المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 30 فهرس المحتويات 1- الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق: - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 30 فهرس المحتويات 1- الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق:

‌العدد 30

فهرس المحتويات

1-

الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق: لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز

2-

من أعلام المحدثين - الحافظ ابن حجر العسقلاني (773 - 825 هـ) : بقلم الأستاذ عبد المحسن بن حمد العباد

3-

أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد

4-

من أضاليل القاديانية (2) : لفضيلة الشيخ عبد الغفار حسن

5-

استقبال المسلمين لرمضان: لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم

6-

تعقيب على محاضرة: لفضيلة الشيخ محمد بخيت

7-

رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

8-

أثر العقيدة في الفن الإسلامي: بقلم الأستاذ رياض صالح جنزرلي

9-

مشاهداتي في أوروبا والأمريكيتين وما حولهما: لفضيلة الشيخ سعد ندا

10-

تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب: تأليف الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري

11-

حجية السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي: لفضيلة الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي

12-

هل أنت مدمن فيتامينات؟ : لسعادة الدكتور سيد أحمد عبد البر

13-

محنة الإسلام في الصومال: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب

14-

نداء من رابطة العالم الإسلامي

15-

حكم الإسلام في القاديانيين: بقلم فضيلة الشيخ عبد العزيز القويفلي

16-

ظواهر رهيبة: لفضيلة الشيخ محمد مجذوب

17-

مؤتمر وقف رسالة الإسلام: لفضيلة الشيخ إقبال شودري

18-

أمة واحدة: بقلم بنت الشاطئ

19-

الرابطة تستنكر المحاولات الهدامة لتشويه حقَائِق الإسلام

20-

رسالة من شيخ الأزهر إلى المدير العام لمنظمة اليونسكو بشأن كتاب (تاريخ البشرية)

لشيخ الأزهر دكتور عبد الحليم محمود

21-

الوجود الشيوعي الكريه في مصر: للأستاذ محمد عبد الله السمان

22-

من حضارتنا الإسلامية: من بحث الأستاذ ظافر القاسمي في (المجلة العربية)

23-

جواب مستفت: لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز

24-

أخبار الجامعة - نظام الجامعة الإسلامية الجديد

25-

إن الحكم إلا لله: مجلة المسلم المعاصر

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 477

الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق

لسماحة رئيس الجامعة

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه

أما بعد فقد كتب إليَّ بعض الإخوان يذكر أنه ألقى إليه بعض زملائه شبهة قائلا إنه يعترف أن الله سبحانه هو خالق السموات والأرض والعرش والكرسي وكل شيء ولكنه يسأل قائلا: "الله ممن تكون؟ ". فأجابه بقوله له: "كلامك الأول صحيح لا تعليق عليه أما قولك الثاني وهو قولك الله ممن تكون؟ فلا يقوله مسلم وينبغي أن يسعك ما وسع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يسألوا مثل هذا السؤال وهم الفطاحل في العلم". وقال له أيضا: "إن الله سبحانه قال عن نفسه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقال: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إلى آخر ما ذكره ورغب إليَّ في الإجابة عن هذه الشبهة فأجبته عن ذلك بما نصه:

ص: 478

اعلم وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه أن شياطين الإنس والجن لم يزالوا ولن يزالوا يوردون الكثير من الشبه على أهل الإسلام وغيرهم للتشكيك في الحق وإخراج المسلم من النور إلى الظلمات وتثبيت الكافر على عقيدته الباطلة وما ذاك إلا ما سبق في علم الله وقدره السابق من جعل هذه الدار دار ابتلاء وامتحان وصراع بين الحق والباطل حتى يتبين طالب الهدى من غيره وحتى يتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق كما قال سبحانه: {ألم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون} . وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} . فأوضح سبحانه في الآيات الأولى والثانية والثالثة أنه يبتلي مدعي الإيمان بشيء من الفتن ليتبين صدقه في إيمانه وعدمه.

