الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 33
فهرس المحتويات
1-
افتتاحية العدد: لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد المحسن العباد
2-
التمسك بالإسلام سبب النصر في الدنيا والنجاة في الآخرة: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
3-
أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4-
رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
5-
نظرات في التاريخ: لفضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد
6-
رسالة الجامعة السعودية نحو اللغة العربية والثقافية والإسلامية: لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
7-
رسالة بدماء القلب إلى صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز: لفضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
8-
موازنة بين النثر والشعر في التهنئة بفتح القدس: لفضيلة الدكتور محمد نغش
9-
أبو سليمان الخطابي: لفضيلة الشيخ الدكتور أحمد جمال العمري
10-
تحية وعهد ودعاء لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز: لفضيلة الشيخ: عبد الحميد ربيع
11-
البيان البلاغي عند العرب موضوعه / مكانه من البلاغة: بقلم الدكتور عبد الحميد العبيسي
12-
مع الرعيل الأول: لفضيلة الشيخ: محمود أمين النواوي
13-
إتحاف الأحباب بما ثبت في مسألة الحجاب: بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
14-
نداء من مسلمي الحبشة إلى حكومات العالم الإسلامي
15-
من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة
16-
ندوة الطلبة: قصيدة للطالب: عبد الرحمن شميله الأهدل
17-
أخبار الجامعة
18-
وفود الجامعة في العطلة الصيفية للدعوة إلى الله:
19-
محاضرات الموسم الثقافي
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
افتتاحية العدد
لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد المحسن العباد
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فبحمد الله وعلى بركة الله تدخل المجلة عامها التاسع من عمرها المديد مواصلة مسيرتها الخيرة في نشر الثقافة والدعوة إلى الخير والحث على الفضائل والتحذير من الرذائل مساهمة في ذلك في تحقيق الأهداف النبيلة التي أسست الجامعة من أجلها والتي من أهمها تبليغ رسالة الإسلام الخالدة إلى العالم عن طريق الدعوة والتعليم الجامعي والدراسات العليا.. ذلك أن الجامعة ليست جامعة تعليم فحسب بل هي جامعة تعليم ودعوة، ولذا فهي تعنى بالدعوة بوسائل مختلفة كطبع الرسائل المفيدة وتوزيعها على نطاق واسع في داخل المملكة وخارجها وإرسال الوفود للقيام بالدعوة والتوجيه إلى الخير وبالمحاضرات التي يعدها ويلقيها بعض أساتذتها في مواسمها الثقافية والتي يستمع لها طلبة الجامعة وغيرهم، ثم تطبعها الجامعة لتعميم النفع بها وبهذه المجلة التي تحتوي على بحوث قيمة ومقالات مفيدة والتي تقوم الجامعة بتوزيعها، والله المسؤول أن ينفع بها وأن تظل دائما منارة إشعاع ومصدر هداية.
تحية وعهد ودعاء
لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز
ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء، والرئيس الأعلى للجامعة للإسلامية.
لفضيلة الشيخ: عبد الحميد ربيع
النور يشرق في لقياك مزدانا
أزاهرا بالسّنا تهدي نحايانا
مثل الحروف مشت في حبِّها طربا
حتى تكون لحفل النور عنوانا
هي القلوب تلاقت في محبتها
حتى تضيء بنور الحب لقيانا
إذا التقينا وحب الله يجمعنا
فقد أتم لنا الرحمن إيمانا
في هالة من رجال الفكر قد سطعوا
مثل النجوم تضيء الآن نجوانا
هم الهداة بأفق الشرق تشهدهم
قلوبنا فيفيض البشر تحنانا
قلوب جامعة الإسلام قد نزلوا
صدورنا فسمت بقدومهم شانا
أعضاء مجلسها.. أهلا بهم وفدوا
على الرئيس أعز الله ضيفانا
ومن غدا الفكر والإيمان يجمعهم
سما الوجود بهم مجدا وعرفانا
وإننا بضياء الحب في مهَج
نقدِّم اليوم عهد الله برهانا
هنا بجامعة الإسلام نرسله
يحرر الكون أوطانا وإنسانا
فقد مضينا سنا التوحيد يقدُمُنا
إلى الجهاد بساح العلم فرسانا
فدعوة الحق تسرى في ضمائرنا
لكي نضيء بنور الحق أذهانا
إذا دعونا وصوت الحق رائدنا
أصغى لنا الكون وجدانا وآذانا
وقد تدفق منهاج الهدى ألقا
بالفكر يقطر نورا في حنايانا
وشرعة الله نادت في عبادتنا
لنلتقي بعباد الله إخوانا
ومنطق النور يهمى من حناجرنا
إلى الوجود بخير الهدى تبيانا
يفيض من لغة الله باركها
لكي تكون لفيض الوحي ميدانا
ومن هنا نشهد القرآن في ألق
يضم كل رحاب العلم إيقانا
تسير آياته تتلى منورة
حتى مشى النور في الطلاب قرآنا
إذا دعا النور بالآيات مؤتلقا
هزّ الخلائق: أرواحا وأبدانا
إنا بهذا السّنا نهدي تحيّتنا
لـ ((فهد)) إذ جاء بالإيمان يرعانا
نهدي له عهدنا لله في ثقة
أن يحفظ الله عهدا بين تقوانا
وذلك العهد يهديه الوفاء بنا
لـ ((فيصل)) ماشدا بالحب أوفانا
فإن جامعة الإسلام ما بقيت
ترعى له العهد طلابا وبنيانا
إذا وفى الناس في عهد وفي وطن
عزوا مدى الدهر إيمانا وأوطانا
ومن هنا من ضياء الحق نرسلها
تحية من رحيق الحبّ ألوانا
لـ ((خالد)) ودعاء بين مهجتنا
بطول عمر ونصر في قضايانا
والله خير مجيب من دعا ووفى
ومن يجيب سوى الرحمن مولانا؟
عبد الحميد ربيع
موجه اللغة العربية بالجامعة الإسلامية
البيان البلاغي عند العرب موضوعه / مكانه من البلاغة
بقلم الدكتور عبد الحميد العبيسي
الأستاذ المساعد في كلية الدعوة وأصول الدين
أحمد الله تعالى على نعمائه، وأصلي وأسلم على محمد خاتم رسله، وصفوة أنبيائه.
وبعد فوفاء بوعد، واستجابة لرغبة، وإتماما لفائدة أقدم بين يدي القارئ الكريم هذه الدراسة الموصولة بإذنه تعالى في موضوع: البيان البلاغي عند العرب - موضوعه - مكانه من البلاغة.
فأما موضوع البيان فلقد حدده ابن الأثير المتوفى 637هـ في كتابه المثل السائر - بأنه الفصاحة والبلاغة، وصاحبه يسأل عن أحوالهما: اللفظية والمعنوية.
وهو والنحوي يشتركان في أن النحوي ينظر في دلالة الألفاظ على المعاني من جهة الوضع اللغوي، وتلك دلالة عامة.
وصاحب علم البيان ينظر في فضيلة تلك الدلالة، وهي دلالة خاصة والمراد بها: أن يكون على هيئة مخصوصة من الحسن، وذلك أمر وراء النحو والإعراب، ألا ترى أن النحويّ يفهم معنى الكلام المنظوم والمنثور، ويعلم مواقع إعرابه، ومع ذلك فإنه لا يفهم ما فيه من الفصاحة والبلاغة؛ ومن هنا غلط مفسرو الأشعار في اقتصارهم على شرح المعاني، وما فيها من الكلمات اللغوية، وتبيين مواضع الإعراب منها دون شرح ما تضمنته من أسرار الفصاحة ووجوه البلاغة [1] .
وعليه فموضوع فنّ البيان هو تلك الدلالات الخاصّة التي تنتظم أسرار الصياغة في جوّ الأساليب التي ينشئها الأدباء، تعبيرا عن أفكارهم، وتصويرا لعواطفهم، وهذه الأساليب تتفاوت وضوحا وخفاء، قوة وضعفا، وهي على تفاوتها وتنوّعها فقد حاول البيانيون المتأخرون حصرها في هذا الثلاثي:(التشبيه - المجاز - الكناية) وتلمّسوا لهذا الحصر ضوابط يبدو فيها التكلف، ويظهر عليها الافتعال؛ وآية ذلك اعتراف السكاكي المتوفى 626هـ رائد الاتجاه التقريري الفلسفي في البلاغة بأن المطلوب بهذا التكلف هو الضبط [2]، ذلك أن البيان في نظره بمعنى: إيراد المعنى الواحد على صور مختلفة لا يتأتى إلا في الدلالات العقلية، وهي من معنى إلى معنى؛ بسبب علاقة بينهما؛ كلزوم أحدهما الآخر بوجه من الوجوه؛ فمرجع علم البيان: اعتبار هذه الملازمات بين تلك المعاني، واعتبار هاتين الجهتين: جهة الانتقال من ملزوم إلى لازم، وجهة الانتقال من لازم إلى ملزوم، وإذا ظهر لك أن مرجع علم البيان هاتان الجهتان علمت انصباب علم البيان إلى التعرّض للمجاز والكناية؛ ففي المجاز يكون الانتقال من الملزوم إلى اللازم، وفي الكناية يكون الانتقال من اللازم إلى الملزوم، وترى ذلك في الأمثلة المسوقة لهما، فلا علينا أن نتخذ المجاز والكناية: أصلين.
ثم إن المجاز أعني: الاستعارة من حيث إنها من فروع التشبيه لا تتحقق بمجرد حصول الانتقال من الملزوم إلى اللازم، بل لابدّ فيها من تقدمة تشبيه شيء بذلك الملزوم في لازم له تستدعي تقديم التعرّض للتشبيه، فلابدّ من أن نأخذه أصلا ثالثا ونقدِّمه، فهو الذي إذا مهرت فيه ملكت زمام التدرب في فنون السحر البياني [3] .!!!!
والمتأمل في كلام السكاكي هذا يلمح التمحل الذي ارتكبه في سبيل ضابط تنحصر فيه مسائل البيان وأصوله؛ وكأنه في غيبة هذا الضابط لن يتحقق حصرها، ولا تعجب فإنه نهج السكاكي الذي أسرف في اصطناع الضوابط الكثيرة!! فضلا عن أننا لا نسلم له هذه التفرقة بين المجاز والكناية؛ ذلك أن اللازم في الكناية لازم مساوٍ؛ فيصحّ أن يسمى اللازم حينئذ ملزوما، والملزوم لازما، على أن التفرقة المعتبرة بينهما إنما تكمن في القرينة؛ فقرينة المجاز مانعة دائما من إرادة المعنى الوضعي، بخلاف قرينة الكناية فإنها مجوزة لإرادة المعنى الوضعي ما لم يقم مانع خارج عن طبيعة الكناية
…
[4] .
ولا نسلم له كذلك أن التشبيه مقصد غير أساسي في البيان، وأنه وسيلة أو مقدمة لبعض أنواع المجاز، أو أنه أصل ادّعائي!!! وحسبنا ما أبرزه السكاكي نفسه عن قيمة التشبيه البلاغية، وتأثيره النفسي من أنه الأصل الذي إذا أمهرت فيه ملكت زمام التدرب في فنون السّحر البياني!!! [5]
وإذا كان السكاكي قد ارتضى هذا الطريق البعيد فإن الطيبي أحد البلاغيين المتأخرين يسلك سبيلا أقرب في الضبط بقوله: ((اعتبار المبالغة في إثبات أصل المعنى للشيء، إما على طريق الإلحاق أو الإطلاق، والثاني إما إطلاق الملزوم على اللازم، أو عكسه، وما يبحث فيه عن الأول التشبيه، وعن الثاني المجاز، وعن الثالث الكناية، فانحصر الكلام في الثلاثة [6] .
ويذهب كمال الدين البحراني إلى القول: بأن اللفظ إما أن يستعمل في المعنى الموضوع له فهو الحقيقة، أو فيما له علاقة به بحيث ينتقل الذهن من الموضوع له في الجملة - وهو المسمى عندهم باللازم - وهو إما أن تكون علاقته المشابهة أو غيرها، فعلى الأول إن كانت معه قرينة تنافي إرادة المعنى الموضوع له كان استعارة، وإن لم يكن كان تشبيها.
وعلى الثاني أيضا إن كانت معه تلك القرينة المانعة كان مجازا مرسلا، وإن لم تكن كان كناية.
فأصول البيان أربعة، فإذا ضمت الاستعارة إلى المجاز المرسل للاشتراك في المجاز صارت ثلاثة.
ويظهر من هذا أن التشبيه أصل حقيقي من أصول هذا الفن؛ ألا ترى أن له مراتب متفاوتة في الوضوح، وأن فيه من النكت واللطائف البيانية ما لا يحصى.
وما يقال من أن المقصود الأصلي في التشبيهات هو المعاني الوضعية فقط ليس بشيء؛ فإن قولك: "وجه كالبدر"مثلا لا تريد به ما هو مفهومه وضعا، بل تريد أن ذلك الوجه في غاية الحسن ونهاية اللطافة، لكن إرادة هذا لا تنافي إرادة المفهوم الوضعي [7] .
ومهما دار الأمر فإن التشبيه أصل من أصول البيان، ودعامة من دعائمه، ومقصد أصيل من مقاصده، وذلك لأمور أهمها:
أولها: أسبقيته في الوجود على الصور البيانية، فهو أقدم صور البيان؛ إذ هو مبني على ما تلمحه النفس من اشتراك بعض الأشياء في وصف خاص يربط بينها [8] ؛ فتعمد إليه النفس بالفطرة حين يسوقها الداعي إليه، والباعث عليه؛ ومن ثمّ كان سرّ شيوعه وذيوعه في سائر الأنواع البشرية واللغات الإنسانية، فهو من الصور البيانية التي لا تختص بجنس ولا لغة؛ كيف لا وهو من الهبات الإنسانية والخصائص الفطرية.
ولقد عرفه العرب الأقدمون منذ لهجت ألسنتهم بفنون القول؛ فكان لأسلوب التشبيه الصدارة من الأساليب التي يستخدمها الفصحاء منهم في كلامهم في كل مكان وزمان، وفي هذا يقول أبو العباس المبرد المتوفى 285هـ في كتابه الكامل:"والتشبيه جارٍ كثير في كلام العرب؛ حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد..".
ويقول: "والتشبيه من أكثر كلام الناس""والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا آخر له"[9] .
كما يقول ابن وهب في كتابه نقد النثر: "وأما التشبيه فهو من أشرف كلام العرب، وفيه تكون الفطنة والبراعة عندهم، وكلما كان المشبه (بالكسر) منهم في تشبيه ألطف كان بالشعر أعرف، وكلما كان بالمعنى أسبق كان بالحذق أليق.."[10] .
ثانيها: تنوع مراتبه في الوضوح والخفاء [11] ، فهو أسلوب يظهر فيه التفاوت على نحو ملموس، فليست درجة الوضوح فيه واحدة، وهذا التفاوت مناط البلاغة وعماد البراعة!!.
ثالثها: القول بمجازيته - في رأي ابن الأثير -؛ فيكون دخوله في البيان بطريق الأصالة، لا بطريق التبعية للاستعارة والتطفل عليها.
وحتى على القول المشهور بحقيقيته فإن القيمة الذاتية للتشبيه كصورة بيانية قد تأكدت وتقررت منذ أمد بعيد؛ مما جعل العلوي المتوفى 749هـ في كتابه الطراز يقرر صراحة: "كونه معدودا في علوم البلاغة؛ لما فيه من الدقة واللطافة، ولما يكتسب به اللفظ من الرونق والرشاقة، ولاشتماله على إخراج الخفيّ إلى الجليّ، وإدنائه البعيد من القريب، فأما كونه معدودا في المجاز أو غير معدود فالأمر فيه قريب بعد كونه من أبلغ قواعد البلاغة، وليس يتعلق به كبير فائدة [12] .."، ذلك أنه باب عظيم من أبواب البلاغة الساحرة، ومسلك رائع للأدباء، منه يلجون في سائر البقاع والأزمنة، وأساس متين للاستعارة التي هي عماد الجمال والكمال في الأساليب!!.
وأسلوب توفرت له هذه اللطائف وتلك المقومات لجدير بأن يكون مقصدا أساسيا من مقاصد البيان، وأصلا عظيما من أصوله!!.
ومما تقدم تدرك أن أصول فنّ البيان عند جمهرة البيانيين أربعة:
منها أصلان ذاتيان: وهما المجاز والكناية، وأصل واحد وسيلة وهو التشبيه، وواحد وهو جزء من أصل وهو الاستعارة.
وبعض البيانيين يعتبر مباحث البيان أربعة: "التشبيه، وليس من أقسام اللفظ، والحقيقة والمجاز اللفظيان، والكناية، والثلاثة من أقسام اللفظ"[13] .
وإنما جعلت الحقيقة ضمن مباحثه مع أنها ليست من مقاصده؛ لاتضاح مقابلها وهو: المجاز شدة الاتضاح؛ لأن الشيء تكمل معرفته بمعرفة مقابله [14] ، أو أنها لما كانت كالأصل للمجاز؛ إذ الاستعمال في غير ما وضع له فرع الاستعمال فيما وضع له غالبا جرت العادة بالبحث عنها في هذا الفن.
وأيا ما كان الأمر فإنه لا مناص من البحث في التشبيه والحقيقة، والمجاز والكناية؛ وصولا إلى الكشف عن مسائل البيان وصوره..
(ب) وأما مكان البيان من البلاغة فتكمن في وجود المطابقة التي هي: عماد البلاغة؛ إذ إن هذه الألوان البيانية تستدعيها المقامات، وتتطلبها الأحوال؛ فالإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية [15] ، والاستعارة في موضع الاستعارة، والمجاز في موضع المجاز؛ فهذه الألوان تمثل وجوها تتحقق بها المطابقة؛ فيبدو الكلام بليغا بوجود تلك المطابقة.
وإذا كان السكاكي قد فصل علم المعاني عن البيان لملاحظة أدركها في ثمرة كل من العلمين؛ فإن الغرض من علم المعاني: هو الاحتراز عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره، كما أن موضوعه: البحث في اللفظ العربي من هذه الجهة التي توصل إلى تلك الغاية.
فعلم المعاني عنده: هو معرفة خواص تراكيب الكلام، أما علم البيان فهو معرفة صياغات المعاني؛ ليتوصل بها إلى توفية مقامات الكلام حقها؛ وذلك احترازا عن التعقيد المعنوي، فإن علم البيان عند السكاكي يتوقف على علم المعاني؛ ذلك أن علم البيان: هو معرفة إيراد الكلام بطرق مختلفة في الوضوح بعد مراعاة المطابقة لمقتضى الحال، ومعنى ذلك أن الأديب شاعرا أو ناثرا إذا أراد أن يصوغ معنى، فيعمد إلى تشبيه أو مجاز أو كناية، فهو حينئذ يكون قد أخذ بجزء من علم البيان، فإذا راعى أن هذا الأداء يطابق مقتضى الحال كان آخذا بالعلم كله؛ وعلى ذلك فالنظر في هذه الصور البيانية:(التشبيه، المجاز، الكناية) من زاويتين:
أولاهما: أنها صور يعبر بها عن المعاني.
ثانيهما: أنها تطابق أو لا تطابق.
والنظرة الثانية هي: موضوع علم المعاني، والنظرتان معا هما: موضوع علم البيان.
ومن هنا قالوا: "إن علم المعاني من البيان بمنزلة المفرد من المركب [16] ، لأن رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي هي مرجع علم المعاني معتبرة في علم البيان مع زيادة شيء آخر وهو: إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، ولما كان المفرد مقدما طبعا على المركب كان المركب متأخرا وضعا عن المفرد، ولهذا وضع علم البيان بعد علم المعاني"[17]، والسكاكي يقرر كذلك:"أنه لما كان علم البيان شعبة من علم المعاني لا تنفصل عنه إلا بزيادة اعتبار جرى منه مجرى المركب من المفرد لا جرم آثرنا تأخيره"[18] .
وتعبير السكاكي بأن: علم البيان شعبة من علم المعاني يوضح مدى الصلة القوية بين العلمين.
وهذا المعنى نراه جليا واضحا عند الإمام عبد القاهر الجرجاني؛ فيقول في معرض كلامه عن الغرض الذي ابتدأه وهو: التوصل إلى بيان أمر المعاني كيف تتفق وتختلف؟.
"وأول ذلك وأولاه وأحقه بأن يستوفيه النظر ويتقصاه القول على التشبيه، والتمثيل، والاستعارة؛ فإن هذه أصول كثيرة كان جل محاسن الكلام - إن لم نقل كلها - متفرعة عنها، وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها، وأقطار تحيط بها من جهاتها.."[19] .
كما ترى الإمام في كلامه عن النظم، وإعجاز القرآن الكريم يقول:"إن الأمر يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز؛ وذلك لأن هذه المعاني التي هي: الاستعارة، والكناية، والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النظم، وعنها يحدث، وبها يكون.."[20] .
ولعل كلام الإمام هذا هو الذي أوحى إلى السكاكي بأن يقول: "إن علم البيان شعبة من علم المعاني
…
الخ، على أن السكاكي لم يسلم من اعتراضات بهاء الدين السبكي المتوفى 773هـ فيقول:"ثم لا نسلم أن علم البيان يتوقف على معرفة علم المعاني؛ لجواز أن يعلم الإنسان حقيقة التشبيه، والكناية، والاستعارة وغير ذلك من علم البيان ولا يعلم تطبيق الكلام على مقتضى الحال، فليس علم المعاني جزءا من البيان ولا لازما له، وأن تطبيق الكلام على مقتضى الحال كالمادة، وهذه الطرق كالصورة، والمادة ليست جزءا للصورة.."[21] .
وكلام البهاء هذا يصور مدى الفصل بين العلمين عند المتأخرين، وهذا مسلك جرّ على البلاغة انفصالا بين مسائلها المتشابكة، وقضاياها المترابطة؛ فلا مندوحة لقبوله! إذ المطابقة واجبة في كل ألوان البلاغة وفنونها.
ومن المشهور عند أصحاب الاتجاه السكاكي في البلاغة أنك إذا نظرت إلى أسلوب من جهة وجود المطابقة أو عدمها فأنت تسلك طريق علم المعاني، ولو نظرت هذه النظرة إلى الألوان البيانية كنت صادرا في بحثك عن هذا العلم، وكذلك لو نظرت إلى المحسنات البديعية؛ فإن مردّ الحسن الثابت للبديع إلى ارتباط هذا الحسن باقتضاء المعنى له، واستدعاء المقام له؛ فحيث يقتضي المعنى يكون اللون الذي يناسبه [22] ؛ ومن ثم شاع بين علماء البلاغة أن المحسن البديعي إذا اقتضاه المقام صار من علم المعاني؛ لمراعاة المطابقة.
وإذن فالمطابقة تتحقق في الألوان البيانية، والأصباغ البديعية إذا اعتبرها الباحث في نظرته، ولا أعتقد أن باحثا ما لا يملك أن يتجاهل المطابقة؛ فإنه بدونها لن يصل إلى التعرف على بلاغة الأساليب.
وحسنا ذهب بعض النقاد المعاصرين إلى نقد من يقصر المطابقة على علم المعاني فقال: "وهنا يتبين الخطأ في قصر تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره على مسائل علم المعاني؛ فإن الحق أن ذلك شامل لفنون البلاغة جميعا.."[23]، ويقول:"والواقع أن دائرة المطابقة لمقتضى الحال أوسع من هذه الدائرة بكثير، ولا تقف عند تلك المباحث الثمانية المشهورة التي ذكروها في علم المعاني؛ فإن مجالات هذه المطابقة كثيرة.."[24] .
ولا شك أن هذا الاتجاه لتعميم المطابقة الشاملة في فنون البلاغة الثلاثة هو المنهج الأقوم الذي أرساه من قبل الأقدمون من علماء النقد والبلاغة، وما أحوج الدرس البلاغي المعاصر إليه؟!!
وبعد فإن مكان البيان من البلاغة يتوقف على مدى وفاء اللون البياني بالمقام الذي سيق له، وما يكتنف الصور البيانية من قيمة ذاتية تخلع على الكلام حسنا وجمالا، وتكسبه روعة وجلالا، وتشيع الضياء والرونق في كل نظم تحتويه، وتمنحه الصحة والقوة بكل ما تمثله من قيمة ذاتية، وتضمن له الحيوية المتجددة فلا يسقط على مر العصور..
وعلى الله قصد السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
راجع إن شئت المثل السائر: ج 1 ص 39، والطراز للعلوي ج 1 ص 370.
[2]
مفتاح العلوم للسكاكي ص 177 بتصرف.
[3]
مفتاح العلوم للسكاكي ص 177 بتصرف.
[4]
انظر كتابنا: ((روائع البيان العربي)) ص 266، ص 273 ط دار إحياء الكتب العربية بمصر.
[5]
انظر: روائع البيان العربي للكاتب: ص 21-23.
[6]
شرح السيوطي لمنظومته عقود الجمان 2-5.
[7]
هامش شرح الفوائد الغيائية 195.
[8]
دراسات في علم النفس الأدبي للأستاذ حامد عبد القادر ص 41.
[9]
رغبة الآمل شرح الكامل للمرصفي ج 6 ص 238، ج 7 ص 37 ص 63.
[10]
نقد النثر ص 58.
[11]
الرسالة البيانية ص 33، وروائع البيان العربي ص 21.
[12]
الطراز ج 1 ص 266.
[13]
الرسالة البيانية ص 33، 34، 35، 36.
[14]
المرجع السابق.
[15]
الحيوان للجاحظ ج 12.
[16]
المطول للسعد: ص 33.
[17]
مفتاح العلوم للسكاكي: ص 86.
[18]
المرجع السابق.
[19]
أسرار البلاغة: ص 18.
[20]
دلائل الإعجاز: ص 255 ط المنار.
[21]
عروس الأفراح: ج 3 ص 261 ط الأميرية 1318هـ.
[22]
ابن سنان الخفاجي وأثره في النقد والبلاغة للكاتب ص 320، 506.
[23]
البيان العربي أ. د بدوي طبانة: ص 342.
[24]
المرجع السابق: ص 424.
مع الرعيل الأول
لفضيلة الشيخ: محمود أمين النواوي
كان الناس يقولون في عهد التابعين ومن بعدهم: إن فقهاء المدينة سبعة يصدر الناس عن آرائهم، وينتهون إلى قولهم وإفتائهم، ويقول عبد الله بن المبارك في شأنهم، إنهم كانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعا فنظروا فيها ولا يقضي القاضي حتى ترفع إليهم فينظروا فيها، وهؤلاء السبعة هم: سعيد بن المسيب المتوفى سنة 95 للهجرة، وخارجة بن زيد ابن ثابت المتوفى سنة 100، والقاسم بن محمد بن أبي بكر المتوفى سنة 106، وعروة بن الزبير المتوفى سنة 99، وسليمان بن يسار الهلالي المتوفى سنة 109، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ابن عوف المتوفى سنة 94 وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المتوفى سنة 99.
وجعل ابن المبارك مكان أبي سلمة بن عبد الرحمن سالم بن عبد الله بن عمر المتوفى سنة 106، ونقل العراقي في التبصرة عن يحي بن سعيد أنه بلغ بهم اثني عشر، وعدّ فيهم سعيد بن المسيب الذي لا خلاف في شأنه، كما أنه قلّ من يخالف في أنه سيدهم ومقدمهم، بل هو كما صرح أكثر الأئمة أنه أفضل التابعين على الإطلاق إذا استثنينا أويسا القرني كما تراه في هذه الدراسة.
نقل عثمان الحارثي عن أحمد بن حنبل قال: سمعته يقول: أفضل التابعين سعيد ابن المسيب، قيل له: فعلقمة والأسود؟ فقال: سعيد وعلقمة والأسود، وفي رواية أخرى عنه قال: أفضل التابعين قيس بن أبي حازم وأبو عثمان الفهدي [1] .
ويقول علي بن المديني شيخ البخاري: سعيد عندي أجل التابعين.
ويقول أبو حاتم الرازي: ليس في التابعين أنبل من سعيد.
ويقول ابن حيان: سعيد بن المسيب أنبل التابعين.
ويقول جعفر بن ربيعة: قلت لعراك بن مالك الغفاري: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أما أعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان، وأفقههم وأعلمهم علما بما مضى من أمر الناس فسعيد بن المسيب.
ويقول الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، ويقول أيضا: أربعة من قريش وجدتهم بجورا وذكر ابن المسيب أولهم، وقال الزناد بن الأعرج مثل ذلك.
وما أكثر تزكيات العلماء والأئمة ممن شاهدوه وأخذوا عنه، أو من أخذوا عنهم، أو من يليهم غير أنهم ينقلون في هذا المقام ما يفيد ببعض الاختلاف بما لا يخلو عن تقدير إقليمي، قال الإمام أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي [2] : اختلف الناس في أفضل التابعين، فأهل المدينة يقولون سعيد بن المسيب، وأهل البصرة يقولون الحسن البصري، وأهل الكوفة يقولون أويس القرني [3] ، فأنت ترى كل إقليم يفضل بحسب ما لمس وانتفع، ولكن رأي أهل الكوفة يستحسنه ابن الصلاح ويصححه العراقي، لما روى مسلم في صحيحه من حديث عمر ابن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس
…
" الحديث. قال العراقي: إن هذا الحديث قاطع للنزاع، وأما تفضيل أحمد لابن المسيب وغيره فلعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده، أو أراد الأفضلية في العلم لا الخيرية، ولا تلازم بين الأمرين.
وهو دفاع مشكور عن أحمد غير أن قوله إن الحديث لعله لم يبلغه أو لم يصح عنده غير سليم، فإنه أخرجه في مسنده من الطريق التي أخرجه مسلم منها، وله فيه رواية أخرى تنص على أن من خير التابعين أويس [4] ، فلم يبق إلا أن يكون تفضيل من فضل سعيدا بحسب العلم ونشر السنة مع مراعاة الرواية الثانية "من خير التابعين".
مهما يكن فإن حسبنا في هذه المحاولة أن نعرض في تاريخ هذا العبقري وأمثاله ما هو جدير أن يحقق الأسوة، ويثير الرغبة، ويكبت الرعونة في نفوس طالما ألحت عليها الشهوات، وكبت بها المطامع والنزوات والله المستعان.
ولد هذا الإمام الكريم لسنتين من خلافة عمر بن الخطاب، من أب وجد صحابيين أدركا رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى سعيد عن أبيه المباشر منهما وهو المسيب ابن حزن، وكان عهد عمر بن الخطاب عهدا يتسم بالدين في أبهى حلله وفي أبرز صوره يتفاضل الناس فيه بالعلم النافع والعمل الصالح، ويدركون مآربهم من طريق الدين، ولهذا كان الناس على دين ملوكهم يدركون ما عندهم بما يحبون، وقد عرف عن عمر أنه يقدم الناس بالعلم إلى حد عجيب، فهو يقدم مثل عبد الله بن عباس على كبار الصحابة لذكائه وغزارة علمه، وهو يحتضن عبد الله بن مسعود ويرجع إليه في مشاكله، وهو يأخذ عن علي ويرجع إلى علمه ومعرفته، كان ذلك كالغريزة فيه، والطبع الذي لا تكلف فيه، وهذا لأنه بلغ في العلم مبلغا قلّ من يدانيه حتى قال مسروق بن الأجدع: انتهى العلم إلى ستة من الصحابة: عمر وعلي وعبد الله وأبي بن كعب وأبي الدرداء وزيد بن ثابت.
وكانت المدينة تموج في خلافته بالعلماء من إخوانه الذين كان يدفعهم إلى نفع المسلمين بما عندهم، ولا يأخذهم بهوادة في ذلك ولا لين.
وقد رأيت أن سعيدا أدرك أكثر العشرة المبشرين بالجنة وإن كان لم يثبت أنه روى عن أحد منهم سوى سعد بن أبي وقاص أو عمر بن الخطاب إذ سمعه وهو في صباه كما سنعرض عليك حديث الرجم في نقل الحافظ ابن حجر، وقد ادعى الحاكم في علوم الحديث أنه أدرك العشرة وسمع منهم، وهذا غير صحيح يبطله أن سعيدا ولد في خلافة عمر بلا خلاف، فكيف يسمع من أبي بكر، وقال العراقي: إنه لم يسمع من عمر على الصحيح، ثم استدرك بأن أحمد بن حنبل أثبت سماعه منه، وسترى ما يؤيد ذلك في كلام شيخ الإسلام في تهذيب التهذيب وهو يترجم له بعد أن تعلم ما نقله أيضا من أنه روى عن أبي بكر مرسلا وبقية الأربعة كذلك، وحكيم بن حزام وابن عباس وابن عمر وابن عمرو، وروى عن أبيه المسيب وأبي ذر في آخرين من الصحابة والصحابيات، وأن ابن الجوزي ادعى أنه أسند عن عمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وكثير غيرهم أوردهم ابن الجوزي في صفوة الصفوة، وقوله إنه أسند عن هؤلاء مما يختلف مع ما جزم به آخرون من أنه لم يسند من العشرة إلا عن سعد بن أبي وقاص لتأخر وفاته، ففي النقل اختلاف غير جوهري ولا مغير للهدف المنشود، أما شيخ الإسلام ابن حجر فإنه يقول فيما يتعلق بروايته عن عمر بطريق المباشرة، يقول وهو مغتبط بما يقول: وقد وقع لي حديث صحيح الإسناد لا مطعن فيه، وهو صريح في سماع سعيد بن المسيب من عمر، ثم روى بسنده إلى سعيد أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يقول: "عسى أن يكون بعدي أقوام يكذبون بالرجم يقولون لا نجد الرجم في كتاب الله فلولا أن أزيد في كتاب الله ما ليس منه لكتبت أنه حق، قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أبو بكر ورجمت)) ويبدو من ذلك أنه سمع عمر وتحمل عنه وهو صبي، والمحدثون لا يمنعون التحمل في مثل سنه كما هو مقرر في موضعه.
أما تلمذته لأستاذه أبي هريرة فإنها مما لا يختلف العلماء والمحدثون فيه فقد اتصل بأبي هريرة ولزمه للأخذ عنه، وتزوج ابنته وكان أبو هريرة أحفظ الصحابة للسنة لأنه كان لا يشغله عن صحبة رسول الله من عمل ولا تجارة كغيره من المهاجرين والأنصار، وله في ذلك أخبار مشهورة نجتزئ بالإشارة إليها، وقاتل الله الملحدين وأجراء المستشرقين الذين حاولوا صرف المسلمين عن دينهم بالطعن في هذا الصحابي العظيم، فإنه متى أصيب فقد أصيبت السنة التي هي ركن الإسلام، وهيهات فالله متم نوره ولو كره الكافرون.
وفي تاريخ سعيد أنه اتصل بأسماء بنت أبي بكر فعرف منها تأويل الأحلام، وكانت تعرفها من أبيها الصديق الذي زكاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العلم الذي يدل على صفاء الذهن، وإشراق القلب، وكذلك كان أبو بكر وسترى ما يؤيد معرفة ابن المسيب بالتعبير بعد قليل.
ولكنه اشتهر رضوان الله عليه بالحديث والفقه في الدين والفتوى في نوازل المسلمين، فلم تجد معرفته بالتأويل مكانا للشهرة بين تلك المعارف الجليلة، لقد جد سعيد في مواصلة العلم وطلب السنة والفقه حتى صار أعلم الناس بأقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، ويقول في ذلك تحدثا بنعمة ربه ومن حق العالم ذلك حتى يكون موضع الثقة بين المتعلمين وأهلا للأخذ عنه بينهم "ما بقي أحد أعلم بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان مني"وكأنه لم يذكر عليا مع أنه كانت له أقضية جليلة وفتاوى كريمة يحفظها ابن عباس وغيره، لأن معارف الإمام علي رضي الله عنه لم تنتشر بالمدينة كما نشر غيرها من معارف الخلفاء الذين أقاموا بالمدينة المنورة حتى ختموا حياتهم المباركة فأخذ الناس عنهم فيها يريدون، ولعل ما يؤكد هذا الخبر ويؤكد هذه الدعوى أن كبار الصحابة وعلى رأسهم الحبر الإسلامي الجليل عبد الله بن عمر كانوا أحيانا يرجعون إليه ويحيلون عليه، نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب عن مالك قال: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره، قال مالك: لم يدرك عمر ولكن لما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره، أهـ.
فإذا كان عبد الله بن عمر يسأله عن شأن أبيه فما بالك بغيره، ألست ترى معي أن ذلك الرجل كان أعجوبة، ولكن هذا في الحق غير عجيب من شأن رجل كأنه لم يعرف في حياته غير المسجد النبوي للعلم والطاعة سوى ما يباشر به أمر معاشه، على أنه لا يذكر في تاريخ حياته شيء تفصيلي من ذلك أكثر من كلمة عامة إنه كان يتجر في الزيت، ولكن كيف وفي أي وقت وكيف كانت معاملته غير أنهم وصفوه بالتسامح إلى حد كبير كما سيمر بك.
إننا مازلنا منذ نشأنا نسمع القائلين ونقرأ للكاتبين أن سعيد بن المسيب كان حمامة المسجد النبوي لأن قلبه تعلق به عملا لا قولا، وانطبق عليه التوجيه النبوي الكريم ورجل قلبه معلق بالمسجد فكيف إذا كان خير مسجد بعد المسجد الحرام، لقد عرف فلزم فكان يواصل الخطا إلى المسجد وينتظر الصلاة تلو الصلاة، ويرى في العلم حق الصلاة وفي الصلاة حق العلم كلاهما مع الطهارة بكامل معناها مؤد إلى الآخر، ومتفاعل معه ورافع لشأن من لزمه، وقالوا إنه لم ينظر في الصلاة إلى قفا أحد لأنه لم يكن أمامه أحد، وقالوا إنه لزم الصف الأول أربعين سنة كان يتابع فيها الصوم ويسرده، وإنه مع فقهه العجيب لم يترخص في قبول هدية أو منحة، ولا قبِلَ عطاء من بيت المال مما كانوا يتقربون به إليه أو إلى أمثاله من الأئمة والعلماء، حتى يكون حرا لا سلطان لغير الله عليه رضي الله عنه، ولعله كان فيه الأسوة الكريمة للعلماء أرباب المواقف من أمثال ابن حنبل الذي أصيب بمحنة خلق القرآن، وأبي حنيفة ومالك وقد أريد كل منهما على القضاء فأبى كل الإباء.
قال ابن حجر في تاريخه: لما بايع عبد الملك للوليد وسليمان أبى سعيد ذلك فضربه إسماعيل بن هشام المخزومي ثلاثين سوطا وألبسه ثيابا من شعر وأمر به فطيف به في الأسواق ثم سجن.
فقاتل الله الظالمين، وجزى الله الثابتين على الحق والدين خير الجزاء آمين.
إنه يخيل إلي أن سعيد بن المسيب مع هؤلاء الظلمة كان أشبه بالمعشوق المعرض والمطلوب المدل، ولكنهم إنما كانوا يعشقون إقباله ليصرفوا قلوب الناس إليهم ويعتزوا بإقبالهم، ولكن له خطة في قلبه رسمها علم الدين، وانتهاج سنة الصالحين.
وبعد فإنني خشيت أن يتشتت بنا القول مع هذا البحر الخضم فلنجمع أهم ما يتصل به في طورين اثنين.
أولهما: عهد الطلب والتعلم الذي تمثل في تردده على حلقات العلم، وأخذه عن الصحابة ما تسنى له مما أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ليروي عنهم بالسند المتصل غالبا وما كان أكثرهم بالمدينة وإن كان بعضهم تنقل في البلاد منذ عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه، ولكنه بقي في المدينة منهم الكثير وفيهم كثير من البدريين رضوان الله عليهم، وقد رأيت في صدر هذا المقال أسماء لبعض من نقل عنهم سعيد، ولهذا لم ير سعيد ابن المسيب أن يرحل في طلب العلم، وهو في أول مركز للعلم وأهم موطن له ولقد كان يزكي انتفاعه بهؤلاء ويظهر ثمرة الإفادة منهم ذلك الاستعداد الخصيب مع ذلك الإقبال العجيب، فتجلى نضجه المبكر وظهر فضله غير متأخر حتى كان يفتي والصحابة شهود، وكانت تعجبهم فتاواه ويقرونها بل يباركونها.
وثاني العهدين لسعيد شأنه منذ ظهر فضله، ولمس في نفسه أنه مطلوب لا طالب، وأن نقله للعلم أول واجب، لا فكاك له منه ولا مندوحة عنه لا يسأل على ذلك أجرا، فأسند ما سمعه من الصحابة إلى من نقلوه عنه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يرسل أحيانا بعض الأحاديث [5] ، وكانت مراسيله في الجملة مقبولة لأنه كان لا يرسل إلا عن الثقات، ولأنها وجدت مسندة في بعض الروايات عنه وليس تفصيل ذلك من همنا اليوم [6] .
وفي هذا الطور ظهرت شخصيته الخلقية في هذه الشخصية العلمية، فأقام على عبادة الله وعرف عن الدنيا ومظاهرها إلا ما يقيم به أوده، ويصون به وجهه، وقد أثمر ذلك فيه الثبات على الحق والمضي فيما يعتقد أنه الحق ولو كان السيف مصلتا عليه، ومهما أصيب في دنياه إيثارا لسلامة الدين، وقد تجلى ذلك في خلافة عبد الملك بن مروان حين رفض البيعة لابنيه الوليد وهشام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة كما تقدمت الإشارة، كما تجلى في رفضه لتزويج بنته لولي العهد الوليد بن عبد الملك مع أنهم عذبوه كذلك وطافوا به في أسواق المدينة، وهل كان مثل سعيد وهو من هو في ذلك الدين والورع يقبل أن يصاهر هؤلاء، وهو يعاديهم وينكر عليهم، إذن لتسرب إليه التحليل من قيود التقوى والورع، وهو عليها أحرص ما يكون، ولعل لنا بعد ذلك أن نجمل القول فيما تجلى فيه من صفات تجمع أمره كله وهي صفات ثلاث.. العلم الفياض، والحرص البالغ على الطاعة مع الإعراض عن المظاهر الكاذبة، والصبر على الحق مع الصبر على ما يصيبه في سبيله!
أما العلم فقد رأيت صورا منه فيه طالبا ومطلوبا، ولمست مكانته في شهادة السلف الصالح والأئمة وفيهم بعض الصحابة وكثير من التابعين وتابعيهم بإحسان.. وقال مكحول: ما حدثتكم به فعن سعيد بن المسيب والشعبي، وقال ميمون: دخلت المدينة فسألت عن أفقهها فدفعت إلى سعيد بن المسيب، ولابد هنا من الإشارة إلى مبلغ بصره بتأويل الرؤيا كم وعدنا بذلك، فإن المتتبع لشأنه ولاسيما فيما ينقل عنه من ذلك في كتب التراجم والتواريخ ليرى العجب ويتجلى له أنه أوتي ما هو كالوحي مما لا يخطر على بال.. وما يتحقق على غرابته كما قال، روى ابن سعد في طبقاته ما خلاصته: أن رجلا جاء إلى ابن المسيب فزعم له أنه رأى في منامه كأنه أخذ عبد الملك بن مروان فأضجعه إلى الأرض ثم بطحه فدق في ظهره أربعة أوتاد! فقال له: أنت رأيتها؟ قال نعم، قال سعيد: لا، ولا أخبرك أو تخبرني، قال: ابن الزبير رآها وهو بعثني إليك، فقال سعيد إن صدقت قتل عبد الملك ابن الزبير، وخرج من صلبه أربعة كلهم يكون خليفة، فذهب الرجل إلى عبد الملك وأخبره فسر سرورا عظيما، وسأل الرجل عن حال سعيد ثم أجاز الرجل وأغدق عليه، وقال له رجل: رأيت عبد الملك يبول في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فقال إن صدقت رؤياك قام من صلبه أربعة خلفاء، وجاءه رجل فقال له: رأيت حمامة وقعت على منارة المسجد، فقال: يتزوج الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر، وهذه عجائب حقا.
ويرتبط بهذه الناحية ما كان ينضح على لسانه من الحكم العجيبة، ومنها ما نقل عن ابن عيينة قال: سمعت سعيدا يقول: إن الدنيا نذلة وهي إلى كل نذل أقبل وأنذل منها من أخذها بغير حقها، وطلبها من غير حلها، ووضعها في غير سبيلها، وروى أبو نعيم في الحلية أن سعيدا لما جرد عن ثيابه ليضرب قالت امرأة حين رأته: هذا مقام الخزي، فقال سعيد: من الخزي فررنا.
نعم لقد فر باستمساكه بالحق من الخزي يوم الفزع الأكبر، وانظر إلى استحضاره العجيب في ذلك الموقف الكئيب، ومن قوله رضي الله عنه: يد الله فوق عباده فمن رفع نفسه وضعه الله، الناس تحت كنف الله يعملون بأعمالهم، فإذا أراد الله بعبد فضيحة أخرجه من تحت كنفه فبدت للناس عورته.
وأما النسك والزهادة ففي ذلك التاريخ الملموس، وتلك المواقف العديدة المشهورة، وفيها آيات بينات على أن طاعة الله وعبادته كانت دعامة حياته، وهي التي غرست في نفسه احتقار الدنيا ومظاهرها حتى ليبدو أن قليلا من كان يستطيع أن ينافسه على ذلك من أمثال، الحسن البصري، وزين العابدين بن الحسين بن علي، وابن سيرين، وكانوا مضرب الأمثال في ذلك المعنى الإسلامي الجليل، فأما سعيد فلم يسمع بمثله دأبا على الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفوته تكبيرة الإحرام في أربعين سنة متوالية، ولا يقبل أن يتخلف عن واحدة منها لأية داعية إلا إذا كان في سجن الظالمين، أو في درس من دروس الصابرين، ثم يندفع سريعا إلى وطنه ويطير إلى وكره، ويقولون في هذا المقام إن عينه اشتكت في بعض الأيام فقيل له لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة هناك، فقال: وكيف أصنع بشهود العتمة والعشاء، فهو مع العتمة والعشاء في صنعته الروحية التي يتخذ بها العهد مع الله، ومن أوفى بعهده منه سبحانه، لقد أذاقهم تلك اللذة فما فتئوا يترقبونها، وقالوا إن بعض خلصائه نصح له وقد تأزم الأمر بينه وبين الحكام أن يمتنع عن صلاة الجماعة بضعة أيام، وكان الحاكم يكتفي بأن يرسل إليه فلا يجده تعظيما لشأنه، فقال سعيد: وأنا أسمع الأذان حي على الصلاة حي على الفلاح، لا يكون ذلك أبدا.
