ثم يقيم مدة فيقول له الداعي الملعون: "قد عرفت أربع درجات وبقي لك الدرجة الخامسة فاكشف عنها فإنها منتهي أمرك وغاية سعادتك ويتلو عليه {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} فيقول له: "ألهمني إياه ودلني عليه؟ فيتلو عليه {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، ثم يقول له:"أتحب أن تدخل الجنة في الحياة الدنيا؟ "فيقول: "وكيف لي بذلك؟ "فيتلو عليه {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} ، ويتلو عليه {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ، والزينة هاهنا ما خفي على الناس من أسرار النساء، لا يطلع عليها إلا المخصصون بذلك، وذلك قوله:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ} ، والزينة مستورة غير مشهورة، ثم يتلو عليه {وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} ، فمن لم ينل الجنة في الدنيا لم ينلها في الآخرة؛ لأن الجنة مخصوص بها ذوو الألباب وأهل العقول دون الجهال؛ لأن المستحسن من الأشياء ما خفي، ولذلك سميت الجنة جنة لأنها مستجنة، وسميت الجن جنا لاختفائهم عن الناس، والمجنة المقبرة لأنها تستر من فيها، والترس المجن
لأنه يستتر به، فالجنة هاهنا ما استتر عن هذا الخلق المنكوس الذي لا علم لهم ولا عقول، فحينئذ يزداد هذا المخدوع انهماكا، ويقول لذلك الداعي الملعون:"تلطف في حالي وبلغني إلى ما شوقتني إليه"، فيقول:"ادفع النجوى اثني عشر دينارا تكون لك قربانا وسلما"فيمضي به ويقول"يا مولانا.. عبدك فلان قد صحت سريرته وصفت حبرته وهو يريد أن تدخله الجنة، وتبلغه جد الأحكام، وتزوجه حور العين؟ "فيقول له: "وقد وثقته وأمنته؟ " فيقول: "يا مولانا قد وثقته وآمنته وخبرته فوجدته على الحق صابرا ولأنعمك شاكرا"فيقول: "علمُنا صعب مستصعب لا يحمله إلاّ نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد امتحن الله قلبه بالإيمان، فإذا صح عندك حاله فاذهب به إلى زوجتك فاجمع بينه وبينها"فيقول: "سمعا وطاعة لله ولمولانا"، فيمضي به إلى بيته فيبيت مع زوجته حتى إذا أصبح الصباح قرع عليهما الباب وقال:"قوما قبل أن يعلم بنا هذا الخلق المنكوس"، فيشكر ذلك المخدوع ويدعوا له، فيقول:"هذا ليس من فضلي، هذا من فضل مولانا"، فإذا خرج من عنده تسامع به أهل هذه الدعوة الملعونة فلا يبقى منهم أحد إلاّ بات مع زوجته كما فعل ذلك الداعي الملعون، ثم يقول له:"لابد أن تشهد المشهد الأعظم عند مولانا فادفع قربانك"فيدفع اثني عشر دينارا ويصل به ويقول: "يا مولانا.. إن عبدك فلان يريد أن يشهد المشهد الأعظم وهذا قربانه"، حتى إذا جن الليل ودارت الكؤوس وحميت الرؤوس وطابت النفوس أحضر جميع أهل هذه الدعوة الملعونة حريمهم فيدخلن عليهم من كل باب وأطفأوا السرج والشموع، وأخذ كل واحد منهم ما وقع عليه يده، ثم يأمر المقتدي زوجته أن تفعل كفعل الداعي الملعون وجميع المستبين، فيشكره ذلك المخدوع على ما فعل، فيقول له: "هذا ليس من فضلي هذا من فضل مولانا أمير المؤمنين، فاشكروه ولا تكفروه، ما أطلق من وثاقكم ووضع عنكم أوزاركم وحط عنكم أثقالكم وأحل لكم بعض الذي حرّم عليكم جهّالكم {وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} .
قال محمد بن مالك رحمه الله تعالى: "هذا ما اطلعت عليه من كفرهم وضلالتهم، والله تعالى لهم بالمرصاد، والله تعالى عليّ شهيد بجميع ما ذكرته مما اطلعت عليه من فعلهم وكفرهم وجهلهم، والله يشهد على جميع ما ذكرته، عالم به، ومن تكلم عليهم بالباطل فعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، وأخزي الله من كذب عليهم، وأعد له جهنم وساءت مصيرا، ومن حكى عنهم بغير ما هم عليه فهو يخرج من حول الله وقوته إلى حول الشيطان وقوته، فأديت هذه النصيحة إلى المسلمين حسب ما أوجبه الله علي من حفظ هذه الشهادة ومراعاتها وأدائها إلى من لم يسمعها قال الله تعالى:{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} . والله أسأله أن يتوفّانا مسلمين، ولا ينزع عنا الإسلام بعد إذ آتانا الله بمنه ورحمته.
في الإسراء والمعراج
للشيخ عبد الله خياط
الحمد لله العلي الأعلى، أحمده سبحانه، يعلم السر والنجوى، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبي الهدى، وخير الورى، والشفيع يوم القيامة في كل من وحّد الله واهتدى. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد فيا عباد الله، خارقة عجيبة في تاريخ الإسلام، ومعجزة خالدة لرسول الهدى والسلام، حيرت عقول أعداء الإسلام، وقرت بها أعين المؤمنين، وازدادوا بها إيمانا وتصديقا للرسول خير الأنام، تلك المعجزة هي الإسراء والمعراج بأكرم الخلق على الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. قطع الحبيب هذه المسافة الشاسعة ليلا، ورأى من عظيم آيات الله الدالة على عظمة ملكوته جل جلاله، ثم عاد في نفس الليلة. إنها لعبرة الدهر يغض بها الملحدون، كما غض بها من قبل الجاحدون المعاندون، فباؤوا بالخيبة والخسران {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} !.
ولقد اختلفت أقوال العلماء رحمهم الله في تحديد الإسراء والمعراج بشهر معين، بحسب النقول الواردة في ذلك:
1-
فمنهم من رجح وقوعه في شهر ربيع الأول.
2-
ومنهم من قرر حدوثه في شهر ربيع الثاني.
3-
وآخرون ذهبوا إلى أنه كان في رجب.
4-
وفريق قال به في رمضان وشوال.
فاتضح أنه ليس ثمة جزم على التحديد بشهر معين، وإذا لم يكن ثمة جزم بتحديد الشهر، فكيف يصح الجزم بتحديد ليلة الإسراء والمعراج؟ أو يجوز القطع بأنه حدث ليلة سبع وعشرين في شهر رجب؟ كما يجنح إلى ذلك البعض من الناس؛ بحيث يحتفون بهذه الليلة على اعتبار أنها عيد لها صبغة الأعياد المشروعة. وعلى فرض الترجيح بوقوع الإسراء والمعراج في ليلة سبع وعشرين، فليس من السداد أن تأخذ هذه الليلة شكل الأعياد المشروعة. لأنه لو سلم بصحة هذا المبدأ - مبدأ تشريع أعياد جديدة وإحياء ذكرى المناسبات العظيمة في تاريخ الإسلام - للزم أن يتخذ من ليلة القدر المفضلة عيداً، ومن يوم الهجرة - الذي غير وجه التاريخ - عيدا، ومن غزوة بدر الفاصلة بين الكفر والإيمان عيدا، ومن كل المناسبات العظيمة أعياداً يحتفى بها تضاف إلى الأعياد الإسلامية، ولكن الشرع وضع حدا لذلك؛ حيث نص على الأعياد المشروعة؛ ولم يرخص في مزاحمتها بأخرى؛ فقضى على فوض الأعياد، واستقر الوضع على عيد رمضان والأضحى، روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - ولهم يومان يلعبون فيهما – فقال: "ما هذا اليومان؟ "قالوا: "كنا نلعب فيهما في الجاهلية"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر"، قال العلماء رحمهم الله: "ففي ذلك دليل على النهي عنهما، اعتياضا بيومي الإسلام، ووقفت القرون المفضلة عند هذا الحد، فلم تكن تعمد إلى إحياء ذكرى الحوادث الإسلامية على كثرتها، ولم تتخذ من الأيام المفضلة أعيادا تحتفل بها، والخير فيما ذهبوا إليه، والصواب فيما وقفوا عند حده، والقدوة بهم فيها سلامة الدين، وحسب المرء أن يسلم له دينه، في زمن أخوف ما يخاف الناس فيه على الدين.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، واختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا كل الحرص على الإتباع، وحذار ثم حذار من الابتداع، فإن الأول لم يترك للآخر مقالا، ولم يدع له مجالا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
نفعني وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أخطار التدخين
ترجمة الدكتور أحمد سليمان
الطبيب في المستشفى الجامعة
لا تتوقف الالتهابات الشعبية التي تحدث للمدخنين إذا لم يتوقف عن التدخين، ولكي نعرف العلاقة بين التدخين والنزلة الشعبية لابد أن يتوقف التدخين ستة أسابيع كاملة توقفا تاما، وفي الوقت نفسه التوقف عن كل علاج للسعال والبلغم حتى يعرف النجاح الذي أحرز من وقف التدخين وحده، ومن تجاربنا الكثيرة اتضح أن الشبان الصغار الذين يدخنون بكثرة تفارقهم أعراض الصدر جميعا خلال أسبوعين من توقفهم عن التدخين..
وخلال ستة أسابيع فجميع الاختبارات الفسيولوجية التي سبق أن بينت أوجه الضرر والانسداد الشعبي الناتجة عن الالتهابات الشعبية المزمنة تذهب ويرجع التنفس إلى طبيعته، وقد جرى بحث وتقرير عن حالات من النزلات الشعبية الشديدة في المدخنين قبل وبعد ستة أسابيع من انقطاعهم عن تدخين أي سيجارة فكانت النتيجة كما يلي:
رجل عمره 42 سنة يعمل في الصناعة ويدخن ثلاثين سيجارة في اليوم، ففي مدة خمسة عشر سنة من ذلك نشأت له نوبات من السعال مع بلغم، وقد زادت الحالة شدة في السنة الأخيرة، وبالفحص السريري لم يوجد سوى نقص في أصوات التنفس على كلتا الرئتين (بالسماعة) .
وبالأشعة وجد القلب صغيرا طبيعيا، والحجاب الحاجر يتحرك 9ر6 سم 3 في اليمين، و9سم 3 في الشمال، ولو أن حركة الحجاب الحاجر ضعيفة وبطيئة عن البدء بالتنفس وتزيد مع التنفس.
وقد عمل جدول عرف منه أن الطاقة الحيوية في التنفس زادت بعد ستة أسابيع من 51% إلى 82% إذا أخرج النفس بقوة بعد ثانية واحدة وكان أساس رجوع الرئتين إلى طبيعتهما الأولى إبطال التدخين فقط بدون علاج آخر معها مثل الأفدرين الذي يوسع الشعب أو المضادات الحيوية كالبنسلين أو الأمزجة الصدرية.
تدخين السجائر:
ولتدخين السجائر آثار عامة على الجهاز التنفسي أهمها:
1-
زيادة إفراز المخاط.
2-
توقف النشاط الشعيري في إخراج البلغم.
3-
زيادة تقلص العضلات الصغيرة المحيطة بشعب الهواء.
4-
توقف نشاط البلاعيم (خلايا أكالة) الموجودة في الحويصلات الهوائية.
5-
تغيرات في الغشاء المخاطي المغطي للقصبة الهوائية والشعب الهوائية.
وهذه الآثار تثقل الرئة بالإفرازات الغربية وتقلل من الحركة الشعرية للأهداب الموجودة على سطح الخلايا المبطنة للقصبة الهوائية والشعب الهوائية، والتي تعمل كمكانس للغبار والأوساخ.. وبالتالي تتعطل عملية التخلص من الأتربة والأوساخ التي تدخل الرئة وتقل كمية الهواء النقي الداخلة للرئتين، ويصعب إخراج النفس ويحدث السعال، ويتعرض الجهاز التنفسي للإصابة بالبكترية.
وكذلك فإن نسبة الوفيات في الشبان الصغار الذين يدخنون نتيجة الالتهابات الرئوية أكثر بكثير مما يحدث لمن لا يدخنون.. وعلى هذا فمعظم هذه الآثار الضارة تتعارض مباشرة مع تأثير العلاج، وكما سبق أن قلنا فالتوقف عن التدخين قد يحدث وحده آثار عجيبة في التخلص من أعراض السعال وضيق التنفس، وينتج تحسينات محسوسة في وظيفة الرئتين، كما يقلل الالتهابات الميكروبية في الجهاز التنفسي.
وبالرغم من هذه الحقائق فالعقبات لإبعاد هذا العنصر الخطر عن المدخين كثيرة كالداء، فالمرضى يحاولون المجادلة بأن الهواء نفسه ملوث بدخان المصانع والسيارات.. الخ.ولكن تدخين السجاير يكون أكثر تلويثا للرئة بملايين المرات من أشد الأجواء امتلاء بالدخان.
و160 مرة أكثر تركيزا من الجو السليم لمصنع سم السيانيد.
و50 مرة أكثر تركيزا من الجو لديأكسيد النتروجين.
و420 مرة أكثر تركيزا من الجو الملائم لأول أكسيد الكربون.
والمواد العضوية الموجودة في الدخان تترسب في الرئتين وتخزن في الخلايا الأكالة (البلاعيم = ماكروفاج) .
ولاشك أن ضرر الدخان لا يتساوى بين جميع المرضى، فالأبحاث الحديثة عن داء النفاخ (انفيزيما) تؤكد الأثر الوراثي لنقص الأنزيم (ألفا أنتي تريسين Elphaentytrisin) مما يجعل أناسا أكثر تعرضا للأخطاء من بقية الناس لداء النفاخ.
فالايفزيما تتزايد في المدخنين الذين يرثون هذا الاستعداد في حين أن الآخرين يكونون في حمى من هذا النقص الوراثي.
عن مجلة براكتشنر عدد (1192) أكتوبر 67م
التدليس والمدلسون
للشيخ حماد الأنصاري المدرس في الجامعة
هذا واحد وستون ومائة راو من المدلسين ما بين متفق عليه ومختلف فيه جمعتهم من مراجع مختلفة إسعافا لمن له رغبة في الحديث، وإن قل من يشتغل بهذا الفن في عصرنا هذا.
وقبل سردهم أبدأ بمعنى التدليس، ثم أثني بأقسام التدليس، ثم أثلث بطبقات المدلسين. فلأقول -بعد الاستعانة بالله فإنه خير مستعان به-:
التدليس في اللغة: هو التلبيس والتغطية وهو مشتق من الدلس -محركة- وهو الظلام.
وفي الاصطلاح: أن يروي الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه بلفظ يوهم السماع (كعن، وقال، وأن) ، ووجه الشبه بين المعنى اللغوي والاصطلاحي أن الظلمة تغطي ما فيها كما أن المدلس يغطي المروي عنه فكأنه لتغطيته على الواقف عليه أظلم أمره.
أقسام التدليس: ثلاثة:
1-
تدليس الإسناد:
وهو أن يحدف اسم شيخه الذي سمع منه ويرتقي إلى شيخ شيخه بلفظ يوهم السماع كعن أو واحدة من أختيها، أو يسقط أداة الرواية بالكلية ويسمي الشيخ فقط فيقول: فلان. قال علي بن خشرم كنا عند ابن عيينة فقال: الزهري فسكت، فقيل له: سمعته من الزهري؟ فقال: لا، ولا ممن سمعه من الزهري، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري.
اختلف أهل الصناعة في أهل هذا القسم، فقال بعضهم: يرد حديثهم مطلقا سواء أثبتوا السماع أو لا، وأن التدليس نفسه جرح، والصحيح التفصيل: فإن صرح بالاتصال كقوله: سمعت، أو حدثنا، أو أخبرنا، فهو مقبول يحتج به، وإن أتى بلفظ يحتمل فحكمه حكم المرسل.
2-
تدليس الشيوخ:
وهو أن يصف شيخه الذي سمع منه بوصف لا يعرف به من اسم أو كنية أو لقب أو نسب إلى قبيلة أو بلدة أو صنعة أو نحو ذلك، قال ابن الصلاح: "وأمر هذا القسم أخف من الأول وقد جزم ابن الصباغ بأن من فعل ذلك لكون من روى عنه غير ثقة عند الناس وإنما أراد أن يغير اسمه ليقبلوا خبره يجب أن لا يقبل خبره، وإن يعتقد فيه الثقة فقد غلط في ذلك؛ لجواز أن يعرف غيره من جرحه ما لم يعرفه هو، وإن كان لصغر سنه فيكون ذلك رواية عن مجهول، لا يجوز قبول خبره حتى يعرف من روى عنه.
3-
تدليس التسوية:
وهو أن يروي حديثا عن شيخ ثقة غير مدلس، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة، فيأتي المدلس الذي سمع من الثقة الأول غير المدلس فيسقط الضعيف الذي في السند، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة الثاني بلفظ محتمل، فيستوي الإسناد كله ثقات، وهذا شر أقسام التدليس، قادح فيمن تعمد فعله.
قال العلائي في كتابه التحصيل في المراسيل: "ولا ريب في تضعيف من أكثر من هذا النوع، وقد وقع فيه جماعة من الأئمة الكبار ولكن يسيرا كالأعمش والثوري".
وممن نقل عنه فعل ذلك بقية بن الوليد، والوليد بن مسلم، والحسن بن ذكوان.
وقد نقل الذهبي عن أبي الحسن بن القطان في بقية أنه يدلس عن الضعفاء ويستبيح ذلك، وهذا إن صح عنه مفسد لعدالته، وعلق الذهبي على هذا بأنه صح عنه أنه يفعله، وكذلك صح عن الوليد بن مسلم وعن جماعة كبار فعله، وهذا يليه منهم ولكنهم فعلوا ذلك باجتهاد، وما جوزوا على ذلك الشخص الذي يسقطون ذكره بالتدليس أنه تعمد الكذب، وهذا أمثل ما يعتذر به عنهم.
وقال السيوطي في التدريب: "وهذا النوع من التدليس يسميه القدماء تجويدا، فيقولون: "جوده فلان"أي ذكر من فيه الأجواد وحذف غيرهم"، قال الشافعي:"يثبت أصل التدليس بمرة واحدة"وقال ابن الصلاح: "والحكم بأنه لا يقبل من المدلس حتى يبين، قد أجراه الشافعي فمن عرفناه دلس مرة، وممن حكى هذا القول عن الشافعي البيهقي في المدخل".
طبقات المدلسين:
المدلسون ليسوا على حد واحد بحيث تتوقف في كل ما قال فيه كل واحد منهم (عن) أو وحدة من أختيها اللتين تقدمتا معها أو بغير أداة ولم يصرح بالسماع بل هم خمس طبقات:
أولا: من لم يوصف بالتدليس إلاّّ نادرا جدا بحيث ينبغي ألا يعد في المدلسين كيحيي بن سعيد الأنصاري وهشام بن عروة وموسى بن عقبة، ممن سيأتي ذكرهم في طبقتهم إن شاء الله.
ثانيا: من احتمل الأئمة تدليسه وخرّجوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع، وذلك لواحد من أسباب ثلاثة:
أ - إ ما لإمامته.
ب - وإما لقلة تدليسه في جنب ما روى
ج - وإما لأنه لا يدلس إلاّ عن ثقة، كالزهري وسليمان الأعمش وإبراهيم النخعي وإسماعيل بن أبي خالد وسليمان التيمي وحميد الطويل والحكم بن عتيبة ويحي بن أبي كثير وابن جريح والثوري وابن عيينة وشريك القاضي وهشيم، ممن ستأتي تراجمهم في طبقتهم - إن شاء الله -، ففي الصحيحين وغيرهما لهؤلاء الحديث الكثير مما ليس فيه التصريح بالسماع وحمل بعض الأئمة ذلك على أن الشيخين اطلعا على سماع الواحد من أمثال هؤلاء لذلك الحديث الذي أخرجه بلفظ (عن) ونحوها عن شيخه، ولكن في هذا نظر؛ بل الظاهر أن ذلك لواحد من الأسباب الثلاثة التي تقدمت آنفا، وهذا هو الراجح، قال البخاري: "لا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب ابن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور في جملة مشايخ كثيرين من قال: لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليسا
…
ما أقل تدليسه".
ثالثا: من توقف فيهم جماعة فلم يحتجوا إلاّ بما صرحوا فيه بالسماع، وقبلهم آخرون مطلقا، كالطبقة التي قبله، لأحد أسباب التي تقدمت كالحسن وقتادة وأبي إسحاق السبيعي وأبي الزبير المكي وأبي سفيان طلحة بن نافع وعبد الملك بن عمير.
رابعا: من اتفقوا على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلاّ بما صرحوا فيه بالسماع لغلبه تدليسهم وكثرته عن الضعفاء والمجاهيل
…
وذلك كمحمد بن إسحاق وبقية وحجاج بن أرطاة وجابر الجعفي والوليد بن مسلم وسويد بن سعيد وأضرابهم ممن يأتي ذكره إن شاء الله.
فهؤلاء الذين يحكم على ما رووه بلفظ (عن) بحكم المرسل.
خامسا: من قد ضعف بأمر آخر غير التدليس، فرَدُّ حديثهم بالتدليس لا وجه له؛ إذ لو صرح بالتحديث لم يكن محتجا به.. كأبي خباب الكلبي وأبي سعيد البقال ونحوهما، فليعلم هذا فإنه نافع في معرفة هؤلاء.
وهذا كله في تدليس الراوي ما لم يتحمله أصلا بطريق، فأما تدليس الإجازة والمناولة والوجادة بإطلاق (أخبرنا) ، فلم يعده أئمة هذا الفن في هذا الباب، كما قيل في رواية أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب، ورواية مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه، وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري، وشبه ذلك، بل هذا النوع إما محكوم له بالانقطاع أو يعد متصلا، ومن أمثلته ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي عن الحافظ أبي الحسن الدارقطني أنه كان يقول - فيما لم يسمع من البغوي-:"قرىء علي أبي القاسم البغوي حدثكم فلان"ويسوق السند إلى آخره، بخلاف ما هو سماعه فإنه يقول فيه:"قرىء علي أبي القاسم البغوي وأنا أسمع"أو "أخبرنا أبو القاسم البغوي قراءة"، ونحو ذلك..فأما أن يكون للدار قطني إجازة شاملة بمرويات البغوي كلها فيكون ذلك متصلا أو لا يكون كذلك فيكون وجادة، وهو قد تحقق صحة ذلك عنه.
هذا مع أن التدليس بعد سنة ثلاثمائة يقل جدا، قال الحاكم:"لا أعرف في المتأخرين من يذكر بالتدليس إلاّ أبا بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي".
قال أبو عمر بن عبد البر: "التدليس في محدثي أهل الكوفة كثير".
قال يزيد بن هارون: "لم أر بالكوفة أحد إلاّ وهو يدلس إلاّ مسعرا وشريكا".
قال الحاكم: "وأهل الحجاز والحرمين ومصر وخراسان، وأصبهان وبلاد فارس وخوزستان وما وراء النهر لا نعلم أحدا من أئمتهم دلسوا"، ثم قال: "وأكثر أهل الكوفة ونفر يسير من أهل البصرة، وأما أهل بغداد فلم يذكر عن أحد من أهلها التدليس إلا أبا بكر الباغندي فإنه أول من أحدث التدليس ببغداد، ومن دلس من أهلها إنما تبعه في ذلك.. هذا وإليك المدلسين مرتبين على الحروف الأبجدية.
(الهمزة)
1-
إبراهيم بن محمد بن أبي يحيي الأسلمي الشافعي: من الطبقة الخامسة لأنه ضعفه الجمهور، قال يحيي بن سعيد:"سألت مالكا عنه أكان ثقة في الحديث؟ فقال: لا، ولا في دينه"، وقال الإمام أحمد:"تركوا حديثه"، قدري معتزلي من رجال ابن ماجة، وضعفه الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما بالتدليس، توفي سنة 184.
2-
إبراهيم بن سليمان الأفطس: عن مكحول وغيره، من الطبقة الثانية، قال أبو حاتم:"لا بأس به"، وأشار البخاري إلى أنه كان يدلس وهو من رجال الترمذي وابن ماجة.
3-
إبراهيم بن زيد النخعي: الفقيه المشهور في التابعين من أهل الكوفة، ذكر الحاكم أنه كان وهو من الطبقة الثانية، قال أبو حاتم: "لم يلق أحدا من الصحابة إلا عائشة رضي الله عنها، ولم يسمع منها، وكان يرسل كثيرا، ولاسيما عن ابن مسعود وجدث عن أنس وغيره مرسلا، وحكى خلف بن سالم عن عدة من مشايخه أن تدليسه من أحمض شيء وكانوا يتعجبون منه، وهو من رجال الجماعة.. توفي سنة 93.
4-
أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني: الحافظ أبو نعيم صاحب التصانيف الكثيرة الشائعة، منها حلية الأولياء، ومعرفة الصحابة، وغيرها، كانت له إجازة من أدركهم ولم يلقهم فكان يروي عنهم بصيغة (أخبرنا) ولا يبين كونها إجازة، لكنه كان إذا حدث عمن سمع منه يقول (حدثنا) ، ساء أكان ذلك قراءةً أو سماعاً، وهو اصطلاح له، تبعه عليه بعضهم، وفيه نوع من التدليس بالنسبة لمن لا يعرف ذلك.
5-
أحمد بن محمد إبراهيم بن حازم السمرقندي: أبو يحيي الكرابيسي، محدث مشهور في الطبقة الأولى، سمع محمد بن نصر المروزي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب كتاب التوحيد المشهور في عقيدة السلف، قال الإدريسي:"أكثر عن محمد بن نصر فاتهم في ذلك"، يعني أنه دلس عنه الإجازة فإن له منه إجازة صحيحة، قال الإدريسي:"رأيتها بخط محمد بن نصر".
6-
أحمد بن محمد بن يحيي بن حمزة الدمشقي القاضي: أكثر عن أبيه عن جده، قال أبو حاتم الرازي:"سمعته يقول: "لم أسمع من أبي شيئا"، وقال أبو عوانة الاسفراييني:"أجاز له أبوه فروى عنه بذلك"، يعني ولم يبين كونها إجازة من الطبقة الأولى. لم أجد له وفاة.
7-
أحمد بن عبد الجبار العطاردي الكوفي: محدث مشهور، تكلموا فيه، من الطبقة الثالثة، قال ابن عدي:"لا أعلم له خبرا منكرا، وإنما نسبوه إلى أنه لم يسمع من كثير ممن حدث عنهم".
8-
إسحاق بن راشد الجزري: - بالجيم - هكذا في طبقات المدلسين للحافظ، وفي الميزان للذهبي: الجندي - بالجيم والنون والدال المهملة - من الطبقة الأولى، كان يطلق (حدثنا) في الوجادة، فإنه حدث عن الزهري، فقيل له:"أين لقيته؟ "قال مررت ببيت المقدس فوجدت كتابا"، حكى ذلك الحاكم في علوم الحديث عن الإسماعيلي.
9-
إسماعيل بن أبي خالد البجلي الأحمسي أبو عبد الله الكوفي: من صغار التابعين، ومن الطبقة الثانية، وصفه بالتدليس النسائي وغيره، قال أبو نعيم:"مات 146هـ".
10-
إسماعيل بن عياش أبو عتبة العنسي: - بعين مهملة ونون ساكنة - عالم أهل الشام في عصره، مختلف في توثيقه، وحديثه عن الشاميين مقبول عند الأكثر، من الثالثة، أشار ابن معين ثم ابن حبان في ثقاته إلى أنه كان يدلس، توفي سنة 181هـ.
11 -
أشعت بن عبد الملك الحمراني البصري: من الطبقة الثانية، قال معاذ بن معاذ:"سمعت الأشعت يقول: "كل شيء حدثتكم عن الحسن البصري فقد سمعته منه إلاّ ثلاثة أحاديث: حديث زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة أنه ركع قبل أن يصل الصف، وحديث حمزة الضبي عن الحسن أن رجلا قال لرسول الله:"متى تحرم علينا الميتة؟ ". وحديث عثمان البتي عن الحسن عن علي في الخلاص. ويعني الخلاص في هذا الحديث: الخلاص في البيع، كما في مصنف ابن أبي شيبة في كتاب البيوع تحت عنوان (الخلاص في البيع) قال ابن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن عثمان عن البتي عن الحسن أن عليا كان يحسن في الخلاص، قال ابن الأثير:"الخلاص الرجوع على البايع بالثمن إذا خرجت العين مستحقة"، ويؤخذ من تصرف ابن أبي شيبة أنهم كانوا يشرطون الخلاص، وهو أنه إذا خرج البيع مستحقا رجع المشتري على البائع بالثمن مع ما يلحقه من غرم إن كان، والله أعلم.
"توفي الحمراني سنة 146هـ"قاله ابن سعد.
12-
أيوب ابن أبي تميمة السختياني: - بفتح السين المهملة وكسرها - أحد الأئمة، متفق على الاحتجاج به، رأى أنسا ولم يسمع منه، فحدث عنه بعدة أحاديث بالعنعنة، أخرجها عنه الدارقطني والحاكم في كتابيهما، وهو في الطبقة الأولى، روى له الجماعة توفي سنة 131هـ.
13-
أيوب بن النجار: وهو أيوب بن يحي، والنجار لقب له، يمامي من الطبقة الأولى، صح عنه أنه قال:"لم أسمع من يحيي بن أبي كثير إلاّ حديثا واحد"، وقد روى عنه أكثر من حديث.
في إفريقية الخضراء
للشيخ محمد بن ناصر العبودي
الأمين العام للجامعة
كتاب جديد - تحت الطبع - لفضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي يتحدث فيه المؤلف عن مشاهداته وذكرياته، وعن أحوال المسلمين في إفريقية الخضراء، وكنت أودّ أن أنشر في هذا العدد فصلا من هذه المشاهدات والذكريات، ولكن آثرت تأخير ذلك إلى العدد القادم، حيث أقدّم للقراء في هذا العدد الكلمة التي صدّر بها المؤلف كتابه، وذلك لأهميتها في إعطاء القارئ صورة واضحة عن الكتاب والظروف والملابسات التي أحاطت به وجعلته يأخذ طريقه إلى النور.
المحرر
لقد أسّست الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة لكي تستقبل العدد العديد من أبناء المسلمين في شتى أنحاء العالم، فتوفر لهم الدراسة الإسلامية النقية في عاصمة الإسلام الأولى، لكي يعودوا - بعد إتمام دراستهم- إلى بلادهم دعاة للخير ومرشدين إلى الحق، هداة للنور الإسلامي المبين.
وقد درجت الجامعة الإسلامية على أن تخصص كل عام منحا دراسية توزعها على المسلمين في مختلف الأقطار تختص من يستفيدون منها من قبل أن يغادروا بلادهم حتى يعودوا إليها.
وكانت الرئاسة الجامعة الإسلامية تضع في الاعتبار الأول حاجة القطر الذي تخصص له المنحة الدراسية الإسلامية إلى تعليم الإسلامي قبل النظر في حجمه السكاني، أو مساحته القطرية، أو كثرة النسبة العددية للمسلمين فيه، وذلك من باب البداءة بالأهم قبل المهم، والأولى على غيره.
ولكن كانت رئاسة الجامعة تجد شيئاً من الغموض عندما تحاول أن ترسم التقرير الصحيح لبعض البلدان الإسلامية أو البلدان التي يقطنها المسلمون، وذلك بسبب نقص المعلومات، لذلك طرح هذا الموضوع على البحث في مجلس الجامعة في أخريات عام 1383هـ الموافق لعام 1964م وهو العام الثالث لإنشاء الجامعة، فرأى المجلس إيفاد بعثة تحت رئاسة الأمين العام للجامعة (كاتب هذه السطور) تسافر إلى بعض الأقطار الإفريقية المحتاجة للتعليم الإسلامي، وتطّلع على أحوال المسلمين هناك. ثم تأتي بتقارير وافية عما شاهدته
…
وهكذا سارع صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، نائب رئيس الجامعة الإسلامية، إلى العمل على إنجاح المشروع كعادته الجيّدة في المسارعة في فعل الخيرات..