ص: 479

وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك بمن مضى ليعلم سبحانه الصادقين من الكاذبين. وهذه الفتنة تشمل فتنة المال والفقر والمرض والصحة والعدو، وما يلقي الشياطين من الإنس والجن من أنواع الشبه وغير ذلك من أنواع الفتن، فيتبن بعد ذلك الصادق في إيمانه من الكاذب. ويعلم الله ذلك علما ظاهرا موجودا في الخارج بعد علمه السابق؛ لأنه سبحانه قد سبق في علمه كل شيء كما قال عز وجل {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة". قال: "وعرشه على الماء". أخرجه مسلم في صحيحه. ولكنه عز وجل لا يؤاخذ العباد بمقتضى علمه السابق وإنما يؤاخذهم ويثيبهم على ما يعلمه منهم بعد عملهم إياه ووجوده منهم في الخارج وذكر في الآيات الرابعة والخامسة والسادسة أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من أنواع الشبه وزخرف القول ما يغرونهم به ليجادلوا به أهل الحق ويشبهوا به على أهل الإيمان، ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوا به فيصُولوا ويجولوا ويلبسوا الحق بالباطل ليشككوا الناس في الحق ويصدوهم عن الهدى وما الله بغافل عما يعملون لكن من رحمته عز وجل أن قيض لهؤلاء الشياطين وأوليائهم من يكشف باطلهم ويزيح شبهتهم بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة فيقيموا بذلك الحجة ويقطعوا المعذرة وأنزل كتابه سبحانه تبيانا لكل شيء كما قال عز وجل:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . وقال سبحانه: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} . قال بعض السلف: "هذه الآية عامة لكل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة". وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي صلى

ص: 480

الله عليه وسلم: "يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به". قال: "وقد وجدتموه". قالوا: "نعم". قال: "ذاك صريح الإيمان". قال بعض أهل العلم في تفسير ذلك: "إن الإنسان قد يوقع الشيطان في نفسه من الشكوك والوساوس ما يصعب عليه أن ينطق به لعظم بشاعته ونكارته حتى إن خروره من السماء أهون عليه من أن ينطق به فاستنكار العبد لهذه الوساوس واستعظامه إياها ومحاربته لها هو صريح الإيمان لأن إيمانه الصادق بالله عز وجل وبكماله وبكمال أسمائه وصفاته وأنه لا شبيه له ولا ند له وأنه الخلاق العليم الحكيم الخبير يقتضي منه إنكار هذه الشكوك والوساوس ومحاربتها واعتقاد بطلانها". ولا شك أن ما ذكره لك هذا الزميل من جملة الوساوس وقد أحسنت في جوابه ووفقت للصواب فيما رددت به عليه زادك الله علما وتوفيقاً.

وأنا أذكر لك إن شاء الله في هذا الجواب بعض ما ورد في هذه المسألة من الأحاديث وبعض كلام أهل العلم عليها لعله يتضح لك من ذلك وللزميل المبتلى بالشبهة التي ذكرت ما يكشف الشبهة ويبطلها ويوضح الحق ويبين ما يجب على المؤمن أن يقوله ويعتمده عند ورود مثل هذه الشبهة ثم أختم ذلك بما يفتح الله عليَّ في هذا المقام العظيم وهو سبحانه ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.

ص: 481

قال الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الجامع الصحيح (ص 336) من المجلد السادس من فتح الباري طبعة المطبعة السلفية في باب صفة إبليس وجنوده: "حدثنا يحي بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير قال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته". ثم رواه في كتاب الاعتصام (ص 264) من المجلد الثالث عشر من فتح الباري: "عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله" انتهى. وأخرج مسلم في صحيحه اللفظ الأول من حديث أبي هريرة (ص 154) من الجزء الثاني من المجلد الأول من شرح مسلم للنووي رحمه الله. وأخرجه مسلم أيضا بلفظ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟. فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ورسوله". ثم ساقه بألفاظ أخر ثم رواه من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل: "إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا وما كذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله". وخرَّج مسلم أيضا رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "وقد وجدتموه". قالوا: "نعم". قال: "ذاك صريح الإيمان". ثم رواه من حديث بن مسعود رضي الله عنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: "تلك محض الإيمان". قال النووي رحمه الله في شرح مسلم لما ذكر هذه الأحاديث ما نصه:

ص: 482

"أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله صلى الله عليه وسلم: "ذلك صريح الإيمان" و"محض الإيمان" معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققاً وانتفت عنه الريبة والشكوك. واعلم أن الرواية الثانية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد وهي مختصرة من الرواية الأولى ولهذا قدم مسلم رحمه الله الرواية الأولى. وقيل معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه.

وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد فعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الإيمان أو الوسوسة علامة محض الإيمان وهذا القول اختيار القاضي عياض.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله". وفي الروية الأخرى: "فليستعذ بالله ولينته". فمعناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه، قال الإمام المازري رحمه الله:"ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها". قال: "والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها وعلى هذا يحمل الحديث وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تُدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم".

ص: 483

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليستعذ بالله ولينته" فمعناه إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه وليُعْرِض عن الفكر في ذلك وليعلم أن هذا لخاطر من وسوسة الشيطان وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء فليُعْرِض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها والله أعلم".

وقال الحافظ في الفتح في الكلام على حديث أبي هريرة المذكور في أول هذا الجواب ما نصه: "قوله: "من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته" أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها، قال الخطابي: "وجه هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص بالله منه وكفَّ عن مطاولته في ذلك اندفع"، قال: "وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان"، قال: "والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه كلام بالسؤال والجواب والحال معه محصور فإذا راعى الطرقة وأصاب الحجة انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلما أُلزم حجة زاغ إلى غيرها إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة، نعوذ بالله من ذلك".

قال الخطابي: "على أن قوله: "من خلق ربك" كلام متهافت ينقض آخره أوله؛ لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا ثم لو كان السؤال متجها لاستلزم التسلسل وهو محال وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث، فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات"انتهى. والذي نحا إليه من التفرقة بين وسوسة الشيطان ومخاطبة البشر فيه نظر؛ لأنه ثبت في مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله". فسوى في الكف عن الخوض في ذلك بين كل سائل عن ذلك من بشر وغيره.

ص: 484

وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة قال: "سألني عنها اثنان"، وكان السؤال عن ذلك لما كان واهيا لم يسحق جوابا، أو كف عن ذلك نظير الأمر بالكف عن الخوض في الصفات والذات، قال المازري:"الخواطر على قسمي: فالتي لا تستقر ولا يجلبها شبهة هي التي تندفع بالإعراض عنها، وعلى هذا ينزل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم وسوسة وأما الخواطر المستقرة الناشئة عن الشبهة فهي التي لا تندفع إلا بالنظر ولاستدلال. وقال الطيبي: "إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج لأن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة ولأن الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلا حيرة، ومن هذا حاله فلا علاج له إلا الملجأ إلى الله تعالى والاعتصام به وفي الحديث إشارة إلى ذم كثرة السؤال عما لا يعني المرء وعما هو مستغن عنه وفيه عَلم من أعلام النبوة لإخباره بوقوع ما سيقع فوقع". انتهى كلام ابن حجر

ص: 485

وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في كتابه موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: "ولفظ "التسلسل"يراد به التسلسل في المؤثرات - وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل - وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل: "آمنت بالله ورسوله" كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته". وفي رواية: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟. قال: فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا: "يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ ". قال: "فأخذ حصى بكفه فرماهم به". ثم قال: "قوموا، قوموا، صدق خليلي". وفي الصحيح أيضا عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: إن أمتك ليزالون يسألون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ ". انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله ولعله يتضح لك أيها السائل ولزميلك الذي أورد عليك الشبهة مما ذكرنا من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم ما يزيل الشبهة ويقضي عليها من أساسها ويبين بطلانها لأن الله سبحانه لا شبيه له ولا كفو له ولا ند له وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو الخالق لكل شيء وما سواه مخلوق وقد أخبرنا في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم بما يجب اعتقاده في حقه سبحانه وبما يعرفنا به ويدلنا عليه من أسمائه وصفاته وآياته المشاهدة من سماء وأرض وجبال وبحار وأنهار وغير ذلك من مخلوقاته عز وجل من جملة ذلك نفس الإنسان فإنها من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته وكمال علمه وحكمته.