ثم إنه كان لا يفتر عن تلاوة القرآن في غدوه ورواحه، وفي سفره ومقامه، وهو الكتاب الذي ارتفع بمستوى البشرية، وعرفه الصفوة منهم فكان خير الزاد لهم، وكان يسرد الصوم سردا ثم يكون إفطاره في المسجد على شراب يصنع له في بيته، وحج أربعين سنة لا يشق عليه الحج لنشاطه الروحي العجيب، ولعلك في خلال هذا العرض رأيت كيف كان حظه من الصبر على عبادة الرب، ولقد أثمر ذلك ثمرة الصبر على كلمة الحق وعدم ادهان مع أي أحد، فشأنه الثبات والهدوء مهما عصفت رياح الجور، ولذا كان يتنازل عن عطائه في بيت المال مهما بلغ، ذكروا في هذا المقام أنه كان له من العطاء ما نيف على ثمانين ألفا مما يسيل لعشر معشاره لعاب أهل الدنيا وطلابها، فلما طُلب لأخذه لم يستفره، ولا حرك من رغبته ذرة، ولكنه يقول: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان حتى ألقى الله تعالى فيحكم بيني وبينهم.
كلام البرم بهؤلاء البريء من كل ما يجيء من عندهم، ورحم الله ذلك الإمام العظيم، وكان يعد لذلك الاستغناء عدته بالتجارة التي أسلفت الإشارة إليها، ولا يضيع نصيبه من الطلب فيما يسر الله له، حتى قالوا إنه مات عن ثلاثة آلاف دينار، ولما دنت منيته قال معتذرا إلى ربه وهو أعلم به: اللهم إنك تعلم أني لم أجمع هذا المال إلا لأحفظ به نفسي وأصون به عرضي، وأعود به على جيراني وأهلي.
على أنه كان يتسم بسماحة ويسر هي التي أنطقته بهذه الحكمة "لو نازعني أحد ردائي لنزعته له"، وقد آن أن أختم هذا الحديث بقصة طريفة هادئة تحدث عن مقدار ما أثمره فيه العلم والزهد والحصافة وقوة الحق، وهي قصة أوردها المحدثون والحفاظ في تاريخه الحافل، وفيما ينبغي أن يحتذى من المثل في صفات العلماء وأخلاقهم، وهي في شأن ابنته الجميلة الكريمة التي ضن بها على ولي عهد الخليفة وثبت على رفضه مصاهرته مهما لقي من تنكيل، وشأن الطالب الفقير أبي وداعة الذي عرضها عليه وأصر على هبتها له، ولم يملك من حطامها شيئا يذكر، حدّث هذا الطالب بما خلاصته أنه كان يجالس ابن المسيب ففقده أياما، فلما حضر قال له: أين كنت؟ فحدثه بوفاة زوجه، فقال له: ألا أخبرتنا فشهدناها، فلما أراد الانصراف قال الشيخ له: هل استحدثت امرأة؟ قال: رحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين، فقال له: أنا أزوجك، ثم حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وزوجه على درهمين، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من شدة الفرح، ثم عدت إلى بيتي لأتناول إفطاري وكنت صائما وكان طعامي الخبز والزيت، فإذا طارق يقرع الباب، فقلت من؟ قال: سعيد، فأفكرت في كل مسمى بذلك إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد وإذا هو سعيد بن المسيب! فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك، قال: لأنت أحق أن آتيك، قلت فما تأمر؟ قال: إنك كنت عزبا فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك ثم دفع ابنته وذهب. قال أبو وداعة فسقطت من الحياء، ثم تقدمت إلى القصعة فأخفيتها، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران فجاءوا.. ثم تطول القصة ولكن من أبرز ما فيها قول أبي وداعة، إنني حين دخلت وجدت أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله وأعرفهم بحق الزوج، فمكثت شهرا لا يأتيني ولا آتيه، ثم عدت إليه فوجه إليّ بعشرين ألف درهم!
وهكذا يكون العلماء الأمراء، وهذا ما يصنع العلم النافع في النفوس الخصبة والقلوب الكريمة، فانظر ماذا ترى!
اللهم وفقنا للانتفاع وجنبنا الجهل والانحراف، يالله يا عظيم يا كريم.
أهم المراجع:
طبقات ابن سعد.
تهذيب التهذيب لابن حجر.
إحياء العلوم للغزالي.
صفوة الصفوة لابن الجوزي.
التبصرة والتذكرة للعراقي.
التدريب للسيوطي.
حلية الأولياء لأبي نعيم.
فتحث المغيث للسخاوي.
تراجم إسلامية لمحمود النواوي.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
كلا هذين أدرك الجاهلية والإسلام، فأسلما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهما لم يلقاه.
[2]
كان إماما جليلا لقب بأنه شيخ إقليم فارس، قال السلمي إنه صنف من الكتب ما لم يصنفه أحد، توفي سنة 371.
[3]
أويس بن عامر القرني بفتحهما، قال شيخ الإسلام في تهذيب التهذيب: إنه سيد التابعين، روى له مسلم ومات مقتولا بصفين.
[4]
انظر شرح الحافظ السخاوي للألفية 145/2.
[5]
الحديث المرسل عند جمهور المحدثين هو ما يرويه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يخصه بالتابعي الكبير من أمثال سعيد والحسن البصري وابن سيرين.
[6]
انظر المطولات في حجية المرسل منها علوم الحديث للحاكم، ومقدمة ابن الصلاح وشروحها، وألفية العراقي وشروحها.
إتحاف الأحباب بما ثبت في مسألة الحجاب
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
المدرس بمعهد الحرم المكي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فقد اطلعت على سؤال وجه إلى بعض أهل العلم يتعلق بحجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة، وقد طلب إليّ تحضير الإجابة الشافية في ضوء الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فحررت هذه الإجابة السريعة مستعينا بالله جل وعلا الذي تتمّ به الصالحات وبكتاب الله تعالى الذي نزل به الخير والبركات، وبسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تتنور بها الكائنات، وبإجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين الذين هم قدوتنا في العمل الصالح والحسنات، فما جاء فيها من الصواب فمن فضل الله تعالى، وتوفيقه، وإن كان غير ذلك فهو مني، ومن الشيطان، فأستغفر الله تعالى، وأتوب إليه جل وعلا سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
نعم إن المرأة لها دور كبير في إفساد العالم إن خرجت عن مكانتها التي أعطاها الله تعالى، وإن فتنتها أكبر، وأشد، وأعظم من أي فتنة وقعت في الإنسانية بعد فتنة الشرك، وإنها محور أساسي للخير إن صلحت، والشر إن فسدت، وإن صلاح المجتمع الإنساني متوقف على صلاحها من النواحي الاجتماعية، وأن الأمراض الاجتماعية الفتاكة التي يعاني منها الغرب والشرق ومن لف لفهم كانت بسبب خروج المرأة عن دائرتها الأساسية ونشأتها المثالية، ولقد يحدثنا التاريخ الإنساني عن الحوادث الخطيرة التي تعرضت لها المرأة قبل الإسلام، فضاعت فيها معالمها الفكرية، والثقافية، وحريتها الكريمة، وحقوقها المشروعة، فكانت تعامل كالبهيمة العجماء لا رأي لها، ولا نظر، وإلى هذه القضية يشير الحديث النبوي الشريف وهو من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها، قالت:"جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا"مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا". ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعة أشهر، وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول"، فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا، ولا شيئا، حتى تمر عليها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طير، أو شاة، فتفتض به "[1] ، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره [2] .
فهذا الحديث الشريف يصور لنا واقع المرأة المرير في الجاهلية، ومدى الإهانة التي كانت تعيش فيها، ثم أكرمها الله تعالى، وأعزها بنعمة الإسلام الخالدة، وأعطاها حقوقها المشروعة كاملة دون شطط، ولا نقص، رحمة بها، وشفقة عليها، ولأول مرة في التاريخ الإنساني الطويل نالت المرأة ما نالت من عز مفقود، واحترام متزايد، ومنزلة سامية كريمة، وكانت حال المرأة الغربية في الجاهلية أدهى وأمر من حال المرأة العربية وغيرها، ولقد سعى الأعداء جاهدين إلى إخفاء مزايا الإسلام منذ أول يوم جاء فيه يخرج الإنسانية الضائعة من ظلام دامس إلى نور الحرية الحقيقية، وإلى مبادئ عادلة، وعالية رفيعة مثالية لم تشهدها الإنسانية في جميع العصور، فوضع هؤلاء الأعداء بمكرهم الخبيث وحيلهم الماكرة، وطرقهم الملتوية تلك المناهج البالية الخبيثة في التربية والثقافة التي لم تتفق أبدا بحال من الأحوال مع فطرة الإنسان الحر الكريم، نعم تلك المناهج التي تكلم عنها مفكرو المسلمين حديثا وقديما، وعلى رأسهم الدكتور محمد إقبال المفكر الإسلامي الكبير فكشف عن خباياها، وزواياها، تكلم عنها بتفكير عميق، وإطناب مفيد، في كتبه، ورسائله، ومقالاته، ونبه الأمة الإسلامية إلى ما خططه الغرب المادي من تخطيط خطير، من السيطرة التامة على العالم الإسلامي من جميع النواحي الحساسة، نعم كانت تلك المناهج التعليمية والتربوية التي وضعها الغرب لإفساد المسلمين، وتحطيم قواهم الفكرية الإسلامية سببا أساسيا لفساد المرأة والشباب، وانحطاطهم خلقيا، واجتماعيا، وثقافيا وفكريا حملت تلك المناهج في طياتها نارا تحرق الأجسام والضمائر والقلوب في شكل خطير لا يحس به أحد إلا من عصمه الله تعالى، مما يجري في الجامعات والكليات في بلاد المسلمين وغيرها تلك الجامعات التي تسير على نظام الاختلاط بين الجنسين حيث جردت المرأة من لباسها وحيائها، وأنوثتها في ضوء هذا النظام المادي اللعين فصب عليها من
الفساد العريض الكبير الذي لا تستحيي فيه المرأة ولا تتحشم بل تتلذذ بما غضب الله به على الأقوام السابقة أنها رزية ألا تستشعر الأمة الإسلامية بهذه النكبة السوداء التي حلت بها، وأنها سبب أساسي لفقدان قيادتها، وإمامتها على العالم كله، فو الله العظيم من هنا كان فساد المرأة كبيرا، وشرها مستطيرا وإليه أشار الحديث الصحيح كما أخرجه الإمام البخاري، ومسلم في صحيحهما والترمذي وابن ماجة في سننيهما والإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح من حديث أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على أمتي من النساء على الرجال"[3] ، والحديث الثاني أخرجه مسلم أيضا والإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال صلى الله عليه وسلم:"إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء"[4] ، ومن هنا كان اهتمام الإسلام اهتماما بالغا بالمرأة من جميع النواحي الحساسة، إذ نظم لها حياة كريمة تضمن لها الشرف الرفيع، ومنزلتها السامية، وحريتها الفكرية، ونشاطها الأصيل لا انحراف فيه، ولا ظلم، ولا عدوان، تمارس أعمالها في حقلها الخاص بعيدة عن التهم، والشكوك، ولا انحراف فيه والزيغ تقف وقفة رائعة مثالية في ميدان التوجيه والتربية الإسلامية، وتنشأ أطفالها في بيتها المبارك على الحق، والصدق، والإخلاص، والجهاد وعلى تلك المعاني السامية التي فقدها الغرب والشرق على حد سواء، وإن تلك المدارس الغربية والشرقية التي بعدت عن حقائق الدين الإسلامي العظيم لم تكن إلا خطة مدروسة مبنية على الظلم، والخيانة، والفاحشة، وكيف تنظم الغرائز الجنسية وغيرها إن لم يكن صاحبها يحمل إيمانا صادقا، وعقيدة قوية راسخة في الله سبحانه وتعالى وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم تنظم الغرائز بحال من الأحوال في ضوء تلك الدراسة التربوية التي وضع مناهجها
أفراخ اليهود والنصارى من الشيوعيين المارقين، وإن آراءهم وأفكارهم في التربية الحديثة حسب زعمهم لم تجد شيئا، ولم تحسن موقفا مترديا وقع فيه الغرب والشرق وغيرهما ممن لاحظ لهم في الرسالة السماوية الأخيرة التي أكرم الله تعالى بها الإنسانية كلها، وهي رسالة الإسلام الخالدة.
ولقد درست بعض النظريات الغربية في التربية والتي لا تستحق أن تكون موضع اهتمام وإعجاب في نظر الباحثين المسلمين ولقد درست في نفس الوقت أحوال المرأة الغربية وغيرها التي أخذت بهذه المناهج ممن تعيش بعيدة عن ضوء رسالة الإسلام فوجدت أنها فقدت كل مقومات الحياة الحرة الكريمة، فأصبحت الآن سلعة رخيصة في أيدي الظلمة الغاشمين من دعاة الزنا، والسفور، والانحلال ومن هنا يوجه السائل الكريم هذا السؤال فيقول: وما معنى قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [5] وما معنى قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنّ} [6] فقال: فيرى الأستاذ الشيخ أبو الأعلى المودودي أمد الله في عمره: أن المراد بالزينة هي الوجه والكفان فقط فلا يجوز أن تبدي المرأة أكثر من ذلك لمحارمها، على حين أن الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى يرى أنه لا بأس على المرأة أن يبدو منها ما عدا (ما بين السرة إلى الركبة للمحارم) فما هو الراجح الذي تؤيده الأدلة القوية، ويشهد له الواقع، والذي يجب على المسلم أن يعتمده، أرجو الإجابة الوافية ما وسعكم التفصيل، والاستدلال؟
قلت: لم يحسن السائل الكريم في توجيه سؤاله، بل لم يفهم ما قاله الأستاذ المودودي، وكان عليه أن يوجه السؤال هكذا: ما المراد بالزينة الواردة في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وما المراد من لفظة {إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فقد ذهب الأستاذ المودودي إلى أن المراد من هذه اللفظة الوجه والكفين فجاز للمرأة أن تكشفهما أمام الأجانب، وقال السيد قطب رحمه الله تعالى: لا بأس بإظهار المرأة أمام المحارم كل شيء ما عدا ما بين السرة إلى الركبة، أجيبوني بالتفصيل والاستدلال؟ وبينوا لي ما حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة؟
ج- نعم قال ذلك الأستاذ المودودي في كتابه تفسير سورة النور، إذ قال: فعورتها (أي المرأة) للرجال جميع بدنها إلا الوجه والكفين، واستدل على ذلك بقوله: فعن عائشة رضي الله تعالى عنها "أن أختها أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه"، رواه أبو داود مرسلا، وقد نقل ابن جرير في تفسيره رواية في هذا المعنى عن عائشة رضي الله تعالى عنها، تقول فيها: دخلت علي ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنها ثم ذكر الحديث كما جاء في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما [7] . قلت: وقد رجع الأستاذ المودودي في كتابه ((الحجاب)) عن هذا الرأي إلا أن دليل رجوعه لم يكن قويا، لأنه لم يكن عن طريق النصوص بل كان عن طريق الفهم والاستنباط وواقع الناس، فلم يكن - كما قلت - قويا في نظر من يشتغل بالحديث النبوي الشريف ولذلك رد عليه العلامة المحدث شيخنا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه ((حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة)) ، ولا طائل بنقل رده عليه وإنما بيان هذه المسألة في ضوء الكتاب والسنة دون أن أكون وسطا بين الراد والمردود عليه، ولكل واحد منهما جهود مباركة ومساع حميدة في الدعوة إلى الله تعالى فجزاهما الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
نعم رواية أبي داوود هذه المشار إليها أخرجها الإمام أبو داوود في سننه تحت باب (فيما تبدي المرأة من زينتها) ثم ساق الإسناد بقوله حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي، ومؤمل بن الفضل الحراني، قالا: أخبرنا الوليد، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد قال يعقوب بن الفضل الحراني، قالا: أخبرنا الوليد، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد، قال يعقوب بن دريك عن عائشة، ثم ذكر الحديث بطوله الذي نقله الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتابه، وقال الإمام أبو داوود في نهاية الحديث هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة [8] .
وقال صاحب العون: والحديث فيه دلالة على أنه ليس الوجه والكفان من العورة فيجوز للأجنبي أن ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية، وكفيها عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع أو ما دونه، أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق قاله ابن رسلان، ويدل على أن الوجه والكفين ليستا من العورة قوله تعالى: في سورة النور {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قال في تفسير الجلالين وهو يعني ما ظهر منها الوجه والكفان، فيجوز نظره لأجنبي، إن لم يخف فتنة في أحد الوجهين والثاني يحرم لأنه مظنة الفتنة، ورجح حسما للباب انتهى- وقد جاء تفسير قوله تعالى:{إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوجه والكفين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أخرجه ابن أبي حاتم، والبيهقي، وأخرجه إسماعيل القاضي عن ابن عباس مرفوعا بسند جيد، قال المنذري: في إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن النصري، نزيل دمشق مولى بني نصر، وقد تكلم فيه غير واحد، وذكر الحافظ أبو بكر أحمد الجرجاني هذا الحديث وقال: لا أعلم رواه عن قتادة غير سعيد بن بشير، وقال مرة فيه عن خالد بن دريك عن أم سلمة بدل عائشة. انتهى كلام صاحب العون بلفظه.
قال العبد الفقير: أخرج هذا الحديث الإمام البيهقي في السنن الكبرى من هذا الوجه في موضعين [9] ونقل الإمام البيهقي إرساله عن الإمام أبي داوود، وأورده الإمام ابن كثير في تفسيره [10] وقال في نهاية الحديث قال أبو داوود، وأبو حاتم الرازي هو مرسل خالد ابن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله تعالى عنها. والله أعلم أهـ.
قلت: قال الحافظ صلاح الدين العلائي: قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي خالد ابن دريك لم يسمع من عائشة، وحديثه في أبي داوود ثم ذكر الحديث [11] وقد أخرجه الحافظ عبد الحق الإشبيلي من هذا الوجه [12] ، وقال الحافظ في ترجمة خالد بن دريك أنه لم يدرك عائشة [13] .
قلت: في إسناده علة أخرى قادحة وهي أن سعيد بن بشير منكر الحديث، قال الإمام الذهبي: سعيد بن بشير صاحب قتادة سكن دمشق وحدث عن قتادة، والزهري، وجماعة وعنه أبو مسهر، وأبو الجماهير، قال أبو مسهر لم يكن في بلدنا أحفظ منه، وهو منكر الحديث، قال البخاري يتكلمون في حفظه، قال عثمان عن ابن معين ضعيف، وقال العباس عن ابن معين ليس بشيء، قال الفلاس: حدثنا عنه ابن مهدي، ثم تركه، وقال النسائي: ضعيف، وقال عبد الله بن نمير يروي عن قتادة المنكرات، وذكره أبو زرعة في الضعفاء، وقال: لا يحتج به وكذا قال أبو حاتم [14] .
قلت: هذه الرواية لا تصلح أن تكون صالحة للمتابعات والشواهد فضلا عن أن تكون حجة عند أهل الحديث فكيف تكون فيه دلالة على أنه ليس الوجه والكفان من العورة وحال إسنادها كما ذكر وإن إسنادها عند ابن أبي حاتم في تفسيره وكذا البيهقي في سننه وإسماعيل القاضي في بعض كتبه وكذا الحافظ أبو بكر أحمد الجرجاني في كتابه الكامل في ترجمة سعيد بن بشير دائر على سعيد بن بشير أبي عبد الرحمن النصري وهو منكر الحديث، وضعيف عند ابن معين، والنسائي، وأبي زرعة وعند أبي حاتم الرازي فكيف يكون إسنادهما جيدا مع نقل صاحب العون كلام المنذري في الراوي المذكور وهو سعيد بن بشير؟ فاستدلال الأستاذ المودودي حفظه الله تعالى من هذه الرواية ليس في موضعه كما نقلت لك حال الراوي، وكذا إرسال خالد بن دريك عن عائشة رضي الله تعالى عنها فيكون إسناد هذا الحديث ضعيفا جدا مع إرساله، راجع المراجع الآتية في ترجمة سعيد بن بشير - الكامل لابن عدي، ديوان الضعفاء والمتروكين للإمام الذهبي، كتاب الضعفاء للعقيلي، ولابن الجوزي، والمجروحين لابن حبان، وكتاب الضعفاء للنسائي والتاريخ الكبير للإمام البخاري رحمه الله تعالى، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي وغيرها من كتب الرجال حتى تقف على حقيقة الرجل والله هو المستعان.
وأما الحديث الذي أشار إليه الأستاذ المودودي بقوله وقد نقل ابن جرير الطبري في تفسيره رواية في هذا المعنى عن عائشة.. فنعم فقد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره إذ قال رحمه الله تعالى: حدثنا القاسم حدثنا الحسين، قال ثني حجاج عن ابن جريج، قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها، دخلت عليّ ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها ثم ذكر الحديث نحو حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما [15] .
قلت: إسناده ضعيف جدا لثلاث علل خطيرة.
1-
ضعف الحسين، واسمه سنيد بن داود المصيصي المحتسب قال الحافظ: سنيد بنون، ثم دال مصغرا، ابن داؤد المصيصي المحتسب، اسمه حسين ضعيف مع إمامته ومعرفته لكونه كان يلقن شيخه حجاج بن محمد من العاشرة [16] .
قال الإمام الذهبي: قال أبو داود لم يكن بذاك، وقال النسائي: الحسين بن داؤد ليس بثقة وأورده الذهبي في كتابه ديوان الضعفاء والمتروكين، وقال ضعفه أبو داود [17] .
2-
والعلة الثانية: ضعف حجاج بن محمد الأعور المصيصي، واختلاطه، اختلاطا فاحشا، قال الإمام الذهبي: قال إبراهيم الحربي: لم قدم حجاج بغداد آخر مرة اختلط فرآه ابن معين يخلط، وقال لابنه: لا يدخل عليه أحد ولذا كان تلميذه سنيد بن داؤد يلقنه [18] كما في التقريب والتهذيب، وكتاب الاغتباط بمن رمي بالاختلاط للإمام ابن سبط العجمي خ.
3-
العلة الثالثة: انقطاع هذه الرواية لأن ابن جريج الذي هو عبد الملك بن جريج المتوفى بعد المائة وخمسين لم يدرك عائشة رضي الله عنها، ومع أنه متهم بتدليس التسوية الذي هو من أشر أنواع التدليس، ولذلك قال الإمام الدارقطني فيما نقل عنه الحافظ في التهذيب: تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح [19] ، وقال الإمام الحافظ صلاح الدين العلائي ذكر ابن المديني أنه لم يلق أحدا من الصحابة، ثم ذكر العلائي إرساله عن جملة كبيرة من التابعين [20] .
قلت: هاتان الروايتان ليستا صالحتين للمتابعات والشواهد فضلا عن أن تكونا حجة ولو كانتا صحيحتي الإسناد لكانتا شاذتين غير محفوظتين فكيف الحال بما ذكر من إسنادهما، وليس هناك حديث صحيح مرفوع في هذا المعنى إلا ما جاء عن عبد الله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في أثر أخرجه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره [21] والبيهقي في السنن الكبرى [22] قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب قال: ثنا مروان، قال ثنا مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الكحل، والخاتم.
قلت: إسناده ضعيف جدا، بل هو منكر، قال الإمام الذهبي: مسلم بن كيسان أبو عبد الله الضبي الكوفي الملائي الأعور، عن أنس وإبراهيم النخعي، وقال الإمام الحافظ أبو الحجاج المزي في ترجمة مسلم بن كيسان الملائي روى عن سعيد بن جبير وهو يروي في هذا الإسناد عن سعيد بن جبير [23] ثم قال الإمام الذهبي في ترجمته عنه الثوري، وأبو وكيع الجراح بن مليح، قال الفلاس: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يكتب حديثه، وقال يحي: ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال يحي أيضا: زعموا أنه اختلط، وقال يحي القطان، حدثني حفص بن غياث قال: قلت لمسلم الملائي عمن سمعت هذا؟
قال عن إبراهيم عن علقمة، قلنا علقمة عمن؟ قال عن عبد الله، قلنا عبد الله عمن؟ قال: عن عائشة وقال النسائي: متروك الحديث [24] وقلت: هذا الإسناد ساقط لا يصلح للمتابعات والشواهد كما لا يخفي هذا على أهل هذا الفن الشريف.
وقال الإمام الحافظ البيهقي في السنن الكبرى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا حفص بن غياث عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: ما في الكف والوجه [25] .
قلت: إسناده مظلم ضعيف لضعف راويين هما أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال الإمام الذهبي: أحمد بن عبد الجبار العطاردي روى عن أبي بكر بن عياش وطبقته، ضعفه غير واحد، قال ابن عدي رأيتهم مجمعين على ضعفه، ولا أرى له حديثا منكرا، إنما ضعفوه لأنه لم يلق الذين يحدث عنهم، وقال مطين: كان يكذب، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي وقال ابنه عبد الرحمن كتبت عنه، وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه، وقال ابن عدي كان ابن عقدة لا يحدث عنه، وذكر أن عنده قمطرا على أنه كان لا يتورع أن يحدث عن كل أحد، مات سنة 272هـ[26] .
وقال الحافظ في التقريب: ضعيف [27]، وكذا يوجد في هذا الإسناد عند الإمام البيهقي: عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي عن مجاهد وغيره قال الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين، وقال: وكان يرفع أشياء، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي وقال ابن المديني: كان ضعيفا ضعيفا (مرتين) عندنا، وقال أيضا ضعيف.
وكذا ضعفه النسائي [28] ، وقال الحافظ في التقريب ضعيف [29] .
قلت: هذان الإسنادان ساء حالهما إلى حد بعيد لا يحتج بهما، ولا يكتبان، وهناك أسانيد أخرى لا تقل درجتهما في الضعف والنكارة وبذلك يمكن أن يقال إن هذه النسبة غير صحيحة إلى عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولو صح الإسناد إليه لما كان فيه حجة عند علماء أهل الحديث، فكيف في هذه الحال، وقد صحت الأسانيد إلى عم المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى غيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عكس هذا المعنى الذي رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، والبيهقي في سننه، وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره وزد على ذلك ما ثبت بأسانيد صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سوف يأتي مفصلا من أمره صلى الله عليه وسلم بالحجاب، والستر.
وإليكم أولا ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومنهم عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره إذ قال رحمه الله تعالى: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الثوري، عن أبي إسحاق الهمذاني عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الثياب [30] .
قلت: إسناده في غاية الصحة وأورد هذا الأثر الإمام ابن كثير في تفسيره [31] ثم ساق الإمام ابن جرير الطبري إسنادا آخر بقوله: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن: سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله مثله.
وقال الإمام السيوطي: أخرج ابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الزينة الظاهرة ((الوجه والكفان)) وكحل العينين، ثم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها، ثم لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، أو آبائهن الآية، ثم قال رضي الله تعالى عنه: والزينة التي تبديها لهؤلاء قرطاها، وقلادتها وسوارها، وأما خلخالها، ومعضدها، نحرها، وشعرها فإنها لا تبديه إلا لزوجها [32] .
قلت: رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه قد اطلعت على إسنادها عند ابن جرير الطبري في تفسيره ورجالها كلهم ثقات إلا أنها منقطعة لأن فيها علي بن أبي طلحة المتوفى سنة 143هـ يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولم يلقه والواسطة بينهما هو مجاهد بن جبر المكي وهو إمام كبير ثقة ثبت كما لا يخفى على أحد، وقد احتج بهذه الرواية، أعني رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما البخاري في الجامع الصحيح إذ أوردها في مواضع عديدة من كتاب التفسير معلقة وإن كانت ليست على شرطه في الجامع الصحيح قال ذلك الحافظ في التهذيب340-7.
وقال الإمام المزي في تهذيب الكمال 488-5 مشيرا إلى رواية التفسير هذه ((في ترجمة علي بن أبي طلحة هو مرسل عن ابن عباس وبينهما مجاهد)) واعتمد على هذه الرواية علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره 4909-63 والإمام القرطبي في تفسيره 243-14 وكذلك الإمام ابن كثير في تفسيره في مواضع عديدة فكانت قوية ومحتجا بها عند علماء التفسير وغيرهم، وإن ظاهر القرآن والسنة وآثار الصحابة والتابعين تؤيدها فليعتمد عليها ويستأنس بها، قال الله تعالى في سورة الأحزاب في حق أمهات المؤمنين {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} ، وقال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: وكما نهيتكم عن الدخول عليهن، وكذلك لا تنظروا إليهن بالكلية وإن كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن.
قلت: وهذا الحكم عام لجميع المسلمات المؤمنات دون تخصيص أمهات المؤمنين به، قال تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُم} الآية، ثم قال جل وعلا:{قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ} ، وقال جل وعلا:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} ، ولقد عرفنا إن شاء الله تعالى خلال سرد هذه الآيات الكريمات أن الحكم عام لا يختص بأمهات المؤمنين كما نص القرآن الكريم، ولقد أخطأ العلامة القاضي عياض في كتابه ((الشفا في حقوق المصطفى)) إذ قال رحمه الله تعالى: إن هذا الحكم خاص بأمهات المؤمنين وقد رد عليه الحافظ في الفتح إذ قال: قال القاضي عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز الخ
…
فرد عليه الحافظ إذ قال: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه، ثم أطال الحافظ الكلام على القاضي عياض [33] .
قلت: دعوى الاختصاص لم تدعم بدليل من الكتاب والسنة، بل ظاهر الكتاب والسنة يخالفانها كما سبق.
قال العلامة ابن كثير مفسرا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
…
} الآية قال: الجلباب هو الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود، وعبيدة السلماني، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخراساني، وغير واحد وهو بمنزلة الإزار اليوم اهـ، قلت: تلبسه اليوم النساء المورتانيات وبعض السودانيات، ثم قال: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة، وقال محمد بن سيرين سألت عبيدة السلماني عن قول الله تعالى:{يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ} فغطى وجهه، ورأسه، وأبرز عينه اليسرى أهـ.
أورد هذا الأثر السيوطي في المنثور 221-5 وقال: أخرجه الفريابي، وعبد ابن حميد، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين.
قلت: أخرجه ابن جرير في التفسير إذ قال: حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عوف، عن محمد، عن عبيدة، ثم ذكر الأثر بطوله [34] . قلت: رجال إسناده كلهم ثقات: يعقوب هو ابن إبراهيم الدورقي ثقة، ابن علية هو إسماعيل بن علية إمام كبير ثقة، وابن عوف هو عبد الله بن عوف المزني أحد الأعلام ثقة ثبت، ومحمد هو محمد بن سيرين أحد الأعلام التابعين، وعبيدة هو السلماني إمام ثقة زاهد، فكان هذا الإسناد صحيحا وليس بينهم انقطاع كما لا يخفي على من له علم بأسماء الرجال، ولا يخفى على أحد أيضا منزلة عبيدة السلماني العلمية إذ هو علم من الأعلام التابعين الكبار، ومخضرم ثقة، ثبت، قال الحافظ في التهذيب: كان شريح القاضي إذا أشكل عليه شيء من أمر دينه سأله، ورجع إليه، قال الإمام الذهبي: عبيدة بن عمرو السلماني المرادي، الكوفي، الفقيه العلم، كاد أن يكون صحابيا، أسلم زمن الفتح باليمن، وأخذ العلم عن علي، وابن مسعود، قال الشعبي: كان يوازي شريحا في القضاء، وقال العجلي: عبيدة أحد أصحاب عبد الله بن مسعود الذين يقرءون، ويفتون الناس، وقال ابن سيرين: ما رأيت رجلا أشد توقيا من عبيدة، وكان مكثرا عنه [35] ، ومجد شأنه الحافظ المزي في تهذيب الكمال، ورفع منزلته فليرجع إليه من شاء، فهو إمام كبير، يأتي تفسيره هذا موافقا لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام علي بن حزم الأندلسي: الجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه [36] ، وصححه القرطبي في تفسيره، فالعاقل اللبيب يفهم أثناء نظرته في هاتين الآيتين الكريمتين ما أمر الله تعالى به المؤمنين، والمؤمنات من الستر والغطاء، وخاصة أمهات المؤمنين لشدة حرمتهن، وشرفهن وعظمتهن، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال جل وعلا: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} نهاهن جل وعلا بضرب الأرجل على الأرض بالشدة، لئلا يسمع صوت الخلاخيل التي في أرجلهن خوفا على شرفهن، وسدا للذرائع، ومنعا لوقوع الفاحشة، فهذا غاية في الصون والحفظ، فإذا كان صوت الخلاخيل ممنوعا بهذا النص الكريم فكيف يجوز للمسلم أن يقول أن الوجه والكفين ليستا من العورة جاز كشفهما أمام الأجانب اعتمادا على تلك الروايات الضعيفة المنكرة والتي لم تصح أسانيدها.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما والإمام أحمد في مسنده، وابن جرير الطبري في تفسيره، وابن سعد في الطبقات الكبرى، والإمام البيهقي في السنن الكبرى عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت عائشة خرجت سودة بنت زمعة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق (هو العظم إذا أخذ منه معظم اللحم) ، فدخلت، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا، وكذا قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده، ما وضعه فقال:"إنه أذن لكم أن تخرجن لحاجتكن الحديث".
قلت: الشاهد معروف من هذا الحديث وهو أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يعرف سودة من وجهها وكفيها، وإنما عرفها من جسامة جسمها فدل على أنها كانت مستورة الوجه والكفين وهذا هو معنى الحجاب أعني تغطية الوجه والكفين وسائر الجسم، وإذا لم يكن هذا المعنى مرادا فماذا كانوا يغطون قبل نزول الحجاب، وهذا أمر في غاية الوضوح والبيان، إذا لم تكن سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها مستورة الوجه عند خروجها من بيت النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يقال في حقها وحق غيرها من أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن أنهن امتثلن الأمر الإلهي بالحجاب، ومع العلم أن ستر الوجه والكفين له أصل في السنة النبوية وقد كان ذلك معهودا في زمنه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتنقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين" والحديث أخرجه البخاري، والنسائي والإمام أحمد في مسنده، والبيهقي في سننه الكبرى، من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا، وحديث آخر، أخرجه البخاري، ومسلم، والإمام أحمد في المسند، وابن جرير الطبري في تفسيره من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك، قالت: فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه (أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون) حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي الحديث
…
قلت: في هذا الحديث شاهد قوي، ودليل واضح على أن الوجه عورة ولذا خمرت وجهها الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، ونحو هذا الحديث ما أخرجه الإمام أحمد في المسند، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو داوود في السنن بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزناه كشفناه، وكذا حديث أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل الإحرام، وقال الحاكم على شرط الشيخين، قال العبد الفقير: وفي الباب أحاديث كثيرة وهي صحيحة الإسناد يجب العمل بها، دون الأحاديث التي مر ذكرها، وهي ضعيفة منكرة ولا يجوز التمسك بها، ولو كانت صحيحة الإسناد لم تكن بحجة، فكيف بهذه الحال كما ذكر آنفا، وهناك حديث صحيح الإسناد أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في السنن وصححه، وكذا الدارمي في سننه قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله: أفرأيت الحمو قال: "الحمو الموت" انظر المسند 149-4 و153-4، فالحديث فيه دلالة واضحة على أنه لا يجوز دخول الأجنبي على الأجنبية وكذا قريب الزوج من أخ، وعم ونحو ذلك، وفي رواية لمسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب، قال: سمعت الليث يقول: الحمو أخو الزوج، وما أشبهه من أقارب الزوج وابن العم ونحوه، وفي الحديث تغليظ شديد، وتنبيه خطير، من الدخول على النساء، وقال الإمام ابن الأثير في النهاية 448-1: لا يخلون رجل بأجنبية، وإن قيل حموها، ألآ حموها الموت، أحد الأحماء، أقارب الزوج، والمعنى فيه، أنه إذا كان رأيه هذا في أخي الزوج، وما
شابهه وهو قريب، فكيف بالغريب، أي فلتمت، ولا تفعل ذلك، وهذه الكلمة تقولها العرب كما تقول الأسد، والسلطان، والنار أي لقاءهما مثل الموت، والنار يعني أن خلوة ابن عم الزوج معها أشد من خلوة غيره من الغرباء، لأنه ربما حسن لها أشياء، حملها على أمور تثقل على الزوج من التماس ما ليس في وسعه، أو سوء عشرته، أو غير ذلك اهـ.
قلت: فإذا كان الوجه والكفان ليستا من العورة، وجاز للنساء كشفهما أمام الأجانب، فلماذا هذا التشديد في هذه الأحاديث الصحيحة، ولماذا هذا التناقض بين تلك الأحاديث، وقد سبق أن قلت: تلك الأحاديث غير صحيحة، فلا يجوز أن يقال إنها متعارضة مع هذه الأحاديث الصحيحة التي فيها التغليظ الشديد، والتحريم الموثق، فلو كانت تلك الأحاديث والآثار التي يستدل بها بعض الناس على جواز كشف الوجه والكفين صحيحة الإسناد لكانت شاذة غير محفوظة في أنظار أهل الحديث، فكيف هي ضعيفة منكرة، فلا يحتج بها بحال من الأحوال، فلا ينبغي أن يقال: بعد هذا النقل أن الوجه والكفين ليستا من العورة استنادا على قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه الذي سبق بيانه من ناحية الإسناد، وأما حديث الخثعمية الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري ومسلم في صحيحهما من حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكذا من حديث الفضل بن عباس وغيرهما من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في حديثه عند الإمام أحمد في مسنده.. واستفتته جارية شابة من خثعم، فقالت إن أبي شيخ كبير قد أفند، وقد أدركته فريضة الله في الحج، فهل يجزئ عنه أن أؤدي عنه، قال:"فأدي عن أبيك"، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه:"ولوى عنق الفضل فقال له العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابا، وشابة فلم آمن الشيطان عليهما"، ثم ذكر بقية الحديث.
قلت: لا حجة في الحديث للذين يقولون بجواز كشف الوجه، والكفين لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر على الفضل بن عباس إنكارا باتا، بأن لوى عنقه، وصرفه إلى جهة أخرى، وكان في هذا الصنيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار واضح لأنه أنكر باليد، وقال الحافظ في الفتح 68-4: مشيرا إلى هذا الحديث، ويقرب ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلي بإسناد قوي من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن الفضل بن عباس: قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها وجعلت ألتفت إليها ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة"ثم قال الحافظ: فعلى قول الشابة إن أبي، لعلها أرادت جدها لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها، ويراها رجاء أن يتزوجها ثم قال الحافظ 70-4: وفي الحديث منع النظر إلى الأجنبيات، وغض البصر، وقال عياض: وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة، قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول اهـ.
ثم قال الحافظ: روى أحمد، وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للفضل حين غطى وجهه هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره، ولسانه غفر له اهـ.
قلت: هناك حديث آخر أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأصحاب السنن الأربعة بإسناد صحيح فال الإمام الترمذي باب ما جاء في احتجاب النساء عن الرجال، ثم قال: حدثنا سويد، عبد الله نا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، أنه حدثه أن أم سلمة حدثته، "أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وميمونة، قالت فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه"، فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ " قال الإمام الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
قلت: إسناده حسن، ونبهان هو المخزومي مولى أم سلمة، قال الحافظ في الفتح بعد أن ذكر هذا الحديث: أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها، وإسناده قوي، وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليست بعلة قادحة، فإن من يعرفه الزهري، ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد، لا ترد روايته [37] ، ونقله العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي [38] وأيده، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى [39] .
قال الحافظ في التهذيب: نبهان المخزومي، أبو يحي المدني، مولى أم سلمة، ومكاتبها روى عنها، وعنه الزهري، ومحمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، ذكره ابن حبان في الثقات وقال الإمام المزي في تهذيب الكمال 703-8: نبهان القرشي المخزومي، أبو يحي المدني مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن حبان في الثقات، ثم ساق إسناده الطويل إلى أم سلمة، ثم ذكر هذا الحديث، وحديثا آخر وهو أيضا من حديث أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان لأحدكم مكاتب، وكان عنده ما يؤدي عنه فلتحتجب عنه" أخرجوه من حديث سفيان بن عيينة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه النسائي من وجوه أخرى انتهى كلام الإمام المزي.
قلت: يرى الإمام المزي رحمه الله تعالى كما علمت من سياق كلامه أنه يحتج بهذه الأحاديث التي رواها في ترجمة نبهان المخزومي، ويرى أن نبهان مولى أم سلمة وإن كان لم يوثق من أحد من أئمة الجرح والتعديل فهو ممن يحتج بحديثه في هذا الباب، كما نقل عن النسائي بأنه أخرج حديثه الثاني في الحجاب من وجوه أخرى، وقال الإمام الذهبي في كتاب الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة في ترجمة نبهان، عن مولاته أم سلمة وعنه الزهري، ومحمد بن عبد الرحمن ثقة.
وحديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها هذا أورده الإمام ابن كثير في تفسيره [40] وقال: واحتج به كثير منهم على معناه.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه [41]، قلت: هو حديث حسن إسناده، وفيه حكم صريح بالحجاب لأمهات المؤمنين، ولا يختص الحكم بهن كما سبق، وأما حديث الخثعمية فليس على إطلاقه، وإن صح مدلوله على حسب رأى بعض أهل العلم بل يحمل عليه حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وهو حديث يؤيده ظاهر القرآن والأحاديث الأخرى الصحيحة، قال الإمام أبو داود في نهاية الحديث:أعني حديث نبهان عن مولاته أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم، قد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس:"اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده" اهـ.
قلت: هذا قول ابن قتيبة الإمام في كتابه ((تأويل مختلف الحديث)) [42] والذي تأثر منه الإمام داود رحمه الله تعالى، وليس في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها لفظ يدل على جواز نظر فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها أثناء إقامتها عند ابن أم مكتوم فالحديث أخرجه الإمام مسلم في الصحيح وكذا أبو داوود والترمذي، والنسائي في سننهم، ومالك في موطئه، وابن الجارود في المنتقى والإمام أحمد في مسنده بسياق طويل [43] ، وأورده الحافظ في التلخيص برقم 1493 فإني لم أطلع على لفظ يدل على الخصوصية، وقال صاحب العون [44] هكذا جمع المؤلف أبو داوود بين الأحاديث، وقال حديث أم سلمة مختص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحديث فاطمة بنت قيس لجميع الناس هكذا جمع المؤلف أبو داود بين الأحاديث.
قال الحافظ في التلخيص قلت: وهذا جمع حسن وبه جمع المنذري في حواشيه، واستحسنه شيخنا، قلت: لا يعارضون في تصحيح إسناد حديث نبهان، وإنما ادعوا فيه دعوى الخصوصية لأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وهذه الدعوى قد تكون معارضة، لأنها -كما قلت - تخلو من وجود ألفاظ فيها معنى الخصوصية، قال الإمام النووي في شرح مسلم ردا على هذه الدعوى [45] ، وقد احتج بعض الناس بهذا على جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف نظره إليها، وهذا قول ضعيف، بل الصحيح الذي عليه جمهور العلماء، وأكثر الصحابة أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها لقوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِن} ولأن الفتنة مشتركة، وكما يخاف الافتتان به، ويدل عليه من السنة حديث نبهان مولى أم سلمة ثم ذكر الحديث بطوله وصححه، ثم قال الإمام النووي، وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه أذن لها في النظر إليه بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيرها، وهي مأمورة بغض بصرها فيمكنها الاحتراز من النظر إليه بلا مشقة بخلاف مكثها في بيت أم شريك. انتهى كلام النووي ثم نقل هذا الكلام العلامة المحدث المباركفوري في تحفة الأحوذي [46] النسخة الهندية وأيده وتكلم على الحديث الشوكاني في النيل [47] أعني حديث نبهان إذ قال: باب نظر المرأة إلى الرجل ثم قال: لأن النساء أحد نوعي الآدميين فحرم عليهن النظر إلى النوع الآخر قياسا على الرجال، ويحققه أن المعنى المحرم للنظر هو خوف الفتنة وهذا في المرأة أبلغ، فإنها أشد شهوة، وأقل عقلا فتسارع إليها الفتنة أكثر من الرجل، قلت: الشريعة عامة شاملة لجميع الأمة دون تخصيص بأحد الناس، أو قبيلة من القبائل.
وقال الإمام الترمذي في الجامع: باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، ثم قال: حدثنا أحمد بن منيع، نا ابن أبي زائدة، ثني عاصم بن سليمان، عن بكر بن عبد الله المزني عن المغيرة بن شعبة، أنه خطب امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"، وفي الباب عن محمد بن مسلمة، وجابر، وأنس وأبي حميد، وأبي هريرة، ثم قال: هذا حديث حسن وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقالوا: لا بأس أن ينظر إليها، ما لم ير منها محرما، وهو قول أحمد، وإسحاق، ومعنى:"أحرى أن يؤدم بينكما"، قال أحرى أن تدوم المودة بينكما [48] ، وقال العلامة المباركفوري أخرجه أحمد، والنسائي وابن ماجة والدارمي وابن حبان في الصحيح [49]، قلت أخرج البخاري رحمه الله تعالى في الجامع نحو هذا الحديث فقد عقد بابا إذ قال: باب النظر إلى المرأة قبل التزوج، وقال الحافظ في الفتح: قال الجمهور لا بأس أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة، قالوا ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها [50] .