وكان أن رفعت الرئاسة الجامعة الإسلامية الأمر إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز حفظه الله، وذلك للعرض على جلالته وطلب الموافقة فحظي بالموافقة السامية، بل إن جلالته لم يقتصر على ذلك، وإنما أمر أن تصطحب البعثة معها مبالغ من المال تدفع باسم الجامعة في المدينة المنورة إلى المؤسسات والمدارس والهيئات الإسلامية في البلاد التي تزورها البعثة على ألا يعلن عن ذلك - أي عن المبالغ المالية شيء -، وألا ينشر عنه شيء في الصحف في حينه، وأن يكون عمل البعثة مقتصرا على النشاط الإسلامي وألا تقحم نفسها في أيّ نشاط سياسي قد يؤثر على أداء مهمتها الإسلامية الخالصة..
خطة العمل:
تألفت البعثة على النحو التالي:
محمد بن ناصر العبودي، الأمين العام للجامعة، (كاتب هذه السطور) رئيساً.
فضيلة الشيخ عمر محمد فلالي، مدير دار الحديث بالمدينة، والمدرّس بالمسجد النبوي الشريف. عضوا.
أبي بكر جابر بن موسى، المدرس بالجامعة الإسلامية، والواعظ بالمسجد النبوي الشريف. عضوا.
ورسمت رئاسة الجامعة عمل البعثة كما يلي:
1-
الاتصال بزعماء المسلمين وعلمائهم في الدول التي تزورها البعثة للاطلاع على أحوال المسلمين وفهم مشاكلهم.
2-
إلقاء محاضرات وكلمات دينية في الأندية والمساجد والجمعيات الإسلامية.
3-
تنظيم جداول إحصائيات للسكان المسلمين في كل قطر ومواضع سكناهم منه، ونسبتهم إلى مجموع سكانه من غير المسلمين.
4-
تقدير الحاجة لكل بلد إلى المساعدات التي يمكن تقديمها سواء من الجامعة الإسلامية، أو من الهيئات الأخرى من المملكة.
5-
بذل المساعدات المالية للجمعيات والهيئات، والأفراد الدعاة من المسلمين، للمساعدة على بناء المساجد أو سير الدراسة في المدارس وتشجيع الدعاة على الدعوة، وذلك في حدود المبالغ المالية التي تحملها البعثة.
6-
توزيع المصاحف والكتب والمطبوعات الإسلامية على من ذكر حسب تقدير البعثة، على أن تعد بذلك بيانات ترسل بواسطة إحدى السفارات السعودية العربية من البلد الذي تصرف له الكتب.
7-
الإطلاع على النشاط الموجود في الدعوة إلى الإسلام بين المواطنين وغيرهم في كل بلد ومعرفة ما إذا كان هناك نشاط معاد للإسلام فيه ومدى فعاليته..
8-
كتابة إيضاحات مفصّلة عن أحوال المسلمين المادية، ومركزهم الاجتماعي في كل بلد تزوره البعثة.
9-
تنظيم الجداول بعناوين، ومراكز الهيئات والشخصيات الإسلامية في كل بلد تزوره البعثة ليسهل الرجوع إليها عند الحاجة.
10-
تحري الجمعيات والشخصيات الإسلامية التي تستحق المساعدة أكثر من غيرها، إما لاتساع نشاطها، أو إخلاص أفرادها، أو لأنه يرجى أثرها في الدعوة أكثر من غيرها، وذلك ليكون لها الأولية من المساعدات في المستقبل إذا لم يمكن تعميم المساعدة الجميع.
11-
تقدير المنح الدراسية التي يحتاجها كل بلد في الجامعة الإسلامية حسب درجة حاجته للتعليم الإسلامي.
12-
المساعدة على طبع النشرات والكتيبات الإسلامية في حدود إمكانات البعثة.
13-
تقدير حاجة المدارس الإسلامية إلى وجود المدرسين السعوديين الذين يدرسون الدين الإسلامي واللغة العربية، والذين قد تتوفر الظروف في المستقبل لابتعاثهم إلى تلك البلاد.
14-
تقديم اقتراحات عمن تراهم البعثة أهلاً لأن تدعوهم الجامعة الإسلامية لإلقاء محاضرات فيها، أو للتعاون معهم في مجال الثقافة الإسلامية.
15-
تقديم الاقتراحات بأسماء الشخصيات الإسلامية التي تستضيفها الهيئات والمؤسسات الإسلامية السعودية التي تعنى بشئون المسلمين في الخارج لغرض تقوية الروابط الإسلامية العامة.
ثم زوّدت رئاسة الجامعة الإسلامية البعثة بأكثر من ثلاثة عشر ألف كتاب إسلامي يضاف إلى ذلك مقدار من المصاحف والأجزاء القرآنية الكريمة لتقوم بتوزيعها في تلك البلاد.
وقد شحن الجزء الأكبر منها قبل سفر البعثة من ميناء جدة إلى (مقديشو) عاصمة جمهورية الصومال لكي تقوم البعثة بالتوزيع منها بطريق السفارة السعودية هناك.
وما إن علمت رابطة العلم الإسلامي بقرب سفر البعثة حتى أرسل معالي الأمين العام الشيخ محمد سرور الصبان مبلغاً مالياً طيباًً مساهمة من الرابطة في عمل البعثة وليضاف إلى المبالغ المالية التي تحملها البعثة من الجامعة ويصرف مصرفها.
وهذا وقد غادرنا المملكة العربية السعودية عن طريق جدة الدولي إلى مطار الخرطوم في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الثاني عام 1384هـ الموافق لليوم الرابع من شهر أغسطس عام 1964م.
تلك كانت قصة بداية رحلتي الأولى إلى إفريقية، وسوف أستصحبك أيها القارئ الكريم إلى أكثر البلدان والقرى والدساكر التي مررنا بها في تلك الرحلة، عندما نقرأ معاً مذكراتي اليومية، فيما بعد - إن شاء الله -.
وقد استغرق سفرنا مدة ثلاثة أشهر وسبعة عشرة يوما، زُرنا خلالها: السودان، وإرتيريا، والحبشة، والصومال، وكينيا، وأوغندا، وبوروندي، وتنجانيقا، وروديسيا الشمالية (زامبيا) .
الرحلة الثانية:
بعد أن قدمنا من رحلتنا الأولى رفعنا إلى رئاسة الجامعة الإسلامية تقريرنا التي وضعناها عن الرحلة، فسارع فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى دراسة ما جاء فيها، وكان أهم ما عمله فضيلته أن قدم اقترحاً لسماحة رئيس الجامعة: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بأن تكوّن لجنة لدراسة التقارير المذكورة من أعضاء عن الجامعة الإسلامية ودار الإفتاء، ووزارة الخارجية، ووزارة المعارف، ورابطة العالم الإسلامي.
وقد وافق سماحة رئيس الجامعة على الاقتراح المذكور، والتأم شمل اللجنة، وكان من أهم تعداتها اقتراح بأن ترصد الحكومة السعودية مبالغ معينة من المال، وتعتمد وظائف تقدر في البدء بخمسين وظيفة، تخصص لتعيين مدرسين ومرشدين يتعاقد معهم للعمل في أقطار إفريقيا المختلفة، ويوضع لعملهم نظام خاص، ويكون عملهم بعيداً عن التدخل في الأمور السياسية، وإنما يقتصر على العمل في حقل التدريس والإرشاد وتقديم النصح الديني المحض.
وكان أن قام سماحة مفتي الديار السعودية، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس الجامعة، برفع هذا الأمر إلى جلالة الملك المعظم فيصل بن عبد العزيز - حفظه الله وزاده توفيقا وتأييدا - فوافق جلالته على ذلك..وأصدر أمره السامي إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني برصد المبالغ المطلوبة، وفتح الوظائف اللازمة على أن يتم ذلك كلّه على يدي سماحة المفتي، وأن يكون تنفيذه بوساطة دار الإفتاء، وقد عهد سماحة المفتي - حفظه الله - إلى فضيلة نائبه في الإفتاء الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بالقيام على تنفيذه وإخراجه كاملا إلى حيّز الوجود، فصدع فضيلة الشيخ إبراهيم بن محمد بالأمر، وأخذ في الإجراءات السريعة الكفيلة بعدم تأخيره.
وكان من بين ما رآه فضيلته أن يصدر فضيلة المفتي - رئيس الجامعة- أمراً يقضي بتكليفي السفر إلى عدد من الأقطار الإفريقية المحتاجة للتعليم الإسلامي، وذلك للاتصال بالجمعيات الإسلامية، والاتفاق معها على تعيين أماكن المدرّسيين، والمرشدين هناك، ثم إكمال الإجراءات اللازمة لاستقبالهم وتيسير إقامتهم، فوافق سماحته على ذلك، وتقدّم لجلالة الملك فيصل - المعظم- بالتماس إعطائي مبالغ مالية مما أمر جلالته برصده للدعوة في إفريقيا كي أقوم بتوزيعها على الجمعيات والهيئات الإسلامية، وقد وافق جلالته على ذلك وأصدر أمره السامي إلى وزارة المالية بصرف المبالغ المطلوبة، وهي تزيد أضعافاً على المبالغ التي كنّا قد وزّعناها في رحلتنا الأولى..
وقد رأى فضيلة نائب الرئيس الجامعة، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أن أقوم بجانب أداء المهمة المذكورة بمهمة أخرى، وهي تقديم المنح الدراسية في الجامعة الإسلامية إلى المسلمين في تلك الأقطار الإفريقية، واختيار الطلبة الذين يستفيدون من المنح المذكورة، وإكمال ترحيلهم إلى المدينة المنورة..وهكذا أصبحت المهمة التي وكل إليّ أمر تنفيذها في هذه الرحلة الثانية ذات ثلاثة شعب:
أ- تعيين أماكن المدرّسيين في أقطار شرقي ووسط أفريقيا الذين تزمع دار الإفتاء إرسالهم إليها.
ب- توزيع الإعانات المالية على الهيئات والمؤسسات والشخصيات الإسلامية هناك.
ج- تقديم المنح الدراسية من الجامعة الإسلامية واختيار الطلاب للمنح المذكورة.
وهذا وقد اخترت لمرافقتي في هذه الرحلة الأستاذ عبد الله بن حمود الباحوث، رئيس المحاسبة بالجامعة الإسلامية، وذلك لخبرته في شئون المالية والحسابية التي أحتاجها في ضبط أوراق المبالغ المالية التي أحملها؛ ولأنه لا بد لي من مرافق في تلك الرحلة الطويلة، رأيت منه خير من يصلح في ذلك.
وهكذا غادرنا المدينة المنورة يوم السبت 5 جمادى الأولى 1386هـ الموافق 21 أغسطس عام 1966م.
ترتيب الكتاب:
إنّ محتويات هذا الكتاب عبارة عن مشاهدات وانطباعات في مذكرات يومية كما قدمت، لذلك أبقيتها كما كتبتها، ولم أضف إليها أيّ شيء لما يمكن إضافته من المصادر المكتوبة التي تحدثت عن تلك البلاد، لأنها معروفة للباحثين، وليس لمن يريد الإطلاع عليها. وليس من اللائق أن يأخذ المرء ما ذكره غيره وينسبه إلى نفسه، ولم أحذف من مذكراتي إلا ما كان منها شخصيا محضاً، أو متصلا بالحديث عن بعض الشخصيات الإسلامية والمقابلات التي تمت مع المسئولين المسلمين مما لا يحسن نشره، أو لا فائدة من ذكره.
وقد رتبت يوميات الرحلة الأولى لكل بلد على حدة، ثم أتبعتها بيوميات الرحلة الثانية أو الثالثة إليه إن وجدت ثم أتبعت ذلك بالحديث عن الأوضاع الإسلامية فيه حسبما توصلت إليه بنفسي مع زملائي ذلك ليسهل الرجوع إليه لمن أراد ذلك، إلاّ أنني لم أترك اليوميات على التسلسل التاريخي لها..
لقد بلغ عدد الجهات والمؤسسات والهيئات والمدارس الإسلامية التي صرفنا لها إعانات مالية أكثر من (320) مؤسسة، كما أننا قدّمنا منحاً دراسية في الجامعة الإسلامية لجميع البلدان التي زرناها، وقد وصل أكثر الطلبة من تلك البلدان وهم الآن يواصلون دراستهم في الجامعة الإسلامية.
كما أرسلت دار الإفتاء أو لا تزال ترسل جماعات من المدرسين والمرشدين إلى الأقطار الإفريقية المختلفة، وهم الآن يؤدّون الأعمال المنوطة بهم في حقل الإرشاد والتعليم والتوجيه الإسلامي على خير وجه والحمد لله.
وبعد: فإنّ ما ورد في هذا الكتاب ليس تقريراً عمّا تمّ إنجازه في تينك الرحلتين الرسمية، ولكنه حديث الرحلة ذاتها، أو هو الحديث على هامش المهمة الرسمية وليس عن المهمة نفسها.
وفي الختام فإن الواجب يقتضي أن أقدّم وافر الشكر وجزيل الامتنان لحضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، نائب رئيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والذي كانت مساعيه السبب الأول في الإسراع بإنجاز الرحلتين المذكورتين.
كما أقدم شكري لفضيلة نائب المفتي لشئون الإفتاء الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، على ما بذله من جهود صادقة في سبيل تمام الرحلة الثانية.
أما سماحة مفتي الديار السعودية ورئيس الجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، فهو صاحب الفضل بعد الله، في كل ما تم في هذا الشأن مما اقتضاني إهداء هذا الكتاب لسماحته قياماً بواجب الشكر وعرفاناً الجميل.
ولا يمكن أن أنسى تقديم الشكر لإخواني وزملائي في الجامعة الإسلامية سواء منهم من رافقني في السفر، أو قام بعملي خلال غيابي عن الجامعة، وأخص منهم المشايخ:
الشيخ عمر محمد الفلالي، والشيخ أبا بكر جابر موسى، والأستاذ عبد الله بن حمود الباحوث، الذين كانوا من خير الرفقة لي في السفر، والذين آسوني بالاشتراك معي في تحمّل المتاعب التي صادفتني خلاله.
والله- وحده- المسؤول أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويوفق المسلمين قادة وشعوبا إلى العمل بما يجمع كلمتهم، ويلم شعثهم، على هدي من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حتى يعود للإسلام نضارته وللمسلمين عزتهم وكرامتهم إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
دروس من التاريخ
للشيخ أبي عمر المدرس في الجامعة
كانت سنة عشر ومائة من أيمن السنين التي عرفتها الأندلس، فيها تولى الإمارة على هذا الفردوس الكريم، القائد التابعي العظيم عبد الرحمن الغافقي، الذي جعل نصب عينيه تدويخ فرنسة، واجتيازها إلى إيطالية فألمانية فالقسطنطينية، كيما يدخل هذه البلاد جميعا في دين تستضيء بنوره وتهتدي بهداه..
ولبث الأمير المحنّك سنتين بعد ولايته يعد العدة للغاية الكبرى التي وهبها حياته، وأول ما اهتم به من الإعداد لها هو تقوية البلاد داخليا، إذ كيف يستطيع بلد تعوزه الوحدة والتلاحم، والالتفاف حول قيادته، والاطمئنان إليها، أن ينهض بمثل المهمة الجبارة التي وقف الغافقي حياته عليها؟؟! ، لقد طاف بنفسه أرجاء البلاد، وتعرف مواطن الضعف في مجتمعه فقواها، وتقرأ مكامن الفساد في كيان دولته فاستأصلها، فكم من وال حاد عن الجادة، وتنكب طريق الواجب، قد عزله واستبدال به آخر يتقى الله في إمارته، ويعتقد أنها خدمة لهذا الإسلام، وغناء في سبيل هذه الأمة المسلمة؟!
وتسامعت الأقطار الإسلامية أخبار هذا الأمير، وأدركت ما ينويه من حمل (الهداية المسلحة) إلى البقية الباقية من العالم المعروف، إذ ذاك التي كانت تحتويه ظلمات مطبقة من الجهالة والتيه والضلال، وانثال عليه هواة الموت في سبيل الله من جزيرة العرب والشام والمغرب، حتى اجتمع له أحمس جيش دفعت به الأندلس في بلاد الغال (فرنسة) عبر تاريخها الإسلامي كله.
وما أن تم استعداد عبد الرحمن حتى كانت جحافله تتدفق من على سفوح البيرنية، وتنداح في جنوب فرنسة، كأنها السيول الجارفة، أو الأعاصير العاتية، لا تواجهها قوة إلاّ مزققتها، ولا ينهض لقتالها ناهض إلاّ سحقته، وها أن (أود) كبير حكام جنوب فرنسة يجمع كل قواه وينقض بها على المسلمين في وادي (دور دفاون) محاولا صد زحفهم، غير أن قواه التي جمعها لا تلبث أن تلاقي مصيرها المحتوم، وهو الفرار عن قتلاها الذين بلغ عددهم مبلغا جعل أحد المؤرخين يقول:"إن الله وحده يقدر على أن يحصيهم".
ويتجه (أود) وغيره من الملوك والأمراء الذين فل حدهم الغافقي نحو شارل مارتل أكبر ملوك الإفرنج في عصره ويسألونه -على رغم ما بينهم جميعا من منافسات وخلافات- العمل المشترك على وقف هذا الإعصار الذي هب على بلادهم، فاحتاجها أيما اجتياح.. ويستجيب شارل مارتل، وما كان له إلا يستجيب لنداء هؤلاء، ويستصرخ المقاتلة من كل صوب وحدب باسم حماية الدين، وصيانة الأرض، والحفاظ على الحياة المهددة.. وتجتمع له جيوش كثيفة لا عهد له بمثلها.. وفي الوقت نفسه يردد على مسامع قومه كلمات تدل على الحنكة وبعد النظر، كان كثيرا ما يقول لهم:"الرأي عندي ألا تعترضوا العرب في خرجتهم هذه، فإنهم كالسيل يحمل من يصادفه، وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ويتخذوا المساكن، ويتنافسوا في الرئاسة، ويستعين بعضهم على بعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر".
وفي هذه الأثناء كان المسلمون قد أوغلوا في البلاد حتى بلغوا مدينة (تور) وهناك وافتهم الأنباء الإفرنجية، ولكن أنى لهذه الجيوش أن ترهبهم، وقد ألفوا النصر عليها، واعتادوا قهرها بالغة ما بلغت من العدة والعديد؟!! فها أنهم يهاجمون مدينة (تور) ويفتحونها برأي ومسمع من مارتل وجنوده -كما يقول أحد المؤرخين العرب- ويستولون على ما فيها، ويضيفونها إلى ما كانوا يحملون من الغنائم الكثيرة والثقيلة.
وهنا يقف القائد الكبير عبد الرحمن الغافقي ويفكر في ظروف المعركة المقبلة التي لابد ناشبة بينه وبين عدوه المتربص، فيرى بثاقب بصره، وموفور خبرته العسكرية، أن هذه الغنائم الثقال ربما أضاعت على المسلمين الذين يلهون بها، ويحرصون عليها معركة من أعظم معارك الفاصلة في التاريخ، وما كان ليغيب على ذهنه الذي تمرس بالحروب، وعرف أصولها، أن النصر في معارك الحياة الفاصلة واللهو بالغنائم لا يجتمعان البتة، وأمامه التاريخ العسكري الإسلامي كله يشهد لهذه الحقيقة التي كانت تقلقه وتزعجه، ولكن ماذا يفعل؟! أيأمر جنده بتركها وهو يرى شدة حرصهم عليها ومبلغ افتتانهم بها؟! إنه يخشى أن يأمرهم فلا يطيبوا عن تركها نفسا، وربما سبب ذلك ظهور أوضاع في الجيش ما كان الوقت يتسع لمعالجتها، وهنا يغض الغافقي في كثير من الألم والتسليم نظره عن أمرهم بتركها [1] ويبقى على ثقته بشجاعتهم.
معركة بلاط الشهداء
وها هما الجيشان يرابط أحدهما تجاه الآخر ثمانية أيام من شهر تشرين الأول سنة 732م وقد أدرك كل منهما خطر المعركة، وقرر أن يرخص المهج في سبيل النصر على عدوه، ويبدأ المسلمون بإنشاب القتال، وتكون حرب قاسية طاحنة، وقد حاول المسلمون خرق صفوف الفرنجة ولكن دون جدوى، ويستمر القتال طول النهار حتى يحجز الظلام بين الفريقين، وفي اليوم التالي يتجدد القتال أعنف مما كان في يومه الأول، ويحمل العرب على أعدائهم حملات مستبسلة.. وهنا تلمع فكرة في رأس قادة الفرنجة مستوحاة من الكلمات التي كان يقولها لهم شارل مارتل، والتي ذكرناها آنفا، وهي مهاجمة غنائم المسلمين، ويسرحون فرقة بقيادة (أود) الذي سبق أن هزمه المسلمون حين لم تكن لديهم غنائم كثيرة يحرصون عليها.. وما إن رأى المسلمون غارة الفرنج على مخيمهم حتى طارت قلوبهم هلعا على الغنائم، وخوفا على المكاسب المادية الشخصية، وكم لهذه المكاسب من جنايات في حياتنا الخاصة والعامة في القديم والحديث!! ثم تركوا المصاف وانكفؤوا إلى المخيم ليحولوا دون استلاب الفرنجة ما فيه من المال والمتاع!! ويحاول عبد الرحمن رضي الله عنه رد المنكفئين، ولكن هيهات.. وفي هذه الأثناء يصيبه سهم من قبل الأعداء فيخر صريعا، ويسلم الروح إلى بارئها، بعد أن جاهد في سبيله حق الجهاد، ويدخل الاضطراب صفوف المسلمين وتضعف مقاومتهم أمام الفرنجة الذين لم يكن لديهم لحسن حظهم ولسوء حظنا غنائم يحرصون عليها!! ويخيم الظلام ويحول للمرة الثانية دون الاقتتال.. وتحت جنح الظلام ينسحب العرب وينحازون قاصدين معاقلهم في جبال البيرنية، وقد بلغ من سرعة انسحابهم أنهم تركوا خيامهم منصوبة، وغنائمهم التي جرت عليهم على أمتهم هذا المصير المؤسف مطروحة على الأرض.. وبعد هزيمة المنكرة يضري بهم العدو، ويشرئب إلى غزو بلادهم، ثم لا يلبث خلفاء شارل مارتل أن يجوسوا خلال الديار، ويدخلوا بعضهم في مملكاتهم، وهكذا تظهر سنة الله
تعالى في أن النصر في هذه الدنيا- هو- لمن استعلى عليها، وهونها على نفسه، ورحم الله خالدا إذ يقول:"أطلب الموت توهب لك الحياة"، الحياة بمغانمها وأطايبيها جميعا!!
ويبدو للمسلمين في تاريخهم كله لم يغلوا من قلة، وإنما غلبوا نتيجة تعلقهم لما تهوى الأنفس من مال أو جاه أو متاع.. وها أن التاريخ يطالعنا بدليل آخر على هذه الحقيقة يسوقه لنا في شكل فاجعة لا تقل هَوْلاً عن فاجعة بلاط الشهداء إن في معناها أو في أثارها.. يقول التاريخ إن الدولة العثمانية كانت حتى القرن الثامن عشر دولة ذات شأن كبير، وكانت جارتها روسيا حتى عهد بطرس الأكبر (1682-1725) دولة همجية متأخرة، لا شأن لها إزاء الدولة العثمانية، ولكن ملكها أو قيصرها بطرس الأكبر الذي يعتبر موطد أركان القيصرية الروسية ومرسي دعائمها الحقيقي، قد قفز بها قفزات هائلة، ورسم لها سياسة خارجية بارعة تهدف إلى إضعاف جاراتها القويات إذ ذاك: السويد، وبولونيا، والدولة العثمانية، والتوسع على حسابهن جميعا، وكنتيجة لهذه السياسة، وبتحريض من شارل الثاني عشر ملك السويد الذي هزمه بطرس الأكبر فالتجأ إلى مدينة (بندر) العثمانية المسلمة، نشبت حرب مصيرية بين روسية ودولة بني عثمان، وقد استطاعت الجحافل العثمانية المسلمة البالغ عددها مائتي ألف بقيادة الوزير (بلطه جي محمد باشا) أن تحاصر الجيوش الروسية وعلى رأسها القيصر بطرس الأكبر وزوجته الداهية الجميلة الفتانة الإمبراطورة كاتريه الأولى التي كانت لا تفتأ ترافقه في الحروب، ولم يبق إلاّ أن تستسلم هذه الجيوش للعثمانيين ويقاد قيصرها وزوجته الإمبراطورة كاتريه إلى الأستانة، أسيرين صاغرين، وبذلك تزول روسية البطرسية كليا من العالم السياسي لتدخل ضمن حدود الدولة العثمانية المسلمة أو على الأقل تتأخر نهضتها، وتقيم على هجماتها أجيال عديدة!.
وفي هذه اللحظات كان التاريخ الإسلامي بل التاريخ العام يمسك قلبه بيده، ويكاد يكتم أنفاسه ليصغى إلى ما يمليه عليه الوزير القائد (بلطه جي باشا)
…
أجل في هذه اللحظات تتقدم الإمبراطورة كاتريه الأولى من هذا الوزير وتلقي بين يديه بجميع ما كان لديها من حلي وجواهر، وربما ألقت بين يديه بشيء آخر مما يتيح لها أن تغلبه على قلبه وأخلاقه فيخون دولته المسلمة ويفوت عليها معركة من معارك التاريخ الفاصلة، ويصدر أمره بفك الحصار عن القيصر والإمبراطورة وجيشهما.. ومن هنا ومن هذا اليوم يبدأ ميزان القوي بين الدولتين بالتغيير لصالح روسية التي انطلقت في طريق التقدم والقوة بينما استمرت الدولة العثمانية في تأخرها وضعفها حتى لاقت الألاقي على يد روسية فيما بعد، وما تزال تركية الحالية تتوجس خيفة من أطماعها وبرامجها التوسعية
…
وكذلك بدأ من قبل ميزان القوي بالتغير بين الأندلس وبلاد الفرنجة بعد معركة بلاط الشهداء التي خسرناها بسبب الحرص (الغنائم) ، فجعلت الأولى تضعف وتتأخر، والثانية تقوى وتتقدم، حتى انتهت الأمور وعلى المدى الطويل بمأساة خروج العرب من الأندلس، وضياع ذلك الفردوس الإسلامي العظيم..
ويطالعنا التاريخ - وهو مصدر لا ينضب للمعرفة الاجتماعية والسياسية – بخبر آخر من المشرق من بلاد سجستان، يلتقي على حقيقة واحدة مع ما عرفناه من أخبار بلاط الشهداء، وأخبار (بلطه جي محمد باشا) في محاربة الروس، وهذه الحقيقة هي أن النصر مازال يحالف هذه الأمة ما تحررت من سلطان الدنيا بما فيها من متاع زائل، ومغنم شخصي عابر حائل، حتى إذا عبدت نفوسها للدنيا، وملكت ضمائرها لمنافعها الشخصية ذهبت ريحها، وانتزعت مهابتها من نفوس أعدائها، الذين استبدلوا بالخوف منها الجرأة عليها.
يروي البلاذري في فتوحه أن (رتبيل) ملك سجستان الذي خضع للفاتحين الأوائل المترفعين عن الدنيا ومغانمها، وأعطاهم الجزية عن يد صاغر، وعاد فالْتَوَى على الولاة والقواد الذين فتحوا للدنيا صدورا، وتعلقوا بالمغانم والمكاسب المادية.. فمنعهم الإتاوة وقال:"ما فعل قوم كانوا يأتوننا خماص البطون، سود الوجوه من الصلاة، نعالهم الخوص؟ قالوا: أولئك انقرضوا قال: أولئك أوفى منكم عهدا، وأشد بأسا، وإن كنتم أحسن منهم وجوها".
ثم أقام على منع الإتاوة فلم يعطها من عمال بني أمية أو عمال أبي مسلم!!
وأنا لا أريد بشيء مما قلته الإعراض عن الدنيا والانصراف عن إعمارها، كيف والدنيا - عندنا نحن المسلمين - مزرعة الآخرة، وقد جاء في الأثر:"اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا"، وفوق ذلك كله قول الله تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم:"نعم المال الصالح للرجل الصالح"، وإنما أريد أن تناولنا للدنيا يجب أن يكون في حدود "مصلحة الإسلام" فهي المعيار الأول والأخير لإقبالنا على ما نقبل عليه، وإعراضنا عما نعرض عنه من أمورها، وهي المقياس الوحيد الذي يجب ألا نحيد عنه في تحديد علاقاتنا بشؤون الحياة جميعاً.
وعندي أنه لا بأس على المسلم أن يملك ما استطاع من هذه الدنيا شريطة أن يرعى تعاليم الدين ومصلحته في كسب ما يملكه، وفي ادخاره، وفي إنفاقه.. وأما خالف عن ذلك فإن دنياه تصبح مصدر ضرر يلم بالحياة الإسلامية شعر أو لم يشعر، أقر أو لم يقر..
وإن من واجب القادة قبل سواهم أن يأخذوا أنفسهم بالتزام المقياس المذكور لأنهم القدوة لمن سواهم، ولعل حقوق القادة في متع الحياة بالخوف من سوء اقتداء الدهماء. ألم يتجاف عمر رضي الله عنه عن الكثير من حقوقه خيفة أن يتمادى الآخرون في التمتع بحقوقهم ظنا منهم أنهم يقتدون به، فيجاوزها إلى ما ليس لهم بحق، وربما كان إلى ذلك يشير بقوله:"لو رتعت لرتعوا"..
على أن القيادة في الإسلام - كما أفهمها - هي مثل صالح يحقق فيقتدى به، وجهاد متصل يكابد، وحرمان دنيوي يعاني، وهي إذا فهمت وطبقت على هذا النحو كانت خدمة للإسلام والمسلمين، إذا فهمت وطبقت على نحو معاكس كانت استخداما للإسلام والمسلمين.
لا شك أن انكباب المسلم مسؤولا كان أو غير مسؤول على تحصيل المنافع والمغانم الشخصية دون تقيد بمقاييس الإسلام قد ينيله الكثير منها، ولكن إذا حاسبناه أو حاسب هو نفسه لألفى أن تحصيل هذه المنافع والمغانم إنما كان على حساب مصالح الإسلام والمسلمين، وأية قيمة تبقى لها بعد ذلك عند الله أو في مجتمع المؤمنين، بل أية قيمة كانت لغنائم المسلمين في بلاط الشهداء، ثم للحلي والجواهر التي أحرزها) بلطه جي محمد باشا) أو لأية غنائم ومنافع مماثلة حين ينطوي اكتسابها على تناسي المصالح الإسلامية أو إهمالها أو استغلالها؟!.
إن الدروس القيمة التي يعلمنا التاريخ إياها - ولنعم المعلم التاريخ - صريحة في أن هذه المنافع والمغانم إن هي إلا معاول تهدم الكيان، وتأتي على مجد الإسلام، وتسلم وجودنا كله للضعف والهوان، وتجعلنا أشبه شيء بقصعة يتداعى إليها الأكلة، وليس ذلك من قلة ولكنه من تركنا مقاييسنا الإسلامية، واستسلام نفوسنا في معترك الأهواء وإيثار الدنيا على الدين، والعاجلة على الآجلة.
وأنا لو سئلت عن أكبر جان على نفسه، وعلى الناس معا، لقلت بلا تردد: إنه الذي يشتري دنياه بدينه، ولو اعتبر نفسه من الرايحين أو من الدهاة العبقريين!!
فاللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا، ونسألك الهداية لأحسن الأعمال والأقوال، فإنه لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
وليته لم يفعل.
