الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 34
فهرس المحتويات
1-
رسالة من نائب رئيس الجامعة الإسلامية
2-
التقوى سبب كل خير: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
3-
أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4-
رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
5-
أبو ألحسن الرماني ومفهومه للإعجاز القرآني: للدكتور: أحمد جمال العمري
6-
تعقيب لا تثريب - ملاحظات إسلامية حول كتاب (أبي ذر والشيوعية) : لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
7-
الجبال في القرآن آية من الرحمن: الدكتور محمد نغش
8-
تراث الحديث والسنة في الهند: لفضيلة الشيخ تقي الدين الندوي
9-
التعليم المعاصر والتربية الإسلامية: لفضيلة الشيخ محمد الشربيني
10-
القاعدة الصلبة الواعية من المهاجرين والأنصار: لفضيلة الشيخ زهير الخالد
11-
جوانب من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: الدكتور عبد الباقي علي قصة
12-
الندوة العالمية عن المسكرات: تلخيص فضيلة الشيخ محمود فايد
13-
الأسلوب الإسلامي لوقاية المجتمع من الخمر والمسكرات: الدكتور أحمد عبيد الكبيسي
14-
تكذيب الوصية المنسوبة لخادم الحرم: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
15-
الغناء من علل المجتمع المسلم: بقلم فضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
16-
الإخاء الإسلامي قوة وعطء وانتصار: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
17-
نعمة العمل بالتشريعات الإسلامية: لفضيلة الشيخ محمد المهدي محمود
18-
التهاب الزائدة الدودية: للدكتور كايد أحمد الكايد
19-
موكب النور: لفضيلة الشيخ عبد الحميد ربيع
20-
أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
رسالة من نائب رئيس الجامعة
الشيخ عبد المحسن العباد
حضرة الأخ المكرم الشيخ حفظه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
فإني أحمد إليك الله عز وجل، الذي هداك لطريق الخير فقدمت إلى هذه الجامعة الإسلامية ترجو التفقه في دينك، والتزود من التقوى في مدينة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم سدد - بفضله - خطاك، فأتممت دراستك ومنحت الشهادة العالية من جامعتك في هذا العام 95 /1396 لتبدأ مرحلة جهادك في كتائب الدعوة إلى ربك: هداية للناس، وتقويما لمناهج حياتهم، وتحقيقا لسعادتهم في دنياهم وفوزهم في أخراهم.
ومرحلة جهادك هذه هي - كما تعلم - رسالة جامعتك وهي الغاية التي من أجلها جئت من بلدك، ونفرت من قومك، وجهدت السنين لبلوغها وقد بلغتها، وهي أسمى الغايات في حياتك. والعمل لتحقيقها هو أشرف أعمالك، والجهد الذي تبذله في سبيلها يفوق في قيمته وأجره وأثره كل جهد آخر يبذل في سبيل غيرها، وحسبك ما يعيه قلبك من قول ربك في كتابه العزيز {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
فعليك أيها الأخ الكريم أن تعد نفسك، وأن تصرف همتك لأداء هذا الواجب بكل طاقتك، في أي مكان كنت، وأي عمل أو منصب توليت.
عليك أن تكون القدوة الصالحة لغيرك، في عقيدتك وخلقك، في فعلك وقولك، في كل شؤون حياتك، وأن تكون الرائد الأمين في جماعتك، والداعية الحكيم في مجتمعك: مستهديا كتاب ربك، وسنة نبيك، وهدى سلفك الصالح، لا تبتغي بعملك إلا مرضاة ربك، ليهديك ويعينك، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
تذكر دائما- حيث كنت - أنك إمام يستمع لقوله، ويقتدى بفعله وأنك أحد الشهداء فانظر أي شهيد أنت، وتحقق بهذه الشهادة، وكن مدركا لمسئولياتها، ملتزما بها.
وكن - أيها الأخ الكريم - على صلة مستمرة بجامعتك، التي وضعت فيك، وفي كل زملائك أملها، وحملتكم جميعا أمانة الدعوة إلى الله على بصيرة، وهي معكم دائما: أمامكم برسالتها ومن ورائكم بكل جهودها، تؤازركم، وتساندكم وتعاونكم، وترجو لكم النجاح في كل خطواتكم على طريق جهادكم في سبيل ربكم.
ووثق صلتك بإخوانك من أسرة جامعتك، وتعاونوا جميعا على أداء رسالتكم، رسالة الإسلام الخالدة {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ، وفقك الله، وأعانك، وسدد خطاك على طريق الهدى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد المحسن بن حمد العباد
القاعدة الصلبة الواعية من المهاجرين والأنصار
لفضيلة الشيخ زهير الخالد
لقد رأينا في الحلقة السابقة الأثر العميق والواسع الذي تركته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصابة رضوان الله تعالى عنهم، فقد تركت فيهم حزنا عميقا وأسى بالغا إلى درجة الذهول كما حدث مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى القبائل العربية في الجزيرة العربية حيث تفاوتت انعكاساته، فمنهم من حزن، وهم الصادقون، وهم قلة قليلة، أما أكثرهم ممن قال فيهم رب العزة والجلال:{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} فقد تركت لديهم سرورا وفرحا وردة عن الإسلام. وإن اختلفت الصورة التي ظهرت فيها ردة كل فريق..
أما اليهود الموتورون، والمتنبئون الكذابون والنصارى ودولتهم الرومية، الذين يمثلون المعسكر الغربي، والفرس ودولتهم المجوسية الذين يمثلون المعسكر الشرقي. فقد دفعتهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يتحضروا ويعدوا العدة للانقضاض عل دولة المسلمين في المدينة المنورة، حتى أصبح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب وفاة نبيهم عليه الصلاة والسلام كما تصفهم أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها فتقول: "لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة وأعربت النفاق وسار أصحاب محمد كأنهم معزى مطيرة في ليلة شاتية مطيرة، بأرض مسبعة.
لقد كان الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - يدركون هذه الأخطار والتحديات التي نجمت عن وفاة نبيهم عليه الصلاة والسلام وكانوا يدركون أيضا المهمات الكبرى التي تنتظرهم وتمتحن صلابتهم ووعيهم، وفي مقدمتها مغالبة آلامهم الشديدة، وأحزانهم العميقة، والمسارعة لانتخاب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون عليه للوقوف في وجه هذه المحن المتلاحقة والتي تقف في وجههم.
ضرورة البت السريع في انتخاب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إن اجتماع الأمة على رجل يخلف قائدها المتوفى أمر في غاية الأهمية، وله تأثيره الكبير على حاضر الأمة ومستقبلها، وعلى تماسكها وقوتها والحيلولة دون تفرق كلمتها وتمزق وحدتها، ومن هنا نجد أن الأمم ومنذ زمن قديم حتى العصر الحاضر تحرص أن يكون لقائدها، ملكها أو رئيسها نائبا يخلفه إذا نزل به الموت، ويسارع أهل الحل والعقد لتنصيبه أو لتأكيد تنصيبه خلفا لقائدها الراحل فور موته وقبل الاشتغال بمراسم دفنه، وهذا ما تقضي به مصلحة الأمة وأمنها.
لكن شأن النبوة يختلف عن شأن الرئاسات الدنيوية، ومن ثم لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة معينا صراحة من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذا فقد وجد الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - أن عليهم أن يقوموا بهذه المهمة الكبيرة، وعلى وجه السرعة والحكمة لأن الأحداث المنتظرة والمتوقعة تقتضي منهم هذا البت السريع، والزمن لا يتنظر فإن لم تقطعه قطعك. ومن ثم فقد رأيناهم رضي الله عنهم يسارعون إلى ذوي السن والمكانة والقيادة فيهم للتشاور معهم على هذا الأمر الجلل فذهب فريق منهم إلى أبي بكر رضي الله عنه وهم كثرة المهاجرين وأسيد بن حضير في بني عبد الأشهل من الأنصار، وذهب بعض المهاجرين إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعه الزبير بن العوام رضي الله عنه في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، وذهب فريق ثالث وهم كثرة من الأنصار إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة.
لقد حدثت هذه الاجتماعات نتيجة مبادرات قام بها المجتمعون، ولم تكن نتيجة دعوة رسمية أو عامة حتى يستعيد أحد أو يقرب غيرهن ولكن هذا قد يؤدي إلى نتائج خطرة إذ قد تخرج كل مجموعة برأي لا سيما إذا كانت تشمل أو تمثل عددا كبيرا من أهل الحل والعقد، ثم تطلب من عامة المسلمين الموافقة على ما اتخذته من قرار فإذا اختلف القراران فتح بذلك المجال لأن تبذر بذور الفتنة..
وخطورة هذه الحال لم تكن غائبة عن الصحابة - رضوان الله تعالى عنهم -، ومن ثم لمل علم بعضهم باجتماع المهاجرين ومن معهم من الأنصار إلى أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - واجتماع الأنصار في سعد بن عبادة رضي الله عنه سارع إلى أبي بكر وعمر وأخبرهما باجتماع الأنصار.
قال ابن إسحاق: فأتى آت إلى أبي بكر وعمر فقال: إن هذا الحي مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، قد انحازوا إليه فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم.
قال عمر: فقلت لأبي بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه 1. لقد كان هناك من الصحابة من يرى أن المهاجرين هم أولى الناس باختيار الخليفة، ومن ثم كان يكفيهم أن يرسلوا إلى إخوانهم الأنصار ليأتوا إليهم للتشاور في هذا الأمر الخطر لكن تجرد الصحابة وإخلاصهم لله سبحانه أملا عليهم إلا أن يتجاوزوا هذه الاعتبارات التي يلتصق بها كثير من الناس، وإلا أن يرتفعوا إلى أعلى درجات السمو والتواضع والحرص على جمع كلمة المسلمين، فقام المهاجرون ومشوا إلى إخوانهم الأنصار، في سقيفة بني ساعدة.. وفي الطريق يلتقي المهاجرون بمعن بن عدي وعويم بن ساعدة الأنصاريين فيقولان لهم: إلى أين يا معشر المهاجرين؟ فيجيب عمر: نريد إخواننا هؤلاء الأنصار. فيقولان لهم: لا عليكم ألا تقربوهم، وقضوا أمركم يا معشر المهاجرين.
لقد كان هذان الأنصاريان - رضي الله تعالى عنهما - ممن يرون أن المهاجرين هم أولى الناس باختيار الخليفة، ولا حرج عليهم فيما لو نفروا في البت في هذا الأمر، ولم يأتوا الأنصار. لكن المهاجرين أرادوا أن يكون الأمر عن إجماع من الصحابة كلهم - رضي الله تعالى عنهم - ولذلك سعوا إلى السقيفة حيث الأنصار.
الاجتماع التاريخي في سقيفة بني ساعدة
1-
موضوع البحث في السقيفة: إن الذي يدرس الأقوال التي طرحت في اجتماع السقيفة، كما نقلتها الروايات الصحيحة يدرك من خلالها الموضوع الذي كان يبحثه الصحابة المجتمعون في السقيفة، وهو: المستوى الذي يقضي الإسلام أن ينتخب الخليفة منه: هل هو من المهاجرين؟ أم من الأنصار؟ أم من العرب كافة؟ أم من المسلمين عامة؟.. الخ. فإذا اتفقوا على المستوى الذي تدل عليه توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعض الظواهر العامة التي لها وزنها في هذا المجال.
فقام رجل من الأنصار فحمد الله تعالى وأثنى عليه وأدلى بوجهة نظره وهي أن الإسلام يقضي بأن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، لوجود عدة ظواهر وإشارات من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن هذه الظواهر والإشارات:
كون المدينة المنورة هي بلد الأنصار وكونهم أنصار الله تعالى وكتيبة الإسلام، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إليهم، وكذلك المهاجرون هاجروا إليهم، فأصبحوا رهطا من الأنصار، ثم ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار"[1] .
لكن وجهة النظر هذه لم تكن تمثل رأي الأنصار كلهم ولا غالبيتهم بدليل وجود آراء أخرى أدلى بها الأنصار في السقيفة أو عبروا عنها بمواقفهم، فقد كان فيهم من يعتقد أن هذه الإشارات والظواهر التي تدل على فضل الأنصار لا تعني أن الخليفة يجب أن يكون منهم، فهذه فضائلهم عند الله سبحانه وأجرهم فيها على الله تبارك وتعالى ثم إن للمهاجرين - لا سيما السابقين منهم - فضائل كثيرة تربو على فضائل الأنصار - رضي الله تعالى عن المهاجرين والأنصار جميعا - ولذا فقد كان في الأنصار من يرى أن المستوى الذي يجب أن ينتخب الخليفة من هو.
(قاعدة الإسلام) وقد عبر قائلهم عن وجهة النظر هذه بقوله: منا أمير ومنكم أمير.
هذا وقد رأينا آنفا أن مجموعة من الأنصار سعت إلى المهاجرين واجتمعت إليهم وهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل - رضي الله تعالى عنه وعنهم - معبرا بذلك عن وجهة نظره وهي أن المستوى الذي يجب أن ينتخب الخليفة منه هو المهاجرون، بل كان منهم من يرى أن ينفرد المهاجرون باختيار الخليفة كما رأينا من قول عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي - رضي الله تعالى عنهما -.
المهم أن هذه وجهات نظر كان يراها بعض الأنصار - رضوان الله تعالى عليهم -.
في المستوى الذي يجب أن يختار منه الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على ما لديهم من ظواهر وإمارات ولا يقدح ذلك في إخلاصهم ولا يخدشه بدليل أنه حين تبين لهم على لسان الصديق رضي الله عنه أن هناك نصا يقطع كل شبهة ويحدد المستوى الذي يجب أن يكون منه الخليفة وهو قريش سلموا به وأجمعوا عليه ولم يتخلف منهم أحد - رضي الله تعالى عنهم - وما أعمق فهم العلامة ابن كثير - رحمه الله تعالى - لما توخاه الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - من الأقوال التي طرحت في اجتماع السقيفة، وما أروع قوله الذي عبر به عن فهمه العميق هذا حين قال:"ووقعت شبهة لبعض الأنصار وقام في أذهان بعضهم جواز استخلاف خليفة من الأنصار". "وتوسط بعضهم بين أن يكون أميرا من المهاجرين وأميرا من الأنصار.. حتى بين لهم الصديق أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، فرجعوا إليه وأجمعوا عليه"[2] .
بعد أن أدلى الأنصار بوجهات نظرهم هذه أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يتكلم وكان قد أعد كلمة في نفسه لإلقائها في هذا الاجتماع لولا أن أبا بكر سبقه بالكلام، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم بدأ بذكر ما للأنصار من فضل ولم يترك شيئا أنزل فيهم، أو ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عرفه المسلمون إلا ذكره اعترافا بفضل الأنصار، ولكنه لم يكن يرى أن ذلك يفيد أن يكون الخليفة منهم، لوجود نص صريح قاطع من الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد المستوى الذي يجب أن يختار منه الخليفة وهو قريش.
وكان مما قاله رضي الله عنه: أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا. وقال أيضا: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادي الأنصار.."
ثم وجه الكلام إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه يذكره بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقطع كل شبهة في هذا الشأن فقال: ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: "قريش ولاة الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم"[3] .
وبناء على هذا فالمستوى الذي يجب أن ينتخب الخليفة منه هو المهاجرون لأنهم من قريش، ولكن هذا لا يعني إغفال دور الأنصار ومكانتهم، بل أن دورهم دور أساسي، فهم مساعدوا الخليفة وأعوانه ووزراؤه، وهم بطانته الخيرة.
ولما كان المهاجرون والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - يتوخون امتثال أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في تحديد المستوى الذي يكون منه الخليفة، ولما كان الإخلاص لله تعالى والتجرد من كل شيء سوى ذلك هو الذي يسيطر عليهم ويحركهم، سرعان ما سلموا بما ذكره الصديق رضي الله عنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبر سعد بن عبادة رضي الله عنه عن قناعة الأنصار بقوله:"صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء".
ولما فرغ أبو بكر رضي الله عنه من خطابه، وظهرت القناعة على الجميع بما أدلى به من وجهة النظر الصحيحة، وهو أن يكون الخليفة من المهاجرين، وكان أفراد هذا المستوى الجديرين بهذا المنصب الكبير متوفرا، لا سيما من السابقين منهم، وكان الأمر يقتضي البت السريع، وعدم التأجيل، وكان في جانب أبي بكر عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح - رضي الله تعالى عنهما -، أخذ أبو بكر بأيديهم ورشحهما للانتخاب وقال: لقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم [4] .
فكره عمر ذلك، كره أن يرشح وأن يقدم على أبا بكر، وقد قال عمر معبرا عن كراهته لأن يتقدم على أبي بكر: فلم أكره مما قال أي أبي بكر غيرها والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلا أثم، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر إلا أن تغير نفس عندي الموت. ولذلك خاطب الأنصار قائلا: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟.فقال الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر [5] .
وقال: يا معشر المسلمين، إن أولى الناس بأمر نبي الله، ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأبو بكر السباق المسن، وقد رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لدينكم أفلا ترضونه لدنياكم.
ويروي البيهقي: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره [6] .
ويروي البيهقي أيضا: أن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه.
فأراد عمر أن يبايع أبا بكر، فسبقه غليها بشير بن سعد الخروجي والد النعمان بن بشير - رضي الله تعالى عنهما - ثم بايعه عمر وأبو عبيدة، ويسابق المجتمعون من المهاجرين والأنصار وبايعوا أبا بكر بالخلافة. واضطر الصديق لقبولها خوفا من أن ينفض المجلس بدون بيعه فيفتح باب للفتنة.
روى الإمام أحمد عن رافع الطائي رفيق أبي بكر في غزوة ذات السلاسل، قال: وسألته عما قيل في بيعتهم، فقال وهو يحدثه عما تقاولت به الأنصار وما كلمهم به عمر بن الخطاب الأنصار، وما ذكرهم به من إمامتي إياهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فبايعوني لذلك وقبلتها منهم وتخوفت أن تكون فتنة بعدها ردة [7] .
ويعقب ابن كثير على هذا الخبر بقوله: "وهذا إسناد جيد قوي، ومعنى هذا أنه رضي الله عنه إنما قبل الإمامة تخوفا أن تقع فتنة أربى من تركه قبولها رضي الله عنه"فخوفه من وقوع الفتنة أشد عليه من قبولها.
وخطب أبو بكر مرة مبينا للناس أنه لم يكن طامعا بالخلافة ولا راغبا بها ولا حدث بها نفسه في ليل أو نهار، فقال كما يرويه عنه موسى بن عقبة في مغازيه: "ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة، ولا سألتها في سر ولا علانية [8] . وتمت بذلك بيعة أبي بكر البيعة الخاصة وكان ذلك في بقية يوم سنة 11هأي في بقية اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أهله عليه الصلاة والسلام قد أغلقوا الباب دونه [9]
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد سبق أن ذكرنا أنه كان مع من انضم إليه من المهاجرين في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها ولم يكن فيما يبدو قد علم اجتماع السقيفة، كما أن الذين حضروا اجتماع السقيفة لم يكونوا قد علوا بمكانه، وقت اجتماعهم، لأن الاجتماع إنما تم كما ذكرنا نتيجة مبادرات قام بها المجتمعون، ولم تكن نتيجة دعوة عامة أو رسمية تحدد المكان والزمان، حتى يكون هناك مجال لأعداء الإسلام من المتزندقين والمستشرقين والمتأثرين بهم من المغفلين لينفذوا منه للطعن بأصحاب السقيفة فيتهمونهم بالتآمر، أو الطعن بعلي والزبير ومن كان معهم فيتهمونهم بالتخلف أو الحرص على المنصب، فلم يكن هذا ولا ذاك، فحاشاهم جميعا من ذلك ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
البيعة العامة في المسجد، وبيعة علي والزبير لأبي بكر - رضي الله تعالى عنهم:
فلما كانت صبيحة اليوم الثاني الثلاثاء 13 / 3 / 11هاجتمع الناس عامة في المسجد، وقام عمر وتكلم قبل أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما - فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: إني قد قلت بالأمس مقالة، ما كنت، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله، ولكن كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا، أي يكون أخرنا وفاة.
وأن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هو هدى رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هدى هذه الأمة له، وأن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقاموا فبايعوه [10] .
ثم قال عمر لأبي بكر: اصعد المنبر ن ولم يزل به حتى صعد المنبر، وتقدم الناس إليه فبايعوه، وحضر كل من علي والزبير بن العوام - رضي الله تعالى عنهما - فبايعا أبا بكر الصديق رضي الله عنه علنا أمام الملأ من الناس [11] وتمت البيعة العامة لأبي بكر الصديق، وأصبح بذلك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر رضي الله عنه.
خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
بعد أن تمت البيعة، ألقى أبو بكر الخطبة التالية التي رسم فيها سياسته ومنهجه في الحكم فقال: أيها الناس فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله.
لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل.
ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء.
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله [12] .
رأي علي والزبير في الصديق وانتخابه:
أما ما روى من تأخر علي بن أبي طالب والزبير - رضي الله تعالى عنهما - من أن يكونا في مقدمة المبايعين لأبي بكر الصديق رضي الله عنه كما هو المتوقع منهما فسبب ذلك - فيما يبدو لنا والله تعالى أعلم - ظنهما أنهما أخرا عن المشورة قصدا، ورفضا عمدا أن يؤخذ رأيهما فيمن هو جدير بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر طبيعي وفطري أن يغضب الإنسان إذا كان بمكانة علي والزبير إذا رفض عمدا أن يؤخذ رأيهما في القضايا الخطيرة والهامة التي لا يستغنى فيها عن مثل رأيهما حتى يؤديا واجبهما في مثل هذه القضايا الكبرى التي لها أثرها على حاضر الأمة ومستقبلها.
فلما تبين لهما أن الأمر لم يكن مقصودا، وأن الاجتماع إنما تم بناء على مبادرات أسرع إليها المجتمعون، ولم يكن نتيجة تنادي بعضهم بعضا حتى يقدم البعض ويؤخر البعض، ذهب ما شعر به من الغضب، لا سيما وهما يعلمان ضرورة البت السريع في مثل هذا الأمر الخطير، وقد انتخب من كان يريان، أنه أولى الناس بالانتخاب ولذلك جاءا إلى المسجد وبايعا علنا أمام الملأ من الناس. وصرحا بسبب غضبهما وأكد هذا المعنى فقال: ماغضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، وأنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي.
ويعقب ابن كثير على هذا الخبر فيقول: إسناد جيد ولله الحمد والمنة [13] .
ويروي ابن كثير عن سفيان الثوري عن عمرو بن قيس عن عمرو بن سفيان قال: لما ظهر علي على الناس قال: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله [14] .
وروى البيهقي عن أبي وائل، قال: قبل لعلي أبي طالب، ألا تستخلف علينا؟ فقال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.
ويعقب عليه ابن كثير فيقول: إسناد جيد ولم يخرجوه [15] .
وهكذا نجد أن انتخاب الصديق قد تم بإجماع الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم- ولم يتخلف عنه أحد. ويقول العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى: "ومن تأمل ما ذكرناه ظهر إجماع الصحابة والأنصار على تقديم أبي بكر ".
وظهر له برهان قوله عليه الصلاة والسلام:"يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ".
وظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينص على الخلافة عينا لأحد من الناس لا لأبي بكر كما قد زعمه طائفة من أهل السنة، ولا لعلي كما تقوله طائفة من الرافضة، ولكن أشار إشارة قوية ليفهمها كل ذي لب وعقل إلى الصديق [16] .
تحديد علي للبيعة لأبي بكر مرة ثانية رضي الله عنهما:
حدثت بعض الملابسات، دفعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن يرى أن الحكمة ومصلحة الأمة تقضي بأن يجدد بيعته لأبي بكر الصديق رضي الله عنه مرة ثانية وذلك بعد وفاة وزوجته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله وأرضاها.
وقد أشار ابن كثير رحمه الله إلى هذه الملابسات فقال: ولكن لما حصل من فاطمة- رضي الله عنها عتب على الصديق، بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تعلم بما أخبرها به أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال:"لا نورث ما تركناه صدقة "فحجبها وغيرها من أزواجه ومنهم عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها وكذلك عمه عن الميراث بهذا النص الصريح فسألته أن ينظر علي في صدقة الأرض التي بخيبر وفدك، فلم يجبها إلى ذلك لأنه رأى أن حقا عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق البار الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة عتب وتغضب، ولم يتكلم الصديق حتى ماتت، واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم رأي علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر صلى الله عليه وسلم مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم [17] .