قلت: وأما المفهوم المخالف لهذا الحديث فإنه لا يجوز لغير الخطيب أن ينظر إليها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت المرأة محجبة وأما في حالة كشف الوجه، والكفين فلا معنى لهذا الحديث بالمفهوم فهذا أيضا دليل على عدم جواز كشف الوجه، والكفين وبهذا المعنى أخرج الإمام أحمد في المسند، وابن ماجة في السنن، وابن حبان في الصحيح، والحاكم في المستدرك وصححه، وسكت عنه الحافظ الذهبي في التلخيص، قال محمد بن مسلمة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها".
قلت: فهذا الإذن بهذا السياق يدل على تحريم النظر إلى الوجه والكفين لغير الخاطب فإذا كان الوجه والكفان ليستا من العورة كما قال بعض أهل العلم كابن جرير الطبري، وغيره رحمهم الله تعالى فلا يتحقق مفهوم الأمر، أو لا معنى لمفهوم أمره صلى الله عليه وسلم وهذا واضح ظاهر لمن أعطى الفهم الثاقب، والنظر الصحيح، وهناك آراء فقهية كثيرة، تجيز كشف الوجه والكفين، ولا حاجة بنقلها، قالها أصحابها اجتهادا منهم واستنباطا من بعض الأحاديث غفر الله تعالى لهم، وأكرم مثواهم، وجعل الجنة مأواهم وهم مع علمهم وفضلهم قد أخطأوا في الإصابة، فلهم أجر الاجتهاد، وخطؤهم معفو عنهم عند ربهم إن شاء الله تعالى كما صح بذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا اجتهد الحاكم الحديث.
وأما الحديث الذي أخرجه البخاري في الجامع الصحيح في خمسة عشر موضعا وكذا مسلم في العيدين، وأبو داود، والدارمي في سننيهما، والإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، قال:"شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم ذكر الحديث وفيه، ثم مضى إلى النساء، ومعه بلال فأمرهن بتقوى الله تعالى، ووعظهن وحمد الله، وأثنى عليه، وحثهن على طاعته، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم"، فقالت امرأة من سفلة النساء سفعاء الخدين: "لم يا رسول الله؟ "قال: "لأنكن
…
"ثم ذكر بقية الحديث.
قال بعض أهل العلم: لو كان الوجه من العورة فكيف اطلع بلال رضي الله تعالى عنه على وجهها ثم وصف وجهها في هذا الحديث وكانت زيادة ((سفلة النساء وسفعاء الخدين)) لم يخرجها البخاري في الجامع الصحيح في خمس عشرة موضعا إلا أن مسلما وأبا داود، والدارمي والإمام أحمد في مسنده قد أخرجوها وإسنادها صحيح.
قلت: جوابه إن شاء الله تعالى كما قال الإمام ابن الأثير في النهاية [51] : السفعة نوع من السواد وليس بالكثير، وقيل: هو سواد مع لون آخر أراد أنها بذلت نفسها، وتركت الزينة، والترفه، حتى شحب لونها، وأسود إقامة على ولدها بعد وفاة زوجها، قلت: قد تكون من القواعد اللائي قال الله تعالى في حقهن في محكم كتابه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَاّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [52] ، أو كانت هذه القضية قبل نزول الحجاب، أو كانت هذه الامرأة أمةً كما جاء في مسند الإمام أحمد ((أنها كانت من سفلة النساء)) .
وليس في الحديث دليل على جواز كشف الوجه للمسلمة الحرة العفيفة، ولا شبه دليل، وأما شبهة بعض الناس من أهل العلم أن الوجه والكفين لو كانتا من العورة للزم سترهما، وغطاءهما في حالة الصلاة والأمر ليس كذلك، قلت: لقد سبق أن ذكرت حديثا أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، والنسائي في السنن والإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه:"ولا تتنقب المرأة، ولا تلبس القفازين"الحديث، قلت: هذا في الحج وقد ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف هذا الحكم في الحج كما أخرج الإمام أحمد في المسند، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو داود في السنن بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزناه كشفناه، وكذا حديث أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها، قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل الإحرام، وقال الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في التلخيص، قلت: إذا أمعنت النظر في هذه النصوص، وأنصفت فسوف يظهر لك الحق واضحا جليا إن شاء الله تعالى وهكذا الأمر والشأن في الصلاة تماما فلا ينبغي للمرأة المسلمة أن تكشف وجهها في الصلاة أمام الرجال، وأما إذا صلت مع النساء بعيدة عن الرجال فلا بأس أن تصلي وهي كاشفة الوجه والأمر في ذلك سهل ميسور بحمد الله تعالى.
وأما قول سيد قطب رحمه الله تعالى: "هؤلاء كلهم-أي الذين ذكروا في الآية- ما عدا الأزواج ليس عليهم، ولا على المرأة جناح أن يروا منها، إلى ما تحت السرة إلى الركبة، لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء، فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء"[53] .
قلت: هذا الذي ذكره رحمه الله تعالى مع جهاده الطويل في سبيل الحق قد أخطأ فيه، وهو أنه لا يجوز لذي محرم أن يطلع من ابنته، أو أخته، أو أمه، أو خالته، أو نحوها على ساقيها أو ثدييها أو نحرها أو بطنها، بل جاز له أن ينظر إلى ما كان مكشوفا منها في اللباس الشرعي المعروف، وأما غير ذلك فهو حرام على الأب، والأخ أو نحوهما أن يطلعا وينظرا إلى ما أشار إليه السيد قطب رحمه الله تعالى فإنه قد جاز إلى ذلك نظرا للعرف المصري الذي تسير فيه المرأة المسلمة شبه عارية كما لا يخفى على أحد، وقد سبق أن ذكرت رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طريق علي بن أبي طلحة وهي أنها تبدي قرطاها، وقلادتها، وسوارها ونحرها لمن دخل عليها في بيتها وأما خلخالها، ومعضدها، ونحرها وشعرها فإنها لا تبديه إلا لزوجها.
قلت: فالأمر فيه واضح بين إن شاء الله تعالى لمن كان له قلب واع، وفهم ثاقب، ورأي سديد، والله هو المستعان والموفق وصلى الله وسلم وبارك على عبده، ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
كتبه وحرره
العبد الضعيف عبد القادر حبيب الله السندي
في 18-6-1395هـ
وبيض مرة ثانية 19-1-96هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
أي تكسر ما هي فيه من العدة بأن تأخذ طائرا فتمتسح به وتنبذه فلا يكاد يعيش، قاله ابن الأثير في النهاية 454/3، نقل عنه الفيروزآبادي في القاموس هذه المادة 340/2، والحافظ في الفتح 489-490/9، والفتني في مجمع بحار الأنوار 147-148/4، والسيوطي في تنوير الحوالك 40/2، وجاء شرح هذه الكلمة في الموطأ 40/2، والنسائي في السنن نقلا عن مالك 202/6 بما قاله ابن الأثير.
[2]
أخرجه في الطلاق 47، 46 والطب 18 (الطلاق 43، وت الطلاق 18، ن الطلاق 55، 63 67، جه الطلاق 34، ط الطلاق 101، حم 292/6، 311/6) .
[3]
انظر مسند الإمام أحمد 210/5، 200/5.
[4]
مسلم الذكر حديث رقم 99، ومسند الإمام أحمد 22/3.
[5]
النور آية رقم 31.
[6]
الأحزاب آية رقم 55.
[7]
تفسير سورة النور للأستاذ المودودي ص 156-157.
[8]
سنن أبي داود مع العون 106/4.
[9]
السنن الكبرى 182-183/2 و 86/7.
[10]
تفسير ابن كثير 283/1.
[11]
جامع التحصيل 363/1.
[12]
الأحكام الكبرى 145/1.
[13]
تهذيب التهذيب 87/3.
[14]
ميزان الاعتدال 128/1.
[15]
تفسير ابن جرير الطبري 119/18
[16]
التقريب 335/1
[17]
ميزان الاعتدال 226/2
[18]
ميزان الاعتدال 464/1
[19]
تهذيب التهذيب 405/6
[20]
جامع التحصيل 538/2
[21]
تفسير ابن جرير الطبري 119/18
[22]
السنن الكبرى 182-183/2و86/7.
[23]
تهذيب الكمال 663/7.
[24]
ميزان الاعتدال 106/4.
[25]
السنن الكبرى 225/2، 852/7.
[26]
ميزان الاعتدال 112-113/1.
[27]
التقريب 19/1.
[28]
الميزان 503/2.
[29]
التقريب 450/1.
[30]
تفسير ابن جرير 119/18.
[31]
تفسير ابن كثير 283/2.
[32]
تفسير الدر المنثور 42/5.
[33]
فتح الباري 70/4، 530/8.
[34]
تفسير ابن جرير الطبري 33/22 المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1329هـ.
[35]
تذكرة الحفاظ 50/1.
[36]
المحلى ص 217/3.
[37]
الفتح 337/9.
[38]
تحفة الأحوذي 15/4 ز
[39]
السنن الكبرى للبيهقي 91-92/7.
[40]
تفسير ابن كثير 283/3.
[41]
موارد الظمآن 1458، 968.
[42]
تأويل مختلف الحديث ص 225.
[43]
مسند الإمام أحمد 414/6.
[44]
عون المعبود 109/4.
[45]
النووي على مسلم 96-97/10.
[46]
التحفة 92/2.
[47]
نيل الأوطار 132-134/6.
[48]
الترمذي 169/2.
[49]
التحفة 170/2.
[50]
الفتح 182/9.
[51]
النهاية 347/2.
[52]
سورة النور آية رقم 60.
[53]
ظلال القرآن 97/18.
نداء من مسلمي الحبشة إلى حكومات العالم الإسلامي
تحية طيبة
نفيدكم والله على ما نقول شهيد إن المسلمين في الحبشة والذين لا يقل عددهم عن اثني عشر مليون نسمة يعانون من الضغط والاضطهاد ما لا يطاق حمله، والعلم والتعليم محاصران بالمبادئ الشيوعية والتعاليم اللادينية ومحافظة هرر الإسلامية التي مدينتها الإقليمية كانت مركزا للتعاليم الدينية أنشبت الشيوعية فيها أظفارها وطبعتها بتوجيهاتها الطاغوتية التي لا تبقي ولا تذر، وهكذا في كل محافظة ومقاطعة فنرجو من الدول الإسلامية تأمين العلم والتعليم لمسلمي الحبشة وحمايتهم بأي إجراءات يفرضها الإسلام على كل دولة إسلامية في إطار التكاتف والتعاون على البر والتقوى وإنصاف المظلوم وحماية الدين من عبث الملحدين، والله المسئول أن يوفق المسلمين في كل مكان لإقامة الدين على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وأن يكفيهم شر أعداء الإسلام أينما كانوا وأن يأخذ بأيدي الحكومات الإسلامية حتى ينصروا إخوانهم ويعينوهم على كل ما يهمهم إنه على كل شيء قدير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأستاذ محمد طه محي الدين
عيدروس سعيد عبد الكريم
توفيق محمد خالد
الحاج يوسف إدريس
الشيخ محمد عبد السلام
من الصحف والمجلات
إعداد العلاقات العامة
قاضي يحكم على ابن خليفة
في الأحكام السلطانية للماوردي:
"حكى أن المأمون كان يجلس للمظالم يوم الأحد، فنهض ذات يوم من مجلس نظره، فلقيته امرأة في ثياب رثة، فقالت:
يا خير منتصف يهدي له الرشد
ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد الملك أرملة
عدا عليها فما تقوى به أسد
فابتز منها ضياعا بعد منعتها
لما تفرق عنها الأهل والولد
فأطرق المأمون يسيرا، ثم رفع رأسه وقال:
من دون ما قلت عيل الصبر والجلد
وأقرح القلب هذا الحزن والكمد
هذا أوان صلاة الظهر فانصرفي
وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
المجلس السبت إن يقض الجلوس لنا
أنصفك منه وإلا المجلس الأحد
"فانصرفت، وحضرت يوم الأحد، في أول الناس، فقال لها المأمون:
من خصمك؟
فقالت: القائم على رأسك، العباس بن أمير المؤمنين.
فقال المأمون لقاضيه يحي بن أكثم: أجلسها معه، وانظر بينهما.
"فأجلسها معه، ونظر بينهما بحضرة المأمون، وجعل كلامها يعلو، فزجرها بعض حجابه، فقال له المأمون: دعها، فإن الحق أنطقها، والباطل أخرسه –وأمر برد ضياعها عليها".
مجلة الدارة العدد الثاني السنة الأولى جمادى الثانية 1395هـ.
عن (مل) المؤرخ الإنجليزي.
"كان المسلمون يقتلون في الشوارع والبيوت، ولم يكن للقدس من ملجأ يلجأ إليه من نتائج النصر، فقد فر بعض القوم من الذبح فألقى بنفسه من أعلى الأسوار، وانزوى البعض الآخر في القصور والأبراج وحتى في المساجد، غير أن هذا كله لم يخفهم عن أعين المسيحيين الذين كانوا يتبعونهم أينما ساروا"ثم يقول: "ولقد اندفع المشاه والفرسان وراء الهاربين، فلم يسمع في وسط هذا الجمع المكتظ إلا نزعات الموت وسكراته، ومشى أولئك المنتصرون فوق آكام من الجثث الهامدة وراء أولئك الذين يبحثون عن ملجأ أو مأوى".
كتاب صلاح الدين الأيوبي- بطل حطين ومحرر القدس من الصلبيين.
بقلم: عبد الله علوان.
الشريعة الإسلامية هي الإنقاذ
جربت الأمة العربية في مجال البحث عن طريق الأسلوب الرأسمالي وكذلك درجات الأسلوب الاشتراكي وعانت منها وأصبحت في ضياع، فكيف ترى الفكرة التي تنقذ الأمة وتصحح المسيرة؟
هذا السؤال سؤال عام فالأمة العربية –حتى تستعيد قوتها ومقدرتها أمامها الشريعة الإسلامية أوسع مدى من أي مبدأ.
ثم ما هي الاشتراكية التي نادوا بها..إنها مجرد شعارات لا فائدة منها وأحسن تسمية لها أنها رأسمالية الدولة.
فالدولة تأخذ كل ثروات البلد وتسميها اشتراكية، ونحن نريد العدالة الاجتماعية بين الناس ولهذا لا يمكن أن نحصل عليها من النظام الروسي الذي لا يتفق مع تقاليدنا وديننا لأنه يقوم على نظرية إلحادية مادية، وإنما نأخذ نظامنا من الشريعة الإسلامية التي هي أوسع مدى من أي اشتراكية في العلم.
من حديث للأستاذ البرادعي نقيب المحامين في مصر مع مجلة البلاغ العدد 337 –11يناير 1976مـ.
إن الداعين لإخراج (المرأة) من بيتها وإلباسها لبوسا يكشف الأشياء الحساسة من جسدها بحكم (الموضة) وعرضها هذا العرض (المزري) على كل من هب ودب..كأي (دمية) تضحك.. ولكنها لا تسر!! إنما يهدفون في ذلك لانتزاع ورقة الحياء من على وجهها..لرميها على قارعة الطريق يدوسها من شاء وكيف شاء ويتفرج عليها الغادي والرائح وكأنها في حديقة حيوان.
جريدة النداء العدد 423 للسنة التاسعة.
إن رجلا واحد يعمل ويطبق أفضل من ألف رجل يبحث ويدرس ويخطب، وأن رقعة ضيقة من الأرض تتحرك بالتجربة الأخلاقية عملا وسلوكا أفضل من أقطار شاسعة غارقة في شهادة الجدل الأخلاقي.
توفيق حمد سبع –رئيس قسم اللغويات بكلية اللغة العربية بالرياض.
عن مجلة رابطة العالم الإسلامي
الشباب ليس خيرا محضا أو شرا محضا، الشباب عبارة عن الدم الفائر، عن قابلية اكتساب كل ما هو حديث، عن كائن إذا اقتنع بشيء أنه حقيقي بالاكتساب لا يتأخر عن التضحية بالنفس في سبيله، بغض النظر عما إذا كان ذلك الشيء سيئا أو حسنا.
وقوة الشباب هذه مثلها كمثل حد السيف سواء يستخدمه المجاهد في سبيل الله أو قاطع الطريق.
إن الشباب هم الذين كانوا دعاة المساوئ والمنكرات في أقدم العصور كما كانوا هو الجيش العرمرم لرفع ألوية الخير والصلاح، حسنة كانت أو سيئة، إن الشباب هم أسرع اندفاعا إليها من الشيوخ.
مجلة رابطة العالم الإسلامي.
لقد انتقد اليكسس كاريل ما ارتكبه المجتمع العصري من غلطة جسيمة-على حد تعبيره- باستبداله تدريب المدرسة بالأسرة استبدالا تاما، حيث تركت الأمهات أطفالهن لدور الحضانة حتى ينصرفن لأعمالهن ووظائفهن أو منازلهن وهواياتهن الأدبية والفنية وارتياد دور السينما والمراقص.
وبذلك اختفت وحدة الأسرة واجتماعاتها التي يتصل فيها الطفل بالكبار فيتعلم أمورا كثيرة.. لأن الطفل يتشكل نشاطه الفسيولوجي والعقلي والعاطفي مما يتعلمه من الكبار.. وفي المدارس ودور الحضانة لا يستطيع أن يحقق ذلك لأن زملاءه من أمثاله الأطفال لا يمنحون شيئا زائدا عما يملكه هو.. ولذلك يظل غير مكتمل.
عن مجلة رابطة العلم الإسلامي.
ويؤيد هذا الرأي الكاتب الإنجليزي (روبرت ولدالي) في كتابه (قصة إسلامي) إذ يقول: "إن اكتساب المسلمين للثقافة الغربية والعادات الأجنبية البذيئة كتقصير ثياب النساء حتى تتكشف أفخاذهن..ليس من الإسلام، لأنه غاية الفساد".
روبرت ولزلي
عن مجلة رابطة العالم الإسلامي
الإسلام هو المدنية
يقول مستر "ولز"أكبر مؤرخي هذا العصر..
"كل دين لا يسير مع المدنية في أي طور من أطوارها فاضرب به عرض الحائط ولا تبال به، لأن الدين الذي لا يسير مع المدنية جنبا إلى جنب لهو شر مستطير على أصحابه يجرهم إلى الهلاك، وأن الديانة الحقة التي وجدتها تسير مع [1] المدنية أنَّى سارت هي الديانة الإسلامية، وإذا أراد الإنسان أن يعرف شيئا من هذا فليقرأ القرآن.
إن كثيرا من أنظمته تستعمل في وقتنا هذا وستبقى مستعملة حتى قيام الساعة، وإذا طلب منى القارئ أن أحدد له (الإسلام) فإني أحدده بالعبارة التالية: الإسلام هو المدنية.. وهل في استطاعة إنسان أن يأتيني بدور من الأدوار كان فيه الدين الإسلامي مغايرا "للمدنية والتقدم".
مجلة المجتمع في عددها 2495 السنة السابعة – الثلاثاء 13 ربيع الآخر 96هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
التعبير الأصح أن يقال: تسير معها المدنية
ندوة الطلبة
قصيدة للطالب: عبد الرحمن شميله الأهدل
الطالب بالسنة الثانية من كلية الشريعة
لله درّ ذوي التفكير والعبر
بدقة بحثوا في الكون في البشر
وراجعوا أنفسا ضلّت برمّتها
إلى الصواب بصدق القول في الخبر
وأفحموا كلّ من يرجو معاندة
دليل عقل مع الآيات والسّور
حتى أقرّوا بأن الرب موجدهم
إقرار صدق بما أبدوه من نظر
إلا الألى مرقوا كالسهم حين رمت
تالله إنهم في معظم الخطر
خذوا قواعدهم فيها تروا عجبا
أو اسمعوا فتروني صادق الخبر
إن الوجود يُرى لا شك عندهم
وعكسه عدم بل كل مستتر
وهكذا حكموا أن لا إله ولا
مدبرا لجميع الخلق ذو ظفر
ثم الطبيعة قالوا أصل خلقتنا
فقلت خلّوا سبيل الكاشح الأشر
أعمى البصيرة مفقود الشعور فلا
يعي كلاما ولا يبدي سوى الهذر
هلاّ تأمّل ما في الكون أجمعه
ومن يسيّره لو كان ذا بصر
من الذي مرج البحرين فالتقيا
عذب فرات وملح طيب الأثر
والمزن تحمل ماء حيثما أمرت
به فتسقي جميع الأرض والمدر
من الذي قادها في أرض مجدبة
فاخضرّ عود وغنّى الطير في الشجر
والليل أكبر آيات مبينة
على وجود عظيم الشّآن مقتدر
وكوكب الصبح عمّ الأرض منه سنا
سبحان من زانه والليل بالقمر
أخبار الجامعة
المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية يعقد دورته الأولى برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة
عقد المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة دورته العادية الأولى لعام 1396هـ بمقر الجامعة في المدة من يوم الأربعاء السابع عشر من ربيع الأول إلى يوم الجمعة التاسع عشر منه عام 1396هـ.
وقد رأس الجلسة الافتتاحية لهذه الدورة المنعقدة في الساعة الثانية عشرة ظهر يوم الأربعاء 17 من ربيع الأول 1396هـ صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية، وأناب سموه في رئاسة الجلسات التالية سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عضو المجلس الأعلى للجامعة، ورئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
وحضر الدورة أعضاء المجلس التالية أسماؤهم وصفاتهم مرتبين حسب حروف الهجاء:
فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي أمين عام ندوة العلماء - لكنو - بالهند.
سعادة الدكتور أحمد عبيد الكبيسي أستاذ مساعد بجامعة بغداد.
سمو الأمير خالد بن فهد بن خالد وكيل وزارة المعارف.
معالي الشيخ صالح الحصين.
سماحة الشيخ عبد الله غوشه رئيس قضاة الأردن.
فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة.
معالي الدكتور عبد العزيز الفدا مدير جامعة الرياض.
فضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة الأمين العام.
سعادة الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة عميد الكلية الزيتونية بتونس.
معالي الشيخ محمد صالح القزاز أمين عام رابطة العالم الإسلامي.
معالي الدكتور محمد عمر زبير مدير جامعة الملك عبد العزيز بالنيابة.
فضيلة الشيخ محمد الغزالي أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز.
فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من العلماء.
فضيلة الشيخ مصطفى أحمد علوي مدير دار الحديث الحسنية بالرباط.
فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية بقطر.
وتخلف عن حضور هذه الدورة معالي الدكتور كامل محمد الباقر مدير جامعة أم درمان الإسلامية.
وقد بدئت الجلسة الافتتاحية للدورة بتلاوة آيات من الذكر الحكيم، ثم افتتح سمو الرئيس الأعلى للجامعة الدورة بكلمة أكد فيها أن حكومة المملكة العربية السعودية لن تدخر وسعا أو أي مجهود تستطيع أن تقدمه للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لنشر العقيدة الإسلامية، ومساعدة إخواننا المسلمين في كل مكان، وقال سموه: إن هذا اليوم هو من أعز الأيام إلى نفسي، وقد شرفني جلالة الملك برئاسة هذه الجلسة ورئاسة مجلسها، وإنني لأرجو من الله عز وجل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يوفقنا لما فيه خير ديننا ثم دنيانا، ويوفقنا لأداء الواجب وأداء الأمانة التي ألقيت على عاتق هذه البلاد إنه على كل شيء قدير، كما أرجو أن نوفق في جلستنا هذه لما فيه خير الإسلام والمسلمين والنهوض بهذه الجامعة الفتية.
ثم ألقى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كلمة نيابة عن أعضاء المجلس شكر فيها سمو الرئيس، وأشاد بالمنجزات التي حققتها الجامعة بفضل الدعم الذي تلقاه من المسئولين في الدولة وعلى رأسهم جلالة الملك خالد المعظم، وسمو ولي عهده الأمين، كما نوه بجهود المملكة في رفع راية الإسلام والمسلمين في كل مكان.
ثم شرع المجلس في النظر في الموضوعات المدرجة بجدول أعماله، واتخذ قرارات بشأنها ومن أهم ما أقره:
1-
الموافقة على ما اقترحته الجامعة من صرف مكافآت شهرية قدرها مائتان وخمسون ريالا لكل طالب من طلاب كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، إضافة إلى الإعانة المقررة لطلاب الكليات الأخرى في الجامعة.
2-
الموافقة على اقتراح إنشاء كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة ورفعه لجلالة الملك المعظم رجاء التفضل بالموافقة السامية عليه تطبيقا للمادة الرابعة من نظام الجامعة.
3-
الموافقة على ترحيل من يرغب من الطلاب الوافدين من خارج المملكة الناجحين في الدور الأول إلى بلادهم ذهابا وإيابا في العطلة الصيفية كل عام على حساب الجامعة مع حسم المكافأة من الطالب المرحل مدة العطلة.
4-
تعيين الدكتور محمد أمين المصري رئيسا لقسم الدراسات العليا بالجامعة لمدة ثلاث سنوات.
وتعيين الدكتور محمد نايل عميدا لكلية اللغة العربية والآداب بالجامعة لمدة ثلاث سنوات.
وتعيين الدكتور محمد قناوي الأستاذ بكلية اللغة العربية والآداب بالجامعة عضوا بمجلس الجامعة لمدة سنتين.
وتعيين فضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي الأستاذ بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية عضوا بمجلس الجامعة لمدة سنتين.
5-
الموافقة على مشروع ميزانية الجامعة للعام المالي 96- 1397هـ.
6-
الموافقة على لائحة قسم الدراسات العليا، واللائحة المالية ولائحة مكتبات الجامعة.
حفل بقاعة المحاضرات
بمناسبة زيارة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية للجامعة بمناسبة زيارة سموه للجامعة أقامت الجامعة احتفالا بقاعة المحاضرات حضره أساتذة الجامعة وطلبتها وأعيان المدينة المنورة، وقد بدئ الحفل بتلاوة آيات من الذكر الحكيم رتلها الطالب محمد أيوب أحد طلاب السنة الثالثة من كلية الشريعة، ثم ألقى نائب رئيس الجامعة الإسلامية عبد المحسن بن حمد العباد كلمة، وتلاه الدكتور محمد نائل الأستاذ بكلية اللغة العربية بإلقاء كلمة ارتجالية، ثم ألقى أحد طلبة الجامعة قصيدة، وفيما يلي كلمة نائب رئيس الجامعة وقصيدة الطالب.
الحمد لله على نعمه التي لا تحصى وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحابته وأتباعهم بإحسان.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية:
يسرني أصالة عن نفسي ونيابة عن أسرة الجامعة أن أرحب برائد العلم في جامعة العلم في مدينة العلم، فأهلا وسهلا ومرحبا بسموكم الكريم في طيبة الطيبة، طبتم وطابت أوقاتكم وأعمالكم ودمتم موفقين لكل ما فيه عزة الإسلام ورفعة شأن المسلمين.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:
لقد كانت هذه المدينة المباركة مصدر إشعاع وهداية للبشرية منذ هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، وقد صدرت للعالم رجالا انتشروا في الأرض يوزعون بين الناس ميراث النبوة، ويهدون غيرهم إلى الصراط المستقيم، وهاهي بحمد الله تستعيد سيرتها الأولى بوجود هذه الجامعة المباركة فيها إذ تستقبل أبناء المسلمين من كل مكان لتثقيفهم الثقافة الخالصة النقية على هدى من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح ثم يعودون إلى بلادهم دعاة إلى الخير وهداة إلى الصراط المستقيم والفضل في ذلك لله سبحانه وتعالى ثم لحكومة هذه المملكة أيدها الله وأدام توفيقها لكل خير.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:
إن لهذه الجامعة أياما تاريخية، وإن هذا اليوم الذين تشرفون فيه الجامعة بهذه الزيارة يعد من أبرز هذه الأيام، ففي صباح هذا اليوم تفضلتم بافتتاح الجلسة الأولى من جلسات المجلس الأعلى للجامعة في أول دورة يعقدها في ظل نظامها الجديد، وفي مسائه الآن نحتفل في هذه القاعة وفي أول اجتماع يجري فيها مغتبطين بلقاء سموكم الكريم معبرين عما تكنه أسرة الجامعة لسموكم الكريم من صادق الود وما تلهج به من جميل الذكر وخالص الدعاء لما تولونه هذه الجامعة من رعاية وعناية تمكنت بها بتوفيق الله تعالى من مواصلة السير والتقدم إلى الأمام في سبيل أداء رسالتها وتحقيق أهدافها، فإن الكل يكن المودة ويعترف بالجميل ويتقدم بالشكر لسموكم الكريم وليس بشاكر لله من لا يشكر الناس.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:
إن هذه الرحلة الميمونة من الرياض إلى المدينة لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة وتفقد بعض أقسامها من أوضح الشواهد وأبين الأدلة على مدى الاهتمام والعناية التي تحظى بها هذه الجامعة من سموكم الكريم، وذلك لسمو أهدافها وشمول نفعها وكونها والحمد لله جامعة تعليم ودعوة يستفيد طلابها من منحها الدراسية ويستفيد غيرهم ممن يزورها أو يراسلها بما تطبعه وتوزعه من كتب ونشرات مفيدة.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:
يسرني أن أعلن في هذا الملأ أن الجامعة على الرغم من قصر المدة التي مرت من عمرها خرّجت ألفا وخمسة وتسعين جامعيا ينتمون إلى ستين قطرا تقريبا من أقطار العالم، وإن في الجامعة في كلياتها الأربع وقسم الدراسات العليا والمعاهد ودور الحديث التابعة لها طلبة يزيدون على ثلاثة آلاف طالب ينتمون إلى أكثر من ثمانين قطرا من أقطار العالم، وإن الجامعة قامت خلال السنتين الماضيتين بطباعة خمس وعشرين رسالة من الرسائل المفيدة بكميات كبيرة لتوزيعها، وذلك بفضل الله ثم بالعناية والرعاية التي تلقاها هذه الجامعة من جلالة الملك خالد وسموكم الكريم وسلفكم في الخير جلالة الملك فيصل رحمه الله، وأسأل الله تعالى أن يجزل مثوبتكم جميعا وأن يكتب لكم مثل أجور كل من استفاد خيرا بسبب هذه الجامعة.
ولا يفوتني قبل أن أختم هذه الكلمة أن أشيد بالجهود العظيمة والأعمال المجيدة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز خلال أربعة عشر عاما مضت له في رئاسة هذه الجامعة.
وأسأل الله تعالى أن يثيبه خيرا وأن يتولى الجميع بتوفيقه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
دارة العلم قد أهلّ السناء
مشعل لاح للمعالي يضاء
أقبل الفهد فاطمئنت قلوب
ملؤها الحب دائما والولاء
مرحبا فهد مرحبا في ربوع
تمّ فيها الرضا وتمّ الهناء
هاهنا روضة أتانا شذاها
وتناهى إلى القلوب النداء
فسعينا لنجتني من ثمار
قد رعاها وصانها العلماء
ننشد الحق خالصا في بلاد
لم تخالط ربوعها الأهواء
في ظلال القرآن والدين نحيا
لا نبالي بما يرى الأدعياء
ننهل العلم صافيا ثم نمضي
شرعة الله في هداها الشفاء
من شيوخ قد بارك الله فيهم
وهم اليوم عندنا الأوفياء
نشر النور في الدياجير حتى
يغمر الكون والبرايا الضياء
فيموت القُنُوط واليأس فينا
نحن للدين في الرزايا الفداء
يا شبابا توافدوا من بعيد
همّه المجد والعلا والإباء
أنتم اليوم من ثمانين قطرا
بل تزيدون والأماني وضاء
كان وهما وكان حلما جميلا
بل خيالا تقوله الشعراء
فالمنى أصبحت حياة وصدقا
والدّنا أشرقت وطال البناء
يا شبابا نعده خير درع
إن بكى القدس وشكت سيناء
إنما المؤمنون في كل عصر
شأنهم كلهم جميعا إخاء
همُّهم أن يسود لله شرع
تشهد الأرض عدله والسماء
عالم يزدهي بشرع حنيف
كوكب الدين فوقه لألاء
إنما النصر في ثنايا كتاب
يمنح الله نصره من يشاء
صرحنا ((فيصل)) بناه فأعلى
هكذا ينصر الهدى الأتقياء
وتلاه البناة من خير قوم
خالد حكمة، وفهد مضاء
هم يحوطون بالمعالي حمانا
قادة معدن العلاء أقوياء
كلهم ((فيصل)) إذا ما أدلهمت
نازلات الأيام والبأساء
غرس عبد العزيز طابوا أصولا
لهم الحب عندنا والدعاء
ثمانمائة منحة دراسية تقدمها الجامعة لأبناء العالم في عامها الدراسي 96-1397هـ.
تولي حكومة المملكة العربية السعودية الجامعة الإسلامية اهتماما بالغا لعالميتها وشمول رسالتها وسمو أهدافها، وتبذل لها المال بسخاء، لتحقق الأهداف النبيلة التي أسست من أجلها، وقد بلغت المنح الدراسية التي قدمتها الجامعة لأبناء العالم في العام الدراسي القادم 96-1397هـ ثمانمائة منحة موزعة على أكثر من مائة قطر من أقطار العالم.
وفود الجامعة في العطلة الصيفية للدعوة إلى الله
من أهداف الجامعة الإسلامية تبليغ رسالة الإسلام الخالدة إلى العالم عن طريق الدعوة والتعليم الجامعي والدراسات العليا، وقد قامت في صيف العام الماضي بإرسال وفود من أساتذتها للدعوة إلى الله وتقديم تقارير عن أحوال المسلمين وذلك إلى الأقطار التالية:
أمريكا - بريطانيا - اليابان - مالي - النيجر - الهند - الباكستان - وأقطار أخرى، وسيتم بميشئة الله إرسال وفود أخرى في صيف العام الحالي إلى كندا وأستراليا وجنوب السودان وتركيا وأقطار أخرى.
أقر مجلس الجامعة الإسلامية مواعيد الامتحانات والعطلة الصيفية للعام الدراسي 95-1396هـ كالتالي:
1-
يبدأ امتحان الدور الأول في الجامعة في يوم السبت الموافق 14/6/96هـ.
2-
تبدأ الإجازة الصيفية يوم السبت 13/7/1396 وتنتهي في 5/10/96هـ.
3-
يبدأ امتحان الدور الثاني يوم السبت 9/10/1396هـ.
4-
تبدأ الدراسة للعام الدراسي 96/1397هـ يوم الثلاثاء الموافق 19/10/96هـ.
ستقيم الجامعة بمشيئة الله حفلا لتوزيع الشهادات على الخريجين والجوائز على المتفوقين وذلك في ليلة الخميس الموافق 11/7/1396هـ ومن الجدير بالذكر أن كل طالب يحصل على تقدير ممتاز في الشهادات والنقل يمنح ألف ريال جائزة.
الجامعة تطبع كتبا مفيدة للتوزيع
الجامعة الإسلامية تحقيقا لأهدافها في الدعوة إلى الله ونشر التوعية الإسلامية تطبع سنويا رسائل مفيدة بكميات كبيرة لتوزيعها في داخل المملكة وخارجها وقد طبعت في العام الدراسي 93/1394هـ سبعة كتب، وفي العام الدراسي 94/1395هـ سبعة عشر كتابا، وفي العام الدراسي الحالي 95/1396هـ قامت الجامعة بترسية طباعة كتب مفيدة تبلغ تكاليفها أكثر من نصف مليون ريال.
محاضرات الموسم الثقافي
تقيم الجامعة محاضرات ثقافية يقوم بإلقائها بعض أساتذة الجامعة يستمع لها جموع كبيرة من أساتذة الجامعة وطلابها وأهالي المدينة المنورة، وقد بلغ عدد هذه المحاضرات هذا العام والعامين قبله خمسا وأربعين محاضرة، وقد قامت الجامعة بطباعة محاضرات عام 93-1394هـ وعددها خمس عشرة محاضرة في كتاب مستقل، كما قامت بطباعة محاضرات عام 94-1395هـ وعددها خمس عشرة محاضرة في كتاب مستقل أيضا، وستقوم الجامعة بمشيئة الله بطبع محاضرات هذا العام 95-1396هـ وعددها خمس عشرة محاضرة في كتاب، وفيما يلي بيان موضوعات العام الحالي وأسماء المحاضرين:
1-
تقوى الله أساس كل خير لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
2-
الإيمان منطلق الفكر الإسلامي لفضيلة الشيخ أبي بكر الجزائري المدرس في كلية الشريعة بالجامعة.
3-
نظرات في التاريخ لفضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين.
4-
نور الإيمان لفضيلة الشيخ عبد المجيد الزنداني أحد علماء اليمن.
5-
الدعوة إلى الله في القارة الإفريقية لفضيلة الشيخ إبراهيم سرسيق المدرس بكلية الشريعة بالجامعة.
6-
حديث عن التفرقة والتمييز في الماضي والحاضر لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة.
7-
موقف الإسلام من المجتمع الجاهلي للدكتور إبراهيم جعفر السقا المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين.
8-
مع أحسن القصص لفضيلة الشيخ محمد أبو طالب شاهين المدرس في كلية الشريعة.
9-
أثر الإسلام في توجيه وتهذيب النقد الأدبي العربي لفضيلة الدكتور عبد الحميد العبيسي المدرس بكلية الدعوة.
10-
سطحية التفكير لدى الملحدين وتخريفاتهم وحقيقة الصراع بين الدين والعلم لفضيلة الشيخ زهير الخالد المدرس في المعهد الثانوي التابع للجامعة.
11-
صراع اللغة العربية في سبيل البقاء للدكتور محمد نائل عميد كلية اللغة العربية والآداب بالجامعة.
12-
منبع القراءات ومنشؤها والرد على الملحدين لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي الأستاذ بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالجامعة.
13-
الإعلام والدعوة الإسلامية للدكتور طه مقلد المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة.
14-
تربية القادة للدكتور محمد أمين المصري رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة.
15-
الإسلام في أفريقيا عبر التاريخ لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي المدرس بكلية الشريعة.
التمسك بالإسلام سبب النصر في الدنيا والنجاة في الآخرة
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق ليعبد وحده لا شريك له، وأنزل كتبه وأرسل رسله للأمر بذلك والدعوة إليه كما قال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ، وقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقال عز وجل:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} ، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية، وقال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} .
فهذه الآيات وأمثالها كلها تدل على أن الله عز وجل إنما خلق الثقلين ليعبد وحده لا شريك له وأن ذلك هو الحكمة في خلقهما، كما تدل على أنه عز وجل إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل لهذه الحكمة نفسها، والعبادة هي الخضوع له والتذلل لعظمته بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه عن إيمان به سبحانه وإيمان برسله وإخلاص له في العمل وتصديق بكل ما أخبر به ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أصل الدين وأساس الملة وهو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود بحق إلا الله، فجميع العبادات من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك من يجب أن يكون لله وحده، وأن لا يصرف من ذلك شيء لسواه للآيات السابقات، ولقوله عز وجل:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} الآية، وقوله عز وجل:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، فأبان سبحانه في هذه الآيات أنه المالك لكل شيء وأن العبادة حقه سبحانه، وأن جميع المعبودين من دونه من أنبياء وأولياء وأصنام وأشجار وأحجار وغيرهم لا يملكون شيئا ولا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو سمعوا دعاءه لم يستجيبوا له، وأخبر أن ذلك شرك به عز وجل، ونفى الفلاح عن أهله، كما أخبر سبحانه أنه لا أضل ممن دعا غيره، وأن ذلك المدعو من دون الله لا يستجيب لداعيه إلى يوم القيامة، وأنه غافل عن دعائه إياه، وأنه يوم القيامة ينكر عبادته إياه، ويتبرأ منها، ويعاديه عليها، فكفى بهذا تنفيرا من الشرك وتحذيرا منه، وبيانا لخسران أهله وسوء عاقبتهم، وترشد الآيات كلها إلى أن عبادة ما سواه باطلة، وأن العبادة بحق لله وحده، ويؤيد ذلك صريحا قوله عز وجل:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل} الآية من سورة الحج، وذكر سبحانه في مواضع أخرى من كتابه أن من الحكمة في خلق الخليقة أن يعرف سبحانه بعلمه الشامل وقدرته الكاملة، وأنه عز وجل سيجزي عباده في الآخرة بأعمالهم كما قال عز وجل:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَّرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأََمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ، فالواجب على كل ذي لب أن ينظر
فيما خلق له، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها لله حتى يؤدي حقه وحق عباده، وحتى يحذر ما نهاه الله عنه ليفوز بالسعادة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، وهذا العلم هو أنفع العلوم وأهمها وأفضلها وأعظمها، لأنه أساس الملة وزبدة ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وخلاصة دعوتهم ولا يتم ذلك ولا يحصل به النجاة إلا بعد أن يضاف إليه الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم إمامهم وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومقتضى هذا الإيمان تصديقه صلى الله عليه وسلم في أخباره وطاعة أوامره وترك نواهيه، وأن لا يعبد الله سبحانه إلا بالشريعة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام
…
وهكذا كل أمة بعث الله إليها رسولا لا يصح إسلامها ولا يتم إيمانها ولا تحصل لها السعادة والنجاة إلا بتوحيدها لله وإخلاص العبادة له عز وجل ومتابعة رسولها صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج عن شريعته، وهذا هو الإسلام الذي رضيه الله لعباده، وأخبر أنه هو دينه كما في قوله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} وقوله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وبهذا يتضح لذوي البصائر أن أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فالأول يبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله ويعلم به أن المعبود بحق هو الله وحده، والثاني يبطل التعبد بالآراء والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، كما يتضح به بطلان تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية ويعلم به أن الواجب هو تحكيم شريعة الله في كل شيء، ولا يكون العبد مسلما إلا بالأمرين جميعا كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} وقال سبحانه:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وهذه الآيات تتضمن غاية التحذير والتنفير من الحكم بغير ما أنزل الله، وترشد الأمة حكومة وشعبا إلى أن الواجب على الجميع هو الحكم بما أنزل الله والخضوع له والرضا به، والحذر مما يخالفه، كما تدل أوضح دلالة على أن حكم الله سبحانه هو أحسن الأحكام وأعدلها، وأن الحكم بغيره كفر وظلم وفسق، وأنه هو حكم الجاهلية الذي جاء شرع الله بإبطاله والنهي عنه، ولا صلاح للمجتمعات ولا سعادة لها ولا أمن ولا استقرار إلا بأن يحكم قادتها شريعة الله وينفذوا حكمه في عباده ويخلصوا له القول والعمل ويقفوا عند حدوده التي حددها لعباده، وبذلك يفوز الجميع بالنجاة والعزة في الدنيا والآخرة، كما يفوزون بالنصر على الأعداء والسلامة من كيدهم واستعادة المجد السليب، والعز الغابر كما قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} ولما حذر سبحانه من اتخاذ الكفار بطانة من دون المؤمنين، وأخبر أن الكفار لا يألون المسلمين خبالا وأنهم يودون عنتهم قال بعد ذلك:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وهذا الأصل الأصيل والفقه الأكبر هو أولى ما كتب فيه الكاتبون وعني به دعاة الهدى وأنصار الحق، وهو أحق العلوم أن يعض عليه بالنواجذ وينشر بين جميع الطبقات حتى يعلموا حقيقته ويبتعدوا عما يخالفه، وأن جميع المجلات والصحف الإسلامية لجديرة بأن تعنى بهذا العلم وأن تستكتب فيه خواص الكتاب ونخبة حملة الأقلام حتى ينتشر ذلك بين الأنام ويعلمه الخاص والعام لعظم شأنه وشدة الضرورة إليه، ولما وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلو في تعظيم القبور، ولا سيما قبور من يسمونهم بالأولياء واتخاذ المساجد عليها وصرف الكثير من العبادة لأهلها كالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك، ولما وقع أيضا بسبب الجهل بهذا الأصل الأصيل في غالب البلاد الإسلامية من تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية، والإعراض عن حكم الله ورسوله الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها.. فنسأل الله أن يرد المسلمين إليه ردا حميدا وأن يصلح قادتهم وأن يوفق الجميع للتمسك بشريعة الله والسير عليها والحكم بها والتحاكم إليها والتسليم لذلك والرضا به والحذر مما خالفه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن سار على طريقه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أضواء من التفسير
لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المناسبة:
لما ذكر أحوال الأولين الذين كذّبوا من أنذروهم فأهلكوا، ذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم من جنس هؤلاء المنذرين الأولين، وأن إنذاره كإنذارهم.
المفردات:
{نَذِيرٌ} رسول يخبر عن الله تعالى ويخوف من عقابه.
{الأُُولَى} القدماء السابقون.
{أَزِفَتِ} دنت وقربت، قال كعب بن زهير:
ولا أرى لشباب بائن خلفا
بان الشباب وهذا الشيب قد أزفا
وقال النابغة الذبياني:
أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأنا قد
{الآزِفَةُ} القيامة الموصوفة بالقرب، وقيل الآزفة علم بالغلبة على الساعة هنا.
{كَاشِفَةٌ} أي نفس مجلية لوقتها فإنه لا يجليها لوقتها إلا هو سبحانه أو رفع لضرها على أن كاشفة مصدر كالعافية.
{الْحَدِيثِ} أي الكلام يعني القرآن.
{تَعْجَبُونَ} تستغربون وتنكرون.
{َتَضْحَكُونَ} وتستهزئون.
{تَبْكُونَ} تحزنون، يعني عند سماعه مع أنه لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا.
{سَامِدُونَ} لاهون لاعبون. قال الشاعر:
ألا أيها الإنسان إنك سامد
كأنك لا تفنى ولا أنت هالك
وقال الآخر:
قيل قم فانظر إليهم
ثم دع عنك السمودا
وقال أبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير، يقولون: يا جارية اسمدي لنا أي غني لنا، وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه. وقيل السمود الاستكبار من سمد البعير إذا رفع رأسه، وقيل هو الجمود والخشوع. قال الشاعر:
رمى الحدثان نسوة آل حرب
بأمر قد سمدْن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا
ورد وجوهن البيض سودا
{فَاسْجُدُوا} فصلوا أو خروا له على وجوهكم عند سماع هذه الآية على أن المراد به سجود التلاوة.