عود على بدء
للشيخ عبد العزيز بن ناصر الباز
"بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء " حديث شريف قاله من أوتي جوامع الكلم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
أيها المسلم في كل مكان منذ زمن طويل، ومصداق هذا الحديث العظيم لا يزال يظهر بين الناس.
فالداعية إلى الإسلام في هذا يقاسي من الآلام والمتاعب ما الله به عليم؛ لأنه أصبح غريبا في مجتمعه الذي يعيش فيه، وذلك لغرابة ما جاء به عندهم، فما أشبه اليوم بالبارحة، فلا غرابة إذا قيل مثل هذا القول، فلقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام غرباء يوم بدأوا الدعوة بين أهل مكة، لأنه صلى الله عليه وسلم جاء بدين يخالف ما هم عليه من الوثنية والهمجية، فمن ينتسب إلى الإسلام أو يدعوا إليه في هذه الأيام بعد غريبا، ومن المؤسف حقا أن الكثير من المسلمين في أغلب بلاد الإسلام يعيش عيشة رمزية خالية من المعاني الروحية التي جاء بها الإسلام، ومن المؤسف أيضا أنك حينما تجتمع بأحد شبابنا المثقف الذي تحصل على شهادات عالية في بعض العلوم من جامعات الغرب، وتبحث معه في محاسن الإسلام وعظمته ونظامه وما انطوى عليه من كنوز ومعان هي كفيلة بحل المشاكل، تجده يحاول أن يجرك إلى تعاليم الغرب ونظمه التي طالما ارتسمت في مخيلته مدة دراسته في تلك الجامعات ولم يدر أن تلك النظم والقوانين وضعت للحيلولة دون الوصول إلى ما فيه سعادة البشرية دنيا وأخرى، فإذا كانت هذه فكرة شبابنا الذي نعتز به في كثير من مجالاتنا الحيوية، فما بالك بمن دونهم! ولا يعني هذا حرمان الشباب من الاستفادة في شتى العلوم النافعة، وفي أكثر الفنون وإنما ذلك مرهون بالحفاظ على تراثنا العظيم ودستورنا النير، وغير خاف على كل ذي لب أن الغرب قد دأب من سنين متطاولة على العمل للحيلولة بين المسلمين ودينهم الحق لعملهم أن تمسكهم به والعمل
بمقتضاه يفتت جهودهم، ويقضي على أحقادهم المسعورة.. فمن أجل ذلك ضاعفوا الجهود، وجندوا القوى، وهيأوا الوسائل الكفيلة بنجاح مهمتهم، حتى استطاعوا بهذه الجهود المتواصلة والسهر الدائب أن يحولوا أبناء المسلمين عن تراثهم الخالد، ويشلوا من حركتهم ويخمدوا تلك الطاقات الكامنة في أذهانهم، ومن العجب أيضا أنك تجد جميع الأديان غير دين الإسلام لها مبشرون ومنافحون بها يبشرون بها وينشرونها بجد ونشاط وهذا كله بغية ظهورها وانتشارها، مع العلم أن تلك الأديان والنحل ليس لها من الخلود والبقاء بعض ما للإسلام، أما الإسلام الذي هو الجدير بالعناية الكبرى فالمبشر به والداعي إليه قليل وأقل من القليل، وهناك بعض من ينتسب إلى الإسلام في كثير من البلاد الإسلامية إنما ينتسب إليه بالتبعية، أما تمثيله في نفسه وأخلاقه وعاداته وحياته الاجتماعية ففي جانب وهو في جانب آخر.
ولقد امتحن المسلمون عدة امتحانات وأصيبوا بعدة إصابات وأقربها تلك المحنة الكبرى التي مني بها المسلمون في القدس التي لا يزال جرحها يقطر دماً، وما من مسلم في جميع بقاع العالم يغار على الإسلام ومقدساته إلاّ وقلبه منها يتأجج نارا، وقد بات من الواضح لدى كل عاقل وكل منصف أن سبب توالي المحن وتتابعها على المسلمين وعلى مقدساتهم هو تخلي أكثر المسلمين عن تعاليم دينهم، فلو أنصف أولئك من أنفسهم وأدانوها، وفتحوا صفحة جديدة وغيروا من اتجاهاتهم التي لا تتفق ودينهم السماوي، لتيسر لهم كل خير ولانتصروا على عدوهم في كل ميدان.
مكتبات المدينة ومخطوطاتها
للشيخ محمود ميرة المدرس في الجامعة
وعدت في المقالة الأولى أن أذكر ما يتعلق بالمجموعة الأولى من مخطوطة الرسائل العظيمة للإمام البيهقي، ولكني أن أتابع الحديث حول كتاب أخر مخطوط، لم يطبع لهذا الإمام العظيم وهو كتاب (الزهد) وسأوافي القراء بما وعدت بعد استيفاء وصف الجزء الموجود في المكتبة المحمودية من كتاب (دلائل النبوة) للإمام البيهقي إن شاء الله.
المخطوطة الثانية من مخطوطات البيهقي
…
كتاب الزهد للإمام أحمد بن الحسين البيهقي
…
والكتاب رقمه 142 حديث، مكتبة عارف حكمت، وعدد أوراقه ثماني عشرة ومائة ورقة- 118 ورقة ومسطرته 22×16 في كل صفحة تسعة عشر سطرا (19) وفي كل سطر 15-16 كلمة، والكتاب خمسة أجزاء في مجلد واحد.
الجزء الأول يبدأ من1 وينتهي بالورقة 27.
الجزء الثاني يبدأ من29 وينتهي بالورقة 57.
الجزء الثالث يبدأ من60 وينتهي بالورقة 84.
الجزء الرابع يبدأ من86 وينتهي بالورقة 103.
الجزء الخامس يبدأ من105 وينتهي بالورقة 118.
والنسخة سليمة وصحيحة ومقابلة عليها سماعات وتوقيعات وبلاغات ومقابلات وهي مقروءة على عدد كبير من الحفاظ المتقنين وعليها توقيعاتهم وهي منقولة من أصل صحيح
…
والتوقيعات المثبتة آخر كل جزء كثيرة تجتزئ منها ما يلي:
1-
سماع موقع باسم عبد الحسن بن حمود بن المحسن بن علي التنوحي الحلبي سنة 629.
2-
سماع موقع باسم إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز بن الحسن القرشي 629.
3-
سماع موقع باسم علي بن محمود بن أحمد المحمودي الصابوني 667.
4-
سماع موقع باسم محمد بن أحمد بن محمد بن بن النجيب الشافعي 687.
5-
سماع موقع باسم أحمد بن يعقوب بن أحمد بن يعقوب بن المقري 698.
وعلى الغلاف كتب ما يلي: الزهد الكبير
الجزء الأول من كتاب الزهد الكبير تأليف الإمام العالم الحافظ ناصر السنة صلة الحافظ محدث خراسان أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي رحمه الله تعالى، وعفا عنه..
رواية الشيخ الإمام أبي القاسم زاهر بن طاهر بن محمد بن محمد الشحامي النيسابوري عنه رواية الإمام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي عنه..
أخبرنا به عنه المشايخ الأمناء أبو البركات الحسن بن محمد الحسن بن هبة الله والقاضي وأبو نصر محمد هبة الله بن محمد بن الشيرازي وفخر الدين أبو بكر محمد بن عبد الله بن عبد الوهاب وسيف الدولة أبو عبد الله محمد بن غسان بن غافل بن نجار الأنصاريان وفقهم الله ورضي والديهم سماع منهم لمحمد بن علي ابن محمود بن أحمد المحمودي الصابوني عفا الله عنه، آمين.
وتحت عنوان الكتاب سماعات متصلة بعدد من الحفاظ وختم أحد هذه السماعات بقوله:
وذلك في مجلسين آخرهما يوم الثلاثاء خامس عشر من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة ثم كتب ما يلي:
في نسخة شيخنا ابن الشيرازي بهذا الجزء ما صورته بخط أبي البقاء خالد بن يوسف النابلسي قال: قرأت جميع هذا الجزء وهو الأول من كتاب الزهد تأليف الإمام أبي بكر البيهقي رحمه الله على سيدنا القاضي الإمام العالم الأوحد الصدر الكبير شمس الدين أوحد الشام جمال الإسلام أبي نصر محمد هبة الله بن محمد بن جميل الشيرازي الشافعي أعلا الله قدره بسماعه من الحافظ أبي القاسم علي بن الحسين الشافعي رحمه الله لسنده أوله
…
وإسماعيل بن حاتم المصري وجماعة بفوات لا أعرف أسماءهم وذلك في مجلسين آخرهما يوم الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وستمائة بجامع دمشق وكتب خالد بن يوسف ابن سعد بن الحسن النابلسي عفا الله عنه ونقله من خطه على الوجه يوسف بن الحسن بن بدر بن الحسين النابلسي والحمد لله رب العالمين
…
ثم يتلوه سماع آخر
…
وإليك الصفحة الأولى من النسخة
…
بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن بفضلك
أخبرنا المشايخ زين الأمناء أبو البركات الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله الشافعي وفخر الدين أبو بكر محمد بن عبد الوهاب بن عبد الله الشافعي الأنصاري وسيف الدولة أبو عبد الله محمد بن غسان بن غافل بن نجاد الحنفي الأنصاري وفقهم الله قراءة عليهم وأنا أسمع في شهور سنة ثلاث وعشرين وستمائة بجامع دمشق قالوا أنبأنا الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي في شهور سنة خمس وستين وخمسمائة قال أنبأنا أبو القاسم زاهر بن طاهر بن محمد السحامي النيسابوري بقراءتي عليه بها قال أنبأنا الشيخ الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي قراءة عليه وأنا أسمع بنيسابور..
قال: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله أجمعين.. أما بعد..
فقد ذكرت في كتاب (الجامع) في (باب الزهد) بعض ما حضرني من الأخبار والآثار في الزهد وقصر الأمل وذكرت في كتاب (دلائل النبوة) وغيره كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا ووجدت أقاويل السلف والخلف رضي الله عنهم في فضيلة الزهد وكيفيته في قصر الأمل والمبادرة بالعمل كثيرة فذكرت في هذه الأجزاء ما حضرني من ذلك مستعيناً بالله فيه وفي جميع أموري فنعم المولى ونعم النصير..
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني علي بن عبد الله الحكمي ببغداد حدثنا عبد الله بن سلمة قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ح وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ أنبأنا أحمد بن جعفر القطيعي حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا وكيع حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت جدي يقول:
الزهد: أن لا يسكن قلبك إلى موجود من الدنيا ولا يرغب في مفقود منها ثم تلا قول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اْلأَرْض..ِ} الآية.
أخبرنا أبو عبد اله الحافظ أخبرني علي بن عبد الله الحكمي ببغداد حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا يربح بن النعمان حدثنا هيثم عن أبي الشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة، إن الله خبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح".
آخر كتاب الزهد الكبير، والحمد لله وحده وصلواته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه. اتفق الفراغ منه يوم الإثنين خامس عشر ربيع الأول من سنة ست وعشرين وستمائة بدمشق.
على أصله ما صورته.
رأيت في نسخة الإمام أبي سعد السمعاني الذي نسخ منها هذه النسخة وهو كتاب الزهد في خمسة أجزاء من هذه النسخة ما صورته هذه:
قرأ كتاب الزهد الكبير الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي علي أبي القاسم الشخامي وسمع حفدته.
وعلى آخر النسخة توقيعات وسماعات تثبت أن النسخة انتقلت إلى مصر وقرئت في القاهرة على عدد من الحفاظ.
والنسخة تامة وكتابتها واضحة وأكثر كلماتها مضبوطة ضبطاً تاماً وعلى هامش بعض الصفحات تصحيح لبعض الكلمات وذكر لاختلاف النسخ وخطها متناسق وهي بقلم واحد من بدئها حتى نهايتها.
ولعل الله يهيّئ من يخرجها إلى النور فيحوز الفضل والفضيلة في الدارين
…
وسأتابع في الأعداد القادمة إن شاء الله الكلام حول مؤلف آخر لم يطبع لهذا الإمام العظيم وسأفي بما وعدت به عند الانتهاء من وصف المخطوطة الثالثة من ذكر ما طبع من المخطوطة الأولى وما لم يطبع وما هو جدير بالطبع، ونسأل الله العون والتوفيق.
نظام الجامعة الإسلامية
مادة (1)
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مؤسسة إسلامية عالمية من حيث الغاية وعربية سعودية من حيث التبعية ذات شخصية اعتبارية مستقلة.
مادة (2)
أهداف الجامعة الإسلامية تثقيف من يلتحق بها من طلاب العلم من المسلمين من شتى الأنحاء، وتكوين فقهاء في الدين متزودين من العلوم بما يؤهلهم لحل ما يعرض للمسلمين من مشكلات في شؤون دينهم ودنياهم على هدى الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح.
مادة (3)
تضم الجامعة كلية الشريعة وكلية الدعوة وأصول الدين وغير ذلك من الكليات والمعاهد التي تنشأ أو تضم في المستقبل.
مادة (4)
تعتمد الجامعة في ماليتها لأداء مهمتها وتحقيق أهدافها على ما تخصصه لها الدولة في ميزانيتها العامة.
مادة (5)
يجوز للجامعة قبول التبرعات التي ترد إليها عن طريق الوقف والوصايا والهبات وغيرها بشرط ألا يتعارض مع الغرض الأصلي الذي أنشئت له الجامعة وعلى أن يصدر بذلك قرار من مجلس الجامعة ويوافق عليه رئيسها الأعلى.
مادة (6)
أموال الجامعة الإسلامية أموال عامة يخضع التصرف فيها للقواعد المالية المقررة للوزارات والمصالح الحكومية في المملكة.
رئاسة الجامعة ومجالسها
مادة (7)
جلالة الملك هو الرئيس الأعلى للجامعة.
مادة (8)
مفتي المملكة العربية السعودية حاليا هو رئيس الجامعة وله من الصلاحيات فيها ما للوزير في وزارته ويكون له نائب يقيم في المدينة يفوض إليه صلاحياته كلها أو بعضها.
مادة (9)
للجامعة أمين عام يتولى أمانة مجلس الجامعة والمجلس الأعلى الاستشاري وترتبط به تحت إشراف نائب الرئيس الشؤون الإدارية والمالية وجهاز الموظفين الإداريين في الجامعة وعليه إعداد الميزانية السنوية بموافقة نائب الرئيس وعرضها على مجلس الجامعة للموافقة عليها ثم رفعها إلى الرئيس لإحالتها إلى الجهة المختصة، وعليه تسجيل محاضر جلسات مجلس الجامعة والمجلس الأعلى الاستشاري.
مادة (10)
يكون للجامعة مجلس يتألف من رئيس الجامعة رئيسا ونائبه وعمداء الكليات وعدد من كبار هيئة التدريس في الجامعة لا يتجاوز الخمسة يعينون بأمر من جلالة الملك بالإضافة إلى وكيل وزارة المعارف أو من ينيبه شريطة أن لا تقل مرتبته عن المرتبة الثانية الثابتة وعضو من وزارة المالية لا تقل درجته عن المرتبة الثانية.
مادة (11)
يختص مجلس الجامعة بالأمور الآتية:
أ - إقتراح إنشاء كليات ومعاهد جديدة.
ب - اقتراح إنشاء أقسام جديدة في الكليات والمعاهد.
ت - إعداد مشاريع الأنظمة والتعليمات الجامعية.
ث - توزيع الدروس على القائمين بالتدريس في الجامعة.
ج - منح الدرجات والشهادات العلمية.
ح - الإشراف على تنظيم النشاط العلمي والاجتماعي في الجامعة.
خ - تحديد عدد أعضاء هيئة التدريس.
د - الموافقة على مشروع الميزانية.
ذ - إبداء الرأي في مسائل التعليم ذي الصلة بالجامعة على اختلاف درجاته.
ر - تأليف اللجان الفرعية من أعضائه أو سواهم لبحث الموضوعات التي تدخل في اختصاصه.
ز - الإشراف العام على تحقيق أهداف الجامعة وتنفيذ أنظمتها وإعداد اللوائح التنفيذية تمهيداً لرفعها لمجلس الوزراء لإصدار قرار بذلك.
س - إعداد تقرير سنوي عن سير الدراسة وتنفيذ نظام الجامعة واقتراح ما يراه مناسبا حيال ذلك ورفعه إلى المجلس الأعلى الاستشاري.
مادة (12)
يكون للجامعة الإسلامية مجلس أعلى استشاري في المدينة المنورة يختار أعضاؤه من كبار العلماء وقادة الفكر الإسلامي بأمر من جلالة الملك.
مادة (13)
يتألف المجلس الأعلى الاستشاري من:
أ - رئيس الجامعة الإسلامية ونائبه ووزير المعارف أو من ينوب عنه ومدير جامعة الرياض واثنين من هيئة التدريس في الجامعة.
ب - خمسة عشر عضواً يختارهم رئيس الجامعة بناء على ترشيح من نائبه يوافق عليه الرئيس الأعلى للجامعة ويراعى في اختيارهم تنوع الاختصاص وتمثيل مختلف البلاد الإسلامية وتكون مدة عضويتهم سنتين قابلتين للتجديد.
مادة (14)
مفتي المملكة العربية السعودية هو رئيس المجلس وله أن ينيب عنه من يشاء من الأعضاء عند غيابه.
مادة (15)
المجلس الأعلى الاستشاري هو الهيئة التوجيهية العليا للجامعة الإسلامية ويختص بتقديم المشورة لمجلس الجامعة في الأمور التالية:
أ - وضع خطط الدراسة والمناهج.
ب - مشروعات أنظمة الجامعة وتعديلها.
ت - إنشاء أقسام ومعاهد وكليات جديدة.
ث - إبداء الملاحظات في اختيار أعضاء هيئة التدريس.
ج - البحث في الوسائل التي تحقق أهداف الجامعة.
مادة (16)
ينعقد المجلس الأعلى الاستشاري بناء على دعوة من رئيسه أو بناء على طلب يقدم من ثلث أعضائه.
مادة (17)
يصح انعقاد كل من مجلس الجامعة والمجلس الأعلى الاستشاري بحضور الأكثرية المطلقة لكل منهما، وتتخذ القرارات بأغلبية أصوات الحاضرين.
مادة (18)
تتحمل الجامعة نفقات سفر أعضاء المجلس الإستشاري المقيمين خارج المدينة المنورة وإقامتهم عن المدة التي يستلزمها انعقاد الدورة ومدة الدورة خمسة عشر يوما.
هيئة التدريس
مادة (19)
تتألف هيئة التدريس في الجامعة من:
أ - الأساتذة.
ب - الأساتذة المساعدين.
ت - المدرسين.
وتحدد اللائحة التنفيذية شروط اكتساب أي من الدرجات المذكورة.
مادة (20)
يجوز أن يقوم بالتدريس محاضرون وأساتذة زائرون بالتعاقد كما يجوز عند الاقتضاء التعيين المؤقت بوظائف الترجمة وتدريس اللغات.
مادة (21)
يعامل أعضاء هيئة التدريس والمعيدون وموظفو الجامعة وفقا للأحكام العامة المطبقة على موظفي الدولة.
التدريس بالجامعة
مادة (22)
مدة الدراسة في كليات الجامعة أربع سنوات، ومدة الدراسة فيها تسعة أشهر يحدد بدايتها ونهايتها مجلس الجامعة.
مادة (23)
يجوز أن ينشأ في الجامعة قسم للتخصص ويوضع له نظام خاص.
مادة (24)
تمنح الجامعة الإسلامية حاليا درجة الإجازة العالية في العلوم الإسلامية وتعادل درجة (الليسانس) ويكون لحملة هذه الدرجة العلمية من الحقوق ما لأمثالهم من خريجي الكليات المماثلة، على أن تتوفر في الطالب الشروط الآتية:
أ - لا يقبل في القسم العالي بالجامعة الإسلامية إلا من كان حائزا على الشهادة الثانوية (التوجيهية) أو ما يعادلها بموجب قرار من لجنة المعادلات بوزارة المعارف.
ب - لا يقبل بالقسم الثانوي بالجامعة الإسلامية إلا من كان حائزا على شهادة الكفاءة المتوسطة أو ما يعادلها بموجب قرار لجنة المعادلات بوزارة المعارف.
ت - ولا يقبل بالقسم المتوسط إلا من كان حائزا على الشهادة الابتدائية أو ما يعادلها بموجب قرار لجنة المعادلات المختصة بوزارة المعارف.
طلاب الجامعة
مادة (25)
يقبل الطلاب من الدول والشعوب الإسلامية في الجامعة بحسب النسب التي يقرها مجلس الجامعة لكل منهم في كل عام.
مادة (26)
يتقاضى الطلاب مكافأة شهرية يقترحها مجلس الجامعة أو بناء على طلب يقدم من ثلث أعضائه. ويصدر بها قرار من مجلس الوزراء
مادة (27)
تتحمل الجامعة أجور مجيء الطلاب أول مرة إلى الجامعة وعودتهم بعد التخرج إلى بلادهم بأقرب الطرق.
مادة (28)
يلغي هذا النظام كل ما يتعارض معه من أنظمة وأوامر وتعليمات ويعمل به من تاريخ نشره.
الفتاوى
لفضيلة نائب رئيس الجامعة
كتب الأخ المكرم الحاج محمد دكري يسأل عن حكم إقامة الجمعة في موضعين أو أكثر من المدينة أو الحارة.
والجواب: اعلم وفقك الله أن الذي عليه جمهور أهل العلم تحريم تعدد الجمعة في قرية واحدة إلا من حاجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم في مدينته المنورة مدة حياته صلى الله عليه وسلم سوى جمعة واحدة وهكذا في عهد خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين وهكذا في سائر الأمصار الإسلامية في صدر الإسلام وما ذلك إلا لأن الجماعة مرغب فيها من جهة الشرع المطهر لما في اجتماع المسلمين في مكان واحد حال إقامة الجمعة والعيد من التعاون على البر والتقوى وإقامة شعائر الإسلام ولما في ذلك أيضاً من الائتلاف بينهم والمودة والتعارف والتفقه في الإسلام وتأسي بعضهم ببعض في الخير ولما في ذلك أيضا من زيادة الفضل والأجر بكثرة الجمع وإغاظة أعداء الإسلام من المنافقين وغيرهم باتحاد الكلمة وعدم الفرقة والاختلاف فمن ذلك أيضا قول الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} ، وقول سبحانه:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" أخرجه مسلم في صحيحه، ومما تقدم يتضح لكم أن الواجب هو اجتماع أهل المدينة أو القرية على جمعة واحدة كما يجتمعون على صلاة عيد واحدة حيث أمكن ذلك من دون مشقة للأدلة المتقدمة والأسباب السالفة والمصلحة الكبرى في الاجتماع. أما إن دعت الحاجة الشديدة إلى إقامة جمعتين أو أكثر في البلد أو الحارة الكبيرة فلا بأس بذلك في أصح قولي العلماء وذلك مثل أن تكون
البلدة متباعدة الأطراف ويشق على أهلها أن يجتمعوا في مسجد واحد فلا بأس أن يقيموا الجمعة في مسجدين أو أكثر على حسب الحاجة.. وهكذا لو كانت الحارة واسعة لا يمكن اجتماع أهلها في مسجد واحد فلا بأس أن يقام فيها جمعتان كالقرية ولهذا لما بنيت بغداد وكانت واسعة الأرجاء أقيم فيها جمعتان أحدهما في الجانب الشرقي والثانية في الجانب الغربي وذلك في وسط القرن الثاني بحضرة العلماء المشهورين ولم ينكروا ذلك لدعاء الحاجة إليه.. ولما قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين خلافته أن في الكوفة ضعفة يشق عليهم الخروج إلى الصحراء لحضور صلاة العيد أمر من يقيم لهم صلاة العيد بالبلد وصلى رضي الله عنه بجمهور الناس في الصحراء فإذا جاز ذلك في العيد للحاجة فالجمعة مثله بجامع المشقة والحاجة والرفق بالمسلمين وقد نص الكثير من العلماء على جواز تعدد الجمعة عند الحاجة، قال موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة رحمه الله في كتابه المغني ص 184 جزء2 عند قول أبي القاسم الخرقي رحمه الله:"وإذا كان البد كبيرا يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزة"ما نصه.
وجملته أن البلد متى كان كبيرا يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبار جازت إقامة الجمعة فيما يحتاج إليه من جوامعها وهذا قول عطاء وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها لأن الحدود تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود ومقتضى قوله أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين جازت إقامة الجمعة في موضعين منه لأن الجمعة حيث تقام الحدود وهذا قول بن المبارك وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله لا تجوز الجمعة في بلد واحد في أكثر من موضع واحد لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجمع إلا في مسجد واحد وكذا الخلفاء بعده ولو جاز لم يعطلوا المساجد حتى قال ابن عمر رضي الله عنهما: "لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الإمام" ثم قال الموفق –رحمه الله: "ولنا أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجارت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد وقد ثبت أن عليا رضي الله عنه كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الجمعتين فلغناهم عن إحداهما ولأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم لأنه المبلغ عن الله وشارح الأحكام ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعا وقول ابن عمر يعني أنها لا تقام في المساجد الصغار ويترك الكبير وأما اعتبار ذلك بإقامة الحدود فلا وجه له. قال أبو داود: "سمعت أحمد –رحمه الله يقول أي حد كان يقام بالمدينة؟ قدمها مصعب بن عمير وهم مختبئون في دار فجمع بهم وهم أربعون. فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز في أكثر من واحد وإن حصل الغنى باثنين لم تجز الثالثة وكذلك ما زاد لا نعلم في هذا مخالفا إلا أن عطاء قيل له: "أن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر"قال: "لكل قوم
مسجد يجتمعون فيه ويجزي ذلك من التجمع في المسجد الأكبر"وما عليه الجمهور أولى إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه أنهم جمعوا أكثر من جمعة واحدة وإذا لم تدع الحاجة إلى ذلك ولا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل.."انتهى كلامه رحمه الله.. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن صلاة الجمعة في جامع القلعة بدمشق هل هي جائزة مع أن في البلد خطبة أخرى أم لا؟..فأجاب: نعم يجوز أن يصلي فيها جمعة لأنها مدينة أخرى كمصر والقاهرة ولو لم تكن كمدينة أخرى فإقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في موضعين للحاجة يجوز عند أكثر العلماء ولهذا لما بنيت بغداد ولها جانبان أقاموا فيها جمعة في الجانب الشرقي وجمعة في الجانب الغربي وجوز ذلك أكثر العلماء.."انتهى كلامه رحمه الله.
وبما ذكرنا يتضح للسائل جواز إقامة جمعتين فأكثر في بلد واحدة إذا دعت الحاجة إلى ذلك إما لضيق المسجد الواحد وعدم اتساعه لأهل البلد أو لسعة البلد وتباعد أطرافها والمشقة الشديدة عليهم في تجميعهم في مسجد واحد ومثل ذلك لو كان البلد قبلتين أو أكثر وبينهم وحشة ونزاع ويخشى من اجتماعهم قيام فتنة بينهم وقتال فيجوز لكل قبيلة أن تجتمع وحدها ما دامت الوحشة قائمة وهكذا ما يشبه ذلك من الأسباب، وهنا مسألة مهمة ينبغي التنبيه عليها وهي أن بعض الناس في العصور المتأخرة إذا كان في البلد جمعتان أو أكثر يصلون الظهر بعد الجمعة ويزعمون أن في ذلك احتياطا خوفا من عدم صحة إحدى الجمعتين.. وهذا في الحقيقة منكر ظاهر وحدث في الإسلام لا يجوز الإقرار عليه وقد أنكره من أدركه من محققي العلماء لأن الله سبحانه أوجب على المسلمين في يوم الجمعة وغيرها خمس صلوات وهؤلاء يوجبون على الناس يوم الجمعة ست صلوات وهكذا لو لم يوجبوا ذلك وإنما استحبوه أو أباحوه فكل ذلك لا يجوز لأنه من البدع المحدثة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة الجمعة:"خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" أخرجه مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق على صحته، وفي لفظ لمسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"..
والله المسئول أن يوفق المسلمين جميعاً للفقه في دينه والتمسك بشريعته والحذر مما خالف ذلك، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
كتب الأخ أحمد بن عبد الله بن محسن يسأل:
أولا: عن كيفية المسح على الشرّاب والكندرة وهل يصلي به صلاتان أم لا كالتيمم؟
والجواب: يمسح على الشراب إذا كان ساترا لمحل الغسل كما يمسح على الخف، والفرق بينهما أن الخف من الجلد وأما الشراب فيكون من القطن ويكون من الصوف ويكون من غيرهما، والحكم في المسح عليهما واحد في أصح أقوال العلماء، وقد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه مسح على الجوربين والنعلين" والجوربان هما الشراب، وثبت ذلك عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أنهم مسحوا على الجوربين وإذا مضت المدة وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر وجب الخلع على من يجد الماء حتى يتوضأ ويغسل قدميه، ثم إذا أحب لبسهما بعد ذلك ومسح مثل المدة السالفة وهكذا، أما الكندرة فهي كالنعل إذا كانت لا تستر القدم مع الكعبين فأي مسح عليهما مع الشراب صار الحكم لهما، ومتى خلع أحدهما خلع الآخر، وإن اقتصر على مسح الشراب كفاه ذلك، وجاز له خلع الكندرة متى يشاء والطهارة باقية بحالها لأن حكم المسح قد تعلق بالشراب ومما تقدم يتضح أنه يجوز أن يصلي المسلم بالمسح على الشراب صلوات كثيرة في المدة التي منحه الشارع إياها وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ابتداء من أول مسح وقع بعد الحدث الذي يعقب اللبس، أما التيمم ففيه خلاف مشهور والصحيح من أقوال العلماء أنه يرفع الحدث كالطهارة بالماء ويصلي به صلوات كثيرة كما يصلي بالماء ما لم يحدث أو يجد الماء لقول الله سبحانه:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
فبين سبحانه في هذه الآية أنه شرع لعباده التيمم عند عدم الماء ليرفع عنهم الحرج بذلك وليطهرهم به، فدل ذلك على أنه مطهر كالماء، وفي الآية المذكورة دلالة على أن الفاقد للماء يكفيه التيمم سواء كان حدثه أصغر وهو ما يوجب الوضوء أو كان أكبر وهو ما يوجب الغسل وعلى أن كيفية التيمم عنهما واحدة وهي مسح الوجه والكفين من الصعيد، ووجه الدلالة أن قوله سبحانه وتعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} يشير به إلى الحدث الأصغر وقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء} يشير به إلى الحدث الأكبر لأن الملامسة كناية عن الجماع في أصح قول العلماء كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من علماء التفسير وأما من فسر ذلك بمس اليد واحتج به على أن مس المرأة ينقض الوضوء فقوله ضعيف لأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها لأن المقصود هنا الإيجاز والاختصار والإشارة إلى أصح الأقوال للصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". ففي هذا الحديث العظيم الدلالة على أن التيمم يرفع الحدث ويطهر كالماء والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ثانيًا: ما ذكرت عن أصهارك فهمته وساءني كثيرا والذي أرى أن الأولى مقاطعتهم والابتعاد بزوجتك عن محل سكناهم فلعلك تسلم من شرهم ومن فقد الدين والخلق الكريم لا يرجى خيره ولا يؤمن شره، فالخير كله في البعد عنه ومقاطعته، رزقنا الله وإياكم وسائر إخواننا السلامة من أصهار السوء ومن كل ما يغضبه.