ولعلنا لا نبتعد في التعليل إذا أضفنا إلى هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر فاطمة رضي الله عنها أنها أول أهل بيته لحاقا به، ومعنى هذا أن وفاتها ستكون قبل وفاة زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقينا فاحتاج علي أن يكثر من ملازمتها في بيتها دون أن يمنعه ذلك من حضور الصلاة خلف أبي بكر رضي الله عنه في وقت من أوقاتها أو يتغيب عنه في مشهد من المشاهد، ويشهد لذلك خروجه معه إلى ذي القصة، حين خرج الصديق شاهرا سيفه يريد قتال أهل الردة، وما كان من إصرار علي أن يرجع الصديق إلى المدينة المنورة ليدير شؤون المسلمين وقول علي لأبي بكر: لا تفجعنا بنفسك يا أبا بكر.. الخ وأن ينيب مكانه القادة لقتال المسلمين، ففعل أبو بكر ذلك وأخذ بنصيحة علي رضي الله تعالى عنهما.
فلعل هذه الظاهرة وهي كثرة ملازمة علي لفاطمة- رضي الله عنهما -في بيتها وما يستلزمه من غياب علي من مجلس أبي بكر في المسجد، دفع بعض الناس لأن يتوهم أو يظن بسبب عدم رضا علي بن أبي طالب على انتخاب الصديق خليفة أو شيئا من هذا القبيل، فلما توفيت فاطمة رضي الله عنها زالت تلك الأسباب ولازم علي مجلس أبي بكر ولكي يقطع تلك الظنون والأوهام جدد البيعة لأبي بكر - رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما- وقطع بذلك الطريق على كل وهم أو ظن خاطئ، وسد كل منفذ لكل متقول أفاك.
بيعة أبي بكر الصديق كانت إلهاما من الله تعالى للصحابة:
لقد كان واضحا إلهام الله تعالى وتوفيقه للمهاجرين والأنصار في اختيارهم للصديق رضي الله عنه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان واضحا في السرعة التي تمت فيها، وروح الإخلاص والتجرد التي سادت المناقشة في اجتماع السقيفة والتي قادت إلى سرعة الاقتناع والتسليم للحق لمل تبين على لسان الصديق.
وتجاوز بعض الاعتبارات المعهودة في مثل هذه الاجتماعات والمناقشات التي تنشأ عن وهم أو غير ذلك مما لا تنزل بصاحبها عن مستوى العدالة، إلا أنها ليست في ذاك المستوى الساحق الذي تسامى عليه المهاجرون والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - في اجتماعهم التاريخي الذي عقد في السقيفة، والذي جاء بالخير الكثير بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام.
ولقد أدرك الصحابة هذا الخير العميم الذي نشأ عن ذلك الاجتماع التاريخي، والذي جاء به اختيار أبي بكر خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو هريرة رضي الله عنه معبرا عن ذلك: والله الذي لا إله غيره، لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله! ثم قال في الثانية، ثم قال في الثالثة.
فقيل له: مه يا أبا هريرة. فقال أبو هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام فلما نزل بذي خُشب قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فقال: والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجههه رسول الله ولا حللت لواء عقده رسول الله.
فوجه أسامة، فجعل لا يمر بقبيلة يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم. فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام [18] .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكأنه يرد على وسوسة منافق أو مشكك أراد نشرها، قال:.. فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، ألا وإنها كانت كذلك، ألا وإن الله عز وجل وقي شرها، وليس فيكم اليوم من يقطع الأعناق مثل أبي بكر.
ثم قال: "أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أقوى من مباعة أبي بكر "[19]
هذا وقد دلت الأحداث وتصرفات أبي بكر الحكيمة المحكمة، ومواقفه الموفقة، على فضل اجتماع السقيفة وانتخاب الصديق، وأن ذلك كان بإلهام وتوفيق من الله تعالى للمهاجرين والأنصار - رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم - وذلك برهان قوله عليه الصلاة والسلام:" يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ".
عبد الله بن سبأ اليهودي هو أول من وضع عقيدة: وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن من تمام هذه الحلقة، من هذا البحث، أن نشير إلى ما يذكره التاريخ عن عقيدة "الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف نشأت ومن وضعها، ومن أول من اعتنقها وصدقها.
يذكر المحققون من مؤرخينا الأفذاذ كابن جرير الطبري - رحمه اله تعالى- أن أول من وضع عقيدة "الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم " هو الماكر اليهودي الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي، وذلك كجزء من مخطط اليهود، حينذاك لبذر بذور الفتنة بين المسلمين، وهذا ما عرفا به منذ القدم حين يعجزون عن مواجهة أعدائهم ومجابهتهم مجابهة مكشوفة صريحة، فيستديرون من الخلف بين أعدائهم ليفرقوا صفهم بالاستحواذ على الجملة منهم والسذج ذوي التفكير السطحي ممن يسهل خداعهم وتضليلهم. وهذا ما فعلوه بالمسيحيين والمسيحية التي جاء بها عيسى عليه الصلاة والسلام وفي عهدها الباكر على يد الماكر اليهودي الخبيث شاؤول، الذي دخل بالمسيحية "أو تظاهر بالدخول فيها "واتخذ اسم (بولس) فحرفها ووضع للنصارى عقيدة التثليث وسواها من الخرافات والشركيات والضلال.. فضاع بذلك التوحيد الذي جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام وما زال النصارى حتى اليوم على الشرك الذي وضعه لهم اليهودي شاؤول. وهذا ما يعترف به كتاب النصارى أنفسهم، فيقول:"إن العقيدة والنظام الديني الذي جاء في الإنجيل ليس الذي دعى إليه السيد المسيح بقوله وعمله، إن مرد النزاع القائم بين المسيحيين اليوم بين اليهود والمسلمين ليس إلى المسيح بل إلى دهاء بولس ذلك المارق اليهودي والمسيحي ".
ثم يقول: "إن بولس في تقليده لاسطفانوس داعي المذهب الإيساني قد ألصق بالمسيح التقاليد البوذية، إنه واضع ذلك المزيج من الأحاديث والقصص المتعارضة التي يحتوي عليها الإنجيل اليوم والتي تعرض المسيح في صورة لا تتفق مع التاريخ أصلا ليس المسيح بل بولس، والذين جاءوا بعده من الأحبار والرهبان هم الذين وضعوا تلك العقيدة والنظام الديني الذي تلقاه العالم المسيحي كأساس للعقيدة المسيحية [20] . الخ. ومن ثم فهو أو غيره يقول: إنه من الأولى أن تسمى المسيحية اليوم بالديانة البوليسية (نسبة إلى بولس) وليس المسيحية!
لقد حاول اليهود أن يعيدوا نفس التجربة مع الإسلام والمسلمين، فأوعزوا لهذا الماكر الخبيث الذي خرج من اليمن والذي عرف في كتب التاريخ باسم عبد الله بن سبأ اليهودي وبابن السوداء. فتظاهر بالإسلام وجعل يتنقل بين أمصار المسلمين، يبحث عن فلول المرتدين الذين قهرتهم قوة الإسلام ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم ممن قال الله تعالى فيهم:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وكذلك جعل يصطاد السفهاء والحمقى، والجهلة والبسطاء والسذج ذوي التفكير السطحي المحدود ممن يسهل خداعهم، وأيضا جعل يتصل بمن عرفوا بالانحراف في السلوك فأوقفهم عثمان بن عفان رضي الله عنه عند حدهم وباتوا ينتظرون الفرصة كي ينتقموا لأنفسهم، فجاءتهم بفتنة عبد الله بن سبأ اليهودي.
مخطط ابن سبأ اليهودي لبذر بذور الفتنة بين المسلمين:
إن الذي يبدو لنا مما يرويه المؤرخون المسلمون عن تحركات ابن سبأ اليهودي واتصالاته ودعوته أنه كان يهدف لأمرين اثنين كهدفين أوليين مرحلتين وهما
1-
إثارة الناس على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه
2-
تمزيق صف المسلمين بالدعوة لأكثر من واحد من أبرز الصحابة وهم علي بن طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهم - حتى إذا نجحت دعوته بإثارة الغوغاء على خليفة المسلمين عثمان رضي الله عنه لا يتمكن المسلمون بعده من الاجتماع على شخص واحد، وإنما ينقسمون إلى ثلاثة أحزاب.
ومن ثم بث الدعوة في البصرة لطلحة بن عبيد الله، واتصل لهذا الغرض برجل لص قهره عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو: حكيم بن جبله [21] ، فنزل عليه ابت سبأ اليهودي، واجتمع إليه نفر من أمثال حكيم وممن أشرت إلى نوعهم آنفا "فطرح لهم ابن سبأ اليهودي ولم يصرح فقبلوا منه، واستعظموه". [22]
لكن عبد الله بن عامر، والي البصرة أخرجه منها، فخرج إلى الكوفة، والتقى بأمثال من التقى بهم في البصرة، وبث فيهم الدعوة للزير بن العوام رضي الله عنه لكن مالي الكوفة أخرجه منها.. فخرج حتى جاء الشام فلم يجد فيها من يستجيب له، فتابع الطريق إلى مصر فوجد فيها تربة خصبة لفتنته فاستقر فيها، والتقى بأمثال من التقى بهم في البصرة والكوفة ولكنه جعل الدعوة فيها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وصار يكاتب من استحوذ علهم في البصرة والكوفة ويكاتبونه.. وفي مصر وضع عقيدة الوصاية أي الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعله مثل ذلك في البصرة والكوفة، إلا أنه جعل الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في البصرة هو طلحة بن عبيد الله، وفي الكوفة هو الزبير بن العوام وفي مصر هو علي أبي طالب رضي الله عنه بغرض تفريق صف المسلمين كما قدمنا وأكتفي في هذه الحلقة بما ذكره ابن جرير الطبري في هذا الخصوص بما يلقي الضوء على ما نحن بصدده وهو الإشارة إلى أن أول من وضع عقيدة الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده – فيما نعلم - هو اليهودي الماكر عبد الله بن سبأ اليهودي.
يقول ابن جرير: "فيما كتب به إلى السري عن شعيب، عن سيف [23] عن عطية، عن يزيد الفقعسي قال: "كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب أن محمدا يرجع، وقد قال الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} فمحمد أحق بالرجوع من عيسى."قال:: فقبل ذلك منه. ووضع لهم الرجعة، فتكلموا فيها.. "ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد. "ثم قال لهم: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. "ثم قال لهم بعد ذلك: من أظلم لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمة.
"ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر [24]
وهكذا نجد أن الذي وضع عقيدة الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن سبأ اليهودي بقصد تفريق كلمة المسلمين، وإفساد اعتقادهم.. وقد تابع عمله بغاية المكر والدهاء بحيث استطاع أن يستحوذ على عدد غير قليل من البسطاء والسذج ووجد الذين قهرتهم قوة الإسلام من فلول المرتدين، وكذلك من قهرهم حزم خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه في إقامة العدل وحدود الله تعالى.. وجد هؤلاء وأولئك في دعوته متنفسا لحقدهم ومجالا لانحرافهم، فقاموا بفتنة كبيرة وجريمة نكراء أدت إلى استشهاد ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وخروج طوائف من الإسلام مرقوا منه مروق السهم من قوسه.
زهير إبراهيم الخالد
مدرس التاريخ الإسلامي بالجامعة الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
1 سيرة ابن هشام ج 4 ص 656 (القسم الثاني) تحقيق القازوميلية الطبعة الثانية 1375هـ- 1955م.
[1]
السيرة النبوية لابن كثير تحقيق مصطفى عبد الواحد ج 3 ص 678. ط 1.
[2]
السيرة النبوية لابن كثير تحقيق مصطفى عبد الواحد ج 4 ص 485 ط 1 1385هـ- 1966م.
[3]
السيرة النبوية لابن كثير ج 1 ص 391.
[4]
المصدر السابق ص 488
[5]
المصدر السابق ص 490.
[6]
المصدر السابق 494 – 495.
[7]
المصدر السابق ص 491.
[8]
المصدر السابق ص 496.
[9]
سيرة ابن هشام تحقيق محي الدين عبد الحميد ج 4 ص 336.
[10]
السيرة النبوية لابن كثير ج 1 ص 492 – 493.
[11]
المصدر السابق ص 494. ويعلق ابن كثير على ذلك فيقول: وفيه فائدة جليلة، وهي مبايعة علي بن أبي طالب، وأما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة وهذا حق، فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه.
[12]
المصدر السابق ص 493 ويعقب ابن كثير على قول الصديق ((وليتكم ولست بخيركم)) فيقول من باب الهضم والتواضع فإنهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنهم.
[13]
السيرة النبوية لابن كثير ج 1 ص 496.
[14]
المصدر السابق ص 497.
[15]
المصدر السابق ص 493 – 498.
[16]
المصدر السابق ص 496.
[17]
المصدر السابق ص 495 – 496.
[18]
البداية والنهاية لابن كثير ج 6 ص 305. ط: 1 مصدره.
[19]
مسند الإمام أحمد – رحمه الله تعالى - ج 1 ص 323 – 327 رقم 391. ط: 4.
[20]
كتاب رجال الفكر والدعوة في الإسلام للشيخ أبي الحسن علي الحسيني الندوي ص 19 – 20 ط 3 1389 هـ- 1969م طبع بدار القلم.
[21]
ورد في تاريخ الطبري برواية السري ما يلي: وكان حكيم بن جبلة لصا، إذا قفل الجيوش خفس عنهم، فسعى في أرض فارس، فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم، ويفسد في الأرض، ويصيب ما شاء ثم يرجع، فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان ن فكتب إلى البصرة حتى تأنسوا منه رشدا، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها فلما قدم ابن السوداء نزل عليه "ج 4 ص 326 طبع دار المعارف 1963م تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
[22]
المصدر السابق ص 326
[23]
لقد اعتمدت رواية سيف فيما رواه عن الفتنة التي أوقعها استشهاد عثمان بن عفان t لأنها فيما يبدو لي حتى الآن أنها أصح الروايات.
[24]
تاريخ ابن جرير الطبري ج 4 ص 340 – 341 طبع دار المعارف بمصر 1963م. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
جوانب من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
الدكتور عبد الباقي علي قصة
أهم ما يميز الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وهي رسالة الإسلام إنها تاريخية جامعة كاملة عملية، أما أنها تاريخية، فلأن التاريخ لم يقف عند حد تدوين سيرته، بل تناول كل ما يتعلق به من جميع النواحي، وحفظ الله ما نزل عليه من آيات القرآن الحكيم. .
ووقف جماعة من المسلمين حياتهم منذ العصر النبوي على حفظ أقواله وأفعاله وتقريراته، فكان رواة الحديث والمحدثين وأصحاب السير طبقات من الصحابة والتابعين، وتابعيهم حتى نهاية القرن الرابع من الهجرة، فلما اكتملت السنة جميعا وكتابة وتدوينا، كتب العلماء سير هؤلاء الرواة من الصحابة فيما عرف بعلم الرجال، وكانت هذه الرسالة كاملة لأنها شملت جميع أطوار حياة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ البعثة، فحياة محمد منذ بعثته إلى وفاته معلومة، وهو في حياته، لم يحتجب عن عيون قومه، وقد روى التاريخ من سيرته اشتغاله بالتجارة وكيفية زواجه، ثم علموا حاله بعد أن نزل عليه الوحي، وحين واجههم وحين خالفوه، وعرفوا جهاده في سبيل إعلاء كلمة الله، وبذله النفس والنفيس في سبيل تبليغ دعوة الإسلام، وقد جمع علماء المسلمين من شؤون حياة النبي وأحواله حتى لم يبق شيء لم يذكروه، فقد "وصفوه في قيامه وجلوسه ونهوضه من النوم وهيئته في ضحكه وابتسامه وعبادته في ليله ونهاره"[1] ووصفوا حياته العائلية، وطهارته من الغسل والوضوء. بل أنهم تحدثوا عن هديه في تناول الطعام والشراب وركوب الدواب والبيع والشراء والتعامل مع الناس ومع أهله [2] وتناولوا المأثورات من أدعيته [3] .
وعلى الجملة فقد أذن النبي لمن يحضر مجالسه أن يبلغوا عنه، وهو إذن عام يشمل ما يكون في بيته أهله وعياله وكان أصحابه وأزواجه يتناولون ذلك، ويسأل بعضهم بعضا عنه، وقد استمر الأمر على هذا منذ بعثه إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخف عن أصحابه أمرا من أموره، ويكفي أن تقول عائشة رضي الله عنها:"لا تصدقوا من يزعم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتم مما أوحي إليه، فلم يبده للناس".
يقول المستشرق الإنجليزي باسورث سميث: "ترى الشمس ها هنا بارزة بيضاء تنير أشعتها كل شيء وتصل إلى كل شيء، لا شك أن في الوجود شخصيات لا نعلم عنها شيئا، ولا نتبين حقيقتها أبدا أو تبقى منها أمور مجهولة، بيد أن التاريخ الخارجي لمحمد صلى الله عليه وسلم نعلم جميع تفاصيله من نشأته إلى شبابه وعلاقته بالناس وروابطه وعاداته ونعلم أول تفكيره وتطوره وارتقاءه التدريجي"إلى أن يقول: "وإن عندنا كتابه (القرآن) لا مثيل له في حقيقته وفي كونه محفوظا مصونا وفي عدم التزام الترتيب في معانيه، وأنه لم يستطع أحد أن يشك في قيامه على أساس الصدق شكا يعتد به، فهو عندنا ممثل لروح عصره ومرآة لبيئته".
ويقول جيبن: "لم ينجح في الامتحان العسير رسول من الأولين من بداية أمره كما نجح محمد صلى الله عليه وسلم حين عرض نفسه بادئ ذي بدء بصفته رسولا يوحى إليه - على الذين عرفوا ضعفه البشري وعرفوه أكثر مما يعرفه غيرهم".
ويقول هيجنس في كتابه "الاعتذار عن محمد والقرآن": إن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أحدثت في نفوس أصحابه من الحمية ما لم يحدث مثله في الأتباع الأولين لعيسى عليه السلام فقد انفض عنه حواريوه حين ذهب به أعداؤه ليصلبوه فخذلوه وأسلموه، أمل أصحاب محمد فالتفوا حوله، ودافعوا عنه مخاطرين بحياتهم (في غزوة أحد) إلى أن تم النصر على أعدائه".
وليس هناك نبي من الأنبياء عرف من شؤون حياته ما عرف الناس من حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وليس في حياتهم ما يمكن أن يتخذ مثلا أعلى للحياة الإنسانية إلا محمدا صلى الله عليه وسلم في هديه وسيرته فموسى عليه السلام عمر طويلا، فما الذي نعرفه من حياته الطويلة التي بلغت مائة وعشرين سنة؟ إننا لا نعلم إلا مولده وشبابه وهجرته وزواجه وبعثته، إن كل ما يعنينا من سيرة النبي الاجتماعية هي أخلاقه وعاداته وهديه، فهي الأسوة والقدوة في الحياة.
وعيسى عليه السلام وهو أقرب الأنبياء من محمد صلى الله عليه وسلم ماذا نعرف من حياته؟ إنه قد عاش ثلاثا وثلاثين سنة كما يروي الإنجيل، ولكن هذا الكتاب لم يشتمل إلا على ثلاث سنوات من أواخر حياته. .
وهكذا تبقى سيرة محمد صلى الله عليه وسلم النموذج الكامل للأسوة والقدوة الحسنة فهي الحياة الكاملة والسيرة الجامعة. . والكتاب الذي أنزله الله عليه وهو القرآن الكريم حفظه الله من التبديل والتحريف، أما أسفار التوراة فقد خالج الباحثين في أمرها الشكوك، وقد جاء في دائرة المعارف البريطانية "أن هذه الأسفار دونت وجمعت بعد موسى عليه السلام بقرون كثيرة، وأن فيها لكل حادثة روايتان مختلفتان"[4] .
وقد اقتصرت الأناجيل على أربعا غير إنجيل (برنابا) و (الطفولة) ولا يعرف شيء عن الذين قاموا بجمع هذه الأناجيل، ولا اللغة التي كتبت بها لأول مرة، وقد تناولت مجلة (روبر كورت) هذه المسألة فقالت: إن كل ما يوجد الآن في الأناجيل إنما هو بقايا مما ترك الوثنيون واليونان والرومان وثار الجدل حول: هل للمسيح وجود تاريخي؟ فإذا كان المسيحيون أنفسهم يثور بينهم الجدل على هذا النحو فماذا يقول الملاحدة من الماركسيين [5] .
أما القرآن فقد تنزل منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة هي فترة البعثة المحمدية، فكانت هذه الآيات يتلقفها الحفاظ من الصحابة، وكتبة الوحي وقد جمعت هذه الآيات مرتين مرة في عهد أبي بكر بإشارة عمر رضي الله عنهما حينما استمر القتل في القراء إبان حروب الردة في اليمامة والمرة الثانية في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي جمع الناس على مصحف واحد. . ولقد كان لآيات هذا القرآن على أسماع العرب من المشركين فضلا عن المؤمنين أثر كبير، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لما سمعه من تلاوة آيات من القرآن في بيت أخته فاطمة من سورة طه بقراءة عبد الله ابن أم مكتوم ما رقق قلبه، ودفع به إلى الإيمان إعجابا بما سمع، ومن ذلك أيضا موقف الوليد بن المغيرة حينما أسمعه الرسول آيات من سورة فصلت رجع إلى قومه يقول: لقد سمعت من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه.
ومن ذلك أيضا ما روي من أن أصحاب رسول الله اجتمعوا يوما فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا قالوا إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوا به شرا، قال: دعوني فإن الله سيمنعني، فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها ثم قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ..} فجعل يقرأ ما شاء الله له أن يقرأ، فجعلت قريش يقول بعضها لبعض: ماذا يقول ابن أم عبد؟ قالوا إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه يضربونه في وجهه. وظهر أثر ذلك حينما خرج أبو سفيان بن حرب وأبو جهل عمرو بن هشام والأخنس بن شريق الثقفي ذات ليلة يستمعون القرآن من رسول الله وهو يصلي في بيته، فأخذ كل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، وتكرر ذلك منهم، فإذا دل ذلك على شيء فدلالته البالغة أن القرآن أخذ بأسماع العرب، فمن كان طاهر القلب، صافي الحس والشعور تقبله بقبول حسن ومن كان عنيدا حاقدا وقف منه موقف المتردد، أو المعادي.
وبلغ من وقع القرآن على أسماع أعدائه أن قال قائلهم كما حكى القرآن عنهم {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .
ولابد لنا من الإشارة هنا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان هو المعلم الأول فقد كان لحكمة أرادها الله أميان لا يقرأ ولا يكتب، ولو سمح له بذلك لكان من أعظم من قرأ وكتب، ولكنه وقف عند الحد الذي أراده الله له، فظل أميا، لا يقرأ إلا بالمفهوم الذي نزلت به أول آيات الوحي، فإذا كانت القراءة في معناها اللغوي تعني الجمع بين الحروف وتأليفها في كلمات، وتأليف الكلمات في جمل تنطق بواسطة أدوات النطق من مكتوب فإن القراءة كما وردت في هذه الآيات الأولى كانت تعني أكثر من ذلك، وهو ما سبق أن أوردنا من أنه هو المعنى بقول الملك: للرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء "اقرأ" ولذلك نجده يجيبه في المرة الثالثة بعد وعي ما أراده الملك "ماذا أقرأ؟ "وكان حينما أمره في المرتين السابقتين يجيب "ما أنا بقارئ" وحتى تتأكد أميته للعالم قبل البعثة فلما قال محمد صلى الله عليه وسلم تحت وطأة ما قام به الملك من غطة "ماذا أقرأ "في بعض الروايات، دل ذلك على أن النبي ربما يكون قد أدرك ما يعنيه الملك من القراءة، التي يفسرها ما ورد من أنه حينما ينزل عليه الوحي كان يحرك لسانه به ليحفظه فنبهه الله إلى عدم الحاجة إلى هذا التحريك فقال تعالى:{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
وهذا الجزء الأخير من الآية فيه رد على من ادعى أن الحديث بلفظه ومعناه من عند محمد وهو قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} لأن الحديث هو تفسير ما جاء به القرآن ن فلفظ الحديث من عند محمد صلى الله عليه وسلم ومعناه وحي، أما القرآن الكريم فهو وحي بلفظه ومعناه. .
ومع هذا فالإعجاز في أن يتلقى محمد صلى الله عليه وسلم الوحي وهو على هذه الصورة من العنف ويتشوق إليه فقد كان يتمثل في الجهد الشديد الذي عبرت عنه عائشة رضي الله عنها فقالت: "ثم سري عن رسول الله، فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه".
وقد اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كتبة للوحي ممن عرفوا بالقدرة على ذلك من الصحابة، وكانوا عددا محدودا في مكة، ولكنهم زادوا زيادة كبيرة عندما وجه الرسول عنايته بذلك حينما استقر في المدينة فكانت بداية ذلك أنه جعل فداء غير القادر من أسرى بدر من المشركين ويعرف الكتابة أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين. . حتى أنهم ليكتبون الحديث عن الوحي من القرآن فينهاهم عن ذلك ويقول:"ومن كتب عني شيئا من ذلك فليمحه"أي من السنة خاصة "ولكن حدثوا عني".