{وَاعْبُدُوا} أي أفردوه بالعبادة ولا تذلوا أنفسكم لأحد سواه.
التراكيب:
قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُُولَى} الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم الموصوف بعنوان صاحبكم في أول السورة، ونذير على هذا اسم فاعل من أنذر وهو غير قياسي إذ القياس فيه منذر. ووصف النذر بالأولى على معنى الجماعة وإلا فإنه كان مقتضى الظاهر أن يقول الأول، ويجوز أن تكون الإشارة راجعة إلى القرآن، ونذير مصدر بمعنى الإنذار وهو من أنذر وهو غير قياسي أيضا بل القياس فيه إنذار، والتنوين في نذير للتفخيم، ومن متعلقة بمحذوف وهو نعت لنذير.
وقوله: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} قيل اللام في الآزفة للعهد لا للجنس لئلا يخلو الكلام عن الفائدة لأنه لا معنى لوصف القريب بالقرب، وقيل لا مانع أن تكون للام للجنس، ووصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه.
وقوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} يجوز أن تكون كاشفة وصفا، والتأنيث فيه لأجل أنه صفة لمؤنث محذوف أي نفس كاشفة، أو التاء للمبالغة كنسابة، أي ليس لها إنسان كاشفة أي كثير الكشف، والأول أقرب، ويجوز أن تكون كاشفة مصدرا كالعاقبة، ومعنى الكشف هنا إما من كشف الشيء أي عرف حقيقته كقوله لا يجليها لوقتها إلا هو، وإما من كشف الضر أي أزاله.
وقوله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف يقتضيه المقام أي أجهلتم فمن هذا الحديث تعجبون.
وقوله: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، أخبر الله عنهم بذلك، ويجوز أن تكون حالا من فاعل {وَلا تَبْكُونَ} أي انتفى عنكم البكاء في حال كونكم سامدين.
وقوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} الفاء فيه فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله أنزله واعبدوه وتلقوا هذا الكتاب بالخضوع التام والإيمان الكامل.
المعنى الإجمالي:
هذا الرسول المبلغ عن الله تعالى من جنس المنذرين الأولين، وقد علمتم أحوال قومهم لما كذّبوهم، فإن كذّبتم لن تفلتوا من عذاب الله في الآخرة، وقد دنت الساعة ولا يوجد أحد يعلم وقتها إلا الله عز وجل، أجهلتم فمن هذا القرآن تستغربون فتنكرون وتستهزئون، ولا تخشعون عند تلاوته مع أنه لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، وأنتم لاهون منصرفون عنه، إذا كان هذا حقيقة فصلوا لله وأفردوه بالعبادة وتلقوا هذا الذكر بالإيمان الكامل.
ما ترشد إليه الآيات:
1-
تهديد من كذّب محمدا صلى الله عليه وسلم.
2-
الإشارة إلى عدم استئصالهم.
3-
لا تنفع الكفار شفاعة الشافعين.
4-
العجب من عجب قريش من القرآن وإنكارهم له مع أنه كان ينبغي أن يكونوا أول المؤمنين.
5-
حضهم على تلقي هذا الكتاب بالخضوع التام والإيمان الكامل.
المناسبة:
لما ذكر في أواخر السورة السابقة أنه أزفت الآزفة قال هنا اقتربت الساعة.
سبب النزول:
أن مشركي مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية ليؤمنوا فانشق القمر فرقتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشهدوا اشهدوا" فقال المشركون: سحر محمد أعيننا فنزلت.
القراءة:
قرأ الجمهور {يَرَوْا آيَة} ببناء يروا للفاعل، وقرئ {يُروا} بالبناء للمفعول.
وقرأ الجمهور {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} برفعهما، وقرئ بنصبهما.
وقرأ الجمهور {نُكُرٍ} بضم النون والكاف، وقرئ بتسكين الكاف، وقرئ بكسر الكاف فعلا ماضيا مبنيا للمجهول.
وقرأ الجمهور {خُشَّعاً} وقرئ {خاشعا} .
المفردات:
{اقْتَرَبَتِ} ازدادت في الدنو.
{وَانْشَقّ} انفلق.
{يَرَوْا} يبصروا.
{آيَةً} معجزة تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
{يُعْرِضُوا} يمتنعوا عن الإيمان بها.
{مُسْتَمِرَّ} أي دائم، وقيل محكم قوي من المرة وهي القوة، وقيل غير ذلك.
{مُسْتَقِرٌّ} أي منته إلى غاية يستقر ويثبت عليها لا محالة.
{الأََنْبَاءِ} أخبار تدمير الأمم المكذّبة رسلهم.
{مُزْدَجَرٌ} ارتداع، وأصل مزدجر مزتجر أبدلت تاء الافتعال دالا لأن تاء الافتعال تقلب دالا بعد الزاي والدال والذال.
{حِكْمَةٌ} عدالة، {بَالِغَةٌ} تامة.
{النُّذُرُ} جمع نذير بمعنى المنذر أو مصدر بمعنى الإنذار.
{فَتَوَلَّ} فأعرض، {يَدْعُ} ينادي، {الدَّاعِ} المنادي بالحشر لفصل القضاء وهو الملك الموكل بذلك، {نُكُرٍ} فظيع تنكره النفوس لشدته وهوله، نكر بالبناء للمجهول أي جهل وجحد، يقال نكر فلان الأمر كفرح وأنكره واستنكره وتناكره أي جهله.
{خُشَّعاً} أذلة، {الأَجْدَاثِ} القبور، {مُهْطِعِينَ} مسرعين مادي أعناقهم كالإبل العطاش، قال الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع
وقيل المهطع هو من ينظر في ذل وخضوع لا يقلع بصره عن الشيء قال الشاعر:
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى
ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
{عَسِرٌ} أي صعب شديد يعني على الكافرين.
التراكيب:
قوله: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} جيء بالجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي.
وقوله: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا} جيء بالفعلين فيه بلفظ الماضي للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة.
وقوله: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} مبتدأ وخبر والجملة استئناف مسوق لإقناطهم مما أملوه من عدم استقرار أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأََنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} اللام موطئة للقسم، وما موصولة أو موصوفة وهي فاعل جاء، ومن الأنباء حال منها، وفيه خبر مقدم، ومزدجر مبتدأ مؤخر، والجملة صلتها أو صفتها، ومزدجر اسم مصدر أي ازدجار أو اسم مكان أي موضع ازدجار، وعلى هذا ففي الكلام تجريد.
وقوله: {حِكْمَةٌ} بالرفع بدل من ما أو خبر لمبتدأ محذوف أو بدل من مزدجر، وأما على قراءة النصب فهو حال من ما سواء كانت موصولة أو موصوفة لأنها إذا جعلت موصوفة فقد تخصصت بالصفة فساغ مجيء الحال منها.
وقوله: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} الفاء فيه فصيحة، وما للنفي أو للاستفهام الإنكاري وهي على الثاني منصوبة، إما مفعول مطلق والتقدير فأي إغناء تغني النذر، وإما مفعول به والتقدير فأي شيء من الأشياء النافعة تغني النذر، أي تحصله وتكسبه، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد عدم الإغناء واستمراره حسب تجدد مجيء الزواجر واستمراره، وقد حذفت الياء من تغن اتباعا لرسم المصحف وموافقة للفظ.
وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} الفاء لترتيب الأمر بالتولي على ما قبله وبيان نتيجته وقد تم الكلام.
وقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} استئناف لبيان أهوال القيامة وسوء أحوال الكافرين، والظرف منصوب بـ "اذكر"مضمرا أو بـ {يَخْرُجُونَ} بعده، ويجوز أن ينتصب بقوله:{فَمَا تُغْنِ} وعلى هذا يكون قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} اعتراضا، وحذفت الواو من {يَدْعُ} خطا تبعا للفظ، وحذفت الياء من {الدَّاعِ} تخفيفا، قالوا: وهذا إجراء لـ "أل"مجرى ما عاقبها وهو التنوين، فكما تحذف معه حذفت معها.
وقوله: {نُكُرٍ} بضمتين صفة على فُُعُل وهو قليل في الصفات ومنه روضة أُنُف، ورجل شُلُل أي خفيف في الحاجة، وعلى قراءة {نكر} فعلا مبنيا للمجهول فالجملة في محل جر صفة لشيء.
وقوله: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ} خشعا حال من فاعل يخرجون مقدم عليه، والتقديم لأن العامل متصرف، وأبصارهم فاعل خشعا، والتذكير على قراءة {خاشعا} لأن فاعله ظاهر غير حقيقي التأنيث.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} في محل نصب على الحال من فاعل يخرجون، وقوله:((مهطعين)) حال منه كذلك.
وقوله: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر نشأ من وصف اليوم بالأهوال، كأنه قيل: فما يكون حينئذ؟ فقيل: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} .
المعنى الإجمالي:
دنت القيامة وانفلق القمر، وإن يبصر الكفار برهانا على صدق محمد صلى الله عليه وسلم يمتنعوا عن التصديق به ويقولوا سحر دائم أو محكم قوي، وكذبوا وانقادوا لشهواتهم وميولهم الفاسدة، وسيرون عاقبة هذا التكذيب، ولكل أمر غاية يستقر عليها، ووالله لقد أتاهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها الذي يكفي لوعظهم لو كانوا يتعظون، عدالة تامة، فأي شيء تحصله الإنذارات إذا عميت القلوب، فأعرض عنهم، اذكر يوم ينادي المنادي إلى أمر خطير تنكره النفوس لشدة هوله، أذلة عيونهم يبرزون من قبورهم مشبهين بالجراد الموزع في الجو مسرعين مادي أعناقهم كالإبل العطاش إلى هذا المنادي يقول الجاحدون هذا يوم صعب شديد.
ما ترشد إليه الآيات:
1-
قرب الساعة.
2-
انشقاق القمر.
3-
إعراض الكفار عن الإيمان بالآيات.
4-
اتهامهم النبي بالسحر.
5-
بيان أهوال القيامة وسوء أحوال الكافرين فيها.
المناسبة:
لما ذكر أنه جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر شرع في تعداد بعض هذه الأنباء على سبيل التفصيل.
القراءة:
قرأ الجمهور {أَنِّي} بفتح الهمزة وقرئ بكسرها، وقرأ الجمهور {فَالْتَقَى الْمَاءُ} وقرئ {فالتقى الماءان} ، وقرأ الجمهور {كُفِرَ} مبنيا للمفعول وقرئ {كفر} مبنيا للفاعل.
المفردات:
{وَازْدُجِرَ} انتهر وأوذي، {مَغْلُوبٌ} مقهور، {فَانْتَصِرْ} أي فانتقم لي منهم، {مُنْهَمِرٍ} منصب بشدة وغزارة، {وَفَجَّرْنَا} شققنا، {أَمْرٍ} حال، {قُدِرَ} قضي في الأزل، {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} كناية عن السفينة، والألواح الأخشاب العريضة والدسر المسامير، {آيَةً} عبرة ظاهرة أو علامة واضحة، {مُدَّكِرٍ} معتبر ومتعظ، وأصل مدكر مذتكر أبدلت التاء دالا وكذلك الذال ثم أدغمت الدال في الذال، {وَنُذُرِ} إنذاري، {يَسَّرْنَا} سهلنا وهيأنا، {لِلذِّكْرِ} للحفظ والتذكر.
التركيب:
قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} التأنيث في كذبت لمراعاة معنى قوم وهو الأمة والجماعة، والضمير في {قَبْلَهُمْ} لقريش.
وقوله: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} الفاء فيه لتفصيل الإجمال كقوله: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ} .
وقوله: {وَازْدُجِرَ} يجوز أن يكون معطوفا على قالوا أي لم يكتفوا بهذا القول بل ضموا إليه زجره ونهره، ويجوز أن يكون من مقول القول المذكور أي قالوا هو مجنون واستطير جنونا أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته، والظاهر الأول.
وقوله: {أَنِّي مَغْلُوبٌ} بفتح الهمزة بفتح الهمزة على تقدير بأني مغلوب، وهذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظ لقال بأنه مغلوب، ومن قرأ بكسر الهمزة فهو إما على إضمار القول أي فقال إني مغلوب، وإما إجراء للدعاء مجرى القول وهو مذهب الكوفيين.
وقوله: {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} الباء فيه للتعدية على جعل الماء كالآلة التي يفتح بها مبالغة، ويجوز أن تكون الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع نصب على الحال، وانتصب عيونا في قوله:{وَفَجَّرْنَا الأََرْضَ عُيُوناً} على التمييز المحول عن المفعول به أي فجرنا عيون الأرض وتحويله للتمييز أبلغ من أصله، لأن الأرض جعلت كلها كأنها عيون مفجرة.
وقوله: {فَالْتَقَى الْمَاءُ} على قراءة الجمهور بإفراد الماء لإرادة الجنس، كأنه قيل فالتقى ماء السماء وماء الأرض، ولإفادة تحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة والتقارب بل بطريق الاختلاط والاتحاد، ومن قرأ {الماءان} بالتثنية فلاختلاف النوعين، والضمير المنصوب في {وحملناه} لنوح عليه السلام، وقوله:{تَجْرِي} في محل جر صفة لسفينة المكنى عنها بذات ألواح ودسر، وجمع الأعين في قوله:{بِأَعْيُنِنَا} لإضافته إلى {نا} وقد لوحظ أنه إذا وردت العين أو اليد بلفظ المفرد أضيفت إلى ياء المتكلم أو ضمير الواحد فقط، كقوله:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وكذلك إذا وردت بلفظ التثنية، وأما إذا وردت بلفظ الجمع فإنها لابد أن تكون مضافة إلى "نا" التي هي للجمع أو للواحد المعظم كما في هذا المقام، فلا تدل على إثبات أكثر من عينين لله عز وجل لأن الجمع فيها للتعظيم ومناسبة الضمير، والثابت لله تعالى عينان بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تأويل.
وانتصب جزاء في قوله: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} بفعل مقدر أي أغرقوا جزاء وانتصارا، وقوله:{لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} يعني نوحا عليه السلام، والتعبير بكفر لبيان أنه كان نعمة ساقها الله لهم فجحدوها، ومن قرأ {كفر} بالبناء للمعلوم فتقديره أغرقوا عقابا للكافرين.
وقوله: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} الضمير المنصوب في تركناها قيل للسفينة وقيل للفعلة، ومدكر مبتدأ وخبره محذوف وتقديره فهل مدكر موجود، والمراد من الاستفهام التوبيخ على عدم الادكار مع ظهور أسبابه.
وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} الاستفهام فيه للتقرير والتعظيم والتعجب، وكيف خبر كان إن كانت ناقصة، وأما إذا كانت تامة فهي في موضع نصب على الحال.
وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} تكررت هذه الآية والآية السابقة في آخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار فيها، وإشعارا بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب، وليجددوا عقيب سماع كل نبأ اتعاظا، واستئنافا للتنبيه والإيقاظ لئلا يغلب عليهم السهو والغفلة.
المعنى الإجمالي:
أنكرت قبل قريش جماعة نوح عليه السلام فنسبوا عبدنا الصالح نوحا إلى الكذب والافتراء، وقالوا به مس من الجن، ونهروه فسأل ربه بأني مقهور فانتقم من هؤلاء المكذبين، فاستجبنا له، وجعلنا السماء ترسل عليهم الماء الغزير من جميع أبوابها، وشققنا الأرض عيونا فاختلط ماء السماء بماء الأرض على حال قضاها الله تعالى في الأزل، وحملنا نوحا على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير تسير بسرعة فائقة فوق الماء تحت أبصارنا فأغرقنا الكافرين انتصارا لعبدنا الصالح الذي كان نعمة الله عليهم فجحدوها، ولقد أبقينا هذه السفينة أو هذه الفعلة برهانا واضحا على قدرتنا وانتقامنا من أعدائنا فهل من متعظ موجود.
لقد نزل بهم عذابي ووقع عقابي موقعه، ولقد هيأنا القرآن وسهلناه للحفظ والتذكر فهل من متعظ موجود.
ما ترشد إليه الآيات:
1-
لقريش سلف سيِّء في تكذيب الأنبياء ونسبتهم إلى الجنون.
2-
انتصار الله لعباده الصالحين.
3-
إغراق المكذبين بعذاب بئيس.
4-
إثبات العينين لله عز وجل بلا تشبيه ولا تمثيل.
5-
تيسر القرآن للحفظ والتذكر.
من كلمات فقيد الإسلام الملك فيصل
لماذا يكون العالم العربي منقسما إلى يمين ويسار ولا يكون عربيا صرفا؟.. لقد كافحنا ضد الغرب ولا نريد بديلا له من الشرق، فالاستعمار واحد سواء من الغرب أو من الشرق، هل ننتظر من أمريكا أو من روسيا أو من إنجلترا أو من فرنسا.. أن تأتي وترتب على ظهورنا وتحل مشاكلنا..
نحن أصحاب تاريخ وتراث وأمجاد.. ديننا خالد، ومجدنا طريف وتالد.. تراثنا أشرف تراث، وتاريخنا أشرف تاريخ، وأمتنا خير أمة أخرجت للناس.
كان مكاننا في مقدمة الشعوب.. فلن نرضى أن نكون في مؤخرتها.
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
النبتة الصغيرة
نبتة في الغاب قالت وهي في سنّ الصغر
عجبا للدوح يهوي كلما الريح عبر
أنا إن ملت مع الريح إذا ما الريح مر
لا أرى في الغاب غصنا يدعي فيّ الضلال
إنني نبتة عام لست في الدوح الكبير
ما على مثلي عتب إن دهى أمر خطير
وعوى في الغاب عصف الريح ينهى ويشير
فانثنت قامتي الهيفاء ذلا وابتهالا
سأروض العود أن يقوى على صلب الكفاح
رافع الجبهة لا يعنو إذا مرّت رياح
لا، ولا يصرخ أنّات الثكالى والنواح
هامة كالقمة الشماء تأبى أن تذال
ويمرّ العام إثر العام في الغاب الخصيب
فإذا الأغراس دوح يملأ الأفق الرحيب
وإذا بالنبتة الصغرى لها جذع صليب
وفروع باسقات وثمار وظلال
داعبتها نسمات الصيف في ضوء القمر
فتغنى الورق الأخضر لحنا كالوتر
وانثنت أغصانها اللدن بزهو وأشر
وتعالت في رحيب الجو عُجْبا ودلال
جارة قالت لها إذ قد رأتها تستطيل
أو لست النبتة الصغرى التي كانت تقول
"عجبا للدوح يهوي كلما الريح عبر"
أين أنت الآن يا أختاه من ذاك المقال؟!
ويمر الصيف صيف النسمات الوادعات
والخريف الأحمق المجنون يصحو من سبات
فيدوي يملأ الغاب رياحا ذاريات
تسلب الأشجار ثوبا كان مرآة الجمال
كل ما في الغاب يهوي في ابتهال وخشوع
معلنا طاعته العمياء في هذا الركوع
ما لهذي الدوحة الكبرى أبت هذا الخنوع
أبِها لوثة عقل وغشاوات الخبال؟!
نظر الدوح إليها نظرات شزرات
وأطل الحقد يعوي للرياح العابرات:
يا لها من فعلة نكراء في دنيا النبات
قد جنتها هذه الحمقاء كبرا واختيال!
حطّميها أيها الريح ولا تبقي أثر
إنها بادرة السوء على أرض الشجر
حطّميها قبل أن يسري في الغاب الخطر
حطّميها وأذيقيها وبالا ونكال
ثم جاءت عاصفات في شتاء عاصف
جلجلت في الغاب تدوي مثل رعد قاصف
فهوى الغاب على الأرض بدمع واكف
وأبت دوحته الكبرى ركوعا وابتهال
قالت العاصفة الهوجاء والغاب سجود
أي شيء أنت يا حمقاء في هذا الوجود؟!
أوَ عصيان لأمري وتعدٍّ للحدود؟!
عن قريب سترين الموت في ساح القتال
دمدم العاصف في الجو رعودا قاصفات
ومضى في الغاب يلوي بالجذوع الآبيات
صرخة نكراء تعني رحلة عن ذي الحياة
ردّدت أصداءها المرّة هامات الجبال
فرح الدوح لها إذ قد رآها تصرع
لم يعد في الغاب جذع ثائر لا يخضع
كل أشجارك يا غاب سجود ركعٌ
فلتعيشي اليوم يا أشجار في أنعم بال!!
نظرات في التاريخ
لفضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد المدرس بكلية الدعوة بالجامعة
يقول أبو بكر محمد بن محمد بن خميس في مقدمة كتابه ((تاريخ مالقة)) [1] منوها بعلم التاريخ: "إن أحسن ما يجب أن يعتنى به، ويلم بجانبه بعد الكتاب والسنة معرفة الأخبار، وتقييد المناقب والآثار، ففيها تذكرة بتقلب الدهر بأبنائه، وأعلام بما طرأ في سالف الأزمان من عجائبه وأنبائه:
ونحن، وإن كنا لا نأخذ بحرفية كلامه [2] رحمه الله، فإنا نقر بما لعلم التاريخ من قيمة جليلة، وأثر بعيد في صياغة الأمة، وتكوينها على نحو ما، سواء في ذلك أفرادها. أو كتلتها العامة، كوجود اجتماعي، ينبثق منه وجود سياسي هو الدولة.
وقصاراي -الآن- أن ألمس هذا العلم الجليل في ضوء الحقائق الإسلامية، وفي ضوء أصولنا الحضارية لمسات، وأن أنظر إليه نظرات، توفي بنا -إن شاء الله -على أفكار ما أحسبنا في غنى عنها.
سؤال أريد أن أطرحه الآن في سياق لمساتنا ونظراتنا هذه، ما التاريخ؟ ما التاريخ لغة؟ وما التاريخ حقيقة، وإن شئنا قلنا القولة التقليدية: ما التاريخ اصطلاحا؟
التاريخ لغة هو تعريف الوقت، والتوريخ مثله، يقال: ((أرّخ الكتاب ليوم كذا أي وقته ليوم كذا. [3]
وذهب الأصمعي إلى أن بني تميم يقولون: ورّختُ الكتاب توريخا، وأن قيسا يقول: أرخته تأريخا.. مما يؤكد عربية هذه الكلمة، فهي أصيلة في لهجات القبائل، ولهم فيها من التصرف ما يعرفه اللغويون من تصرفهم بأصل كلامهم، يقول العلماء ((المعجميون)) كابن منظور في لسان العرب: إن كلمة التاريخ مأخوذة من ((الأرْخ)) وهو ولد البقرة الصغير، كأنه شيء حادث كما يحدث الولد
…
ومع ذلك فقد ذهب ناس إلى أن الكلمة فارسية الأصل، مأخوذة من قولهم:((ماه روز)) بمعنى حساب الشهور والأيام، فعربوها وقالوا:((مؤرخ)) ، وجعلوها مصدرا فقالوا:((التاريخ)) [4] .
وعندي أن هذا المذهب ضعيف مستبعد، وفيه كثير من التكلف، وليس هناك من تقارب بين اللفظ العربي ((تاريخ)) وبين الأصل الفارسي المدَّعى، وإذا لبعضهم أن هناك نوعا من تقارب، فليس هو عندي بالذي يسوغ الحكم بفارسية أصل هذه الكلمة، على أن التقارب في النطق بين لفظين –مهما كان قويا وواضحا- لا يعني بحد ذاته أن أحد هذين اللفظين المتقاربين مأخوذ من الآخر، بل لابد من ثبوت هذا الأخذ بالتقصي والدليل العلميين، ألسنا نجد في بعض اللغات كلمات متقاربة في النطق تقاربا يلفت النظر، ومع ذلك فلا يمكن لمجرد هذا التقارب أن يقال: إن هذه الكلمات مأخوذ بعضها عن بعض، ولأضرب لذلك مثلا كلمة ((نَيِّف)) بمعنى الزيادة، أو ((نايف)) بمعنى عالٍ مرتفع، فإنهما تتقاربان في النطق وكلمة ((KNIFE)) الإنكليزية التي تعني مدية أو سكينًا تقاربًا كبيرا، ولكن أيسوغ هذا التقارب وحده الإذعان بأن إحدى اللغتين العربية أو الإنكليزية قد (أخذت كلمتها عن الأخرى) ، دون توفر ((التقصي والدليل العلميين)) ؟
ولست أقول ذلك تعصبا مني من شعوب الإسلام على شعب آخر، إني –بحمد الله- من المسلمين إسلاما مطلقا لقوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [5] .
ولقول رسوله صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس لآدم، وآدم من تراب"[6] .
على أن ذلك لا يحرم الرأي العلمي حقه، بل يوفيه إياه، ويمنحه فسيح المجال على مستوى التفكير، والتعبير، والعمل.
والخلاصة أن كلمة ((تاريخ)) عربية الأصل، وأنها لغة شمالية عدنانية، لا جنوبية كما يقول بعضهم، ولها في لغات القبائل العدنانية جذرها ومأخذها الواضحان، ولها تصرف هذه القبائل بها تصرفها بأصيل كلامها
…
هذا هو التاريخ لغة، أما التاريخ حقيقة أو اصطلاحا، فإني مبينه فيها يأتي بمقدار ما يفتح الله سبحانه ويعين.
لقد عرف المؤرخون التاريخ تعريفات شتى تختلف عمقا، ودقة، وشمولا، وبعدا من الصواب أو مقاربة له، وإليكم نمادج منها.
أولا: قال ابن خلدون [7](732-808هـ-1332-1406م) :
((فن التاريخ
…
هو في ظاهره لا يزيد على أخبارٍ عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، وباطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة [8] وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق)) .
ثانيا- يقول محيي الدين محمد بن سليمان الكافيجي [9](788-879هـ-1386-1974مـ) : "وأما علم التاريخ فهو علم يبحث فيه عن الزمان وأحواله، وعن أحوال ما يتعلق به من حيث تعيين ذلك وتوقيته".
ثالثا: -يقول محمد بن عبد الرحمن السخاوي [10](831-902هـ-1427-1497مـ) : "التاريخ في الاصطلاح التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال من مولد الرواة والأئمة، ووفاة.. ورحلة وحج، وحفظ وضبط وتوثيق، وتخريج، وما أشبه هذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة، من ظهور ملمة، وتجديد.. خليفةٍ ووزير، وغزوة، وملحمة، وحرب، وفتح بلد، وانتزاعه من متغلَّب عليه، وانتقال دولة، وربما يتوسع فيه لبدء الخلق، وقصص الأنبياء، وغير ذلك من أمور الأمم الماضية وأحوال القيامة، ومقدماتها مما سيأتي، أو دونها كبناء جامع أو مدرسة، أو قنطرة، أو رصيف، أو نحوها، مما يعم الانتفاع به، مما هو نافع مشاهد، أو خفي سماوي، كجراد، وكسوق، وخسوف وكسوف، أو أرضي كزلزلة، وحريق، وسيل، وطوفان، وقحط، وطاعون، وموتان، وغيرها من الآيات العظام، والعجائب الجسام، والحاصل أنه فن يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت بل عما كان في العالم".
رابعا-يذهب سيد قطب [11]رحمه الله إلى أن التاريخ ليس هو الحوادث وإنما هو تفسير هذه الحوادث، والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع شتائها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان.
وبذلك يستحيل التاريخ عملية استبطان وتجاوب في ضمائر الأشياء والأشخاص والأزمان والأحدث، ويتصل بناموس الكون ومدارج البشرية ويصبح كائنا حيا ومادة حياة".
هذه التعريفات التي ذكرناها مختلفة- كما قلنا- عمقا ودقة وشمولا، فتعريفا الكافيجي والسخاوي يتفقان في التركيز على ((التعيين والتوقيت)) أو على تعيين زمان ((الأحوال والوقائع)) وينفرد السخاوي في النص على شمول مفهوم التاريخ لما عدَّد من الأمور، أما ابن خلدون فيركز على ما يسمى في عصرنا بفلسفة التاريخ، حين ينص على الاهتمام بتعليل الكائنات ((الحوادث والموجودات"وتعرف أسباب وجودها وكيفيته، مما يفضي إلى معرفة نتائجها، ومعرفة علاقتها بالوقائع والأحوال التي تسبقها أو تلحقها أو تواكبها تأثرا وتأثيرا، بحيث يبدو التاريخ سلسلة منطقية من الوقائع والكائنات المترابطة بمبدأ الأسباب والمسببات
…
وهذا المعنى من ملاحظة واستنتاج ابن خلدون، وقد أدرك به أو كاد المعنى الحقيقي للتاريخ، وبذلك سبق علماء الغرب في هذا المضمار سبقا جديرا بالتقدير والإعجاب، واعتبر رائد علم الاجتماع، والبحث التاريخي العلمي
…
، وقد علق ((إيف لاكوست)) صاحب كتاب ((ابن خلدون واضع علم ومقرر استقلال [12] على هذه الناحية بقوله:"يستهل ابن خلدون مقدمته بمقطع رائع يشعر قراءه أنه أمام نفحة ستقود ديكارت [13] بعد ذلك بثلاثة قرون، وليس مثال ذلك السبق بنادر بين تراث الأدب العربي (الإسلامي) الذي خلفه لنا العصر الوسيط".
ولست أسوق قول: ((لاكوست)) هذا للتَّقَوِّي به، فنحن –بحمد الله- في غنى عنه، وأرجو أن يكون إدراكنا لروائع تراثنا، وفضائل رجالنا ذاتيا استقلاليا، وجل ما في الأمر أني سقته لبيان أن عبقرية ابن خلدون قد فرضت نفسها حتى على الباحثين الأجانب، وقادتهم إلى الاعتراف بفضلها وتوجيهها لواحد من عباقرتهم المعدودين
…
أما سيد –رحمه الله فقد أقر ما ذهب إليه ابن خلدون، مضيفا إليه فكرة إتصال التاريخ –إذا فسر على النحو الذي نصه- بناموس الكون ومدارج البشرية، وصيرورته كائنا حيا، ومادة حياة، وقد استقل-رحمه الله في كتابات أخرى له في الموضوع نفسه برسم منهج متكامل يضع دراسة التاريخ الإسلامي في نصابها الصحيح، ويواجه مواجهة ظافرة مستعلية عبث المستشرقين وأتباعهم في كتابة تاريخنا ودراسته
…
ولعلنا بعدما تقدم نستطيع أن نقول في تعريف التاريخ: "إنه علم تبحث فيه الوقائع والكائنات المختلفة التي تحدث على مسرح الحياة بحثا يحدد زمانها، ويبين أسبابها وكيفياتها، ونتائجها، وآثارها في مجرى الحياة والأحياء، بحيث يظهرنا هذا البحث على السنن الله التي لا تحويل لها ولا تبديل، والتي تسير الحياة تسييرا سببيا منظما، خاليا من الاعتباط، حتميا، ولكن في نطاق مشيئة الله تعالى وقدرته، وفي نطاق قضائه وقدره".
هل التاريخ علم؟
قبل الإجابة عن السؤال لابد من بيان المعنى الاصطلاحي ((للعلم)) الذي نورد هذا السؤال بناءًا عليه، إن هذا المعنى يراد به المعرفة التي تقوم على مبادئ كلية ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ويمكن الاستشفاف (التنبؤ) على أساسها، كعلم الكمياء، الفيزياء، والرياضيات
…
ويذهب فريق من الباحثين إلى أن التاريخ هو علم بهذا المعنى، منهم المؤرخ الفرنسي
foustel de coulange الذي يقول: "إن التاريخ ليس فنا ولكنه علم محض"[14] .
ويقول هؤلاء إن للتاريخ قواعد ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان [15]، ويذكرون منها مايلي:
أ-إن العبقرية لا تظهر إلا إذا توفرت لها ظروف ملائمة، فعندهم أن هذه القاعدة تحفظ بصحتها في كل زمان ومكان، فعمر بن الخطاب –مثلا- لولا الظروف التي هيأها ظهورها الإسلام لما كان بالإمكان أن يكون عمر الذي نعرفه، جل ما هنالك، أنه كان من الممكن أن يكون رجلا كبيرا من رجالات قريش، وكذلك سيف الله خالد بن الوليد- رحمه الله لولا الظروف المواتية التي هيأها الإسلام، لما أمكن أن يكون أكثر من فارس بارز بين فرسان قريش أو فرسان العرب، فهذه القاعدة- عندهم- تنطبق على كل عبقرية لمعت في الشرق أو في الغرب، وعندي أنه لابد من تخصيص هذه القاعدة بغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم لا يخضعون لهذه القاعدة، وإنما يقوم أمرهم على ما يؤيدهم به الله تعالى من حق، وعون، وإعجاز
…
ب- إن تعليم الشعوب والعناية بشؤونها الحيوية إذا سارا معا جنبا.. هذه الشعوب الهزات العنيفة، والقلاقل والثورات، وأنالها حياة الاستقرار والرفاهية، ووضعاها على درب التقدم والإسهام في تصحيح مسيرة البشرية وإسعادها، وأما إذا عُلمت دونما عناية جدية بشؤونها كان حدوث هذه الهزات في حياتها أمرا حتميا
…
ونستطيع أن نجد لهذه القاعدة تطبيقات كثيرة على مدى حياتنا الإسلامية، أذكر منها تطبيقين اثنين، الأول في عهد عمر بن عبد العزيز، لقد نشر العلم والتوعية والهداية في أرجاء بلاد الخلافة، وعُني في الوقت نفسه بشؤون الأمة، فأخلدت إلى السكينة، وجعل الخوارج يجنحون إلى الهدوء، ولو قد طال عمره رحمه الله -لنعمت البلاد والعباد باطمئنان واستقرار تغير منهما مجرى الحياة الإسلامية، بل مجرى حياة العالم كله.. ولنسأ –والأمر بيد الله- في عمر الدولة الأموية ذاتها.
والتطبيق الثاني هو ما نلاحظه في إحدى الدول الإسلامية المعاصرة، فبينما تبنى في ربوعها المدارس، وتشاد المعاهد، وتؤسس الجامعات، وتتزايد المشروعات التي تعنى بشؤون الشعب، فمن مشروعات زراعية إلى مشروعات صناعية، ومن برامج إسكانية إلى أخرى تتعلق بالتوعية الإسلامية، وتعمل على تنظيم النهضة، وضبط مسيرتها، وبوتقتها وحمايتها من الآفات المضيعة المعرفة كالانحراف والجنوح.
وهذا في نظر علم التاريخ من الرشاد في السياسة، والله هو المسؤول أن يوفق إلى مزيد من وضوح الرؤية، وسداد الخطى، على أنه من الملاحظ أن الدول المعاصرة كثيرا ما تعمل على التسابق في هذه الحلبة نتيجة القيمة المتزايدة التي تحتلها الشعوب على نحو ما في برامج الحكام العقلاء مسلمين كانوا أو غير مسلمين.
ويبدو أن القائلين بأن التاريخ ((علم محض)) كالفيزياء والكيمياء، والرياضيات قد بالغوا، إنه لما يبلغ هذه المنزلة، وربما بلغها يوم تنضج العلوم العديدة التي يعتمد عليها، والتي يسمونها ((بالعلوم المساعدة)) كاللغات، وفقهها، وعلم قراءة الخطوط، وعلم النميات (علم النقود والمسكوكات) والاقتصاد، والآدب، وعلم النفس [16]
…
ويوم تتهيأ الشروط اللازمة للهيمنة على اكتشاف سنته (قوانينه) ونواميسه
…
على أنه في وضعه الراهن له من خصائص ((العلم)) إمكان الاستشفاف به أو التنبؤ به كما يقال، وإلى ذلك يشير ابن الأثير [17] (555-630هـ-1160-1232مـ) رحمه الله بقوله:
"ومنها (أي من فوائد علم التاريخ) مايحصل للإنسان من التجارب، والمعرفة بالحوادث، وما تصير إليه عواقبها.
وأيًّا ما كان الأمر فلعلنا نستطيع أن نقول أن التاريخ –كما هو الآن- هو علم باعتبارين على الأقل:
الأول: كون وقائعه تحدث حسب سنن ((إلهية ثابتة)) ، وإن لم نحط علما بالكثير منها كما أحطنا بسنن العلوم الأخرى، كالفيزياء، والكيمياء، والرياضيات.
الثاني: كونه ذا منهج للبحث يسهم في تحرير مسائله، ونقدها، وتخليصها من الشوائب، وخلاصة هذا المنهج ما يلي:
1-
جمع مواد البحث من روايات ونقول وأخبار.
2-
نقدها سندا ومضمونا، وإسقاط ما لا يثبت على هذا النقد.
3-
دراسة الباقي وتفهمه وتحليله.
4-
تنظيمه وتنسيقه، ومقارنة بعضه ببعض، وتبين ما بين أجزائه من روابط
…
5-
استنتاج النتائج على شكل مبادئ وضوابط.
والخلاصة أن التاريخ لما يبلغ مرتبة العلوم البحتة، بالرغم من تقدم الدراسات التاريخية تقدما كبيرا، وما تزال آخذة بالتقدم، وربما أصبح التاريخ علما محضا حين تنضج- كما قلنا- علومه المساعدة، ويوم تتهيأ الشروط اللازمة للهيمنة على اكتشاف سننه ونواميسه، ولعلنا ننصف التاريخ في مرحلته الحالية إذا قلنا عنه:
إنه اليوم علم بحسب الاعتبارين السابقين على الأقل، كما أنه-في الوقت نفسه- حكمة في فحواه، أدب في طريقة عرضه وأدائه، وفي تأثيره وإمتاعه.
فوائد علم التاريخ:
لهذا العلم فوائد جوهرية منها ما يلي:
أولا –إنه يغذي العقل، وينمي الفكر، ويخصب التجارب، بحيث يكون من عرفه كمن عاش الدهر كله، وجرب الأمور بأسرها، وباشر بنفسه كل ما باشر السابقون من الأحوال، ومن هنا نرى عباقرة الحكام في الإسلام، كمعاوية رضي الله عنه يعنون بدراسة التاريخ عناية فائقة، فلقد كانت له أوقات معينة من كل ليلة تقرأ عليه فيها أخبار الأمم والدول الماضية، وأخبار سياساتها ومعالجاتها لشؤون الحكم، وكان لديه رجال مختصون بتهيئة هذه المجالس، وما يكون فيها أحاديث
…
وأبو جعفر المنصور لما هم بقتل عبد الرحمن بن مسلم (أبو مسلم الخرساني) سقط -كما يقول الجاحظ- بين الاستبداد برأيه، والمشاورة فيه، فأرق في ذلك ليلته، فلما أصبح دعا بإسحق بن مسلم العقيلي وسأله عن خبر الملك الفارسي سابور الأكبر مع أحد كبار رجال دولته، وما أن سمع هذا الخبر التاريخي وتملاه حتى خرج من تردده، وصمم على قتله، لما استبان له من وجه الاتعاظ في تلك السابقة التاريخية [18] .
وكان الأشرف برسباي من حكام مصر (825-8461هـ) يطلب من البدرالعيني أن يقرأ عنده التاريخ، وقد قال الأشرف ما معناه، إنه ما عرف الإسلام إلا منه [19] .
وممن كانوا يعنون بدراسة التاريخ السلطان العظيم محمد الفاتح (1451-1481مـ) والسلطان المحنك عبد الحميد الثاني، ومن يقرأ مذكراته يَرَ أنه قبل أن يقدم على اتخاذ الخطوة الأخيرة بحق مدحت باشا، قد استعرض بدقة وحصافة السوابق التاريخية كسابقة المنصور مع أبي مسلم، وسابقة الرشيد مع البرامكة
…
ثم أرسل من بعدُ مدحت باشا إلى قلعة الطائف.
وما يزال رجال السياسة الكبار، ولن يزالوا يعنون بدراسة التاريخ والتعلم منه، حتى قيل عنه:((إنه علم رجل الدولة)) ، ويلاحظ أن المسابقات التي تجريها وزارات الخارجية في العالم لاختبار موظفين دبلومسيين لا يمكن أن تخلو البتة من مادة ((التاريخ)) .
ولا يقتصر الاهتمام به على رجال السياسة، بل يشاركهم في ذلك رجال الدعوة، وكل مشتغل بالأمور التوجيهية من معلمين، وإداريين، وقادة أحزاب، ورؤساء جمعيات.
ومن ثم نرى أئمة الدعوة يستعينون بالتاريخ في تحقيق مهامهم، فها إن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله يعمد إلى دراسة تاريخ قبة الصخرة حين أراد أن يسوق الأدلة على أنه لا يشرع تعظيم هذه الصخرة، ولا الصلاة عندها [20] ، وكلنا يعلم أن مجدد القرن الثاني عشر محمد عبد الوهاب، وابنه الشيخ عبد الله -تغمدهما الله برحمته- قد ألفا في السيرة كتابين قيمين - والسيرة أصل التاريخ الإسلامي [21] ليستعينا بهما في الدعوة إلى استئناف الحياة المسلمة
…
وبناء على ذلك نقول: إن التاريخ هو علم رجل الدعوة، ورجل الإدارة، ورجل الإرشاد والتوجيه، كما أنه علم رجل الدولة [22]
…
ثانيا: إن دراسة التاريخ والإطلاع على سير الهداة من أنبياء وأئمة ومصلحين، تشد من عزمات القارئ، وتبعث من همته، وتقذف في نفسه الصبر والقوة والصمود، ولنا أن نستلهم ذلك من قوله تعالى:{وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [23] .
ثالثا: إن دراسة التاريخ تؤثر تأثيرا بالغا في نظرة الأمم إلى ذاتها، فإذا ما درست أمة من الأمم تاريخها دراسة صحيحة أمكنها أن تعرف نفسها، وأن تدرك ذاتها الحقيقية إدراكا صحيحا، فالأمة الإسلامية مثلا إذا درست تاريخها دراسة سليمة عارية من دس الأعداء، وتحريفهم، وعبثهم في تفسيره، أدركت ذاتها، أو هويتها الإسلامية، وعرفت أنها أمة دعوة، وأنها أمة مسلمة قبل كل شيء، وبعد كل شيء، بل عرفت أنها مسلمة وحسب.
أما إذا تسلطت على دراستها لتاريخها عوامل التشويش، والتحريف، وفسر على غير وجهه، فإنها تضل عن ذاتها، وتضيّع ((هويتها)) وتصبح فكرتها عن نفسها، ونظرتها إلى ذاتها مشوشة، محرفة، مهزوزة مزيفة
…
وقد أدرك أعداؤنا أثر تشويش التاريخ الإسلامي في ((ضياع)) الأمة الإسلامية فراحوا يدرسونه دراسة عميقة منظمة، ويتلاعبون في تفسيره، ويعطونه من المفاهيم والعلل والنتائج ما يخدم مآربهم، وما يحرفه عن مواضعه، وقد بلغ الأعداء غايتهم من هذا النحو إلى حدٍ كبير، فأضاع المسلمون هويتهم الإسلامية الأصلية أو كادوا.
يقول أحد الذين درسنا عليهم التاريخ [24] : "ونحن العرب أحق الناس أن نذكر أن التقهقر ابتدأ فينا منذ أن طغت العناصر الأعجمية علينا، وإننا إذا شئنا أن ننهض فيتوجب علينا إزالة هذا العامل بادئ ذي بدء".
وقد غاب عن هذا الأستاذ أن التقهقر ابتدأ فينا منذ أن بدأنا نحن العرب -نضيع هويتنا المسلمة الأصيلة، وجعلنا نغادر الخط النبوي الراشدي في التصور والسلوك، على اختلاف ضروبه في شؤوننا الداخلية والخارجية، ولن نقال من عثارنا حتى نستعيد تلك الهوية، ونراجع ذلك الخط.
ولكن لا تثريب على هذا الأستاذ، فإنه لم يعرف التاريخ إلا من خلال أساتذته في الجامعات الأجنبية، أي لم يعرفه من خلال دراسة موضوعية علمية تتفهم الأشياء بمنطق طبائع الأشياء ذاتها، لا بمنطق مستعار يفرض عليها فرضا، وما أكثر المشتغلين بالتاريخ في أيامنا هذه، ممن يذهبون مذهب أستاذنا هذا؟
وقد ترتب على ضياع الأمة هذا الضياع ضعف بنيتها الإسلامية، وزوال مناعتها إلى حد بعيد، وقد كان إيمانها بدينها، واعتصامها بهويتها الإسلامية مصدرا لقوة بنيتها ومناعتها في الوقت ذاته.
إن الجسم الذي تضعف بنيته، وتزول مناعته يصبح مضيافا للجراثيم، مفتح الأبواب أمام مختلف الأمراض، وهكذا أضحت الأمة الإسلامية مضيافة لمختلف الأفكار، مفتحة الأبواب أمام أي عقيدة، أو فلسفة، أو نزعة
…
فالقومية، والعرقية، والإقليمية، والعلمانية، والانحلالية، كلها تجد في كيان هذه الأمة مراعي خصبة
…
والواجب الآن على العناصر السليمة الواعية من المسلمين أن تجهد في تهيئة الغذاء الصحيح المقوي الذي يرد على الأمة صحتها، ويقوي بنيتها ومناعتها، ويريح عليها هويتها الأصلية المضاعة.
وهذا الغذاء يتمثل في أمور، في مقدمتها دراسة التاريخ الإسلامي دراسة أصلية من خلال العقيدة الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنة، ومن واقع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وواقع تاريخ أصحابه، وخلفائه الراشدين، ومن نحا نحوهم دون تأول أو انحراف أو عبث
…
رابعا- ومما يدخل في بيان فوائد التاريخ أن الاشتغال به يفضل الاشتغال بكثير من مسائل علم الكلام، والجدل، والفلسفة، التي لا تعود على المسلمين بغير التشكيك وضياع الوقت، وتشويش الأذهان، كالكلام في الزمان هل له ابتداء وانتهاء، وأول وآخر، وهل كان هنالك شيء قبل خلق الله للزمان، وهل الزمان فان أو باق، وأمثال ذلك من المسائل التي لا ينتهي العقل بشأنها إلى مفيد أو مطمئن، وخير من ذلك أن ينصرف المسلم إلى دراسة التاريخ الذي يغذي مداركه، وخصب تجاربه، ويزيد من خبراته، ويصله بسير الأنبياء والصالحين، وعظماء الرجال، مما يأخذ بيده إلىملء الوقت بالأعمال الإيجابية التي تعود على الأمة وأبنائها بالخير في دنياها وآخرتها.