ثالثا: ما حكم مسح أثر الغائط والبول بالورق هل يكفي عن الماء؟
الجواب: نعم يكفي المسح بالورق وغيره من الجمادات الطاهرة كالأحجار والخشب والخرق والتراب وغير ذلك ما عدا العظام والأرواث إذا أنقى المحل وكرر ذلك ثلاث مرات فأكثر ويقوم ذلك مقام الماء لأحاديث كثيرة وردت في ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذهب أحدكم من الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه" رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الحافظ الدارقطني:"إسناده صحيح"وعن خزيمة بن ثابت الانصاري رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة؟ فقال: "بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بعظم أو روث وقال: "إنهما لا يطهران" أخرجه الدارقطني وقال: "إسناده صحيح". وأخرج مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بأقل من ثلاثة أحجار ونهي أن يستنجى برجيع أو عظم"، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وفيما ذكرناه منها كفاية إن شاء الله.
رابعا: إذا كان الإنسان في السفينة ونحوها وشرع في الصلاة إلى جهة القبلة حسب اجتهاده ومعرفته ثم لم ينتبه إلا وهو إلى جهة أخرى بسبب تغير اتجاهات السفينة ونحوها فما الحكم؟
الجواب: الواجب على المسلم أينما كان هو أن يستقبل القبلة وهي الكعبة في صلاته وذلك من أهم شرائطها لقوله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، وإنما يستثنى في ذلك العجز كالمصلوب إلى جهة أخرى والمريض الذي لا يجد من يوجهه إلى القبلة لقول الله سبحانه:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: من الآية16) .
وكذا المسافر ينتقل إلى جهة طريقه ولو كان إلى غير القبلة لما ثبت في ذلك فمن الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة على راحلته حيث كان وجهه لكن الأفضل أن يستقبل القبلة فليس له أن يتوجه إلى غيرها سواء كان مقيما أو مسافرا لكن من كان في السفينة أو الطائرة ونحوهما فالواجب عليه أن يتقي الله ما استطاع ويجتهد في استقبال القبلة حسب الإمكان ويدور مع السفينة والطائرة كلما دارتا، وإذا أغلبه الأمر في بعض الأحيان ولم يشعر إلا وهو إلى غير القبلة لم يضره ذلك لقول الله عز وجل:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} ، وقول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
خامسًا: إذا تغير الماء بما يؤثر في طعمه أو لونه أو ريحه من غير النجاسات كالبوية ونحوها فما الحكم؟
والجواب: إذا تغير الماء بالنجاسة صار نجساً بالإجماع أما إذا تغير بأشياء أخرى من الطاهرات كالبوية وأثر الدباغ في القرب ونحوها وما يقع في المياه من الحشائش والأتربة ونحو ذلك فإنه لا ينجس بذلك ولا يكون مسلوب الطهورية بل هو باق على حاله طاهر مطهر ما دام اسم الماء ثابتاً له لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، وقوله سبحانه:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الماء طهور لا ينجسه شيء"، أما إذا خرج عن اسم الماء فصار لبنا أو مرقًا أو بوية أو ما أشبه ذلك فإنه والحالة هذه تزول عنه أحكام الماء المطلق ولا يجوز التطهر به لأنه لا يدخل في اسم الماء الوارد في النصوص المتقدمة وغيرها هكذا ذكر أهل العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله وسلم على عبد ورسوله محمد وآله وصحبه.
ندوة الطلبة
صور من القضاء في الإسلام
بقلم صالح بن سعيد بن هلالي
إنه فصل من كتاب (مثل عليا من القضاء في الإسلام) لمؤلفه الأستاذ محمود الباجي المستشار بمحكمة الاستئناف بتونس عرض فيه فصولا رائعة وصورا حية من قضايا إسلامية من العصر الأول بأسلوب جذاب، والتزم بتقديم الحكم والواقعة في تصوير بديع رائع يتفق مع الأساليب العصرية التي يرتاح إليها قراء اليوم، وقد يكون موضوع الواقعة ونص الحكم لا يتجاوزان الأربعة أسطر من كتاب (الطرق الحكمية) أو (إعلام الموقعين) للعلامة ابن القيم الجوزية كما يشير إلى ذلك هو في مقدمة الكتاب.
قدم للكتاب قاضيان من قضاة تونس الأول هو الشيخ محمد الهادي بن القاضي رئيس الدائرة الاستحقاقية بمحكمة الاستئناف، والثاني هو الشيخ محمد الهادي المدني رئيس دائرة الأحوال الشخصية قال عنه الأول:"في هذا السفر الصغير الحجم الغزير المحكمية والمثل الرائع عينة طيبة من مشاكل القضاء الإسلامي في مختلف العصور الإسلامية الزاهية، وفي أرقى العواصم البارزة، وإننا بحاجة لأن نستلهم من أمجادنا القضائية ما يعزز مواقفنا ويحرر عقولنا وأفكارنا مما ران عليها طيلة عهد الاستعمار البغيض، فأورثها عقدة مركب النقص ومرض الزهد في النفس بأثره الخطير ونتائجه الفاجعة، وإن واجبنا اليوم أثقل وأخطر من واجبنا بالأمس.. "الخ.
وقال عنه الثاني: "أيها القارئ الكريم.. وإنها لمثل رائعة من قضاء الإسلام أعرضها عليك في ديباجة مشرفة وإحاطة مدققة، مما أعاد للذاكرة سؤدد العالم الإسلامي وعظمته أيام كان القضاء يفجر أخلد المبادئ وأشملها، وأوفى مظاهر القسطاس وأكملها، بما جعل الكثير من خصوم الإسلام يتسابقون في بعض البلاد للتقاضي لدى قضاة الإسلام ثم لا يجدون حرجا فيما يقضي به عليهم ويسلمون تسليماً".
بعد هذه المقدمة البسيطة والتعريف بالكتاب وبمؤلفه فتعال معي أيها القارئ نرتع مع المؤلف في هذا الفصل وتحت هذا العنوان: (فراسة عمر بن الخطاب)
قتيل بالطريق العام!
حدّث الليث بن سعد بن عبد الرحمن [1]- الذي قال عنه الإمام الشافعي بأنه أفقه من الإمام مالك رضي الله عنه والذي عرض عليه المنصور أن يلي مصر فامتنع - قال: "خرج المصلون من فريضة الصبح متوجهين إلى أعمالهم ومنازلهم، فإذا على قارعة الطريق جثة شاب جميل الصورة مشرق المحيا أدعج العينين مستقيم الأطراف حسن الهندام، نظيف الثياب، مصاب بجرح قاتل مازالت الدماء تنزف منه! تولت شرطة المدينة التبليغ عن الحادثة للقاضي الأكبر الخليفة عمر بن خطاب رضي الله عنه فانتقل فوراً ليقف على الجثة بنفسه:
هوية القاتل:
اجتهد عمر في التعرف على شخصية القتيل وذهبت مساعيه أدراج الرياح، واجمع الجوار والعرفاء وأمناء الأسواق وأعوان الدرك وأهل المنازل الواقعة على حافتي الطريق المعثور فيها على الجثة واتفقت كلمتهم على أنهم لا يعرفون القتيل باسمه أو مسماه ووقع عرض الهالك في الميضاة القريبة، ودعي الواردون على المدينة حتى من الضواحي وأهل المتاجر ومروا به وأكدوا عدم التوصل لمعرفته.
عمر لم ييأس:
رغم هذا الغموض الذي يحف بالجريمة والمجرم، والذي مثاره جهل شخصية القتيل الشاب، فإن عمر رضي الله عنه لم ييأس من وضع يده على الأسرار المحيطة بالجناية وجعل يتوسل إلى الله ويدعوه أن يظفره بالقاتل، وبعد عام من الحادث وفي فجر يوم ذلك اليوم الذي اصطدم فيه الخارجون من المسجد الجامع بجثة الشاب القتيل، وفي نفس المكان الذي وجد فيه عثرت الشرطة على مولود حديث عهد بالوضع وهو قيد الحياة ويبدو عليه أنه خرج من أبويين جميلين في أول عهدهما بالإنجاب والامتزاج..
وأسرع الحراس بحمله إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وأعلموه بأنهم التقطوه في نفس المكان الذي وجدت فيه جثة الشاب القتيل في مثل ذلك الوقت في العام المنقضي.
رأس الخيط:
وابتهج الخليفة عمر لهذا الحادث الجديد، وصرح بأنه ظفر بدم القتيل الشاب يوشك أن يضع يده على القاتل ويكشف أسرار الحافة بالقتيل.
وحالا أمر بدفع الصبي إلى مربية تتولى إرضاعه وتنشيته وتتقاضى تكاليف الكفالة من بيت المال.
الشروع في التحقيق:
أصدر الخليفة العادل أمره للكافلة بأن تتحرى أمر من يسأل عن الصبي أو يحاول الاتصال به أو يوفد من يستعلم على حالته أو يختلس النظر إليه، وأن تخطر دار الخلافة بنتائج هذا التحدي الأكيد، الذي يعلق عليه الخليفة أهمية كبيرة ولا يتسامح إطلاقا في إهماله والتساهل في شأنه.
الوقوع في الفخ:
شبّ الصبي وظهرت نجابته وبرزت محاسنه، وتحدث الناس بجماله وقوة سحره وجاذبته، وهو الصبي الذي لا يعرف أبواه ولا يعلم مولده.. وذات يوم أقبلت جارية يلف جسمها رداء كثيف يخفي جميع ملامحها، وطرقت باب دار الكافلة وبعد أن حيتها وابتسمت للصبي وغمرته تقبيلا أعلمتها بأن سيدتها ترجوها أن تبعث الصبي لتراه وتعود به إليها في نفس الحين، ولها في مقابل ذلك ما تريد من عطاء.. وأدركت الكافلة سر الأمر الذي أصدره الخليفة، وتحققت أن بين أيديها الآن مفتاح السر الذي يبحث عنه الخليفة العادل منذ سنة. فأظهرت الموافقة على مطلب الجارية واشترطت أن تذهب بنفسها في رفقة الصبي لأنها مسؤولة عنه، وتخشى أن يحدث له مكروه، وأنها تعتقد نفرته من أي امرأة سواها.. ورضيت بالشرط وذهبت الجارية إلى دار سيدتها.
في بيت الأم:
عرفت الكافلة أن البيت الذي دخلته الجارية هو بيت أحد شيوخ الأنصار الذين لهم مكانه في نفس الخليفة، ومركز ممتاز في محيط الخلافة ولم تكد تقع عين بنت الشيخ الأنصاري على الصبي حتى اختطفته وضمته إلى صدرها تقبله وتملا عينيها وجهه الباسم وثغره المشرق، وجعلت الكافلة تردد ببصرها في هذا المنظر العجيب، وكادت تغيب في هذا المشهد المؤثر، واستعصى عليها فهم اللغز المغلق، لأنها تعرف عفة البنت ونبل عائلتها وعلو مركزها في المجتمع المدني.
إعلام الخليفة:
انتهى المشهد الرائع بتسليم الصبي إلى الكافلة وإسراع البنت بإخفاء وجهها والالتجاء إلى حجرتها تحت تأثير عوامل نفسية قاهرة، وبادرت الكافلة بإرجاع الصبي إلى بيتها والتوجه إلى الخليفة لإعلامه بما حدث.. لم يكد يعلم الخليفة عمر بما حدث حتى اشتمل على سيفه وانتقل إلى دار الشيخ الأنصاري فوجده متكئا على بابه.
وبعد أن حياه سأله عن أمر ابنته ورد الشيخ بارتياح قائلا أن ابنته من أعرف الناس بحق الله وحق أبيها مع حسن صلاتها وصيامها والقيام بدينها.. فقال عمر: "قد أحببت أن أدخل عليها فأزيدها رغبة في الخير وأحثها عليه"، وأجاب الشيخ:"الأمر لأمير المؤمنين والبيت بيته"، وفتح الباب ودخل عمر ودعا كريمة الشيخ وسألها منفردا بعض الأسئلة العامة، ثم كاشفها بأنه يسألها عن أمر الشاب والمولود، وأنها إن لم تتحر في أجوبتها الصدق والحق تعرض نفسها الأكبر الأخطاء.
الاعتراف الرهيب:
اعترفت الأنصارية المسكينة في صراحة ودون التواء بأنها أم المولود الملتقط وقاتلة الشاب المجهول الشخصية! وأخذت تشرح الوقائع التي أفضت إلى المخاض وإلى القتل قائلة "إن عجوزا كانت تدخل عليّ فأتخذها أُمّاً وكانت تقوم من أمري كما تقوم به الوالدة، وكنت لها بمنزلة البنت حتى ذلك الحين، فقالت لي مرة: "يا بنية إنه قد عرض سفر ولي ابنة في موضع أتخوف عليها فيه أن تضيع، وقد أحببت أن أضمها إليك حتى أرجع من سفري"، فعدمت إلى ابن لها شاب أمرد هيئته كهيئة الجارية، وأتت به لا أشك أنه جارية.. فكان يرى مني ما ترى الجارية من الجارية حتى أغفلني يوما وأنا نائمة، فما شعرت حتى علاني وخالطني، فمددت شفرت كانت إلى جانبي فقتلته، ثم أمرت فألقي حيث رأيت، فاشتملت منه على هذا الصبي فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه".
استمع الخلفية العادل لهذه المأساة الفاجعة التي ترويها الأنصارية العفيفة الشريفة واطمأن إلى صحة الواقعة وانتهى إلى اعتماد الإقرار في جزئياته وجوهره.
حكم القاضي عمر:
أعلن عمر انتفاء المسؤولية عن الأنصارية وإهدار دم الشاب الخائن المخادع، واعتبار الجانية قد ارتكبت القتل في حالة دفاع عن شرفها وعفافها، ولم يكتف بذلك بل نوه بشجاعة القاتلة وشدتها في دفع العدوان عن نفسها ودعا لها بخير، وخرج على أبيها وبارك له في ابنته الصالحة المؤمنة وأوصاه بها خيرا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
القصة أوردها العلامة ابن القيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية في السياسية الشرعية ص31 عن الليث بن سعد، والليث بن سعد أشهر من علم، قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب 2 / 138 "الليث بن سعد بن عبد الرحمان الفهمي أبو الحارث المصري: ثقة ثبت، فقيه، إمام مشهور، من السابعة، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة"اهـ، وقال فيه الإمام التبريزي صاحب مشكاة المصابيح:
"فقيه أهل مصر، يقال: إنه مولى خالد بن ثابت الفهمي، ولد في قرية أول مصر، سنة أربعين وتسعين، روى عن أبي مليكة وعطاء والزهري وغيرهم، وحدث عنه خلق كثير، منهم ابن المبارك، قدم بغداد إحدى وستين ومائة، وعرض عليه المنصور القضاء، فامتنع، قال يحي بن بكير: "ما رأيت أحد أكمل من الليث بن سعد"اهـ.
انظر (الإكمال في أسماء الرجال) للتبريزي ص 745.
يا مسلم
شعر: عبد العزيز القارى
جرد السيف ونح القلما
واملأ الدنيا كفاحا ودما
إن برق السيف أقوى حجة
فدعونا نرتضيه حكما
ما على التاريخ لو سجلها
ثورة عشواء تذكيها الدما
قد كفرنا بسلام جائر
ضاعت الأمجاد فيه والحمى
لا سلام اليوم بل معركة
تقلب الدنيا جحيما مظلما
أجهزوا اليوم على أحلامكم
وانتضوا فيها ظباتا خذما
واحملوا الحق على ضامرة
تعشق الكر وتأبى اللجما
فجروها عزمة دامية
تهدم البغي وتبني الشيما
أنت يا مسلم أسمى منهم
حطم القيد لتبقى مسلما
لك هذي الأرض ليست لهم
إنهم أضحوا عليها: رمما
أنت يا مارد أقوى منهم
حطم الأصنام وارق القمما
أمم ضاعت وأخلاق ذوت
فابعث الأخلاق واحم الأمما
تاريخ الأسلاف منار الحاضر والمستقبل
بقلم أبي عبد السلام زكريا المديني
كثيرا ما تردد ألسنة الأدباء وأقلام الكتاب كلمتي الحضارة والتقدم، وقلّ من يحضره معناهما ويتنبه لمحتواهما، يحسب بعض قليلي المدارك أن الحضارة هي الجري وراء كل حاضر، والتقدم هو السير مع التطور ولو على التخبط بغير هدى، والواقع أن حضارة الأمم هي سير الناس مع تاريخ أمجادها وآثار أمتها الطيبة.
نتلمس الماضي البعيد وحوله: ماء الحياة أعذب مورد، التقدم هو اقتفاء التطور بخطى مترنة وثابتة بانتقاء الطيب النافع للأمة من علوم الناس - تاريخ الماضي رسول السلف إلى الخلف ومدرسة الغافل وميدان التجارب ومحل العبر - وبالأخص تاريخ أمة الإسلام موسوعة الحسنات وصفحات المجد - قال الخليفة الرابع - كرم الله وجهه - ينصح ابنه:"أي بني، إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وتبصرت في آثارهم حتى غدوت كأحدهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره". تاريخ الأسلاف في الأمم منار الحاضر والمستقبل ما غفلت أمة عن ماضيها إلا أدبرت أيامها وقفل إقبالها.
السيرة الحسنة في الأفراد مشعل يستضىء بها المجتمع وسوء التصرف واعوجاج الخلق معول الهدم في كيان الأمة.
وليس بعامر بنيان قوم
إذا أخلاقهم صارت خراب
الأمة التي تعيش في فراغ خلقي هي كالسائمة بلا راع والمواشي المفلوتة بلا راع إما أن تفكك بها السباع أو تضيع هائمة على وجهها في الفلوات والقفار، أما الأفراد المنحرفون عن مبادئ الأمة وقيمها المعنوية فهم كالجراثيم في جسم صحيح إذا كانت مقاومة الجسم قوية تضمحل هذه الجراثيم ويتلاشى أثرها، وإن كان الجسم ضعيف المقاومة تنهكها هذه الجراثيم وتزيدها وهنا على وهن وقد نقضي على مقاومته نهائيا.
الأفراد كاللبنة في بناء المجتمع إذا وجدت لبنات فاسدة قبيحة المنظر في عمارة شامخة حسنة المنظر وهن البناء وأضعف من بهائها وجمالها قال الشاعر:
وإنني لأرى من لا خلق له
ولا أمانة وسط القوم عريانا
من أرفع صفات المسلم الحياء والمروءة، فالشخص الوقح في مجتمع الإسلام كالدمل على الوجه الجميل، وكالبرص على الجسم الصحيح، وكالعاري في وسط أهل الحشمة والملابس الأنيقة، ومن صفات أهل الإيمان الصدق والأمانة ووفاء العهد، فالرجل الأمين يتأسى بصفة سيد المرسلين الذي وصفه الله بأنه:"رسول أمين"، قال عليه والصلاة والسلام:"من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم ولم يكذبهم، ووعدهم ولم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته"، وقال بعض البلغاء:"شرائط المروءة أن يتعفف عن الحرام، وينصف في الحكم، ولا يعين قويا على ضعيف، ولا يؤثر الدنيا على شريف، ولا يفعل ما يقبح الذكر والاسم".
إن المروءة ليس يدركها امرؤ
ورث المكارم عن أب فأضاعها
أمرته نفس بالدناءة والخنا
ونهته عن سبل العلا فأطاعها
موجز تاريخ التعليم المختلط ونتائجه
بقلم: محمد ضياء الرحمن الأعظمي العمري
إن من ثمرات الحضارة الغربية التعليم المختلط، والمتصفح لتاريخ الأمم الماضية لا يجد ذكرا لهذا التعليم، فهذه الحضارة اليونانية التي بلغت شأوا بعيدًا في الرقي والتمدن مع هذا فإنها تفرق في نظام التعليم بين الرجال والنساء، وهذه الحضارة الرومانية التي كانت داعية إلى حرية لم يسبق إليها غيرها لا نجدها قد أباحت هذا التعليم ولم تتصور هذا الفكر الجديد، وعندنا أمثال للدراسات العليا في الحضارة الصينية قد قطعت في التعليم شوطا بعيدا منذ أقدم العصور ومع ذلك لم تتعرض للتعليم المختلط مثلما تعرضت لها الحضارة الغربية وقلدها بعض البلدان الإسلامية.
أول دولة أخذت بهذا النظام هي الولايات المتحدة الأمريكية فلفظ (co-education)(التعليم المختلط) قد استعمل أول مرة سنة 1774م، وبقي الأمر مقصورا عليها ولم تأخذ به أي دولة إلا قبل خمسين سنة حيث أخذت به الدول الأوروبية ثم انتشر بعد ذلك إذ أخذت به معظم الدول.
أسباب انتشار التعليم المختلط:
1-
الثورة الصناعية:
لما قامت هذه الثورة في البلاد الأوروبية أجبرت المرأة على الخروج من بيتها لأن الحاجة أصبحت ماسة إلى أيد عاملة كثيرة لزيادة الإنتاج فنافست المرأة الرجال في معظم المجالات ولكنها ما لبثت أن وجدت نفسها قاصرة وعاجزة عن أداء وظيفتها بسبب جهلها وقلة تعليمها فاتجهت إلى التعليم والإرشاد لسد الخلل والنقص. ولما كانت الغاية من التعليم هي التأهيل للعمل في مجالات الرجال فليس هناك مانع من جلوسها في المدارس والمراكز التعليمية بجانب الرجال لسماع المحاضرات وتلقي الإرشادات في موضوع واحد من طريق واحد لأن عملهما في خارج بيتهما واحد.
2-
الاقتصاد:
لما كثر طالبوا التعليم وجدت الدولة نفسها مسؤولة أمام عد كبير من الرجال والنساء فكان من العسير عليها أن تقوم بإنشاء مدارس عديدة لكل جنس مستقلة فوجدت في التعليم المختلط بغيتها لأنه يخفف عنها العبء الثقيل ويعفيها من مصروفات باهظة فشجعها التعليم المختلط وأخذت به وساعدها على ذلك ظروف وأوضاع كانت منتشرة في ذلك العصر من أحلام الحضارة الغربية التي هيأت لهم أن يجلس الشاب والشابات على كرسي واحد جنبا إلى جنب.
ومع توفر هذه المدارس فإننا نجد أن الطبقات الراقية والغنية لم تسمح لأبنائها بالذهاب إلى هذه المدارس المختلطة بل كانوا يرسلونهم إلى المدارس الخاصة التي لم تأخذ بالتعليم المختلط كما يقول صاحب encyclopedia of social science كان أشراف الناس في البيئة لا يشجعون هذا التعليم المختلط ولا يرسلون أولادهم إلى هذه المدارس المختلطة.
يقول الكاتب الفرنسي ميئر meyer في كتابه (إرتفاع التعليم في القرن العشرين) : "إن أكثر الناس ينفرون من هذا التعليم النظام الجديد الذي لا يميز بين الرجال والنساء فيكثر الفسق والفجور" وعندنا مثال من الدولة الروسية التي أخذت بالتعليم المختلط بعد الثورة الاشتراكية 1920-1943م ولم يمض عليها ربع قرن حتى ألغته ونجد الدول الأوروبية كانت على وشك منع التعليم المختلط في سنة 1943م من كثرة الفواحش والمنكرات التي نتجت عنه.
نتائج هذا التعليم المختلط:
لقد انتشر الفسق والفجور بسبب هذا التعليم المختلط لأنه يهيئ للجنسين اللقاء والمشاهدات وهذا اللقاء يجرهم إلى الفواحش والمنكرات، ومن المعلوم أن الأعمار التعليمية هي أهم أعمار الإنسان فيها يعين اتجاه الحياة، ويقرر الطريق إلى الخير أو الشر، والطلاب والطلبات غالبا يمشون وراء شهواتهم.. فخرج جبل جديد لا يقيم للأخلاق أدنى وزن وقد ساعدهم على ذلك في خارج الدراسة المجتمع المختل فهناك الأفلام الرديئة والكتب الماجنة والأندية المختلطة وبيوت الرقص ومشارب الخمر باسم الثقافة وغير ذلك من مراكز الرذيلة.
فيا أيها الإخوة والأخوات هنا أمثال وحقائق نسوق بعضها إليكم بأقلام كتابهم..
يقول الدكتور هوبرت هرس كوز: "إن الطالبات اللواتي يمارسن الزنا قبل التزوج بلغت نسبتهن ثمانين في المئة".
يقول ونستائن: "إن نسبة الزانيات في المدارس المختلطة أعلى من نسبتها في الفتيات الجاهلات".
وفي الإحصاء له في مدرسة (ورجنيا) بلغت نسبة الزانيات من الطالبات خمسا وسبعين إلى ثمانين في المئة.
يقول طلاب جامعة ميجيكن: "إن الفتيات العفيفات في جامعتهم لا يتجاوزون عشرين في المئة".
في جامعة سراكوز تبين أنّ هناك 400 فتاة من أصل ستة ألاف حوامل بالزنا، وفي إحصاء جرى في إحدى المدارس المختلطة تبين أن 20% فقط يردن الزواج بالطرق المعروفة، وأن 20% يمارسن الزنا ويحتفظن بالأولاد، وأن 60% يمارسن الزنا ويتناولن حبوب منع الحمل.
ومع هذه النتائج المحزنة نجد البنات في هذه الجامعات لا ينفرن من الفواحش والمنكرات بل يفتخرن بذلك كما تقول إحدى الطالبات: "إني عقدت عيد الزنا السنوي قريبا".
تقول الدكتورة ماركريت ميد: "كانت الكليات والجامعات قلعة للبنات العفيفات والآن صارت مراكز للفواحش والمنكرات وفحص الأزواج".
أيها الإخوة والأخوات: ندعو أصحاب الفكر والعقل إلى التأمل في هذه النتائج الفاحشة في البلاد الأوروبية والأمريكية، والتي يستصرخ منها بعض دولها، ويحاول منع التعليم المختلط طلبا للخلاص منها، ولكن السيل قد بلغ الزبا فلم يجدوا لذلك سبيلا.
أجل إني أدعوا ذوي العقول والضمائر إلى التفكير في هذه الوقائع الرهيبة فعسى أن يعتبروا فيحولوا بين أمتهم وأمثالها.. والعاقل من اعتبر بمن سبقه ولم يجعل نفسه عبرة لمن بعده.
مع الصحافة
حاجز ما بين الطريقين
إعداد جلال الدين مراد
هذا عنوان الكلمة التي افتتح بها الدكتور محمد أديب صالح رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام - السورية الصادرة في جمادى الآخرة 1388 أيلول 1968م وقد جاء فيها:
.. وهكذا جاء محمد رسول الله ليصوغ بالإسلام إنسان هذه الأرض من جديد وبإعلانه الواضح أبان فارق ما بين طريق الخير وطريق الشر وأقام حاجزاً بينهما على أمثل وجه كل ذلك حرصاً عليهم كيما تسلم لهم العاقبة ويغنموا حسن المصير في الدنيا والآخرة. وإذا كان الأمر كذلك فإن الأمانة تقتضينا.. أن نفتش في أنفسنا عن عوامل الهزيمة الداخلية التي تعتري الكثير، إن هذا الانهزام في أعماق النفس أمر خطير جدًا وأخطر منه ما يقوم به بعض الناس في محاولات لستر هذا الانهزام بصورة لا مجال لتعددها وأساليب لا تخفى على ذي لب. إن عنواناً عريضا تمليه الوقائع وهو أنه كثيرا ما تكون وعورة الطريق امتحانا لقدرة السالكين والسائرين وفي خضم الحركة التي يثير غبارها الزمن وتعلو بدخانها طبيعة المرحلة، يضيع كثير من ضعفاء النفوس ماض حملوه بالعاطفة والقليل من الفكر وبين حاضر يبدو وكأنه يتسلح بقوة لا تجارى، وطاقات يصعب الوقوف أمام تيارها السريع.
وصفة هؤلاء الناس تحمل العلة التي من أجلها كانوا ضعفاء وبسببها شعروا بالهزيمة أمام الطارئ الجديد، وما تزودوا به من قليل الفكر والثقافة، وهذا الذي نتحدث عنه ونصف من شأنه ظاهرة مرضية نراها في بعض أنحاء من جسم هذه الأمة التي استهانت بمصدر الضياء وينبوع القوة فانحدر بها خط الزمن وأصبحت تعاني في كل ميدان من الميادين ميدان الفكر وغيره من الميادين.
لقد أسلم محمد صلى الله عليه وسلم الراية حين أسلمها ولم يدر بخلد واحد من رجاله يومذاك أن الأمر يحده الحوار النظري في قضايا مطروحة يراد لها أن تأخذ طريقها من هنا أو هناك.. ولكن الجميع كانوا يدركون أن الصياغة التي صاغهم محمد صلى الله عليه وسلم عليها، هي سلاح المواجهة لتحمل الأعباء في تقدير كامل للمسؤوليات حق قدرها وإعطاء كل شيء قيمته في ضوء مقاييس الدعوة التي عاهدوا عليها رسول الله وبايعوه من أجلها على النصرة والمنعة والبذل الكبير.
.. وإذا كان الإسلام أقوى من تحديات الزمن وأوسع من سلطان الحدود والقيود، إن السعداء حقا هم أولئك الذين ينقضون عن كواهلهم غبار الدعة وتتجافى جنوبهم عن الراحة وإيثار العافية في ظل الغرض القريب، وبذلك يشرفون بأن يكونوا على خط الريادة التي رسم معالمها النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وقد ضمن لهم القرآن خير عاقبة وأكرم مصير {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} .
إنّ دولاب الزمن لا يقف والحياة لا تنتظر متخاذلا ولا تقبل عذر متخلف ووقود الحركة التي تسربل ثوبها المسلمون الأولون قلب يسعى وفكر يعمل وتضحيات تبذل بغير حساب.. ومن هنا كان لمداد العالم وزنه في بناء الكيان الحقيقي لهذه الأمة، وكان لدم الشهيد قدرة في الحفاظ على وجودها.. فالعالم حين يعطي مخلصا واعيا، فذلك برهان السلامة في العقيدة والاستقامة على الطريق.. والمجاهد حين يبذل دمه خالصا في سبيل الله فذلك برهان الوفاء وصدق ما عاهد الله عليه.. وماذا أنت قائل في أمة تبني وجودها بمداد العلماء وتحرس هذا الوجود بدم الشهيد
…
مداد العالم ودم الشهيد ذاك يرسم معالم الفكر وهذا يحرس تلك العالم.. ويهب كلمة العالم الحياة.. ولئن كان لمداد العالم من الفضل والمنزلة بحيث يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء فيرجع الأول على الثاني، إن من كرامة الله لهذه الأمة ما تجده - لو رجعت البصر - إن في القافلة المؤمنة رجالاً تجتمع لهم هذه إلى تلك، فهم علماء وشهداء في وقت معاً. وتلك منزلة أجدر بها أن تنقطع دونها الأعناق وأن تهفو لعظمتها القلوب، إنها الهدية الغالية من الكريم المنان سبحانه والهدية الغالية لا تكون من ملك الملوك جل جلاله إلا لمن كانوا أحق بها وأهلها، وهو المتفضل على كل حال.
إن كلمات هؤلاء الناس تحكي وقطرات دمهم تحكي والحركة دائبة مستمرة لأنها تنسمت بالدم معنى الحياة، والعالم من هذا القبيل فكره مفتح النوافد، ذو سلطان وتأثير، إنه يغزو العقل والقلب في وقت واحد فأنت حين تقرأ لا تقرأ كلمة ميتة، هي شكل هندسي صفه الحبر على الورق ولكنك تقرأ الحركة والحياة لأن استشهاد في سبيل الله أعطى كلماته وجودها، ووهبها حياتها فهي غاز فاتح يغد السير ويقطع دونما قعقعة ولا جلبة.. ولئن فاتك من هذه الكلمات المسطرة بالمداد شيء فلن يفوتك شيء من الوجه الآخر..