وإذا كان القرآن الكريم هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم العظمى فإنه إذا كان قد أعجز في نمط تركيبه وتأليفه وبيانه وجرسه ومعانيه العرب وهم من هم في بلاغة اللغة. فإنه جمع العرب على لهجة قريش وهي اللهجة الأم، وليس هناك مجال لما أثاره مرجليوث وأضرابه وممن لف لفهم مثل الدكتور طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي"[6] .
فقد كانت مكة هي أم القرى ذات الطابع الديني والثقافي الأمثل ولابد وأن شعر الجاهليين كتب بلهجة قريش وحتى يثبت إعجاز القرآن بتحدي العرب. . وما زال القرآن قائما - بحفظ الله - للتحدي في مجالات كثيرة غير الإعجاز البلاغي واللغوي والعلمي ولعل أعظم ذلك جميعه ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من أن جدته لا تبلى على كثرة الرد، فهو ربيع دائم.
هذا ولقد سألت العقاد يوما في ندوته: ما أثر الإمام ابن تيمية في الفكر الإسلامي؟ قال: أعظم الأثر. قلت: وما دلالة ذلك؟ قال: إنه أوجد منطقا قرآنيا [7] .
فقد أدرك هذا الإمام الكبير مدى ما جناه منطق أرسطو على العلوم العربية وعلوم العقيدة والشريعة فأفسد أسلوبها وأساء مناهجها وقضاياها.
وقد بلغ التحدي من القرآن مداه للعرب حيث قال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
ولم يجد العرب بعد أن أعيتهم الحيل وبعد تأمل وتفكير وإمعان وتدبير إلا أن يوهموا الناس أنه سحر، وأن محمدا ساحر، وهو اتجاه له دلالته، إذ هي كلمة حق أريد بها باطل، ولذلك نجد القرآن الكريم إزاء هذه الشبهة التي حاكها الوليد بن المغيرة يهدد هذا المشرك تهديدا شديدا ويصمه بالعار قال تعالى من سورة المدثر:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودا وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كلا كَلَاّ إِنَّهُ كَانَ لآياتنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} ومن سورة القلم قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم} .
ونتساءل: لماذا وقف القرآن هذا الموقف من الوليد بن المغيرة؟ والجواب: لأنه أوجد بهذا العناد شبهة، وقد كان أقرب إلى الإيمان حينما لمس هذا النمط الفريد من الترتيل، ولكنه نأى بنفسه بسبب عناده وجهله بعيدا عن النور، وليهيم مع مشركي مكة في دياجير الظلمات حتى يتخطفه الموت.
ووقع تدبيرهم هذا بعد هذه المرحلة في غباء الحقد الأعمى فإذا بهم يتفقون على أن يحذروا كل قادم من سحر محمد فتكون النتيجة على عكس المطلوب ولعل خير دليل نسوقه في هذا المجال قصة إسلام عمر وابن الطفيل.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد تنزل عليه القرآن نمطا فريدا معجزا من التعبير بواسطة حروف اللغة العربية، فإن من يقرأ الأحاديث النبوية يستطيع أن يلمس صورة من صور التعبير تمتاز بالابتكار والإبداع فالسنة هي المذكرة التفسيرية للقرآن، وهي المستوى الأمثل في توضيح آيات الكتاب العزيز، ومع هذا لا يستطيع أحد أن يقول إن هذا النمط من التعبير يرقى إلى المستوى الذي جاء به القرآن، فالفاصل بين الأسلوبين واضح. .
والفاصل بينهما وبين ما عرف من شعر العرب في الجاهلية والإسلام أكثر وضوحا، وقد وقف القرآن موقفا محددا من الشعر والشعراء قال تعالى:{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ومع هذا الموقف المحدد فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على الصدق في قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
وكان يستمع إلى الخنساء من شعرها في رثاء أخيها صخر ويقول: "إيه يا خناس"وقد أهدى بردته لكعب بن زهير حينما ألقى قصيدته يعتذر فيها من موقفه في هجائه ومعارضته للدعوة الإسلامية بعد أن أهدر دمه أثناء فتح مكة، وكان من أصحابه من الشعراء من يستمع إلى قصائده التي ينشرها بين يديه حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة.
وقد كتب للرسول صلى الله عليه وسلم عدد من أصحابه منهم علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الأرقم، وخالد بن سعيد، وأخوه أبان، وزيد بن ثابت وعبد الله بن أبي بن سلول، وأبي بن كعب القارئ ن كما كتب له في بعض الأوقات أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعا وكتب له كثيرا معاوية بن أبي سفيان، وكذلك الزبير بن العوام ومعيقيب ابن أبي فاطمة، والمغيرة بن شعبة، وشرحبيل بن حسنة، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وجهم بن الصلت وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وحنظلة الأسيدي وهو حنظلة بن الربيع [8] .
وقد قام بعض هؤلاء بكتابة الوحي كما قام البعض الآخر بكتابة ماعدا ذلك من كتبه. . ومن أهم الوثائق التاريخية التي كتبت في العصر النبوي الكتاب الذي أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم في موادعة يهود المدينة. . وهو يمثل الميثاق الذي حددت فيه العلاقات بين جميع أفراد مجتمع المدينة وقد تم فيه وضع ملامح المجتمع الإسلامي الجديد والعلاقات بين مجتمع الفئات على اختلاف الدين والعرق والجنس في الحدود التي رسمها الإسلام.
هذا بالإضافة إلى كتبه التي أرسلها مع رسله إلى الملوك والأمراء في جميع البقاع، ومنها كتابه الذي أرسله إلى النجاشي في أمر المهاجرين إلى الحبشة ومنها الوثيقة التي أملاها رسول الله على علي بن أبي طالب فيما فاوض عليه سهيل بن عمرو رسول الله بشأن صلح الحديبية.
ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم على ثقيف، وكتابه ردا على كتاب ملوك حمير، وكتاب مسيلمة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ورده عليه، وغير ذلك من الكتب وعهود الأمان.
وقد بلغ عدد الصحابة رضوان الله عنهم في حجة الوداع مائة ألف، منهم عشرة آلاف صحابي ذكرت أسماؤهم وأحوالهم في كتب التاريخ وهذه إحصائية ببعض أسماء الصحابة الذين امتازوا بكثرة ما حفظوه من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعدد ما روى من الأحاديث، وهي تمثل طبقة من الصحابة امتازوا بقوة الحافظة وصفاء الذهن:
الصحابي
عدد مروياته
سنة وفاته
أبو هريرة
5374
59
مبد الله بن عباس
2660
68
عائشة بنت أبي بكر
2210
58
عبد الله بن عمر
1630
73
جابر بن عبد الله
1560
78
أنس بن مالك
1286
93
أبو سعيد الخدري
1170
74
ومن هنا يتبين أن العربية الذاكرة كانت قوية، ذلك أنه من سنن الله في خلقه أنهم إذا أكثروا من استعمال قوة من قواهم ازدادت قوة وحيوية، وقد مرن الصحابة منذ نزل الوحي على حفظ القرآن كما مرنوا على حفظ الأحاديث حتى بلغوا في ذلك حدا بعيدا وعلى هذا الأساس يمكن القول أن الذاكرة الواعية عند العرب منذ عصر الجاهلية أوجدت هذا اللون من الاستعداد الذي لم يعرف في تاريخ البشرية وأن الوثائق التاريخية الإسلامية في العصر النبوي اعتمدت على وسيلتين الكتابة والحفظ وأن القرآن الكريم امتاز على السنة بأنه حفظ بالوسيلتين وأن الوثيقة الشفوية المحفوظة كان لها نفس القوة في تاريخ النبوة من ذلك ما كان من بيعة العقبة الأولى والثانية فقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه مضطرا حينما واجه جيش المشركين في بدر أن يشاور أصحابه وبخاصة الأنصار. . لأن البيعة الثانية التي على إثرها وبمقتضاها هاجر الرسول وهاجر أصحابه قد نصت على أن يحمي الأنصار رسول الله مما يحمون منه أزواجهم وأبناءهم داخل المدينة لا خارجها، ولم يطمئن الرسول حتى قال له سعد بن معاذ: والله لكأنما تريدنا يا رسول الله، قال:"أجل"قال: فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، ولعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
الدكتور عبد الباقي قصة
كلية العلوم الاجتماعية
الرياض
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
راجع الندوي: الرسالة ص 104.
[2]
راجع زاد المعاد لابن القيم.
[3]
راجع المأثورات للشيخ حسن البنا.
[4]
راجع مادة بابيل في الطبعة الحديثة من دائرة المعارف البريطانية.
[5]
راجع مقدمة كتاب حياة المسيح لعباس محمود العقاد.
[6]
راجع "مطلع النور "لعباس محمود العقاد، ومقدمة "الظاهرة القرآنية "لمالك بن نبي.
[7]
راجع الرد على المنطقيين لابن تيمية.
[8]
راجع الروض الأنف للسهيلي ج 4 ص.26
الندوة العالمية عن المسكرات
تلخيص فضيلة الشيخ محمود فايد
في الفترة ما بين 21 نوفمبر إلى 5 ديسمبر 1975 م. أقيمت ندوة عالمية عن المسكرات والمخدرات في مدينة المنامة بالبحرين وحضر الاجتماعات وفد من المملكة العربية السعودية أبرز دور الشريعة الإسلامية في معالجة هذه المشكلة، وقد أبدى كثير من المشتركين تفهمهم لهذا الدور، واقتناعهم به، وانتهت الندوة بهذه التوصيات.
(1)
مناشدة الحكومات في جميع الدول بأن تهتم ببذل أوجه النشاط في مكافحتها، وتعمل على تنسيق الجهود بين العاملين لإيجاد أفضل الأساليب في العلاج والوقاية.
(2)
يناشد المؤتمر الدول العربية وهيئة الأمم بتقديم المعونات المادية والفنية إلى لبنان حتى يستطيع المضي في مشروعات التنمية الشاملة بهدف القضاء على زراعة الحشيش في أراضيه.
(3)
يناشد المؤتمر دول الشرقين الأدنى والأوسط التي تزرع خشخاش الأفيون تقديرا لظروفها أن تفرض رقابة فعالة على الأفيون الناتج منها لتحول دون تسربه إلى الأسواق للاتجار غير المشروع حماية للمجتمعات من ويلاته.
(4)
يناشد المؤتمر الدول الأعضاء بلجنة الاتجار غير المشروع (تركيا، إيران، أفغانستان، الهند) إلى عقد اجتماعات دورية لتدعيم التعاون بين أجهزة المكافحة مع نظائرهم في الدول العرية.
(5)
يناشد المؤتمر الدول المنتجة للقات والتي يستهلك فيها بتبصير المواطنين بأضراره المتنوعة كما يناشد المكتب الدولي بببذل الجهود المختلفة للمعاونة في حل هذه المشكلة وكشف تأثيرات القات على الكيان البشري.
وفي مجال الوقاية العامة يوصي المؤتمر بما يلي:
(1)
الاستفادة من تطبيق الشريعة الإسلامية وكيفية علاجها لمشكلة المسكرات والمخدرات.
(2)
تنشئة أولاد الأسرة تنشئة صالحة تمنعهم من تعاطيها.
(3)
توفير الضمان والرعاية الاجتماعية لأسر المدمنين وحماية أفرادها.
(4)
نشر الوعي الصحي بين أفراد الشعب وتلاميذ المدارس في جميع مراحلها حفاظا على طاقاتهم ومستقبلهم.
(5)
تجنيد وسائل الإعلام المختلفة للقيام بنشاط هام في هذا المجال.
(6)
مطالبة الدول التي تسمح بتعاطي المسكرات باتخاذ ما يلزم لمنع ذلك أو الحد منه وفقا لظروف كل بلد.
(7)
إلزام المصانع المنتجة للمسكرات إعلان بارز عليها يحذر من أضرارها، ويجب الدعاية لها.
وفي حقل العلاج الطبي والنفسي يوصي المؤتمر:
(1)
تشكيل وحدات تتألف من المتخصصين في لدين والطب والكيمياء للكشف عن أخطارها وتوفير سبل العلاج.
(2)
يوصي المؤتمر بأن يبادر المجلس الدولي للمسكرات ومكافحة الإدمان بإجراء دراسات على ضوء ما أجرته بعض الدول والجمعيات الطبية والخيرية وإعدادها للعرض في مؤتمر بغداد الذي سيعقد سنة 1976.
الأسلوب الإسلامي لوقاية المجتمع من الخمر والمسكرات
الدكتور أحمد عبيد الكبيسي
حقيقة الخمر ونشأتها:
الخمر: كلمة عربية، ويرجح أنها مستعارة من الآرامية على الرغم من شيوعها في الشعر الجاهلي، وسميت خمرا، لأنها تركت فاختمرت، واختمارها: تغير ريحها. وقيل: سميت بذلك لمخامرتها العقل.
أما "وين" فهي الصيغة العربية للكلمة العبرية "بين"ومعناها: العنب الأسود [1] غير أن صاحب اللسان قد نقل عن ابن بري: أن "الوين"هو العنب الأبيض، أما بقية من نقل عنهم فيذهبون إلى أنه العنب الأسود.
ولا يمكن تحديد الزمن الذي اكتشفها الإنسان فيه، ويظهر أنه عرفها منذ زمن بعيد جدا [2] . فلقد جاء ذكرها في التوراة، وكانت شائعة في عصر الرومان واليونان.
ولقد ارتبط انتشار الخمر بانتشار النصرانية، فمن المعروف أن جميع الأديرية القديمة كانت محاطة بالكروم التي تعصر الخمر بها بغية استعمالها بالصلوات الكنسية [3] .
ثم من تطور الزمن فاصبح للخمر صناعة تنتج أنواعا مختلفة منها.
موقف المجموعة البشرية من الخمر:
لم تتردد أي مجموعة من المجموعات البشرية على اختلاف تكوينها، وتباعد الزمن فيما بينها، واتساع المساحة بين مواطنها في الوقوف من الخمرة موقف المعارض لها فكرا، والمعادي لها شيوعا، والمتردد منها تعاطيا، ولم يعرف عن أي فكر اجتماعي، أو دين سماوي أن شجع على الخمر [4] أو أباح تعاطيها إباحة مطلقة، أو نظر لها نظرة الاحترام والتكريم [5] .
فقد حرمتها الديانة اليهودية على وجه الإجمال. فقد أوجبت التوراة على الناذر الذي نذر نفسه للرب أن يمتنع عن الخمر والأتربة.
فقد جاء في التوراة ما نصه [6] : "وكلم الرب موسى قائلا: إذا انفرز رجل وامرأة لينذر نذر النذير لينتذر للرب، فعن الخمر والمسكر يفترز، ولا يشرب خل الخمر ولا خل المسكر، ولا يشرب من نقيع العنب، ولا يأكل عنبا رطبا ولا يابسا، كل أيام نذره لا يأكل من كل ما يعمل منه جفنة الخمر من العجم حتى القشر".
وكان الكهنة يمتنعون عن الخمر قبل قيامهم بالفرائض سواء بسواء بأمر من التوراة التي جاء فيها ما نصه [7] : "وكلم الرب هارون قائلا: خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع"
والنبط - أيضا - تجنبوا الخمر. ووصفوا أحد آلهتهم في نقوشهم بأنه "الإله الخير الذي لا يقرب الخمر"[8]
كما أن تحريم الخمر يدخل في القاعدة التي قال بها كثير من قساوسة النصارى.
وكل ذلك له أصوله في ماضي الساميين السحيق الذي جعل للخمر والأشربة صفة من صفات الشياطين.
وقد تميز عصرنا الحاضر بالمعالجة الموضوعية، والمكافحة العلمية لجرثومية الخمر والمسكرات، نظرا لقوة ما وصلت إليه الخمر من شراسة في الانتشار وإبداع في الصنع، وتفنن في الدعاية، حتى استحكمت في النفوس، وتغلبت على الطباع، وتسلطت على الموارد.
فضعفت معها الرجولة، وتراخت أمامها الإرادة، وهانت في سبيلها الكرامة، وانعكس ذلك على الحياء العام في الشارع والبيت، وأثر على الإنتاج في المعمل والمؤسسة، وسطا على الأسرار والخطط في السياسة والحرب، وفي ذلك يقول فريد وجدي [9] : "ولو عمل إحصاء عمن في مستشفيات العالم من المصابين بالجنون والأمراض العضالة بسبب الخمر، وعمن انتحر وقتل غيره بسبب الخمر وعمن يشكو في العالم من آلام عصبية ومعدية بسبب الخمر وعمن أورد نفسه موارد الإفلاس بسبب الخمر وعمن يجرد عن أملاكه بيعا أو غشا بواسطة الخمر. لبلغت حدا مريعا نجد كل نصح بإزائه صغيرا.
فما هي إلا بلية تقع على رأس من قضى الله بها عليه من عباده.
وإذا كان النصح لا يجدي أو هو لم يعد يجدي كما يقول فريد وجدي، فما هي الإجراءات التي يجب أن تفرض لغرض الحد من هذا الطوفان الجنوني الخطير؟
للجواب على هذا السؤال تبرز الحاجة إلى نموذج ناجح في التجربة، عملي في التطبيق، فعال في الأثر.
وهذا الأنموذج المطلوب - في نظر كثير من المنصفين - هو الأسلوب الإسلامي الذي لأفلح على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان أن يجعل هذه الجرثومة تتوارى فلا تظهر في الطريق وتختفي فلا تشيع في المجتمع، وتتأخر فلا تتقدم في صناعة أو صيانة.
ونود التنبيه هنا إلى التصور الإسلامي لأهداف الحرب المعلنة ضد الخمرة لكي نكون واقعيين وموضوعيين بلا خيال أو مغالاة.
ولا أظن أحدا من الناس يتصور أن الإسلام - يحارب الخمرة والمسكرات - قادر على القضاء عليها قضاء تاما بحيث تختفي كما تختفي الحشرة الخبيثة بعد المكافحة المدروسة بمسحوق أو محلول يقطع دابرها، ويستأصل شأفتها، لا: ليس هذا هو الهدف.
وذلك: لأنه ما دام في الإنسان ميل طبيعي إلى اللذة، وما بقي في الفرد نزوع إنساني إلى المتعة، وما استمر البشر مدارا لمختلف العواطف والخلجات، فسوف يبقى هناك نفر يشربون الخمر.
وما دام في الأرض نخيل تحمل التمر وحقول تغل الشعير، ودوالي تفرز العنب، فسوف تبقى الدنان بالخمرة مملوءة، ولا يمكن القضاء عليها إلا بالقضاء على ذلك كله وهو أمر مستحيل. فهدف الإسلام إذن هو: أن يقضي على الوجود الشرعي للخمر ليطاردها القانون ويعمق الشعور بقبحها لتعافها النفوس، ويربي الضمير الفاضل لتتعارض مع المروءة، ويشدد العقوبة عليها لتختفي عن الأنظار.
وإذا اختفت الخمرة عن الأنظار شحت وتدنت، حتى إذا طلبها الراغب شق عليه منالها، وإذا عرضها التاجر هرب منه طالبها، وإذا تيسرت ظل الراغب والتاجر في خوف دائم وذعر مستديم من العقاب المهين.
وبذلك تبقى واجهة الجماعة المعلنة نقية طاهرة، لا يلوثها فاقد، ولا يدنسها داعر، ولا يعتدي على نظافتها مستهتر أو متمرد، ومن استتر بعد ذلك فهو إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه.
وهذا الهدف سيكون نتيجة لإصلاح الفرد، وتقويم أخلاقه، وتربية ضميره تربية منظمة مدروسة.
وهذا هو الفهم المعاصر لإصلاح المجرمين والجانحين الذي يقوم على ركنين أساسيين [10] :
1-
حماية الهيئة الاجتماعية من خطر السلوك الإجرامي، بحيث تبقى واجهة المجتمع آمنة مطمئنة نقية.
2-
معالجة المجرم وإصلاحه وتقويمه ليصبح عضوا نافعا لنفسه ومجتمعه.
الدين سلاح فعال ضد الانحراف:
إن الكثير من مشاهير المصلحين وعلماء الإجرام في العالم يتفقون معنا على أن الدين من أمضى الأسلحة ضد الجريمة والانحراف، وكان التركيز منصبا على التعليم الديني في سجون العالم في القرن الثامن والتاسع عشر.
وحينما أسست نظم السجون في أمريكا في سنة 1790 في فيلادلفيا، اعتبر كل من التربية والتعليم الديني إجراء أساسيا في إصلاح السجن.
ولا يزال التركيز قويا حتى اليوم على استعمال سلاح الدين في محاربة السلبيات الخلقية في المدينة والسجن.
يقول الأستاذ عبد الجبار عريم أستاذ علم الإجرام في جامعة بغداد [11]، ومما لاشك فيه: أن الاعتقاد الديني يلعب دورا هاما في ضبط سلوك الأفراد ومنعهم من ارتكاب المعاصي. فالدين الإسلامي يحرم الخمر والقمار، ومما لاشك فيه أن هذين العاملين من العوامل التي تلعب دورا أساسيا في الإجرام، وقد ثبتت فعالية الإسلام في منع المتدينين حقا من ممارستها.
"إن الدين لا يتناقض مع التربية الخلقية والأدبية، فكلاهما يستهدفان إقامة روادع ذاتية تسيطر على سلوك الفرد وتردعه عن الجنوح نحو الخطأ والرذيلة".
"إن الدين يمكن أن يعتبر طريقة من الطرق التربوية التي تتناول كلا من الجوانب الروحية والخلقية، وكذلك الجانب الاجتماعي أيضا.
"ليس بإمكان الفرد أن يستغني عن الجانب المعنوي في الحياة، ولذلك فإن الدين يمكن أن يقدم خدمة في هذا المجال كوسيلة لتهذيب النفس ورفع مستوى الروادع الأدبية، وغرس نوازع الخير، والابتعاد عن الشر، وهذا كله يعتمد بالدرجة الأولى على تنمية الحس الوجداني في السجين وإيقاظ ضميره، وتقوية شعوره بالمسؤولية نحو الغير"اه
إذن فإن من الأمور البديهية: أن الدين يعمل على صحة النفس كما يعمل الغذاء صحة الجسد، والنفس الصحيحة تصدر عنها أخلاق صحيحة أيضا، كما أن الجسد الصحيح يصدر عنه عمل صحيح. ولا يستقيم أحدهما بدون الآخر.
إن القوي الذي يفعل ما يشاء ليس بصحيح، لأن النفس الصحيحة لا تنطلق كما تنطلق الآلة التي تملؤها قوة البخار، أو قوة الكهرباء، فتصطدم وتهشم، وتخبط خبط عشواء حيث تحملها القوة العمياء.
وعلى هذا فلا صحة بدون ضابط ولا يكون الضابط فعالا ومؤثرا غلا إذا كانت فيه القوة على تنمية القدرة على الامتناع، ورد النفس عن بعض ما تشاء، وليس معناه القدرة على العمل فحسب، ولا المضي مع النفس في كل ما تشاء.
وقد دل الواقع العملي على أن الدين هو من أقوى الضوابط للإنسان، ومن أشدها إحكاما للتصرف، ومن أعمقها تنمية للانضباط.
وإذا انضبط الإنسان فقد أصبح مخلوقا جميلا، يعلم ما يريد فيفعله، ويعرف ما يكره فيرفضه.
وعن انضباط الإنسان يقول الأستاذ العقاد رحمه الله [12] : "وهذا قبل كل شيء هو مصدر الجمال في الأخلاق: مصدره أن القوة النفسية أرفع من القوة الآلية. . مصدره أن يتصرف الإنسان كما يليق بالكرامة الإنسانية، ولا يتصرف كما تحمله القوة الحيوانية، أو القوة التي يستسلم لها استسلام الآلات.
مصدره أن يكون الإنسان سيد نفسه وأن يعلم أنه يريد فيعمل أو يمتنع عن العمل، وليس قصاراه أن يساق إلى ما يراد.
إن المجتمع قد يملي على الإنسان ما يليق وما لا يليق، ولكنه لا يغنيه عن الضابط الذي تناط به جميع الأخلاق".
والدين هو الضابط الذي لا غنى عنه في كل خلق من الأخلاق، وبه يتسلط الفرد على ما يفرضه المجتمع عليه من حسن وقبح، فيأخذ ذاك ويترك هذا فيعلوا على المجتمع في كثير من الأحيان، وبدونه يتسلط المجتمع على الفرد في كل ما يفرضه عليه مما يليق، فيكون أسيرا لا يملك الاختيار غضيضا لا يحسن النظر، مشوشا لا يجيد الفرز والانتقاء.
والدين هو الضابط الذي يشعر الإنسان بالمسؤولية، ويجعله يحاسب نفسه بها، وبالتالي فإنه يرفض أن يرتكب ما يشين. يتعارض وجمال الأخلاق التي انضبط بضوابطها.
وهذا هو "عزم الأمور"الذي جعله القرآن الكريم من مظاهر السمت الجميل والخلق الفاضل، والشخصية الإنسانية الكريمة.