خامسا-إن للتاريخ فائدة إجتماعية أخلاقية، وإن شئت فقل:((فضيلة قضائية)) ذلك أنه ينصف الرجال الذين ظلمهم دهرهم، وتنكر لهم معاصروهم، فأساؤوا القالة فيهم، والحكم عليهم، فيجيء التاريخ بدوره ويعدل فيهم، بإظهار حقيقتهم وتفنيد المظالم التي وقعت عليهم، كما أنه قد يفعل العكس فيميط اللثام عن واقع أشخاص استطاعوا أن يستأثروا بتعظيم معاصريهم، بسبب ما توفر لديهم من مال وسلطان، أو ذكاء استعملوه في غير وجهه.
فها إن أحمد بن تيمية رحمه الله (661-728هـ-1263-1328مـ) يلاقي ما يلاقي في حياته ويموت حبيسا في قلعة دمشق، ثم ينصفه التاريخ بعد ذلك، ويميط اللثام عن فضائله وخصائصه، فيكون من أكبر الأئمة المقدرين في صفوف المتدينين الدعاة في أيامنا هذه، وها إن السلطان عبد الحميد (1842-1942) يظلمه عصره حسب خطط أجنبية محكمة، ولكن بدأ التاريخ يميط اللثام عن حقيقته، وشرع يعطيه المكانة التي يستحقها، وفي التاريخ الأفرنسي نجد الملك لويس الخامس عشر (1710-1774مـ) يعيش محفوفا بالتبجيل والتعظيم، مع أنه من أسوأ الحكام الذين عرفتهم فرنسا، غير أن التاريخ كشفه فيما بعد، وحقق ما كان يقوله فيه معاصره الفيلسوف الفرنسي النابغة فولتير (1694-1778مـ) :((مجدوه مجدوه فسيلعنه التاريخ)) وقد لعنه فعلا
…
سادسا-من فوائد التاريخ أنه يخدم الدين، ألم تر أنه يدلنا كيف يتقلب الزمان بأهله، فكم من دول تظهر ويشتد ساعدها، وأخرى تسقط ويتهاوى بنيانها، وكم من أغنياء يفتقرون، وفقراء يغنون، وأعزة يذلون، وأذلة يعزون، ومدبر الجميع ومحول الأحوال باقٍ لايحول ولا يزول
…
أليس في ذلك ما يبعث على التوحيد، الاعتراف بوحدانية البارئ عز وجل، وكمال قدرته، وبالغ حكمته وعظيم سلطانه؟!، يقول ابن الساعي المؤرخ المعروف بابن أنجب (193-674هـ -1197-1275مـ) :
إن في تدبر مجاري الأقدار، وتقلب الأدوار، واختلاف الليل والنهار، وتوالي الأمم وتعاقبها، وتداول الدول وتناوبها، عظة للمتقين، وتنبيها للغافلين، قال تعالى:{وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ولو لم يكن في ذلك إلا ما ينتفع به المعتبر، من قلة الثقة بالدنيا الفانية، وكثرة الرغبة في الآخرة الباقية لكفى ما تتوجه إليه البصيرة من جميل الأفعال، وتحث عليه من صالح الأعمال.
ويذهب الحافظ السخاوي في بيان قيمة التاريخ، وشرح فوائده إلى أنه فن من فنون الحديث النبوي، وأداة لحفظ الكثير من أحكام الدين، ومدعاة للاحتفاظ بمآثر الصالحين، كما يذهب إلى أنه فرض من فروض الكفاية.. واستمع إليه يقول [25] :
علم التاريخ فن من فنون الحديث النبوي، وزين تقرّ به العيون، حيث سلك فيه المنهج القويم المستوي، بل وقعه من الدين عظيم، ونفعه يتعين في الشرع؛ إذ به يعلم أهل الجلالة والرسوخ ما يفهم به الناسخ من المنسوخ، ويظهر زيف مدعي اللقاء.. وتحفظ به الأنساب.. ولذا نعلم منه آجال الحقوق، واختلاف النقود والأوقات التي ينشأ عنها من الاستحقاق ما هو معهود، وينتفع به الاطلاع على أخبار العلماء والزهاد والفضلاء، والخلفاء والملوك والأمراء والنبلاء، وسيرهم ومآثرهم في حربهم وسلمهم، وما أبقى الدهر من فضائلهم.. بعد أن أبادهم الحدثان، وأبلى جديدهم الملوان
…
ولهذا صرح غير واحد من العلماء بأنه فرض من فروض الكفايات والراجح ارتقائه على فرض العين، للاندفاع بقيامه به عن غيره التأثيمات.
سابعًا-من فوائد التاريخ أن دراسته مسلاة، فإذا نزل بالإنسان هم أو غم، وقرأ تواريخ الأنبياء، والعظماء، وما انتابهم من أرزاء فصبروا عليها، ولم ينهاروا أمامها شعر بقوة في نفسه، وراحة في قلبه، ووجد في قصصهم مسلاة وعزاء، وجلاء لهمه، وذهابا لغمه
…
بل يجد فيه فوق ذلك مسرة ومتاعا.
ثامنًا- إن التاريخ يحقق التعارف الذي تندبنا إليه الآية الكريمة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [26] .
وأي فرق بين أن نتعارف نحن والمعاصرين أو بين أن نتعارف نحن والماضين عن طريق دراسة تاريخهم؟! إن كلا التعارفين سيجر- في أحوال معينة كثيرة- إلى إعجاب، فحب، وهذان يجران إلى التأسي والإقتداء
…
فإذا درسنا تاريخ الأنبياء، والأصحاب، والهداة، والأبطال عرفناهم، وأعجبنا بهم، وانتهينا إلى الاقتداء بهم على نحو من الأنحاء، وإذن فالتاريخ أداة تعارف، وحب، وأسوة، ومن ثم أداة ((تربية)) فعالة عظيمة أيضا، وهو -كما قلنا- أداة لتطبيق الآية الكريمة الآنف ذكرها.
والخلاصة أن التاريخ علم جم الفوائد، لا يكاد يستغنى عنه أحد، ولا سيما إذا كان ذا شأن أو مسؤولية، وكيف يستغنى عنه وهو -كما عرفنا- حكمة في فحواه، علم في منهج بحثه وتمحيصه، فن في عرضه وأدائه، وتأثيره وإمتاعه.
في دراسة التاريخ الإسلامي:
إن دراسة التاريخ الإسلامي-ولا سيما تاريخ الصدر الأول- دراسة تعليل واستبطان، لا تستقيم إلا لمن عرف العقيدة الإسلامية معرفة تذوق وممارسة، وعرف إشعاعاتها، وفيوضها، ومبلغ تأثيرها في تكوين شخصيات أصحابها، وتحديد معالم سلوكهم على مستوى الفرد والجماعة.
إن هذا التاريخ في حقيقته -إنبثاق من هذه العقيدة، وثمرة من ثمراتها، فهي منه بمنزلة السبب، وهو منها بمنزلة النتيجة، وأنى لباحث أن يعلل أمرا، وبينه وبين علته حجاب، فهو غريب عنها غربة معرفة، وتذوق، واستيطان، وممارسة.
إن أي باحث يحاول تفسير التاريخ الإسلامي-ولا سيما تاريخ الصدر الأول- سيأتي تفسيره مجانبا للصواب، ولعلنا لا نبالغ حين نقول: سيأتي تفسيره تخبطا ورجما بالغيب إلا إذا سلك فيه أو إليه طريق العقيدة الإسلامية وخصائصها، وإيحاءاتها، وما أودع الله تعالى فيها من نواميس قادرة على صياغة الحياة، وتكوين الإنسان على نحو ليس في متناول سواها من العقائد أو المبادئ
…
التاريخ الإسلامي- ولا سيما تاريخ الصدر الأول- فذ في التواريخ، إنه لئن أمكن تعليل هذه التواريخ بالعوامل الجغرافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وما إليها، فإن التاريخ الإسلامي لا سبيل إلى تعليله إلا بالعقيدة الإسلامية وإيحاءاتها، وتأثيراتها
…
أما العوامل الأخرى التي ذكرناها، والتي اعتاد المؤرخون أن يعللوا بها التواريخ، فها إن وقعت في شيء من تعليل التاريخ الإسلامي فإنما تقع في منزلة تالية للعقيدة.
إن التعليل الجوهري لتاريخ الصدر الأول، ولمراحل تاريخية إسلامية أخرى متفرقة جاءت على غراره إنما تلتمس- من حيث الأصل- في مثل ما يلي:
1-
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} سورة محمد-47.
2-
3-
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة الحج-40.
4-
{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} المائدة 56.
5-
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} سورة الأعراف 196.
6-
{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} سورة آل عمران 681.
7-
{إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} سورة الجاثية 19.
8-
9-
10-
علما بأن تولي الله تعالى هو نصره، ونصر دينه، وطاعته في نهيه وأمره في توحيده، وعبادته، والصبر على الجهاد في سبيله، والجد والاستيعاب في الإعداد لهذا الجهاد.
ولعلنا نلاحظ في الآيات الآنف ذكرها أن الله سبحانه قد ربط ربطا وثيقا ظاهرا بين تولي المؤمنين إياه ونصره وبين توليه سبحانه إياهم ونصرهم، وعلى أساس هذا الربط، ومن خلال هذا الربط انبثق التاريخ الإسلامي، ولا سيما تاريخ الصدر الأول.
والخلاصة أن التاريخ الإسلامي-كما أسلفنا- هو ثمرة عقيدة، ولا تستقيم دراسته دراسة تعليل واستبطان إلا من خلالها.
ما هي المؤهلات الواجب توفرها فيمن يتصدى؟
للاشتغال بالتاريخ الإسلامي؟
إن التاريخ الإسلامي-كما عرفنا- ذو خصائص يتميز بها عن سواه، إنه انبثاق من عقيدة، وثمرة من ثمراتها، ومن ثم بات من الضروري أن تتوفر فيمن يتصدى للاشتغال به شروط خاصة منها:
أ-معرفة العقيدة الإسلامية على وجهها الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي عرفه الأصحاب كأبي بكر وعمر، وأبي عبيدة، ومعرفة قدراتها، ومناحيها وإيحاءاتها في صياغة الإنسان على مختلف المستويات الفردية والاجتماعية، الداخلية والخارجية.
ب-تجربة العيش في ظل العقيدة، وممارسة الحياة التي تنبثق منها، وتذوقها، والشعور بمعطياتها، والتفاعل بها
…
جـ-الإلمام بالعلوم الإسلامية من تفسير، وسنة، خصوصا ما يتعلق منهما بالسير والجهاد، وأهدافه، وآدابه، والإلمام بعلم مصطلح الحديث، وتمثل قواعده في النقد والتقويم، والجرح والتعديل [27] .
د- التمكن من اللغة العربية بالدرجة الأولى، والتمرس بفهم مختلف أساليب المؤرخين المسلمين، ومذاهبهم في تدوين التاريخ.
هـ-العدالة والضبط، ومخافة الله تعالى، بحيث يراعي الصدق والأمانة فيما يرويه أو يدونه، دون محاباة قريب لقرابته، أو ذي سلطان لسلطانه، ودونما جورٍ على بغيضٍ، أو منافس، أو معاصر.
و الشجاعة، ونبل النفس، والترفع عن مفاتن الحياة الدنيا، مما يسهل عليه التزام الحق، واجتناب الباطل.
ذلك إلى جانب ما يجب أن يتوفر في المؤرخ من حيث هو من جدٍ في البحث وصبرٍ على تقصي الحقائق، وذكاء، وزكانة [28] ، ودقة ملاحظة، وقد أشار ابن خلدون إلى هذه الشروط فقال [29] :
يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق، والعوائد والنحل والمذاهب، وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك (أي يجب أن يحيط بأحوال عصره) ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون (بعد) ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منهما والمختلف، والقيام على أصول الدول
…
ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خير، وحينئذ يعرض المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها، وجرى بمقتضاها كان صحيحا، وإلا زيفة، واستغنى عنه.
وبناء على هذه الشروط، وغيرها مما رأى العلماء توفره في المؤرخ ولا سيما المسلم نرى أن التاريخ علم جليل القدر، وأن التصدي للاشتغال به يحتاج إلى مواهب فطرية فذة، وطاقات عظيمة، وأخلاق رفيعة، ودين صحيح.. فكيف وقد صار الاشتغال به في هذه الأيام -غالبا- إلى العلمانيين، والمستشرقين الكاشحين، وأتباعهم المقلدين؟!!
منطلقات في دراسة تاريخ الصحابة:
لابد للمشتغل بالتاريخ الإسلامي من دراسة الدور الذي قام به الصحابة رضي الله عنهم في هذا التاريخ، ولا غرو، فدورهم هذا، مع دور الرسول صلى الله عليه وسلم هو أساسه ونبراسه، وقد كثر في دورهم الخلاف، وتشابكت فيه وجهات النظر في كثير من الأحيان.. وقد انتهيت - بعد تأمل- إلى منطقات في دراسة هذا الدور الجليل الدقيق الحساس أذكر خلاصتها فيما يلي، ولعلي قد أصبت الحق فيها:
أ-عندما ندرس تاريخ الصحابة يجب ألا يغيب عنا أنهم هم الطبقة المثلى التي فهمت الإسلام على حقيقته، وعملت به.
ب-إن الروايات في خلافاتهم يجب أن نقف منها موقفا غاية في الحذر والتحقيق، والنقد والتمحيص، لأن حقبتهم أضحت مجالا كبيرا لدس ذوي الأغراض المنحرفة والمآرب النفعية من سياسية ودينية وما إليها
…
جـ- إذا درسنا ما نسب إليهم من خلاف، أو غلط، على الأساس المتقدم اضطررنا أو هدينا إلى رد أكثره، وما يتبقى منها فهو قليل جدا
…
وهذا القليل إذا درسناه دراسة استبطانية ألفيناه قائما على الاجتهاد في طلب الأفضل، والأرضى لله
…
والمجتهد إما مصيب فله أجران، أو مخطئ فله أجر واحد.
د-يجب ألا يغيب عن البال أن الخطأ الاجتهادي الذي لم يخل منه تاريخ الصحابة -ومن الطبعي ألا يخلو منه- والذي بولغ في روايته لنا على شكل فتن وزعازع إذا قيس بفضائلهم بدا شيئا يسيرا لا يكاد يستحق الذكر، على أنهم ليسوا بالمعصومين والله سبحانه لم يتعبدنا بأفعالهم، ولسنا ملزمين باتباعها إلا من خلال الكتاب والسنة، اللذين هما مصدرا الدين [30] وهما المقياس الذي نقيس به كل ما عداهما من أقوال البشر وأفعالهم، فما وافقهما قبلناه، وما خالفهما فارقناه إليهما
…
وعلى كل حال فحسن الظن بالأصحاب واجب، والاعتقاد بعدالتهم يستلزمه الدين، والبحث العلمي الدقيق.
هذه المنطلقات أرى أن تراعى حين ندرس ما يتعلق من التاريخ الإسلامي بهذه الفئة، خير الناس بعد الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، عسى أن تكتب لنا الإصابة والسلامة.
نظرة إلى تقسيم العصور التاريخية:
من المنافذ التي نفذت إلينا من خلالها وجهة نظر الغرب في تفسير تاريخنا، تقسيم العصور التاريخية المنقول عن المؤرخين الغربيين.
وغير خاف، أن هؤلاء المؤرخين، ومن نحا نحوهم، قد درجوا على تقسيم العصور التاريخية إلى ثلاثة أو أربعة هي:
1-
العصور القديمة:
وتبدأ باختراع الكتابة قبل الميلاد بنحو خمسة وأربعين قرنا [31] ، وتنتهي بسقوط الإمبراطورية الرومانية على أيدي البرابرة سنة 476مـ.
2-
العصور الوسطى:
وتبدأ سنة 476مـ، وتنتهي بفتح القسطنطينية سنة 1453مـ، أو باكتشاف العالم الجديد سنة 1492مـ.
3-
العصور الحديثة:
وتبدأ بنهاية العصور الوسطى، وتستمر حتى أيامنا هذه، وبعضهم يقسم العصور الحديثة إلى قسمين، الأول يدعى العصور الحديثة وتبدأ بنهاية العصور الوسطى حتى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، والثاني يدعى التاريخ المعاصر، ويبدأ من مطلع القرن التاسع عشر حتى أيامنا هذه.
ويعتبر المؤرخون الغربيون، ومن تابعهم من الشرقيين العصور الوسطى عصور ظلمات وجهالة وتأخر، حتى أضحت مثلا شرودا في ذلك، فإذا ما أريد غمز شيء أو عيبه قيل فيه: "أنه من بضاعة القرون الوسطى)) وإذا دققنا النظر في هذا التقسيم ألفيناه قائما على نظرة غربية بحتة، وإذا صلح فإنما يصلح لتاريخ الغرب دون التاريخ الإسلامي، ومن الظلم لحقائق العلم والتاريخ أن نعممه على التاريخ الإسلامي، ألم تر أن الإسلام قد ظهر، وأدى رسالته العظمية في هداية البشرية، وتمدينها، وآتى حضارته الفذة خلال الحقبة التي يدعونها بالقرون الوسطى، والتي ينعتونها بالنعوت المنافية تماما لما كانت عليه الحياة الإسلامية، وإن كانت مناسبة لما كانت عليه حياتهم هم.
ومن هنا بات من الواجب أن يعاد النظر في هذا التقسيم على أساس ((أكثر علمية)) وأكثر إنصافا للحقائق التاريخية، وأن يعطى الوجود التاريخي الإسلامي مكانه الطبعي الحق في التاريخ، وحين نعمد إلى تقسيم التاريخ الإسلامي ينبغي أن نبني هذا التقسيم على المراحل التي اجتازها هذا التاريخ نفسه، لا على المراحل التي مر بها تاريخ غيره، وهو التاريخ الغربي.
وقد ألفت لجنة إسلامية [32] لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي وفق مقتضيات العقيدة ومعطياتها، واقترحت تقسيم بحث التاريخ الإسلامي إلى خمس مراحل هي:
1-
مقدمات التاريخ الإسلامي.
2-
التاريخ الإسلامي على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
3-
المد الإسلامي.
4-
الانحسار الإسلامي.
5-
العالم الإسلامي اليوم.
ولا شك أن لهذا الاقتراح وجاهته ومسوغاته، وإذا كان فيه من مآخذ فإن التنفيذ الواجب على الجميع يكشفها، ويساعد على تداركها وإصلاحها..
نظرة في مصطلح ((التاريخ الإسلامي)) .
هذا المصطلح هو مصطلح جديد، يطلق على الحقبة التاريخية التي تبدأ بظهور الإسلام وتنتهي سنة 1517مـ، وهي السنة التي اجتمعت فيها سورية ومصر وما إليهما مع البلاد الإسلامية الأخرى التي كانت تابعة للدول الإسلامية العثمانية بمساعي السلطان سليم الأول [33] .
وهذا الاصطلاح ليس مسلما، بل هو موضع مناقشة، ومجال شك، ولنا أن نتساءل متى يجوز لنا أن نصف تاريخا ما بأنه إسلامي أو غير إسلامي.
ولعله من الواجب، ومن الدقة العلمية أن نقول في تاريخ ما أنه إسلامي عندما يكون ناس هذا التاريخ مسلمين، وعندما تكون الاعتبارات الإسلامية هي المهيمنة عليهم، وعندما يكون النظام العام الذي يعيشون في ظله، ويمنحونه ولاءهم عائدا إلى الإسلام، ومشتقا منه، وعندما يكون انتماؤهم –حين تترك لهم الحرية- انتماء إسلاميا
…
وهذه الشروط ما تزال متوفرة في تاريخنا حتى يوم الناس هذا، فبرغم جميع المخططات والجهود التي بذلت، ومازالت تبذل لتغيير الواقع، فإن المسلمين ما انفكوا مسلمين عقيدة وانتماءا، أملا وألما وولاء، وإن لم يكونوا من الناحية التطبيقية سواء، وكما ينبغي أن يكونوا.
وإذا تعمقنا الأحداث الكبرى التي جرت في ((تاريخنا المعاصر)) ودققنا في اكتشاف دوافعها وبواعثها وجدناها إسلامية، فمن نشوء الكيان السنوسي في ليبيا الذي أبلى بلاءه المعروف في مقارعة الاستعمار الإيطالي إلى قيام الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك عبد العزيز رحمه الله إلى الثورات التحررية في العالم الإسلامي كالثورة السورية سنة 1925، والثورة الجزائرية 1954، والحركات الاستقلالية في المغرب.. التي انتهت باستقلاله إلى نشوء دولة باكستان إلى استنهاض الزعماء مشاعر الأمة في حرب رمضان 1393هـ (تشرين الأول 1974مـ) .
فالدوافع والبواعث التي كانت تحرك الجماهير في هذه الأحداث تحريكا رئيسيا إنما كانت إسلامية.
وإذا سلمنا بسداد هذا الاصطلاح فماذا نقول في الإمبراطورية المغولية الإسلامية التي ظهرت في شبه القارة الباكندية (1526-1857مـ) والتي عرفت مثل الإمبراطور محي الدين أورنكزيب (1068-119؟ هـ-1657-1707مـ) الذي يلحقه بعضهم تديناً، وكفاية، وعزيمة، وتنظيما بالخلفاء الراشدين، بل ماذا نقول في التجديد الكبير الذي قاده المحمدان: محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر؟ أفنجعل ذلك كله خارج التاريخ الإسلامي؟!
والحق أن الإسلام ما زال أكبر محرك يستطيع أن يؤثر في سير التاريخ ((المعاصر)) في العالم الإسلامي، برغم جميع المخططات والجهود الجبارة، والتي بذلت وتبذل –كما قلنا- لإبطال فعاليته، وعلى ذلك فتاريخنا كله هو تاريخي إسلامي، ولكنه مرَّ ويمر في مراحل يقترب في بعضها من حيث التطبيق- من الإسلام، ويزور في بعضها الآخر عنه، ولكنه لا يتنقل إلى سواه البتة برغم جميع المخططات والجهود المشار إليها
…
ثم نفرض جدلا أن سنة 1517مـ أدخلت البلاد العربية في طور انتهت معه مسوغات وصف تاريخنا فيها بأنه إسلامي، فهل- يا ترى- كان لهذه السنة الأثر نفسه بالنسبة إلى العالم الإسلامي كله، أظن أن الأحداث التي أشرنا إلى بعضها آنفا تأبى ذلك، وتؤكد استمرار إسلامية تاريخنا
…
وإذن فإن الحكم على تاريخ هذه الأمة بأن ((إسلاميته)) قد انقضت بدخول العثمانيين هذه المنطقة هو حكم تعوزه مقومات الحكم العلمي السليم
…
والصواب الذي لا ريب فيه هو وجوب نسبة تاريخ أمتنا إلى مناط انتمائها وولائها، إلى مفزعها في آلامها وآمالها، إلى الإسلام، وبناء على ذلك يجب أن يقال: أن التاريخ الإسلامي بدأ بظهور الإسلام وما يزال بحمد الله مستمرا، غير أنه لابد من تقسيمه إلى مراحل على نحو ما ذكرنا من اقتراح اللجنة التي ألمعنا إليها
…
والخلاصة أن التاريخ علم جليل، يتناول بالبحث- كما قلنا- مختلف الوقائع والكوائن، ومختلف ألوان النشاط البشري التي تحدث على مسرح الحياة، ولا يقف بحثه إياها عند رواية أخبارها، بل يشمل تحديد زمان وقوعها، والوقوف على الروابط الظاهرة والخفية التي تنتظم شتاتها، وبيان كيفية وقوعها، وأسبابه ونتائجه وأثره في حياة الإنسان فردا أو جماعة، حالا أو مالا.
والتاريخ حكمة في فحواه، علم في منهج بحثه، وفي وقوع حوادثه حسب سنن إلهية لا تبديل لها ولا تحويل، أدب أو فن في إمتاعه العواطف البشرية ومناغاتها ومبلغ تأثيره فيها
…
وهو ذو فوائد عظيمة جعلت منه علم رجل الدولة، وعلم رجل الدعوة، وعلم رجل التربية، وعلم رجل الإدارة، بل علم كل ذي مسؤولية ذات بال.
والتاريخ الإسلامي هو ثمرة العقيدة الإسلامية بكل خصائصها ومقوماتها وإشعاعاتها وقدرتها على صياغة الإنسان والمجتمع صياغة متميزة متفوقة، ولا تستقيم دراسته ولا كتابته، كما لا يستقيم تعليله إلا من خلال هذه العقيدة ذاتها
…
وهذه النقطة هي محور الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين الذين يريدون تقسيم تاريخنا وتعليله على أسس تنافي جوهره وطبيعته الذاتية
…
وأنا لا ألومهم بمقدار ما ألوم الإسلاميين الذين طالما أغمضوا العين عن العناية الجادة بالتاريخ هذه المادة التوجيهية العظيمة الفعالة، ولكن ما يزال هناك مجال للاستدراك.
لقد آن الأوان لأن ننظر إلى التاريخ النظرة الجدية التي يستحقها، وأن نؤمن بأنه ليس مجرد حكايات كحكايات العجائز في ليالي الشتاء الطويلة!!
هذا ولا بد لمن يريد الاشتغال بالتأريخ من أن تتوفر فيه مؤهلات هامة فطرية وكسبية، أشرنا إليها فيما سلف
…
إن تاريخنا الإسلامي يحتاج إلى كتابة جديدة، وتفسير جديد في ضوء العقيدة الإسلامية كما جاءت في الكتاب والسنة، وكما تحققت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وحياة أصحابه، وفي العهود التالية المتفرقة التي ائتمت بهاتين الحياتين المثاليتين، كعهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله
…
بحيث تكون هذه الكتابة، وهذا التفسير متحررين من الأفكار المبترة، ومن الاتجاهات التي يريد الآخرون أن يفرضونها عليه لتحريف ((الشخصية الإسلامية)) ، وتفريغها من محتواها الأصيل
…
لقد أورثتنا جهود سلفنا في حقل التاريخ ثورة علمية تاريخية لا أحسب أن أمة من الأمم الأخرى في القديم أو الحديث قد حظيت بمثلها.. والواجب علينا الآن أن نكمل جهود ذلكم السلف البر العظيم، فنخدم تاريخنا خدمة جادة حسب الظروف والمقتضيات التي تواجهنا.
وهناك نواح أخرى في موضوعنا، ما تزال حقيقة بأن ينظر إليها، وبأن تلمس اللمسات المناسبة، ولكن ضيق الوقت حال دون ذلك، وعسى أن يتاح لنا الوقت المناسب في المستقبل.
وإنا لنرجو ونتوقع أن يكون هذه الدولة التي يرفرف علمها بكلمة التوحيد أثرها الخالد في خدمة التاريخ الذي انبثق من كلمة التوحيد، كما نرجو ونتوقع أن يكون لمؤسساتنا العلمية من جامعات وغيرها دورها التاريخي في هذا المجال
…
على أننا ننيط بجامعتنا الإسلامية العتيدة أكبر الرجاء ونحملها أضخم المسؤوليات في هذا الشأن وأنها لذلك لأهل إن شاء الله.
على قدر أهل العزم يأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
والله سبحانه هو المدعو أن يشد العزائم، ويعلي الهمم إلى مستوى المسؤوليات، ويعين على وضوح الرؤية، ويهدي القافلة إلى السير على طريق رشيد هادف، كما أنه هو المدعو أن يتقبل عمل العالمين المخلصين.
والحمد لله أولا وآخرا
…
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
انظر: السخاوي: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 25، ومحمد عبد الغني حسين علم التاريخ عند العرب ص 12.
[2]
نعتقد أن أحسن ما يجب أن يعتنى به ويلم بجانبه بعد الكتاب والسنة هو العلوم التي تقتضيها مصلحة الدعوة وأمتها في ضوء الظروف والأحوال المواجهة، ويبدو أنه كان من مصلحة الدعوة وأمتها منذ قرون أن يعطي المسلمون بعد فقه الكتاب والسنة وبعد العلوم الضرورية له عناية كافية لما نسميه اليوم بالعلوم كالرياضيات والكيمياء والفيزياء..الخ، أنها علوم أساسية في الحياة، وإن تفوق الأعداء علينا في هذه الحقبة من التاريخ يرجع إلى حد بعيد إلى عنايتهم بها، وتفوقهم فيها، والله أعلم.
[3]
ابن منظور لسان العرب ج 3 مادة ((أرّخ)) .
[4]
سيد عبد العزيز سالم، التاريخ والمؤرخون العرب ص 18.
[5]
سورة الحجرات 13.
[6]
ابن تيمية، كتاب الزيارة من الجامع الفريد ص 419.
[7]
المقدمة ص 3 طبعة المكتبة التجارية الكبرى القاهرة.
[8]
الحكمة علم بأعيان الموجودات وأحوالها على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية
…
ومن علوم الحكمة علم الأخلاق، وعلم تدبير المنزل، وعلم السياسة المدنية، وعلم الجبر والمقابلة، وعلم الطب، وعلم الكيمياء، وعلم الفلاحة (محمد علي التهانوي موسوعة اصطلاحات العلوم ج1 ص 37، 49، 41، 43) .
[9]
هذا النص منقول من ((فرانز روز نثال)) علم التاريخ عند المسلمين ص 327.
[10]
السخاوي الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 7 ط القدس 1349هـ.
[11]
مجلة المجتمع العدد 228، 19 ذي الحجة 1394 ص 26 و 30.
[12]
ص 32 ترجمة زهير فتح الله بيروت 1958.
[13]
ديكارت فيلسوف فرنسي اشتهر بكتابة ((مقالة الطريقة)) الذي كان له الأثر البليغ في الفكر الغربي، وفيه مبدؤه المعروف ((أنا أفكر إذن أنا موجود)) ، وهو مصدر الفلسفة الحديثة. (فرديناند توتل، المنجد في الأدب والعلوم ص 205) .
[14]
ع – حمادة، الشرق والغرب ص: ز
[15]
ع – حمادة، المرجع السابق ص: د - ز
[16]
حسن عثمان منهج البحث التاريخي ص 3.
[17]
الكامل في التاريخ ج 1 ص 7 ط بيروت 1385هـ – 1965م.
[18]
أحمد فريد الرفاعي عصر المأمون ج 1 ص 98-99.
[19]
السخاوي الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 43.
[20]
الجامع الفريد كتاب الزيارات ص 454.
[21]
بل إنها الحقبة التاريخية المثلى في التاريخ كله، ماضيه وحاضره، ومستقبله (د. د.) .
[22]
يذهب العالم المربي الانجليزي ج بريستل J.BRIECTLY (1733-1804) إلى أن التاريخ هو المادة الضرورية لإعداد كل مواطن يمتاز بوعي اجتماعي، وكان بريستلي هذا إلى عنايته بالتربية من العلماء المكتشفين، فهو الذي اكتشف غاز الأوكسجين وغيره من الغازات، وكان واسع الثقافة، يحاضر في اللاتينية والإغريقية، والإفرنسية، والإيطالية، نشر خريطتين زمانيتين، إحداها للسير، والأخرى للتاريخ، وهو من الخارجين على الكنيسة الإنجليزية المعروفين باسم
non conformists، ولو كتب له ولأمثاله أن ينشؤوا في كنف الإسلام الصافي الأصيل لألفوا فيه رعاية وتشجيعا يغنيانهم عن مثل الخروج الذي خرجوه على الكنيسة.
[23]
سورة هود 120.
[24]
أغفلنا اسمه إيثارا للموضوعية دون الشخصانية.
[25]
الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 44-45.
[26]
سورة الحجرات 13.
[27]
أرى أن تدريس هذا العلم في أقسام التاريخ ولاسيما الإسلامي في الجامعات على اختلاف ألوانها أمر أساسي لا تكتمل دراسة هذه المادة دونه (د. د) .
[28]
الزكانة: الفراسة، وأن يظن الشخص فيصيب.
[29]
المقدمة ص 28 ط المكتبة التجارية الكبرى القاهرة.
[30]
والمصادر الأخرى كالإجماع والقياس يعود اعتبارها إلى هذين المصدرين: الكتاب والسنة.
[31]
أقدم كتابة نعرفها حتى الآن هي الكتابة المصرية القديمة، وقد عرفت بعد اكتشاف حجر رشيد، وقراءة رموزه، وقد اكتشف هذا الحجر سنة 1789م (محمد مبروك نافع، عصر ما قبل الإسلام ص 1) ..
[32]
أعضاء هذه اللجنة هم: الشيخ صادق عرجون، والدكتور محمد يوسف موسى، والدكتور عبد الحميد يونس، والدكتور محمد النجار، وسيد قطب، ومحي الدين الخطيب، وأبو الحسن الندوي، وقد انتقل بعض أعضاء هذه اللجنة إلى رحمة الله.
[33]
كان السلطان سليم (1512-1520) من عباقرة الحكام، وقد أراد تعريب المملكة العثمانية كلها، واستبدال اللغة العربية باللغة التركية وغيرها من اللغات المعروفة في تلك المملكة، وأحسب أنه لو طال حكمه لنفذ فكرته هذه، لأنه كان في توقد ذهنه، ومضاء عزمه شيئا عجبا، يضاف إلى ذلك أنه كان شاعرا بالعربية، ولما دخل سورية ومر في حماة نزل في دار آل الكيلاني، وقد أطربه مناخ حماة، وأعجبه ما كان عليه الكيلانيون من الوهاجة والكرم، فانطلق لسانه بهذين البيتين:
أرى من دونه السبع الطباقا
بني كيلان هنئتم بعيش
كشرف بالجوار حلا وراقا
أطاع لديكم العاصي ولما
والعاصي هو النهر المعروف الذي يمر في حماه، وفي ذلك تورية لطيفة..
رسالة الجامعة السعودية نحو اللغة العربية والثقافية والإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
بحث قدمته الجامعة الإسلامية إلى مؤتمر رسالة الجامعة المنعقد بجامعة الرياض
الحمد لله الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، الذي شرفه بخاتم رسالاته المنزلة بلسان عربي مبين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
القرآن والعرب:
المبدأ الذي لا ينبغي الاختلاف عليه هو أن العرب في استمرار وجودهم كأمة متميزة بخصائصها وقيمها ولغتها، مدينون للقرآن العظيم.. إذ هو الذي صان لهم كيانهم على الرغم من كل العقبات التي اعترضت مسيرتهم التاريخية حتى الساعة.
لقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن خاتم كتب الله والعرب قبائل متمايزة لا تدين واحدة لأخرى وقد تفرقت بها المنازل، فلا تلتقي إلا على غزو أو ثأر، أو حلف لهما وبذلك تشقق لسانها حتى كاد يستحيل لغات مستقلة، لولا أثارة من روابط احتفظت بها الأسواق والمواسم إلى حد غير قابل للاستمرار، فبنزول القرآن واندماج العرب في الإسلام تمت لهذه الوحدات المتفرقة شروط التوحد، إذ وجدت نفسها مشدودة إلى وحدة البيان بالتزامها سبيل الوحي، الذي لا سبيل إلى فهمه وتحقيق دعوته إلا عن طريق هذه اللغة التي شرفها الله بالرسالة الخاتمة.
واستهوت بلاغة الكتاب الحكيم نفوس العرب الذين استولى عليهم سحر الكلمة إذ واجههم بما لم يألفوه في سوامق بيانهم من روائع المعاني، وبدائع الصياغات، فاستهانوا بأساليبهم بجانب أسلوبه الأعلى واستخفوا خطراتهم الفكرية بإزاء علومه الشاملة.. فإذا هم يقبلون عليه حفظا ودرسا، ويتنافسون في استيحائه نثرا ونظما وسلوكا.. وبذلك تفتت حواجز الفروق اللغوية والاجتماعية بين هاتيك الفرق، ثم ما لبثت أن انتهت إلى الانسجام الذي جعل منها خير أمة أخرجت للناس.. ومن هنا كان عظم فضل القرآن على العرب والعربية إذ نقل لهجاتهم من قيود الوحدات المحلية إلى آفاق اللغات العالمية، وأحال كياناتهم القبلية وحدة اجتماعية متكاملة لها أقوى ما لأعظم الأمم من وشائج القربى والاستمرار.
أثر اللغة في مصاير الأمم:
كان مستحيلا على تلك القبائل ذات الخصائص المستقلة سياسيا واقتصاديا ودينيا أيضا أن تحتفظ ببقائها في عزلة عن مسيرة الركب البشري، إذ يستحيل البقاء لأسباب هذه العزلة في عالم متغير، تتطور فيه كل يوم أساليب المواصلات وتضيق مساحات الأرض حتى تقترب كل مجموعة سكانية من الأخرى بحيث تصبح أخيرا وكأنها منطقة واحدة ضيقة لا سبيل معها لواحدة إلى مقاطعة الأخرى، فالصحاري التي صدت من قبل جحافل الإسكندر عن غزو الجزيرة لم تعد شيئا مذكورا أمام البوينغ وسفن الفضاء ومراكز الإرسال الفضائية، وعشرات الوسائل الأخرى المحطمة لحواجز الفرقة البشرية والعزلة القبلية
…
وهذا يعني أنه يستحيل في ظل مثل هذه التطورات أن تظل القبائل العربية محصنة ضد الذوبان في الأجناس الأكثر قوة.. لأن اللغة التي هي ملاك هذه الحصانة ستكون خاضعة لقوانين التغير، حتى تتركز عوامل الفصل ما بين حدود اللهجات بصورة نهائية، فتكون كل لهجة أمة متمايزة، كالذي حدث للغة السامية إذ أدى بها تنائي المنازل وتباعد الزمن إلى الانفصام فالتعدد، حتى كانت اللغة لغات، وحتى بات الناطق بالعبرية لا يفقه من العربية شيئا، وكذلك الأرامي والحبشي والبابلي وسائر الفروع المنحدرات من الأصل الواحد.
ولو نحن رحنا نتقصى مسارب التطور اللغوي وما استتبع من الانفصام القومي لرأينا ذلك القانون هو الحاكم الحاسم في تمايز الشعوب وتكوّن الأمم، وهل كان الناس في أصولهم البعيدة سوى أمة واحدة، ذات لغة واحدة، فجرفتها سيول التطور حتى صارت أمما ولغات تتعدى الإحصاء.. وأقرب الأمثلة على ذلك الأمم التي يلفها حزام الشرق الأقصى، ومثلها المتفرعات من الأصل اللاتيني في أوروبة حيث تمخضت الأمة فنتجت أمما لا يفهم بعضها عن بعض إلا بترجمان
…
ولا جرم أن العرب هم الأمة المتميزة التي استعصت على هذا القانون، فاحتفظت بوحدتها وخصائصها وتصوراتها على الرغم من عشرات العوامل التي اعترضتها وكانت حرية بتمزيق الأمم مهما بلغت مقوماتها من المناعة.. وإنما مرد ذلك الامتياز إلى القرآن الذي بحفظه لغة الأمة حفظ وجودها فاستعلت على الذوبان في غيرها من الأمم واللغات.. وهي ميزة لم تتح لِلَاّتين ولا لسواهم، إذ لم يكن لهم الكتاب المقدس الذي يجمع الأشتات على الوحدة، فتمزقت أمتهم أمما على الرغم من وحدة الدين وتقارب المصالح فيما بين أجزائها.. على حين قيض القرآن لهذه اللغة مجالا للنمو البشري ما كان ليتصور لولا أثره إذ اجتذبت لغته شعوبا، دخلت العروبة بمجرد اعتناقها الإسلام، فنسيت لغتها الأم على الزمن، مؤثرة عليها لغة الكتاب الذي آثرت هدايته ولغته على كل شيء آخر
…
العربية والإسلام:
ومن هنا كان التلازم قائما إلى الأبد بين العربية والإسلام حتى ليعتبر المسلم الأعجمي هذه العربية لغته الأولى، فيحاول إتقانها ويعتز بإجادتها، لأنها اللغة التي تكلم بها الله في آخر رسالاته المقدسة.. وقد يتساهل في لغته القومية دون غضاضة، ولكنه لا يسمح لنفسه بالتساهل في العربية لغة أدبه ودينه وشريعته.. وبسبب من ذلك تماسكت لغة القرآن فاحتفظت بحيويتها وطلاقتها في أقطار غير عربية، في حين جمدت حتى الخمود في الأقطار العربية نفسها أثناء الفترة التي سبقت عصر النهضة الحديثة.
فبالقرآن إذن صار العرب أمة مميزة، وبالقرآن دخلوا أبواب التاريخ، لا عالة يتكففون كما يحلو لبعض الملاحدة المعاصرين أن يزعموا، بل كما يدخل فريق الإسعاف الصحي بمجالات الوباء، أو كما تقتحم وحدات الإطفاء مناطق الحريق، تحمل إلى المنكوبين أسباب العافية والأمن.
وعلى هذا فمن أوليات الوفاء لهذا الكتاب العزيز أن يعرف العرب حقه، فيصونوا لغته ويلتزموا منهجه في حياتهم كلها، ليظلوا الطاقة البناءة في كيان هذه الإنسانية المهددة كأمسها بالخراب والشقاء..
خصائص العربية في التفوق:
ولأمر عظيم شاءه الله تبارك وتعالى كان للعربية خصائصها المتفوقة التي تجعلها أصلح اللغات للاستجابة إلى حاجات الحضارة، فكأن السنن الكونية جمعاء كانت متجمعة تحت بصر أهلها الأولين، فلم يعجزهم أن يضعوا لكل ظاهرة رمزها المميز المرن، الذي يتابع تحرك الحياة فلا يتخلف عنه ولا يضيق به.. فبالنحت والاشتقاق والاصطلاح والتعريب والمجاز تمددت هذه اللغة من نطاقها الصحراوي المحدود إلى منطلق العالمية، فلم تعي بعلم، ولم تعجز بإزاء فن، ولم تستغلق أمام فلسفة وبذلك تركت بصماتها بارزة غالبة على مقومات الحضارة كلها، فلا علم يزهو به هذا العصر إلا وللعربية فيه الأثر الدال على جلالها، الذي يتضاءل بجانب ضوئه كل جلال، سواء في ذلك خطرات الوجدان وما عملته اليدان، أو ما تكشف للإنسان الحديث من أسرار الكون.
ولا مندوحة عن القطع بأن الذي وهب للعربية خصائص القابلية للنماء إنما هيأها بذلك لاحتواء المعاني الكلية التي ادخرها للرسالة الخاتمة، فكانت لها القوة الدافعة لاستيعابها كل معطيات الحضارة دون استثناء.
الإسلام مفجر المواهب:
وقد اتضح لكل ذي عينين أن الإسلام هو الذي فجر طاقات العرب فانصرفوا إلى الاهتمام بالكون علوا وسفلا، وانطلقوا يبحثون ويكتشفون ويصححون مناهج السابقين، تحقيقا للوعد الإلهي بالاستخلاف في الأرض، وتوجيه الفكر البشري إلى الحق والانسجام مع قوانين الكون، الذي أنبأهم كتاب ربهم أنه مخلوق لمصلحتهم مسخرا لمنفعتهم.. لقيموا في أكنافه ملكوت العلم الذي ميز به بنو آدم.. ومن هنا جاء التحرك الجديد لمواهب الإنسان، إذ أخذت طريقها للانطلاق وراء الحقائق الكونية في منجاة من قيود الكهنوت الذي أقام نفسه وصيا على العقل البشري طوال حقب التاريخ السابق للبعثة النبوية، واستجابت لغة القرآن للدوافع الجديدة إذ برزت عبقريتها في الانتفاع بكل ما انتهى إليه البحث والكشف والاقتباس، فلم تضق ذرعا بأي مفهوم ولم تقصر يدا عن أي معلوم.. بل أمدت الفكر الإسلامي بكل ما أعانه على النماء في جو من التعاون المتكامل بين مختلف روافد الثقافة الدافقة، وهكذا تسنمت العربية عرش التفوق العالمي، حتى باتت لغة العلم والأدب، يشرف بمعرفتها أساطين الفكر على اختلاف مشاربهم وأديانهم وجنسياتهم.. وحتى راح القسس ينعون لغة اللاتين لما واجهوه من إقبال شباب أوروبة على العربية، وتنافسهم في إتقانها، إيمانا منهم بأنها لغة الجنس الممتاز.. تماما كما يفعل اليوم الكثيرون من الناشئين على فتات الغرب، إذ يرفعون عقائرهم بإكبار لغاته وإصغار لغتهم، حتى يكادوا ينكرون عليها كل فضيلة.. وإن براهين ذلك الماضي لماثلة في الكثير من صنائع الغرب وعلومه، شاهدة على هذه الحقيقة بالمصطلحات العربية الناطقة بعظمتها، المؤكدة أنها على أتم الاستعداد لاستئناف مسيرتها الصاعدة في خدمة الحضارة، إذا وجدت من أبنائها العناية التي تشق لها سبيل النهوض.