إن استشهاد العالم مرحلة فاعلة تعمل عليها في حياة الأمة وواحدة من تلك الصور التي تضيء جنباتها الطويلة، فلنذكر - وأبوابنا تدقها مطارق الغدر والخيانة والاعتداء صباح المساء - الكلمة المضخمة بالدم، ولنذكر الحياة التي تبدأ بالكلمة على القرطاس وتنتهي بلحظات يطل منها صاحبها العالم الباقي، وهو يتأرجح في الهواء هازئا بهذا العالم الفاني وما فيه من مغريات ومن ترغيب وترهيب
…
إن أفاقا ربانية رحبة يستمع بها الشهيد تتضاءل دونها كل المقومات في هذا الوجود
…
والعالم الشهيد على هذه الأرض برهان صدق هذه الدعوة وحجة الله على عباده ومثل رائع في قافلة الإيمان التي تني تتابع سيرها مهما تعاظمت الصعوبات وتفاقمت عقبات الطريق، ذلكم حاجز ما بين الطريقين
…
إيمان راسخ وعمل دائب ووعي ينفي الخرافة وخبث الطارئ الدخيل
…
ثم قدرة على الصمود وسقيا للطريق بالدم في وقت تعز فيه التضحيات ويكثر أشباه الرجال..
بناء الإنسان أفضل أم بناء العمارات
كان هذا عنوانا لافتتاحية مجلة البعث الإسلامي الهندية الصادرة في غرة رجب 1388 لأستاذ محمد الحسني وقد جاء فيها:
من المحن والأزمات التي أبتلي بها الشرق شغفه وهيامه بالبنانات الحديثة والمعاهد العلمية الفخمة التي تشبه الفنادق والبنوك في ضخامتها وارتفاعها وأناقتها وتأثيثها، وشاع استعمال أمثال هذا الجمل:"إن هذه البناية أكبر بناية حديثة في الشرق الأوسط، وأن هذا الصالون أو هذا المدرج أو هذا المتحف الأول من نوعه في المنطقة بأسرها"
…
وقد سموا هذا البناء الحجري أو البناء الظاهري بناء الوطن بناء الجيل بناء الحضارة بناء الثقافة إلى آخر هذه التعبيرات البراقة التي كثر استعمالها في الوقت الحاضر
…
وقد طغى (آخر موضة) ، و (آخر طراز) على جميع الحقائق، وأصبح (الأحدث) "و (الآخر) المقياس الوحيد للنهضة والرقي والبراعة والنبوغ ولو كان هذا (الأحدث) أحدث الرقصات العارية، ولو كان هذا (الآخر) آخر الموضات الكريهة والطراز القذر، وقد عممت هذه الظاهرة في أكثر البلاد الإسلامية ولو كان نصيب البلاد العربية فيها نصيب الأسد..وقوي هذا الاتجاه المعماري على حساب الأصالة في العلوم والتعمق في الدراسة والرسوخ في العقيدة والاضطلاع بالدعوة، وأصبحت البنايات تستهلك قوى الأمة وتستنفد مجهودها وطاقاتها ومكاسبها وأموالها وعقولها، لا تستطيع عنها حولا ولا تبغي بها بدلا لأنها آخر (طراز) وآخر ما قدمه الفن المعماري الحديث
…
والأولى من نوعها في أسيا وذلك مبلغهم
…
من العلم
…
هذا في محيط البنايات..
أما في محيط الإنسان فلم نسمع في عرض العالم الإسلامي كله من يقول في نفس التعبير وفي نفس القوة والاعتزاز:هذا أكبر عالم في الشرق، وهذا أكبر طبيب في أسيا، وهذا أكبر مهندس في العالم الإسلامي، وهذا أكبر كيميائي في المنطقة بأسرها، وهذا أكبر ضابط وأعلمهم بفنون الحرب في البلاد العربية كلها..
ولم نسمع من يقول: هذا ابن تيمية هذا الزمان في العلم والبرهان، أو صلاح الدين في هذا العهد في المجد والسلطان
…
وقد سمعنا أمثال عن الدعاوى الفارغة بعض الأحيان، وقيل لنا: إن القوة الفلانية أكبر قوة جوية ضاربة في الشرق الأوسط، وإن أسطول الدولة الفلانية أقوى أسطول في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط إلى أمثال هذا الهراء الذي يعرفه الجميع، ولكنها كانت دعاوى فارغة كاذبة ظهر بطلانها في حرب 5 حزيران وكان كما قال الشاعر وكأنه يصف الغوغائيين الاشتراكيين:
جواد تحت رجلك أم حمار؟
ستعرف حين ينكشف الغبار
إن كثرة البنايات والفنادق يا قادة العالم الإسلامي- لا تنجب الرجال ولا تنتج الكفاءة والمقدرة والنبوغ والبراعة والعلم والتقوى، إنها بالعكس تلهي الأمة عن المكرمات والبطولات، أنها تستنفد قواها وتشغل بالها وتصرفها عن غايتها وأهدافها العالية وتجعلها في قفص ذهبي تجد فيه كل ما يحتاج إليه جسدها من عيش رغيد، وتفقد كل ما يحن إليه طائر الروح من حرية للخروج وأجواء فسيحة للطيران تزكي جوهرها الأصيل وترخي لها العنان.
إن الإنسان لا يحتاج إلى بناية ولا يحتاج إلى دعاية، بل إنه يحتاج فقط إلى تصحيح الاتجاه وتنوير الوعي وتنمية الشعور والعناية بالأولى والأهم والتركيز على النواحي المهمة الحساسة، وتقوية الجانب الذي تضاءل واضمحل وضعف بدلا من تغذية الجانب الذي تسمن وتضخم وطغى وبغى على الجانب الضعيف..
إن مثلنا في ذلك كمثل رجل نزل عند ضيف اشتد به الجوع فاعتنى بغرفته كل العناية وأثثها تأثيثا جميلا وحشد له كل ما يحتاج إليه من كماليات، ولكنه لم يقدم إليه وجبة طعام أو كأسا من ماء..
لقد عنينا كثيرا بالبنايات فلنتجه الآن إلى الإنسان..
ما هو دور العلماء؟
تحت هذا العنوان نشرت صحيفة الدعوة السعودية مقالة للأستاذ زيد بن فياض يقول فيها:
وليس قصدي تعداد مزايا العلم وفضل أهله فذلك معلوم وحديثه يطول ولكني أتساءل عن دور العلماء وأعني علماء الإسلام في سائر الأقطار وهل قاموا بواجبهم؟ وهل أتيحت لهم الفرصة لكي يؤدوا الأمانة العظيمة والمسئولية الخطيرة..؟ وإذا كان هناك تقصير واضح فمن أين جاء وما مصدره وما هو سبيل إلى تذليل العقبات المانعة من أداء هذا الواجب العظيم؟ إنني أعلم بأن مقالا واحدا لن يفي بجوانب الموضوع ومتطلباته، وأن الأمر يحتاج إلى مناقشة جادة مستنيرة مبينة على البحث العميق والدارسة الوافية؛ لأن إغفال هذه الناحية الهامة يعود بالمصائب على الأمة الإسلامية في شتى ديارها.
وإذا تأملنا حالة العالم الإسلامي اليوم لا نكاد نسمع للعلماء إلا أصواتا خافته وقد تختلف درجة الإمكانيات لدى العلماء علما وثقافة وقدرة على القول وعجزا عنه إتاحة فرصة أو حرمانا منها
…
وعلى كل تقدير كان المرء لا يسعه إلا أن يشعر بأنه كان ينبغي أن يكون للعلماء دور أكبر وصوت أعلى ومكانة أسمى.
وأحسب أن من أسباب النكبات التي يعاني منها العالم الإسلامي اليوم وقبل اليوم إبعاد العلماء عن مجالاتهم وابتعادهم هم، وأن التصور الخاطئ الذي بحصر مسؤوليتهم في نواح محددة لا يجوز لهم أن يتخطوها كان من عوامل الضعف والتدهور في كيان العالم الإسلامي.
ونحن اليوم في حاجة إلى صوت جهير من قبل العلماء يصدع بالحق بلا مواربة، ويدعو إلى الله على بصيرة ويشارك في التوجيه مشاركة طليعية وفق ما يقتضيه الدين وتوجبه الشريعة السمحاء.
وإن مما يؤسف ما يؤسف له أن يقبع العلماء أو يراد لهم ذلك في زوايا النسيان، وفي بعض البلدان العربية والإسلامية يغفل العلماء فلا يكاد لهم ذكر في الصحافة والإذاعة
…
ولا ينالون من الإشادة والتقدير في وسائل الإعلام معشار ما يكال لأتفه المغنين من مديح وما تردده من إشادة بأدنى لاعب كورة
…
وهذه ظاهرة محزنة إن لم نقل إنه تخطيط ماكر
…
إن البلدان النصرانية مع ما انحدرت إليه من فوضى وانحطاط لم تصل إلى هذا الحضيض فما برحت تفاخر بعلماء الدين لديها وتحترم أراءهم.
نصيحة الماكرين
وتحت هذا العنوان نشرت مجلة التربية الإسلامية العراقية تعليقا للأستاذ معاذ عبد المجيد عن فرية خطيرة تحكيها أجهزة الإعلام البريطانية يقول فيه:
قالت إذاعة لندن يوم مساء 19 آب 1968 في برنامجها (الشئون العربية في الصحافة البريطانية) نقلا عن جريدة لندنية:-
"على العرب حينما يريدون التخلص من أثار النكسة أن يصلحوا أنفسهم، والإصلاح ينبغي أن يكون جذريا، والإصلاح الجذري لا يأتي إلاّ عن طريق تجريد العرب عن الإسلام، وعلمنتها كما فعل أتاتورك من قبل في تركيا، وهناك فئة وحيدة (....) تستطيع أن تفعل ذلك".
استفيقوا يا عرب.. فالمستعمرون الكافرون يدعونكم إلى النجاة والإصلاح! ، ويجعلون لها سبلا تسلكونها
…
أنهم يدعونكم لتنبذوا عقيدتكم وراءكم ظهريا، إنهم عرفوها قوة لو صبت على الصخرة لانبجست منها الحياة، ووجدوا فيها حيوية لو سقيت بها الفيافي لانقلبت جنات عدن وحقولا خضراء، فإنهم ليعلمون علم اليقين أنكم لو نهجتم نهجا لكان كفيلا بأن تتهاوى الأفكار الباطلة إلى واد سحيق وينقلب الأبطال المستأسدون أقزاما يبعث بها الصبيان والولدان، ومن ثم بعد ذلك لا جبن ولا وجل ولا إسرائيل.
متى كان المستعمرون يا عرب يبتغون الإصلاح والتوفيق لهذه الأمة وهم يتباكون على مصيرها اليوم؟ بل مكر الليل ونصح الثعلب في ثياب الواعظين.. إنهم يريدون لهذه الأمة الفساد والذلة والمسكنة، والله يريد لها العزة والعظمة والفخار، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} .
يا عرب لم لا ننصح أنفسنا ونهتدي بملتنا ونكون أصحاب عزم وبأس كما كان أجدادنا المسلمون! ..لقد أعلم أولئك الصليبيون أنه لا يمكن مواجهة هذه الأمة بعقيدتها.. وما من حرب خاضتها هذه الأمة تحت لواء عقيدتها إلاّ وكان النصر بين يديها والمجد فوق مفرقيها، وحينما تحيد هذه الأمة عن نهجها المرسوم وتخط بيمينها لنفسها مناهج العبيد فإنها ستشقى وتنحدر إلى سفوح هابطة، وتتداعي عليها الأمم كما تتداعي الأكلة على قصعتها، فلا عز ولا صعود بل ذلة وضيعة وارتكاسة. وإلى أولئك الصليبين في لندن وإلى أولئك المخدوعين من بني ملتنا نسوق هذه الحادثة:
"بعد نكسة حزيران ذهب وفد عسكري مصري للتباحث مع زعماء السوفيت حول تزويد مصر ما افتقدته من أسلحة ومعدات حربية أثناء الحرب
…
والتقى الوفد بعدد من العسكريين السوفيت ومن بينهم وزير الدفاع مالينوفسكي (قبل موته) قال الوفد المصري بحرف الواحد:
"إننا لم نستطع أن نستعمل الأسلحة التي اشتريناها منكم لأنها كانت جديدة علينا وبهذا خسرنا المعركة".
فما كان جواب مالينوفسكي إلاّ أن رد عليهم:
"لقد انتصرا أجدادكم على الفرس والروم بسيوف صادئة، وقد علمتني التجارب والأحداث وأنا في هذا المنصب بأن لا شيء يساوي القوة المعنوية في الأمة"
…
رسائل لم يحملها البريد
للشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بالجامعة
زميلي العزيز سيبويه:
لأشد ما يحزنني تباعد الزمن بيننا، فتعيش أنت في القرن الثاني وأعيش أنا في القرن الرابع عشر. كم تمنيت أن أتقدم هذه القرون الطويلة فآخذ النحو كما أخذته أنت مشافهة ومساءلة لا كما أخذته أنا حفظا للمتون، وقراءة في الشروح والحواشي، ولكنها مشيئة الله حالت بيننا وبين هذه الأماني، فعشت أنت في عصر أقبل الناس فيه على النحو وعشت أنا في عصر ولّوا عنه مدبرين.
شتان ما حالي وحالك يا أبا بشر..!! لقد أنفقت عمرك تبني النحو وترفع منه القواعد، وزملاؤك من حولك يشدّون عضدك، ويعقدون على أمرك الخناصر، فاستوى لك بناء يطاول أعنان السماء، ويسدّ وجه الأفق.
أما أنا فأنفق الوقت في إصلاح ألسنة تقول فلا تعرب، وتنطق فلا تبين، وأسمع من هنا وهناك صيحات تنادي بإلغاء هذا النحو الذي أطعمته شبابك الوريق، وأسقيته من حياتك كأسا دهاقا..
نعم ينادون بإلغاء هذا النحو ويزعمون أنه جهدٌ بلا طائل وسرى بلا صبح، ويقولون: إن العصر عصر سرعة، وأهل العلم في حاجة إلى الجهد والوقت، فلماذا نضيّعهما في معرفة المرفوع والمنصوب والمجرور؟ وبيان المعرب والمبني، والفرق بين الحال التمييز، وكم وجهاً من الإعراب يجوز في هذا التركيب؟ وكم وجهاً من الإعراب يجوز في تلك الكلمة؟ يقولون -يا أبا بشر-: لماذا لا تستريح من هذا العناء كله بتسكين أواخر الكلمات؟ حقاً إنه لخبر محزن أسوقه إليك، ولكني لم أقصد الإساءة، وأنت تعلم أنّ مصابنا في هذا سواء..
يزعم هؤلاء المنادون بتسكين أواخر الكلمات أنهم يريدون تيسير هذه اللغة لطالبيها، وكسر أشواكها لجانيها، وتقريب تعليمها إلى الأجانب..!! وتضييق الشقة بين لغة الكتابة ولغة المحادثة، ومسايرة ركب اللغات الحديثة التي لا تعرف الحركات في أواخر الكلمات..
وهذا زَعْمٌ ظاهره سلم وبر، وباطنه قطيعةٌ بيننا وبين لغة القرآن، قطيعة بيننا وبين هذا التراث الضخم الذي جاءنا بهذه اللغة المتحركة الأواخر، والويل لنا ولهذه اللغة، إن استقام لهم هذا الدرب الذي يسلكون..
إنه لن يمضي جيل أو جيلان حتى يكون هذا القرآن عجمة في الآذان وحبسة في اللسان!! ويضيع معه هذا التراث العلمي والأدبي ضياعا ليس منه عوض.
وإلى جانب هذا الضياع لن يكون لهذه اللغة طواعية في التعبير وتلوين الجمل، وتغيير التركيب، وفق ما تتطلبه المعاني، وتقتضيه الأحوال، فهذه الحركات المتغيرة في أواخر الكلمات هي المعالم الهادية في كثير من الجمل إلى دقيق المعاني، ولطائف البلاغة.
أما الأوزان الشعرية وبحور أستاذك الخليل، فسلام عليها إلى يوم الدين، سلام على أنغامها الحلوة، وجرسها الساحر، وموسيقاها التي تهز المشاعر.
معذرة يا أبا بشر، لقد نقلت لك شيئاً من لغو هذا الناس في هذه الدنيا وأنت في دار لا لغو فيها ولا تأثيم، ولكن ماذا نفعل وقد أصابتنا المصائب من كل جانب، وبلغت بنا المدى الذي ينبغي أن يقلق له الأحياء والأموات جميعا.
كنت أودّ أن تكون رسالة - وهي أول رسالة أكتبها إليك- أن تكون رسالة مودة في الله، وصلة رحم في النحو، وقربى زمالة في التعليم، ولكن في نفسي تساؤلات شتى عن حياتك تلحّ عليّ فلا أستطيع دفعا لهذا الإلحاح، وتجمح بي فلا أستطيع كبحا لهذا الجماح.
لقد زرت دنيانا هذه أول مرة في القرية الكبيرة المسماة بالبيضاء من مقاطعة شيراز في بلاد الفارس، ولكن التاريخ لم يحفظ موعد هذه الزيارة، وقلما كان الناس في القديم يحفظون.
غير أنهم حفظوا أنّ أمّك كانت حفيةً بهذا اللقاء، وأنها كانت ترقصك طفلاً صغيراً وهي تقول:"سيبويه سيبويه، سيبويه سيبويه".
ولعل أمك لم تجد ألفاظا ترقصك بها غير هذه الألفاظ، فهي أخفّ نطقاً على اللسان، وأعذب جرسا في الآذان، إنها أم فارسية كما كان أبوك فلا عجب أن تختار هذه الألفاظ الفارسية، لقد وجدت فيها رائحة التفاح، فأخذت ترقصك بها وتناديك.. وكل الأمهات يجدن في أولادهن رائحة طيبة، ويخترن كلمات وموسيقى عذبة يرقصن بها أولادهن، غير أن هذا اللفظ الذي اختارته أمك سجل عليك مدى التاريخ، وتغلّب على عمرو وهو اسمك الذي اختاره لك أبوك عثمان بن قنبر.
لقد أراد بك الأهل خيرا حين بعثوا بك مع الصبيان إلى مسجد القرية تتعلم الدين، ولغة الإسلام والحكام والحياة، وأغلب الظن أنه لم يدر في خلدهم ولا خلد أهل الأرض جميعا أنك على الدرب إلى ذروة العلم والمجد.
أيّ شيء بعد هذا حملك على الترحل عن قريتك الخصيبة الممرعة تاركا فيها ملاعب الصبا؟! ومدارج الطفولة، وأتراب اللهو، وأنس الأهل ولقاء ذوي القربى.
أيّ شيء لك في البصرة فتشد إليها الرحال؟ أتوسّم فيك معلم القرية مخايل النبوغ فزيّن لك الذهاب إلى البصرة؟! أكان بينك وبين زملائك الغيرة والمنافسة؟ فأنت تطلب طريق التفوق أم أنك خلقت طموحاً ولم يعد في القرية متسع لهذا الطموح؟!
كيف طابت نفس أمك بهذا الفراق وأنت لا تزال حدثا لين العود لم تبلغ سن الرشد بعد؟! أكان أبوك لايزال يعيش في دنياك؟ فوقف إلى جانبك وأرسل معك أخاك يعينك، أكانت الأسرة على حظ وافر من الثراء والمال؟ فهي ترفدك من حين إلى حين بما تشاء من مال ورزق.
لقد مضت القرون الطويلة دون أن تنقل إلينا كيف استقامت الحياة لك في البصرة وأنت في هذه السن المبكرة؟ ها أنت ذا في مسجد البصرة تطوف الحلقات؛ حلقات الحديث وحلقات الفقه! وحلقات اللغة والنحو والأدب، لماذا اخترت حلقة الحديث من بين هذه الحلقات جميعا؟ ألأنّ حلقة الحديث كانت أغنى حلقة بالحاضرين وطلاب العلم؟ أم لأن علماء الحديث كانوا أعظم شأنا وأرفع منزلة؟ أم أنّ حبك الرسول والرواية عنه دفعاك إلى هذا الأمر؟ أم أن معلم القرية قد اختار هذا الطريق؟!
ها أنت ذا تجلس إلى المحدّث المشهور حماد بن سلمة، تُرى ما الذي أغراك بمجلسه؟ وسلكك في حلقته، أشهرة له طارت في الحديث؟ أمنصب الإفتاء الذي كان له في البصرة؟ أشخصيته القوية وهو يحدث الناس من حوله؟ أكثرة المحيطين به يستمعون إلى ما يقول؟ ومهما يكن من أمر فقد أردت شيئا، وأراد الله شيئا آخر.
ها أنذا أراك تسرع إلى حلقة حماد بن سلمة في كل يوم، حريصا على أن تأخذ المكان في الصف الأول، فذلك أدنى إلى أن تسمع إذا أصغيت، وأدنى إلى أن تجاب إذا ما سألت، ثم يجيء يوم ما أظنك نسيته طوال حياتك، ولم ينسه التاريخ رغم هذه القرون الطويلة التي تتابعت بعده، لا أدري ما الذي أخرّك هذا اليوم فجلست على مبعدة من حماد؟ فلما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد من أصحابي إلاّ وأستطيع أن آخذ عليه ليس أبو الدرداء"، فصاح بك بن حماد:"لحنت يا سيبويه، ليس أبا الدرداء"، ولا شك أنه رفع صوته بهذا النكير عليك! وأنه رفعه ليسمعك ويسمع من حولك، فحماد هذا هو الذي يقول:"مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار علية مخلاة ولا شعير فيها"؟!.
وسواء أفي هذا الحديث أخطأت أم في حديث آخر، وسواء أفي هذا الاستثناء عثرت أم في لفظة أخرى، فقد سمعت من حماد بن سلمة ما ملأ عليك جوانب نفسك، وجوانب المسجد، ما أكثر الذين عثروا مثل هذا العثار!! وما أكثر الذين تلقّوا مثل هذا الاستنكار! ثم انقضى الأمر كأن لم تكن هناك أذن تسمع، أو قلب يعي، ولكنك لم تكن من هؤلاء يا سيبويه، لقد كنت ذا أنف حمي، وقلب ذكي، فكانت صيحة حماد بعيدة الصدى بالغة الإثارة، فلم تطرق من خجل، ولم تسكت عن حياء، وإنما قلت لحماد - وفي لهجتك الحزم، وفي نبرات صوتك العزم-:"لا جرم لأطلبنّ علماً لا تلحنني فيه أبدا"، وما أظنه قد طاب لك المجلس بعد هذا، وما أظنه قد طال، وإنما مضيت بعد هذه القولة المشهودة لطلبك، تنشد هذا العلم الذي لا يلحنك فيه حماد، ولا أحد غير حماد.
ما كانت بك الحاجة إلى أن تطوف بحلقات العلم في مسجد البصرة، فما أنت بغريب عن المسجد، وما أنت بغريب عن حلقاته، لقد عرفت من قبله حلقة عيسى بن عمر الثقفي، وعرفت مجالس الخليل بن أحمد، واستمعت إلى يونس بن حبيب، فلم تشتبه عليك السبل بعد صيحات حماد ولم يأخذك يأخذ الضعاف من تردد وحيرة وقلق إذا دهمتهم الأحداث، وفجأتهم الخطوب.
إنه ليخيل إليّ أنك لزمت الخليل بن أحمد بعد الفجر ووجه النهار وقبل الغروب، وعجت بمجالس يونس، كلما ألمّ الخليل ملمّ، أما شيخك الأول عيسى بن عمر فقد توفاه الله قبل أن تأخذ عنه الكثير.
حقّاً إن لقاءك بالخليل كان نعمة من عند الله مباركة، نعمة عليك وعليه وعلى اللغة، فقد نشرت للخليل علماً ما كان ينشر لولاك، وعلّمك الخليل علماً ما كنت لتصل إليه لولاه، وأفادت اللغة هذه القمة الذاهبة في السماء!! لم يبلغها كتاب في النحو على مدى العصور الطويلة التي تتابعت بعد، نعم لقد كان لقاء تعليميا موفّقا، وماذا يريد الطالب من أستاذه أكثر من أن يكون ضليعا في العلم، عميقا في الفهم، قادر على ابتكار الجديد المفيد، ذا خلق عظيم، لا يبتغي بعلمه الدنيا ولو قرعت عليه الأبواب، وهل كان أستاذك غير هذا يا سيبويه؟
وماذا يريد الأستاذ من تلميذه أكثر من أن يكون نهوم علم لا يشبع، وطلعة لا يقنع، وشابا جلدا لا يمل ولا يخور، وحفّاظا لا يضيع، وتقيا لا يغلبه الهوى، منظما لا يخلط الأمور، دقيقا يسبر الأغوار ولا يقف عند الظواهر، وهل كنت غير هذا يا سيبويه؟! أو ليس لهذا كله كان الخليل يقول كلما رآك قادماً عليه:"أهلا بزائر لا يملّ"ثم لا يقولها لأحد غيرك.
وتتعاقب الأيام والأعوام، ويأتي الخليل ما أتى على الناس من قبل، وتعود إلى البيت حزينا أسفا، فقد واراه الثرى، وسويت من فوقه الأرض ثم تسلوا مع الأيام وتكفكف قطرات من الدمع الباقية في المآقي، ولكنك تشعر بالفراغ يملأ المسجد ويملأ المنزل، وليس لدى يونس بن حبيب ما يشبع نهمك ويروي غلتك، إذن فلا بأس أن تجلس في مكان أستاذك الخليل تقول للناس ما كان يقول.
أستاذي العظيم:
أعدت إلى المنزل ذات ليلة من صلاة العشاء في مسجد البصرة فضاقت بك الغرفة التي وسعتك سنوات طويلات؟ ثم لم تجد شهوة إلى طعام ولا رغبة في الدراسة، فأويت إلى الفراش لتجد الراحة ولكن الفراش نبا بجنبيك، وأقضت أحاديث النفس عليك المضاجع بماذا حدثتك النفس يا ترى؟! وكيف استلبت النوم من عينيك؟؟ أكانت تقول لك: ها أنت ذا قد ملأت الفراغ المسجد، فمن لهذا الفراغ في البيت، هذا الطعام وترتيب أشياء هذه الغرفة يأكلان الوقت أكلاً لماً.
وها هي ذي الكهولة قد وفدت عليك والكهولة عمرها قصير وليس بعد الخريف إلاّ الشتاء، ألام تضل بلا زوجة تخفف عنك العناء كله؟؟ وتكون سكنا إذا أقبل الليل، وعوناً على العيش إذا أقبل النهار، هذه الجذاذات لا تزال مبعثرة في زوايا الغرفة، ألام تظل ركاما لا ينفع الناس؟!
وتغدو إلى المسجد ذات صباح، وقد أشرق وجهك بالبشر، وبرقت عيناك بالفرح، وعلا شفتيك ابتسام الرضا، ويبارك الطلاب زواجك، وتعود إلى حياة حلقتك إلى ما كان عليه من قبل أو أشد.
ولكن الحياة في البيت لم تمض طويلا عل النهج الذي قدرت، فقد دبّت العداوة والبغضاء بين الجارية التي تزوجتها وبين هذه الكتب التي ملأت عليك وعليها الغرفة، هي تريدك أن تكون خالصا لها، وأنت تريد أن تكون خالصاً لهذه الكتب.
أتُراك أنصفتها يا سيبويه؟! وأحسنت عشرتها كما كنت تحسن عشرة الكتب أم تُراك ملت مع كتبك كل الميل؟! وتركتها تحترق في نار الغيرة.
أيّ داع دعاك إلى السوق لتعود إلى البيت فتجد سماءه دخاناً تضيئه ألسنة اللهب؟! لم تعد هذه الزوجة الصغيرة الحمقاء تطيق صبرا، فألقت بين هذه الكتب والجذاذت جذوة من نار، وتركتها تحور رمادا، ليتني كنت معك يا سيبويه فأنقذ الشيء الكثير من إملاءات الخليل، وليتني كنت معك فأسعفك وقد وقعت مغشيا عليك.
سراح جميل، وعود إلى الحياة الأولى، وسهر الليل، ودأب في النهار، ويستوي هذا الكتاب الذي أنقذت فيه ما كان طي الرماد وتركته للناس بلا تسمية فغلب عليه اسم (الكتاب) .
لماذا ضاقت بك الحياة في البصرة واعتزمت الذهاب إلى بغداد؟! أمللت التدريس وحياة المدرسين؟! ألم يعد في البصرة أمثال الخليل تفيد منه؟ أضاقت بك سبل العيش وصفرت يداك من المال؟! ألم تعد البصرة تتسع لشهرتك وطموحك؟ أم كان الأمر كما قال أبو تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
لديباجتيه فاغترب تجدد
يخيّل إليّ أن طموح كان أبرز هذه الأشياء جميعا.
ها أنت ذا في بغداد، تفد على يحيي بن خالد بن برمك، وتطلب إليه أن يجمع بينك وبين الكسائي، ويحاول أن يثنيك وهو يقول:"لا تفعل فإنه شيخ مدينة السلام وقارئها، ومؤدب ولد أمير المؤمنين، وكلٌّ من في المصر له أو عليه"، فتأبى ذلك.
لم يكن سهلا على الكسائي أن تنتزع منه ثقة الخليفة الرشيدة، وهيهات أن تطيب نفسه بالتخلي عن زعامة النحو في عاصمة الخلافة، ثم كيف تطوي هذه الشهرة التي طارت له في كل مكان؟ أرأيت كيف احتال لنفسه فأرسل إليك في يوم مشهود أصحابه وتلاميذه؟ يسألونك أشتاتا من الأسئلة ويكثرون، ليلقوا عليك الوهن ويجلبوا على نفسك الهم.
ثم يأتي بعد قليل، ويلقي إليك المسألة الزنبورية ويقول:"كيف تقول: قد كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي؟! أو فإذا هو إياها"، فتجيبه أنت:"هو هي ولا يجوز النصب"، فيقول لك الكسائي:"لحنت، العرب ترفع ذلك وتنصبه"، ويشتد الجدال بينكما، وينقذ الموقف بعض الحاضرين محكما أعراب الحطمة الذين حضروا بباب الخليفة، وهم أعراب تركوا باديتهم منذ زمن ونزلوا ببغداد فأصاب فصاحتهم بعض الوهن، وقد كانوا يعرفون الكسائي وأين هو من الخليفة، وسواء أكانوا جميعا عليك أم كان بعضهم معك، فقد انتهى مجلس الخليفة أو مجلس يحي بن خالد على أنك المهزوم، وما أنت بالمهزوم.
ولك في القرآن الكريم أعظم حجة فقد اطّرد فيه الرفع على الابتداء والخبر في مثل هذا الأسلوب: {فَإِذَا} ، {فَإِذَا} ، ولكن الناس زلفى إلى من له صلة بالحكام.
لقد ضاقت بك الحياة في بغداد ولكن لماذا لم تعد إلى البصرة يا سيبويه؟ أستحييت من أهلها؟؟ أم تُراك فارقتها منذ البداية على ألا تعود؟! واكتفيت إذ بلغت بك السفينة الشاطيء أن وجهت في طلب تلميذك الأخفش وخليفتك على حلقة النحو في البصرة، لتخبره الخبر ثم تمضي لطيتك.
على أيّ شاطئ رست بك السفينة يا أبا بشر؟! وإلى أين تقاذفتك الدروب؟ لقد آن للغريب النازح أن يؤوب، ولهذا المسافر اللاغب أن ينيب، ولهذه الموجة القلقة أن تستقر على شاطيء، لم يذكر التاريخ على التحقيق أين ذهبت وعلى أي شاطئ رسوت.
ولكن الظن كل الظن أن القرية البيضاء التي احتضنت طفولتك عادت تعانق كهولتك.
لقد انتهت مهمتك في الحياة حين انتهيت من تأليف الكتاب، وكأنما تبحث عن الموت فوق ثراها الذي أطعمك وأسقاك، وبين أحضان أهلك وذويك غير أن الموت كان يقول:"صبراً صبراً قليلاً يا سيبويه..".