ص: 486

كما قال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} . أما كنه ذاته وكيفيتها وكيفية صفاته فذلك من علم الغيب الذي لم يطلعنا عليه فالواجب علينا فيه الإيمان والتسليم وعدم الخوض في ذلك كما وسع ذلك سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان فإنهم لم يخوضوا في ذلك ولم يسألوا عنه بل آمنوا بالله سبحانه وبما أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولم يزيدوا على ذلك مع إيمانهم بأنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وعلى كل من وجد شيئا من هذه الوساوس أو ألقي إليه شيء منها أن يستعظمها وينكرها من أعماق قلبه إنكارا شديدا وأن يقول آمنت بالله ورسله وأن يستعذ بالله من نزغات الشيطان وأن ينتهي عنها ويطرحها كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث السابقة وأخبر أن استعظامها وإنكارها هو صريح الإيمان وعليه أن لا يتمادى مع السائلين في هذا الباب لأن ذلك قد يفضي إلى شر كثير وإلى شكوك لا تنتهي فأحسن علاج للقضاء على ذلك والسلامة منه هو امتثال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم والتمسك به والتعويل عليه وعدم الخوض في ذلك وهذا هو الموافق لقول الله عز وجل: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فالاستعاذة بالله سبحانه واللجوء إليه وعدم الخوض فيما أحدثه الموسوسون وأرباب الكلام الباطل من الفلاسفة ومن سلك سبيلهم في الخوض في باب أسماء الله وصفاته وما استأثر الله بعلمه من غير حجة ولا برهان هو سبيل أهل الحق والإيمان وهو طريق السلامة والنجاة والعافية من مكايد شياطين الإنس والجن وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للسلامة من مكائدهم ولهذا

ص: 487

لما سأل بعض الناس أبا هريرة رضي الله عنه عن هذه الوسوسة حصبهم بالحصباء ولم يجبهم على سؤالهم وقال: "صدق خليلي". ومن أهم ما ينبغي للمؤمن في هذا الباب أن يكثر من تلاوة القرآن الكريم وتدبره لأن فيه من بيان صفات الله وعظمته وأدلة وجوده وكماله ما يملأ القلوب إيمانا ومحبة وتعظيما واعتقادا جازما بأنه سبحانه هو رب كل شيء ومليكه وأنه الخالق لكل شيء والعالم بكل شيء والقادر على كل شيء لا إله غيره ولا رب سواه كما ينبغي للمؤمن أيضا أن يكثر من سؤال الله المزيد من العلم النافع والبصر النافذ والثبات على الحق والعافية من الزيغ بعد الهدى فإنه سبحانه قد وجه عباده إلى سؤاله ورغبهم في ذلك ووعدهم الإجابة كما قال عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأسأل الله أن يوفقنا وإياك وزميلك وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ومن مكايد شياطين الإنس والجن ووساوسهم إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.

ص: 488

تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب

تأليف الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري غفر الله له ولوالديه

الحمد لله نحمده ونستعينه. ونستغفره ونتوب إليه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير الأمة وأتقاها. وأعلمها وأهداها. وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم وساروا على نهجهم القويم. وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد فقد رأيت مقالا لأبي تراب الظاهري تعرض فيه للغض من الصحابة عامة ومن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة. وهذا المقال السيئ منشور في جريدة عكاظ في عدد (3163) - السبت - 13محرم سنة 1395هـ.

والتعرض للصحابة رضي الله عنهم بالكلام الذي يقتضي التنقص لهم والغض منهم لا يصدر إلا من جاهل أو مبغض للصحابة.