العربية وأعداؤها:
ولقد فطن أعداء هذه الأمة إلى الرباط الوثيق بين العربية والإسلام.. فلما يئسوا من إمكان التغلب على دين الله في مواجهة مكشوفة عمدوا لتحقيق مآربهم إلى تفكيك العربية، ففي المناطق التي غلبوا عليها من وطن الإسلام لجئوا إلى تعطيل الدراسة العربية أو تعويقها، فألغوها نهائيا من أوساط الحكم، وأحلوا مكانها لغاتهم، ثم التفتوا إلى الحرف العربي فنفوه من ميدان التعامل، وأقروا محله الحرف اللاتيني في كل قطر تمكنوا من إخضاعه لإرادتهم في هذا الميدان.. فبعد أن كان الحرف العربي هو أداة التسجيل لثقافات الشعوب الإسلامية جميعا تقلص عن معظم أقطارها، كما حدث لأندونسية وتركية، والدول الناطقة بالفرنسية والانجليزية من إفريقية، ولا تزال الجزائر تتخبط في بحران من الاضطراب بين الحرف العربي والحرف اللاتيني بل بين العربية نفسها والفرنسية التي لا تزال تأوي إلى أنصار كبار وكثار من أبناء المسلمين الذين يرفضون العودة إلى لغة القرآن في الجزائر والمغرب ويتشبثون بتلابيب اللغة الغازية على اعتبار أنها بنظرهم الأداة الوحيدة لاستمرار اتصالهم بالحضارة.
ومما يدعو إلى الكثير من الأسى أن دعاة الأجنبية في الشمال الإفريقي من موريتانية إلى تونس يتنافسون عامدين أو غافلين فضل لغة القرآن في صون شعوبهم من الذوبان أمام موجة الغزو التي بلغت من الشراسة أقصى ما يتصور الخيال، وكان عليهم لو أنصفوا أنفسهم وهويتهم أن يجاهدوا ليل نهار لتثبيت سلطان العربية في كل مجال، حتى تسترد قدرتها على تحقيق حاجاتهم الحضارية جميعا، فيتاح لهم أن يتحرروا من اللغة التي تتجسد فيها ذكريات الهوان والرزايا والمجازر التي عاشوا في غمرتها الحقب الطوال.
بعض مؤامراتهم:
وبديهي أن أولئك المستغربين الذين يتشبثون بلغة المستعمر ويؤثرونها على لغة أمتهم، إنما يفعلون ذلك بدافع من مركب النقص الذي يعانونه بسبب جهلهم للغة الضاد، ثم لسبب أهم وهو انطباعهم بأسلوب التفكير الدخيل الذي تفرضه تلك اللغة الغربية، ذلك لأن اللغة ليست أداة تخاطب وتعبير فقط، بل هي إلى هذا عملية تصور نفسي ومنهج تفكير عقلي، فنشوء النفس في ظل لغة ما صائر بها إلى التفاعل مع مؤثراتها الخاصة، حتى لا تكاد تتذوق سواها إلا في كثير من التكلف.. وما دام القوم قد عاشوا لغة أعدائهم حتى خالطت جوارحهم وطبعت مشاعرهم دون أن يتزودوا من بيان العربية بما يحصنهم من الذوبان في غيرها، فعسير عليهم إن لم يكن مستحيلا أن يتخلصوا من إيحائها، لأن ذلك يكلفهم ما لا طاقة لهم به.
وقد شجع انحراف هؤلاء أخيرا حكومتي الصومال وماليزية، فإذا هما تقتحمان العقبة وتنبذان الحرف العربي، في الوقت الذي لا تنفكان تتحدثان فيه عن الإسلام بكل مناسبة، وتحضران المؤتمرات الإسلامية دون أن تريا في ذلك أي تناقض مع هذا الجفاء الخطير لآخر العلائق الأخوية بين بلادهما ولغة القرآن.. ولم تكن الهجمة على العربية مقصورة على جبهة دون أخرى.. بل كانت من الأحكام بحيث ألفت سلسلة متصلة الحلقات لا تسكت قذائفها من جانب حتى تنطلق من جوانب..
وليست الدعوة إلى أقلمة اللغة في البلاد العربية نفسها باستعمال العامية مكان الفصحى في نطاق الأدب إلا وجها من هذه المعارك التي لم تخمد.. وهكذا القول في الدعوة إلى تيسير القواعد بمسخها، وتغيير المألوف على القرون من مصطلحاتها إنما هو واحد من عشرات الذرائع لقطع صلة الأجيال العربية بماضيها المشرق كي تجد نفسها أخيرا كفقاع القاع لا يربطها بأصولها رباط من تفكير أو تصور أو منهاج.. ومثل هذا وذاك ما تثيره عصائب المضللين من المتنكرين لقيم العربية من حملات تستهدف تشويه الأدب العربي، والتهوين من شأنه بإزاء الآداب الأجنبية، التي لا ينفكون يضخمونها بمختلف وسائل التضخيم والتعظيم
…
وظلم ذوي القربى:
ومن المحزن المزعج أن تسري عدوى الاستخفاف بالعربية إلى أوساط دارسيها ومدرسيها.. حتى نرى أوفر الناس علما بها أكثرهم تهاونا بإعزازها.. حتى لا يسمحون لأنفسهم باستعمالها خارج حدود الكتابة أو الخطابة.. وفي ما عدا ذلك فهم أكبر مروجي السوقية حتى في حلبات الدرس، حيث يتوقع منهم التزام جانبها، لا يكادون يلجئون إليها إلا بعد تنبيه قد يصل إلى حدود الشكوى.. ولا أكشف سترا إذا قلت إن طلابا من مسلمي الأعاجم يفدون إلى البلاد العربية لاكتساب ملكة اللغة، فيفاجئون بخيبة لاذعة، إذ يجدون أنفسهم بإزاء مدرسين لا يحترمون لغة قرآنهم، بل كل منهم يلوذ بسوقيته فيفسر ويشرح ويقدم بها حتى دروس القواعد العربية.. ومهما أَنس لا أنس يوم لقيت طالبا ثانويا من أبناء أحدهم فسألته عن صحة والده وعن اختباره فلم يفهم مني حرفا لأني كنت أكلمه بلغة العرب.. ومن طريف الأحداث كذلك أن طالبا أعجميا وفد إلى إحدى الجامعات العربية لاستكمال دراسته بلغة القرآن فإذا هو بمدرسين لا يكادون يعرجون عليها، ولا يكاد يفهم منهم، فراح يستوضح عن كل كلمة يعجز عن فهمها حتى تبين أخيرا أن اللغو الذي يسمعه ليس من العربية، فاضطر إلى تذكيرهم بأنه لم يهاجر من بلاده القاصية ليتعلم غير اللغة التي تعينه على فهم كلام الله وكلام رسوله
…
ومع أن تذكيره لم يذهب سدى إلا أنه ظل مضطرا إلى تكراره بين الحين والحين، لأن لسان هؤلاء المدرسين قد طبع على العامية فلا يكاد يستطيع مفارقتها إلى الفصحى.. ولعل شيئا من هذا قد حدث لطه حسين أثناء دراسته الأزهرية فدفعه إلى القول بأن الأزهريين لا يحترمون لغة القرآن حتى في تدريسهم للقرآن.. وهو تعميم مسرف لا ينطبق على الواقع كله ولله الحمد.
وتذكرني هذه المفارقات بطرفة أخرى ذلك أن مؤتمر وزراء التعليم العرب عقد في أحد مصايف لبنان الشمالي في مطلع أيام جامعة الدول العربية فراح كل منهم يرطن بسوقيته فلا يفهم أحد عن أحد.. حتى تذكروا أن لديهم لغة كريمة تستطيع إنقاذ الموقف.
العربية ووسائل التعليم:
وحتى وسائل الإعلام من صحف وإذاعة وتلفزة وهي التي كان بوسعها تدارك الكثير مما فات والقضاء على الكثير من الآفات قد أسهمت إلى حد كبير في إيذاء العربية، والترويج لأفكار أعدائها.. ولو تتبعنا برامج الإذاعة والتلفزة في معظم الربوع العربية لوجدنا نسبة ما تبثه باللغات السوقية يزيد كثيرا على ما يقابله بالفصحى.. ونشير من ذلك بخاصة إلى التمثيليات الشعبية التي تقدم باللهجات المحلية، وإلى الأغاني التي يندر فيها الفصيح، فضلا عما تحتويه من معان توافه تفسد الذوق العام وتسمم الضمير العربي حتى تجعله مستعدا للاستخفاف بكل القيم الفاضلة.
وكثيرون يذكرون مثلي تلك المقالة التي تصدرت ذات يوم إحدى كبريات المجلات الصادرة في بلاد العرب يتحدى بها كاتبها الشهير لغة العرب، إذ ينبزها بالعجز عن مجاراة التطور، بدليل أنه لا يستطيع أن يجد فيها اسما لكل جزء من سيارته الفارهة.. وما أحسب الرجل إلا مدركا مقدار المغالطة في تهمته، لأن المفروض بمثله العلم بأن حيوية كل لغة نابعة من حيوية أهلها.. فإذا جمدوا على أعتاب التخلف لم يطلب إليها أن تسبقهم إلى الأعلى.. ولقد كان الأحرى به أن يعمل قلمه في إلهاب المشاعر لمسابقة الزمن في إعمال المواهب المعطلة المحبوسة في معتقلات التقليد، لتستعيد مكانتها في موكب الحضارة ولتنقلب من محض مستهلك إلى منتج، يقدم للناس مصنوعاته الناجحة مغلفة بطابعه حاملة سماته مسماة بلغته.
ولعمر الله لا يرمي العربية بالعجز لسبب من ذلك إلا جاهل لا يفرق بين الأصل والفرع، ولا يحسن تجاوز الظواهر إلا ما وراءها، أو مدخول النية لا يقصد إلى غير التضليل.
العرب المقصرون لا العربية:
لقد أثبتت العربية قدرتها الخارقة على الاستجابة لكل طارئ مهما دق وأمعن في الخفاء.. وحسبها حجة على ذلك اتساعها لكلمات الله التي تنفذ دونها البحار، ثم استجابتها لدواعي المدنية التي أظلت نصف البسيطة، واستوعبت كل مفهومات الأمم التي اختزنت تراث الإنسانية في ميادين المعرفة السابقة للإسلام.. فإذا تعثر أهلها فيما بعد حتى وقفوا عند حدود الاجترار لما ورثوا كان ظلما أي ظلم أن تتهم العربية بالعقم لأن مثلهم ومثلها كشأن إنسان يملك الملايين ولكنه لا يستعمل منها سوى القروش، على حين نرى فقيرا إلى جانبه لا يملك سوى القروش، ولكنه بنشاطه وخبرته يحرك بها السوق..
فمن المسئول عن تعطيل الملايين، وإلى من يعود الفضل في تحريك القروش وتمكينها من التأثير الكبير؟ أجل.. إن مظاهر القصور في لغتنا ليس إلا توكيدا للقصور في نشاطنا.
وأول سؤال يتبادر إلى الذهن بإزاء هذا الواقع الكئيب هو على من تقع تبعة هذا التخلف العقلي والعملي؟.. وما السبيل إلى تداركه وتحويله؟..
وهنا نتذكر التقويم الفكري الذي صوره الكاتب الإسلامي الكبير المرحوم مالك ابن نبي بما مؤداه: إننا أمة خرجت من الحضارة.. وبهرها تقدم عدوها، فلم تفعل شيئا سوى الإعجاب بمصنوعاته ثم الخضوع لكل مؤشراته..
ولا جرم أن الخلاص من هذا الوضع الشاذ يقتضي أن نستعيد الإحساس بذاتنا أولا، فندرك واقعنا ثم نتعاون على تغييره بالارتفاع إلى مستوى المسئولية، ويومئذ فقط سنعرف أن الخطوة الأولى لتصحيح مسيرتنا تبدأ من دائرة الاكتفاء الذاتي.. الاكتفاء أولا بمعطيات الرسالة التي مكنت لسلفنا الصالح من ناصية الأرض، إذ كونت من خامات الجاهلية المعطلة خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف الذي يضيء للإنسانية الحائرة مسالك النجاة، وتنهى عن المنكر الذي يتمثل في كل زيغ يدفع بأصحابه إلى الهاوية
…
وبذلك يتاح لنا أن نتحرر من دوامة الضياع التي أغرقتنا بدعوات تتكشف كل يوم عن ضلال جديد
…
وهناك فقط نشعر أننا استعدنا مكاننا المفقود
…
فعدنا إلى صفوف القادة بعد التيه الطويل في صحراء التبعية، ثم الاكتفاء ثانيا بمقدرتنا على إنتاج الحاجات التي تتطلبها دواعي الحضارة التي لا حياة لأمة بدونها، وهي أحد الأهداف المنشودة من الرسالة الإلهية التي تقرر في أصولها الكبرى أن كل شيء في هذا الكون مسخر لمصلحة الإنسان، وكلا الأمرين على جلاله في متناول الإرادة لو استطعنا تحريرها من مركب النقص الذي ساقتنا إليه أحداث لم نكن بالخليين من تبعاتها
…
مخططات للتدمير:
ولكن
…
من الذي سيتولى قيادة الأمة إلى الاكتفاء الذاتي في نطاق القيم والإنتاج!..
قبل أيام سمعت من بعض الإذاعات العالمية الخبر التالي: ((لقد تبين أن مئات الملايين من قروض حصل عليها أحد الأقطار العربية منذ سنوات لم يستعمل منها للمصالح التي تم من أجلها الاقتراض سوى النزر.. والتحقيق جار لمعرفة الأسباب
…
وقد يكشف التحقيق عن أن ثمة تواطؤا مع تجار السوق السوداء هو الذي قضى بتعطيل هذه المئات من الملايين عن القيام بمهمتها
…
هذا الخبر ذكرني بمثل له نشرته صحف ذلك البلد من قبل، وخلاصته أن عشرات البعثات الدراسية التي وجهت إلى الغرب، قد خصص خمس بالمائة منها للعلوم العملية كالطب والهندسة والتكنولوجية، ووزعت الأخريات كلها على العلوم النظرية والفنية وما يسمى بالعلوم الإنسانية! ..
وتقول هذه الصحف إن عشرات الآلاف من الطالبات لم تتسع لهن جامعات القطر، فأحيل معظمهن إلى إلى معاهد لتخريج السكرتيرات! وما ندري كم هؤلاء الفتيات قد ألحقن بمعاهد الرقص والفنون الترفيهية!.. ولا غرو فهناك معهد لرقص الباليه يحمل المتخرج فيه شهادة البكالوريوس [1] ومعاهد للفنون والموسيقى على هذا المستوى أيضا.. وقبل ذلك احتفت بعض الصحف العربية بفتى يماني حصل على دكتوراه في الغناء الصنعاني
…
الذي لم يعد لليمن من حاجة إلى غيره لاستكمال بنيانها المتهدم!..
ما أحسب مفكرا يتردد في الحكم بأن تصرفا كهذا يتوقف عليه مصير الأمة لا يمكن أن يحدث اعتباطا ودون تخطيط يقصد به إلى استبقائها في هوة التخلف، ومع ذلك نتساءل: لماذا نظل حيث نحن نراوح مكاننا، ولماذا تظل لغتنا مقصرة عن اللحاق بعالم الإبداعات الذي لم ندخل أبوابه بعد!..
فمن الذي حال حتى اليوم بيننا وبين التقدم الصحيح؟!.
ومن الذي منعنا حتى الساعة من إقامة المصانع الكبرى، ونحن الذين لا نعلم سبيلا لتشغيل فوائض أموالنا إلا عن طريق أعدائنا!.. ولا نعرف طريقا للانتفاع من خاماتنا المستوعبة لكل حاجات الصناعات إلا تسليمها بأرخص الأثمان لأولئك الذين يبيعوننا إياها مع أسمائها الأعجمية الجديدة بأرفع الأثمان! من وراء هذا التصرف الأحمق؟
…
من وراء هذا التخطيط المدمر!..
فوضى لابد من تداركها:
كنت مكبا على كتابة هذا البحث عندما سمعت من الإذاعات أنباء الخطوات الجديدة التي شرعت بها هذه المملكة الغالية في طريق التصنيع، الذي قررت أن تقيمه على أرقى الأصول التكنولوجية.. وقد عودتنا هذه المملكة أن للكلمة عندها مضمونها العملي الحتم.. ومعنى هذا أننا بإزاء مرحلة تحولية هامة لا مفر من أن تؤثر على الكثير من جوانب الحياة في هذا المجتمع
…
وهي إما أن تنطلق على عفويتها فلا تستقيم على الجادة، فتجر الخير مع الشر، وتعمل في الهدم والبناء على غير هدى.. وإما أن يرسم لها المخطط السليم فتكون مسيرتها على هديه بحيث تكون خيرا لا شر معه إن شاء الله.. ولكن
…
من الذي سيضع للغد القريب هذا التخطيط النجيب!..
إن المرحلة التاريخية القادمة ستحمل في طواياها مصانع ومعامل وفيوضا من الإنتاج الراقي
…
فمن الذي سيضع لهذه المصانع نظمها الاجتماعية؟.. ومن الذي سيمد منتجاتها بالمسميات العربية المحكمة!..
ليسمح قراء هذا البحث أن أذكرهم بظاهرة يمرون بها كل يوم، بل لعلهم منفعلون بها كما ينفعل بها جمهور الشعب دون تمييز بين جاهل وعالم.
السيارة التي نستخدمها في مختلف الحاجات وعلى مختلف الأحجام والأشكال كان معقولا أن تستعمل أسماؤها النوعية المميزة بين صنف وصنف، وكذلك من حقها أن نستعمل مسميات أجزائها كما وردت من مصانعها، لأننا مضطرون أبدا إلى استيراد هذه الأجزاء فلا سبيل إلى طلبها من مصانعها بأسماء معربة كحجرة التبخير وشمعة الاشتعال والكابح، وأنبوب التصريف والمكبس ومحور المحرك
…
وما إلى ذلك من عشرات الأسماء التي لا يفهمها أحد غيرنا
…
فطبيعي إذن أن تظل أسماؤها الأعجمية على ألسنتنا وفي حوانيتنا، ريثما تقوم مصانعنا بإنتاجها فنصنع لها الاسم الملائم ونصدرها للخارج مميزة به
…
ولكن هناك أشياء لا يحسن بنا أن نستبقيها على أصولها الأعجمية لأنها من حاجات الجمهور كله لا المستوردين وحدهم، ومع ذلك فنحن نقول ونسمع في مختلف المناسبات أسماء الكَفَر والبنشر والوايت والوانيت والتكسي والباص والأتوبيس وما إلى ذلك من مسميات لسنا ملزمين باجترارها مع وجود أجمل منها وأدلّ على وظيفتها في الكلام العربي، كالعجلات وإصلاح العجلات والتنفيس والصهريج والشاحنة الكبيرة والشاحنة الصغيرة وسيارة الأجرة والحافلة ونصف الحافلة.. وهلم جرا
…
حتى في نطاق الحاجات اليومية والمحلية التي لا علاقة لها بالاستيراد يقلد بعضنا بعضا في تسميتها، كالبتر والماصة والكنبة والطبلة وعشرات المسميات، وأجمل منها وأدل وأخف العمود والركيزة والمنضدة والأريكة والبيان.. ولكن من المسئول عن وقف هذه الفوضى.. وما السبيل إلى التنظيم الذي يضع الاستعمالات الصحيحة تحت تصرف الجمهور!..
الحكمة ضالتنا:
أما بعثاتنا الموجهة إلى الدراسات الأدبية والفنية وما يسمونه بالعلوم الإنسانية.. فهي هي التي تتولى اليوم تدمير حصوننا من الداخل إلا من رحم الله
…
إن كل ما تعلّمه هؤلاء ويتعلمونه لا يعدو نطاق التقديس لكل ما نبت في دنيا الغرب من نظريات يكذب بعضها بعضا، ويسخر بعضها من بعض.. وهاهي ذي حصائد علومها نجنيها كفرا بقيمنا وطعنا في ديننا وشتما لأسلافنا وتنكرا لرسالتنا واستهزاء بلغتنا وأدبنا.
ولا عجب فإن القيم الروحية والمثل العليا التي تصور علائق الإنسان بالكون والحياة إنما هي من الخواص التي لا تجتلب من الخارج إلا إذا أريد اقتلاع الأمة من جذورها وسلخها من مقوماتها
…
بخلاف العلوم الرياضية التي لا سلطان لها على السلوك الروحي فهي حق مشاع لكل أمة ولكل فرد، يأخذ منها المعوز ويعطي منها المليء.. فتظل أبدا بين الأخذ والعطاء دون غضاضة ولا منّ.. إنها حصيلة الجهد البشري كله، فالانتفاع بها حق كالجنس كله.
أليس من الطرائف المضحكة المبكية أن ترى حامل دكتوراه في الخدمة الاجتماعية من أميركة مثلا، لا يكاد يعرف شيئا عن هذا المرفق الهام في أنظمة الإسلام، وهو الذي يملأ حيزا كبيرا من فقه القرآن والسنة تحت عنوان الحسبة والحبوس الخيرية ونحوهما.. ولو هو قد درس بيئته المحلية على الطبيعة لواجهته بقايا الآثار الكثيرة لألوان الخدمات الاجتماعية، والضمان الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي مما لم يصل إلى أقله تفكير كبار المفكرين الغربيين حتى اليوم!..
أوليس من الطرائف الغريبة أيضا أن تلقى امرءا يحمل أعلى المؤهلات من هناك وهنالك في التربية وعلم النفس ويكاد يعرف كل شيء عن ديوي وهربرت ومونتاني.. ثم لم يسمع شيئا عن ابن مسكويه والغزالي وابن جماعة وابن خلدون والقابسي في هذا المضمار!..
أفكار مستوردة:
وتجيء في أعقاب ذلك ثالثة الأثافي ممثلة في المناهج الدراسية على اختلاف مراحلها، إذ لا تزيد على أن تشحن الأجيال بمركبات النقص، بما تترجمه من نظريات كثيرا ما تكون قد هجرت في الغرب والشرق على السواء، ولكنها فرضت على أبنائنا كأنها تنزيل من التنزيل
…
ومن هنا تزدوج المحنة، إذ على طالبنا أن يتجرع أخطاء الأمم دون رحمة، ثم عليه في الوقت نفسه أن يظل مؤمنا بأنه من أمة كتب عليها أن تتجرد من كل أثر للاستقلال الفكري، وسأكتفي بمثل لعله يساعد على إيضاح فاعلية المناهج في شخصية الطالب العربي، لما استحكمت الدعاية إلى الاشتراكية كان لابد من انعكاس آثارها على مناهج الدراسة.. فبعد أن كانت كلاما يقال في الأندية الحزبية وفي نطاق بعض الصحف المعزولة إذا هي قوانين تفرض ويساق الناس للتصفيق لها ولدعاتها على أنهم رسل الإنقاذ وعباقرة الفكر.. وما هي إلا خطوة إثر خطوة حتى كان لها الحصص الطوال في مواد الدراسة والتوجيه.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل سرعان ما ولدت نظريات تؤكد أن الاشتراكية هي نظام الإسلام الأصيل مستوحى من القرآن والسنة.. ثم جاءت المرحلة الآخرة لتقول: إن الاشتراكية وليدة القرمطية، وأن القرمطية زبدة النظام الإسلامي في المال والحكم! ودون حياء أو تحفظ أخذت هذه المفتريات سبيلها إلى مناهج التعليم حتى في أعرق المعاهد الإسلامية، وفي صحف تصدر عن أكبر المؤسسات الرسمية التي تحمل شعار الإسلام!..
وبقليل من التأمل يدرك المفكر مدى التحول النفسي الذي ستثمره هذه التطورات الخطيرة.. لقد بدأت تلك الأفكار كمحاولة للتعريف بخصائص الاشتراكية ولكنها انتهت إلى أن تصبح عملية تغيير في مفهوم الإسلام نفسه حتى بتنا نسمع أصواتا ذات وزن أدبي وديني تعلن أن الإسلام هو الاشتراكية والاشتراكية هي الإسلام.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر النظريات الواغلة علينا من هنا وهناك وهنالك.. وقد أحالت مناهجنا معرضا للتناقض الذي من حقه أن يمزق نفس الطالب بين مختلف الاتجاهات
…
ولا مندوحة هنا عن التذكير بأننا لا نريد بكلامنا هذا أن ندعو إلى وضع الحجر على الفكر الإسلامي بحيث نقطعه عن خبرات الأمم في هذا أو ذاك من التخصصات، بل إننا لندعو إلى الانتفاع بكل ذلك عملا بالحكمة القائلة: خذوا الحكمة من أي وعاء خرجت لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها، ولكننا نريد أن تكون دراستنا لتجارب الآخرين في مثل هذه القضايا محاولة لإغناء روافدها الأصيلة في تراثنا العريق.
وبذلك نصون شخصيتنا المتميزة من الذوبان الذي يسوقنا إليه بكل وسائل الإغراء أولئك الخارجون على قيمنا من المبهورين بأضواء الأعداء.. وبذلك أيضا نعيد للغتنا المقدسة إشراقها وعزها، إذ نستغني بمصطلحاتها الجميلة المبنية عن رموز اللغات الأخرى التي نلوكها دون أن نعرف الأصول البعيدة من مدلولاتها اللغوية، التي كثيرا ما تعود إلى لغة بائدة يريد أصحاب هذه النظريات الغربية استبقاءها في دائرة الحياة.
السبيل إلى التصحيح:
لقد حاولت فيما أسلفت من حديث أن أوجز واقع العربية وما يحيق بها من أخطار، وما تتعرض له من مضار لابد لها إذا استمرت في سبيلها من أن تترك جراحا عميقة في قلبها قد يتعذر شفاؤها منها فيما بعد.
وقد بقي على أن أدلي بما أحسبه وسائل صالحة لخدمة هذه اللغة الحبيبة، وإعطائها ما تستحقه من الرعاية لغة شرفها الله بكلامه، وأنزل بها خاتم رسالاته، وجمع بها أشتات العرب في وحدة خالدة بعد أن كانت مزقا متباينة، فوطأ لها بكل أولئك طريق القيادة العالمية
…
وطبيعي أن يكون في مقدمة هذه الوسائل التنويه بدور الجامعات العربية والإسلامية في هذه السبيل، لأنها مراكز التوجيه الكبرى للعقل والضمير واللسان، فلديها من الإمكانات ما يتيح لها أن تصنع الأعاجيب.
وأول ما نتطلع إليه من جهود هذه الجامعات هو اتخاذ العربية لغة التدريس في سائر موادها وكلياتها خارج نطاق اللغات الأجنبية، وهو الأمر الذي عليه أكدت مقررات المؤتمرات العلمية العربية في مختلف المناسبات وسبق إلى تنفيذه بعض الجامعات العربية بنجاح كبير، على أن بعض الجامعات الأخرى لا تزال تتردد في قبوله تحت ضغط المستغربين، الذين خيل لهم جهلهم بلغة العرب أنها عاجزة عن مجاراة التطورات المستمرة، في حين أثبتت جامعة دمشق التي سبقت إلى تعريب هذه المادة منذ عهد الانتداب الفرنسي أن العربية أوسع صدرا مما يظنون إذ حققت شأوا بعيدا من النجاح يصلح أن يتخذ أسوة في سائر ديار العرب.. وعلى قدر إيمان هذه الجامعات بحق العربية عليها سيكون اهتمامها باستعمالها في قاعات الدرس، بحيث يكون التزام الفصحى قانونا لا يتساهل بالخروج عليه فلا يسمح لمدرس أن يعمد إلى لغته السوقية بأي حال حفاظا على كرامة الفصحى، وتدريبا لألسنة الطلاب على إلفها، وإنقاذا لهم من التشويش الذي يحدثه اختلاف لهجات المدرسين ولغاتهم المحلية، ولاسيما إذا كانوا وافدين من أقطار عربية متعددة..
وعلى الجامعات العربية أن توجه مثل هذه العناية إلى لغة التخاطب بين الطلاب أنفسهم، سواء في قاعة الدرس أو خارجها.. فلا تفتأ تذكرهم بواجبهم نحو لغتهم، ولا أجدى عليهم في هذا الصدد من الندوات التي توفر لهم جو التعبير عن أفكارهم بالأساليب العربية السليمة.. ولا يبعد عن ذلك إعلان الجامعة بين الحين والحين عن بعض الكتب النافعة ذات الصلة بموضوع اللغة والأدب والأخلاق، ترغيبا لهم في مطالعتها، والكتابة عنها وتلخيصها، ومناقشة أفكارها أثناء بعض الندوات..
دور الجامعات في خدمة البيان العربي:
وهنا أراني مضطرا إلى وقفة قصيرة للتذكير بالواجب الكبير نحو الكتاب الذي رفع الله به ذكر العرب وفتح لهم أوسع أبواب التاريخ.
إن الله يصف معجزته الخالدة هذه بأنها المتفوقة أبدا على كل فكر وكل طريقة وكل فلسفة.. ذلك بأن {هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} فلا أدب إلا وهو فوقه، ولا علم إلا وهو سابقه لأنه الأقوم والأهدى .....
ولقد عرف الصدر الأول من هذه الأمة عظمة القرآن فاتخذوه منهاج حياة يقوّمون به أخلاقهم، ويؤدبون أبناءهم، وينظمون دولتهم، ويوجهون طاقاتهم.. فأعطاهم من مردود المجد والعزة والقيادة العالمية خلال أقل من قرن ما لم تبلغه أمة قط سابقا ولا لاحقا خلال القرون.. وقد استطاعت تعاليم هذا الكتاب المعجز أن تفتت الحواجز ما بين الشعوب حتى ردتهم إلى الأخوة التي نسوها في غمار الجهل والمظالم.. فإذا هم أمة واحدة ربها واحد وقائدها واحد ونظامها واحد ولغتها واحدة، هي لغة هذا الكتاب العظيم، آثرتها على ألسنتها الموروثة، لأنها لغة نبيها ووسيلتها إلى فهم شريعته الحكيمة.. وهكذا تسابق أولو المواهب من أقصى الصين إلى غرب أوربة لإتقانها والانطباع ببيانها، فكانت ملايين المؤلفات التي وضعت بأقلام عربية لم تمت من قبل إلى العرب بأدنى سبب.. ولو استمرت المسيرة في سبيلها السليم لالتقت القارات كلها على هذه الوحدة العجيبة، ولكن كواكب العرب تعبت من أعباء المجد فانصرفوا عن هدفهم الأعلى ليشاركوا الغافلين في ملاهيهم المتبرة.. ثم لم يلبثوا أن نسوا أنفسهم ورسالتهم، فإذا هم محطمو القوى مسلوبو الأوطان قد اصطلح عليهم كل شيء، وسلط عليهم حتى من لا يستطيع دفعا عن نفسه..
ونفتح أعيننا اليوم لنرى العالم الإسلامي وقد شرع يتمطى ليسترد بعض يقظته التي طال بها عهده.. ولكنه يجد نفسه أثناء ذلك محاطا بأكداس المطبوعات، ومأخوذ السمع بآلاف الصيحات، وكلها يدعوه إلى غير سبيل القرآن، إنها أشبه شيء بالطريق الذي حدّث به ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا للمؤمنين من مغويات المفسدين فذكر أنه صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه
…
ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} " [2] .
فالمسلمون إذن على مفترق طرق، وخلالها طريق واحد هو المؤدي إلى النجاة والقوة والعزة، طريق القرآن الذي _ كما ورد في الأثر _ هو المخرج من الفتنة ((فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم.. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله
…
من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم..)) [3] .
وقد أسلفت فيما تقدم أن اللغة لا تقتصر على التخاطب والتعبير، وإنما هي عملية تصور ومنهج تفكير.. وما دام القرآن هو قمة البيان العربي وحارسه على امتداد الزمن، فهو إذن مكون التصور، ومنظم الفكر، ومهذب التعبير.. ومن هنا كانت هيمنته على أدب العرب بعد الإسلام، بحيث ترك طابعه على إنتاجه كله إلى أحقاب مديدة.. وإذا اتفق أولو العلم على هذه الحقيقة لم يختلفوا على أن للجامعات العربية دورها الهام في ربط الجيل العربي بعروة هذا الكتاب المرهف للطاقات، الحافظ لذاتية الأمة، الجامع بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ولتحقيق هذا الواجب العظيم لابد من توافر قدر مشترك من الاهتمام به في كل كلية مهما يكن تخصصها، وذلك بإعطائه عددا من الحصص الأسبوعية لدراسة نصوص منه دراسة بيانية، تساعد الطالب على تذوق بلاغته بعد التبصير بمعانيها، وبذلك تسد الفجوة القائمة بين الدراسات العلمية والنظرية، حتى يتخرج كل طالب مزودا بقدر لا غنى عنه من الذوق البياني.
وعندما نتذكر أن خريجي الجامعات هم أصحاب المناصب الإدارية والقيادات الفكرية والإذاعية في كل بلد أدركنا أي خدمة تقدمها الجامعات لصالح العربية عن طريق هؤلاء الذين أكسبتهم من الخبرة والدراية ما يجعلهم قدوة حسنة تشيع حب العربية في مختلف الأوساط.
العالم الإسلامي يتلهف إلى العربية:
وحق القرآن ولغته ليس مقصورا على بلاد العرب وحدها وإن تكن الأحق برعايته من بين سائر البلاد، إنما القرآن مرجع أمة تنتشر في قارات العالم، ويضطرب في مئات ملايينها الإحصاء، وهي تتطلع إلى كل حرف من لغة القرآن متلهفة إلى نطقه وفهمه، وقد بلونا الكثيرين من أبناء هذه الشعوب الغريبة عن العربية، فإذا هم أشد حماسة لها من أبنائها، بل لا أغالي إذا قلت إنهم أكثر إقبالا على دراستها وأوفر إتقانا لقواعدها من العرب أنفسهم.. وما أسعدهم بإخوتهم بل أساتيذهم أبناء الضاد لو بذلوا لهم ما يستحقونه من العون لدراسة هذا اللسان الحبيب..
ولعمر الله إنه لعجب من العجب أن نرى أمم الغرب ترصد في ميزانياتها القناطير المقنطرة من الأموال لنشر ألسنتها بين شعوب الإسلام، وتعقد الدورات السنوية لتدريب المتخصصين لتدريسها في كل مكان، وتبذل الجهود الجبارة لابتداع الوسائل الكفيلة بتيسيرها بأحدث وسائل الإعلام.. على حين تقف الحكومات العربية مكتوفة اليدين أمام حاجة هؤلاء الأخوة إلى لغتها، وهم حلفاؤها الطبيعيون في كل مأزق عالمي.. وهي التي ينفق بعضها من الكنوز على أتفه الأشياء ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة.. ولو أن كل حكومة عربية رصدت خمسة في المائة من ميزانيتها على نشر العربية في أوساط الشعوب الإسلامية لعدت مقصرة، لما يتوقف على هذا المرفق من مصالح سياسية تتجاوز حدود التخمين..
عبرة من باكستان:
دعوني أذكركم أيها الإخوة الأفاضل بمأساة باكستان القريبة.. لما لها من صلة بموضوع اللغة، لقد كانت هذه الدولة هبة الإسلام، كما صرح أول رئيس لوزرائها لياقات علي خان.. ولكنها لم تستمر سوى القليل من السنين حتى انشقت إلى دولتين لكل منهما لغتها، ولا تزال المخاطر تهدد الأصلي من شقيها بضروب من الانقسام الذي يمهد له تعدد اللغات، إلى جانب الأسباب الاجتماعية والسياسية الأخرى، ولقد لاحظ أحد زعماء باكستان منذ أيامها الأولى مطالع الفتنة التي تتمخض بها الأحداث بسبب اختلاف الألسنة بين سكانها.. فراح يحذر أمته من مخاطر المستقبل إذا هي استمرت في تجاهلها لمشاكل اللغات المتنازعة في باكستان.. وكان مما قاله يومئذ:(إن البنغاليين لن يرضوا سيادة الأوردية، ولا السندية براضية عن سيادتهما.. ولكن هؤلاء جميعا مستعدون للتنازل عن كل حقوقهم في السيادة للغة للقرآن، لأنها لغة دينهم ولسان نبيهم، ولن يكلفنا تمكين العربية من ألسنة الأمة الباكستانية أكثر من ربع قرن إذا نحن أسرعنا إلى وضع التخطيط المساعد لتحقيق هذه الغاية) ، ولكن صيحة الآغاخان الجدّ هذه لم تبلغ آذان المسئولين يومذاك لانشغالهم عنها بالتنافس على السلطان.. حتى انتهى الأمر إلى ما نشاهده اليوم من بنغلادش وباكستان.. وما لا يعلمه إلا الله في قابل الزمان.. ولئن فاتت العرب فرصة الأمس فما زالت أمامهم فرص في باكستان وبنغلادش والأفغان وفارس وأندنوسية وتايلاند وماليزية والعشرات من مناطق أفريقية المسلمة، لقد وضع الله في أيديهم مفاتيح الدنيا بما يملكونه من الذهب الأسود، ولو هم أجمعوا أمرهم على نشر دينهم ولغتهم في جماهير المسلمين على الأقل لما وجدوا حتى من الحكام غير المسلمين من يحول دون إرادتهم، بل لألفوا أبواب الأرض مفتوحة لهم على مصاريعها، ولو لم يكن ذلك بدافع الحب للإسلام ولغة الإسلام، لكان بدافع الحفاظ على مصالحهم في نفطهم وأموالهم
…
ولعل كثيرين غيري
من الزملاء الأفاضل قد سمع ما سمعت قليل من تشمير باكستان لنشر العربية، بل لمضاعفة العناية بها في مدارسها.. وفي الجامعة الإسلامية اليوم بعثة رسمية من أساتذة المدارس الباكستانية أوفدت للتدريب عليها والتمرس بنطقها وتعليمها فما الذي يمنع العرب أن يقابلوا باكستان وغيرها في وسط الطريق فيرسلوا إليها بعثاتهم لتعليم عربيتهم على مستوى أكثر جدوى وأعم نفعا!..
إن الحكومات العربية مسئولة عن هذا الواجب ولكن للجامعة العربية أيضا مسئولياتها نحوه، وإذا كان هذا حقا بالنسبة إلى سائر الجامعات العربية في كل بلد عربي فهو أحق بالنسبة إلى جامعات المملكة الغالية التي شاء الله أن يأتمنها على مقدسات الإسلام.. الذي لا يمكن فصله عن لغة القرآن..
ولعل من بواعث التفكير الجدي في هذا الجانب من البحث أن أعرض لأعين الزملاء خلاصة رسالة تسلمتها قبيل أيام.. إنها من أستاذ يتولى تدريس العلوم العربية في معهد حكومي بساهي وال الباكستانية، ويريد الاستزادة من هذه المادة، لذلك يريد مني أن أتخذه تلميذا بالمراسلة لتحقيق متمناه الذي يعتبره منة وفضلا.. أظن من حق هذه الكلمات أن تحرك عواطفنا نحو هؤلاء الإخوة فنوفد إليهم من يروي ظمأهم إلى لغة القرآن، مما لا يمكن تأمينه عن طريق المراسلة إلا عند متفرغ لا يشغله شاغل عن هذا الواجب، أو عن طريق برنامج خاص لتعليم هذه اللغة على الهواء كما تفعل إذاعة لندن في برنامجها المعروف لتعليم الإنجليزية، وهو أقل ما يجب ابتداء على وزارات المعارف في كل دول العرب.
أدبنا.. ما هو؟ وكيف يجب أن يكون؟
وكما أن الفرد لا يتصور له وجود خارج نطاق الجماعة، كذلك اللغة، بدأ من الكلمة المفردة إلى النصوص المختلفة، لا وجود لها منفصلة عن الصياغة الأدبية، لأننا بالأدب الأصيل نتعلم ونعلم طريقة البناء الفني للكلمة، وبالأدب نعين مدلولاتها المختلفة حسب موقعها في ثنايا التعبير.
وعلى هذا فلا مندوحة من إلمامة قصيرة بواقع الأدب العربي، لنرى ما يمثله من أصالة أو غرابة، وإلى أي مدى يسهم في خدمة هذه اللغة الكريمة
…
وسأحاول أولا تعيين مدلول موجز لكلمة الأدب بغض النظر عن التعريفات المختلفة المتموجة، ففي يقيني أنه البيان بالكلمة المناسبة عن مضمون النفس والنفس والعقل والشعور وسائر مصادر النشاط العاطفي عناصر لا يمكن عزلها عن موحيات البيئة على اختلاف مركباتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية والطبيعية، يقول ألكسيس كاريل في كتابه النفيس: الإنسان ذلك المجهول: إننا عاجزون عن حماية أنفسنا من تأثير المجتمع لأن حدود النفس مفتوحة لهجوم المحيط العقلي والروحي
…
) ، فالأديب إذا من حيث كونه فردا في جماعة لا يستطيع تحرير أفكاره ومشاعره من سلطان البيئة، ولا مندوحة لها من أن تفرض عليه آثارها ولكنه من حيث كونه إنسانا مزودا بقابلية التطلع إلى الأبعد، والتفكير فيما وراء حدود الواقع، يتجاوز بهذا الامتياز حدود الترديد لما يتلقاه، إذ يأبى بطبعه أن يكون صدى محضا لهتفات البيئة.. ومن هنا كان التفاوت بين زمر الأدباء إذ كلهم منفعل بمؤثرات المجتمع، إلا أنه في الوقت نفسه متطلع إلى ما يتصوره الأصلح والأجمل لمجتمعه، انسياقا مع غريزة التجديد، التي هي الحافز الغرزي لتطوير الحضارة البشرية.
والآن بوسعنا أن نرجع البصر في منطلقات الحركات الأدبية على امتداد الأقطار التي تغتذي بالكلمة العربية من شواطئ الأطلسي إلى مشارف دجلة وأقاصي الخليج..
أول ما يتراءى لنا هنا هو تباين المستويات والنزعات والروافد التي من شأنها أن تصنع هذه الاتجاهات.. وأكثر هذه المواطن اتصالا بحضارة العالم الصناعي أشدها تحركا في نطاق الفكر والإنتاج الأدبي.. وأوفرها تفاعلا مع التيارات الغازية التي تكاد تغطي على أصالة الشخصية العربية حتى في نطاق التعبير الذي بات مثقلا بالمصطلحات المقحمة والصور البيانية الغريبة، والأساليب المهزوزة..
وكان للاستعمار الغربي آثاره العميقة في صبغ هذا الإنتاج إذ تركت لغة كل مستعمر طابعها على أدب الجيل الناشئ في ظلها
…
ولقد بدأت النهضة الأدبية في القرن الماضي أصيلة الطابع إلى حدّ بعيد، إذ كانت ثورة إحياء للغة والأساليب والتراث، ثم أعقبت ذلك ثورة التغريب في مناهج التعليم، فكانت الطامة التي خربت مراكز الثقل في الشخصية الإسلامية إذ أبعدت التعليم كليا عن سلطان القرآن الذي كان المنطلق الأول والأكبر لكل حركة ثقافية في العالم الإسلامي غير منازع، فبات معزول الأثر عن البصر والفكر، لا يعدو أن يكون كأقل مادة دراسية حظا من العناية والتأثير خارج هذه المملكة، حتى أن بعض الأقطار العربية قد ألغت قيمته التأثيرية نهائيا، بجعلها مادة التربية الدينية غير ذات أثر في معادلات القبول للدراسة الجامعية
…
بين الأصالة والتزوير:
وطبيعي أن الأجيال الناشئة في هذا المناخ غير القرآني لن تجد في مكتساباتها الفكرية ما يحصنها بوجه التيارات الدخيلة إذ تصبح على أتم الاستعداد للاندماج في أي اتجاه مؤيد بالمغريات.. وفي هذا الجو المرجوح برزت الطبقة الجديدة التي سحرها بريق الفكر الدخيل على اختلاف مذاهبه، فراحت تتبع آثاره وتنشر أخباره، وتزين للناشئين أوزاره حتى لم يستنكف بعض دعاة هذا الاستغراب أن يدعو إلى تحطيم القيم الإسلامية، فيجرئ السفهاء على التنكر لحقائق القرآن، والإقبال على مسالك الغرب دون تفريق بين النافع منها والضار، لأن الحضارة بزعمهم كل لا يتجزأ، فلا مندوحة عن أخذه بعجزه وبحره..
وانفرجت زاوية الانحراف تبعا لاتساع نطاق التواصل الفكري العالمي، سواء عن طريق البعثات التي أتم معظمها حلقة التطويق على القيم الإسلامية باندماجها العملي في الحضارة التي دمرت سعادة الإنسان واطمئنانه _ بشهادة أساطينها _ أو عن طريق المترجمات والمنشورات التي أغرقت العالم العربي بسيول الفكر الدخيل، ثم عن طريق الوسائل الإعلامية المنظورة والمسموعة التي اقتحمت البيت الإسلامي دون استئذان، فعودته ما لم يعتد من المشاهد وقربت إلى قلبه كل ما من شأنه أن يسلبه بقية امتيازه الروحي
…
وهكذا كان على الأدب الحديث أن يمثل مجموع هذه التيارات التي تخضّ المجتمع العربي الإسلامي فيكون له ألوانه ولكل لون دعاته، وكلهم مشدود إلى هذا أو ذاك من الجواذب الغريبة عن شخصيتنا الأصيلة.
على أن من الغفلة أو الجهل أن ننسى تلك الفئة العملاقة من حملة القلم الإسلامي الذين حفظوا للأدب العربي الأصيل جانبه المشرق.. وقد تتابعوا على خدمة الكلمة المؤمنة جيلا يقفو جيلا، وما زالوا ولله الحمد، يزودون القراء بالغذاء الدسم المستمد من مائدة القرآن، حتى لكأن التاريخ يعيد اليوم ما شهده في عصور العباسيين من تدفق الفكر الدخيل الذي استهوى كثيرين فانساقوا في تجاربه يتفلسفون ويتصوفون ويتمنطقون ويتزندقون، ويشغلون العقل المسلم بالمناقضات من الحقائق والأباطيل، فكان أن نهض لغربلة هذه الأخلاط رجال أضاء الله قلوبهم بنور القرآن فثبتوا في وجه الأعاصير حتى أعلى بهم كلمته وأقام على المضلِّلين والمضلَّلين حجته
…
وهاهي ذي المعركة ما تفتأ على أشدها بين الأصالة والتزوير.. وإنها لمعركة متعددة الجبهات، متنافسة الأسلحة يخوضها الفكر المسلم بالبيان القرآني المتألق، يخترق بأشعته الهادية ضباب التهريج، فيغنم كل يوم مساحة جديدة، ويكسب في كل مناسبة مؤمنين جددا يستردون في أضوائه حقيقتهم الضائعة.