والقرآن الكريم أرسى قواعد المسؤولية الفردية، وأناط بها تكاليف الدين والأخلاق، "كل نفس بما كسبت رهينة " [13] وقال [14] : ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخر.
خلاصة القول: أن الشر - على العموم - ليس مشكلة علمية تحتاج إلى نتاج العقل، ولا مشكلة كونية تحتاج إلى تقدم العلم، ولكنه في حقيقته مشكلة العواطف الإنسانية، والهوى الجامح، والرغبة المتمردة، التي تجعل الإنسان يرفض الألم، ويجهد في أن يكون شعوره بالسرور والمتعة غالبا على تصرفاته وممارساته.
وهذا الشعور يقتضي علاجا يطابق طبيعته، وحكمة تلمس جوانب حقيقته ن ولا نعلم علاجا أو حكمة تطابق طبيعة ذلك الشعور غير الدين.
وإذا كان هذا الشعور الإنساني في هذه المشكلة يتطلب الدين، فليس هناك ما يمنع من الاستعانة على إيصال الدين وتعاليمه ونظرياته التربوية والأخلاقية بواسطة ما توصل إليه الإنسان من تقدمه في العلم والحضارة.
لأن كل ما هو مطلوب في هذا الصدد هو: أن ترتبط التشريعات ومشاريع السيطرة على هذه المسألة بمفهوم العقيدة الدينية، وضبط الرغبة وعدم الإخلال بضوابط الفكر الديني ليكون للفرد رؤيته الواضحة، وحدوده المرسومة، واستجابته الذاتية.
لماذا الدين وليس التشريعات الوضعية:
جرى التطبيق العملي على حقيقة لا يمكن إنكارها، وليس في الوسع التغاضي عنها، وليس فيها ما يحتمل العناد والمكابرة، وهي:
أن الإنسان في أغلب أحواله لا يستسيغ امتثال القانون إلا إذا خشي طائلته، ويقبل على امتثال أحكام الدين من غير حاجة إلى رقيب، والإنسان عندما يمتثل أحكام القانون لا يحس بذلك الإحساس الروحاني الممتع الذي يحسه وهو امتثال لتعاليم الدين التي تضفي على نفسه الرضا، وتسبغ على روحه الطمأنينة، وتلبس تصرفاته بلباس الاحترام والقدسية.
ومن هنا نجد الملايين من الناس لا يشربون الخمر امتثالا لدوافع الدين في نفوسهم، وآلافا من الناس يشربونها مع علمهم بأن التشريع الوضعي يحرمها.
ففي العراق مثلا، أو مصر، يمتنع الناس عن الخمر مع أن القانون لا يعاقب شاربها. وفي الكويت أو الهند، أو أمريكا - في سني تحريم الخمر فيها - يقبل بعض الناس على الخمر سرا مع وقوعهم بذلك تحت طائلة القانون.
فما هي حقيقة النفسية التي تقف خاف هذه الظاهرة المتناقضة؟
الجواب عن هذا التساؤل يكمن في سير طبيعة الإنسان في عالمه الداخلي كله، وبجولة النظر في مداخل نفسه، ومطويات تفكيره، وخلفيات تصرفاته عامة.
لن في أعماق الإنسان عوالم شتى أشد سعة من العالم الذي يشاهده بعينيه، وليس لهذا العالم وجود بالنسبة الإنسان ما لم يكن له وجوده الباطن في علمه أو قرارة نفسه، وإلا فهو والمجهول عنده سواء.
ومن الحقائق التي باتت مسلمة اليوم في علم النفس: أن الأعماق الخفية في الإنسان هي التي تفسر لنا أعمالنا الظاهرة حين تحتاج إلى تفسير شديد الوضوح ولا تجد تفسيرها الصحيح في الظواهر المحسوسة.
وآخر ما ثبت من تجارب "السلوكيين"الذين يفسرون السلوك النفساني بحركات الأعصاب وخوائج الدماغ وعوارض الوظائف الجسدية على التعميم: أن الوظائف الجسدية كلها مرتبطة بالإرادة، وأن الإرادة مرتبطة بوعي الدماغ ما بطن منها وما ظهر، على ما أثبتته مدرسة بافلوف"فيلسوف السلوكيين الكبير.
وهناك من علماء النفس من يوغل في القدم باحثا عن تفسير للتصرفات الإنسانية الظاهرة فيستعين على إرجاع هذه التصرفات إلى أصولها ن إلى تجارب البشر وحوادث التاريخ عبر الزمان.
ويقتصد بعضهم فينقب عن ذلك في موروثات الإنسان في أسرته وأصوله من قبل ميلاده، بينما يقتصر غيرهم على البحث عن ذلك في طفولة الإنسان وما اعتورها من أحداث، وما اعترضها من انعطافات والتواءات.
وإذا كان علماء النفس مولعين بنسبة كل تصرف إنساني لا يعجبهم إلى عقدة نفسية، فإنهم حتى الآن لم يفلحوا في أن يقدموا لنا الإنسان المثالي حسب تصورهم، ولا أظن بأنهم سيفلحون في ذلك لا لشيء إلا لأن كل وصف مثالي يضعونه لا يمكن أن يكون جامعا ولا مانعا ومن هنا فلا استقرار لقواعدهم، ولا برهان على ما يقررون.
غير أن أصح المذاهب النفسية في هذا الباب هو مذهب "يونج"عن النماذج البشرية، وهو يرى: أن الإنسان المثالي ليس نموذجا واحدا، وإنما هو نماذج متعددة، وذلك لاختلاف العامل الطبيعية التي يتبعها أن يكون لكل طبيعة نموذج مثالي. وعلى هذا فليس هناك نموذج بشري واحد يقاس إليه العمل الصحيح.
وسواء كان الصواب إلى جانب هؤلاء أو إلى جانب أولئك، أو إلى جانبهما معا، فإنهم متفقون على أن ما عدا النموذج أو النماذج المثالية، فإن الإنسان فريسة عقدة نفسية هي التي تتحكم في سلوكه، وتحدد تصرفاته، وتفرض عليه المقدار المطلوب من السلبيات ن ومهمة الباحث أن يتعرف على تلك العقدة ليقوم بمحاولة حلها.
ومن العقد النفسية ما يقتضي لحلها تطور في المدنية والحضارة، أو تبدل في الأعراف والقيم، أ، سيطرة الحقائق الدينية والعلمية.
فالنوع البشري كله قد انحدر منذ آلاف السنين قبل عصور الشرائع وعصور المدنية والحضارة، وقد استقرت في أعماقه الباطنة باقات من المخاوف التي لا يضبطها عد أو حصر، وحزم من أنواع الرعب تتنافر أسبابها، وتختلف آثارها ونتائجها، لا يسبر لها غور، ولا تؤمن لها نكسة.
فقد عانى الإنسان القديم كثيرا من وطأة الخوف المستحكم من الوحوش الضارية، والسباع العادية، والمخاوف الشديدة من أشباح الظلام وشياطين المكر والغيلة وسطوة الجن ونمورهم، وذلك إلى جانب مخاوفه من البرق والرعد، ومن الأعاصير والسيول ومن السحر والخديعة.
وعانى الإنسان أيضا من مخاوف حقيقية لا تستند إلى الأوهام والخرافات. مثل مخاوفه من الحر والبرد، ومخاوفه من الجوع والعري، ومخاوفه من الأوبئة الفتاكة والأمراض المبيدة، ومخاوفه من أبناء جنسه من أعداء أو غرباء، وملاك، ومالكين.
ويستمر الزمن في دوارنه، وتتعاقب الأزمنة عصورا ودهورا وقرونا ويتوارث الجنس البشري هذه المخاوف حتى يصبح الخوف سمة تميز الفرد، وعبئا يثقل نفسه، وقيدا يشل عقله.
ثم تأتي الحضارة وهي تحمل إلى الناس قوانينها وآدابها فتنال ما هو ظاهر مكشوف من هذه المخاوف فتعالجه، ألا أنها تقصر دون ما هو مستقر في قرارة النفس من فزع مجهول، وحذر كامن، ووهم دخيل.
وهكذا يبقى الجنس البشري موزعا بين عاملين: عامل الظاهر الذي يدركه عمل الحضارة، وعامل الباطن الذي هو سليل الشعور الموغل في القدم من وراء الحضارات والشرائع والقوانين.
والعامل الباطني هو أخطر ما في حياة الإنسان، لأنه يترجم إلى فزع في الظلام المطبق لا يدرى له سبب ن وخوف من المجهول لا يعرف له مبرر، وحذر من كل جديد أو وافد لا يعثر له على تفسير.
يقول الأستاذ العقاد في هذا المعنى [15] : "إن العقيدة النفسية الكبرى في أعماق النوع البشري قد تتلخص في كلمتين وهما: المخاوف المجهولة.
وإن الشفاء من تلك العقدة يتلخص في كلمتين أخريين، وهما: الثقة البصيرة. . والثقة البصيرة في كلمة واحدة، وهي:"الإيمان" لأنه أمان وائتمان. أو نعيد القول بعبارة أخرى فنقول: إن الإيمان هو: الدين القويم.
وقد يقول قائل: لماذا لا يكون الأمان من تلك المخاوف الكامنة في أعماق النفوس البشرية منوطا بالسلطة المتمثلة في رئيس القبيلة، أو قوة العشيرة، أو سلطان الحكام والأولياء عل الجماعات والشعوب ممثلا في القوانين والتشريعات؟
والجواب المقنع على هذا التساؤل يتلخص في أن السلطان الإنساني - في أغلب الأحيان - يبدو وكأنه كبت فوق كبت، وخوف على خوف، وتخويف يعقب تخويفا من نوع آخر. وبهذا يكون مدعاة إلى التمرد عليه كلما خلا الإنسان إلى هواه، وأمن الرقابة، وابتعد عن الحساب.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى مصدر للأمان الذي يتبعه الإيمان من سلطة فوق سلطة البشر، يدين بها الخاضع لها لأنه مطمئن إليها، وواثق بها وقريب منها وهي مشاعر وأحاسيس تسبق الخوف من العقاب.
ولقد تبينا من تاريخ النوع البشري أن تربية ما لم يفلح في أن تحقق للإنسان هذا النوع من الوضع المناسب عدا تربية الدين، تلك التربية التي تترقى به كلما ترقت في طريق الثقة البصيرة وتحدد له موقعه المرغوب كلما وصلت إليه بالأسلوب النقي العالي الذي يمزج بين الروح والجسد.
من هذه الوجهة يرتبط إصلاح النفس بالدين على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، ولاسيما الدين الذي تهيأت له النفوس بعد التقدم في معارج الحضارة. فإن هذا الدين يلتقي بالنوع الإنساني في إبان حاجته إليه، واستعداده لتلقيه، ويلتقي به الفرد طلبا لعلاج دائه الأكبر: داء المخاوف المبهمة، بدواء الثقة واليقين البصير.
فقد ثبت - من الوجهة العلمية - أن العقيدة هي التي تعصم الإنسان من العلة التي ترجع إليها جميع الأمراض النفسية، وهي علة الانقسام الداخلي التي توزع بين النفس النقائض والأضداد وتفقدها الوسيلة التي توحد بها مسلكها، وتعيد بها الوئام والألفة بين مقاصدها ونزعاتها.
يقول الأستاذ العقاد أيضا [16] : "ليس أخطر على الإنسان الفرد من توزيع الفكر والنية بين النقائض المختلفة، ومن هذا التوزيع الأليم ينساق الفكر إلى بلباله المريض، ويقع في الداء المعروف بداء الفصام، أو انقسام الشخصية.
ويقترن بهذا الخطر - وقد يكون من أسبابه - داء الحيرة بين حياة الروح وحياة الجسد، وبين تغليب حياة الروح بالجور على المتعة الحسية، وتغليب حياة الجسد بالاسترسال مع الشهوات، والإقبال على الذات الحيوانية دون غيرها، ويتحقق الخطر على الطبع السليم عند الوقوف في مفترق الطريق بين المتدابرتين كأنهما عدوان متقاتلان، ينتصر أحدهما بمقدار ما يصيب الآخر من الخذلان والهزيمة"
"وفي الإسلام عصمة من كل داء من أدواء هذا الفصام الذي يمزق طوية الفرد، أو يمزق صورة الوجود كله بين خصومات الفكر وخصومات العقيدة، وخصومات المثل العليا في كل قبلة تتجه إليها.
فليس في الإسلام عداء بين الروح والجسد، وليس للجسد فيه محنة تتحنه بالصراع بين الطيبات المشروعة من متعة الروح والجسد.
وفي ذلك يقول تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [17] .
فليس في العقيدة الإسلامية إنسان متصدع يتوزع بين نوازع الروح ونوازع الجسد، وليس فيه ضمير متصدع يتوزع بين الدنيا والآخرة، وليس فيه عالم متصدع يتوزع بين السماء والهاوية، ولا خليقة متصدعة تتوزع بين اللعنة الأبدية أو المغفرة الأبدية.
وفي عقيدته ما يعصم من كل فصام. وليس في عقيدته منفذ لفصام تتسرب منه أدواء النفوس، وكل أدواء النفوس فإنما يرجع إلى الشقاق البعيد في ضمائر مرضى القلوب.
وأن ما يعانيه المدمنون على الخمر والمسكرات إنما هو أزمة ضمير أثقله الخوف فراح ينشد الأمن بالغيبوبة، ومزقته الحيرة فطفق يقتلها بالمخدر، وأضناه التمزق والانفصام فهرب إلى النوم اليقظ.
والدراسات النفسية اليوم ترجع جميع الأمراض النفسية إلى مرض واحد، هو داء الضمير المدخول المنقسم ز وترجع جميع أنواع العلاجات إلى علاج واحد هو علاج الإيمان واليقين.
وهذا الدواء إنما هو عند الدين وليس عند غيره من التشريعات الوضعية، أو العلم. وذلك: لأن العلم وسيلة لما يمكن أو يعرف بعلم، ولا حاجة به إلى ثقة أو تسليم ن وإنما يؤمن الإنسان ليعرف كيف يثق وكيف يبصر مواطن الأمان، ثم يركن إليه ركون العارف الآمن، يقول محمد عبده رحمه الله: "هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرا مما يفيد راحة الإنسان أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها عليه حتى يعرفها ويعود إليها. هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كانت من الحديد اللامع المضيء، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود إليها لمعانها الروحي؟.
حار الفيلسوف في أوربا وأظهر عجزه مع قوة العلم، فأين الدواء؟.
الدواء في الرجوع إلى الدين، فالدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل زمان، لكنهم يعودون فيجهلونها.
إذن فإن الأزمة في كل الانحرافات إنما هي أزمة الضمير الممزق الذي يستهويه الهروب، ويريحه الخدر، ويسعده النوم.
والدين هو الذي يمنح الفرد مقياسا للحياة يرتفع به عن الاستسلام للذة المجردة، والمتعة المطلقة، وهو مقياس الضمير المستقل، الذي يؤدي وظائفه بناء على إيمان راسخ بالقواعد الثابتة.
وإذا كانت الأديان العالمية توصف دائما بأنها ثورات واسعة، فإن هذه السعة لا تقاس بمدى الأرض التي تغطيها، ولا بعدد الأفراد الذين يعتنقونها، وإنما تقاس سعتها بمدى التغيير الذي في ضمير الفرد، ومدى الانضباط الذي تفرضه على هذا الضمير الذي يتلقى هذا الفرض بثقة وإيمان وتسليم، حيث ينعكس هذا الإيمان على جميع أعماله وتصرفاته.
وحينئذ لا حدود لذلك التغيير الذي تحدثه ثورة الأديان في ضمائر الناس ونفوسهم، لأنها تتناول كل ما تزاوله النفس من شؤونها الظاهرة والباطنة، تتناول الأفكار الواضحة، والهواجس الخفية، كما تتناول العادات والأخلاق وتنظم العرف والقانون كما تنظم الحياة الاجتماعية والدساتير الحكومية، فهي تلحق بكل فرع من فروع التصرفات والوقائع لأنها لحقت قبل ذلك بالأصل الموجه الذي هو "الضمير".
وإذا صلح الضمير، فإن له أثرا مباشرا على جميع تصرفات الإنسان من حيث انسجامها مع ما في هذا الضمير من فكر وعقيدة. ونتكلم عن أثر الضمير الديني في الأفعال، فنقول:
أثر الضمير الديني على التصرفات:
الضمير الديني فعال الأثر في ما يتعلق بربط الفرد بالرقيب الذي لا ينام، وبالعالم الذي لا يجهل، وبالمطلع الذي لا يخفى عليه شيء.
وحينئذ لن يكون من اليسير على هذا الفرد - وهو بهذا الموقع - أن يكون على السبيل المتعرج، والدروب الخلفية ما دام قد نصب من ضميره رقيبا على أعماله وحسيبا على تصرفاته.
وبهذه الرقابة الطوعية يكون الإنسان قد وجد نفسهن واكتشف ذاتهن وسلمت له الفضيلة بهذا المدد الذي جعله الله أساسا لاستقامة الحياة منذ أن خلقه الله وعلق به عمارة الكون: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [18] .
وللضمير الديني عند الفرد سلطان قوي وأثر فعال يفوق سلطان التشريعات الوضعية بكثير، من حيث الضمير موجه من غير أمر، ناصح من غير تهديد، مقنع من غير نكال.
أما التشريعات والقوانين الوضعية، فقد جبلت النفوس على النفور منها، والتمرد عليها، لأنها مفروضة من سلطة خارجة عن الاختيار، ويجد الفرد - في الأغلب - ما يبرر موقفه المناوئ والمتخبط من تلك السلطة ومن أجل هذا كانت التشريعات المتسمة بالإقناع والحجة ومخاطبة العقل والضمير أكثر تقبلا واستجابة. لأنها تخاطب سلطة الضمير الديني الذاتية النابعة من أعماق الفرد، وتهيمن على شؤونه، وتشرف على تصرفاته.
ولقد عبر القرآن الكريم عما نسميه الضمير الديني ب "تقوى الله"فندب المؤمنين إليها وحثهم عليها، وناداهم بوصف الإيمان ليحملهم حملا قويا على تنفيذ ما ندبهم إليه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
ونظرا لأهمية التقوى "الضمير الديني"في تحديد حسن استعمال الفرد لحريته الشرعية نرى الأنبياء جميعا قد اتفقوا على مبدأ استعمال الضمير الديني استعمالا مؤثرا ومخاطبة الفرد من خلاله. فما من نبي إلا وقد دعا قومه إلى تقوى الله من أجل أن يكون هناك ضمير ديني مؤثر: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [19] . {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [20] . والأمثلة على ذلك كثيرة.
وسائل تربية الضمير الديني:
من أجل أن يكون للفرد ضمير ديني مؤثر شرع الله من الأسباب ما يوصل الفرد إلى هذا الموقع المرسوم. ومن بين تلك الأسباب "العبادات"التي هي في ظاهرها علاقة بين العبد وربه وهي في معناها تربية الضمير الديني لدى الفرد الذي يجعله مشدودا إلى الجماعة بقوة روحية تحكم ميوله وتوجه إرادته، وتحدد سلوكه، فتحقق الالتزام والانضباط قبل أن تتدخل القوانين لرسم الطريق.
فمن صلاة تقي الفرد مواقع السقوط إلى صيام يربي العقل ويروض الروح ويعف اليد ويهذب اللسان، وإلى زكاة تغرس في الفرد حب التعاون والشعور بالمسؤولية، إلى حج يوفر للفرد امتزاجا اجتماعيا عالميا، إلى صدقة ترقق القلب وترهف الشعور.
وهكذا نجد أن العبادات الإسلامية تتجه إلى تهذيب ضمير الفرد ليكون مستعدا للتلاحم مع المجتمع الفاضل من أجل غاياته الفاضلة.
فإن القلوب إذا صلحت انعدمت فيها طاقة التفكير في الشر، والتخطيط للجريمة، والإصرار على الخطأ، فإن الجريمة تبدأ أول ما تبدأ في ضمير الإنسان وفكره قبل أن تأخذ طريقها إلى حيز التنفيذ:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"[21] ، "والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس"[22] .
والحقيقة التي لا مراء فيها بعد ذلك هي: أن الضمير الديني إذا ما تربى على هذا النحو الذي رسمه الإسلام، فإنه يتوفر لدينا أقوى الأسباب لوقاية الفرد والمجتمع من جميع أشكال الانحراف في كافة المجالات ومنها: الإقبال على هذه الجرثومة التي هي آفة العقل السليم، والتفكير المستقيم، والرأي البناء، وبهذا السبب وحده امتنع الملايين من الناس منذ أن حرم الله الخمر وإلى هذا اليوم عن مجرد التفكير في تناول المخدرات والمسكرات.
وإلا فما هو الحاجب الذي يقف بين طالب مسلم يدرس في أوربا مثلا وبين تناول الخمر غير الضمير الديني الذي يراقب الله. والضابط الديني الذي ينظم السلوك، والعقيدة السماوية التي توجه العمل.
وهي نفس الطاقة التي تمنع الفرد من القتل والزنا والسرقة والخيانة ونحو ذلك من الجرائم الخطيرة.
يقول الأستاذ العقاد [23] : إن "إن الضمير الديني"ليهدي العقل هنا غاية الهداية التي تطلب من الدين القويم دون أن يربطه بالقيود القاسرة أو يكرهه على الجمود المعطل عن التصرف والتصريف، وعلى هذا الضمير الديني تقوم رسالة الدين التي تعلو مع الزمن على نظم الاقتصاد وبرامج الساسة وشقائق الأسماء من دعوة تلهج بالديمقراطية، أو صيحة تلفظ بالمادية، أو حذلقة تتعلق بأطراف المبادئ وأهداب القواعد والنظريات وتحسب أن (الإنسانية) بنت يوم وساعة، وأن "الضمير الإنساني"زي من أزياء الأمم مع الصباح ويخلع قبل المساء.
الأسلوب الديني لعزل المسكرات:
يتدرج الإسلام وهو بصدد عزل الخمر وبقية المسكرات على ثلاث مراحل، ويتوقف نجاح كل مرحلة على مدى تحقق المرحلة التي قبلها. ودور هذه المراحل لاحق لدور تربية الضمير الديني عند الفرد. فبعد الفراغ من تربية هذا الضمير تبدأ المراحل الآتية:
المرحلة الأولى: الإقناع العقلي:
أول اتجاه من اتجاهات الإسلام في طريق تحريم الخمر كان مخاطبة للعقل خطابا يستهدف إقناع المخاطب إقناعا عقليا بسلبيتها وعزلها. فجاء النص على هذا الشكل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [24] ومن هذه الإشارة إلى أن الخمر والميسر شر على الرغم مما فيهما من بعض المنافع القليلة طفق المسلمون يبحثون في الجوانب السيئة التي ينفضها هذا الداء على عقل الفرد وجسمه وما له إمعانا في الوصول إلى أقوى نقطة من نقاط الاقتناع.
فذهب المفسرون والحكماء والكتاب والأطباء إلى تقصي ذلك حتى وصلوا إلى الحقيقة التي لا حقيقة بعدها في أن الخمر ضرر يجب تحاشيه، وسوء ينبغي الابتعاد عنه، ومرض يلزم التخلص منه، وهي إثم كبير لا يليق بذي المروءة أن يتدنى إلى مستواه.
فقال المفسرون مثل ما يلي: قال الفخر الرازي في تفسيره [25] : "الإثم الكبير فيه أمور: أحدها: أن عقل الإنسان أشرف صفاته، والخمر عدو العقل، وكل ما كان عدو الأشرف فهو أخس، فيلزم أن يكون شرب الخمر أخس الأمور.
وتقريره: أن العقل إنما سمي عقلا لأنه يجري مجرى عقال الناقة، فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعا من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خاليا عن العقل المانع منها، والتقريب بعد ذلك معلوم.
ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ، ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا.
ثانيها: ما ذكره الله - تعالى - من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة [26] .
ثالثها: أن هذه المعصية من خواصها: أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر ومواظبته عليها أتم: كان الميل إليها أكثر. وقوة النفس عليها أقوى بخلاف المعاصي، مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل، وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفرته أتم، بخلاف الشرب، فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه أكثر ورغبته فيه أتم، فإذا واظب الإنسان عليه صار غرقا في اللذات البدنية. .
وبالجملة: فالخمر يزيل العقل، وإذا زال العقل حصلت القبائح بأسرها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:"الخمر أم الخبائث" أه
وقال الحكماء مثل ما قال ابن الوردي في لاميته الشهيرة:
واترك الخمرة أن كنت فتى
كيف يسعى في جنون من عقل
وعن العباس بن مرداس أنه قيل له: لم لا تشرب الخمر، فإنها تزيد في جراءتك. فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمس سفيههم.
وقال الكتاب مثل ما قال العقاد [27] : "حين يكون العمل بالعقل أمرا من أوامر الخالق: يمتنع على المخلوق أن يعطل عقله"والإسلام لا يقبل من المسلم لأن يلغي عقله ليجري على سنة آباءه وأجداده".