ص: 489

وقد ورد الوعيد على ذلك. فروى الترمذي في جامعه عن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه". وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شرار أمتي أجرؤهم على صحابتي". وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا". وقال محمد ابن سيرين: "ما أظن رجلا ينتقص أبا بكر وعمر يحب النبي صلى الله عليه وسلم"رواه الترمذي وقال هذا الحديث غريب حسن. وروى أبو نعيم في الحلية من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء أو عن زيد بن وهب أن سويد بن غفلة دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إمارته فقال: "يا أمير المؤمنين إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بغير الذي هما أهل له من الإسلام"فنهض إلى المنبر وهو قابض على يدي فقال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقي مارق فحبهما قربة وبغضهما مروق. ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين فأنا بريء ممن يذكرهما وله معاقب".

ص: 490

وإذا علم ما في هذه الأحاديث تحريم عيب الصحابة عامة وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة وتحريم أذيتهم والتعرض لما فيه تنقص لهم وغض من قدراتهم وعلم أيضاً أنه لا يتجرأ على الكلام في الصحابة إلا شرار هذه الأمة فليعلم أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم أجل قدرا وأكثر علما وأقوى إيمانا ممن بعدهم إلى آخر الدهر فينبغي إجلالهم وتوقيرهم واحترامهم وتفضيلهم على من سواهم من سائر هذه الأمة. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة"رواه أبو نعيم في الحلية.

وروى رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه وإذا علم هذا ففي كلام أبي تراب خمسة مواضع زل فيها عن الحق والصواب وقد رأيت أن أنبه على زلاته لئلا يغتر بها من لم يعرف قدر الصحابة وفضلهم على سائر الصحابة وفضلهم على سائر الأمة.

الموضع الأول: زعم أبو تراب أن أمهات المؤمنين أفضل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

والجواب أن يقال: هذا خطأ مخالف للأحاديث الكثيرة عن النبي صلى اله عليه وسلم ومخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تفضيل أبي بكر ثم عمر على سائر الأمة.

ص: 491

فأما الأحاديث فالأول منها ما رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: "رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين فأما المقاليد فهذه المفاتيح وأما الموازين فهذه التي يوزن بها فوضعت في كفة ووضعت أمتي فوزنت بهم فرجحت ثم جيء بأبي بكر فوزن بهم فرجح بهم ثم جيء بعمر فوزن بهم فرجح بهم ثم جيء بعثمان فوضع في كفة ووضعت أمتي في كفة فرجح بهم ثم رفعت" هذا لفظ الطبراني قال الهيثمي ورجاله ثقات.

وروى الإمام أحمد والطبراني أيضاً عن أبي إمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى الطبراني أيضاً عن معاذ بن جبل وعرفجة وأسامة بن شريك رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضاً وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أن عمر رضي الله عنه أفضل من أمهات المؤمنين ومن سائر هذه الأمة سوى أبي بكر رضي الله عنه فإنه أفضل من عمر رضي الله عنه. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث فضل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه بغير دليل بل بمجرد الظن المخالف للأدلة الصحيحة.

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين يا علي لا تخبرهما" رواه الترمذي وابن ماجة وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند وإسناده حسن وهذا لفظ الترمذي. ولفظ عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه سلم فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: "يا علي هؤلاء سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين" قال الترمذي: وفي الباب عن أنس وابن عباس رضي الله عنهم.

ص: 492

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين لا تخبرهما يا علي" رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.

وعن أببي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين" رواه ابن ماجة بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه.

وروى البزار والطبراني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى الطبراني أيضا عن ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضاً.

وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أن أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وفيها أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.

وعن عبد الله بن حنطب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: "هذان السمع والبصر" رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل ومكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر" رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين"رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه مختصرا وقال الترمذي هذا الحديث حسن غريب وقال الحاكم صحيح الإسناد.