ويمر عام أو عامان أو أقل من ذلك أو أكثر فيأتيك داع من دواعي الموت، وأنت لم تتجاوز الأربعين إلاّ قليلا، فيشتد عليك الذرب، وتلقي بنفسك في أحضان أخيك، وتئن بهذه الكلمات مع أنفاسك الأخيرة:
يؤمل دنيا لتبقى له
فمات المؤمّل قبل الأمل
حثيثا يروي أصول النخيل
فعاش الفسيل ومات الرجل
أيّ أمل هذا الذي مت دونه، وأيّ فسيل رويته ولم تأكل جناه؟ يكفيك أملا هذا الكتاب الذي تركته، وإذا كنت لم تأكل جناه في الدنيا، فما عند الله خير وأبقى.
قلة قليلة من أناسي هذا العالم، تركت وراءها آثاراً ظلت تحتفظ بمستواها الكفء، طيلة اثني عشر قرناً، وسيظل كتابك بإذن الله يحتفظ بهذا المستوى ما بقيت الأرض أرضاً والسماء سماء.
أوراء هذا أمل لآمل يا أبا بشر؟! نم هنيئا..
أخبار الجامعة
إعداد قسم التحرير
وصل للمدينة المنورة فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي (الأمين العام للجامعة) قادماً من دمشق بعد فترة قضاها هناك متنقلا بين الأردن والشام ولبنان، وذلك للتعاقد مع مدرسين للعمل في الجامعة الإسلامية. وقد وصل معظمهم وباشروا عملهم بكليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين.
عاد من المغرب العربي الشقيق فضيلة الشيخ أبو بكر جابر الجزائري المدرس بكلية الشريعة والدعوة بالجامعة الإسلامية، بعد أن قضى قرابة ثلاثة أشهر متنقلا بين الرباط والجزائر وتونس وطرابلس للدعوة والوعظ والإرشاد. وقد باشر عمله كمدرس بكلية الشريعة والدعوة بالجامعة هذا ومما هو جدير بالذكر أن أهالي المغرب سبق أن طلبوا من الجامعة الإسلامية انتداب أحد مدرسيها للقيام بالدعوة والإرشاد هناك، وقد كتبت الجامعة بدورها لجلالة الملك فيصل بذلك فأصدر جلالته أمره بالموافقة على سفر فضيلة الشيخ أبي بكر، وقد قام فضيلته بالإضافة إلى الدعوة بالاتصال بكبار العلماء والمشايخ هناك، وزار أيضا جامعة الزيتونة بتونس، وجامعة القرويين بفاس، وذلك توثيقا الروابط بين البلدين والجامعتين، وقد صرح فضيلته بقوله:"إن الدعوة هناك صافت استحسانا من كافة الجامعات التي استمعت إلى المواعظ الدينية والتوجيهات الإسلامية".
قامت الجامعة الإسلامية بتسليم اللجنة الشعبية لإعانة أسر ومجاهدي وشهداء فلسطين المتبقي من تبرع موظفي الجامعة.
زار الجامعة الإسلامية صاحب زاده علي اختر، مدير عام وكالة الصحافة والأنباء الباكستانية العالمية وضيف وزارة الإعلام وقد كان يرافقه السيد محمد مسعود منيياوي مندوباً عن العلاقات العامة بوزارة الإعلام، وقد كان في استقبالهم فضيلة الأمين العام المساعد الشيخ عمر محمد وسكرتير نائب الرئيس الأستاذ عبد العزيز بن ناصر الباز وفضيلة الشيح عبد القادر شيبة الحمد وقد قدمت الجامعة للضيف بعضا من مطبوعاتها هدية منها.
تعاقدت الجامعة الإسلامية مع فضيلة الدكتور تقي الدين الهلالي للتدريس بها.. وقد وصل فضيلته وباشر عمله ابتداء من يوم السبت الموافق 6-7-1388هـ.
كما وصل أصحاب الفضيلة الدكتور محمد محمد بحيري من مصر والأساتذة محي الدين القضماني، إبراهيم السلقيني، مختار البزرة، عبد العزيز رباح، محمد أمين لطفي، وقد باشروا أعمالهم.
أقامت الجامعة الإسلامية مأدبة غداء فخمة تكريما للسيد أبو بكر سي مدير مكتب التعليم العربي بوزارة المعارف السنغالية بفندق التيسير بالمدينة. وقد حضر المأدبة السيد أحمد خادم البكي سكرتير السفارة السنغالية بجدة وفضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي وفضيلة الشيخ عمر محمد الأمين العام المساعد وبعض رؤساء الأقسام بالجامعة كما دعي إليها أيضا جميع الطلبة السنغاليين الذين يدرسون بالجامعة وبدار الحديث، وبعد تناول الغداء اجتمع فضيلة الشيخ بالضيف الكريم بصالة الفندق وقد تناول طرفان حديثهما شتى المواضيع الإسلامية والجدير بالذكر أن الضيف قد زار الجامعة الإسلامية قبل يومين وتفقد أقسامها واجتمع بالطلبة السنغاليين فيها وقد قدمت الجامعة له عددا من الكتب الدينية هدية رمزية منها ويذكر أن عدد الطلبة السنغاليين في الجامعة (18) طالبا..
سيتم قريبا تسليم المبنى الجديد لكلية الشريعة من مؤسسة بخيت للمقاولات.
تلقت الجامعة الإسلامية من متوسطة عمر بن عبد العزيز بالمدينة رسالة تتضمن تزويدهم ببعض الكتب الدينية القيمة وقد لبت الجامعة الإسلامية رغبتهم فبعث إليهم بمجموعة طيبة من الكتب والمطبوعات التي لديها.
من زوار الجامعة الإسلامية.
زار الجامعة الإسلامية كل من:
الشيخ محمد أطهر علي شيخ الجامعة الإعدادية بباكستان الشرقية.
الحاج محمد سعيد أكوسيجي من علماء إندونيسيا.
وقد تجول الجميع في أنحاء الجامعة كما قدمت لهم الجامعة في ختام زيارتهم بعض الكتب هدية منها.
بعد أن أصدر العدد الأول من مجلة الجامعة الإسلامية تلقت المجلة عددا كبيرا من رسائل والخطابات يثني فيها مرسلوها على المجلة ويباركون هذه الخطوة الموفقة كما يطلبون الاشتراك فيها، ونحن إذ نشكر لكل من كتب إلينا نحب أن نؤكد لقرائنا أننا مازلنا في أول طريق ونرجوه سبحانه مزيدا من التوفيق، وكنا نحب أن نثبت هنا بعض هذه الرسائل، ولكن لضيق المجال نكتفي بهذه الرسالة التي وصلتنا من الأخ فؤاد توفيق والتي يقول فيها:
"لقد كان لي شرف الاطلاع على العدد الأول من (مجلة الجامعة الإسلامية) جعلها الله منار للعلم، ومركز إشعاع للنور الإسلامي فألفيتها غزيرة المادة، جميلة الإخراج، وإني إذ أرجو لها ما يرجوه كل مخلص لدينه مزيدا من التطور والانتشار، فلا يسعني إلاّ أن أتقدم بوافر الشكر إلى المؤسسين والكتاب والمشجعين لها على الاستمرار، كما أرجو أن يكون صدورها عما قريب شهريا بل أسبوعيا، فليست الصحف والمجلات بأولى منها، والله يجزي الجميع خير الجزاء".
نشكر الأخ فؤاد توفيق على هذه الرسالة الأخوية وعلى ما جاء فيها من عواطف طيبة صادقة نحو مجلة الجامعة، ولعلنا نلتقي معه على صفحات هذه المجلة بإنتاج جيد، وقد أحلنا سؤالك إلى فضيلة نائب رئيس الجامعة، وعساك ترى الرد عليه في العدد القادم إن شاء الله.
التحرير
أخلاق الشباب المسلم
للدكتور: محمد تقي الدين الهلالي
المدرس في الجامعة
قال الله تعالى في سورة (الإسراء: 70) : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} .
قال القاسمي في تفسيره: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} : "أي بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به، {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي يسّرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما وتحصيلها {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أي عظيما، فحقّ عليهم أن يشكروا هذه النعم بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده" اهـ.
فتفضيل الله للإنسان وتكريمه له بجعله الحاكم المتصرف، وتسخيره له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد يتصرف فيه كيف يشاء، ويسيّره في خدمته، لم يكن بقوة الجسم ولا بخواص الأعضاء، فإن كثيراً من الحيوان كالأسد والنمر والفيل والدب والفرس والبعير أقوى منه بكثير، وللحيوان مزايا في خلقه ليست للإنسان، فمنه ما أعطي مزية السرعة في الجري والسبق كالنعامة والغزال، ومنه ما أعطي من حاسة الشم أو البصر أو السمع ما يفوق الإنسان بكثير، فالمزية الكبرى والنعمة العظمى التي وهبها الله الإنسان وفضّله بها هي العقل والأدب كما قال الشاعر:
ما وهب الله لامرئ هبة
أفضل من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى فإن فُقِدا
ففقده للحياة أجمل به
والمراد بالأدب هنا الأدب النفسي وهو الخلق الحسن، وبه تتفاوت الأمم ارتقاء وانحطاط، وقوة وضعفا، وسيادة وعبودية، فما من أمة كثر حظها من خلق الحسن إلاّ بلغت أوج الرقي وغاية السعادة، وإن كانت قليلة العدد، أو كانت أرضها ضيقة، أو قليلة الغناء والخير غير صالحة للزرع والضرع، قليلة الحواصل والثمرات، ضعيفة الغلات فإن جميع ما في الأرض من الخيرات والبركات يحمل إليها، كما قال تعالى في سورة (النحل: 112) : {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} .
المراد بالقرية هنا أهلها، وهم الأمة والشعب، وكما حكى الله عن إبراهيم الخليل في دعائه لأهل مكة في سورة (البقرة: 126) : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَات} ، وفي سورة (إبراهيم: 57) : {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} .
ومن أقام في مكة شرّفها الله حتى قبل عصر الطائرات يرى فيها من فواكه الهند وأندونيسيا والشام ومصر ما لا يكاد عجبه ينقضي منه، مع أنها أرض جبلية قاحلة. ومن أقام في البلاد البريطانية يرى أكثر ما يؤكل فيها ويلبس ويقتنى ويتخذ للزينة مجلوباً إليها من أطرف الدنيا وهي جزائر في البحر ضيّقة الرقعة، شديدة البرد، لو اقتصر أهلها على ما يخرج من أرضهم لوقعوا في مسغبة.
فإن قلت: هذه مكة دعا لأهلها خليل الله فاستجاب الله دعاءه، ويوجد فيها قوم صالحون يعبدون الله ويطيعون أمره، والحجاج ضيوف الله تعالى يقصدونها من كل فج عميق للحج والعمرة، شعثاً غبراً، يدعون ربهم رغبا ورهبا، خاشعين الله، أما بلاد البريطانية فأيّ مزية في أهلها، وهم أساتذة الاستعمار والغزو، وكم شعوباً أناخوا عليها بكلاكلهم مئات السنين، فما تخلصت من استعبادهم إلاّ بعد اللّتيا والتي، فبماذا استحقوا ذلك العيش الرغد، وتلك الثمرات؟ فأين الأدب النفسي والخلق الحسن من أخلاقهم الاستعمارية؟ فالجواب: أن العدل والمساواة في الحقوق والواجبات هما أساس العمران، وهما موجودان عندهم بلا شك.
أما استعمارهم للبلدان فللكلام عليه مقام آخر يطول شرحه.
وقال في سورة (التحريم:6) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "معناها: أدبوهم وعلّموهم. وقال عن ابن عباس في الآية: "اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بتقوى الله"، وقال قتادة: "تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها"..وهكذا قال الضحاك ومقاتل:"حق على المسلم أن يعلّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه".
وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك ابن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها". قال الفقهاء: "وهكذا في الصوم ليكون تمريناً له على العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي، وترك المنكر، والله الموافق"اهـ.
أقول: يمكن أن يقول القائل: إن التربية في هذا الزمان قد بلغت عند الأمم الراقية درجة عالية، وهي تقتضي عدم ضرب الصبيان، فهناك وسائل أخرى في الترغيب والترهيب والثواب والعقاب تغني عن الضرب، وتحبّب إلى الناشئ التعلم والعمل المثمر، فأقول في جوابه: هذا رأي يقال، والعمل في الأمم الراقية على خلافه، ففي البلاد الألمانية يفرض على كل التلميذات الحضور إلى الكنيسة مع معلمه يوم الأحد، ويشهد الصلاة والوعظ، فإن لم يحضر بلا عذر أدّب على ذلك بالضرب، وإن ترك الصلاة في الكنيسة ثلاثة آحاد متوالية طرد من المدرسة، أما الأيام الستة الباقية من الأسبوع فإن الكنيسة تبعث القسّيسين إلى المدارس يصلّون بالتلاميذ في داخل المدرسة، ويعلّمونهم دينهم ساعتين في كل يوم، ولا يستطيع التلميذ أن يتغيب في هاتين الساعتين إلاّ إذا كان على دين آخر غير المسيحية.
ولما كان سكان البلاد الألمانية على مذهبين مختلفين، كاثولكيين وبروتستانتيين، كان الواجب على وزارة التعليم يقضي بإعداد المدارس لكل الفرقتين في كل مدينة أو قرية يكون سكانها مختلفين في المذهب حتى يتمكن التلميذ الذي أبوه كاثوليكي أن يجد مدرسة على مذهبه، وكذلك التلميذ الذي يكون أبوه برتستانتي يتعلم في مدرسة موافقة لمذهبه، فإن وجدت مدينة أو قرية سكانها كلهم على مذهب واحد، وسكن بينهم عدد قليل من أهل المذهب الآخر، يبعثون أولادهم إلى المدينة الأخرى ليجد مدرسة على مذهبهم، هذا في المدارس الابتدائية والثانوية، أما الجامعات ففي كل جامعة كلية لاهوت مختصة بتعليم الدين، وهذه الكلية محترمة جداً يؤمّها الأساتذة في الأعياد والمناسبات للصلاة والسماع الوعظ، ويتخرّج منها كل سنة كثير من الدكاترة في علم الدين، وكلهم يجدون أعمالا في الكنائس والإرساليات، وتعليم الدين في المدارس العامة.
وهناك مدارس دينية خالصة تديرها الكنائس، ولها مناهجها الخاصة لا تدخل تحت وزارة التربية والتعليم، وبهذه المناسبة أذكر هنا نبأ تاريخيا يخفى على أكثر الناس، وذلك أن هتلر اختلف مع الكنيسة الكاثولكية في قضيتين: إحداهما أنه أوجب على المدارس الدينية التابعة للكنيسة أن تطبق منهج وزارة التعليم، فعدّت الكنيسة الكاثولكية ذلك تدخلا في شؤون الدين، وعدواناً على الكنيسة، والثانية أنه استولى على الذهب المخزون في الكنيسة، وفرض رواتب يعطونها من وزارة المالية، ولهاتين القضيتين انظمّ الكاثولكيون إلى اليهود في عداوة هتلر، وأخذوا يكيدون له.
وهذا كله يبطل ما ينشره دجاجلة الاستعمار الروحي من زعيمهم أن الأمم الأوروبية التي بلغت أوج الرقي هجرت الدين وضربت به عرض الحائط، وكان ذلك سبب تقدمها، والأدلة على كذب هذه الدعاية أكثر من تحصى، وقد نشرت في مجلة دعوة الحق أدلة بالأرقام مأخوذة من سفارات الدول الراقية في أوروبا على تدين شعوبها، وقلة المارقين من الدين فيها، هذا مع أنّ دين النصرانية لا يتكفل بتدبير شئون الدين والدنيا كما يفعل الإسلام الحنيف، بل يقول من جملة ما يقول:"أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر". أما الإسلام فيقول: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اْلأََرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} .
ويقول في سورة (المائدة: 18) : {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، ويقول في سورة (الأعراف: 128) : {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، ويقول في سورة (النجم: 25) : {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} ، ففي نظر الإسلام كل شيء لله، وليس لقيصر شيء، بل قيصر نفسه مملوك لله.
وقد جرب المسلمون السابقون التمسك بالإسلام فوجدوه كفيلاً بسعادة الروح والبدن، وضابطا لمصالح الدين والدنيا، فالعجب من قوم يكون عندهم هذا الدين الحنيف محفوظا خالصا، لا تشوبه شائبة، ويرون كيف سعدت به أسلافهم، ثم يتنكرون له ويجهلونه ويجهلون عليه، ويردّدون أقول أعدائه، وينشرونها بين قومهم، مع ما فيها من الكذب والتدليس والتمويه والتحريف.
وقال تعالى في سورة (طه: 132) : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت علي فعلها كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا} ، قال ابن أبي حاتم بسنده إلى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ (كذا) ، وكان له ساعة من الليل يصلي فيها، فربما لم يقم فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم، وكان إذا استيقظ أقام - يعني أهله - وقال:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} .
وقوله: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك} ، يعني: إذا أقمت الصلاة نرزقك من حيث لا تحتسب، وقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} - إلى قوله-: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} ، ولهذا قال:{لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك} وقال الثوري: "لا نسألك رزقاً، يعني لا نكلّفك الطلب".
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى هشام عن أبيه "أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا، فرأى من دنياهم طرفا، فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك} - إلى قوله-: {نَحْنُ نَرْزُقُك} ، ثم يقول: "الصلاة الصلاة رحمكم الله".
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابته خصاصة نادى أهله: "يا أهلاه صلوا صلوا"وقال ثابت: "وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة".
وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: "يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك".
وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من جعل الهموم هما واحداً همّ المعاد كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعّبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديته هلك".
وروى أيضا من حديث ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره وجعل فقرة بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} : أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة لمن اتقى، وفي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"رأيت الليلة كأنّا في دار عقبة بن رافع، وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوّلت ذلك أنّ الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وأنّ ديننا قد طاب". أهـ
شروح وإيضاح:
1-
قوله: "كان يبيت عنده أنا ويرفأ"يظهر لي في هذه العبارة خلل إلاّ إذا أوّلناها على أن اسم كان ضمير الشأن، وجملة (يبيت) خبرها، وحتى على هذا التأويل يبقى الخلل كما هو، إذ لا يقال:"يبيت أنا"، فلعله تحريف من بعض النساخ، والصواب:"كنا نبيت عنده أنا ويرفأ"، ويرفأ اسم علم كيزيد ويشكر.
2-
قوله: "فربما لم يقم"يعني أن عمر رضي الله عنه كان له وقت من الليل يتهجّد فيه، أي يصلي النافلة بالليل، وكان خادماه زيد ابن أسلم ويرفأ يراقبان قيامه، وفي بعض الأحيان كان يتأخر عن القيام، ولعل ذلك لغلبة نوم، وكان إذا قام لصلاة النافلة بالليل يقيم أهل بيته للاشتراك معه في العبادة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله أن يأمر أهله بالصلاة ويصبر عليها، وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى.
3-
فهم المفسرون من قوله تعالى: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك} أن من لم يشغله طلب الرزق عن صلاته عناية بها ومحافظة عليها رزقه الله وأغناه بفضله، وأنّ من ظنّ أنّ المحافظة على الصلاة في أوقاتها تُنقص من رزقه أو تمنعه، ملأ الله قلبه همّاً وغمّاً، ولم يأته من الرزق إلاّ ما كتب له كما سيأتي في الحديث صريحاً.
4-
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَاْ أُرِيْدُ أَنْ يُطْعِمُونَ إِنَّ اْلله هُوَ اْلرَّزَّاقُ ذُو اْلقُوَّةِ اْلمَتِينِ} (الذاريات: 56-58) ، أخبر الله سبحانه أنه خلق الخلق لغرض واحد يعود عليهم بالخير والسعادة، وذلك الغرض هو عبادته وحده لا شريك له، وهو غنيٌّ عن العالمين، وهم محتاجون إليه، فمن اشتغل بالغرض الذي خلقه الله لأجله فقد أفلح وسعد ورشد واهتدى، وقد ضمن الله رزقه يأتيه من حيث لا يدري، ومن لم يثق بوعد الله، وشغله طلب الرزق عما خلق له شتت الله شمله، وأكثر همّه، ولم ينل من الرزق إلاّ ما قدّر له.
5-
قوله: "هشام عن أبيه"يعني عروة بن الزبير بن العوام، "كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا"المراد بالطرف: نفائس الأموال التي يندر مثيلها، فإذا رجع إلى أهله ودخل بيته ولم ير فيه تلك النفائس التي رآها في بيوت أهل الثراء المترفين يتلو قوله تعالى:{وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} الآية.
قال ابن كثير في تفسيره: "يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "لا تنظر إلى ما فيه هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة، ليختبرهم بذلك أَيَشْكرون أم يكفرون، وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد:{أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} : "يعني الأغنياء"، فقد آتاك الله خيرا مما آتاهم، وكذلك ما ادّخره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف، كما قال تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى:5)، ولهذا قال:{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: من الآية131) " اهـ.
أقول: في هذا الخطاب تزهيد للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته في الدنيا وزخارفها وإبعاد لهم عن الافتتان بزهرتها وزينتها، لأنّ من فتن به أهلكته وشغلته عن ذكر الله، وهذا مع العلم بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان رئيس الدولة وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، والأموال كلها بيده، ولكنه كان زهداً فيها، مفضّلاً التقشف في المعيشة طوعاً واختياراً لا حاجة واضطراراً، فكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جسمه الشريف، وكان يمر الشهر والشهران لا توقد النار في بيته، وإنما يعيش هو وأهله على الماء والتمر كما في حديث عائشة في الصحيحين، فكان عروة بن الزبير إذا دخل بيته يعظ نفسه وأهله بهذه الآية وينادي فيهم:"الصلاة الصلاة"، ففي الصلاة نعيم وقرّة عين للمتقين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجعلت قرة عيني في الصلاة"، والمراد بقرة العين:"الفرح والسرور".
6-
قوله: "إذا أصابه خصاصة"أي حاجة وضيق في المعيشة، أمر أهله بالصلاة امتثالا لأمر الله تعالى؛ لأن الصلاة تعين كل محتاج، وتفرّج كربه كما قال تعالى في سورة (البقرة: 153) : {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة} ، وهذه سنة سائر كل الأنبياء إذا نزل بهم أمر يكرهونه يفزعون إلى الصلاة فيدفع الله عنهم بها كل مكروه، ويبدلهم بالعسر يسرا، وبالضيق سعة، وبالشدة رخاء، وهكذا ينبغي للمؤمنين الصادقين - شبابا كانوا أم كهولا أم شيوخا - أن يفعلوا إذا نزل بهم ما يكرهون أن يستعينوا بالصبر والصلاةو فالصبر يهوّن عليهم المصيبة، ويفتح لهم باب الفرج، والصلاة استغاثة واستعانة بالله تعالى.
وقد رأينا محمد علي كلاي الملاكم العالمي المشهور إذا أراد أن ينازل بطلا من أبطال الملاكمة يصلّي ويدعو الله تعالى ويستمدّ منه قوة على خصمه فينصره الله ويهزم عدوه، فهذا هو الأدب المحمدي الذي ينجح في كل زمان ومكان.
7-
حديث أبي هريرة القدسي، يقول الله تعالى:"يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك"، في هذا الحديث جواب للذين يسألون عن أوقات الصلاة إذا فرض فيها شغل دنيوي كالمعلّمين وتلامذة المدارس، والموظفين في الإدارات، وفي سائر الأعمال إذا دخل وقت العصر، هل يتفرّغون لعبادة الله لمدة خمس دقائق ويؤدون فريضتهم، ويدعون شغلهم جانباً، فإن فعلوا ذلك ملأ الله صدورهم وأيديهم غنى، وأزال فقرهم الحسي والمعنوي، فالمعنوي هو فقر القلب وجزعه، وشغله بالتفكير في الرزق، أو في أيّ وسيلة التي يظن أن الرزق يأتي بسببها، وإن هم لم يستجيبوا لدعوة الله، وتمادوا في شغلهم، وأعرضوا عن صلاة العصر وحدها؛ لأنها هي التي تجيء عادة في وسط الأشغال وبها يمتحن المؤمن، فإن كان صادق العزم ثابت اليقين وقف الشغل الدنيوي من بيع وشراء وعمل في مزرعة أو مصنع، أو مدرسة أو مختبر، أو غير ذلك، وتفرّغ لعبادة الله واستجاب لدعوته، فيزيده الله قوة إلى قوته، ويملأ صدره غنى وثقة به، وذلك هو الظفر والنصر المبين، وإن كان خائر العزم، ضعيف الإرادة، كبر عليه ترك شغله وخيّل له أنّ في تركه خسارة لا تعوّض، فيستمر في شغله عاصيا ربه، خائنا دينه، خائسا بعهده، فحينئذ يمتليء صدره غمّاً وشغلاً يلازمانه أبداً.
أخرج البخاري في كتاب المواقيت من صحيحه عن أبي المليح قال: "كنّا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال: "بكروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ترك صلاة العصر حبط عمله".
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله".
نفهم من الحديث الأول ومن غيره من الأحاديث الصحاح، ومن الآيات البينات أن من ترك صلاة العصر عمدا بلا عذر شرعي حتى خرج وقتها فقد بطل عمله الصالح كله، لأنه كفر فإن تاب ورجع إلى الإسلام، وعاهد الله عهداً صادقا أن لا يتعمد ترك الصلاة مفروضة أبداً، فإن الله يرد له ما حبط من عمله.
ومثل هذا قوله تعالى في سورة (الزمر: 52) : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم من حديث جابر، وإذا كان ترك الصلاة عمداً كفرا فلا إشكال في حبوط العمل.
وأما الحديث الثاني الذي تفوته الصلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله، أي خسر ماله وأهله وبقي فرداً بلا أهل ولا مال، ومثل ذلك قوله تعالى في سورة (الزمر:15) : {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ، وكل فريضة حدّد وقتها يجب على المسلم أن يترك كل شغله يشغله عن أدائها، قال تعالى في سورة (الجمعة: 9-10) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، فحرّم الله على المسلمين أن يشتغلوا بالبيع وغيره من أمور الدنيا بعد آذان الجمعة، وأوجب عليهم أن يسعوا إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة حتى إذا سلّم الإمام من صلاة الجمعة فقد أذن الله لهم أن يخرجوا من المسجد، وينتشروا في الأرض ليشتغلوا بأعمالهم التي تكفّل لهم رزقهم.
أخبرنا الله سبحانه أن الإنسان - يعني جميع الناس - خُلق هلوعا، جعل من طبعه الهلع وهو الجزع وشدة الحرص، فتفسير {هَلُوعاً} هو ما بعده:{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} : المرض والفقر وسائر المصائب {جَزُوعاً} : يائسا خاضعا منقطع الرجاء {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ} : وهو الغنى والصحة والقوة والنصر وسائر النعم، {مَنُوعاً} : بخيلا لا ينفع غيره بشيء.
ثم استثنى الله تعالى من الناس المجبولين على ذلك الطبع الخبيث المصلين، وأكد وصفهم بقوله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أي محافظون على أوقاتها وشروطها وأركانها وآدابها، ووصفهم بصفات بدأها بالمحافظة على الصلاة، وختمها بالمحافظة على الصلاة، وذكر بينهما صفات:
أولاها: أنّ في أموالهم حقاً معلوماً للفقراء والمحتاجين، سواء أكانوا من الذين يظهرون فقرهم وحاجتهم ويسألون الناس، أم كانوا من المتعففين الذين يكتمون فقرهم، ولا يسألون الناس، وهم القسم المعبر عنه بالمحروم؛ لأن أكثر الناس يحرمونهم من الصدقة.
ثانيتها: أنهم يصدّقون بيوم الدين، أي يؤمنون بيوم القيامة، وهو يوم الجزاء، ويجعلونه نصب أعينهم، فيبعثهم ذلك على مراقبة الله تعالى، فلا يفعلون إلاّ ما يرضيه.
ثالثتها: الخوف من الله تعالى فهم يخافون عذابه ولا يأمنون مكره، فإنه لا يأمنه إلاّ القوم الخاسرون.
رابعتها: أنهم يحفظون فروجهم عمّا حرم الله ويقتصرون على ما أحل الله.
خامستها: أنهم يحافظون على عهدهم إذا عاهدوا مسلما أو ذميا، أو معاهدا أو مصالحا، لا ينقضونه أبداً.
سادستها: أنهم يقومون بشهاداتهم فيؤدّونها كما علموها، ولو كانت على الوالدين والأقربين، لا يزيدون فيها ولا ينقصون، ولا يبدّلون ولا يغيّرون، ولا يكتمونها أبدا، ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبُه.
فهذه صفات المؤمنين الصادقين، لا جرم أنّ كل شعب سادت فيه هذه الصفات يكون سعيداً في دنياه وأخراه، عزيزا مؤيداً منصورا، جعلنا الله من أهلها.
8-
"رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام"ورؤيا الأنبياء حق أنه كان مع بعض أصحابه في دار عقبة بن رافع، فوضع لهم رطباً من النوع المسمى ابن طاب وهو نوع من رطب المدينة، ففسّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا بأن العاقبة الحسنة والرفعة له ولأمته في الدنيا والآخرة، وأن دين الإسلام طاب، أي زكا وبورك فيه فعلا وانتصر، وكذلك وقع، وهذا مضمون للأمة الإسلامية إلى يوم القيامة بشرطه، وهو الإيمان، والاجتماع على إعلاء كلمة الله، والجهاد في سبيل الله، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة (المؤمن: 51) : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} .
قال القاسمي في تفسيره هذه الآية: "أي لننصرهم في الدارين؛ أما في الدنيا فبإهلاك عدوهم واستئصاله عاجلا، أو بإظفارهم بعدوهم وإظهارهم عليه، وجعل الدولة لهم والعاقبة لأتباعهم، وأما في الآخرة فبالنعيم الأبدي والحبور السرمدي، والأشهاد جمع شاهد، وهم من يشهد على تبليغ الرسل وتكذيب من كذبهم ظلما، أو جمع شهيد كأشراف وشريف"اهـ.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تبارك وتعالى: "من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب".
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "وفي الحديث القدسي "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب"اهـ، ومعناه أنّ الله ينتقم لأوليائه وهم المؤمنون كما ينتقم الأسد الغضبان ممن أغضبه، والله عزيز ذو انتقام.. وقال تعالى في سورة (الصافات: 171-173) : {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} ، وقبلها (167-169) :{وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
أخبرنا سبحانه وتعالى أنّ كفار العرب كانوا يقولون قبل نزول القرآن وبعثة الرسول عليه الصلاة والسلام: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي كتاباً من الكتب التي أنزلها الله عليهم لاهتدينا به، وتطهرنا به من جهالتنا {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} المطهّرين من كل ضلال وشر وشرك، فلما جاءهم أفضل كتاب بواسطة أفضل رسول كفروا به وكذّبوه، قال الله تعالى:{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هذا تهديد لهم بعذاب عظيم لم يكن لهم في الحسبان، وهو تهديد لكل أمة بلغها هذا الكتاب فأعرضت عنه، ولم تتخذه إماما وحكما، ولم تستضيء بنوره، ولو اهتدت بهداه، لابد أن يصيبها عذاب عظيم فوق ما يخطر بالبال، ونحن نشاهد هذا العذاب اليوم بأعيننا يصيب الشعوب التي أعرضت عن كتاب الله ورفضت شريعته وسنة رسوله بعدما علمت يقينا ما أدركه أسلافها من السعادة والعز والنصر المبين بإتباع هذا الكتاب الكريم، والرسول ذي الخلق العظيم.
وبعد هذا التمهيد قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} اللام واقعة في جواب قسم، أي وتالله لقد سبقت كلمتنا لعبادنا الذين أرسلنهم إلى الأمم ليقوموا بإرشادها وهدايتها وإنقاذها من أوحالها ونكباتها، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وتلك الكلمة التي سبقت من الله تعالى هي قوله سبحانه:{إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} على كل من عاداهم من أقوامهم وغيرهم، {وَإِنَّ جُنْدَنَا} وهم المرسلون وأتباعهم الصادقون {لَهُمُ الْغَالِبُونَ} لكل من عاداهم ووقف في طريقهم، وعد الله لا يخلف الله وعده.