"وما من أحد يهتدي بعقله لا يسعه أن يرى الصواب وأن يكف عن الخطأ فإذا قسر على نبذ الصواب واقتراف الخطأ ففي وسعه أن ينجو بنفسه من القسر حيث كان، وفي وسعه إذا حيل بينه وبين النجاة أن يلقى الضرر الذي يجنيه عليه من يهدد كرامته ويقتل ضميره. فذلك لا ريب أهون الضررين في هذه الحال.
ولا معنى للدين ولا للخلق إذا جاز للناس لأن يخشوا ضررا يصيب أجسامهم، ولا يخشوا ضررا يصيبهم في أرواحهم وضمائرهم، وينزل بحياتهم الباقية إلى ما دون الحياة التي ليس لها بقاء، وليس فيها شرف ولا مروءة.
"إن حق العقل في الإسلام يقاس بكل قوة من قوى تلك الموانع التي ترصد له ويصده عن طريقه"أه.
أما يقوله الأطباء فهو موافق لنص الرسول على الخمرة بأنها مرض، فعن طارق بن سويد الحضرمي قال: قلت يا رسول الله، إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها؟ قال: لا، فراجعته قلت: إنا نستشفي به للمريض، قال:"إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء". فقال الأطباء ما يلي بعضه:
يقول الدكتور محمد الهواري [28]- بعد أن استعرض نتائج أبحاث العديد من علماء الغرب -: "ومن كل هذا يظهر جليا أن الانسمام الغولي يعتبر من أعظم الأخطار التي تهدد البشرية. . فهو مدعاة للفتك بالجملة العصبية، وقد تكون من أهم الأسباب الموجبة للأمراض العصبية والعقلية والنفسية، ومن أعظم دواعي الجنون والشقاوة والإجرام، لا في المرء المسيء لنفسه وحده، بل وفي أعقابه من بعده، فيكون إذن علة الشقاء والعوز، وسبب البؤس والتعاسة، وجرثومة الإفلاس والمسكنة، ما نزل بقوم إلا وأدى بهم مادة ومعنى، أي بدنا وروحا، أو جسما وعقلا، وهو الاضمحلال المحتم وحلول الخراب الأعظم.
فكل المؤسسات العلمية أصبحت متفقة على أن آثاره معروفة بصورة لا مجال للشك فيها:
1-
فهو يقوم بتخريش الأقسام الأولى من جهاز الهظم تخريشا آليا.
2-
ويساهم في تصلب الأنسجة ويضعف فيها خاصة جذب الماء إليها.
3-
ويزيد في احتقان العروق الدقيقة مما يؤدي إلى الاستحالات الشحمية في الخلايا والقصور في آداء وظائفها الطبيعية.
4-
ويؤدي إلى التهاب المعدة التهابا تختلف شدته بين الالتهاب البسيط والالتهاب المتقرح مع توسع في المعدة لدى المدمنين.
5-
ومن عواقبه نزلات الأمعاء المزمنة مع إمكان تقرح العفج أو المعي الإثنى عشري.
6-
إضافة إلى الآفات البابية التي تؤدي إلى تشمع الكبد وخاصة التشمع الضموري أو التشمع الشحمي الضموري.
7-
ومن آثاره كذلك تصلب الطحال والتهاب الصفاق المزمن الذي يكون مرتعا للعصيات السلية.
8-
ولا يخلو جهاز الدوران من التأثر به، فالقلب ينوء بالشحم وتتصلب الشرايين وتحتقن العروق الدقيقة.
9-
والجهاز البولي يصاب بآفات شديدة نتيجة لانطراح قسم لا بأس به من الغول عن طريقه، ولقد شوهدت حوادث التهاب في الكلى والمثانة وزيادة اطراح المواد الأجنبية عن طريق البول.
10-
والجملة العصبية أكثر الأعضاء انفعالا بهذه المادة، فالدماغ يصاب باحتقان السحايا والقشر احتقانا يؤدي إلى تصلب الدماغ والتهاب السحايا.
ويختتم الدكتور الهواري كلامه قائلا: ولم يكن هناك كالتشريع الإسلامي حكمة وصرامة في الوقوف أمام خطر الغول، إذ أصدر تشريعه بالتحريم القاطع، فعاد بذلك على الأمة الإسلامية بكل ما يحفظ لها من سلامة في صحتها واقتصادها، لا فرق في ذلك بين جميع السوائل الغولية سواء المقطرة منها أو المخمرة.
فالنتائج واحدة في جميع هذه الأشربة، وإن اختلف التأثير بحسب ما في هذه الأشربة من الغول.
وما كان هذا التحريم ليفقر الأمة أو يسبب اضمحلالها وما كان هذا التحريم يوما شرا على المسلمين المتعففين أو على كل من يحرمه على نفسه من عقلاء الناس اه.
هذا بعض ما يقوله الأطباء، أما ما يقوله علماء النفس والاجتماع، والاقتصاد فهو مريع بنذر بالخطر ومرعب يوحي بالدمار، خطير يقتضي الحل السريع الصارم.
هذه هي المرحلة الأولى على طريق كفاح الإسلام ضد الخمر والمسكرات. فقد ربى الإسلام ضمير الفرد عن طريق إقناعه بخبثها معنى، وقبحها أثرا، وسطوتها على أغلى درة يملكها الإنسان وهي العقل.
فلما تبين المسلمون ذلك، رتب الله على هذه الحقيقة النظرية حقيقة عملية، فجاءت المرحلة التالية:
المرحلة الثانية - التحريم المؤقت:
لم يغب عن علم الله سبحانه وتعالى مدى تعلق الناس بالخمر ومدى شيوعها في مجتمعاتهم، فأراد لأن يشرع لهم خطوة عملية على طريق إنهاء الخمر والانتهاء منها، فجاء النص على تحريمها تحريما مؤقتا في أثناء الصلاة، فجاء النص على هذا الشكل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [29] وهكذا خطا القرآن في مكافحة الخمرة خطوة هجومية فعلية فكان تشريع تحريمها وقت الصلاة بعد أن تهيأت أذهان المسلمين لهذه الخطوة من خلال المرحلة الأولى التي ألمعنا إليها.
ثم يتوسع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إظهار هذا التشريع الجديد بالشكل الذي يهيء أذهان المسلمين للمرحلة الثالثة وهي مرحلة التحريم المطلق. ففي حديث أبي الدرداء قال [30] : "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: "لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر"، وعن خباب بن الأرت قال [31] : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياك والخمرة فإن خطيئتها تفرع الخطايا، كما أن شجرتها تفرع الشجر".
ففهم المسلمون: أن الخمر إن حرمت وقت الصلاة فقط، فإن ذلك لا يعني أنها كريمة المذاق في غير وقتها لأن النهي قد صدر من رسول الله الذي تيقن المسلمون صدقه في القول، وعرفوا نصحه في الأمر، وتبينوا حكمته في التشخيص.
وبذلك يكون الخمر قد انعزل في أوقات الصلاة تشريعا، وانعزل في غير أوقاتها مروءة وكرامة. وبات المسلمون يترقبون تحريمها المطلق، ويتوقعون منعها المستمر، ويرون لمجتمعهم أن يتطهر منها ويبتعد عنها، نظرا لأن بعض المسلمين استمروا على معاقرتها في غير أوقات الصلاة فكانت بذلك سبب في بعض الخصومات والمنازعات.
فقد اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا وافتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه شجة موضحة فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه:"اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا". فكانت:
المرحلة الثالثة: التحريم المطلق:
شاء الله جلت قدرته أن يكون تحريمه للخمرة تحريما مطلقا هو خاتمة المطاف في أمر الخمر وبقية المسكرات التي تأخذ حكمها، فجاء النص على هذا الشكل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [32] ، وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التحريم بجملة من الأحاديث مبينا المزيد من التفصيلات في هذا التحريم، ومن ذلك حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله [33] صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر وسكر، لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، وإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه. ."
ومن ذلك حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مدمن الخمر كعابد وثن" وحديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله: "لا يدخل الجنة مدمن خمر".
وهكذا تناهى المسلمون عن الخمر فلم ترد على خاطر، وطهروا مجتمعهم منها فلم تدخل على بيت، وفطموا نفوسهم عنها فلم تظهر على مائدة.
فلقد استجاب المسلمون لهذا القرار السماوي لأنه من عند الله ن وامتثلوا لهذا النهي لأنه وحي الدين، وحرصوا على تنفيذه في البيئة رغبة في مرضاة الله وتجنبا لغضبه.
وهذه هي جوانب الميزة التي يمتاز بها التشريع الديني عن بقية التشريعات الوضعية. فالتشريع الديني يلقى التسليم لأنه من العقيدة ويصادف الرضا لأنه من الرحمن الرحيم ويحظى بالطاعة لأنه ليس من البشر.
فالرقابة عليه ذاتية من ضمير الفرد، والرجاء منه ثواب من عند الله، والعاقبة في تجاهله غضب من الخالق، أو عقوبة من المخلوق.
وهذه كلها ثمرة من ثمرات تربية الضمير الديني عند الفرد، حيث يجد في طاعة الله متعة، وفي امتثال أوامر عباده، وفي الحرص على مرضاته غاية ورسالة.
غير أن الإسلام - بواقعيته التي أهلته للبقاء، وفطرته التي هيأته للحياة، وبساطته التي يسرته للخلود -: لا يفترض في الناس أن يكونوا ملائكة ولا يطلب منهم أن يكونوا معصومين ولا يريد منهم أن يصبحوا نورانيين.
بل إنه افترض فيهم الخطيئة فحثهم على التوبة، وتوقع منهم الذنب فكتب لهم المغفرة، وانتظر منهم الزلل فخلق فيهم الندم.
وقد خلق الله في لناس الخير والشر، وعرض عليهم الصواب والخطأ، ويسرهم للطاعة والمعصية.
فلما طلب الله منهم الخير أعانهم عليه بالتشريع، ولما توخى منهم الصواب يسره لهم بالعقل، ولما أمرهم بالطاعة حببها عليهم بالثواب. وجعل من وراء ذلك كله سياجا يعصم الناس من الشذوذ، ووسيلة تقي الأفراد من الانحراف، ونظاما يسهل للمجموعة البشرية مهمة التعاون على البر والتقوى. فكان أن شرع الله للناس الوسائل الفعالة، والطرق المرسومة لتنفيذ شريعته، وإصلاح عباده.
أراد بها أن يجبر صغار النفوس أن يكونوا كبارا، وأن ييسر لضعاف الإرادة أن يكونوا أقوياء، وأن يخطط لعبيد الشهوة أن يكونوا أفاضل.
فما هي تلك الوسائل؟
وسائل الدين لتنفيذ تحريم الخمر:
الوسائل التي شرعها الله لتنفيذ أوامره وشريعته متعددة الوجوه، متنوعة الأهداف، غير أننا نشير هنا إلى وسيلتين مما يتعلق بموضوعنا هذا مبينين الجانب النفسي والتربوي الذي تحتوي عليه تلكما الوسيلتان وبيان أثرهما في وقاية الفرد والمجتمع من الخمر والمسكرات على وجه العموم. وهذا الجانب خاص بنفر قليل من الناس ممن لم يكتمل نموه الفكري، ولم تصل تربية ضميره الديني إلى المستوى المطلوب.
وهاتان الوسيلتان هما: الرقابة الجماهيرية، والعقوبة، ونتكلم عنهما فيما يلي:
الوسيلة الأولى - الرقابة الجماهيرية:
لقد وهب الله الأفراد حرية كاملة في حدود المشروع، حيث لا يمكن أن نوجد الفرد المؤثر في المجتمع إلا إذا كان هذا الفرد حرا بالقدر الذي يجعله عزيزا لا يذل، وشجاعا لا يهاب، وقويا لا يضعف.
وعندها يمكن لهذا الفرد أن يكون قادرا على أداء دوره في إتمام البناء بعد إرساء قواعده.
والحرية في الإسلام ليست انطلاقا من القيود ن بل هي معنى لا يتحقق في المجتمع إلا مقيدا.
وعلى هذا: فإن الحر حقا هو الفرد الذي تتجلى فيه المعاني الإنسانية العالية، الذي يجد القدرة على ضبط نفسه بضوابط المصلحة العامة، ويتجه بها إلى معالي الأمور.
والحر هو الذي يسيطر على إرادته ولا تسيطر عليه شهواته وأهواؤه، وإنما هو سيد نفسه إلى الحد الذي يعرف ما لها وما عليها، وإن هذه السيادة النفسية التي يتسم بها الحر: هي العنصر الأول في تكوين معنى الحرية في نفسه. وإن الذين يفهمون الحرية انطلاقا من كل القيود إنما هم عبيد الأهواء الذين لا يفهمون حق أنفسهم، ولا يراعون من المجتمع. وعلى هذا فإن قيود الحرية ترجع في مجملها إلى حقيقتين:
الأولى: هي السيطرة على النفس والخضوع لحكم العقل لا لحكم الهوى.
والثانية: هي الإحساس الدقيق بحق المجتمع على الفرد ن وبدون هذه الحقيقة تبرز الأنانية الفردية، والحرية والأنانية نقيضان لا يجتمعان.
ومما لا شك فيه أن الناس ليسوا سواء في مراعاة حرية الغير، وحق المجتمع، فإن الناس منهم الحر ومنهم الذي يدعي الحرية، لذلك كان لابد أن تقيد حرية من يدعون الحرية بقيود خارجية عن النفس بحكم القانون، وحينئذ تكون هذه القيود حماية للحرية وليست كبتا لها.
والإسلام يسعى لإيجاد مجتمع متكافل تتعاون فيه كل القوى الإنسانية بحيث تلتقي على المحافظة على المصلحة الفرد أولا، ثم يتدرج بها الأمر إلى مرحلة صيانة البناء الاجتماعي والعمل على إرساء قواعده المتراصة التي لا ينفذ الدخن من إجزائها.
وعندما يتحقق المجتمع المتكافل فإنه - بالضرورة - ينتج رأيا عاما فاضلا هو أول مظهر من مظاهر هذا المجتمع.
وللرأي العام الفاضل رقابة نفسية تجعل البشر ينطوي على نفسه فلا يظهر وتجعل الخير موقع الإعلان والظهور.
وبالرأي العام الفاضل يشعر الجماعة بقوة خفية تعينها على حفظ واجهة المجتمع نقية ناصعة، وهذه القوة هي رد الفعل الاجتماعي العام الذي يجعل من الحياة سدا بين الجريمة وبين أن تظهر أو تشيع.
ومن هنا يرى الإسلام أن الجمهور قادر على أن يقوم بدوره العام بين مبدأين أساسين، وهما:
1-
مبدأ الشورى بين أطراف الأمة. وليس هذا موضوعنا هنا.
2-
مبدأ الرقابة على المجتمع.
ومبدأ الرقابة هذا حصيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو من القواعد الأساسية في المجتمع الإسلامي وبذلك يكون الله قد منح الناس حق الدفاع عن أنفسهم ومجتمعهم من سيطرة الرذيلة عليه، وما يتبع ذلك من انحراف النفوس وعبث المفسدين.
والجمهور الإسلامي ليس مخيرا في آداء واجب الرقابة على المجتمع وإنما هي مسؤوليته التي أنيطت به لغرض الإرشاد العام لتقويم المعوج، وتشجيع المستقيم وإعانته على الاستمرار وكانت فرضا عليهم بقوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [34]
وقد ذم القرآن بني إسرائيل من اجل أنهم لم يأخذوا بمبدأ الرقابة هذا مأخذ الجد، فأفسحوا مكانا للشر في مجتمعهم بترك الرقابة على المفسدين فقال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [35] .
وينظر الإسلام إلى الرقابة على أنها انتصار لكرامة الجماعة، وتلبية لنداء الفضيلة والرجولة، فإن التهاون فيها يتنافى والكرامة التي تدفع أصحابها إلى عنها والغضب من جلها والثأر لها.
وقد روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقر أحدكم نفسه"قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال:"يرى أمرا لله فيه مقال، ثم لا يقول فيه شيئا ".
وينظر الإسلام تارة أخرى إلى الرقابة على أنها عنصر من عناصر احترام المجتمع وتقديسه، وعامل من عوامل انتعاش الأمة وتماسكها، ومظهر من مظاهر المجتمع الفاضل الذي يكسب احترامه لنفسه.
وقد أدرك المسلمون هذه الحقيقة فتمسكوا بها وفهم الناس أهدافها فحرصوا على مبدأها، وأدرك الفقهاء أسرارها فكانت في كتبهم أبوابا وفصولا. . على النحو التالي:
حقيقة الرقابة على الفقه الإسلامي:
الرقابة الجماهيرية نوعان في الإسلام:
النوع الأول: هو الرقابة الجماهيرية العامة المطلوبة من كل الناس تعبدا وامتثالا لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
وامتثالا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. . " الحديث.
النوع الثاني: الرقابة الجماهيرية الخاصة تقوم بها الجماعة المكلفة من الدولة بذلك ويطلق عليها في العصر الحاضر"شرطة الآداب"ويسميها الفقهاء: "الحسبة"
غير أنها أكثر من شرطة الآداب، لأنها تراقب جميع أنواع المظالم والمفاسد والتعديات والمخالفات، وعلى هذا فهي:"أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله"[36]
والفرق الجوهري بين شرطي الآداب اليوم والمحتسب في النظام الإسلامي أن الشرطي يقوم بواجبه يحكم وظيفته وهو أمر غير مضمون الفعالية والتأثير بينما يقوم المحتسب بواجبه استجابة لعقيدته، وامتثالا لدينه، ومرضاة لله وعبادة له، وبهذا فهو مخلص في مهمته مندفع في واجبه، حريص على مصالح مجتمعه، كل هذا إذا أحسن اختيار المحتسب، وأجيد تدريبه، وأتقنت تربيته وتهذيبه.
ولقد كان لنظام الحسبة في الإسلام أثر فعال في نقاء المجتمع، وردع المنحرفين، وزجر المجاهرين بالفوضى والفساد. وكان ذلك سببا لإقلاع الكثير من الأفراد عن أسباب لانحراف خوفا من الإهانة حتى أصبحت الفضيلة طبعا فيهم، وقد تكلم الفقهاء عن الحسبة في أبواب مستقلة من كتبهم الفقهية، ونقتطف بعض أقوالهم للتدليل والتمثيل.
يقول القاضي أبو يعلى المالكي [37] : وأما ما تعلق بالمحضورات فهو: أن يمنع الناس من مواقف الريب، ومظان التهمة، ويقوم الإنكار ولا يعجل بالتأديب قبل الإنذار.
وإذا رأى وقوف رجل وامرأة في طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الريب: لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار، فما يجد الناس بدا من هذا.
وإن كان الوقوف في طرق خالية: فخلو المكان ريبة، فينكرها. ولايعجل في التأديب عليها، حذرا من أن تكون ذات محرم، وليقل: إن كانت ذات محرم، فصنها عن مواقف التهمة، وإن كانت أجنبية فاحذر من خلوة تؤديك إلى معصية الله تعالى.
فإذا رأى المحتسب من هذه الحال ما ينكرها تأنى وفحص ورعى شواهد الحال، ولم يعجل الإنكار قبل الاستخبار. وقد سئل أحمد - في رواية محمد بن يحيى - في الرجل السوء، يرى مع المرأة؟ قال: صح به.
وإذا جاهر رجل بإظهار الخمر، فإن كان مسلما: أراقها وأدبه، وإن كان ذميا: أدب على إظهارها وتراق عليه. لأنها غير مضمونة [38] .
وأما المجاهر بإظهار النبيذ، فهي كالخمر، وليس في إراقته غرم، فيعتبر والي الحسبة شواهد الحال فيه، فينهى فيه عن المجاهرة، ويزجر عليه إن كان يعاقره، ولا يريقه إلى أن يأمره بإراقته حاكم.فإن السكران: إذا تظاهر بسكره، وسخف بهجره، أدبه على السكر والهجر تعزيزا.
الوسيلة الثانية – العقوبة:
مما سبق يتضح جليا أن الإسلام أعدم الوجود الشرعي للخمرة بالتحريم، وقضى على ضراوتها بالعقيدة، وكرهها للنفوس بوصف الخبث.
ثم عمق أزمة عدم توافرها بالمنع، وحد من شيوعها بالرقابة، وزعزع أمنها بالمحتسب، فانطوت مريبة في المواخير، وتوارت سرا في الدهاليز وجمعت حولها زمرا ليسوا من الكرام على أي حال، يتنادمون على وجل، ويتعاقرون على خوف، ويتحاببون على ريبة.
وهؤلاء هم الاستثناء من القاعدة وهم - ما استتروا- فأمرهم إلى الله إن شاء عاقبهم وإن شاء عفا عنهم.
ومن أبدى صفحته منهم واجهته العقوبة. وقد اقتضت حكمة الله أن تكون العقوبات الإسلامية مناسبة لنوع الجريمة.
ولما كان السكران الذي يبدي صفحته للناس رجلا بل حياء لأنه أضاعه بالسكر وإنسانا بلا كرامة لأنه أهدرها بالسفه، وشخصا بلا مروءة لأنه أتلفها بالخبل، فقد جعل الله عقوبته مهينة محقرة، تصيب الحياء ولا تؤذي الجسد وتجرح الكرامة ولا تجرح الجسم، وتدعو إلى التحقير ولا تستدعي الطبيب.
وعقوبة الشارب عدد من الجلدات الخفيفة، وآلة الجلد: نعل أو ثوب أو ما شاكل ذلك مما يهين ولا يوجع.
إجراءات الحاكم قبل الحكم بالعقوبة:
لما كان الهدف من لعقوبة في الشريعة الإسلامية هو الإصلاح والتأديب إلى جانب الزجر، ولما كانت عقوبات الحدود مبنية على الدرء، فإن الحاكم مأمور أن يتبع إلى ذلك جميع الوسائل الممكنة قبل أن يصل إلى مرحلة الحكم، وقد كان الخلفاء يبادرون إلى النصح والتأديب قبل اللجوء إلى العقوبة.
فقد روي عن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تفقد رجلا يعرفه، فقيل له: إنه يتابع الشراب، فلم يبادر الخليفة إلى عقوبته بل كتب إليه:"إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب، وقابل التوبة، شديد العقاب، ذو الطول، لا إله إلا هو، إليه المصير".
فلم يزل الرجل يرددها ويبكي حتى صحت توبته وأحسن النزع، فبلغت نوبته عمر، فقال لمن حضر مجلسه:"هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه".
وعلى هذا فإن العقوبة هي الحل الأخير توقع على من استفحل خطره، وطاش صوابه، وأفلت زمام نفسه، ولم في نفسه أن يقدم عذرا مقبول، أو سببا مشروعا، بعد أن حقق له المجتمع الإسلامي كل الحاجات التي تغنيه عن هذا الموقف.
وفي ذلك يقول الأستاذ العقاد رحمه الله[39] : "والعقوبات القرآنية تكفل للمجتمع حاجته التي تغنيه من العقوبة، وهي قيام الوازع ورهبة المحذور، ولكنها لا تحرم الفرد حقا من حقوقه في الضمان الوثيق والفرصة النافعة. وأول ضمان للفرد فيها شدة التحرج في إثبات التهمة، وتأويل الشبهة لمصلحته في جميع الأحوال، وتمكينه من الصلاح والتوبة إذا كان فيه مستصلح ومتاب.
وأيا كان القول برعاية الحرية والشخصية في فرض العقوبات، فليس في وسع غال من غلاتها أن يقطع بأن مسألة الزنا أو مسألة السكر من المسائل الفردية التي يترك فيها الأمر كله لآحاد الناس.
ففي الزنا والسكر مساس بقوام الأسر، وأخلاق الجماعة، وسلامة الذرية لا مراء فيه. ومتى بلغ من الزاني أن يشهده أربعة شهود عدول، وبلغ من السكير أن يصل القاضي بين شاهدين عدلين والخمر تفوح من فمه، فليست هناك مسألة فرد يفعل ما يحلو له بينه وبين نفسه، ولكنها مسألة المجتمع كله في كيانه وأخلاقه، وأسباب الأمن والطمأنينة.
وقد تبدو من هذا حكمة من حكم الشرائط التي اشترط الشرع الإسلامي توافرها لإقامة الحدود.
وننتهي من ذلك كله إلى نتيجتين يقل فيهما الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين، وهما: أن قواعد العقوبات الإسلامية قامت عليها شؤون جماعات من البشر آلاف السنين، وهي لا تعاني كل ما تعانيه الجماعات المحدثة من الجرائم والآفات.
وأن قواعد العقوبات المحدثة لم تكن تصلح للتطبيق قبل لألف سنة، وكانت تنافر مقتضيات العصر في ذلك الحين، ولكن القواعد القرآنية بما فيها من الحيطة والضمان، ومباحات التصرف الملائم للزمان والمكان، قد صلحت للتطبيق قبل ألف سنة، وتصلح للتطبيق في هذه الأيام وبعد هذه الأيام.