ص: 493

وفي هذا الحديث والحديثين قبله أوضح دليل على أن أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وفيها أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم في مستدركه وقال الترمذي حديث حسن غريب وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه، والأحاديث في فضل عمر رضي الله عنه كثيرة جدا وفيما ذكرته ههنا كفاية في الرد على أبي تراب وبيان خطئه وشذوذه حيث فضل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.

ص: 494

وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تفضيل أبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما على سائر الأمة فرواه البخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم". هذا لفظ البخاري في إحدى الروايتين وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. وفي الرواية الأخرى عند البخاري قال: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم". ورواه أبو داود بهذه الزيادة. وعند عبد الله بن الإمام أحمد: "ثم لا نفاضل أحدا على أحد". وفي رواية له: "يبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره علينا". وفي رواية له ولأبي داود عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: "كنا نقول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي - أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان". وروى الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نعد -ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وأصحابه متوافرون - أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت". وروى عبد الله أيضاً في كتاب السنة من حديث عمر بن أسيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نقول في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: رسول الله خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر". وروى عبد الله أيضا في كتاب السنة عن أبي هريرة قال: "كنا نعد - وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون - خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر". ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده ولفظه قال: "كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن متوافرون نقول أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت". وروى البخاري في

ص: 495

صحيحه وأبو داود في سننه وعبد الله الإمام أحمد في كتاب السنة عن محمد بن الحنفية قال: "قلت لأبي أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو بكر..قلت ثم من؟ قال: ثم عمر..وخشيت أن يقول عثمان قلت ثم أنت قال ما أنا إلا رجل من المسلمين". وروى الإمام أحمد وابنه عبد الله في زوائد المسند وفي كتاب السنة من طرق الكثير وابن ماجة عن علي رضي الله عنه أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر"وفي بعض الروايات عند الإمام أحمد وابنه عبد الله عن أبي جحيفة وعبد خير عن علي رضي الله عنه أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وخيرها بعد أبي بكر عمر ولو شئت سميت الثالث". وروى أبو نعيم في الحلية من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال: "خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منبر الكوفة فقال: ألا إن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ولو شئت أن أخبركم بالثالث لأخبرتكم ثم نزل من المنبر وهو يقول عثمان عثمان".

وروى أبو نعيم أيضاً من حديث سويد مولى آل عمر وابن حريث قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول على المنبر: "إن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان". وروى الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة والحاكم في مستدركه عن علي رضي الله عنه قال: "سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر ثم خبطتنا فتنة ويعفو الله عمن يشاء". قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

قال الجوهري: "المصلي تالي السابق". قال أبو عبيد: "وأصل هذا في الخيل فالسابق الأول والمصلي الثاني قيل له مصل لأنه يكون عند صلا الأول وصلاه جانبا ذنبه عن يمينه وشماله ثم يتلو الثالث". انتهى.

ص: 496

وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه قال: "من فضل على أبي بكر وعمر أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أزرى على المهاجرين والأنصار واثني عشر ألفا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"ورواه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه حازم بن جبلة ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد حدثني أبو معمر حدثنا ابن أبي حازم قال: "جاء رجل إلى علي بن الحسين فقال: "ما كان منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "كمنزلتهما منه الساعة". وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه عبد الله وابن أبي حازم لم أعرفه وشيخ عبد الله ثقة.

وقال مسروق: "حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومعرفة فضلهما من السنة". ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب.

وقال القرطبي في المفهم: "المقطوع به بين أهل السنة أفضلية أبي بكر ثم عمر".

وإذا علم ما ذكرنا من إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم على سائر الأمة وأنهم لم يستثنوا في إجماعهم خصلة من خصال الفضل لا العلم ولا غيره. وعلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبلغه قول أصحابه في تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فلا ينكره. وعلم أيضاً ما حكاه القرطبي عن أهل السنة من تفضيل أبي بكر ثم عمر. فليعلم أيضاً أنه لم يخالف إجماع الصحابة وأهل السنة من بعدهم سوى الروافض الذين يفضلون عليا وأهل بيته على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد سلك أبو تراب طريقة تشبه طريقة الروافض في تفضيله أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه فخالف السنة والإجماع وشذ عن طريق أهل السنة والجماعة وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية.