وقد رأينا هذا الوعد بعيون بصائرنا عبر التاريخ الطويل يتحقق على أيدي شعوب مختلفة في الجنس واللون والأوطان، ولكنها متفقة في الاهتداء بالقرآن، وحروب المغاربة في أوربا من طارق إلى المرينيين وحروب المسلمين في فلسطين وبلاد الشام لجميع الدول النصرانية مدة مائتي عام، وقبل ذلك حروب العرب في العراق، وخراسان، وإفريقية، وبلاد السند، وكل ذلك أدلة قاطعة، وبراهين ساطعة.
وما أصاب المسلمين من الشتات والذلة والهوان وضنك العيش في هذه الأزمنة المتأخرة حجج قائمة عليهم تسجل عليهم أنهم هم الذين أخلفوا ونقضوا عهدهم كما قال تعالى في سورة (الأنفال: 23) : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌْ} .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره هذه الآية: "يخبر تعالى عن تمام عدله، وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلاّ بسبب ذنب ارتكبه كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (الرعد: من الآية:11) اهـ.
وقال تعالى في سورة (مريم: 54-55) : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه صادق الوعد وقال ابن جريج: "لم يعد ربه عدة إلاّ أنجزها"، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلاّ قام بها ووفاها حقها".
وقال ابن جرير بسنده إلى سهل بن عقيل أن إسماعيل النبي عليه السلام وعدا رجلا مكانا أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد فقال:"ما برحت من ها هنا؟ "قال: "لا"، قال:"إني نسيت"قال: "لم أكن أبرح حتى تأتيني"، فلذلك كان صادق الوعد.
وروى أبو داود وغيره عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فبقيت له علي بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، قال: فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك فقال لي: "يا فتى لقد شققت عليّ، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك".
فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أنّ خلفه من الصفات الذميمة، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف:2)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".
ولما كانت هذه صفات المنافقين كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضا لا يعد أحدا شيئا إلاّ وفّى له به. وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال:"حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي".
ولم توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق: "من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له، فجاء جابر بن عبد الله فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قال لي: "لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا"، يعني ملء كفيه، فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال، ثم أمره بعده، فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثيلها معها.
وقوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق، لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل" وذكر تمام الحديث. فدل على صحة ما قلناه.
وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} هذا أيضا من الثناء الجميل، والصفة الحميدة، والخلة السديدة؛ حيث كان صابراً على طاعة ربه عز وجل، آمراً بها أهله كما قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} الآية، أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملاً فتأكلهم النار يوم القيامة.
وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء". أخرجه أبو داود وابن ماجه، وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن الني صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. اهـ.
توضيحات:
1-
وصف الله سبحانه إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بصفات كريمة: أولها: صدق الوعد، وثانيتها: أنه كان رسولا نبيا أنزل الله عليه وحيه، وأرسله لهداية خلقه، وثالثتها: كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وأخيراً: أنه كان عند ربه مرضياً، فلماذا قدّم صفة صدق الوعد على ذكر الرسالة والنبوة، وأمر أهله بالصلاة والزكاة؟ والجواب: لأن صدق الوعد دليل على الإخلاص، فمن لم يكن صادق الوعد لم يقبل الله منه صلاة ولا زكاة، ولنا على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
وبيان ذلك أنّ العبادات كلها من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة، وتعلم وتعليم، وجهاد للنفس، وجهاد للعدو، وغير ذلك إنما هي وسائل لتهذيب النفس، وليست في أنفسها غايات، فإذا لم يحصل بها التهذيب المطلوب فهي لغو لا قيمة لها، يزاد على ذلك أنها تدل على عدم إخلاص فاعلها، وريائه ومخادعته لله ولعباده المؤمنين.
وقد وصف الله المنافقين بقوله في سورة (النساء: 143-143) : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} ، فصلاة هؤلاء المنافقين لم تغن عنهم شيئا وهم في الدنيا مجللون بالخزي، وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الماعون:7) أي يقصدون بعبادتهم أن يراهم الناس فيمدحوهم وقلوبهم خربة ليس فيها خير، فلذلك (يمنعون الماعون) المراد بالماعون على تفسير عبد الله بن مسعود وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما يُعِيرُهُ الناس بعضهم لبعض كالفأس والقدر والدلو والميزان والمد ونحو ذلك، قال ابن كثير رحمه الله:"والذي يمنع الماعون مع بقاء عينه أجدر وأحرى أن يمنع الزكاة، والصدقة والإحسان".
وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم ميزاناً يمتحن به الناس، يميّز به المؤمن من المنافق، وهو قوله فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" زاد مسلم في روايته: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم".
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعبارة صريحة لا لبس فيها ولا غموض أن من اجتمعت فيه الخصال الثلاث، وصارت له خلقا وديدنا لا يتحرج منها، هو كافر خالص الكفر من شرار الكفار، وهم المنافقون، وأن هذه الخصال لا تكاد أن تجتمع في مؤمن البتة، فإن قال: أنا مسلم، فقد أمرنا أن لا نصدقه، وإن صلى وصام فلا صلاة له ولا صيام.
وقد أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العلامات لنستدل بها على المؤمن الصادق، ونعرف بفقدها أعداء الإسلام المتقمصين ثوبه لمآرب يبتغونها، ودسائس يروجونها، وليس معنى أن نطردهم من المساجد، ولا من المجتمعات الإسلامية، ولا نحكم عليهم بالردة، ونعاملهم معاملة غير المسلمين في الأحكام الشرعية، بل نعتبرهم مسلمين ظاهرا، ونحترز منهم، ولا نأمنهم على مصالح الإسلام.
2-
قوله: "وهو ولد عرب الحجاز كلهم"من المعلوم أن العرب فريقان: العرب العاربة، وهم أبناء يعرب بن قحطان، وهم سكان جنوب الجزيرة العربية، ولهم تاريخ حافل، وآثار قديمة باقية، وقد كانت لهم دول عظيمة عريقة في القدم، كدولة حمير ودولة سبأ ودولة معين.
وأما الشماليون فيسمون العرب المستعربة؛ لأن أباهم إسماعيل لم يكن عربيا في الأصل، وإنما تعلم العربية لأنه نشأ بين العرب في مكة وتزوج منهم، وبارك الله في ذريته كما جاء في سفر التكوين من العهد القديم في الباب السادس عشر أن ساراى امرأة أبرام لم تلد له، وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراى لأبرام:"إن الرب قد أمسكني عن الولادة، أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين، فسمع أبرام لقول ساراى، فأخذت ساراى امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان، وأعطتها أبرام رجلها زوجة له، فدخل على هاجر فحبلت ولما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينها، فقالت ساراي لأبرام: "ظلمي عليك، أنا دفعت جاريتي إلى حضنك فلما رأت أنها حبلت صغرت في عينها، يحكم الله بيني وبينك"، فقال أبرام لساراي: "هذه جاريتك في يديك افعلي بها ما يحسن في عينك"، فأذلتها ساراي فهربت من وجهها، فوجدها ملك الرب على عين الماء في البرية، على العين التي في طريق شور، وقال: "يا هاجر جارية ساري، من أين أتيت وإلى أين تذهبين؟ "قالت:"أنا هاربة من وجه مولاتي ساري"، فقال لها ملك الرب:"ارجعي إلى مولاتك، واخضعي تحت يديها"، وقال لها ملك الرب:"تكثيرا أكثر من نسلك فلا يعد من الكثرة". وقال لها ملك الرب: "ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وأنه يكون إنسان وحشياً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه وأمام جميع أخواته يسكن". اهـ.
وهذه بشارة جاءت في العهد القديم بأن الله يكثر أولاد إسماعيل، وقول المترجمين للتوراة:"إنه يكون إنسانا وحشياً يده على كل واحد ويد كل واحد عليه"من أفسد الترجمات التي ارتكبها أولئك المترجمون تعصباً وتحريفاً للكتاب، ولم يتفطنوا إلى التناقض الذي بين الصفتين، فالإنسان الوحشي لا يتصل بالناس ولا يألفهم ولا يألفونه، ويحبهم ويحبونه.
ولا يستغرب التحريف من المترجمين فقد أخبر العالم اللغوي الأديب المحقق إبراهيم اليازجي أنهم دعوه إلى لندن ليعينهم على ترجمة التوراة، فكان يختلف معهم كثيراً فكلما ذكر لهم عبارة فصيحة تؤدي المعنى يرفضونها، ويقولون:"إنها تشبه عبارات القرآن"، وهم يريدون أن يبتعدوا عن عبارات القرآن كل الابتعاد، وقد نظرت في الكلمة التي ترجموها وهي (بري آدم) في معجم (روبين أفنيوم كوسمن) فوجدت لها المعاني التالية أنقلها بأمانة من الإنكليزية إلى العربية: 1- الحمار الوحشي، 2- الحيوان الوحشي، 3- ساكن الصحراء، 4- خشن الطبع، 5- وحشي، 6- همجي، 7- إنسان وحشي سيء الخلق.
فأيّ هذه الألفاظ يصلح لترجمة ذلك اللفظ الوارد في مقام البشارة والمدح والثناء على مولود، علم الله أنه يكون رسولا نبياً، أباً لأمة عظيمة، ولأفضل خلق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لاشك أن اللفظ الوحيد الذي تصح به الترجمة هو الثالث، وهو أنه ساكن الصحراء وهو المطابق للواقع، فإن إسماعيل كان يسكن بمكة - شرفها الله - ويعيش في الصحراء على لحم الصيد، وفي الحديث:"ارموا بني إسرائيل، فإنّ أباكم كان رامياً "، وفي صحيح البخاري أنّ إبراهيم توجّه لزيارة ابنه إسماعيل في مكة فلم يجده، فسأل زوجته عنه فأخبرته أنه ذهب للصيد، ثم ذهب لزيارته مرة ثانية وثالثة فلم يجده، إنه كان غائباً يصطاد للمعيشة لا للتنزه، وفي كل مرة كان يوصي زوجته بشيء تقوله له إذا رجع.
وقد تبيّن أنّ أولئك المترجمين أخطأوا خطأ فاحشا في ترجمة ذلك اللفظ، وأغلب الظن أن يكونوا متعمدين، فقبّح الله التعصب، فإنه ما دخل شيئا إلاّ أفسده، والمراد بعرب الحجاز: ربيعة ومضر.
3-
انتظر إسماعيل الرجل الذي وعده في المكان الذي وعده أن يجتمع به يوماً وليلة، وانتظر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي تبايع معه في الجاهلية قبل أن يكون نبياًًً في المكان الذي وعده ثلاثة أيام، فما المراد بهذا الانتظار؟ هل هو حرص على قضاء تلك الدريهمات؟ لا والله، ولكنه تلقين درس في الأخلاق، يعتبر به كل موفق، ويلتزمه كل إنسان ذو شرف ومروءة يحترم نفسه. والعادة الجارية في الشعوب الراقية التي تقدّس الأخلاق أنّ المتواعدين إذا مرت خمس دقائق إلى ربع ساعة ولم يجيء أحدهما فقد برئت ذمة المنتظر، وبقيت ذمة صاحبه معلقة، فإن كان له عذر قاهر برئت ذمته هو أيضا، وألا توجه اللوم إليه، وكان هو الخاسر الذي يجب عليه أن يعتذر لصاحبه ويخجل كل الخجل.
وكل أمة شاع فيها الوفاء بالوعد وتنافس أبناؤها في التخلق بهذا الخلق الجميل الذي هو أحد أركان الأخلاق سعدت وقويت، وانتصرت على أعدائها، وبلغت من ذلك فوق ما أملت، كما أن كل أمة شاع فيها أخلاق الوعد ونقض العهد، وما إلى ذلك من الكذب والخيانة والغدر والظلم والخداع، فإنها لن تفلح أبدا ولن تكتب الحياة لها الحقيقة ما دامت متخلقة بتلك الأخلاق المرذولة، سواء استوطنت الصحراء أم استوطنت أغنى الأراضي وأجملها، فإنها تعيش في شقاء دائم، وظلام مدلهم.
وهذه الحقيقة لا تتغير أبداً بتغير المكان أو الزمان أو القوم، ومساويء الأخلاق سبب شقاء الشعوب الأعظم. ومن ينتسب إلى إسماعيل بالنبوة وإلى محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان والإتباع يجب عليه أن يعتبر هذا الدرس أكثر من غيره ليكون وارثاً لهما إرثاً حقيقياً يرفعه ويعلي درجته، فإن لم يفعل فإن انتسابه إليهما لا يزيده إلا خزياً وعاراً.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
4-
قوله: "وقد أثنى على أبي العاص": هو أبو العاص بن الربيع العبشمي القرشي، اشتهر بكنيته كان من أعيان مكة، زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بناته زينب، فولدت له أمامة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها على كتفه، وصلى بالناس في المسجد وهو حاملها، فإذا ركع وضعها، وإذا سجد وضعها، وإذا وقف حملها.
ولما كانت غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة خرج أبو العاص مع المشركين فأسر، فبعثت زينب بقلادة لتفديه بها، وكانت أمها خديجة رضي الله عنها قد وهبتها لها حين تزوجت، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك القلادة رقّ لابنته، وقال للمسلمين:"إن رأيتم أن تردّوا لها قلادتها وتطلقوا أسيرها"، فأطلق سراح أبي العاص، فشرط عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث له ابنته زينب فوفّى بوعده وبعثها.
وفي السنة السابعة للهجرة سافر أبو العاص ومعه قافلة لأهل مكة متوجهاً إلى الشام فأسره المسلمين مرة ثانية، فلما سمعت بذلك زينب قالت:"يا رسول الله، أليس عقد المسلمين وعهدهم واحدا؟ "، قال:"نعم"، قالت:"فاشهد أني أجرت أبا العاص، فأطلقوا سراحه، فتوجه إلى مكة ورد الأمانات إلى أهلها ثم قام فقال: "يا أهل مكة، أوفّيت ذمتي؟ "، قالوا: "اللهم نعم"، فقال: "فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قدم المدينة مهاجرا فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الأول، وقيل: بعقد جديد، والأول أرجح. وماتت زينب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أما أبو العاص فتوفي في السنة الثانية عشر للهجرة في خلافة أبي بكر الصديق.
5-
وينبغي لنا أن نتأمل تأملا طويلا في وفاء الخليفة أبي بكر الصديق بوعد النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل جابر بن عبد الله على أحسن وجه، وزاده مثلي ذلك، فمبلغ مجموع ما أعطاه ألفاً وخمسمائة درهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتننا يا جرير المحافل
بمثل هذه الأخلاق بلغ المسلمون الأولون من المجد والسؤدد غايتهما حتى وصلوا إلى بلادنا وفتحوها، وهي أقصى المعمور وجهة الغرب حسبما كان معروفاً في ذلك الزمان، وبهذه الأخلاق نفسها يمكن أن ينهض المسلمون المتأخرون من كبوتهم، وينفضوا غبار الذل عنهم، ويستأنفوا الحياة من جديد، وإلا فلا بعث لهم من مرقدهم بإعراضهم عن أخلاق سلفهم الصالح، واستبدالها بمحاولة التشبه بالأجانب، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
6-
قوله: "وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل" ويشهد لذلك ما جاء في سفر التكوين من العهد القديم في الآية 18 وما بعدها من الباب السابع عشر: "وقال إبراهيم لله: "ليت إسماعيل يعيش أمامك"، فقال الله:"أما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا، اثني عشر رئيسا يلد، وأجعله أمة كبيرة"اهـ.
7-
حديثا أبي سعيد وأبي هريرة في إيقاظ الرجل زوجته وصلاتهما ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، والذاكرون الله كثيرا أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما كما في سورة (الأحزاب:35) وهذا الأجر العظيم كفيل بسعادة الدنيا والآخرة، وقال تعالى في سورة (البقرة: 152) : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} ، فإذا كان رجال الأمة ونساؤها متخلقين بهذا الخلق فبشّرهم بالعظمة والقوة والمد والرفعة، وإذا كانوا عنه معرضين فبشّرهم بعذاب أليم.
وتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لكل رجل قام من الليل لذكر الله بالصلاة، وأيقظ زوجته لتشاركه في هذه الغنيمة، فإن امتنعت رشّ على وجهها ماء يطير النوم من عينيها وينشطها للقيام، وبمثل ذلك دعا للمرأة الصالحة التي تقوم من الليل لذكر الله ومناجاة ربها في صلاتها، فتوقظ بعلها ليشاركها في الخير، فإن أبى رشّت على وجهه ماء يوقظه من سِنته، وينشطه للقيام. فهذه صفة الأمة السعيدة القوية المنصورة المؤيدة، وخلافها صفة الأمة الخائرة الضعيفة المتخاذلة الشقية.
فنسأل الله أن يوفّقنا لإحياء ما اندثر من مجدنا، واسترداد ما فقدناه من تراثنا حتى نكون خير خلف لخير سلف. وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.
استعلاء الإيمان
للشيخ محمد المجذوب
المدرس في الجامعة
يقولون: مع أيّ الفريقين تضلَعُ:
فلم يَبْقَ للإحجام والصبر موضعُ
هنا (عَنْتَرُ) يزجي بقايا فُلُولِهِ
وثمّ (فُلانٌ) خلفه نتجمع
وأنتم دعاة الحقِّ أولى بِنَصْرِه
فقُلتُ: أَمَا وَاللهِ مَا في قُلُوبِنَا
لِغيرِ جَلالِ اللهِ والحقِّ مَوقِعُ
وكُلُ خِلافٍ بَيننَا فَلأنَّنَا
وَعَيْنَاهُ في ضَوءِ الكِتَابِ وَلم تَعُوا
إذا ما دَعَونَاكُمُ إليه جَمَحْتُمُوا
وبَالَغْتُمُوا فيما يَسُوءُ ويَشْنَعُ
وقُلنا: هَلمُّوا نُعْلِ في الأرضِ شَرْعَهُ
فَقُلتُم: فُلانٌ لا سِواهُ المُشرِّعُ
وقد فاتَكُمْ أَنْ ليس للخلق مَالكٌ
سوى الله يقضي فيهمُ ويشرَعُ
وكلُّ احتكامٍ في الحياة لغَيره
هو الشِّركُ لا بل دونه الشِّركُ أَجْمعُ
وداعَبَكُمْ وهْمُ انتصارٍ فأوشكتْ
تَطيرُ بكم رِيحٌ من الطَّيْشِ زَعْزَعُ
ولمَّا يَزَلْ في كلِّ سمْعٍ صُراخُكُمْ
بِسَفْكِ دِماءِ الأَبرياءِ يُلَعْلِعُ
وحتى بُيوتُ اللهِ لم ترافُوا بها
فكادت بما تلقاهُ منكم تَصَدَّعُ
كَسوتُم حناياها رُسُوماً كأنها
هياكِلُ للاوثانِ لا للهِ تُرفعُ
ولم تَتحاشَوا عن مَنَابرِها فَكَمْ
لكُم مِنْ غَوِي فَوْقَهَا يتهوَّعُ
قد اتخذ الشَّيطانُ مِنْهُ مطيَّةً
فراحَ بها يهوي يخِبُ ويوضعُ
فكم خطبةٍ فيها الخُطوبُ تجمَّعتْ
ودَرْسٍ كَنزعِ الضِّرْسِ أوَْ هُوَ أَوْجَعُ
وفتوى جَهولٍ لو أُريدَ لمثلها
أُولُو الجَهلِ بل أَهلُ الخنََا لترفَّعُوا
ولا مِنْ غَيُورٍ يصفَعُ الكُفْرَ بالهُدَى
ويلوي بأَنْفِ العَابِثِينَ فيجدعُ!
فَواَلَهْفَ قَلبي للمساجدِ تَشْتَكِي
ولا تجدُ القَلْبَ الذي يَتَوجَّعُ
وكانت إذا الجبَّارُ مرَّ بسَاحِهَا
أَكَبَّ لجبَّارُ السَّمواتِ يخشَعُ
فأَضْحَتْ وللتَّصفيقِ في جَنَبَاتِهَا
دَويٌّ تكادُ الأرضُ منهُ تَزعزع
.. على أنّ عَدْلِ اللهِ سُرعانَ ما جرَى
بلاءً يطمُّ الظالمين ويقمع
رَماكُمْ بِقومٍ خِلْتموهُمُ لكُمْ دُمَىً
مَتَى تجْهرُوا بالأمْرِ يَعْنوا ويخنَعوا
فلمّا استبانَ الفَجرُ بُعْثِرتِ الرُّؤى
وزُلزِلتِ الدُنْيا وطَالَ التفجُّعُ
فكنتُم كزَحْفِ النَّارِ أَحْدَقَ بالحِمَى
فوافاهُ غيثٌ لم يَكُنْ يُتوقَعُ
وما ذاك إلا بَعضُ ما قدْ اردتُمو
به الناسَ، والآتي اشَدُ وأفظع
وقد يُمهلُ اللهُ البُغاةُ فإن رمَى
أذلَّ وَأَصْمى.. والقَضَا ليس يُدفَعُ
.. وكان لكم بالأمس صَولاتُ ضَيْغَم
على كل مسكينٍ من الظِّلِّ يَهلَعُ
فما بالكم مُذْ دمَّر اللهُ كَيدَكًم
كأنكُمُ في أَجْمَةِ الليثِ أَضْبُعُ
ولا غرو.. إنَّ الفَأرَ يَرْتَعُ خَالياً
فإن لاح ذَيْلُ الهَّرِّ فَالجُحرُ أَنفَعُ
وتَلُوحُنَنَا إن لم نَهَبَّ لِنَصْرِكُمُ
جُنونُ لَعْمِر اللهِ بَلْ هُوَ افْجَعُ
أنُسلِمُ للبَاغِي الغَشُومِ رِقَابنَا
على غَيرِ شَيْءٍ غَير أَنْ تَتَمَتَعُوا
ولو قد فَعْلَنَا ما ظَفِرنَا بعطفِكُمُ
إذا لم تَرونَا للطَّواغيتِ نَرْكَعُ!
وهيهاتَ تُحْنَى أَرْؤُسٌ قَدْ سَمَا بها
إلى اللهِ في جَوفِ الظَّلامِ التَّضَرُّعُ
تَغنَّوا بما شِئتُم إِلَهاً، وسَبِّحُوا
بآلائِهِ حتى تَبحُّوا وتُصْرَعُوا
وقُولوا الذي يَهْذِي بِهِ كُلُّ نَاعقٍ
علينَا، وَغالوا في آذاناً وشَنَّعُوا
فقد تُصبحُ الدنيا لإبليسَ شَيِعة
ونحن لغير الحقِّ لا نتشيَّعُ
أَنعدِلُ بالله العَظيمِ وَشَرعِهِ
أَضاليلُ يَجلوها الخِدَاعُ فَتَلمَعُ
فَأيْنَ إِذنْ عَهدٌ قَطْعنَا لِربِّنَا
بأننَّا لَهُ دون البرية تُبَّعُ
بلى نحنُ جُندُ اللهِ بِعْنَاهُ وَاشتَرَى
فلا هُوَ يُعْفِينَا ولا نحن نَرجِعُ
رمضان فضله وفوائده
لفضيلة نائب رئيس الجامعة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهداه.
أما بعد فيا أيّها المسلمون إنه قد أظلّكم شهر عظيم مبارك ألا وهو شهر رمضان شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهر العتق والغفران، شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنات وتضاعف فيه الحسنات وتُقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات وترفع فيه الدرجات وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه على عباده بأنواع الكرامات، يجزل فيه لأوليائه العطيات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام. فصامه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنّ "من صامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه"، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر مَنْ حُرِمَ خيرها فقد حُرِم.
فاستقبلوه رحمكم الله بالفرح والسرور والعزيمة الصادقة على صيامه وقيامه والمسابقة فيه إلى الخيرات والمبادرة فيه إلى التوبة النصوح من سائر الذنوب والسيئات والتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم.
وفي الصيام فوائد كثيرة وحكم عظيمة، منها: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها عن الأخلاق السيئة كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرّب لديه. ومن فوائد الصوم أنه يعرّف العبد نفسه وحاجته وضعفه وفقره إلى ربه سبحانه وتعالى، ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكره أيضا بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه والاستعانة بنعمه على طاعته ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الفوائد في قوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه سبحانه فدل ذلك على أن الصيام وسيلة للتقوى، والتقوى: هي طاعة الله ورسوله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه عن إخلاص لله عز وجل ومحبة ورغبة ورهبة، وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه، فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى، ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شؤون الدين والدنيا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض فوائد الصوم في قوله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم وِجاء للصائم ووسيلة لطهارته وعفافه، وما ذاك إلا لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم والصوم يضيّق تلك المجاري، ويذكر بالله وعظمته فيضعف سلطان الشيطان، ويقوى سلطان الإيمان، وتكثر بسببه الطاعات من المؤمن وتقل به المعاصي.
وفي الصوم فوائد كثيرة غير ما تقدم تظهر للمتأمل من ذوي البصيرة، ومنها أنه يطهّر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة، وقد اعترف بذلك كثير من الأطباء، وعالجوا به كثيرا من الأمراض.
وقد ورد في فضله وفريضته آيات وأحاديث كثيرة قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} إلى أن قال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس؛ شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم رمضان، وحج البيت"، وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني على النار؟ قال: "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسّره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل"ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .. ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ "قلت: "بلى يا رسول الله"فقال "رأس
الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله "ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: "بلى يا رسول الله"قال: "كف عليك هذا"، وأشار إلى لسانه.. فقلتك "يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ "فقال صلى الله عليه وسلم:"ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم".
أيها المسلمون: إن الصوم عمل صالح عظيم وثوابه جزيل ولا سيما صوم رمضان؛ فإنه الصوم الذي فرضه الله على عباده وجعله من أسباب الفوز لديه، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول الله عز وجل: "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي"، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلّقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين "، وأخرج الترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا كان أول ليلة من رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجن، وفتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وينادي مناد: "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويقول لهم: "جاء شهر رمضان بالبركات فمرحباً به من زائر وآت"، وأخرج ابن خزيمة عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس إنه قد أظلّكم شهر عظيم مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه، ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدى
سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن" إلى أن قال:"فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما؛ فأما خصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة ألا إله إلا الله والاستغفار، وأما خصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار"..
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر غفر الله ما تقدم من ذنبه"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في الغالب لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الليالي يصلي ثلاثة عشرة ركعة، وفي بعضها أقل من ذلك. وليس في قيام رمضان حد محدود لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قيام الليل قال:"مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر ما قد صلى".
ولم يحدّد صلى الله عليه وسلم للناس في قيام الليل ركعات معدودة بل أطلق لهم ذلك، فمن أحب إحدى عشرة ركعة أو ثلاثة عشرة ركعة أو ثلاثا وعشرين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل فلا حرج عليه، ولكن الأفضل هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وداوم عليه في أغلب الليالي، وهو إحدى عشرة ركعة مع الطمأنينة في القيام والقعود والركوع والسجود، وترتيل التلاوة وعدم العجلة؛ لأن روح الصلاة هو الإقبال عليها بالقلب والخشوع فيها، وأداؤها كما شرع الله بإخلاص وصدق ورغبة ورهبة وحضور قلبٍ كما قال الله سبحانه:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجعلت قرّة عيني في الصلاة"، وقال للذي أساء في صلاته:"إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"، وكثير من الناس يصلي قيام رمضان صلاة لا يعقلها، ولا يطمئن فيها، بل ينقرها نقرا، وذلك لا يجوز بل هو منكر لا تصح معه الصلاة، فالواجب الحذر من ذلك، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته"، قالوا:"يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ "قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي نقر صلاته أن يعيدها.
فيا معشر المسلمين عظّموا الصلاة وأدوها كما شرع الله واغتنموا هذا الشهر العظيم وعظموه رحمكم الله بأنواع العبادة والقربات، وسارعوا فيه إلى الطاعات، فهو شهر عظيم جعله الله ميدانا لعبادة، يتسابقون فيه بالطاعات ويتنافسون في أنواع الخيرات، فأكثروا فيه رحمكم الله من الصلاة والصدقات وقراءة القرآن الكريم والإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فاقتدوا به صلى الله عليه وسلم في مضاعفة الجود والإحسان في شهر رمضان، وأعينوا إخوانكم الفقراء على الصيام والقيام، واحتسبوا أجر ذلك عند الملك العلاّم، واحفظوا صيامكم عما حرّمه الله عليكم من الأوزار والآثام، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وقال عليه الصلاة والسلام:"الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق فإن امرأ سابه أحد فليقل: إني امرؤ صائم"، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ليس الصيام من الطعام والشراب وإنما الصيام من اللغو والرفث"، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر"، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه:"إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء"، فينبغي للصائم الإكثار من تلاوة القرآن بتدبر وتعقل، والإكثار من الصلوات والصدقات والاستغفار وسائر أنواع القربات في الليل والنهار، اغتناما للزمان ورغبة في مضاعفة الحسنات، ومرضاة فاطر الأرض والسموات، واحذروا - رحمكم الله - كل ما ينقص الصوم، ويُضْعِفُ الأجر، ويغضب
الرب عز وجل، من سائر المعاصي كالتهاون بالصلاة والبخل بالزكاة وأكل أموال اليتامى وأنواع الظلم وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم والغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور والدعاوي الباطلة والأيمان الكاذبة وحلق اللحى وتقصيرها وإطالة الشوارب والتكبر وإسبال الثياب واستماع الأغاني وآلات الملاهي وتبرج النساء وعدم تسترهن من الرجال والتشبه بنساء الكفرة في لباس الثياب القصيرة وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله، وهذه المعاصي التي ذكرنا محرمة في كل زمان ومكان، ولكنها في رمضان أشد تحريماً وأعظم إثماً لفضل الزمان وحرمته، ومن أقبح هذه المعاصي وأخطرها على المسلمين ما ابتلي به الكثير من الناس من التثاقل عن الصلوات والتهاون بأدائها في الجماعة في المساجد، ولا شك أن هذا من أقبح خصال أهل النفاق ومن أسباب الزيغ والهلاك قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر"، وقال له صلى الله عليه وسلم رجل أعمى:"يا رسول الله إني بعيد الدار عن المسجد وليس لي قائد يلائمني فهل لي أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تسمع؟ "قال: "نعم" قال: "أجب"، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتنا وما يتخلّف عن الصلاة في الجماعة إلا منافق معلوم النفاق أو مريض"، وقال رضي الله عنه: "لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم"، والتهاون بالصلاة في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية، وذلك كفر بالله سبحانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".
ومن أخطر المعاصي اليوم أيضا ما بلي به الكثير من الناس من استماع الأغاني وآلات الطرب وإعلان ذلك في الأسواق وغيرها ولا ريب أن هذا من أعظم الأسباب في مرض القلوب وصدّها عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن استماع القرآن الكريم والانتفاع به. ومن أعظم الأسباب أيضاً في عقوبة صاحبه بمرض النفاق والضلال عن الهدى كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} . وقد فسّر أهل العلم لهو الحديث بأنه الغناء وآلات اللهو، وكل كلام يصد عن الحق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ليكوننّ من أمتي أقوام يستحلون الحرَ والحريرَ والخمرَ والمعازفَ"، والحِرَ: هو الفرج الحرام، والحرير معروف، والخمر هو كل مسكر، والمعازف هي آلات الملاهي كالعود والكمان وسائر آلات الطرب، والمعنى أنه يكون في آخر الزمان قوم يستحلّون الزنا ولباس الحرير وشراب المسكرات واستعمال آلات الملاهي، وقد وقع ذلك كما أخبر به صلى الله عليه وسلم وهذا من علامات نبوته ودلائل رسالته عليه الصلاة والسلام، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع".