هذا هو المجمل للمسلك الإسلامي لمحاصرة الخمر والمسكرات وهذا هو الموجز للآثار الإيجابية التي نتجت عن هذا المسلك، حين بقيت الخمرة في المجتمعات الإسلامية على مدى أربعة عشر قرنا من الزمن تشعر بالغربة وتحس بالوحشة، وتشكو الوحدة، وتعاني من تجافي المسلمين عنها وهجرهم لها، وتقاسي من العزلة في الأزقة المظلمة والدهاليز الرطبة الرطبة. توجعها المطاردة المخلصة وتؤرقها العيون المتلصصة، وتقلقها العواطف المعادية من كل الناس، إذا احتواها إناء فقد العصمة والضمان، وإذا آواها بيت فقد الحماية والأمن.
كان ذلك كله أثرا من آثار الدين في محاربة الخمر والمسكرات، تلك الآثار التي حكمت الناس من غير خوف، وتحكمت في التصرفات من غير عنت، واستحكمت في النفوس من غير قهر.
وبهذا البرهان العملي تشتد الضرورة إلى سلاح الدين، وبهذه التجربة الطويلة يشتد الإيمان بنجاح أساليبه ومسالكه، وبهذا الأنموذج التاريخي الفريد يشتد اليقين وينقطع الجدل ويزول التردد.
فلما ضعف هذا الوازع الديني في نفوس الناس ضعف معه كل شيء، فإن من أبرز سمات المسلمين اليوم هو انعدام الوضوح في الغاية والوسيلة، ونقص الترية في الإيمان والعقيدة، وضعف التدريب في التطبيق والعمل، واختلال الطاقة في الالتزام والانتماء، وارتباك المعنى في الطاعة والتسليم.
ومن هنا عمت المجتمع عيوبه القبيحة، وأنهكته أمراضه الخبيثة، وأوهنت قواه سلبيات وآفات تزيد ولا تنقص، وتقوى ولا تضعف، وتشتد ولا تهن: غش في المعاملة، وغبن في البيع، ورشوة في قضاء الحاجة، ووساطة في الحصول على الحق، وكذب في الدعوى، وإثم في العلاقة، وخمر في استجلاب السرور، ومخدر في دفع الألم.
فإذا أردنا قول الحق من غير ضياع للوقت، وإذا رغبنا في الرأي الناصح من غير خداع للنفس، وإذا سلمت لمنطق العقل من غير مغالطة أو مكابرة، فإن علاج ذلك كله إنما هو في الرجوع إلى العقيدة الدينية.
أما وسائل تحقيق ذلك في المجتمع فإن الحديث فيه يقتضي مكانا آخر ومجالا غير هذا المجال.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
راجع دائرة المعارف الإسلامية 8/450 والقاموس المحيط 4/276.
[2]
راجع دائرة معارف القرن العشرين 3/790.
[3]
انظر: الخمر والمشروبات الروحية للدكتور محمد الهواري. مجلة حضارة الإسلام، العدد الأول السنة الخامسة عشرة.
[4]
انظر: دائرة معارف القرن العشرين 3/ 790.
[5]
أما ما دأب عليه شعراء العربية في العصر العباسي وغيره من التغني بوصف الخمرة وإطرائها فليس محمولا على ظاهره، ولا يجوز أن يفترض أن كل شاعر وصف الخمر يكون قد شربها، ذلك: أن وصف الخمر اكتسب صفة (الفن الشعري) الذي رأى الشعراء والمسلمون – تقليدا للشعراء الجاهليين – أن شاعريتهم لا تكتمل إلا به. كما هو الشأن في الغزل الذي كثيرا ما يردد فيه الشعراء أسماء وأوصاف بمحبوبات لا وجود لهن. وكما هو الحال في قطع الفيافي والقفار على العيس لشعراء لم يشاهدوا قفارا ولم يركبوا عيسا. مما نجده في شعراء الأندلس مثلا. زمن الأدلة الواضحة على هذه الحقيقة مقصورة ابن جابر الهواري مثلا فهو يمدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يضمنها أبياتا في وصف الخمر تعد – من الناحية البلاغية – من أروع الشعر. وما كان الجنون يبلغ بذلك الشاعر الصوفي الضرير أن يتقرب إلى الرسول الكريم بوصف خمر شربها، ولكنه يضمن قصيدته فنا شعريا تقليديا كما ضمنها الغزل التقليدي
[6]
سفر العدد، الإصحاح السادس، الآية: 3 وما بعدها.
[7]
سفر لاويين، الإصحاح العاشر، الآية:9.
[8]
انظر: دائرو المعارف الإسلامية 8/ 452.
[9]
انظر دائرة معارف القرن العشرين 3/ 791.
[10]
انظر: عبد الجبار عريم: الطرق العلمية الحديثة في إصلاح وتأهيل المجرمين والجانحين ص 163.
[11]
الطرق العلمية الحديثة في إصلاح وتأهيل المجرمين والجانحين ص 246 وما بعدها.
[12]
انظر: الإنسان والقرآن، الموسوعة 4/ 40.
[13]
سورة المدثر: 38.
[14]
سورة الأنعام: 164.
[15]
انظر: الموسوعة 5/ 504.
[16]
المصدر السابق 5/505.
[17]
سورة القصص: 77.
[18]
سورة البقرة: 37.
[19]
سورة هود: 5.
[20]
سورة الشعراء: 141 – 142.
[21]
انظر: فيض القدير 2 / 277.
[22]
جزء من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور الذي رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة. انظر: فيض القدير 1 / 30.
[23]
انظر: الموسوعة 4 / 194.
[24]
سورة البقرة: 219.
[25]
راجع: التفسير الكبير 6 / 46.
[26]
يشير الرازي بذلك إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} .
[27]
انظر: الموسوعة 5 / 843 وما بعدها.
[28]
الخمر والمشروبات الغولية. مجلة حضارة الإسلام، العدد الأول السنة الخامسة عشرة.
[29]
سورة النساء: 43.
[30]
انظر سنن ابن ماجه حديث رقم 3372.
[31]
المصدر السابق حديث رقم 3373.
[32]
سورة المائدة: 90.
[33]
ابن ماجه حديث 3377، 3375، 3376.
[34]
سورة آل عمران: 104.
[35]
سورة المائدة: 77، 78.
[36]
انظر: الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى، ص 284.
[37]
انظر: الأحكام السلطانية ص 293 وما بعدها.
[38]
وذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تراق، لأنها – عنده – من أموالهم المضمونة في حقوقهم.
[39]
انظر: الموسوعة 4 / 108 – 109.
تكذيب الوصية المنسوبة لخادم الحرم
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين - حفظهم الله بالإسلام - وأعاذنا وإياهم من شر مفتريات الجهلة الطغام.. آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد -
فقد اطلعت على كلمة منسوبة إلى الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف بعنوان (هذه وصية من المدينة المنورة عن الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف)
قال فيها: كنت ساهرا ليلة الجمعة أتلو القرآن الكريم وبعد تلاوة قراءة أسماء الله الحسنى فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم فرأيت صاحب الطلعة البهية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتى بالآيات القرآنية والأحكام الشريفة رحمة بالعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "يا شيخ أحمد قلت: لبيك يا رسول الله يا أكرم خلق الله فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة ولم أقدر أن أقابل ربي ولا الملائكة لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفا على غير دين الإسلام ثم ذكر بعض ما وقع فيه الناس من المعاصي ثم قال: فهذه الوصية رحمة بهم من العزيز الجبار ثم ذكر بعض أشراط الساعة إلى أن قال فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه الوصية لأنها منقولة بقلم القدر من اللوح المحفوظ ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد ومن محل إلى محل بني له قصر في الجنة ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة ومن كتبها وكان فقيرا أغناه الله أو كان مديونا قضى الله دينه أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة وقال والله العظيم ثلاثا هذه حقيقة وإن كنت كاذبا أخرج من الدنيا على غير الإسلام ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار ومن كذب بها كفر"هذه خلاصة ما في هذه الوصية المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد سمعنا هذه الوصية مرات كثيرة منذ سنوات متعددة تنشر بين الناس فيما بين وقت وآخر تروج بين الكثير من العامة وفي ألفاظها اختلاف وكاذبها يقول إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فحمله هذه الوصية وفي هذه النشرة الأخيرة التي ذكرناها لك أيها القارئ زعم هذا المفتري في هذه الوصية أشياء كثيرة من أوضح الكذب وأبين الباطل سأنبهك عليها قريبا في هذه الكلمة إن شاء الله.
ولقد نبهت عليها في السنوات الماضية وبينت للناس أنها من أوضح الكذب وأبين الباطل فلما اطلعت على هذه النشرة الأخيرة ترددت في الكتابة عنها لظهور بطلانها وعظم جرأة مفتريها على الكذب وما كنت أظن أن بطلانها يروج على من له أدنى بصيرة أو فطرة سليمة ولكن أخبرني كثير من الإخوان أنها قد راجت على كثير من الناس وتداولوها بينهم وصدقها بعضهم فمن أجل ذلك رأيت أنه يتعين على أمثالي الكتابة عنها لبيان بطلانها وأنها مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتر بها أحد ومن تأملها من ذوي العلم والإيمان أو ذوي الفطرة السليمة والعقل الصحيح عرف أنها كذب وافتراء من وجوه كثيرة ولقد سألت بعض أقارب الشيخ أحمد المنسوبة إليه هذه الفرية عن هذه الوصية فأجابني بأنها مكذوبة على الشيخ أحمد المذكور وقد مات من مدة ولو فرضنا لأن الشيخ أحمد المذكور أو من هو أكبر منه زعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم أو اليقظة وأوصاه بهذه الوصية لعلمنا يقينا أنه كاذب أو أنه الذي قال له ذلك شيطان ليس هو الرسول صلى الله عليه وسلم ولجوه كثيرة منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرى في اليقظة بعد وفاته ومن زعم من جهلة الصوفية أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة فقد غلط أقبح الغلط ولبس عليه غاية التلبيس ووقع في خطأ عظيم وخالف الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم لأن الموتى إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدنيا ومن قال خلاف ذلك فهو كاذب كذبا بينا أو غالط ملبس عليه لم يعرف الحق الذي عرفه السلف الصالح ودرج عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان.
الوجه الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول خلاف الحق لا في حياته ولا بعد وفاته وهذه الوصية تخالف شريعته مخالفة ظاهرة من وجوه كثيرة كما يأتي وهو صلى الله عليه وسلم قد يرى في النوم ومن رآه في المنام على صورته الشريفة فقد رآه لأن الشيطان لا يتمثل في صورته كما جاء بذلك الحديث الصحيح الشريف ولكن الشأن كل الشأن في إيمان الرائي وصدقه وعدالته وضبطه وديانته وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم في صورته أو في غيرها ولو جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث قاله في حياته من غير طريق الثقات الضابطين ولكنه يخالف رواية من هو أحفظ منهم وأوثق مخالفة لا يمكن معها الجمع بين الروايتين لكان أحدهما منسوخا لا يعمل به والثاني ناسخ يعمل به حيث أمكن ذلك بشروطه وإذا لم يكن ذلك ولم يمكن الجمع وجب أن تطرح رواية من هو أقل حفظا وأدنى عدالة والحكم عليها بأنها شاذة لا يعمل بها فكيف بوصية لا يعرف صاحبها الذي نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تعرف عدالته وأمانته فهي والحالة هذه حقيقة بأن تطرح ولا يلتفت إليها وإن لم يكن فيها شيء يخالف الشرع فكيف إذا كانت الوصية مشتملة أمور كثيرة تدل على بطلانها وأنها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتضمنة لتشريع دين لم يأذن به الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال علي ما لم أقل فليتبوء مقعده من النار"، وقد قال مفتري هذه الوصية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل وكذب عليه كذبا صريحا خطيرا فما أحراه بهذا الوعيد العظيم وما أحقه به إن لم يبادر بالتوبة وينشر للناس أنه قد كذب هذه الوصية على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من نشر باطلا بين الناس ونسبه إلى الدين لم تصح توبته منه إلا بإعلانها وإظهارها حتى يعلم الناس رجوعه عن كذبه وتكذيبه لنفسه لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ
بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُون إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فأوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أم من كتم شيئا من الحق لم تصح توبته من ذلك إلا بعد الإصلاح والتبيين والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة ببعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما أوحى الله إليه من لشرع الكامل ولم يقبضه إليه إلا بعد الإكمال والتبيين كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية.
ومفتري هذه الوصية قد جاء في القرن الرابع عشر يريد لأن يشرع للناس دينا جديدا يترتب عليه دخول الجنة لمن أخذ بتشريعه وحرمان الجنة ودخول النار لمن لم يأخذ بتشريعه ويريد أن يجعل هذه الوصية التي افتراها أعظم من القرآن وأفضل حيث افترى فيها أن من كتبها وأرسلها من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل بني له قصر في الجنة ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وهذا أوضح الدلائل على كذب هذه الوصية وقلة حياء مفتريها وعظم جرأته على الكذب لأن من كتب القرآن الكريم وأرسله من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل لم يحصل على هذا الفضل إذا لم يعمل بالقرآن الكريم فكيف يحصل لكاتب هذه الفرية وناقلها من بلد إلى بلد ومن لم يكتب القرآن ولم يرسله من بلد إلى بلد لم يحرم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مؤمنا به تابعا لشريعته وهذه الفرية الواحدة في هذه الوصية تكفي وحدها للدلالة علة بطلانها وكذب ناشرها ووقاحته وغباوته وبعده عن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى وفي الوصية سوى ما ذكر أمور أخرى كلها تدل على بطلانها وكذبها ولو أقسم مفتريها ألف قسم أو أكثر على صحتها ولو دعا على نفسه بأعظم العذاب وأشد النكال على أنه صادق لم يكن صادقا ولم تكن صحيحة بل هي والله من أعظم الكذب وأقبح الباطل ونحن نشهد الله سبحانه ومن حضرنا من الملائكة من اطلع على هذه الكتابة من المسلمين شهادة نلقى بها ربنا عز وجل أن هذه الوصية كذب وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخزى الله من كذبها وعامله بما يستحق ويدل على كذبها وبطلانها سوى ما تقدم أمور كثيرة: الأول: منها قوله فيها: "لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفا على غير دين الإسلام، لأن هذا من علم الغيب والرسول صلى الله عليه وسلم قد انقطع عنه الوحي بعد وفاته وهو في حياته لا يعلم الغيب فكيف بعد وفاته لقول الله سبحانه: {قُلْ
لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْب} الآية وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ} وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يذاد رجال عن حوضي يوم القيامة فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
الثاني: من الأمور الدالة على بطلان هذه الوصية وأنها كذب قوله فيها "من كتبها وكان فقيرا أغناه الله أو مديونا قضى الله دينه أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية"إلى آخره وهذا من أعظم الكذب وأوضح الدلائل على كذب مفتريها وقلة حيائه من الله ومن عباده لأن هذه الأمور الثلاثة لا تحصل بمجرد كتب القرآن الكريم فكيف تحصل لمن كتب هذه الوصية الكاذبة الباطلة، وإنما يريد هذا الخبيث التلبيس على الناس وتعليقهم بهذه الوصية حتى يكتبوها ويتعلقوا بهذا الفضل المزعوم ويدعوا الأسباب التي شرعها الله لعباده وجعلها موصلة إلى الغناء وقضاء الدين ومغفرة الذنوب نعوذ بالله من أسباب الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.
الأمر الثالث: من الأمور الدالة على بطلان هذه الوصية قوله فيها: "ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة"وهذا أيضا من أقبح الكذب ومن أبين الأدلة على بطلان هذه الوصية وكذب مفتريها كيف يجوز في عقل عاقل أن من لم يكتب هذه الوصية التي جاء بها رجل مجهول في القرن الرابع عشر يفتريها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعم أن من لم يكتبها يسود وجهه في الدنيا والآخرة ومن كتبها كان غنيا بعد الفقر وسليما من الدين بعد تراكمه عليه ومغفور له ما جناه من الذنوب، سبحانك هذا بهتان عظيم وإن الأدلة والواقع يشهدان بكذب هذا المفتري وعظم جرأته على الله وقلة حيائه من الله ومن الناس فهؤلاء أمم كثيرة لم يكتبوها فلم تسود وجوههم وهنا جم غفير لا يحصيهم إلا الله قد كتبوها مرات كثيرة فلم يقض دينهم ولم يزل فقرهم فنعوذ بالله من زيغ القلوب ورين الذنوب وهذه صفات وجزاءات لم يأت بها الشرع الشريف لمن كتب أفضل كتاب وأعظمه وهو القرآن الكريم فكيف تحصل لمن كتب وصية مكذوبة مشتملة على أنواع من الباطل وجمل من أنواع الكفر سبحان الله ما أحكمه على من اجترأ عليه بالكذب.
الأمر الرابع: من الأمور الدالة على لأن هذه الوصية من أبطل الباطل وأضح الكذب قوله فيها "ومن يصدق بها ينج من عذاب النار ومن كذب بها كفر"وهذا أيضا من أعظم الجرأة على الكذب ومن أقبح الباطل يدعو هذا المفتري جميع الناس إلى أن يصدقوا بفريته ويزعم أنهم بذلك ينجون من عذاب النار وأن من كذب بها يكفر لقد أعظم على والله هذا الكاب على الله الفرية وقال والله غير الحق إن من صدق بها هو الذي يستحق أن يكون كافرا لا من كذب بها لأنها فرية وباطل وكذب لا أساس له من الصحة ونحن نشهد الله على أنها كذب وأن مفتريها كذاب يريد أن يشرع للناس ما لم يأذن به الله ويدخل في دينهم ما ليس منه والله قد أكمل الدين وأتمه لهذه الأمة من قبل هذه الفرية بأربعة عشر قرنا فانتبهوا أيها القراء والإخوان وإياكم والتصديق بأمثال هذه المفتريات وأن يكون لها رواج فيما بينكم فإن الحق عليه نور لا يلتبس على طالبه فاطلبوا الحق بدليله واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم ولا تغتروا بحلف الكذابين فقد حلف إبليس اللعين لأبويكم على أنه لهما من الناصحين وهو أعظم الخائنين وأكذب الكذابين كما حكى الله عنه ذلك في سورة الأعراف حيث قال سبحانه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} فاحذروه واحذروا اتباعه من المفترين فكم له ولهم من الأيمان الكاذبة والعهود الغادرة والأقوال المزخرفة للإغواء والتضليل عصمني الله وإياكم من شر الشياطين وفتن المضلين وزيغ الزائغين وتلبيس أعداء الله المبطلين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويلبسوا على الناس بدينهم والله متم نوره وناصر دينه ولو كره أعداء الله من الشياطين وأتباعهم من لكفار والملحدين.
وأما ما ذكره هذا المفتري من ظهور المنكرات فهو أمر واقع والقرآن الكريم والسنة المطهرة قد حذرا منها غاية لتحذير وفيها الهداية والكفاية ونسال الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يمن عليهم باتباع الحق والاستقامة عليه والتوبة إلى الله سبحانه من سائر الذنوب فإنه التواب الرحيم القادر على كل شيء وأما ما ذكر عن شروط الساعة فقد أوضحت الأحاديث النبوية ما يكون من أشراط الساعة وأشار القرآن الكريم إلى بعض ذلك فمن أراد أن يعلم ذلك في محله من كتب السنة ومؤلفات أهل العلم والإيمان وليس بالناس حاجة إلى بيان مثل هذا المفتري وتلبيسه ومزجه الحق بالباطل وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الصادق الأمين وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
الغناء من علل المجتمع المسلم
بقلم فضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
تحت عنوان "فتوى شرعية.. من عالم بالأزهر".. "الغناء المحتشم.. ليس حراما"وإلى جوار صورة إحدى الفتيات.. نشرت جريدة الأخبار القاهرية - كلاما نسبته لعالم أعرفه حريصا على أن يقول الحق.. ولهذا أبادر فأنكر نسبة هذا الكلام إليه إن لم يكن قد سقط بعضه أو أضيف إليه ما ليس منه.
إن صوت المرأة في المعاملات الضرورية لا بأس به في دين الله، إن لم تتكلف المرأة اللين في كلامها من جهة وحين لا يكون في صوتها من جهة أخرى ما يغري بها رقاق الدين ومرضى الأفئدة.. والله تعالى يقول لأمهات المؤمنين وهو أدب معهن لمن وراءهم من بنات حواء:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} الأحزاب 32، قولا لا تنكره الشريعة ولا يجافي التصون والكمال فإن كان صوتها مما يطمع فإنها مأمورة بالغض منه والتصرف فيه عما يوقع في الإثم على غير إرادة منها والله تعالى يقول:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء 29.
والكلام الذي نشر على أنه فتوى "عالم من الأزهر"يكاد بعضه يصرع بعضا، وليس فيه بصيص من نور الشريعة وحتى يكون القراء على علم به، أنقل منه بأمانة هذه الفقرات.. "إن الغناء الذي لا يثير الفتن ولا يحرك الشهوات ولا يصد عن الواجبات لم يحرمه حديث شريف ولا سنة نبوية قال القاضي أبو بكر العربي – هكذا لم يصح في تحريم الغناء شيء!!.
ثم يردف قائلا: "ولا شك أن الغناء المحرم هو المقترن بمجالس الخمر والسهر الحرام.. وهناك قيود لابد من مراعاتها لكي يكون الغناء مباحا، منها: ضرورة احتشام المغنية! وألا يخالف موضوع الغناء آداب الإسلام وأن يؤدي الغناء بطريق وقورة لا تميع فيها ولا إغراء ولا إثارة! ! ولابد أن تكون المعنية مرتدية الزي الشرعي الفضفاض السميك الذي لا يظهر غير الوجه والكفين ثم تجنبها التزين!!.
ومعذرة فقد أكثرت من علامات التعجب التي تغني كل واحدة منها على كلام وكلام في هذا الكلام.
ثم تقول الفتوى "هذا هو الرأي الشرعي في الغناء"مع التأكيد بأن معظم الغناء الذي تسمعه اليوم هو من النوع المحظور الحرام، وعلى المجتمع أن يتذكر قول الله تعالى "وذكرت الفتوى البسملة"ولو أنها تعوذت بالله لعصمها من هذا اللهث في غير طائل وكان ذلك هو الحق في القراءة، ثم ذكرت الفتوى بعد البسملة المقحمة في غير موضعها كما أقحم هذا الكلام كله على الدين باسم "عالم من الأزهر" قوله تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} اه
تلك هي الفتوى بقضها وقضيضها – كما يقولون – لا كما قلت: إنني أنقل منها فقرات إنصافا لما قيل وللقارئ حتى يكون على بينة من الأمر..
ثم أتساءل: أوكل دين الله – أيها الناس – هو الكلمة التي أوردتها الفتوى من كلام ابن العربي رحمه الله؟ ! وإذا سلمنا جدلا أنها من كلامه أهي كل ما قال ابن العربي في الغناء؟ وغناء المرأة بخاصة على ما يعرف الناس من مظاهر أمر المغنيات وأغانيهن وما يكون عليه الإيقاظ وغير الإيقاظ بين أيديهن في الاحفال التي يقذف فيها الشيطان بكل ضلاله.
سكران:
سكر هوى وسكر مدامة
ومتى إفاقة من به سكران؟
وليتنا نعي أقوال المفسرين لقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً..} لقمان 6.
فإن فيما قالوا هدى لشداة الحلال وشريف الخصال، وشداة لأنفس الذين يؤثرون الحق على ممالأة الرجال، وقد قرأ ابن مسعود هذه الآية ثم قال:"الغناء والله الذي لا إله إلا هو"يرددها ثلاثا..
وروى عنه القرطبي رحمه الله قوله "الغناء ينبت النفاق في القلب"وابن عمر وجمع غفير من الصحابة والتابعين وتابعيهم هم أعلا كعبا من أبي بكر ابن العربي على جلالته مع ابن مسعود فيما ذهب إليه من تفسير "لهو الحديث"بالغناء غناء الرجال أيها الرجال.. وإن القرطبي ليذكر من كلام ابن العربي "الغناء المعتاد الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون و..، لا يختلف في تحريمه لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق فأما ما سلم من ذلك – والكلام لابن العربي – فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة كما كان في حفر الخندق.. فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإمعان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام"اه ابن العربي.. ولقد ترجم البخاري – أيها الناس – باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} .
وأود أن ينظر طالب المزيد المسألة الثالثة من تفسير القرطبي رحمه الله للآية.. ففيها غنية وكفاية في الموضوع وفيها:
- الغناء على الدوام - والكلام في غناء الرجال وليس منه غناء النساء بحال - سفه، ترد به الشهادة فإن لم يدم لا ترد.
- أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب ذلك – أيها الناس – في الجارية بعيبها وهو مذهب أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد.
- أما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء، ويجعل سماعه من الذنوب وهو مذهب سائر أهل الكوفة بإجماع ولا يعرف لأهل البصرة خلاف في ذلك إلا ما روي عن أبي الحسن العنبري.