تغيير جذري:
وطبيعي أن الأدب الذي تجب نصرته هو هذا الذي ينبع من معين الإسلام إيمانا بالحق، وتصورا للجمال، ودعوة إلى الخير، ولكن نصرة هذا الضرب من الأدب لا يمكن أن تؤتى أكلها إلا في جو من التوعية العميقة في أوساط القراء وهي مهمة ضخمة تقتضي تعبئة عامة في مجال الإعلام والتعليم جميعا، فينحّى عن دفة التوجيه الإعلامي كل ذي فكر لقيط وثقافة مدخولة لا تصلح للانصهار في قيمنا الأصيلة.. وبذلك تتوافر على هذا المرفق الخطير الأيدي النظيفة التي ستعيد للكلمة المسلمة حق المرور إلى القلوب والأسماع بكل الوسائل الجمالية
…
ثم تأتي الخطوة التالية من التوعية في ميدان التعليم، وهذه تنحصر في تحرير إرادتنا من التبعية لموحيات الفكر الغربي، الذي عبث بنا طويلا حتى كاد يسلخنا نهائيا من خصائصنا الذاتية، ويجعل من شبابنا المتعلم مجموعة من الإمّعات لا تسمع إلا بإذنه، ولا تبصر إلا من وراء نظاراته.
إن التوعية التي نريدها في ميدان التعليم تتطلب جرأة فائقة تخلص مناهجنا من التقليد الذي يكاد يحصر مهمة المدرسة والجامعة في حدود مكافحة الأمية الفطرية لينقل أبناءنا إلى أمية أخرى هي أمية الجهل بدينهم وتاريخهم وأنفسهم، وإنه لضرب من الجهل عجيب يشحن الرؤوس بأكداس المعلومات الممزقة دون أن يمكن لقدراتنا الذاتية من العمل الذي يجعل للحياة أي قيمة، لأن غرضه المخطط من وراءه هو إعداد جيل يصلح للاستهلاك دون الإنتاج
…
وحين تتحقق أمنية التوعية هذه فستكون لدينا المناهج التي تساعد الإنسان العربي بل المسلم، على أن يكون الروح التي تكافح لبلوغ مثل أدبي عال، وتبحث عن النور في الظلمات، وتسير قدما في الطريق الذي يكشف لها الأساس غير المنظور لهذا العالم كما يقول مؤلف الإنسان ذلك المجهول.
أجل.. إن مناهج من هذا المستوى ستفسح الطريق لإغناء الفكر العربي بالمعاني الربانية، التي من اختصاصها دائما وأبدا تكوين الصفوة البشرية المزودة بكل الفضائل التي تجعل منها أمة لا تعرف الفصل بين حدود الدين والدنيا، فهي تنظر إلى كل علم وفن وعمل بنور الله فتملك بذلك الفكر الموسوعي الذي يعرف حلول الإسلام لكل جوانب الأزمات العالمية، ولا يفوته الإحاطة بكل ما انتهت إليه التجارب البشرية من خطأ وصواب
…
وفي كنف هذا الضرب من التغيير الجذري سينطلق من جديد مارد الأدب العربي الأصيل أكثر قوة ومضاء، ليستأنف جهاده في توجيه الحياة إلى الأعلى، وليمد الفكر العالمي بما عهد عنده من عطاء لا تزال آثاره دالة على نفسها في كل خير عرفته حضارة الغرب والشرق على السواء..
إن واقع العرب اليوم ليجعل من هذه الأفكار صنفا من الأحلام العصية على التحقيق
…
ولكنها على الرغم من ذلك حقيقة لابد من الإيمان بها والكدح لإخراجها إلى حيز الوجود، إذا نحن صممنا على استعادة مكاننا من قيادة الفكر البشري، وتذكرنا أننا الأمة الوحيدة التي تملك برسالتها الآلهية مقاليد الإنقاذ لسفينة العالم الضالة
…
وفي يقيني أننا في الطريق إلى هذه الحقيقة لابد لنا من التركيز على المبادئ التالية:
1) تعديل مناهجنا الدراسية بردها إلى منطلقات القرآن والصحيح من السيرة النبوية حتى يكونا هما المهيمنين على شعب المنهج جميعا، وقد بدأ ذلك يأخذ طريقه إلى مخططات التعليم في هذه المملكة المؤمنة ولله الحمد، وبقي إعداد المعلم المنسجم مع هذه المخططات، سواء كان وطنيا أو مستعارا..
2) مضاعفة الاهتمام بالبيان العربي، وتلقيح العقول بخصائصه الجمالية التي لا يعجزها التعبير عن أية خلجة أو خطرة أو كشف
…
3) الإقلال من الابتعاث إلى الغرب حتى أدنى الحدود الضرورية، مع إلزام المبتعثين ممارسة الحياة الإسلامية تحت إشراف الأكفاء، على أن يسترد كل من يثبت شذوذه عن قيم الإسلام، حماية لصحة الأمة الروحية من التلوث بأوباء الجاهلية الجديدة..
وأخيرا إنشاء مؤسسة فكرية باسم نادي القلم الإسلامي تكون قاعدتها مكة المكرمة أو طيبة المباركة، ويشارك في عضويتها كل ذي غيرة على رسالة الله من أدباء المسلمين، على أن تعقد اجتماعاتها الدورية في العشرة الأواخر من ذي الحجة لكل عام، حيث تدرس أوضاع المسلمين والحركات الثقافية العالمية، ويصار إلى الاتفاق على الخطط الصالحة لخدمة الكلمة المؤمنة بكل وسائل الإعلام.
ومرة أخرى أعترف بأنها أفكار أشبه بالأحلام، لما يعترض طريقها من عقبات جسام.. غير أنها ليست مستحيلة التحقيق إذا لامست موضع القناعة من قلوب الرجال الذين آمنوا بألاّ استقرار ولا بقاء ولا صلاح إلا بالإسلام..
العربية والأدب الشعبي:
في مؤتمر الأدباء السعوديين الأول بوادر نشاط مشكور، من شأنه أن يضاعف جهود الأقلام المشهورة، ويحرك الكثير من المواهب المغمورة.. وقد اتخذت فيه مقررات إذا نفذ نصفها كان ربحا كبيرا، فكيف والمتوقع أن توضع كلها في حيز التنفيذ إن شاء الله، على أن واحدا من هذه المقررات لا أزال حائرا بإزائه، ذلك الذي يحمل الرقم السابع عشر، ويتضمن توصية المجلس الأعلى للفنون والآداب بأن يولي اهتمامه بالأدب الشعبي، ويعلل القرار هذه التوصية بالرغبة في تمكين الباحثين والدارسين من الاستفادة منه في دراسة تاريخ المملكة ولهجاتها وفقه لغتها.
والأدب الشعبي قديم في كلام العرب حتى الجاهلية لم تفقده، لأن ألسنة القبائل لم تكن على مستوى واحد من حيث الصحة والجمال.. فكان منها اللغات العالية التي بها نزل القرآن، وعليها تنهض علوم العربية التي ركزت فيما بعد، وكان منها لغات مشوشة لم يعن بها رواة اللغة ولا مدونوها بعد الإسلام، ولم يصلنا منها سوى النزر من شواهد احتفظ بها علماء اللغة للدلالة على اللغات الشاذة أو الضعيفة.
وبنزول القرآن العظيم وإقبال العرب عليه قلّ استعمال تلك اللغات النوادر إلا في سياق التخاطب بين أبنائها وإلا في الأمثال التي ألِف العرب روايتها دون تعديل ولو اعتورتها الأغاليط، ثم تسلل الضعف إلى سلائق أبناء الفصحاء مع تفاقم الاختلاط بشعوب البلاد المفتوحة، مما اضطر العلماء إلى تدارك ذلك الفساد بوضع القواعد وإقامة الشواهد.. ولكن طبيعة التطور أدت إلى تشقيق العربية، فكان فيها فيما بعد لغة الأدب المحتفظة بخصائصها، وكان منها لغة العامة التي شابها اللحن وكثرت فيها الكلمات الدخيلة، ثم انتهت إلى أن كونت لنفسها ما يسمونه اليوم بالأدب الشعبي.. وهو طراز من الكلام كان من آثاره البارزة خلخلة الكيان العربي، إذ جعل لكل جماعة لسانها الخاص، بحيث لا يكاد فريق يفهم لغة فريق، إلا إذا عمد إلى اللغة الجامعة الأصيلة، التي لم يعد يحسنها إلا خواص المتعلمين.. ولا عجب فالسوقية في كل إقليم مزيج من العربية وما سبقها من لغات محلية أو غازية، وبما أن لكل إقليم ماضيه التاريخي الخاص كان لكل عامية لهجاتها ومفرداتها الخاصة أيضا.. وفي مستطاع كل منا أن يلمس هذا الواقع من خلال سماعه لهجات العرب الوافدين إلى موسم الحج من مختلف أقطارهم
…
وما أظن عربيا منا مهما تبلغ معرفته باللهجات وتطورها بقادر على أن يفهم لهجة مغربي أو جزائري أو حتى يماني من سكان المناطق النائية
…
فإذا نحن رحنا نتتبع نصوص هذه الحكايات أو المنظومات الشعبية في بلد عربي لم
نزد على أن مكنا لهذه الفرقة من الرسوخ، وبالتالي لم نقدم لقارئ الأدب العربي سوى نماذج لا تقل غرابة عن أي نص من الصينية أو اليابانية مثلا
…
ومن هنا يتضح لنا ما أهدرناه من جهود ووقت في غير فائدة، بل في ضرر مؤكد..
مع أن واقع الجزيرة العربية يمتاز على غيره من واقع الأقطار العربية الأخرى من حيث أن لغاتها العامية أكثر اتصالا بأصول العربية، وأكثر حفاظا على جوها، فالمشهود الملموس أنها تشترك مع غيرها من عاميات العرب بقيامها على اللحن، وتسرب الكثير من الدخيل إلى صميمها
…
ولاسيما في عهدها الراهن، حيث كثر اتصالها بديار الغرب ولغاته ومصنوعاته، فضلا عن تعدد أصول السكان والوافدين الذين يمثلون أكثر من نصف لغات العالم.
أجل.. إن الدعوة إلى تنشيط الأدب الشعبي لا تختلف بنظري عن الدعوة إلى ما يسمونه بإحياء الفولوكلور، ويريدون به كل ما كان لأي شعب من فنون متميزة من الرقص إلى الأغاني إلى الأزياء.. وما إلى ذلك.. وقد فقه أولو العلم حقيقة ما وراء هذا الفولوكلور من محاولات للعودة بالشعوب الإسلامية إلى جاهلياتها السابقة للإسلام.. فالفولوكلور إذن حركة مناوئة للإسلام نفسه الذي أخرج الأمم من الظلمات إلى النور، ووضع الإنسانية الجديدة في الطريق المؤدي إلى الحضارة الربانية المتميزة بأنها لا شرقية ولا غربية..
وإذن فالاهتمام بالأدب الشعبي كتابة وإذاعة وتنويها ودراسة هبوط بالفكر العربي عن المستوى الذي يجب أن يؤكد عليه في مسيرته الجديدة، وعندي أن السعي لرفع النظامين الشعبيين إلى مستوى العربية الصحيح أجدى عليهم وعلى أوساطهم وعلى أقطارهم من تشجيعهم على ما أخذوا به من قول ملحون.. ولا جرم أن في تجاربهم الشعورية وتوهجاتهم الخيالية لظواهر مواهب لو أخذ بيدها إلى الطريق السوي لجاءت بالبديع الرفيع، ولزادت ثروتنا الأدبية جمالا وتألقا.. وإلا فإن كل مجهود في غير هذا الطريق السوي منته إلى الإخفاق الذريع، لأن طبيعة الفكر العربي لا تسمح بالخلود والبقاء لأي فكر أو شعور لم يسجل بلغة القرآن.. والأدلة على ذلك تواجهنا في محاولات المتفرعنين بمصر والمتفينقين بلبنان، الذين بذلوا ويبذلون الجهود والأموال لكتابة أفكارهم باللغات السوقية، فأخفقوا ولا يزالون يخفقون..
من أجل تيسير التعليم:
ونعود إلى موضوع نشر العربية في المجال العالمي فنذكر بأن ذلك يقتضي الاهتمام بوسائل هذا النشر، فمعلوم أن شكاوى كثيرة تصاعد في كل مكان عن صعوبة العربية.. وليس هذا موضع الرد أو النقد لهذه الشكاوى، إذ من الطبيعي ألا تكون على مستوى واحد من حيث الدوافع.. فهناك المغرضون الذين يريدون مجرد التنفير من العربية باختلاق المعايب لها، وربما جاهدوا لقلب فضائلها نقائص.. ولكن هناك أيضا المخلصون الذين يمارسون تجربة التعليم منذ عشرات السنين، فيواجهون في طريقهم الكثير من المصاعب؛ ذلك أن الوسائل التي يستعان بها لتعليم العربية لا تزال ضمن نطاق الموروثات القديمة لم يعترها التعديل أو التطوير إلا قليلا، وتستيقظ الآن في أعماقي ذكرى أيام كنت أتلقى فيها علوم العربية على أحد الشيوخ من خريجي الأزهر.. فأضطر إلى العض على راحتي بكل ما أملك من قوة لأمنع نفسي النوم خشية أن تفوتني خفية من الدرس لا أستطيع تداركها.. ولا أريد بذلك أن طريقة التنويم هذه هي نفسها طريقة كل مدرس للعربية اليوم، بل أقول: إننا لم نفد كثيرا من التطورات الحديثة التي طرأت على طرائق التعليم الخاصة باللغات، لقد سمعنا وشاهدنا الكثير من مؤتمرات العرب في القانون والهندسة والزراعة والأدب والشعر والفن.. ولكننا لم نسمع قط عن مؤتمر عقد للبحث في الانتفاع بخبرات الحضارة لتعليم لغة العرب.. أجل لقد سمعنا عن محاولات لتيسير القواعد، وقرأنا مؤلفات تقوم على استبدال مصطلحاتها على وجه لا يراد به على أفضل الاحتمالات أكثر من التلاعب بالألفاظ، واستقطاب الأنظار إلى عبقريات أصحابها.. هذا إذا لم نقل إن وراء الأكمة ما وراءها من محاولات الإساءة للعربية، والذي أؤمن به في هذا الصدد هو أن لغة الأمة جزء أساسي من ذاتيتها، عليها أن تتقبله كما تلقته، ثم تسلمه أجيالها القادمة كما تسلمته، دون أي مساس بأصولها المميزة كالإعراب ومخارج الحروف والتزام التراكيب الأصيلة،
لأن اللغة أشبه بالكيان الحي، كل تغيير في تركيبه الطبيعي قاتل له أو مشوه، غير إن التزام الأصول لا يمنع تطوير وسائل الصيانة لصحة هذا الكيان، ولتوسيع دائرة نشاطه.. تماما كما نعامل الجسم إذ نحصنه من السوء بكل المبتكرات الصحية ولكن دون أن نحاول إحداث أي تغيير في تركيبه الطبيعي
…
وهذا يقتضي أمورا أهمها:
1) الانتفاع بأحدث الوسائل الفنية التي توّصل إليها ذوو الخبرات العالمية في تعليم اللغات، كالمسجلات الفردية، والمعامل الجماعية، ومختلف وسائل الإيضاح العملي.
2) إعداد المدرس الخبير باللغة والنفس، المحب لمهنته، القادر على الاستفادة من تجاربه اليومية.
3) عقد مؤتمرات دورية يشهدها المدرسون المتفوقون لإعطاء زبدة تجاربهم وتعميم ما يتفق عليه بشأنها على المدارس والمعاهد في نشرات صالحة.
4) تمكين سلطان العربية من سائر مواد الدراسة، فلا يسمح لمدرس أي مادة باستعمال لغته السوقية أو الملحونة أثناء الدرس، ولا يقبل من الطالب سؤال ولا جواب بغير اللغة الصحيحة.
5) توجيه عناية خاصة لطالبي العربية من غير العرب، بحيث تقدم إليهم في كتب تعتمد الإيضاح بكل الوسائل المعقولة ويراعى فيها التدرج من الأسهل إلى الأصعب، مع العناية الكبيرة بجمال المظهر وأناقة الطبع.
6) بناء مناهج المعاهد الخاصة بتعليم العربية للأعاجم على أساسين:
الأول: تصحيح مخارج الحروف وضبط الألفاظ ومراعاة التركيب العربي.
الثاني: العناية بالقصة في تزويد الطلاب بالمفردات العربية، على أن لا يقل مجموع الكلمات التي يجب عليهم حفظها وإتقان استعمالها عن خمسمائة كلمة خلال العام الدراسي الواحد.
7) العناية بتزويد الفصول بالكتب الملائمة لمستويات الطلاب وبخاصة القصص الموجهة على أن يلزم الطالب قراءة عدد منها، وتلخيصها وبيان قيمتها شفهيا وكتابيا.
8) وأخيرا إعطاء العربية مثل ما تعطى الأجنبية اليوم من العناية على الأقل.. وعدم تمكين أي مادة من الحيف عليها.
مخطط نبوي ضد الجهل:
وبحث في العربية وحقوقها سيظل أبتر، إذا أغفل الإشارة إلى موضوع ما يسمونه بمكافحة الأمية، ويحاول بعض المعنيين به تهذيب عنوانه باسم: تعليم الكبار، ومهما تختلف الأسماء في هذا الشأن فالمقطوع به أن الإسلام أول مكافح للأمية خلال التاريخ.
ولا غرابة فهو دين العلم الذي يعتبر اعتناق أي إنسان له هجرة من الجهل إلى المعرفة، ومن الظلمات إلى النور، وحسبه سموا أن أول آياته النازلة في حراء على قلب محمد صلى الله عليه وسلم كانت تبشيرا بالعلم وتنويها إلهيا بفضل القراءة والكتابة.
ولقد كانت أولى حملات الإسلام على الأمية في أعقاب غزوة بدر لما جعل رسول الله فداء الأسير الكاتب من المشركين تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة
…
ثم جاءت المرحلة التالية يوم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين وكان من خطبته تلك قوله: "والله ليعلمنّ قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة.."، وعلم الأشعريون وهم المتعلمون أنهم المقصودون بالإنذار، فجاءوا رسول الله يسألونه المهلة، فأمهلهم سنة ليحققوا واجبهم في تعليم جيرانهم من جفاة الأعراب [4] ، وكان ذلك تشريعا نبويا بإيجاب التعليم والتعلم على كل قادر كضرب من التكافل الاجتماعي الذي يستهدف رفع سوية الكافة إلى المستوى اللائق بالإنسان المسلم، وهي سابقة عظيمة تعطي ولي أمر المسلم حق تحويلها إلى قانون يلزم كل خريج في الجامعة مثلا ألا يتولى عملا إلا بعد أن يقدم البرهان على أنه استنقذ واحدا على الأقل من ظلمات الجهل، ويلزم كل جاهل أن يقبل على التعلم تحت طائلة العقوبة.
سلاح ذو حدين:
على أن من حق البحث علينا أن نتساءل عن الغاية من حركة مكافحة الأمية في أوساط المسلمين خاصة.. لا شك أن سؤالا كهذا من شأنه أن يبعث الدهشة أو الضحك لأن جوابه من أقرب البديهيات، فالمشروع قائم على قدم وساق في كل مكان، وقد أجمعت عليه البشرية كلها ممثلة في هيئة الأمم ومؤسساتها الثقافية، وتتسابق الدول على اختلافها لتسجيل الأرقام القياسية في هذا الميدان.. ومع ذلك يأتي من يسأل عن غايته وأغراضه؟ ولكن كثيرا من الأمور التي تظن من البديهيات يتعذر على المفكر إيضاحها، وليس موضوعنا هذا إلا واحدا من هذه البديهيات.
إن وراء حملة مكافحة الأمية في العالم أهدافا شتى.. فهي كما تستهدف تأهيل الإنسان الأمي لتحسين واقعه، وتوسيع آفاق حياته، بالاطلاع على ما كان محجوبا عنه من عوالم الوحي، والاستمتاع بثمرات الفكر المبدع للحضارات.. كذلك وراءه الأصابع التي تريد اقتلاعه من عالم الفطرة، لتقذف به في تيه المغويات الشيطانية.. أجل أيها الإخوة الأعزة إن مشروع مكافحة الأمية سلاح ذو حدين، ففيه الإعداد للخير الكبير الذي يريده الإسلام وأهله، وفيه كذلك التحضير لشيوع الفساد المدمر لهناءة الإنسان.. والمؤسف أن وسائل الشر المتربصة خلف هذا المشروع أقوى وأرقى وأكبر فاعلية من وسائل الخير.
إن ذوي الفكر الشرير قابضون على ناصية الإعلام وفنونه المغرية في كل مكان، وقد أعدوا لكل مستوى عقلي ما يلاءمه من هاتيك الوسائل.. تساعد على تحقيق أغراضهم الطاقات الهائلة الموضوعة تحت تصرفهم من دول الإلحاد ومنظمات الإفساد، على حين لا يكاد الفكر البناء المؤمن يجد سبيله إلى الظهور إلا في أردأ المظاهر.. لأنه في الغالب مجهود أفراد فقراء لا مدد لهم ولا عُدد، فإذا نحن في عالمنا الإسلامي نجحنا في القضاء على الأمية، وسننجح بمشيئة الله فماذا أعددنا لاستقبال هذه الجماهير التي ستكون مستعدة لالتهام كل ما تقع عليه من مطبوعات تلاءم مستواها الفكري؟
ذلك هو السؤال الذي يجب على كل ذي غيرة على عروبته ودينه أن يطرحه على نفسه، وأن يفكر بجوابه الأفضل، ومن أجل أن يكون نجاحنا صحيحا في هذا الميدان لابد لنا من تهيئة الغذاء الفكري الصالح لبنية هؤلاء الوافدين حديثا إلى مائدة المعرفة..
قبل أن يخرج الله تبارك وتعالى الإنسان إلى هذه الدنيا أعدها لاستقباله بكل ما يساعده على بناء المدنيات، فلما أطل عليها وجد كل شيء على أتم الاستعداد لمساعدته على مهمته في إعمار الأرض، وعلينا نحن أن نتعلم من هذه السنن الإلهية كيف نهيئ الضرورات الأساسية لذلك الجيل الذي فتحنا أعينه على عالم القلم.. وهذا يقتضي في مفهومي أن يجد مادة القراءة الصالحة لتحسين واقعه النفسي، صحفا تقدم له وجباته الأولية من الثقافة الصحيحة، وكتبا تتدرج معه في مختلف المستويات، قصة ومقالة وبحثا
…
ثم تخصيصه ببرامج من الإذاعة اليومية مسموعة ومرئية، تأخذ بيده في طريق التطور الصاعد.. ولا حاجة إلى التذكير بأن ذلك كله يجب أن يستمد من معين الإسلام، في أساليب مبسطة من البيان العربي السليم..
أما إذا اكتفينا من هذه المهمة بتمكين الأمي من فك الحرف دون أن نزوده بالمقومات التي تصونه من السقوط في حبائل الشياطين، فمعنى ذلك أننا حررناه من أمية الفطرة لنسلمه لقمة سائغة لأمية أخرى هي أخطر عليه وعلى مجتمعه وعلى البشرية من الجهل، وأمامنا نماذج لا تحصى من أولئك الذين عبدت لهم الطرق إلى أعلى الشهادات، فكانوا كما وصف الله زملاء لهم سابقين بقوله الحكيم:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً..} ، أو كما قال سبحانه في عالم إسرائيلي اشترى بآيات الله ثمنا قليلا:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (7-147) .
وهل أنا بحاجة للإشارة إلى هؤلاء المساكين الذين اجتالهم الشيطان، فاتخذوا من ألقابهم العلمية الوهمية ذريعة للطعن على دين الله، فراحوا يعقدون المؤتمرات للدعوة إلى تهديم ما بناه الله! أجل.. أجل إنها أمية جديدة تتبجح بالشهادات ولا مندوحة لحماية الناس، ولاسيما أولئك الذين فارقوا الأمية من مخاطر دعواتهم الخبيثة رحمة بأمتنا وبإخوتنا.. وبإنسانيتنا على الأقل، ومن لهذه المهمة الضخمة سوى معاقل العلم العالية، تسهم في إعداد الحصانة اللازمة لهؤلاء الوافدين على العلم!.
وإنها لأعباء ثقيلة.. ولكنها جديرة بعاتق الجامعات العربية، ولاسيما في هذه المملكة الناهضة، وفي عصر التيارات الفكرية المتضاربة.
ورطة لابد من علاجها:
وثمة قضية على جانب كبير من الغرابة والخطورة معا، تلك هي إجماع وزارات المعارف في كل بلد عربي على تعليم الأجنبية في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وهو أمر لا يزال يثقل كاهل التلاميذ بأعباء غير يسيرة، على حساب العربية والدين وغيرهما من المواد الرئيسية.. وقد أثبتت التجربة الطويلة أن المردود الوحيد الذي جنيناه من هذا الاتجاه هو ضحالة الثقافة مطلقا، وشحن نفوس الشباب بشعور التبعية للأمم التي فرضت عليهم لغاتها.. يضاف إلى ذلك أن هذا الطالب المسكين لا يكاد يطأ أرض العالم الغربي للدراسة الجامعية حتى يفاجأ بصدمة الجهل التام للغة المفروضة، فيلجأ إلى المعهد الخاص لإعداد أمثاله، وقد تستغرق هذه المحاولة زمنا غير يسير ليتمكن من الالتحاق بالقسم الذي يريد.. ولو نحن أمعنا الفكر في قوادم هذا الوضع وخوافيه لأدركنا عظم الخطأ الذي اقترفناه بذلك التقليد غير الواعي.. إذ أضعنا جزءا كبيرا من حياة هذا الطالب دون ثمرة، سوى ما أسلفناه من شعور التبعية، والإحساس بصغار الجنس الذي ينتمي إليه، بإزاء الأمة التي أكره على إذابة الكثير من طاقاته في التشمم للغتها.. ولعل هذا أشد ما يكون بروزا في دور إعداد المعلمين للمرحلة الابتدائية، حيث يهدر الزمن غير القصير من حياة الطالب في دروس الأجنبية، دون أن يحتاج إلى كلمة منها طوال جهاده في تعليم الصغار.
أجل.. إنني بكل صراحة، وبعد تجربة ثلث قرن في ميدان التعليم، أرفع صوتي بهذا الاقتراح وهو إنقاذ الجيل العربي من هذه الورطة.. وبديهي أن اقتراحي يشمل الدراسة الجامعية نفسها التي سبق أن أشرت إلى ضرورة وقفها على العربية وحدها إلا في الأقسام الخاصة باللغات الأجنبية
…
وما دمنا في حاجة إلى الدراسات الأجنبية في نطاق العلوم العملية فبالإمكان تدارك ذلك بافتتاح معاهد خاصة لتعليم اللغات الأخرى ضمن سنتين، لينطلق بعدهما لمتابعة دراسته في المادة المرادة دون تعثر.. وذلك على غرار مدرسة اللغات التي أنشأها محمد علي لإعداد البعثات التي رأى ضرورة إرسالها إلى الخارج.. وعلى شاكلة دار الترجمة التي أنشأها المأمون لنقل العلوم عن اليونانية إلى العربية دون أن يكره الناس على تعلمها في المدارس أو الجامعات، ولا أذهب بعيدا للتدليل على سداد ما أشير إليه، ففي الكثير من تجارب المملكة مع بعثاتها إلى الخارج ما يؤكد أن تأخير دراسة الأجنبية إلى ما بعد الثانوية خير وأجدى على المبتعث من أن يلزم دراستها قبل ذلك.. وفي المملكة _ ولعل منهم بيننا الآن _ حملة دكتوراه من الغرب كانوا قد تخرجوا في المعاهد العلمية، حيث انقطعوا إلى دراسة دينهم ولغتهم والعلوم التي لا غنى عنها للمثقف دون أن يدرسوا حرفا من الأجنبية إلا بعد أن توجهوا إلى بلادها
…
على حين أن كثيرين ممن درسوا الأجنبية طوال المرحلة الإعدادية والثانوية لم ينتفعوا منها بشيء إلا بعد أن تفرغوا لها في بيئتها، فأقبلوا على دراستها من جديد.
وقل اعملوا:
ولعل من غير البعيد عن مهمة الجامعات ولاسيما في هذه المملكة الغالية أن تعمل لإنشاء مجمع علمي للغة العربية إلى جانب مجمع كبار العلماء، يحشد له أساطين العربية والمتخصصين في مختلف العلوم ذات الصلة بها سواء من داخل المملكة أو خارجها، يكون من مهامه متابعة التطورات العلمية، وإمداد الجامعات ومؤسسات الإعلام بما يسد الحاجة إلى المستحدثات اللغوية عن طريق الاشتقاق أو الاصطلاح أو النحت أو المجاز، وما يتصل بذلك مما تضمنته المعاجم القديمة من أصول يمكن الانتفاع بها إلى مدى بعيد في تنمية البيان العربي.
إن عملا جليلا كهذا لا يتجاوز حدود الممكنات إذا تضافرت عليه جهود الجامعات العربية وكلياتها.
وإذا كان ذلك حقا على كل جامعة في بلاد العرب فهو حق أكبر على جامعات البلاد التي منها انطلقت لغة العرب إلى الدنيا، ومن حرميها المكرمين تدفقت أشعة الوحي، الذي أمد هذه اللغة بما أهلّها للمكان العالمي الذي تبوأته في عهود المجد والازدهار، ولا جرم أنها حين تتداعى للنهوض بهذا العبء ستجد من العون الكريم لدى حكومة جلالة الفيصل ما يؤمن لها كل وسائل النجاح إن شاء الله.
وما أسعدنا ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخبرنا أن طائفة من أمته لا تزال ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون، وقد ذهب أكابر علماء السلف إلى أن الطائفة الظاهرة هذه هي العرب، حملة رسالة القرآن بلغة القرآن إلى أهل الأرض.
وليس في الدنيا من يزاحم أهل هذه الديار العزيزة على مركزها من قلب العروبة وصميمها وذؤابتها.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .. والحمد لله رب العالمين.. وصلاته وسلامه على أكرم المرسلين سيد الأولين والآخرين، محمد وعلى آله وصحبه وذريته الطاهرين ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
أذاع صوت أميركا تقريرا عن الفن بمصر يوم 11-4-76 فجاء فيه أن أربعين راقصا قد تخرجوا من معهد الباليه، وقد التحقوا أو التحقن بالفرقة الفنية
…
[2]
رواه أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[3]
انظر جمع الفوائد ج 2 ص 162 رقم 6704.
[4]
من حديث طويل رواه الطبراني في الكبير عن علقمة، ويرى العلماء سنده في مرتبة الحسن. انظر: الترغيب والترهيب ج رقم 205.
رسالة بدماء القلب
إلى صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز
رئيس الهيئة العليا للدعوة الإسلامية
ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام
لفضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
يا صاحب السمو الملكي
…
أعزك الله بالإسلام وأعز الإسلام بك، وأرشدك إلى الحق وأرشد الحق إليك، ورغبك سبحانه وتعالى في الخير ورغب الخير فيك، وجعلك من الدعاة إلى الدين الحق لا تبتغي بذلك سوى وجهه الكريم {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ..؟
أما بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله هو، وأصلي وأسلم على نبيه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم وأستفتح إن شاء الله تعالى بما هو خير..
يا صاحب السمو الملكي:
حينما ترامت إلينا الأنباء من جميع الأنحاء، تزفّ إلينا بشرى تنصيبك رئيسا للهيئة العليا للدعوة الإسلامية بالمملكة العربية السعودية فرحنا واستبشرنا وامتلأت قلوبنا بالأمل والغبطة لأسباب عدة:
أولها: هو تأسيس هذه الهيئة نفسها للدعوة الإسلامية في شتى أنحاء الأرض، فهذا واجب وضعته المملكة على عاتقها منذ إنشائها، بل هو الأساس الصلب الذي قامت عليه حين أسسها البطل القوي الأمين الملك عبد العزيز طيب الله ثراه وجعل الجنة مأواه.
ثانيها: هو اختيارك على رأس هذه الهيئة المباركة، وأنت رجل مخلص لهذه الدعوة الخالدة، وقد بدا هذا في تصريحاتك التي أدليت بها للصحفيين غداة إعلان تأسيس هذه الهيئة، حيث أعربت عن سرورك بالمشاركة في العمل على نشر الدعوة الإسلامية والقيام بهذا الواجب، لأن الدعوة إلى الله فيها عز هذه الأمة.
وثالثها:
إن مئات الملايين من مسلمي العالم اليوم، في كل القارات تقريبا، يتلفتون في كل الاتجاهات بحثا عن الجهة التي يمكنهم أن يشعروا بالانتماء إليها، ثم يولون وجههم شطر المملكة العربية السعودية، وكلهم ثقة أن هذه الأرض التي شهدت تفجر النور الإسلامي لابد أن تظل تحتضنه وترعاه، ولا تتخلى عنه قيد شعرة، وإنه لواجب مقدس أن تنهض هذه المملكة بالذات ـ وتتصدى لنشر الدعوة الإسلامية واللغة العربية في كل مكان ـ هذا دورها وتلك رسالتها التي قدّر لها أن تنهض بها بحكم قيادتها للعالم الإسلامي.
فلهذه الأسباب وغيرها آثرت أن أكتب لكم هذه الرسالة بدماء قلبي، لأن ما شاهدته وعانيته وأنا أدعو إلى الإسلام في قارة إفريقية وكل مشاكل المسلمين فيها متشابهة يجعل أي غيور على الإسلام ينتفض غضبا لما يراه ويسمعه، وسأنقل إليكم الآن بعض ما يهمكم أن تعرفوه بحكم منصبكم الجديد، وبحكم رسالتكم في هذا العالم، وبحكم ما تقتضيه الأخوة الإسلامية من واجب الرعاية والحماية والنصح والإرشاد.
أولا: مشكلات الدعاة..
يا صاحب السمو الملكي..
إن من أكبر معوقات النجاح بالنسبة للدعاة في الخارج اختلاف الجهات التي تبتعث الدعاة، وبالتالي اختلاف المستويات الاقتصادية بينهم، ولكي أزيد الأمر وضوحا أقول:
إن هناك حاجة ماسة لتجميع الجهات التي تتولى إرسال الدعاة في هيئة إسلامية دولية واحدة، وليس ذلك بعسير على الإطلاق ما دامت النية الصادقة معقودة على خدمة الدعوة الإسلامية والعمل على نشرها بشتى الوسائل، انظروا بارك الله فيكم كيف يتم إرسال عدد من الدعاة إلى منطقة واحدة من عدة منظمات إسلامية مثل:
أ- دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
ب- إدارة البعثات بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بمصر.
ج- هيئة الدعوة الإسلامية بالجمهورية العربية الليبية.
هذا بالإضافة إلى جهود تطوعية يقوم بها عدد من المدرسين وغيرهم من العرب وغيرهم، وكلهم ذوو اتجاهات متعددة إن لم تكن متباينة، وقد يخدم بعضهم أغراضا غير دينية، بينما يتوقع الناس أن يكون لهم جميعا صوت إسلامي واحد.
هذا بالإضافة إلى أن تفاوت مرتباتهم يجعلهم مختلفين على أنفسهم، ما بين أناس شغلتهم الدنيا عن الآخرة، وآخرين أغرقوا أنفسهم بما لا يجوز لهم من انهماك في تعويض ضالة المرتبات بالاشتغال ببعض الأعمال الإضافية التي تؤثر في صورتهم المثالية باعتبارهم دعاة مخلصين، والآن أتساءل: لماذا لا تكون هناك هيئة متخصصة في تدريب الدعاة، وفي تقويم ألسنتهم وفي تثقيف عقولهم وتنقيتها من البدع والخرافات، ثم ابتعاثهم إلى بلاد الله لنشر دين الله؟ ثم لماذا لا تكون المملكة هي المركز الأول الذي تتبعه جميع المراكز والمعاهد التي تتكفل بشؤون الدعوة في بلادها؟ لماذا لا تكون هناك وحدة في الإعداد والتوجيه بدلا من هذه الازدواجية في الإشراف والمتابعة والتمويل؟ ألا نستطيع أن نقضي على الفوارق الضارة في مجال الدعوة، امتثالا لقوله تعالى:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [1] .
لا جرم أن هذه الاختلافات في جهات الابتعاث تؤدي إلى آثار ضارة ووخيمة، وتقود إلى نتائج لا تحمد عقباها في مجالات الهداية والتأثير، أهمها ما يأتي:
1-
أن الاختلافات المذهبية بين الدعاة تؤثر في نفور الناس منهم بلا استثناء، كما أنهم قد يتباعد بعضهم عن بعض كما قد يكيد بعضهم لبعض، وقد سجنت إحدى الحكومات الإفريقية مبعوثا ثم طردته من أرضها، لأنه أحدث الفرقة بينه وبين إخوانه، ثم أحدث بلبلة في نفوس المسلمين فكان جزاؤه الطرد لما تسبب فيه من شحناء بين المسلمين [2] .
إن الاختلافات بين المستويات الاقتصادية للدعاة نتيجة تفاوت المرتبات يجعل بعضهم ينأى عن بعض، وقد يتسبب هذا في إثارة حفيظة بعضهم على بعض.. ومن الواجب حفظ الكرامة الشخصية للدعاة، ومنع بعضهم من التطاول على بعض، لأن ذلك قد يحدث ولو بطريقة غير شعورية نتيجة المعاملة المالية غير العادلة التي يعامل بها بعض المبعوثين، لاسيما إذا أدخلنا في الاعتبار ما طرأ على أسعار السلع الأساسية، وما طرأ على إيجارات العقارات من ارتفاع جنوني في مختلف بلاد العالم.
تتفاوت جهات الابتعاث في مدى الجدية أو التهاون في متابعة نشاط المبعوثين، ومن هنا قد ينشط بعضهم تلقائيا، وقد لا يظهر بعضهم إلا في المناسبات الرسمية الدينية، وقد يكتفي بعضهم بأداء وظيفة المدرس في إحدى المدارس الدينية لمدة قليلة كل يوم، أو يوما بعد يوم.
ومن الناحية العلمية:
قد ينسى بعضهم كل ما تلقاه أو بعضه إزاء تكاسله عن أداء واجبه المقدس، حتى ليستفتيه الناس فلا يفتيهم، وما أكثر هؤلاء الآن في حقل الدعوة، وما عادوا يستحقون أن يلقبوا بالدعاة، ولذلك فإن من أوجب الواجبات على جهات الابتعاث أن يكون لديها تقريرات وافية ومفصلة عن نشاط الداعي، وتحركاته طوال شهر كامل، ومدى فاعليته في تبليغ الدعوة، وعدد من أسلموا عليه، وهل استطاع أن يربط قلوب الناس بالإسلام؟ ولا مانع مطلقا من رصد حوافز مادية أو أدبية للداعي، لأنه مهما كان مثاليا فهو قبل كل شيء بشر، أما أن نرسل الداعي إلى المنطقة التي اختير لها دون دراسة مسبقة عن شخصيته وملامح ثقافته، وما يعرف من لغات أو لهجات، وما يتحمل من صعاب أو مكائد، فذلكم هو العبث بعينه، وقد نستطيع أن نتعلم الكثير إذا أحطنا علما بطرق تدريب المبشرين، ووسائلهم في التنقل من مكان إلى مكان، وفي التأقلم مع ظروف كل بيئة على حدة، وفي دراسة لهجات القوم كأنهم عاشوا معهم منذ نعومة أظفارهم، أما نحن فنزود الداعية بطائفة من النصائح الشفهية غير الكافية، ثم نقذف به في خضم الموج ونقول له: لا تغرق، وهو لذلك في العادة يحيا على هامش المجتمع الذي نرسل به إليه، وإلا فكم من الدعاة أجرى مسحا شاملا اجتماعيا أو دينيا أو جغرافيا للإقليم الذي عاش فيه، وكم منهم من كتب بحثا مستفيضا عن عادات الشعوب وتقاليدها وخصائصها النفسية، وكم منهم استطاع أن يحقق أغلبية إسلامية في المدينة التي يقطنها، وكم منهم من استطاع أن يترك مؤسسات تعمل من بعده في الدعوة أو التعليم أو تحقيق التضامن الإسلامي.
يا صاحب السمو الملكي..
إن كل نجاح في ميدان الدعوة الإسلامية يبدأ من الداعي وينتهي به، وبقدر ما تنجح الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في تدريب الداعي وتوسيع أفقه وتهذيب روحه فسوف يكون نجاحه كاملا بإذن الله، مع ضرورة وضع النقاط التالية موضع الاعتبار:
1-
ليس كل متخرج من الجامعات الإسلامية صالحا لأن يكون داعيا إلى الإسلام، والمفروض أن الدعوة تتطلب نوعية خاصة من الرجال العلماء العاملين، الأذكياء المقتدرين، الراغبين في الدعوة والمتحمسين لها والساعين إليها أو من يمكن أن يكونوا كذلك بعد حضورهم تدريبا معينا.
2-
التدريب الذي أقترحه:
يستهدف تحويل الطالب إلى داعية، ويستغرق ما لا يقل بأي حال من الأحوال عن ستة أشهر كاملة، يدرس فيها:
(أ) الصفات العقلية والجسدية والعلمية التي يجب أن تتوفر في الدواعي، مستقاة من حياة وجهاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
(ب) بعض النظريات السكلوجية المستمدة من علم النفس الاجتماعي وسيكلوجية الجماهير وعلم النفس الكلينيكي وسيكلوجية الفرد.
(ج) دراسة مستوعبة وشاملة للمنطقة التي يختار الداعية للعمل بها، تاريخيا وجغرافيا واجتماعيا وحضاريا بما في ذلك العادات والتقاليد.
د) استيعاب كامل وشامل لتجارب الدعاة السابقين، وكتب الرحالة المسلمين من أمثال فضيلة الشيخ العامودي في كتابه في أفريقية الخضراء، وفضيلة الشيخ الصواف في كتابه رحلاتي في الديار الإسلامية وغيرهما من كتب الرحلات وكتب الدعوة الإسلامية، حتى يكون لدى الداعية خبرات واسعة تملأ عقله وقلبه وسمعه وعينه وأذنيه، فيكون محيطا بما يمكن أن يصادفه من مخاطر، وما أكثر المخاطر التي تقع في طريق الدعاة المجاهدين!.
هـ) الدراسة لإحدى اللغات الحيّة مسألة لا يختلف فيها اثنان على أهميتها للداعي، وكم من الدعاة قد تعرضوا لمواقف مخزية نتيجة عدم إلمامهم لا باللغة الرسمية التي يتكلم بها المثقفون، وتقدّم بها البرامج الإعلامية والصحف الرسمية، ولا باللهجة المحلية التي يستطيع الداعية عن طريقها أن يدخل في حياة الناس الاجتماعية اليومية ويشاركهم أحاديثهم ومحاوراتهم، ويمكنه إفهاهمهم ما يريده من أحاديث دينية سواء في المساجد أو الأماكن العامة أو غير ذلك من أماكن التجمعات العامة أو الخاصة.
ثانيا: تخطيط شئون الدعوة:
صحيح أن النجاح مرهون بقوة الداعي وأمانته.. ولكن.. هل يكفي ذلك وحده لتحقيق الأهداف المطلوبة من وراء نشر الدعوة الإسلامية؟ كلا، على الإطلاق، إذن فالواقع أننا محتاجون، يا صاحب السمو الملكي إلى قادة أشبه بقادة الفتح الإسلامي، يجلسون معا، ويفكرون معا، ويخططون معا، وبيد كل منهم معلومات مفصلة، وأرقام دقيقة، ومسح جغرافي شامل لأماكن الأقليات الإسلامية وأسباب انكماشها، ووسائل إنعاشها، وتقريرات مفصلة عن جهود الدعاة هناك، وأسباب تقدمها، ومعوقات نجاحها، وهلم جرا..
نحن في حاجة إلى تخطيط شئون الدعوة، وتخطيط شئون الدعوة يستلزم بالضرورة وجود خبراء ومتخصصين في شئون الدعوة وهؤلاء الخبراء نعثر عليهم من بين:
أ- الدعاة السابقين والحاليين المتمرسين بالدعوة، وأصحاب السبق والفضل فيها، والمشهود لهم بالنشاط والحركة الإيجابية والقوة والجرأة في التبليغ.
ب- كبار المفكرين الإسلاميين في العالم الإسلامي، ممن لهم نظرة أفقية مستعرضة لمشكلات المسلمين وجذورها الفكرية والحضارية، وهم أصحاب فلسفة يجدر الاستفادة بها في تخطيط شئون الدعوة.
ج) كبار العلماء والفقهاء الذين يستطيعون تقديم خلاصات مركزة مستوحاة من التراث الفقهي والسيرة النبوية، ودروس من حيوات الإعلام ودعاة الإسلام على مدى عصور التاريخ.
وهؤلاء الخبراء يستطيعون أن يتقدموا في مجال تخطيط شئون الدعوة بأعمال ممتازة، وهذه بعض النماذج:
- إعداد خرائط دعوة.. تتضمن بعض المعلومات عن مناطق تركيز الدعاة، ومناطق ندرتهم، ومناطق تناوب العمل فيما بينهم، الخ..
- تقديم بعض المعلومات عن الشكل الأمثل الذي يبرز فيه الداعي، والطريقة المثلى التي يعرض بها دعوة الحق، والتي تختلف باختلاف المناطق والقارات، طبقا لما تتميز به بعض الشعوب من طباع وتقاليد ونفسيات خاصة.
- إخراج مجلة أكاديمية متخصصة يتم تعميمها على الدعوة بوجه خاص، تتناول أخبار نشاطهم، وأبرز أعمالهم، وتبادل المشورة بينهم، وعقد مؤتمر عالمي يضم البارزين منهم، وتعرض فيه بحوثهم ومشكلاتهم، (والدعاة في جميع أركان الأرض محتاجون إلى كلمة تجمعهم أو صحيفة تضم خبراتهم والعوائق التي توضع في طريقهم وقد تعطل بالكلية عملهم) على أن تصدرها جهة مركزية واحدة يحملون لها في قلوبهم الإجلال والاحترام، ولن تكون هذه الجهة سوى الهيئة العليا للدعوة الإسلامية بالمملكة العربية السعودية.