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا ما نهاكم الله عنه ورسوله واستقيموا على طاعته في رمضان وتواصوا بذلك وتعاونوا عليه لتفوزوا بالكرامة والسعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة. والله المسؤول أن يعصمنا والمسلمين من أسباب غضبه، وأن يتقبل منا جميعا صيامنا وقيامنا، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، وأن ينصر بهم دينه، ويخذل بهم أعداءه، وأن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه، والحكم والتحاكم إليه في كل شيء. إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
البرُّ لا يبلى
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس في الجامعة
روى عبد الرازق في جامعه عن أبي قلابة رحمه الله بسند حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تدين تدان".
وقد ذكر الله تعالى أصول البر وخصاله العظمى والعنوان الحقيقي لأهل البر في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . فأعظم خصال البر: الإيمان بالله؛ وهو اطمئنان القلب وسكونه ويقينه بالله فاطر السموات والأراضي، عالم الغيب والشهادة، القائم على كل نفس بما كسبت، المستحق وحده لا شريك له لأقصى غاية الحب مع أقصى غاية الذل، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، {الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .
ومن أصول البر وأعظم خصاله أن يؤمن الإنسان باليوم الآخر والبعث بعد الموت ليجزي المحسن على إحسانه والمسيء بإساءته، وعقيدة البعث تسارع إلى الإيمان بها النفوس الكاملة والعقول المستنيرة، فإنه لو لم يكن هناك بعث ولا نشور لكان خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا، وحينئذٍ يستوي من يفسد في الأرض ومن يصلح فيها، ومن يحسن إلى الإنسانية ومن يسيء إليها. وكما قال تعالى:{ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} ، وهذا لا يكون أبداً ولابد من البعث ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ومن أصول البر التصديق بملائكة الله وهم خلق الله تعالى جعلهم الله رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، شأنهم الطاعة، ومسكنهم السموات، لا يعصون الله طرفة عين ويفعلون ما يؤمرون، ومنهم معقّبات للإنسان من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، وفيهم الكرام الكاتبون، ومنهم خزنة النار، ومنهم الذين يدخلون على المؤمنين في الجنة من كل باب، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} .
ومن أصول البر أن يؤمن الإنسان بأن الله عز وجل أنزل كتبا من السماء لتكون نبراسا لأهل الأرض ودستورا لهم يقتدون بها إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم ومنها التوراة والإنجيل والقرآن العظيم.
ومن أصول البر الإيمان بأنبياء الله ورسله الذين هم أكمل بني الإنسان، وأعرف خلق الله بالله، وأدلهم على الله، وأهداهم طريقا، وأحسنهم سلوكا، أرسلهم الله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وقد فضّل الله بعضهم على بعض، وأعظمهم أولو العزم الخمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وأعظم أولي العزم الخليلان محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وأعظم الخليلين محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن أصول البر بذل المال المحبوب للمحتاجين إليه وذوي القربى واليتامى والمساكين وابن سبيل والسائلين، وبذله كذلك في تحرير الرقيق، وقد وصف الله عز وجل بذل المال في هذه الوجوه بأنه اقتحام العقبة، إذ يقول:{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} . ومن أصول البر وأعظم خصال الخير الصلاة فإنها عمود الدين وهي تذهب السيئات وتكفّر الخطيات، وهي كنهر بباب الإنسان يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر"، ومن أعظم أبواب الخير إخراج الزكاة للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن سبيل، على أن مال الإنسان الحقيقي هو الذي يبذله في وجوه البر، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا ابن آدم تقول مالي وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت"، {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .
ومن أعظم أصول الخير وخصال البر الوفاء بالعهد، وقد أنذر الله عز وجل الذين ينقضون العهد بأنهم لهم اللعنة ولهم سوء الدار، وقد جعلت الشريعة الإسلامية خلف الوعد من أمارات النفاق فقد قال رسول صلى الله عليه وسلم:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".
ومن أصول البر الصبر، وهو حبس النفس عن الجزع عند حلول البلوى، وقد أمر الله عز جل رسوله صلى الله عليه وسلم ببشارة الصابرين فقال:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
وهذه هي أصول البر العظيمة التي ما تَقرّب العبد إلى الله تعالى بأحب إليه منها، وفيها من التكافل الاجتماعي ما يجعل المجتمع المستمسك بها أسعد المجتمعات.
وهناك أعمال إنسانية أخرى وصفتها الشريعة الإسلامية بأنها من البر وإن كانت دون ما ذكرناه، فإنها وعدت من يقوم به بجميل المثوبة، وعظيم الأجر.
فمن ذلك إماطة الأذى عن الطريق فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخّرهُ فشكر الله له فغفر له"، وفي رواية أخرى لمسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لقد رأيت رجلا في الجنة في شجرة قطعها من طريق المسلمين"، وفي لفظ أخر له قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق فقال: "والله لأُنحيَنّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فدخل الجنة"، وروى أبو داود رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "نزع رجل -لم يعمل خيرا قط- غصن شوك عن الطريق قال: "أما كان في شجرة فقطعها وأما كان موضوعا فأماطه عن الطريق فشكر الله ذلك فأدخله الجنة".
وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها: الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوىء أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن".
ومن أعمال البر معونة ذي الحاجة الملهوف وقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن صلى الله عليه وسلم قال: "على كل مسلم صدقة، قيل أرأيت إن لم يجد؟ قال: "يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق"، قال: "أرأيت إن لم يستطيع؟ "قال: "يأمر بالمعروف أو الخير"، قيل: "أرأيت إن لم يفعل؟ "قال: "يمسك عن الشر فإنها صدقة".
وكذلك روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل سلامي من الناس صدقة - أي على كل مفصل مفاصل الإنسان صدقة - كل يوم تطلع فيه الشمس، قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة".
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا لأدنى خصال البر، وتعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن عملها بالجنة، فقد روى البخاري عن كبشة السلولي رحمه الله أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة".
هذا وقد وصف الله تعالى عاقبة الأبرار الحسنى فقال جل من قائل: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُه، ُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} .
الإخلاص
للشيخ عبد المحسن العباد
المدرس في الجامعة
هو في اللغة: تخليص الشيء وتجريده من غيره، فالشيء يسمى خالصا إذا صفا عن شوبه وخلص عنه، ويسمى الفعل المصفى المخلص من الشوائب إخلاصا، وفي الأول قوله تعالى:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} ، فاللبن الخالص ما سلم وصفا من الدم والفرث ومن كل ما يشوبه ويكدر صفاءه، ومن الثاني قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ} .
وفي الاصطلاح: تصفية ما يراد به ثواب الله وتجريده من كل شائبة تكدر صفاءه وخلوصه له سبحانه.
منزلته: الإخلاص هو أساس النجاح والظفر بالمطلوب في الدنيا والآخرة، فهو للعمل بمنزلة الأساس للبنيان، وبمنزلة الروح للجسد، فكما أنه لا يستقر البناء ولا يتمكّن من الانتفاع منه إلا بتقوية أساسه وتعاهده من أن يعتريه خلل فكذلك العمل بدون الإخلاص، وكما أن حياة البدن بالروح فحياة العمل وتحصيل ثمراته بمصاحبته وملازمته للإخلاص، وقد أوضح ذلك الله في كتابه العزيز فقال:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، ولما كانت أعمال الكفار التي عملوها عارية من توحيد الله وإخلاص العمل له سبحانه جعل وجودها كعدمها فقال:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} . والإخلاص أحد الركنين العظيمين اللذين انبنى عليهما دين الإسلام، وهما إخلاص العمل لله وحده وتجريد المتابعة للرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، قال:"أخلصه وأصوبه"، قيل:"يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، فالخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان على السنة". وقال شارح الطحاوية: "توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما؛ توحيد المرسل سبحانه وتوحيد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيوحده صلى الله عليه وسلم بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما يوحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل".
محله: ومحل الإخلاص القلب، فهو حصنه الذي يقطن فيه، فمتى كان صالحا عامرا بسكناه وحده تبع ذلك صلاح الجوارح، ومتى كان خرابا سكن فيه الرياء وملاحظة الناس وكسب ودهم وتحصيل ثنائهم والطمع فيما عندهم، ويتبع ذلك سعي الجوارح لتحصيل هذه الأغراض الدنية، وليس أدل على ذلك وأوضح بيانا من قوله صلى الله عليه وسلم:"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب"، وقد أوضح صلى الله عليه وسلم هذا المعنى وبيَّن تبعية الجوارح لما يقوم بالقلب بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
والإخلاص مطلوب في الصلاة والزكاة والصيام والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي كل ما شرعه الله من قول أو فعل، فيقوم الإنسان بتأدية ما شرع له، والباعث له عليه امتثال أمر الله خوفاً من عقابه، وطمعاً فيما لديه من الأجر والثواب.
والإخلاص مطلوب أيضا فيما يلتزمه الإنسان من الأعمال فهو مطلوب من العامل، ومن المستشار والمؤتمن والموظف، ومن المعلم والمتعلم، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على طلب العلم والإخلاص فيه من النتائج الحميدة، وما يترتب على فقده من العواقب الوخيمة بقوله صلى الله عليه وسلم:"من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وروى عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، فقال: "ما عملت فيها؟ "قال: "قاتلت فيك حتى استشهدت"، قال: "كذبت؛ ولكنك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل"، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها فقال: "ما علمت؟ "قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك"قال: "كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت ليقال: قارىء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب وجهه حتى ألقي على النار" الحديث.
ويروى أن معاوية رضي الله عنه لما بغله هذا الحديث بكى حتى أغمي عليه، فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله؛ قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} ، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه:"لا تعلّموا العلم لثلاث؛ لتماروا به السفهاء، ولتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرفوا وجهة الناس إليكم، وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله فإنه يبقى ويذهب ما سواه".
الحث عليه وبيان فضله:
ولما كان الإخلاص بهذه المنزلة التي تقدم وصفها جاء الشرع المطهر في الحث عليه والترغيب فيه وبيان فضله في آيات كثيرة وأحاديث عديدة، نذكر بعضها على سبيل التمثيل فمن ذلك قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} ، وقوله:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} ، وقوله:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّه} الآية.. وقوله: شقُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَه} (الأنعام: الآية 162- 163) ، وقوله:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} (الكهف: من الآية110)، وقوله:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (الزمر:14) .
ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لأصحابه في غزوة تبوك: "إن بالمدينة رجالا ما سرتم سيرا، ولا قطعتم واديا إلاّ كانوا معكم حسبكم المرض" وفي رواية: "إلاّ شركوكم في الأجر" متفق عليه واللفظ مسلم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص:"إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلاّ أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك" متفق عليه.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" رواه مسلم، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" جوابا لمن سأله عن رجل يقاتل شجاعة ويقاتل الحمية ويقاتل رياء أيّ ذلك في سبيل الله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يكتسبه الإنسان في الدنيا بسبب الإخلاص إلى جانب ما أعده الله له في الآخرة من مثوبة بما ذكره صلى الله عليه وسلم من قصة الثلاثة الذين آووا إلى غار للمبيت فيه فانحدرت صخرة وسدّت عليهم باب الغار ففرج الله عنهم ذلك بسبب إخلاصهم الأعمال الصالحة له سبحانه وتعالى.
ما يضاد الإخلاص وبم تحصل السلامة منه:
وكما أن الإخلاص تصفية الشيء مما يشوبه فإذا لم تحصل تصفيته انتفى الإخلاص.
إذا قام الإنسان بعمل محمود والباعث له عليه ابتغاء وجه الله سمّي عمله إخلاصاً فإذا فقد ذلك الباعث على العمل أو وجد ولكنه مشوب بباعثٍ آخر كالرياء انتفت التسمية، فإخلاص العمل لله وحده ينافيه، ويقابله أن يحلّ في القلب قصد المخلوقين التماساً لحمدهم وثنائهم وطمعاً فيما عندهم، ولما كان ذلك ينافي الإخلاص جاءت الشريعة الإسلامية بذم الرياء ومقت المرائين فقد قال سبحانه:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} . وأخبر أن الرياء من صفات المنافقين فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} ، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه".
ومن ابتلاه الله بهذا الداء العضال فعليه أن يسعى في تحصيل الأدوية النافعة التي تستأصله وتقضي عليه، ومن أبرزها شيئان:
أحدهما: أن يزهد فيما ينتظر من الناس من الثناء والعطاء.
والثاني: أن يحمل نفسه على إخفاء الأعمال.
وقد أوضح الأول منهما ابن القيم في الفوائد ص 148 فقال: " لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلاّ كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين الناس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيها زهد عشاق الدنيا والآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يسهل عليّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهل عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلاّ وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه، وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهل عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين إلاّ الله وحده، كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ مدحي زين وذمّي شين"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الله عز وجل"، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه ولا يشينك ذمه، وارغب في مدح مَنْ كل الزين في مدحه وكل شين في ذمه، ولن تقدر على ذلك إلاّ بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} " انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى إخفاء العبادة ابتعاداً عن الرياء بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله، "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
فالحاصل أن العمل مذموم إذا كان الباعث عليه التماس حمد الناس وثنائهم، والطمع فيما عندهم، أما إذا عمل الإنسان العمل خالصا لله ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بسبب ذلك العمل فارتاح لذلك واستبشر به لم يضره، ولم ينقص من أجره، بدليل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يعمل العمل محبة لله فيحمد الناس عليه قال:" تلك عاجل بشرى المؤمن" رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه.
إقبال شاعر الإسلام
للشيخ أحمد حسن المدرس بالجامعة
وبعد فهذا شاعر من الذين آمنوا، يفعل ما يقول، ولا يهيم في كل واد، وإنما هو شاعر ثائر، وفيلسوف حكيم، ومصلح كبير، وقد أحببت أن يكون هذا النابغة موضوعا لمقالي؛ لأنه شاعر الحب والطموح والإيمان. وأشهد أني كلما قرأت شعره جاش خاطري، وثارت عواطفي، وشعرت بدبيب من المعاني والأحاسيس في نفسي.
واخترت الحديث عن هذا العظيم لأنه ولد في بلاد بعيدة عن مهد الإسلام، وانحدر من سلالة برهمية قريبة العهد بالهداية الإسلامية، وكانت بلاده خاضعة لحكم الإنكليز، وكانت السيادة فيها للثقافة الغربية، فدرس شاعرنا العلوم العصرية والآداب الغربية إلى أقصى حدودها، وفي أعظم مركزها، ثم اشتد إيمانه بالرسالة المحمدية، وإعجابه بشخصية محمد صلى الله عليه وسلم، وثقته بالأمة الإسلامية ومواهبها ومستقبلها، واشتدت حماسته للإسلام، كما اشتد إنكاره لأسس الفلسفة الغربية والحضارة الأوروبية، وفي ذلك يقول:"لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي، ويعشي بصري، وذلك لأني اكتحلت بإثمد المدينة" ويقول: "مكثت في أتون التعليم الغربي ،وخرجت كما خرج إبراهيم من نار النمرود"، ويقول:"لم يزل ولا يزال فراعنة العصر يرصدونني، ويكمنون لي، ولكنني لا أخافهم فأنا أحمل اليد البيضاء، لا تعجبوا إذا اقتنصت النجوم، وانقادت لي الصعاب، فأنا من أتباع ذلك السيد العظيم، الذي تشرفت بوطأته الحصباء فصارت أعلى قدرا من النجوم، وجرى في أثر الغبار فصار أعبق من العبير".
ولقد استخدم إقبال عبقريته الشعرية ومواهبه الأدبية في نشر عقيدته ودعوته، وكان خير مثال للشاعر المؤمن والعالم الداعي والفيلسوف الحصيف، وقد أحدث إقبال هزة في الأفكار والآداب في قطر من أعظم الأقطار الإسلامية وأوسعها، وتجاوز تأثيره إلى أقطار بعيدة، وسمع له صدى في أنحاء العالم.
والسبب الثالث الذي دفعني للحديث عنه وقوفه مع أمتنا وقضاياها المواقف التي تتفق مع العقيدة التي آمن بها، والرسالة التي قضى حياته في سبيلها.
ففي قصيدته (هدية إلى الرسول) يتخيل أنه حضر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: "ماذا حملت لنا من هدية؟ "، فاعتذر الشاعر عن هدية الدنيا وقال: إ"نها لا تليق بمقامكم الكريم، ولكن جئتك بهدية، إنها زجاجة يتجلى فيها شرف أمتك، إن فيها دم شهداء طرابلس"، وحينما طلبت فرنسا من إقبال أن يزور مستعمراتها في شمال إفريقية رفض دعوتها، وأبى أيضا أن يزور جامع باريز وأساتذته، وقال:"إن هذا ثمن بخس لتدمير دمشق وإحراقها".
ولما مرّ بصقلية في طريق عودته إلى بلاده من رحلته التي قام بها لأوروبا قال: "إبك أيها الرجل دماً لا دمعاً؛ فهنا مدفن الحضارة الحجازية".
ولا ينسى الشاعر أن يدحض مزاعم اليهود، ويردّ دعواهم على أعقابهم حينما يدّعون ملكية فلسطين؛ لأنهم سكنوها في قديم الزمان، فيقول ساخرا:"أما كان للعرب أن يطالبوا بأسبانيا، تلك التي ملكوا زمامها في غابر الأيام، وملأوا ربوعها علماً ونوراً".
وحينما زار الشاعر إسبانيا قال لمدير أحد الفنادق الكبرى في قرطبة: "أين أحفاد العرب في هذه البلاد؟ "فقال له المدير: "إنني منهم"، ثم جمع له وجوهاً من خيارهم، فقال إقبال:
بأعينهن المراض الحسن
إلى اليوم تلك ظباء الحمى
على صيد أسد الشرى كل آن
وألحاظها لم تزل قادرات
وهذا النسيم عبير يمان
وتلك المحاسن طبع الحجاز
وإن زال سكان تلك الجنان
فحي الجنان وسكانها
ولم ينس الشاعر أن يزور مسجد قرطبة ويقرأ الآيات القرآنية المسطورة بالمداد الذهبي على جدارنه، وكان ذلك أثر كبير في نفسه، وأنه ليقول في ذلك:"لقد أحسست بالعطر والنسيم والجمال، وفهمت لماذا اختار العرب بلاد الأندلس، فهي المكان الذي لا يأسن فيه الماء، ولا يتغير مع هوائه الطعام، وعرفت لماذا اختار العرب، هذا الوطن الذي انبعثت منه مدنيات العالم الحديث، ولما قام فرانكو بالحرب الأسبانية الأهلية كان جنوده الفاتحون من مراكش، فقال بعض الناس لإقبال: "ها هم العرب مرة أخرى قاموا يفتحون الأندلس بعد خمسمائة عام، فقال إقبال: "هل قرأت قصيدتي عن قرطبة وأخذ يتلو منها:
جنة الحسن الذي يجلو النظر
أيها النهر الذي شاطئه
حلم الماضي الذي عنك استتر
فوق شطيك سرى في مقلتي
في حجاب خلف مجهول القدر
غير أن القوم في سكرتهم
قد تجلى لي ضحاها في السحر
وأرى في حلم ليلي يقظة
لو كشفت عن كنز الفكر
يزعج القوم ندائي للعلا
وإقبال هو الذي ينادي العرب من خلف السهوب ومن وراء البحار فيقول:
من سواكم حل أغلال الورى
أمة الصحراء يا شعب الخلود
صاح لا كسرى هنا لا قيصرا
أي داع قبلكم في ذا الوجود
أطلع القرآن صبحا للرشاد
من سواكم في حديث أو قديم
ليس غير الله ربا للعباد
هاتفا في مسمع الكون العظيم
وسل الحمراء واشهد حسن تاج
لا تقل أين ابتكار المسلمين
نحوها طوعا يؤدون الخراج
دولة سار ملوك العالمين
مظهر العزة والملك الحصين
دولة تقرأ في آياتها
دونها حارت قلوب العارفين
وكنوز الحق في طياتها
لنبي الله قدسي الجناب
أرسل الشكر إلى غير انتهاء
أوقد النور بكف من ترا
أشعل الإيمان نارا بالعراء
عزمة فل بها سيف الغير
وحباه الله من عليائه
سار فيها راكب خيل القدر
راكب الناقة في صحرائه
وصفوفا تحت ظل المسجد
كبروا الله في ظل الحروب
وارتقوا فيها مكان الفرقد
وثبة دانت لهم فيها الشعوب
وأرى بنيانكم منقسما
كل شعب قام يبني نهضة
لهف نفسي كيف صرتم أمما
في قديم الدهر كنتم أمة
فهو أولى الناس طرا بالفناء
كل من أهمل ذاتيته
كل من قلد عيش الغرباء
لن يرى في الدهر شخصيته
طالما كنتم جمالا للعصر
فكروا في عصركم واستبقوا
مرة أخرى بها روح عمر
واملأوا الصحراء عزما وابعثوا
لهذه الأسباب مجتمعة رغبت في إقبال والحديث عنه، ولا بد لي من الإشارة أولا وقبل كل شيء إلى أن ما كتب عن إقبال في العربية وما ترجم له من شعر لا يتناسب مع عظمة شخصيته وسلاسة شعره وكثرته، فأنا إذن لن أحدثكم على مميزات شعره ودقيق فلسفته؛ لأن ما ترجم له لا يكفي ذلك، ولكني سأقبس لكم من سيرته قبسات لتعيشوا معه لحظات.
حياته:
ولد شاعرنا العظيم في بلدة (سيالكوت) في إقليم البنجاب من الهند عام ثلاثة وسبعين وثمانمائة وألف، وفتح عينه على أنهار الجارية التي تنحدر عبر التلال الجميلة، حاملة في خريرها وتدافع أمواجها قصة الأزل، وسنة الأبد، ودرج إقبال على تلك السهول والسفوح بين الخمائل وتحت الظلال يستمتع بجمال بلاده وسحر طبيعتها.
وينتمي شاعرنا إلى سلالة وثنية برهمية، كانت تعيش في كشمير، غير أن الإسلام غزا قلوب هؤلاء البراهمة، فكان منهم والد الشاعر.
والد إقبال: كان والد إقبال تقيا زاهدا، يهتز فؤاده رهبة وإشفاقا، وتدمع عيناه خوفا ووجلا، كلما ذكرت كلمة النار، وكلما قرأ أو سمع عن هول يوم الحساب، ولنترك الحديث عن والد إقبال لإقبال نفسه يقول إقبال:"وقع على بابنا سائل وقوع القضاء، ورفع صوته كأنه نعيب غراب، وأخذ يهز الباب، ولما آلمني تصايحه وإلحافه خرجت إليه فأهويت على رأسه فبعثرت ما بيده مما جمعه طوال يومه، فلما رأى والدي تلك الحادثة اصفرّ وجهه الأحمر وانحدرت الدموع نهرا على خديه، وقال: "تذكّر يا بنيّ جلال المحشر يوم تجتمع أمة خير البشر، وأرجع البصر كرّةً إلى لحيتي البيضاء، ونحول جسمي المرتعش بين الخوف والرجاء، كن يا بني من البراعم في غصن محمد، وكن زهرة يحييها نسيم ربيع المصطفى".
إنّ الجرعات الدينية النقية لهي الدواء الناجع للبشرية الحائرة، وإنّ في الكؤوس الروحية الخالصة لنشوة سامية تنفي عن الإنسان ظلمات الشك، وتحجب عن عينيه أصنام اليأس والاستسلام، ولطالما ارتشف إقبال من تلك الكؤوس، فشفت من نفسه جراحا، وأبانت له عن طريق سليم واضح، وكشفت له عن أشياء ما كان ليكشف عنها، وينعم بجمالها لولا تلك الجرعات الدينية النافعة، وما أجمل قوله:
وصراخ أيماني وصوت منايا
اليوم أسمعك احتدام مشاعري
سأرى الخلية ما رأت عينايا
المستحيل بدا لعيني ممكنا
كمودة الإنسان للإنسان
لم ألق في هذا الوجود سعادة
أحتج إلى تلك التي في ألحان
لما سكرت بخمرها القدسي لم
ثقافته وعلومه:
ذهب إقبال منذ نعومة أظفاره إلى مكتب تحفيظ القرآن في (سيالكوت) ، وما يكاد أن يتحرك النهار وينحسر ظلّ الليل رويداً رويداً، وتثب الشمس من الأفق الشرقي، حتى يكون إقبال جالساً يستقبل الفجر، وأنداء الصباح تتمسّح بوجهه البريء الصغير، فيهب في نشاطه المعهود، ويصلي من خلف أبيه الشيخ الزاهد، ثم يتلو القرآن، وقد حرص أبوه المربي الفاضل على أن لا تكون قراءة إقبال كلمات تلقى، وآيات تتلى، وإنما قال له:"يا بني إقرأ القرآن وكأنه أنزل عليك"، وفي ذلك يقول إقبال:"ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهّم القرآن وأُقبل عليه فكان من أنواره ما اقتبست ومن بحره ما نظمت"
…
ثم انتقل إقبال إلى مدرسة (سيالكوت) وما أن أتم دراسته الثانوية حتى التحق بكليتها، حيث تلقى أصول اللغة الفارسية والعربية على أستاذه السيّد (مير حسن) .. ولقد امتاز طوال هذه الفترة بذكائه الحاد وبديهته السريعة، وحوزه لقصب السبق بين أقران ولداته، ونتج عن ذلك أن نال الجوائز السنية ونال فرصة الدراسة بالمجان، وفتحت بعد ذلك كلية الحكومة في (لاهور) ذارعيها لاستقبال الشاب الذكي، ففاق على أقرانه، ونال ميداليتين ذهبيتين، ومساعدة الحكومة الشهرية له جزاء اجتهاده.
وفي كلية الحكومة بـ (لاهور) التقى إقبال بأستاذه الفيلسوف المستشرق (توماس أرنولد) الذي رحّب بميل تلميذه إلى الفلسفة، فكان له خير مرشد ومعين، وسرعان ما توثقت بينهما أواصر الصداقة، واستحكمت روابط الألفة، ثم نال إقبال شهادة في الفلسفة وعيّن أستاذا للفلسفة والسياسة المدنية بالكلية الشرقية في (لاهور) ، ثم أستاذا للفلسفة واللغة الإنكليزية في كلية الحكومة هناك، وكان ذلك هو الدليل المادي على تقديرهم لغزارة علمه، ورجاحة عقله، وعظيم عبقريته.
وفي عام خمسة وتسعمائة وألف ولّى إقبال وجهه شطر بلاد الغرب، حيث وصل إلى لندن، والتحق بجامعة (كامبردج) وأخذ شهادة عالية في الفلسفة وعلم الاقتصاد، ومكث في عاصمة الدولة البريطانية ثلاث سنين يلقي محاضرات في موضوعات إسلامية، أكسبته الثقة والشهرة، وتولى في خلال تلك المدة تدريس آداب اللغة العربية في جامعة لندن مدة غياب أستاذه (أرنولد) ، ثم سافر إلى ألمانيا وأخذ من جامعة (ميونخ) الدكتوراه في الفلسفة، ثم رجع إلى لندن وأخذ شهادة في المحاماة، ورجع إلى الهند عام ثمانية وتسعمائة وألف سالما غانما، ومن دواعي العجب أنّ كل هذا النجاح حصل لهذا النابغة هو لم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره.
ولقد توسّع إقبال في قراءته عن (نتشة) و (هيجل) و (شوبنهاور) وغيرهم وقارن بينهم وبين فلسفة الشرق أمثال ابن سيناء وابن رشد وإليكم رأيه في نتشه:
يقول إقبال عن نتشه: "خفق قلبه لضعف عناصر الإنسان، وخلق فكره الحكيم صورة أحكم وأمتن، فأثار بين الفرنج هياجا بعد هياج، مجنون ولج مصانع الزجاج، إذا بغيت نغمة ففر منه، فليس في نايه إلاّ قصف الرعد، قد دفع مبضعه في قلب الغرب، واحمرّت يده من دم الصليب، هذا الذي بنى معبداً للصنم على قواعد الحرم، قد آمن قلبه وكفر دماغه".
ولقد تعمّق إقبال في دراسته للفكر الهندي والإيراني، ونال قسطاً وافراً من منابع التراث الروماني واليوناني، ونهل قدراً وافياً من الثقافة الإنكليزية والألمانية والفرنسية والأمريكية، هذا فضلا عن الميراث الفكري الإسلامي والعربي الذي صرف فيه إقبال معظم مجهوداته.
أما اللغات التي أجادها إقبال فهي الأوردية، والفارسية، والإنكليزية، وكان عظيم الإتقان للألمانية والفرنسية، ولكنه كان يعرف العربية والسنسكريتية.
كتبه ودواوينه:
لقد ترك الشاعر باللغة الفارسية الدواوين الآتية:
أسرار خودي: يعني أسرار معرفة الذات، ورموز بيخودي: أي أسرار فناء الذات، وبيام المشرق: أي رسالة الشرق، في جواب كتاب (جوته)(تحية الغرب) ، كما ترك زبور عجم، وجاويد نامه، وماذا ينبغي أن تعمل الشعوب الشرقية، ومسافر، وأرمغان حجاز: أي هدية الحجاز، وترك باللغة الأوردية بال جبريل: أي جناح جبريل، وضرب كليم: يعني: ضرب موسى، وغير هذه الكتب محاضرات ألقاها في مدينة (المدارس) طبعت باسم (تجديد التفكير الديني في الإسلام) ، محاضرات ألقاها في جامعة (كامبردج) ، وقد اعتنى بهذه المحاضرات المستشرقون وعلماء الفلسفة والدين اعتناء عظيماً وعلّقوا عليها أهمية كبيرة.
ومن وراء جبال (الهيملايا) ومن خلف التلال والهضاب سارع أحد علماء روسيا، متكلفا المشاق والأهوال، راكبا الأخطار والأوعار، حتى التقى بإقبال، ونقل عنه مبادئه وأصول فلسفته، التي أودعها ديوانه (أسرار خودي) .
أما في ألمانيا فقد قام الأستاذ (دايشور وسو) ، والدكتور (فيشر) الأستاذ بجامعة (ليبرنغ) ، وصاحب مجلة (إسلاميكا) ، والشاعر الألماني الفيلسوف (هانسي) ، قام هؤلاء جميعاً وترجموا لإقبال، وكتبوا عن شعره وفلسفته، وقارنوا بينه وبين (جوته) الشاعر الألماني العظيم و (نيتشه) ، بل قامت هناك في ألمانيا جماعة اسمها جماعة إقبال، تشرف على ترجمة آثاره، ونشر مبادئه في ربوع البلاد، وفي أروقة الجامعات.
وهكذا فعل (اسكاريا) في ايطاليا، و (ميكنري) في أمريكا، و (نيكلسون) والمستشرق (براون) في إنكلترا، والدكتور عبد الوهاب عزام في مصر إذ كان له الفضل الأكبر في التعريف بـ (إقبال) في أرجاء العالم العربي.
ومرض إقبال في آخر حياته، وظل أياما طويلة رهين الفراش، ولم يزل لسانه يفيض بالشعر، وقد قال قبل وفاته بعشر دقائق:
"ليت شعري! هل تعود النغمة التي أرسلتها في الفضاء، وهل تعود النفخة الحجازية، قد أظلني موتي، وحضرتني الوفاة، فليت شعري هل حكيم يخلفني؟ ".
وقال وهو يجود بنفسه: "أنا لا أخشى الموت، أنا مسلم، ومن شأن المسلم أن يستقبل الموت مبتسما"، ولفَظَ نفَسَهُ الأخير على حجر خادمه القديم، على حين غفلة من العواد والأصدقاء، وغربت هذه الشمس التي ملأت القلوب حرارة ونورا، قبل أن تطلع شمس الواحد والعشرين من نيسان عام ثمانية وثلاثين وتسعمائة وألف.