- وأما مذهب الشافعي فقال: الغناء مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته.
- وذكر ابن الجوزي عن إمامه ابن حنبل ثلاث روايات: قال: وقد ذكر أصحابنا عن الخلال وصاحبه عبد العزيز إباحة الغناء وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من شعر الزهد قال.. وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه الإمام أحمد.. ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال: تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية فقيل له: إنها تساوي ثلاثين ألفا ولعلها عن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا؟ فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة قال ابن الجوزي: وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق وإني ههنا لأسترعي انتباه القارئ على ما ذكر بعد من كلام ابن العربي من سماع القينات فلا ستكمل كلام أبي الفرج في قول القرطبي وهذا دليل على أن الغناء محظور إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم.
- قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد والعنبري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" وأورد أبو الفرج قول القفال برد شهادة المعني والرقاص.
وقد استخلص القرطبي من هذه الأقوال حكما فقال "وقد ثبت أن هذا الأمر - غناء الرجال - لا يجوز، فأخذ الأجرة عليه لا يجوز وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك ولفت الأنظار إلى تفسيره رحمه الله الآية {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} الأنعام"وقال "وحسبك".
ومن عجب أن أهل هذه الصناعة من الرعاية على المستويات العليا ما لا يجد كثيرون من البناة والدعاة والضرائب في بعض الأقطار تخفض عنهم بينما تتضاعف على إنتاج العلماء والمفكرين والصحف اليومية تذكر هذه الأيام أن متوسط دخل فلان من المغنيين في بعض أقطارنا الكبرى هو عشرون ألف جنيه شهريا!! {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الشورى36.
وكنت على موعد مع القارئ أن أذكر له قول ابن العربي في غناء القينات فخذه من قول القرطبي "الرابعة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته – جاريته هو أيها الناس – إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟ أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث فإذا أخرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله.
أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا: لا يجوز.. سواء كانت حرة أو مملوكة وقال الشافعي وصاحب الجارية إذا جمع عليها الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته، ثم ذكر وصفا غليظا.. وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها"اه أيبقى مجال لتصديق ما أوردت الفتوى من القول المنسوب لابن العربي "لم يصح في تحريم الغناء شيء"وقول الذي أفتى "أن الغناء لم يحرمه حديث شريف ولا سنة نبوية"؟ ومع هذا فلا بأس بأن أورد لمن قالوا "الغناء المحتشم ليس حراما"من أصح كتابين بعد القرآن الكريم - البخاري ومسلم - عن عائشة رضي الله عنها قالت:"دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا".
أن الرسول لم ينكر على أبي بكر قوله عن الغناء – غناء جاريتين عند سيدة بما لا فحش فيه ولا شبهه –: "مزمار الشيطان"وإنما أقرهما الرسول لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل يوم بعاث من الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد.
وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة فليرجع من شاء إلى فتاويه في ذلك ينتهي معه إلى قوله.. "ومن يتتبع ما اختلف فيه العلماء أو أخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد"اه
وقال أبو سليمان الدراني "لو أخذت برخصة كل عالم، وزلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله"وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه "إغاثة اللهفان": "قد تواتر عن الإمام الشافعي رضي الله عنه قوله" خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير – وهو كما قال ابن دريد – تهليل أو ترديد صوت بقراءة وغيرها – يصدون به الناس عن القرآن فإذا كان قول الشافعي في التغبير – وهو من الرجال أيها الناس – وتعليله له أنه يصد عن القرآن وهو شعر مزهد في الدنيا يغني به مغن ويضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو حجرة على توقيع غناء فليت شعري ما يقول في سماع – التغبير عنده كنقطة في بحر – قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون وعابد جاهل وقد كتب خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز لمؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب في الماء"ذكره الإمام ابن القيم.
ولابن القيم رحمه الله تنبيهان، في كتابه "إغاثة اللهفان"يصف في أولهما المعكوف على السماع بما يشمئز به عن السماع ذووا القلوب وساق المذاهب الأربعة في السماع.. ويذكر في ثاني التنبيهين في "إغاثة اللهفان"أن السماع من الأجنبيات من أعظم المحرمات وأشدها إفسادا للدين.. وقال فيه: وما خالف في الغناء إلا رجلان إبراهيم بن سعيد والعنبري فإن الساجي حكى عن الأول أنه كان لا يرى به بأسا أما الثاني فهو مطعون فيه"اه.
لقد أرخيت للقلم العنان وما يزال للإفاضة في الغناء مكان فلا اجتزئ راضيا بقول أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: "ما ساح السياح وخلوا ديارهم وأولادهم إلا لمثل ما نزل بنا حين رأوا الشر قد ظهر والخير قد اندرس ورأوا الفتن ولم يؤمنوا أن تغيرهم وأن ينزل العذاب بأولئك القوم فلا يسلمون منه فرأوا أن مجاورة السباع وأكل البقول خير من مجاورة هؤلاء في نعيمهم ثم قرأ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} الذاريات 50".
قال: "فر قوم فلولا ما جعل الله جل ثناؤه في النبوة ما جعل لقلنا ما هم بأفضل من هؤلاء فمما بلغنا أن الملائكة لتلقاهم وتصافحهم والسحاب والسباع تمر بأحدهم فيناديها فتجيبه ويسألها أين أمرت؟ فتجيبه وليس بنبي".
والله المسؤول أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه وأن لا يجعله ملتبسا علينا فنضل ونهلك وطوبى لمن آثر الحق فظاهره وآثره وإن تركه وما له من صديق.
معوض عوض إبراهيم
الباحث العلمي برئاسة البحوث
العلمية والإفتاء
الإخاء الإسلامي قوة وعطء وانتصار
لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
الإخاء الإسلامي.. هو الأصل الأصيل في بناء دولة الإسلام. وقيام الأمة الإسلامية.. "ولقد كان العرب - قبل الإسلام - والناس معهم على شفا حفرة من النار. متشاكسون. متنافرون، متحاربون، سنين طويلة، من أجل ناقة، فنزلت الآيات.. قيل لهم: تحابوا فتحابوا. قيل لهم: تآخوا فتآخوا. ثم قيل لهم: انفروا. فهبوا خفافا وثقالا.. تنزلت الآيات.. فقالوا: سمعنا وأطعنا. ومؤمنو مكة. على اختلاف قبائلهم ما عرفنا لهم اسما في التاريخ إلا المهاجرين ومؤمنو المدينة ما عرفنا لهم اسما في التاريخ إلا الأنصار فإذا بالفرقاء والمتشاكسون دولة"[1] .
والإسلام لم يكتف بإطلاق اسم المهاجرين. على المؤمنين من أهل مكة الذين هاجروا إلى المدينة.. ولم يكتف أيضا بإطلاق اسم الأنصار على قبيلتي الأوس والخزرج، أبناء قيلة.. مع أن إطلاق اسم الأنصار والمهاجرين كافيا لإعطاء العمق الإسلامي الأصيل.
لم يكتف الإسلام بهذا. ولذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ في البناء الأخوي الكامل. ليقيم دولة الإسلام. على أساس سليم..
قال ابن إسحاق: "وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال فيما بلغنا: "تآخوا في الله أخوين أخوين" [2] .
لقد بلغ المسلمون الأوائل في الإيثار - بكل ما تشمله كلمة إيثار من معنى ومفهوم ومدلول - بلغوا درجة عليا. ومكانة عظمى. بما وقر في قلوبهم من إيمان. وبما أشرق في نفوسهم من يقين..
إن قوة الإيمان بالله، والتصديق برسوله صلى الله عليه وسلم. تجعل النفس الإنسانية. تشرق بالكثير من صفات الخير. وتتخلق بالآداب والفضائل العظيمة..
ولقد صنع ذلك الإيمان وهذا التصديق. جماعة اصطبغ سلوكهم بالشمائل الجليلة.. فكانوا يؤثرون إخوانهم بأموالهم. وديارهم. على أنفسهم. ويتنازلون عن قسمهم في الغنائم من أجلهم، ويقدمون حاجة إخوانهم على حاجتهم، حبا لهم، ورغبة في أخوتهم [4] .
والإيثار في الإسلام هو: تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا أي خصته به وفضلته [5] .
والذين سكنوا المدينة. وأشربت قلوبهم حب الإيمان، من قبل هجرة أولئك المهاجرين.. لهم صفات كريمة وشيم جليلة، تدل على كرم النفس ونبل الطباع، [6] ولذا كانوا يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدأون بالناس قبلهم، وفي حال احتياجهم إلى ذلك.. وهؤلاء تصدقوا به، وهم يحبون ما تصدقوا به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه [7] .
وجاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر: أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وقال لهم:"إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة". فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها [8] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم"فقالوا: أموالنا بيننا قطائع.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر ". فقال لله"[9] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم: أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.. فقال الرسول: لا. فقالوا: المهاجرون - أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا [10] .
نعم.. إن الإيمان الصادق. إذا صادف قلوبا. هيئت له، تمكن فيها ونما، وترعرع، وأشرقت آثاره على من حولها، وسعى أصحاب هذه القلوب المؤمنة، في بذل ما يرضي من حولهم من المسلمين.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. من خيرة من تمسك بفضيلة الإيثار.. حرصا على أخوة الإسلام. وتواددا في ظلال الإيمان.. قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [11] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ..} [12] .
والمؤاخاة في الناس. قد تكون على وجهين [13] :
أحدهما: أخوة مكتسبة بالاتفاق الجاري مجرى الاضطرار.
والثانية: أخوة مكتسبة بالقصد والاختيار.
فأما المكتسبة بالاتفاق.. فهي أوكد حالا، لأنها تنعقد عن أسباب تعود إليها.. والمكتسبة بالقصد. تعقد لها أسباب. تنقاد إليها، وما كان جاريا بالطبع. فهو ألزم مما هو حادث بالقصد.
أما المكتسب بالاتفاق فله أسباب..
ما له هوى إلا له سبب
يبتدي منه وينشعب
وأول أسباب الإخاء: التجانس في حال يجتمعان فيها، ويأتلفان بها، إن قوى التجانس. قوى الائتلاف به، وإن ضعف كان ضعيفا، ما لم تحدث عليه علة أخرى، يقوى بها الائتلاف.
وإنما كان كذلك. لأن الائتلاف بالتشاكل، والتشاكل بالتجانس، فإذا عدم التجانس من وجه انتفى التشاكل من كل وجه، ومع انتفاء التشاكل يعدم الائتلاف.. فثبت أن التجانس وإن تنوع أصل الإخاء. وقاعدة الائتلاف.
وقد روى يحيى بن سعد عن عمر، عن عائشة رضي الله عنها. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف. وما تناكر منها اختلف" فالأرواح بالتجانس متعارفة، وبفقده متناكرة. قال الشاعر:
فلا تحتقر نفسي وأنت خليها
فكل امرئ يصبو إلى من يشاكل
وقال آخر:
فقلت أخي قالوا أخ من قرابة
فقلت لهم إن الشكول أقارب
نسيبي في رأيي وعزمي وهمتي
وإن فرقتنا في الأصول المناسب
ثم يحدث بالتجانس. المواصلة بين المتجانسين، وهي المرتبة الثانية من مراتب الإخاء. وسبب المواصلة بينهما وجود الاتفاق بينهما. فصارت المواصلة نتيجة التجانس.. والسبب فيه وجود الاتفاق. لأن عدم الاتفاق منفر. وقد قال الشاعر:
الناس إن وافقتهم عذبوا
أولا فإن جناهم مر
كم من رياض لا أنيس بها
تركت لأن طريقها وعر
ثم يحدث عن المواصلة رتبة ثالثة وهي المؤانسة. وسببها: الانبساط.
ثم يحدث عن المؤانسة رتبة رابعة وهي المصافاة. وسببها: خلوص النية.. ورتبة خامسة.. وهي المودة وسببها الثقة. وهذه الرتبة هي أدنى الكمال، في أحوال الإخاء. وما قبلها أسباب تعود عليها. فإن اقترن بها المعاضدة.. فهي الصداقة، ثم يحدث عن المودة، رتبة سادسة، وهي المحبة، وسببها: الاستحسان، فإن كان الاستحسان لفضائل النفس. حدثت رتبة سابعة. وهي الإعظام. وإن كان الاستحسان للصورة والحركات حدثت رتبة ثامنة، وهي العشق، وسببه الطمع. وقد قال المأمون رحمه الله تعالى:
أول العشق مزاح وولع
ثم يزداد إذا زاد الطمع
كل من يهوى وإن عالت به
رتبة الملك لمن يهوى تبع
وهذه الرتبة آخر الرتب المعدودة. وليس لما جاوزها رتبة مقدرة. ولا حالة محدودة، لأنها قد تؤدي إلى ممازجة النفوس. وإن تميزت بذواتها، وتفضي إلى مخالطة الأرواح. وإن تفارقت أجسادها.. وهذه حالة لا يمكن حصر غايتها، ولا الوقوف عند نهايتها.. وقد قال الكندي: الصديق إنسان هو أنت إلا أنه غيرك..
ومثل هذا المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أقطع طلحة بن عبيد الله أرضا، وكتب له بها كتابا، وأشهد فيه ناسا. منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتي طلحة بكتابه إلى عمر ليختمه، فامتنع عليه عمر.. فرجع طلحة إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: والله ما أدري أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: بل عمر لكنه أنا [14] ..
أما المؤاخاة المكتسبة بالقصد.. فلابد لها من داع يدعو إليها، وباعث يبعث عليها.. وقد يكون الداعي لها من وجهين: رغبة وفاقة.. فأما الرغبة فهي أن يظهر من الإنسان فضائل تبعث على إخائه، ويتوسم بجميل يدعو إلى اصطفائه.. وأما الفاقة.. فهي أن يفتقر الإنسان لوحشة انفراده، ومهانة وحدته، إلى اصطفاء من يأنس بمؤاخاته، ويثق بنصرته وموالاته [15] ..
وأعز ما تملكه الجماعات الإخاء فهو الرصيد الثابت، والقاعدة الصلبة والمرتكز الصاعد.
والأخوة في الإسلام. قاعدة الحياة ولا حياة بدون إخاء. وإخوان..والأخوة في الإسلام فوق كل الحاجز الجنسية، والعرقية. والقومية، والحزبية، والسياسية، وهي في الإسلام على أصول أصيلة، وقواعد متينة.
ومن ذلك وحدة الأصل الإنساني فالناس جميعا على اختلاف أجناسهم، وتمايز ألوانهم، وتباعد أقطارهم، يرجعون إلى أب واحد، وأصل واحد، ولطالما ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة وبينها في أساليب شتى، وآيات متعددة، لكي تكون دائما موضع الاعتبار، والرعاية.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..} [16]
فهذه الآية العظيمة – كما ترى – تقرر أصلا من أصول الإسلام، وهو المساواة بين الناس.. ولقد قررت هذه الآية. مبدأ ضخما من المبادئ الإنسانية السامية.. فهي من معجزات هذا القرآن الذي أنزله الله ضياء للناس ونورا. يهتدون به، وبرهانا ساطعا ينير السبل أمامهم [17] .
وكان العالم قبل انبثاق نور الإسلام. يموج في الظلم، ويضطرب في الفساد، وتسوده الهمجية، والعصبية الجاهلية، وتخيم عليه ضلالات العصور القديمة، وقد نشر الرعب أجنحته على الدنيا وزاد الفساد، وتفاخر بالأنساب، وعاشوا تحت ظل نظام الطبقات..
في هذه الظلمة الداكنة، ينبثق فجر الإسلام، فتبدد أنواره، تلك الغيوم السوداء،.. وتنزل هذه الآية الكريمة، لتقرر مبدأ إنسانيا عظيما.. وهو إعلان المساواة بين البشر، كل البشر [18] .
ويهتم القرآن الكريم بالإنسانية والبشرية، اهتماما يفوق حد الوصف. وهذه كلمة "الناس"يتكرر استعمالها في أساليب القرآن الكريم نحوا من مائة وأربعين مرة.. كثير منها جاء خطابا للبشر عموما. وكثير منها ورد دالا على الجنس البشري.
وهذه أيضا كلمة "الإنسان"تستعمل في آيات القرآن الكريم، في لأكثر من ثمانين موضعا.. في أساليب متنوعة. عائدة بالمفكر والعاقل، إلى أصل الإنسان. ولا شك أن استعمال "الناس"و "الإنسان"بهذا الاهتمام يخلق في المسلم تربية إنسانية، تعجز عن الوصول إليها أساليب رجال التربية الحديثة، أمثال: جان جاك روسو، وهربارت سبنسر، وجون ديوي، ووليم جيمز،.. وغيرهم من فلاسفة التربية، حتى كلمة البشر الدالة على الجنس الإنساني الواحد، تستعمل في القرآن الكريم، في أكثر من خمس وثلاثين آية، وهكذا يهتم القرآن الكريم. بكل ما من شأنه أن يوقظ في الناس، أحاسيس الإنسانية، ويربي الخلق الإنساني.. والإسلام جاء ليقيم بين البشر رابطة الإنسانية القائمة على ارتباط البشر جميعا بالله خالق الأرض والسموات.
"وفي إنشاء جميع البشر من نفس واحدة، لآيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته.. وفي التذكير بذلك إيماء إلى ما يجب من شكر نعمته، وإرشاد إلى ما يجب من التعاون والتعارف بين البشر. وأن يكون هذا التفرق إلى شعوب وقبائل مدعاة على التأليف. لا إلى التعادي والتقاتل وبث روح العداوة والبغضاء بين الناس"[19] .
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم. ولا إلى أجسامكم ن ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم. فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم"[20] .
والمسلمون هم أحق الناس بالحفاظ على الأخوة. وأجدر الناس باتباع هدى القرآن، وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن الأصول الأصيلة للأخوة في الإسلام وحدة العقيدة.
ووحدة العقيدة من أهم الركائز لوحدة المسلمين، وتكامل أخوتهم. وعقيدة المسلمين واحدة. لا تختلف باختلاف جنس من الأجناس. أو لون من الألوان، أو مصر من الأمصار، أو جيل من الأجيال، أو زمن من الأزمان، هذه العقيدة قائمة وتقوم على الإيمان بالله. وبرسول الله، وبكل ما في القرآن.. وأن الإسلام هو الإسلام.. والقرآن هو القرآن.. ومن آيات العقيدة في القرآن قول الله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [21] .
قال الإمام ابن كثير: اشتملت هذه الآية على جمل عظيمة، وقواعد عميمة وعقيدة مستقيم [22] .
والآية كما نرى مشتملة على خمسة عشر خصلة.. وترجع إلى ثلاثة أقسام: فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الاعتقاد. وآخرها قوله: "والنبيين" وافتتحها بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد.
والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن المعاشرة العباد وأولها (وآتى المال) وآخرها (وفي الرقاب) .
والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها (وأقام الصلاة) وآخرها (وحين البأس) ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان [23] .
وعقيدة الإسلام واحدة لدى كل المسلمين في شرق الأرض وغربها، وشمالها وجنوبها، تجتمع عليها قلوبهم. وتحفظها عقولهم. وتستيقنها نفوسهم، ووحدة العقيدة، جددت بين المسلمين، ما مضى من قرابة الدم القائمة بينهم.
وإذا كانت أبوة آدم عليه السلام، أبوة مادية، تجمع بين الأمة الإسلامية. وتوحد بينها في الأصل، فإن العقيدة الإسلامية، هي أبوة روحية. ترجع إليها فروع المؤمنين. والحق أن المؤمن حينما يستشعر جلال هذا الأصل الروحي، الذي يجمعه وإخوانه المؤمنين، في مشارق الأرض ومغاربها إلى جانب الأصل المادي الذي يرجعه معهم على أبوة واحدة. فإنه حينئذ يشعر أنه إنما يحيا بإخوانه، ويحيا لهم ويحس كأنه غصن من أغصان شجرة عظيمة، يحيا بحياتها ويموت بموتها [24] .
وإن رابطة العقيدة في الإسلام – وهي رابطة في المبادئ والمثل العليا والقيم الرفيعة – من أقوى عوامل التقدم والازدهار.
وتلك التعاليم هي أعلى وأقوى من رابطة الدم. والنسب، والمساكنة، في الوطن. والمشاركة في القومية. وهذا الأساس هو المنطلق الوحيد، للخروج من قوقعة الأنانيات الفردية، والقبلية والقومية. إلى صعيد اللقاء الإنساني. على أساس المبادئ. مبادئ الحق، والعدل، والخير، وفي هذا الإطار التربوي النفسي ذاته، عالج الإسلام النفس الإنسانية إعدادا لها، لتحقيق المعارف، والتعاون.
فعالج آفاتها وأمراضها الحائلة دون التعاون. كالحقد والحسد والغل، التي تثيرها دوافع النفعية للذات الفردية أو القبلية أو القومية [25] .
والأصل الثالث في أصول الأخوة الإسلامية وحدة مصدر التشريع.. ومصدر التشريع واحد لدى المسلمين.. وهو القرآن الكريم. كتاب الله الذي أنزله ليكون دستور الخالق في إصلاح الخلق. ينظم الحياة. ويعالج النفوس، ويقوم اعوجاج المجتمع، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [26] .
وأن الله عز وجل ذكر للنور ثلاث فوائد:
الأول: أنه يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام أي أن من اتبع منهم ما يرضيه تعالى بالإيمان بهذا النور، يهديه الطريق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة. من كل ما يرديه ويشقيه، فيقوم في الدنيا بحقوق الله تعالى. وحقوق نفسه الروحية والجسدية، وحقوق الناس، فيكون متمتعا بالطيبات. مجتنبا للخبائث، نقيا، مخلصا، صالحا، مصلحا. ويكون في الآخرة سعيدا منعما جامعا بين النعيم الحسي والجسدي والنعيم الروحي العقلي.
الثانية: الإخراج من ظلمات الجهل والوثنية. إلى نور التوحيد الخالص. حيث يصبح الإنسان حرا كريما بين الخلق، عبدا خاضعا بين يدي الخالق وحده.
الثالثة: الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين. في أقرب وقت. لأنه طريق لا عوج فيه، ولا انحراف، فيبطئ سالكه، أو يضل في سيره..
وهو أن يكون الاعتصام بالقرآن الكريم على الوجه الصحيح الذي أنزله الله تعالى لأجله. بأن تكون عقائده. وآدابه، وأحكامه، مؤثرة في تزكية النفس، وإصلاح القلب، وإحسان الأعمال. وثمرة ذلك سعادة الدنيا والآخرة. بحسب سنن الله في خلق الإنسان [29] ..
والقرآن الكريم هو وحده القادر على تحديد علاقة الإنسان بالوجود كله والقرآن الكريم هو وحده القادر على أن يرسم للمجتمع الإسلامي الخطوط السليمة. ويضع له الحوافظ التي تحفظ الإنسانية. من التردي والهلاك..
والقرآن الكريم هو وحده الذي توجد فيه الحلول المنطقية المقبولة لكل ما وراء الحواس. وهو وحده الذي توجد فيه الحلول العملية لكل الجوانب وبهذا كان القرآن الكريم غنيا بكل جوانب الحياة الروحية والعقلية والجسمية..
والقرآن الكريم هو وحده القادر على إذكاء روح الأخوة الإسلامي وتدعيم المحبة بين المسلمين. .
وما دام القرآن الكريم يعمل على وحدة الصف الإسلامي.. فلا غرو أن يأمر الله المسلمين إن دب بينهم نزاع بأن يرجعوا إلى كتاب الله..
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [30] . فالرجوع عند التنازع في أي أمر إلى كتاب الله. وسنة رسول الله شرط في الإيمان. وذلك كله خير محض لا شر فيه أبدا..
ومن العجيب أن تشاهد تنازعا واختلافا بين الأخوة المسلمين. يؤدي على تحرك أجهزة الإعلام كلها. لتلقى الشتائم والسباب. والتهم.. وإن هذا الأمر محزن ومؤلم.. ولا يصح أن يكون بين المسلمين.. ولا شك أن المذاهب الهدامة. والأحزاب البغيضة لها اثر فعال في توسيع هوة الخلاف والاختلاف.
والمسلمون أخوة بنص القرآن الكريم قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [31] . . أخوة في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين اثبت من أخوة النسب. فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب [32] .