ص: 497

وممن خرق الإجماع أيضاً أبو محمد ابن حزم، قال الحافظ الذهبي في ترجمة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في كتاب تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام:"ومن عجيب ما ورد أن أبا محمد ابن حزم مع كونه أعلم أهل زمانه ذهب إلى أن عائشة أفضل من أبيها. وهذا مما خرق به الإجماع"انتهى.

الموضع الثاني: زعم أبو تراب أن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الصحابة كلهم بعلمه وغزارة حفظه لحديث المصطفى. قال: "وهذا معاذ بن جبل وابن مسعود وعلى بن أبى طالب كانوا أفقه من عمر وهو يشهد بذلك ولكنهم لم يكونوا أفضل منه".

والجواب أن يقال لاشك أن أبا هريرة رضى الله عنه كان من علماء الصحابة وحفاظهم وقد حفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام علما كثيرا. وكذلك على بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن مسعود رضي الله عنهم ولكنهم مع ذلك لم يكونوا مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في العلم فقد كانا يفوقان غيرهما من الصحابة في العلم وفي جميع الفضائل. وسيأتي ذكر ما لهما من المزايا في كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية إن شاء الله تعالى.

وقد شهد حبر الأمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه بغزارة العلم وشهد له بذلك أيضا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وسعيد ابن المسيب وعمر وبن ميمون وإبراهيم النخعي. وسيأتي ذكر أقوالهم إن شاء الله تعالى.

وقد امتاز عمر رضي الله عنه بخصال لم تكن لمن بعده من الصحابة فضلا عن غيرهم. وهي من أوضح الأدلة على غزارة علمه وأن عليا ومعاذ وابن مسعود وابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهم لا يقاسون به في العلم فضلا عن أن يكونوا أعلم منه

منها أنه وافق ربه أو وافقه ربه في عدة مواضع مذكورة في الصحاح وغيرها وسيأتي حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه قال ابن عمر رضي الله عنهما: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر".

ص: 498

ومنها أنه استنبط الأمر الذي أشكل على أصحاب النبي صلى الله وسلم وخفي عليهم وذلك حين حلف رسول الله عليه وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا فقال الناس طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فاستأذن عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له أطلقت نساءك؟ فقال:"لا" فقام عمر رضي الله عنه على باب المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قال عمر رضي الله عنه: "فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر". والحديث بذالك في صحيح مسلم.

وفي هذه القصة فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه ودليل على أنه من أكبر أولي الأمر الذين نوَّه الله بهم في هذه الآية الكريمة.

ومنها أن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه وقد جاء في ذلك عدة أحاديث. الأول منها عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل جعل الحق على لسان عمر وقلبه" قال وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. قال وفي الباب عن الفضل بن عباس وأبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهم. وفي رواية لابن حبان: "إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به".

الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به" رواه ابن ماجة.

ص: 499

وقد رواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم.

الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمرو قلبه" رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني في الأوسط قال الهيثمي ورجال البزار رجال الصحيح غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة.

الحديث الرابع عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله وضع الحق على لسان عمر وقلبه يقول به" رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي وفيه علي بن سعيد العكامري ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.

الحديث الخامس عن بلال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الطبراني.

الحديث السادس عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الطبراني. وهذا الحديث والذي قبله ضعيفان وما قبلهما من الأحاديث يشهد لهما ويقويهما.

وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أنه لم يكن في الصحابة بعد أبي بكر أعلم من عمر لأن الله تعالى جعل الحق على لسانه وقلبه يقول به ومن كان كذلك فلا بد أن يكون أعلم ممن لم يجعل الله الحق على لسانه وقلبه. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه قد غلب الصحابة كلهم بعلمه ومنهم عمر رضي الله عنه وأن عليا ومعاذ وابن مسعود رضي الله عنهم كانوا أفقه من عمر رضي الله عنه.

ص: 500