- إنتاج سلسلة من كتب الدعوة الإسلامية في الجانبين النظري والتطبيقي يتوفر على كتابتها كل مشهود له بالعلم والإخلاص وبذل الخير للناس، بحيث يجد فيها الدعاة تجديدا لفكرهم، وحلا لمشكلاتهم، وتنويرا لأذهانهم، وحبذا لو قامت هذه السلسلة على مشكلات حية بالفعل، يعرضها الدعاة على أهل الذكر ليكونوا معهم على البعد، يأخذون بيدهم ويقودونهم دائما إلى الطريق الصحيح.
يا صاحب السمو الملكي
…
إن ترك شئون الدعوة للارتجال، أو ترك الحبل على الغارب لأولئك الرجال في كل جزء من أجزاء المعمورة أمر يجب أن يتوقف فورا، ومنذ أنشئت هذه الهيئة المباركة فإن الدعاة الإسلاميين بعامة، والمبتعثين من دار الإفتاء بخاصة يتوقعون أن يتلقوا المزيد من الدعم والتأييد، وأن يجدوا زادا من الإرشاد يحملهم على العمل الدائب، ويزيح عنهم شبح الكسل الرهيب، ويشعل في داخل صدورهم ذبالة الأمل في متابعة العمل.
وإني أقدم لسموكم بعض الملاحظات الضرورية في هذا الصدد على ضوء ما عاينته وعانيت منه:
أ- موقف السفارات من الدعاة:
إن الشكوى مرة في حلوق الدعاة من بعض السفارات والقنصليات العربية في الخارج، (أقول من بعضها ولا أقول كلها، فهناك والحمد لله نماذج مشرفة للتعاون الإيجابي) لأن بعض هذه السفارات أو القنصليات لا تحترم عمل الداعي، إما قولا أو سلوكا، وإلا فدعوني أتساءل: هل من المروءة أن يدعو الداعية في المسجد أو غيره إلى طاعة الله والعمل بكتابه وسنة رسوله، بينما يعكف الديبلوماسيون على الخمر، ويتهاونون في أداء الصلاة، ويعبثون بكرامة الوطن وقدسية الدين؟ وما مقام الداعية حينئذ بينهم؟ وما موقفه أمام ربه؟ ثم أمام المساكين من أبناء قومه؟ هل يرفع عليهم السلاح؟ هل يجاهر بالإنكار لما يعملون؟ ثم ماذا يكون حاله لو سوّل لهم الشيطان فشوهوا صورته أمام جهة الابتعاث وكالوا لهم التهم جزافا؟ أو جعلوه سلفا ومثلا للآخرين؟ إن الدعاة محتاجون إلى ملحق ديني في كل سفارة يتابع عملهم، وينسق بينهم، ويحفظ كرامتهم ويحل مشكلاتهم، حتى ولو كلف أحد الدعاة بهذا العمل لتتحقق التبعية اللازمة المحققة لآمال الدعاة في تخطيط سليم ومباشر على أرض المعركة.
وغير خاف: من هو الشخص الذي يوكل إليه أمر الدعاة؛ إنه لابد أن يكون داعية في الأساس أو فيه روح الداعية، من حب الدين والرغبة في العمل به، على أن يكون الداعية للدعوة فقط لا للعمل في أي مجال آخر سوى الدعوة نفسها، وبكل الإمكانات المتوفرة للداعي دون تعويق أو تثبيط ودون تهاون أو تجاهل.
ب- وضع خطة عمل للدعاة..
وسواء وضعت هذه الخطة في مكتب ((الملحق الديني)) أو غيره، فالهدف منها ينبغي أن يكون واضحا، وهو تغطية الدولة كلها بالمبعوثين حسب الجدول الزمني للخطة؛ بحيث يتحرك الدعاة في كل ركن، ويلتقوا بجميع الناس، ويناقشوا كل مثقف أو داعية مسيحي أو وثني، ويتصدوا لأرباب المذاهب الضالة التي تجد صيدها في البلاد ذات الأقليات الإسلامية، وينبغي أن يكون ارتياد المساجد خاضعا لجدول زمني وموضوعي كذلك؛ بحيث لا تتكرر الموضوعات العامة التي يعالجها كل داعية لا يقدّر المسئولية، ولا يحمل نفسه على الاطلاع وبذل الجهد في الاستزادة من العلم، ويخرج إلى الناس وهو أشبه بالطبل الأجوف، بل ينبغي أن يسمع الناس اليوم ما لم يسمعوا بالأمس، وأن يكون حديث الدعاة حديثا في قلب الدين وجوهر أحكامه، لا في ترديد شعارات عامة مجردة يحسنها كل من له ثقافة ضحلة ولم يتلق قسطا وافرا من علوم الدين.
وبهذا يعتبر الدعاة مسئولين عن هذه الرعية التي تبحث عما يحييها من هدى الله وشرعه، فهناك للأسف الشديد مناطق واسعة تقع على الحدود المشتركة لمختلف الدول لم تبلغها الدعوة إلى الآن! ولا يزالون عاكفين على الأصنام أو عبادة الأنهار أو الأشجار، أو تقديس الكواكب والنجوم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ج- ازدواجية التعليم وأخطارها
ما جنى المسلمون على أنفسهم وأولادهم في كثير من الدول الإفريقية والآسيوية بمثل ما جنوه حين عزلوا أولادهم عن نظام التعليم الرسمي في دولهم، اكتفاء بما أقاموه من مدارس متهاوية أو كتاتيب مختفية بين الغابات وفي المغاور وسموها مدارس إسلامية، وكان يمكنهم أن يفعلوا الشيء نفسه لأولادهم عقب انتهائهم من دراستهم اليومية في المدارس الرسمية الحكومية، التي تكفل لهم العمل بوظائف الحكومة، والانخراط في سلك الجندية، والرقي إلى المناصب الوزارية وبذلك يكونون أقدر على نشر دينهم، وخدمة بنيهم وذويهم، والإسهام في خدمة دينهم ودنياهم، ولكنهم للأسف وبدافع من الحب المكين لدينهم، فعلوا ذلك ثم التمسوا العون في إصلاح ما فعلوه.
عرضت هذه المشكلة لأنها من أخطر ما يصادف عمل الدعاة ويعوق انطلاقهم مع من ابتعثوا إليهم، حيث يبقى الجميع في معظم الدول وراء ستار، لا يتحركون إلا بصعوبة، ولا يملكون التأثير في غيرهم إلا بحذر شديد وجهد أشد، وكل هذا محسوب على عمل الدعاة ومقلل من أثره.
يا صاحب السمو الملكي.
هذا أوان الملحمة.. اليوم يبدأ العمل الجاد لخدمة أهداف الدعوة الإسلامية العالمية.
اليوم نترقب، ونحن في غاية الشوق واللهفة، إلى ما يعيد مجد الإسلام في ديار الإسلام على يد دعاة الإسلام.
سوف تدب الروح إن شاء الله تعالى في هذا الجسد الذي طالما أثخن بالجراح وهبت عليه سوافي الرياح، حتى كاد أن يقعد عن مواصلة الكفاح.
يا صاحب السمو الملكي، يا صاحب السمو الملكي، البدار البدار، قبل أن يرين اليأس على القلوب، فكم من نفوس تزايدت فيها الأنفاس، وكم من جماعات اشرأبت فيها الأعناق، وكم من دعاة طال عليهم الليل قد لمحوا أشعة الفجر، وهاهو ذا نور الدعوة يترامى في الآفاق، لا يحتاج في حمله إلى قلوب الناس إلا دعاة أخلصوا لله همتهم وعملهم، ليجزل الله ثوابهم ويضاعف أجرهم ويحسن عاقبتهم.
كان الله في عونكم، وسدد على طريق الخير خطاكم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إبراهيم محمد سرسيق
داعية سابق إلى الإسلام في إفريقية
ومدرس بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
المؤمنون 52.
[2]
انظر رحلاتي في الديار الإسلامية للشيخ محمد محمود الصواف 1-588.
موازنة بين النثر والشعر في التهنئة بفتح القدس
لفضيلة الدكتور محمد نغش
في التهنئة بفتح القدس
لم تحظ موقعة في تاريخ الدولة الأيوبية بالفرحة بالنصر مثلما حظي بذلك فتح بيت المقدس، فقد انبرى الشعراء في مختلف أنحاء الأقطار الإسلامية ينظمون القصائد الكثيرة في هذه الموقعة الشهيرة.
وكان من أوائل الذين وصلوا إلى مخيم السلطان صلاح الدين من مصر الجواني المصري، وقصيدته مطلعها:
أتُرى مناما ما بعيني أبصر
القدس يفتح والفرنجة تكسر
وأتى إلى مخيم السلطان أيضا الشاعر المصري ابن سناء الملك، وهنأه بقصيدة مطلعها:
لست أدري بأي فتح تهنا
يا منيل الإسلام ما قد تمنى
كما نظم ابن الساعاتي شاعر مصر والشام في زمانه قصيدة منها:
أعيا وقد عاينتم الآية العظمى
لأية حال ندخر النثر والنظما
وكان من شعراء مصر الذين هنئوا السلطان بيوم الفتح ابن الجويني فخر الكتاب، وقصيدته تبدأ هكذا:
جند السماء لهذا الملك أعوان
من شك فيهم فهذا الفتح برهان
ومن المصريين أيضا ابن المجاور الوزير العزيزي هنأ السلطان صلاح الدين بقصيدة جاء فيها:
بالنصر المهدي والهادي إلى
سبل الجهاد أتى المظفر يوسف
والفرق بين ما كتبه القاضي الفاضل بشأن القدس في رسالته الطويلة إلى الخليفة العباسي وبين ما كتبه هؤلاء الشعراء جميعا أن القاضي الفاضل وصف المعركة وصفا مفصلا، بينما هؤلاء الشعراء أتوا بوصفهم مجملا، فالنثر الذي تكتب به الرسائل الديوانية بطبيعته أقدر على استيعاب التفصيلات الدقيقة، لأن الكاتب يدبجه بغرض الإبلاغ بحوادث معينة، مستقصيا فيها أطراف الموضوعات، بخلاف الشعر الذي يعبر عن خلجات نفسية ولمحات فنية، فكل شاعر يركز على معنى أو أكثر من المعاني التي بهرته ويفرغ فيها طاقاته.
ولنقارن بين رسالة القاضي الفاضل وما وصلنا من أبيات القصائد السالفة الذكر، فكلاهما الرسالة والقصائد قيلا في غرض واحد وهو فتح القدس.
ولنبدأ بذكر بناء كل منهما، ونثني بذكر المعاني الواردة فيهما، ثم نختم بالصور الفنية التي يشتملان عليها، فمقدمة القاضي الفاضل طويلة، وفيها تفاصيل كثيرة، وإليك نصها:
((أدام الله أيام الديوان _ العزيز النبوي الناصري _ ولا زال مظفر الجِد [1] بكل جاحد، غنيا بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على إقناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والنصل في جفنه [2] راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى بشكر واحد، ماضي حكم القول بعزم لا يمضي إلا بنسل [3] غوى وريش [4] راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواء [5] إلى المرابع [6] وأنوارا إلى المساجد، وإلى الأعداء خيلا إلى المراقب [7] وخيالا وإلى المراقد)) .
وهو يمدح بها الخليفة بأنه رجل موفق دائما، منصور دائما، جواد يعم بجوده جميع الناس، ذو عزم قوي ينفع نفعا محققا إذا أراد، ويضر ضررا محققا إذا كانت الحكمة في ذلك، ذو هيبة في قلوب أعدائه، تفزعهم في اليقظة، وتقض مضاجعهم في النوم، والقاضي الفاضل يحرص في مقدمته على الالتزام بالسجع والطباق والجناس، بينما نرى الشعراء المصريين في تهنئتهم للسلطان صلاح الدين يتركون التقديم لقصائدهم بمقدمات غزلية، وينهجون نهج القاضي الفاضل في رسالته هذه وفي غيرها من الرسائل، فهم يقدمون لقصائدهم بديباجة تعد بمثابة المقدمة الموسيقية فهي تدور مباشرة في جو القصيدة، وهو التهنئة بهذا الفتح العظيم.
وإليك ما قاله ابن سناء الملك في هذه المناسبة:
لست أدري بأي فتح تهنا
يا منيل الإسلام ما قد تمنى
أنهنيك إذ تملكت شاما
أم نهنيك إذ تملكت عدنا
قد ملكت الجنان قطرا فقطرا
إذ فتحت الشام حصنا فحصنا
إن دين الإسلام منّ على الخلق (م)
وأنت الذي على الدين منا
مقدمة رائعة وإن كانت قصيرة بالنسبة لمقدمة القاضي الفاضل، كما أنها لا تحمل من المعاني ما حملته مقدمة القاضي الفاضل، وفيها نرى الشاعر في حيرة جميلة أمام بطل إسلامي فاز بالفخار في الدنيا بانتصاراته الرائعة، وفاز بثواب الله في الآخرة.
وهذه المقدمة رغم روعتها في التصوير إلا أن المحسنات البديعية قليلة فيها، فهي لا تعدو الجناس الناقص الذي يأتي عرضا دون تكلف.
وتختم رسالة فتح بيت المقدس بخاتمة ديوانية ليست فيها صور بلاغية ولا محسنات بديعية، وهي:((والله الموفق إلى الصواب، والحمد لله رب العالمين، وعليه توكلت وإليه أنيب)) .
بينما إحدى القصائد التي وصلتنا كاملة وهي قصيدة ابن سناء الملك تختم ببيتين بليغين من الشعر، وهما:
قد ملكت البلاد شرقا وغربا
وحويت الآفاق سهلا وحزنا
واغتدى الوصف في علاله حسيرا
أي لفظ يقال بل أي معنى؟
فالشاعر هنا أمام هذا الملك العظيم أصبح لا تسعفه الألفاظ ولا المعاني ليصف أمجاده التي يجل عنها الوصف، وتشخيص ابن سناء الملك للوصف بأنه أصبح حسيرا يعطي لهذه الخاتمة حسنا وبهاء.
ولما كانت التهاني التي أنشدها الشعراء للسلطان صلاح الدين وليست للخليفة العباسي فسنترك مدح القاضي الفاضل للخليفة وكذلك تبشيره بالفتح جانبا، لننتقل إلى الفقرة التي جاءت في رسالة القاضي الفاضل في الإشادة بالسلطان صلاح الدين وهي:
"وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء هذه النعمى، ولا يناجز من استمطله في حرية، ولا يعاتب بأطراف القنا من تمادى في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة، والدعوة إلى سامعها مرفوعة فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسنة ربما سلقته [8] فأنضج قلوبها [9] بالاحتقار، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيرا خاطر، ومن رام صفقة رابحة تجاسر، ومن سما لأن يجلى [10] غمرة [11] غامر، وإلا فإن القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم [12] فتقضها، ويضعف في أيديها مهر [13] القوائم فتقضها [14] ، هذا إلى كون القعود لا يقضى فرض الله في الجهاد، ولا يرعى به حق الله في العباد، ولا يوفى به واجب [15] التقليد الذي تطوقه الخادم من أئمة قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون".
ولما كان الكتاب مرسلا إلى الخليفة، فقد رأى القاضي الفاضل برأيه الحصيف أن ينسب فضل الجهاد إلى الخلفاء العباسيين ولكنه لم ينس الإشادة بصلاح الدين الذي جاهد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، رعاية لحق الرعية، وحق التقليد الذي في عنقه للخلافة العباسية التي تقضي بالحق والعدل.
وهو يقرر في هذه الفقرة سعي صلاح الدين لهذه الغاية، ومقاساته الأهوال من أجلها، وهو يعلم أن من الناس من ربما سلقوه بألسنتهم من أجل نهوضه بالجهاد، فما لهؤلاء عنده من جواب غير الاحتقار، وأن منهم من يتغيظون تغيظا كبيرا، فلا يقابل ذلك منهم إلا بالحلم والاصطبار.
والفن الفاضلي يتجلى في هذه العبارة "وكانت الألسنة ربما سلقته، فأنضج قلوبها بالاحتقار"فالمراد بقلوبها هنا هو قلوب أصحاب الألسنة، فهنا مجاز لطيف من إبداع القاضي الفاضل.
ولما كانت هذه الرسالة مرسلة إلى الخليفة العباسي والمدح معظمه له، فنستعين بكتاب آخر صادر عن القاضي الفاضل إلى السلطان صلاح الدين في التهنئة بفتح القدس وهذه الفقرة التي نوردها منه في مدح السلطان صلاح الدين، وهي:
"نحن أصدق أفئدة، وأقصر ألسنة أن نتولى شكر مولانا والأولى به الأنبياء الذين أظهر آثارهم، والملائكة الذين روح من سماع الكفر أسرارهم، والإسلام الذي رفع غمامته، وثبت دعامته، ورد إلى داره زعامته، والبيت الحرام الذي فك أخاه من الأسر، ومكان المسرى النبوي الذي كان ينتظر من مولانا مطلع الفجر، وأبواب الرحمة التي فتحها، وكان دونها غلق التاج، والمسجد الأقصى وكان عنه التصريح وإن كان منه المعراج.
فليهن مولانا أنه قد أصبح مولاي ومولى كل مسلم، وأنه قائم بوعد الله للدين القيم، وأنه نور الله الذي أضاء به كل فجر للكفر مظلم، وأن الله أنهضه بما أقعد عنه ملوك الأمم، وحرس به الإسلام في أصلاب رجال العرب والعجم".
فالقاضي الفاضل يقف موقف الشعراء في حيرتهم اللطيفة، التي يبغون من ورائها التعبير عن قصورهم في تأدية الشكر لممدوحهم، والكاتب هنا يقول:
إن السلطان أحق بشكر الأنبياء والملائكة والإسلام والبيت الحرام والمسجد الأقصى، فكل هؤلاء مدينون له بتطهير بيت المقدس من رجس الكافرين والمعتدين. ولهذا فليهنأ السلطان بمكانته كزعيم للمسلمين وبنصره للدين، فهو النور الذي أضاء كل فجر للكفر مظلم، وأنه أتى بما عجز عنه ملوك الأمم، فبه حفظ الله الإسلام في أصلاب رجال العرب والعجم.
والفن الفاضلي يتجلى في أنه جعل للإسلام غمامة يكنى بها عن الاحتلال لأرضه ثم رد السلطان صلاح الدين له زعامته، والبيت الحرام يفك أخاه المسجد الأقصى من الأسر، وما إلى ذلك.
فهذه صور من التشخيص للجمادات والتجسيم للمعنويات التي ذاع صيت القاضي الفاضل في الإتيان بها متلاحقة في هذه الرسالة وفي غيرها من رسائله.
ونعرض الآن المعاني والصور التي وردت في قصائد هؤلاء الشعراء السابق الإشارة إليهم، لنرى أنهم لا يخرجون عن كونهم تلاميذ للقاضي الفاضل، يدورون في فلكه ويعجزون عن اللحاق به، فهذا الجواني المصري يقول:
قد جاء نصر الله والفتح الذي
وعد الرسول فسبحوا واستغفروا
يا يوسف الصديق أنت لفتحها
فاروقها عمر الإمام الأطهر
ملك غدا الإسلام من عجب به
يختال والدنيا به تتبختر
فهذه الأبيات في مدح السلطان صلاح الدين فيها الحيرة التي رأيناها عند القاضي الفاضل، عن أي معنى يقال ويذكر لهذا البطل الإسلامي، ونعته السلطان بأنه كالنبي يوسف عليه السلام، وكالقائد المظفر عمر بن الخطاب، وأن الإسلام به يفخر ويتبختر من الفرحة بهذا النصر الكبير، لا يساوي كل هذا ما أضفاه القاضي الفاضل على هذا القائد المظفر من التمجيد والتقدير.
وانظر إلى حل الجواني لآيتين من القرآن الكريم في بيت واحد من الشعر، وهما:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} و {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه} ، ثم انظر إلى هذه الاستعارة اللطيفة في قوله:
ملك غدا الإسلام من عجب به
يختال والدنيا به تتبختر
وهذا ابن سناء الملك يمدح السلطان صلاح الدين بقوله:
لست أدري بأي فتح تهنا
يا منيل الإسلام ما قد تمنى
أنهنيك إذ تملكت شاما
أم نهنيك إذ تملكت عدنا
قد ملكت الجنان قطرا فقطرا
إذ فتحت الشام حصنا فحصنا
إن دين الإسلام منّ على الخلق
وأنت الذي على الدين منّا
لك مدح على السموات ينشا
ومحل فوق الأسنة يبنى
تخرج الساكنين منه ورب البيت (م)
في بيته أحق بسكنى
كم تأنى النصر العزيز على الشا (م)
م ولما نهضت لم يتأنى
قمت في ظلمة الكريهة كالبدر سنا (م)
ءً والبدر يطلع وهنا
لم تقف قط في المعارك إلا
كنت يا يوسف كيوسف حسنا
يجتنى النصر من ظباك كأن الـ (م)
عضب قد صحفوه فصار غصنا
قصدت نحوك الأعادي فرد الله (م)
ما أملوه عنك وعنّا
وكما احتار القاضي الفاضل والجواني المصري، فكذلك يحتار ابن سناء الملك، ووصف الشاعر فضل السلطان على الإسلام وعلى المسلمين وإتيانه بالنصر الذي عجز عنه ملوك الشام من قبل، وما النصر إلا من عند الله الذي ينصر عباده المؤمنين.
كل هذه المعاني كما ترى جزء مما جاء في تهنئة القاضي الفاضل للسلطان صلاح الدين.
أما الصور الفنية فتتمثل في التشخيص، فالدين يمنّ على الخلق، والنصر يتأنى عن الشام وعن السلطان صلاح الدين لم يتأن، واجتناء النصر من ظباه، ثم استخدامه للمصطلحات اللغوية في قوله:"كأن العضب قد صحفوه فصار غصنا"وهذا بخلاف إتيانه بالجناس التام والناقص ليتخذ منه جرسا موسيقيا في شعره.
وابن الساعاتي يقول:
أعيا وقد عاينتم الآية العظمى
لأية حال ندخر النثر والنظما
وقد شاع فتح القدس في كل منطق
وشاع إلى أن أسمع الأسل الصما
فليت فتى الخطاب شاهد فتحها
فيشهد أن السيف من يوسف أصمى
وما كان إلا الداء أعيا داؤه
وغير الحسام العضب لا يحسن الحسما
وأصبح الثغر للدين جزلان باسما
وألسنة الأغماد توسعه لثما
سلوا الساحل المخشى عن سطواته
فما كان إلا سلاحا صادف اليما
فهي حيرة أيضا بنفس الطريقة السابقة، ونفس المعاني مشتقة من تهاني القاضي الفاضل، فهذا الفتح الذي ذاع صيته حتى أسمع الجماد، ويذكر الشاعر اسم البطل الإسلامي عمر بن الخطاب، ويتمنى أن يكون حاضرا ليشهد مقدرة القائد المظفر صلاح الدين، وهكذا يبتسم الدين من الفرحة الكبرى، وكما ترى يغلب على هذه القصيدة التشخيص كذلك، واللجوء إلى الجناس في مثل قوله ((الصما)) و ((أصمى)) كل واحدة قافية لبيت.
أما قصيدة ابن المجاور فما بين أيدينا منها كله في مدح السلطان صلاح الدين البطل المغوار والرجل المتدين، فمما قاله عن صفات السلطان الكريمة:
ملك إذا ملك الملوك جنابه
لاذوا بأكرم من يؤم وأشرف
وإذا أتوا أسرى إلى أبوابه
وقفوا بأعظم من يصول وأردف
مولى غدا للدين أكرم والد
حدب على أبنائه مترفرف
ثم يمدح الأتراك الذين ينتسب إليهم السلطان صلاح الدين، فيقول:
هم فتية الأتراك كل مجفجف
يغشى الكريهة فوق كل مجنجف
قوم يخوضون الحمام شجاعة
لا ينظرون إليه من طرف خفي
إن صبحوا الأعداء في أوطانهم
تركوا ديارهم كقاع صفصف
أنت اصطفيتهم لنصرة ديننا
لله در المصطفى والمصطفي
والشاعر هنا يأتي بالجناس التام بين كلمتي ((مجفجف)) أي فارسي، و ((مجنجف)) أي حصان أصيل، وبين كلمتي ((المصطفى)) أي النبي محمدا و ((المصطفي)) أي المختار، وتظهر الثقافة الدينية لديه في حله للقرآن الكريم، من مثل ((ينظرون من طرف خفي)) و ((قاع صفصف)) .
ثم نأتي إلى وصف الحرب التي انتهت بظفر المسلمين ببيت المقدس، ولنبدأ بما قاله الشعراء في هذا الصدد، فالجواني المصري يقول:
وقمامة قمت من الرجس الذي
بزواله وزوالها يتطهر
ومليكهم في القيد مصفود ولم
ير قبل ذاك لهم مليك يؤسر
نثر ونظم طعنه وضرابه
فالرمح ينظم والمهند ينثر
حيث الرقاب خواضع حيث العيو (م)
ن خواشع حيث الجباه تعفر
غاراته جمع فإن خطبت له
فيها السيوف فكل هام منبر
إذ لا ترى إلا طلى بسنابك
تحذى نعالا أو دماء تهدر
وصوائنا تختار أن تطأ الثرى
فبصدها عنه طلى وسنور
تمشي على جثث العدا عرجا ولا
عرج بها لكنها تتعثر
والشاعر يعبر في قصيدته عن فرحة المسلمين بالنصر وبتطهير بيت المقدس، ووقوع ملك الصلبيين في الأسر، والفرحة بالانتقام بقتل العدو الذي لا حصر له، حتى غدت الجياد تتعثر في جثثهم، وكأنها تعرج وما بها من عرج.
وأهم ما في هذه الأبيات من الصور الفنية هو تشخيص الشاعر للمعركة، حيث الرمح كالشاعر ينظم، والسيف كالكاتب ينثر، ووصفه الغارات بأنها كأيام الجمع، وأن السيوف تخطب فيها على المنابر ويعني بها الرؤوس
…
الخ.
هذا بخلاف حرص الشاعر على أن يتوافر الجناس في أبياته.
ويصف ابن سناء الملك المعركة بهذه الأبيات:
حملوا كالجبال عظما ولكن
جعلتها حملات خيلك عهنا
جمعوا كيدهم وجاءوك أركا (م)
نا فمن قد فارسا هد ركنا
لم تلاق الجيوش منهم ولك (م)
نك لاقيتهم جبالا ومدنا
كل من يجعل الحديد له ثو (م)
با وتاجا وطيلسانا وردنا
خافهم ذلك السلام فلا الرو (م)
ح يغني ولا المهند طنا
وتولت تلك الخيول فكم يث (م)
ني عليها بأنها ليس تثني
وتصيدتهم بحلقة صيد
تجمع الليث والغزال الأغنا
وجرت منهم الدماء بحارا
فجرت فوقها الجزائر سفنا
صنعت فيهم وليمة عرس
رقص المشرفي فيها وغنى
ظل معبودهم [16] لديك أسيرا
مستشافا فاجعل النار سجنا
واللعين الإبرنس أصبح مذبو (م)
حا بيمني لم يعدم الدين يمنا
وابن سناء الملك يزيد في الصورة السالفة بأن يصف بلاء المسلمين في مقاتلة الصلبيين الذين جمعوا الأعداد الهائلة، والعدد المدمرة القاتلة، ولكن جيش المسلمين أسال دماءهم بحارا، واستحالة الموقعة إلى وليمة عرس، يرقص فيها السيف، ويغني فيها الرمح، وأسر صليب الصلبوت المقدس لديهم.
وأخيرا يبر السلطان صلاح الدين بيمينه فيقتل البرنس أرناط الذي كان يسخر من الدين الإسلامي الحنيف.
والصور الفنية نراها في تشبيه الشاعر جيش العدو بالجبال في ضخامته، وأن حملات السلطان صلاح جعلتها كالعهن، وهي صورة مقتبسة من القرآن الكريم في وصفه ليوم القيامة، حيث قوله تعالى:{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} .
وهنا يخونهم سلاحهم، وفي هذا المجاز عن غلبتهم، وتفر خيولهم، ويتصيدهم السلطان ورجاله، وهنا تجري دماؤهم بحارا، وتستحيل الموقعة كما قلنا إلى وليمة عرس، يرقص فيها السيف ويغني الرمح..
وبعد أن استعرضنا ما قاله الشعراء في وصف المعركة نستطيع أن نقول بالرغم مما حملته هذه القصائد من معان مما أبدعه الشعراء من صور فنية، إن هذا كله لا يصل إلى مرتبة القاضي الفاضل الذي أعطى بوصفه لهذه المعركة لوحة فنية رائعة، مليئة بالزخارف والصور البديعية، بالإضافة إلى ما تحتويه الصور الدقيقة من تفاصيل المعركة، وقد رأيت هنا أن أعرض لفقرة من هذا الوصف لنستشف منه الصور الفنية لدى القاضي الفاضل، وهو: ((وكتاب الخادم هذا وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت [17] قناته [18] شفقا [19] ، وطارت فرقة فرقا، وفل سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته [20] وكان الأكثر عددا وحصى، فكلت حملاته، وكانت قدرة الله تصرف فيه العنان بالعيان [21] عقوبة من الله ليس لصاحب يديها يدان.
وعثرت قدمه وكانت الأرض يقظة تريق [22] نطف [23] الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه، وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة [24] بالمنون، وأضحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المعبود الواحد وكان عندهم الثالث.
فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الكفر مهتومة [25] ، وطوائفه المحامية مجتمعة على تسليم البلاد الحامية وشجعانه المتوافية، مذعنة ببذل المطامع الواقية لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة [26] ، ولا في فناء الأفنية لهم نصرة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.
نرى القاضي الفاضل يقابل بين السيف والعصا وبين المنى والمنون، وبين ذلة الكافرين وعزة المسلمين، ويجانس بين ((فرقه)) بمعنى جموعه و ((فرقا)) بمعنى خوفا، وبين العنان بمعنى اللجام، والعيان بمعنى الرؤية.
انظر إلى التشخيص لدى القاضي الفاضل، فقد جعل للسيوف والرماح عيونا تكسف بالهزيمة، وجعل لهذه العيون جفونا نامت وكانت تذود النوم من عيون المسلمين.
وانظر كيف جعل للسيوف أنوفا جدعت، وكانت تشمخ بالأمل وترعف بالدماء التي تقطر من أجساد المسلمين المجاهدين، ثم كيف جعل من الكفر شخصا له أنياب أصبحت مهتومة بعد الهزيمة.
ويبلغ القاضي الفاضل بتشخيصه الذروة في وصفه للمنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون، ومعاول النقابين التي تمضغ بأنيابها الصخور، ووصفه لحال الصخور والخراب الذي حل بها في فقرة أخرى من رسالته، كما استغل الكاتب فيها القرآن الكريم لنفسه استغلالا فنيا صرفا، فاتخذ منه صبغا من أجل الصياغة الفنية التي ألف بينها بطريقة فنية فاتنة.
أرأيت إذن إلى أسلوب القاضي كيف يمتاز بالسجع والطباق والجناس، وهي أمور يشترك فيها مع غيره من أصحاب الأساليب الأدبية، ثم يمتاز بتجسيم المعاني وتشخيص الجماد ونثره للقرآن الكريم، وهي أمور أربى فيها على من شاركه فيها من الأدباء، كما امتاز بتلك المعادلات اللفظية التي توحي إلى القارئ بأن ذهن القاضي الفاضل كان ذهنا رياضيا أو به استعداد للتفوق في الرياضة.
ويشهد المؤرخون للقاضي الفاضل بأنه امتاز في النثر والشعر معا، فهذا ابن حجة الحموي يقول:"نظمه ونثره رضيعا لبان وفرسا رهان".
ويقول السبكي: "إنه كتب من الإنشاء الفائق الرائق ما يربو على مائة مجلد".
والقاضي الفاضل كما نعرف صاحب مدرسة، ورائد فن الترسل في عصره وبعد عصره.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الجد: الحظ.
[2]
جفن السيف غلافه.
[3]
مأخوذ من نسل الريش والشعر: سقط.
[4]
راش الصديق: أطعمه وسقاه وكساه.
[5]
أنواء: جمع نوء، وهو المطر.
[6]
المرابع: جمع مربع، منزل القوم في الربيع.
[7]
المراقب: جمع مرقب، المكان المشرف يقف عليه الرقيب.
[8]
سلقه بالكلام: أذاه.
[9]
يقال أنضج قلبه: كأنما الاحتقار كوى القلب بالنار حتى نضج.
[10]
جلى الأمر: أذهبه.
[11]
الغمرة: الشدة.
[12]
المعاجم: مفعول به ليلين، جمع معجم اسم مكان من عجمه لاكه.
[13]
المهر: الغضاريف.
[14]
قض الشيء: دقه.
[15]
واجب: أي ما يوجبه التقليد.
[16]
معبودهم: يعني صليب الصكلبوت.
[17]
تشظت: تطايرت شظايا.
[18]
القناة: الرمح.
[19]
الشفق: الخوف.
[20]
الحصاة: الحجر الصغير والجمع حصاة.
[21]
عنان الدابة: بكسر العين، لجامها، وعيان بكسر العين رؤية.
[22]
تريق: تصب.
[23]
نطف: قطرات ماء العين.
[24]
الرعاف: الدم يخرج من الأنف.
[25]
مهتومة: مكسورة.
[26]
العصرة بالضم: المنجاة.
أبو سليمان الخطابي
لفضيلة الشيخ الدكتور أحمد جمال العمري
شغل موضوع الإعجاز القرآني الفكر الإسلامي والعربي منذ القديم، وتصدى لهذا الموضوع مجموعة من العلماء على اختلاف العصور وتباين الثقافات، وأغلب الظن أن من أوائل من تصدى لهذا الموضوع في القرن الثاني هو أبو عبيدة (210هـ) في كتابه مجاز القرآن، ثم تابعه مجموعة غير قليلة من العلماء يختلفون في نوع الاهتمامات والتخصصات، من هؤلاء أبو سليمان الخطابي (319-388هـ) ، وقبل أن نتناول مفهوم الخطابي لهذا الإعجاز نود أولا أن نتعرف على الرجل.
أولا: الرجل:
اسمه حَمْد بن محمد بن إبراهيم [1] أبو سليمان الخطابي، البستي الخطابي، نسبة إلى زيد بن الخطاب أخي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، والبستي نسبة إلى مدينة بُسْت من بلاد كابل التي أقام فيها في أخريات حياته إلى أن انتقل إلى بارئه.
كان إماما فاضلا، كبير الشأن، جليل القدر، عفّا صالحا كريما، ثقة فيما يرويه، وكانت له مكانة مرموقة، وسمعة حسنة لدى معاصريه، أثنى عليه الجميع، ولهجوا بفضله وأشادوا بعلمه، وسعة اطلاعه، ومقدرته على تحليل القضايا العلمية، وأطلقوا عليه مجموعة من الصفات مثل العالم الأديب اللغوي المحدّث.
لقد بذل الخطابي حياته في سبيل العلم، وطوّف شرقا وغربا من أجل التزود بالعلم من أفاضل العلماء في بقاع العالم الإسلامي المترامي الأطراف، رحل إلى العراق، وتلقى العلوم المختلفة بالبصرة وبغداد، ثم انتقل إلى الحجاز وعاش في مكة ردحا من الزمن يسمع ويدون، ثم عاد إلى خراسان واستقر به الحال في نيسابور ما يقرب من سنتين، حيث تفرغ للتصنيف والتأليف، فأنتج مجموعة من الكتب العلمية، جاءت حصيلة تجواله في الأمصار الإسلامية، وفي أخريات حياته انتقل إلى بلاد ما وراء النهر، ومنها إلى مدينة بست حيث انتهى به المطاف والمقام إلى أن توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة للهجرة.
شيوخه:
اتصل أبو سليمان الخطابي بمجموعة كبيرة من العلماء المشهود لهم بالثقة والعلم، ونهل من فيوض علمهم كثيرا، ولم يقصر اهتمامه على العلوم الدينية فحسب، بل وجهه أيضا صوب علوم اللغة والأدب والنقد والبلاغة، فنجد من شيوخه نخبة كبيرة من علماء بغداد في عصره، منهم: إسماعيل الصفار، وأبو عمر الزاهد، وأبو العباس الأصم، وأحمد بن سليمان النجار، وأبو عمرو السماك وغيرهم من علماء اللغة، كذلك تتلمذ الخطابي لأبي بكر القفال الشاشي وأبي علي بن أبي هريرة وغيرهما من فقهاء الشافعية.
أما تلاميذه:
فقد ذكرت له المصادر عددا غير قليل، منهم أبو مسعود الحسن بن محمد الكرابيسي، وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ، وأبو الحسن الفقيه السجزي، وأبو عبد الله محمد بن علي النسوي، وأبو حامد الاسفراييني والحاكم النيسابوري وغيرهم.
آثاره:
ألف الخطابي مجموعة ضخمة من الكتب يغلب عليها الطابع الديني، أهمها:
1_
معالم السنن: وهو شرح لكتاب سنن أبي داود، وتوجد منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
2_
غريب الحديث: وهو كتاب صنفه للاستدراك على أبي عبيد القاسم بن سلام وأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في مصنفيهما ((غريب الحديث)) وتوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة عاشر أفندي باستانبول.
3_
تفسير أسماء الرب عز وجل.
4_
شرح أسماء الله الحسنى.
5_
شرح الأدعية المأثورة.
6_
شرح البخاري.
7_
كتاب العزلة ـ أو الاعتصام ـ وتوجد منه نسخة مخطوطة بالاسكوريال.
8_
إصلاح غلط المحدثين، وتوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الأستانة.
9_
كتاب أعلام الحديث.
10_
كتاب الغنية عن الكلام وأهله.
11_
كتاب معالم التنزيل.
12_
بيان إعجاز القرآن، وقد طبع هذا الكتاب في دار المعارف المصرية ضمن ثلاث رسائل لأعجاز القرآن.
مفهومه للإعجاز القرآني:
فهم الخطابي الإعجاز القرآني فهما خاصا، يختلف عما فهمه كثير من العلماء والباحثين في عصره، لذلك نراه ينعى على هؤلاء السابقين قصور فهمهم عن إدراك كنه ومعرفة حقيقة هذا الإعجاز، لقد رأى الخطابي أن الناس قديما وحديثا أي في عصره ذهبوا في فهمهم وبحثهم حول هذا الإعجاز كل مذهب من القول، ولكنهم لم يصدروا عن ريّ، وذلك لتعذر معرفتهم الوجه الحقيقي للإعجاز القرآني، أو معرفة الأمر في الوقوف على كيفيته.
فكون القرآن معجزا للخلق ممتنعا عليهم الإتيان بمثله، فهذا الأمر لا شك فيه، ولا موضع للجدال حوله، والأمر في ذلك أبين من أن نحتاج إلى أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عنه، وانقطعوا دونه، وقد بقي صلى الله عليه وسلم يطالبهم به مدة عشرين سنة، مظهرا لهم النكير، زاريا على أديانهم، مسفها لآرائهم وأحلامهم، حتى نابذوه وناصبوه الحرب، فهلكت النفوس، وأريقت المهج، وقطعت الأرحام، وذهبت الأموال، وقد كان قومه _ قريش خاصة _ موصوفين برزانة الأحلام، ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء المفلقون، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل واللدد، فقال سبحانه:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، وقال سبحانه:{وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} .
ثم يناقش الخطابي جماعة أخرى من العلماء حول فكرة الصّرفة التي عللوا بها إعجاز القرآن فيقول: "وذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصّرفة أي صرف الهمم عن المعارضة وإن كان مقدورا عليها غير معجوز عنها، إلا أن العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجاري العادات صار كسائر المعجزات".
ويفند الخطابي هذا الرأي قائلا: "وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي، ولا فخامة منظره، وإنما تعتبر صحتها بأن تكون أمرا خارجا عن مجاري العادات ناقضا لها، فإذا كانت بهذا الوصف كانت آية دالة على صدق ما جاء بها".
ويرى الخطابي أن هذا الوجه وإن كان في ظاهره قريبا إلا أن القرآن الكريم يضم من الآيات البينات ما تشهد بخلافه، من مثل قوله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [2] .
ثم ينتقل الخطابي إلى تحليل فكرة أخرى رآها البعض وجها هاما من وجوه إعجاز القرآن وهي فكرة تضمن القرآن الكريم للأخبار والأحداث المستقبلة التي حدثت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وثبت صدقها وصحتها، فيقول:"وزعمت طائفة أن إعجازه إنما هو فيما تضمنه من الأخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان نحو قوله سبحانه: {أَلَمْ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [3] ، ولقوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [4] . تلك الأحداث والأخبار التي ثبتت صحتها وحدوثها بعد عشرات السنين".
والخطابي لا يشك في أن هذا الأمر وما أشبهه من أخبار القرآن نوع من أنواع إعجازه، إلا أنه ليس بالأمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن فقد جعل الله سبحانه وتعالى في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها، لا يقدر أحد من الخلق أن يأتي بمثلها، فقال:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [5] من غير تعيين أو تحديد، فدل سبحانه على أن المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه.
وينتقل الخطابي بعد ذلك إلى مناقشة أشهر الآراء، وأكثرها شيوعا وهو الذي يذهب إلى أن إعجاز القرآن إنما يرجع إلى بلاغته.
ولما كان الخطابي أديبا لغويا فإننا نراه يوافق مبدئيا على هذا الرأي، ولكنه يحمل على القائلين به، وينعى عليهم جمودهم وسطحيتهم، ووقوفهم عند حد التقنين والتقليد، كما ينعى عليهم عدم تحليل الأمور وتحقيقها، وقصور كلامهم عن الإقناع ذلك أنهم "صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التي اختص بها القرآن، الفائقة في وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذي يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة قالوا: إنه لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم مباينة القرآن غيره من الكلام وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربا من المعرفة لا يمكن تحديده، وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذي يقع منه التفاضل، فتقع في نفوس العلماء به عند سماعه معرفة ذلك، ويتميز في أفهامهم قبيل الفاضل من المفضول منه"، فيقول:"وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أحيل به على إبهام".
من هنا تصدى الخطابي لتحليل موضوع بلاغة القرآن الكريم على طريقته، وحسب مفهومه لتذليل هذا الأمر عليهم، فنراه يذكر الأقسام الثلاثة للكلام المحمود ومراتبها في نسبة التبيان، ودرجاتها في البلاغة، "فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل، فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثاني أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعومتهما كالمتضادين، لذلك كان اجتماعهما في نظم القرآن فضيلة خص بها، يسرها الله بلطيف قدرته من أمره لتكون آية بينة لنبيّه، وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بهايكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض".
ويختم الخطابي تحليله لهذا الرأي بقوله: "إنما صار القرآن الكريم معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، متضمنا أصح المعاني من توحيد الله له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع من شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر".
فعمود البلاغة القرآنية التي تجتمع لها هذه الصفات كما يقرر الخطابي هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، ومن هنا كاع القوم وجبنوا عن معارضة القرآن لما قد كان يؤودهم ويتصعدهم منه.
وبعد أن يفند الخطابي ما أورده المعترضون من شبه ضد أسلوب القرآن، يحلل كثيرا من النصوص تحليلا جميلا، يكشف فيه عن ذوق الأديب وبصر العالم، وبصيرة المتذوق الفاهم لمواطن جمال الكلام وكماله.
ولكن الأمر الجديد حقا الذي وضعه الخطابي أمام أذهان وأبصار الناس في عصره هو ذلك الفهم الجديد لفكرة الإعجاز القرآني.
لقد أضاف الخطابي إلى كل الوجوه السابقة التي تداولها وتناقلها العلماء وجها جديدا غفل الناس عنه، هذا الوجه يتصل بالعامل النفسي الوجداني، ذلك هو صنيع القرآن بالقلوب وتأثيره في النفوس، "فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن، منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمواتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانا، خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمد لقتله، فسار إلى دار أخته وهي تقرأ ((سورة طه)) فلما وقع في سمعه لم يلبث أن آمن، وبعث الملأ من قريش عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوافقوا على أمور أرسلوه بها، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من ((حم السجدة)) فلما أقبل عتبة وأبصره الملأ من قريش قالوا: أقبل أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في الموسم على النفر الذين حضروه من الأنصار آمنوا به وعادوا إلى المدينة، فأظهروا الدين بها، فلم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه قرآن، وقد روي عن بعضهم أنه قال: "فتحت الأمصار بالسيوف وفتحت المدينة بالقرآن"، ولما سمعته الجن لم تتمالك أن قالت:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِه} [6] ، ومصداق ذلك ما جاء في القرآن نفسه في أمر القرآن من مثل
قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [7]، وقوله:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [8]، وقوله:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [9]، وقوله:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ} [10] ، في آي ذوات عدد منه، وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد وهو من عظيم آياته ودلائل معجزاته".
هذه هي الفكرة التي تبناها الخطابي ويتضح منها مفهومه للإعجاز القرآني، ولقد أخذ هذه الفكرة وتبناها من بعده كثير من العلماء، مثل السيوطي في الإتقان [11] وغيره من العلماء، ومن المهم أن نعرف أن هذه الفكرة هي عينها التي أدار الجرجاني حولها بحثه في أسرار البلاغة إذ اعتبر مصدر البلاغة في الكلام هو تأثيره في النفوس.
د. أحمد جمال العمري
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
ذكره ياقوت في معجم الأدباء باسم أحمد، وقال إنه سئل عن اسمه أحمد أو حمد فقال: سميت بحمد وكتب الناس أحمد.
[2]
سورة الإسراء 17.
[3]
سورة الروم 1-3.
[4]
سورة الفتح 16.
[5]
سورة البقرة 23.
[6]
سورة الجن 21.
[7]
سورة الحشر 21.
[8]
سورة الزمر 23.
[9]
سورة العنكبوت 51.
[10]
سورة المائدة 83.
[11]
انظر الجزء الثاني ص205 وما بعدها.