وأخوة الدين أحق وأجدر أن يهتم لها، ويصلح ما بين المؤمنين. لأنها أخوة بنص كتاب الله تعالى. والله سبحانه وتعالى هو الذي عقد هذه الأخوة وما عقده الله تبارك وتعالى لا تحله يد بشر. مهما قويت. وسطتن وظلمت. ومن عجيب أمر هذه الآية الكريمة. أنها جاءت وكأنها قررت أمرا واقعا مفروغا منه، لا يرد ولا يصد. فقالت:"إنما المؤمنون إخوة"هذا حكم الله، وهكذا أخبر عن هذا العقد الذي ربطه في السماء بين المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم. وتباينت لغاتهم. وتباعدت أقطارهم. وتناءت ديارهم. فهم اخوة، تجمعهم عقيدة خالدة، ورسالة واحدة. وهكذا جاءت الجملة خبرية، تقرر واقعا عظيما وتخبر عنه فقالت:"إنما المؤمنون إخوة"ولم تأت الجملة إنشائية ن إذ لم جاءت الآية إنشائية. لكانت الأخوة غير موجودة. ولكنه عز وجل ربط قلوب المؤمنين برباط واحد، وعقد هذا الرباط. ثم أخبر عن هذه الحقيقة الثابتة الواقعة، وقضى فيها بحكمة فقال:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ثم ثنى بتقرير هذه الحقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:
"المسلم أخو المسلم أحب أو كره" كما قال عليه الصلاة والسلام: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه. ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره".وفي سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن مرآة المؤمن. المؤمن أخو المؤمن. يكف عنه ضيقه ويحوطه من ورائه"..
وهكذا فهم الصحابة الكرام هذه الأخوة. وعاشوا فيها ولها، وأصبحوا بفضل الله تعالى إخوانا.. دعوتهم واحدة، وأمرهم واحد.. تقاسموا الحب فيما بينهم، وآثروا إخوانهم على أنفسهم. فقاسموهم الأموال، ووصلوا إلى درجة من الإيثار. أن يقول الصاحب لصاحبه:: هذا مالي جعلته بيني وبينك. وهاتان زوجتاي اختر أيتهما تشاء لتتزوجها أنت [33] .
والأخوة في الإسلام أسلوب تربوي وسلوك عملي، يسمو بالمسلمين، ويصل بهم إلى ذروة مراقي الفلاح والنصر..
وآثار الأخوة تبدو واضحة في التعاون الذي قام بين المسلمين. فجعل منهم أمة واحدة. تخوض المعارك بإيمانها بالله. وبنصر الله. لم تكن هذه الأمة القائمة على الأخوة. تعرف اليمين ولا اليسار. ولا التقدمية، ولا الثورية، ولا الحزبية، ولا جبهة السلام. ولا جبهة الرفض، ولا غير ذلك من حركات أريد بها شغل العالم الإسلامي، وتمزيق أخوته ووحدته، وسوف يبقى المسلمون في أشد الحاجة إلى الأخوة الإسلامية، لأنها السياج الذي يقي المجتمع من التعثر والتبعثر.
والأمة الإسلامية تحتاج إلى الجامعة الإسلامية المتكاملة في الإخاء الإسلامي الذي لا يعرف ولا يعترف بالحزبية، ولا العصبية، ولا القومية، ولا الإقليمية. ولا المذاهب الفكرية.
وقد أتم الله للمسلمين، وحدة الأصل، ووحدة العقيدة، ووحدة المصدر، ووحدة الشعور، ووحدة الصف، ووحدة العادات.
وكانت آثار ذلك واضحة. سواء في معارك بدر. والقادسية، واليرموك، وحطين، وعين جالوت، والعاشر من رمضان. وغير ذلك من معارك المسلمين التي خاضوها في سبيل الله.
وسواء في الحب في الله والتعاون المثمر، والتكامل والمساواة والعدل والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن منطلق الأخوة الإسلامية كانت أمتنا ولا زالت تملك رصيدا ضخما، يمكن استثماره، لتحقيق الإخاء الإسلامي العظيم والذي يجعلنا نحس بإخواننا المسلمين في الفلبين. وأريتريا، وبلغاريا، وفلسطين، وتايلند، وبخارى، والتركستان. وغيرها من المناطق التي يئن فيها المسلمون توجعا وألما.
والذي يجعلنا أيضا نعتز بالانتماء الإسلامي. ونرفض كل ما عدا الإسلام من الماركسية والتقدمية. وغيرهما من الأسماء التي أبدعها القاموس الشيوعي الإلحادي.
وسوف نحقق ما نأمله في ظلال الإسلام. وقوتنا رهينة بتمسكنا بالإسلام. وقد أثبت التاريخ والتجربة أن الإسلام خير ما عرفته الإنسانية.
بقلم: أحمد عبد الرحيم السايح
من رجال الأزهر
العنوان الدائم: مصر العربية – القاهرة
مدينة نصر – المنطقة الأولى 14 شارع الرياضة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
مجلة البحوث الإسلامية العدد الأول ص 16 الرياض.
[2]
سيرة النبي لابن هشام الجزء الثاني ص 351.
[3]
سورة الحشر الآية رقم 9.
[4]
الدين والحياة ع 119 ص 6. وزارة الأوقاف المصرية.
[5]
تفسير القرآن للإمام القرطبي ج 18 ص 24.
[6]
تفسير القرآن للإمام المراغي ج 28 ص 43.
[7]
تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 4 ص 337 بتصرف.
[8]
الكشاف للزمخشري ج 4 ص 84.
[9]
تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 4 ص 337. رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
[10]
تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 4 ص 337، والحديث رواه البخاري.
[11]
سورة الفتح الآية رقم 29.
[12]
سورة الأنفال الآية رقم 85.
[13]
أدب الدنيا والدين للماوردي ص 140 ط 17 المطبعة الأميرية 1346هـ.
[14]
أدب الدنيا والدين ص 143.
[15]
المصدر السابق بتصرف ص 142.
[16]
سورة الحجرات الآية رقم 13.
[17]
نظرات في سورة الحجرات للشيخ محمد محمود الصواف ص 147 طبع مؤسسة الرسالة.
[18]
المصدر السابق ص 148.
[19]
تفسير الشيخ المراغي الجزء السابع ص 201.
[20]
التاج الجامع للأصول الجزء الأول ص 61.
[21]
سورة البقرة الآية رقم 177.
[22]
تفسير القرآن لابن كثير الجزء الأول ص 207.
[23]
تفسير القرآن للألوسي الجزء الأول ص 359، 360
[24]
المسلمون أمة واحدة عدد رقم 101 ص 13 (الدين والحياة) وزارة الأوقاف.
[25]
استراتيجية العالم الإسلامي ص 95 وزارة الحج والأوقاف 1391هـ
[26]
سورة المائدة الآيتان 48، 49.
[27]
سورة البقرة الآيات 2 إلى 5.
[28]
سورة المائدة الآيتان 15، 16.
[29]
تفسير المنار الجزء السادس ص 305.
[30]
سورة النساء الآية رقم 59.
[31]
سورة الحجرات الآية رقم 59.
[32]
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج 16 ص 322.
[33]
راجع نظرات في سورة الحجرات ص 107 للشيخ الصواف.
نعمة العمل بالتشريعات الإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد المهدي محمود
نعمة العمل بالتشريعات السماوية وشؤم الأخذ بالقوانين الوضعية
إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الحكيم هداية ونورا لكل ما يسعد الإنسان في دنياه وأخراه قال جل شأنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي إن هذا النور الإلهي يهدي ويوصل للتي هي أحكم وأعدل. يهدي لأجمل الطرق وأرشدها وأكملها ومن هذه الهداية الربانية:
الهداية في الأحكام:
ولقد سعدت الأمة الإسلامية في عصورها الزاهية المباركة بنعمة العمل بكتاب الله سبحانه وتعالى فعرف الناس نعمة الهدوء والأمن والاستقرار وعاشوا في ظلال رحمة الله حياة وافرة الظلال، طيبة الثمار، وعرفا معنى الحياة الحقة، الهادئة الطيبة، المباركة الحياة السعيدة، بكل ما في السعادة من معنى جميل، وصدق الحق سبحانه إذ يقول:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ثم جاءت عصور الضعف وجاء تلاميذ الاستعمار بعد رحيل أساتذتهم من المستعمرين الصليبيين. جاءوا حاكمين وموجهين فأبعدوا الناس عن كتاب الله وعن نور الله، وعن هداية الله وتشريعاته السماوية المباركة، واستعاضوا عنها بالقوانين الوضعية التي من تفكير البشر، وتفكير البشر هيهات أن يرى النور إلا عن طريق الله جل وعلا. عملوا بالقوانين الوضعية، وتركوا تشريعات السماء المعصومة من الخطأ، فأعرضوا عن نور الله وهداه!! فماذا كانت النتيجة؟؟!.
لقد اضطربت الحياة، وقدت الأمن والهدوء، فكثرت حوادث السرقة، وتعددت جرائم السلب والنهب، واجترأ اللصوص على القتل من أجل السرقة، والنشل من أجل الحصول على المال من أي طريق ولو فيه إهدار الدماء، ولا كرامة للإنسان صاحب المال، فحياته معرضة للخطر عند أول سانحة للوغد اللئيم، والسارق المجرم الخسيس الذي لم يجد تشريعا يردعه، ويوقفه عن غدره وظلمه، فراح يكرع من دماء الناس لاستباحة أموالهم وحقوقهم.
والصحافة خير شاهد على ما نقول ففي كل يوم تحمل لنا الصحافة مأساة دامية وفاجعة مروعة من أجل سرقة أموال الأبرياء المساكين وكم رأينا من ضحايا يسيل دمها على الأرض يشكو ظلم الإنسان لأخيه الإنسان! ! كم من رأينا من ضحايا يسيل دمها على الأرض يسجل حجة الله على القائمين بالتشريع والتقنين الذين كانوا سببا في سلب نعمة الأمن والهدوء والاستقرار والطمأنينة التي هي في ظلال هداية القرآن، وتشريعات الله، نور الله الخالد. الموصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
إن هذه القوانين الوضعية - الوضيعة - من إنتاج عقول صليبية طالما كرعت من الخمر وتغذت بلحم الخنزير فمن أين يأتيها الخير؟.
على أن هذه القوانين الوضعية أضلت أهلها، وكانت سببا في شقائهم، وحيرتهم وضلالهم، ثم إنها في تغير وتبدل باستمرار، ومن ثم كانت القوانين الوضعية بالإضافة إلى المبادئ الشرعية هما السبب المباشر في شقاء العالم وضلاله. فكلاهما من تفكير ضال!!، وأما تشريعات السماء فهي معصومة عن الخطأ، ولله الحمد والمنة على أن جعل البلاد المقدسة تنعم بالحكم بكتاب الله على يد أبطال يعملون على إعلاء كلمة الله، ويحمون البلاد عن شر الانحرافات عن تعاليم الله سبحانه وتعالى، وهدى الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم وأن أدنى مقارنة بين البلاد التي تحكم بكتاب الله، وأرقى بلاد العالم حضارة نجد الفارق عنيفا إنه فرق ما بين السماء والأرض.
فهنا الأمن والأمان، والهدوء والطمأنينة الطيبة المباركة.
لأنها في ظلال هداية القرآن الكريم، كتاب الباري جل وعلا.
ونحن إذ نتحدث في هذه الموضوعات إنما على مستوى علمي عالمي لانقصد دولة بعينها ول قطرا بذاته، وإنما نقصد كل دولة سبق أن ابتليت بمحن الاستعمار، وكان الاستعمار فيها سيدا وموجها، ثم تلاميذ له هم أشد خطرا منه.
وإننا نسأل الله، ونضرع إليه سبحانه وتعالى، وهو القوي العزيز، أن يكتب للمسلمين عودة كريمة إلى كتاب الله، وسنة الهادي الأمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.
التهاب الزائدة الدودية
للدكتور كايد أحمد الكايد
كثيرا من المراجعين في هذه الأيام يأتيني وهو بحالة رعب وخوف قائلا إنه ذهب إلى أحد الأطباء وقرر له عملية الزائدة الدودية. وهذا المريض يريد أخذ رأيي في هذا الموضوع. فمسألة لزائدة الدودية مسألة بسيطة للغاية حيث كانت بالفعل بالماضي مسألة خطيرة ولكن الآن وبعد أن تقدم الطب ووسائله أصبحت عملية الزائدة من أبسط العمليات وتنتهي في نضع دقائق فقط ونتائجها سليمة من المضاعفات تقريبا وهذا يتم إذا تواجد الوعي والاعتناء بالمريض وتقدم الوسائل والإمكانات، وإليكم الآن بعض المعلومات عن التهاب الزائدة الدودية المسمى كذلك التهاب المصران الأعور وعن مضاعفاته وأخيرا عن علاجه.
يحدث هذا الالتهاب في ثلاثة أشكال وهي شكله الحاد متكررة ونادرا ما يكون التهابا مزمنا. ولنتكلم عن الالتهاب الحاد وهو أكثر الحالات الجراحية في منطقة البطن ويندر حدوثه في العامين الأولين من العمر وما بعد الستين كذلك ويكثر في العشر سنوات التالية لسن البلوغ. وتكثر نسبة الإصابة بعد البلوغ عند الذكور دون الإناث ومن الغريب أن يحدث بكثرة عند الطبقات المرفهة من الشعب وتقل في الطبقات الفقيرة.
ويرجع السبب في الالتهاب الحاد إلى انسداد في فم المصران الأعور فيزداد الضغط الداخلي للمصران وبهذا تفسد الدورة الدموية للمصران.
ويختص هذا المصران بالصفات التي تتحلى بها باقي الأمعاء من حركة، وإفراز وامتصاص ولكن لقلة العضلات الموجودة في هذا المصران فإن تفريغ محتوياته يكون بطيئا ومقابل ذلك تكون نسبة الامتصاص عالية. ونتيجة ذلك هي تكون الحصى داخل المصران وهذا يؤدي إلى الاحتقان والانسداد والنتيجة بالطبع هي الالتهاب بالمصران.
ومن الغريب أن المصران الأعور عند الكلاب يحتوي على عضلات كثيرة لذا فهو سريع في إفراغ محتوياته الشيء الذي يؤدي إلى عدم التهاب الزائدة عنها قطعيا.
ومن الأسباب المؤدية إلى الالتهاب كذلك. الحمل عن النساء وجود المصران في غير مكانه الطبيعي، وكذلك أي نوع من التهابات البطن. وأول ما يشعر به المريض بالزائدة هو الألم وهذا يكون إما ألما مفاجئا أو تدريجيا. ونوبة المغص الحاد تحصل غالبا من الاحتقان الحاصل بالمصران وتختص النوبة بصفات قد لا يشخص بمرض غيرها. وتأتي هذه النوبة فجأة والألم يزداد ويخف ومعظم الحالات تكون شدة الألم في البداية أكثر منها فيما بعد وليس مكان الألم المعتاد هو القسم السفلي الأيمن من البطن وهو الذي مكان المصران عادة إنما يكون بمحاذاة المعدة أو حول السرة أو في جميع أنحاء البطن أيضا. وبعد ساعات من بدأ الألم يتجمع في منطقته المعتادة وهي القسم السفلي الأيمن من البطن.
وتتفاوت شدة الألم من إحساس بسيط أو ضعف خفيف بالبطن إلى مغص مؤلم حاد مع هبوط بالنبض وشبه غيبوبة.
وأول ما يخطر بالبال إذا كان الألم شديدا جدا هو انفجار بالزائدة الدودية وفي تلك الحالات لا يمكن تعيين مكان الألم. ولا ننسى أنه قد يحدث مثل هذه الآلام الشديدة دون انفجار الزائدة كذلك.
ومكان الألم يتعلق بموضع المصران حيث كما ذكرت آنفا أن له مكانه المعتاد وهو القسم السفلي الأيمن من البطن وما عدا ذلك فله عشرة أماكن متعددة في البطن منها تحت المعدة وخلف الكبد وفوق الكلى والخ.
وتصاحب نوبة الزائدة حرارة عالية وهذه ليست بقاعدة حيث من الممكن أن لا تكون هناك حرارة على الإطلاق وعموما فالمسنون لا ترتفع حرارتهم إلا إذا أخذت عن طريق الشرج.
والقيء أو لشعور بالقيء يحدث عادة عند المريض بالزائدة وقد يندر عدم مشاهدة هذه الظاهرة.
الإمساك أمر لابد منه عند المريض وقد يسبق الإمساك إسهال بسيط ولفترة وجيزة فقط.
ولو تدرجنا بالنقاط الملموسة أثناء فحص المريض لكانت كالآتي:
شعور بالألم ثم دوخة وتقيأ ثم ارتفاع بدرجة الحرارة وقد يحدث بعد ذلك كثرة التبول وحرقان بالبول ثم تلون اللسان بلون الصدأ.
وهناك نقطة يجب أن لا تفوتنا هي أن جدار البطن يكون مشدودا تماما وخاصة بالمنطقة المقابلة للمصران الملتهب وبالطبع يختلف ذلك حسب مكان وجود المصران وأما شدة جدار البطن فهي تكون أيضا تدريجيا إلى أن تصل كشدة قطعة من الخشب أو أشد قليلا.
والمريض في هذه الأثناء لا يتحمل اللمس تماما وهناك نقطته الحساسة بذلك وهي المنطقة السفلية اليمنى من البطن فالمريض لا يحتمل لمس تلك المنطقة من شدة الألم.
ومن الخواص العجيبة كذلك أنه حال اللمس والضغط ثم رفع اليد يحصل ألم رهيب أكثر من ألم اللمس وهذه نقطة هامة في تشخيص المرض.
وهكذا بعد أن تحدثنا بإيجاز عن خواص هذا المرض فلابد من التحدث عن مضاعفاته ومعنى ذلك أننا نترك المريض دون أن نعالجه أو نعالجه بخطأ بالتشخيص ومن هذه المضاعفات:
1-
تكون خراج حول المصران الأعور وخلف المستقيم وإذا لم يتدخل الطبيب الجراح بإجراء العملية الجراحية خلال 48 ساعة يحدث انفجار بالمصران الملتهب لا سمح الله.
2-
ومن المضاعفات الهامة كذلك التهاب بجدار البطن وهذا قد يحدث عند الأطفال الصغار دون البالغين.
3-
وقد يحدث كذلك انسداد في الأوردة الدموية نتيجة التهاب تلك الأوردة الأمر الذي يؤدي إلى التهابات متعددة في الكبد.
4-
ومن المضاعفات أيضا انسداد الأمعاء وهذا لا يحدث في أثناء التهاب الزائدة بل بعد مرور شهور أو سنين على الالتهاب بالزائدة.
هذه بعض المضاعفات التي قد تحدث من جراء التهاب المصران الأعور والآن وأخيرا ما هم العلاج لذلك.
والعلاج الوحيد لالتهاب الزائدة الدودية هو العملية الجراحية لاستئصاله وأنصح ما إذا شخص الطبيب المرض بعدم تعاطي المسكنات والملينات حتى لا يخفى وجه المرض الحقيقي ويتم ذلك في أقرب مستشفى..
والله تعالى أسأل أن يعافينا وينجينا من جميع الأمراض..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
موكب النور
لفضيلة الشيخ عبد الحميد ربيع
تحية للطلائع المتفوقة
من المتخرجين في الجامعة الإسلامية
ماذا بقلبي على الأشواق ينتظر
مواكبا بالسنا تزهو وتزدهر؟
أم البشير شدا لقيا أحبتنا
فغردت بالمنى من فرحتي زمر؟
بل إنه موكب للنور تقدمه
شبابنا ولديهم يزدهي الشجر
في كفهم بشرى تسعى بهم ثمرا
وفي رياض الهدى يسعى لها الثمر
ومن سعى بوفود العزم مشرقة
فساطع النور من كفيه ينتشر
هذا الشباب بدا في الجد مفخرة
حتى غدا الجد في لقياه يبتهر
يسابق الأمل الفرحان في دأب
فتقبل الغاية القصوى وينتصر
يمضي بهمة سباق يصاحبه
عزم يسير على إشراقه القمر
يمضي بمهجة أحباب جهادهم
قد أيقظ الليل حتى شاقه السهر
وسار في أذنهم نغم يوقعه
همس الصحائف إذ يطوى بها النظر
تسافر العين بين السطر تتبعه
بآخر لتتم الرحلة الفكر
حتى إذا وصلت بالضوء قمته
رأت سنا الفجر بالآمال ينتظر
ومن سرى في جهاد نحو غايته
سعى إليه على أشواقه الظفر
هنا الشباب عيون الكون ساهرة
ليحصن الكون فيها الحب والبصر
جاءت لجامعة الإسلام يدفعها
شوق إلى مورد بالعلم ينهمر
علم بنور كتاب الله قد سطعت
آياته فسما في نورها البشر
وأقبلوا للهدى أفواج معرفة
كأنما هم نجوم الفكر قد ظهروا
وقد بدت دعوة الإسلام رائدهم
فصاحبوا الحكمة الكبرى كما أمروا
وسلحوا العقل بالإيمان وانطلقوا
إلى المغاليق من أذهان من كفروا
وكلما فتحوا فتحا أضاء لهم
نهجا جديدا فشدوا العزم واصطبروا
ومن سرى الفوز بساما بموكبه
حلا لموكبه في البسمة الخطر
وقد مضوا لبيان في اللسان سنا
يعطون للفهم والتبيان ما قدروا
وأقبل النقد يحبو في بلاغته
يهدي العياد لما أبدوا ويعتذر
ومن يلبي جهادا عند مأمله
يسعى له الفوز بالآمال يفتخر
ولو رأيت فتى يحنو على ورق
بمرجع ضج فيه البحث والنظر
يسعى به مشعلا يهدي بصيرته
للفقه ما يقتني منه وما يذر
ويبصر المورد العذب الذي نهلت
منه الصحابة كي يروي ويعتبر
وذاك يتلو الهدى كيف العطاء به
مع المحبة من للبر يفتقر
يسمو بمجتمع ترعاه أمته
مع الحياة وإن يلملم به الضرر
إذا سما الناس في حب وفي ألم
كانوا الأعزة لا تسعى لهم غير
يا إخوة الروح في الإسلام ما برحت
أرواحنا في الهدى تحيا وتنصهر
عهد مع العلم تعطيه الشباب سنا
حتى يضيء به من للدنا عمروا
وقد بدا موكب للنور تصحبه
تلك الطلائع من في الموكب انتصروا
إلي بموكبهم أعطيت جائزة
بكل فرد هنا يزهو به العمر
أليس كل شباب المسلمين هنا
ولدي بهم للسنا أسعى وأقتدر
إذا بدا الفوز بالأبناء مؤتلقا
شدا لآبائهم بالفرحة الدهر
يا موكب النور سر بين الشباب هدى
وبين من فاز فالإقدام يستعر
حتى يضيئوا مع الإسلام عزتنا
في الشرق والغرب فالإسلام ينحسر
وها هو في لبنان يقتله
أهل الصليب ومن عفوا ومن عذروا
وفي الفلبين من للدين قد ذبحوا
وأعلنوا أنه الإسلام يندحر
وفي سنا الصبح في الصومال تخنقه
شراذم في حمى الإسلام تستتر
لكنهم لن ينالوا قيد أنملة
من ديننا الحق فالإلحاد يحتضر
فمن سعى سفها للشمس يطفئها
فإنه هالك بالضوء ينتحر
يا فتية الحق والإسلام دينكم
صونوه من قبل أن يشقى بمن عثروا
سيروا بها كلمة التوحيد ساطعة
للفجر يدعو به في صوتكم "عمر"
واجلوا الغشاوة عن أبصار من غفلوا
يبدو النهار فلا ينأى بكم سفر
وقلبنا معكم إن تبلغوا أملا
يسعد وإن تخفقوا فالقلب ينفطر
فامضوا إلى الحق الرحمن ينصركم
لن يخذل الله قوما للهدى نصروا
موجه اللغة العربية بالجامعة
عبد الحميد ربيع
التقوى سبب كل خير
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم القيامة، أما بعد:-
فلشدة الحاجة إلى التقوى ولعظم شأنها، ولكون كل واحد منا، بل كل واحد من المسلمين في أشد الحاجة إلى التقوى والاستقامة عليها، رأيت أن تكون محاضرتي هذه الليلة بعنوان "التقوى سبب كل خير"كل من تدبر موارد التقوى في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، علم صحة هذا المعنى، فأنت يا عبد الله إذا قرأت كتاب ربك من أوله إلى آخره، تجد التقوى رأس كل خير، ومفتاح كل خير، وسبب كل خير في الدنيا والآخرة، وإنما تأتي المصائب والبلايا والمحن والعقوبات بسبب الإهمال أو الإخلال بالتقوى وإضاعتها، أو إضاعة جزء منها، فالتقوى هي سبب السعادة والنجاة وتفريج الكروب والعز والنصر في الدنيا والآخرة، ولنذكر في هذا آيات من كتاب الله، ترشد إلى ما ذكرنا، من ذلك قوله جل وعلا:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} قال بعض السلف في هذه الآية: أجمع آية في كتاب الله أو قال: من أجمع آية في كتاب الله، وما ذاك إلا لأن الله رتب عليها خير الدنيا والآخرة، لأن تفريج الكروب والرزق من حيث لا يحتسب العبد يعم الدنيا والآخرة، فمن اتقى الله جعل له مخرجا من مضايق الدنيا ومضايق الآخرة، والإنسان في أشد الحاجة، بل في أشد الضرورة إلى الأسباب التي تخلصه من المضايق في الدنيا والآخرة، ولكنه في الآخرة أشد حاجة وأعظم ضرورة الكربات وأعظم المضايق كربات يوم القيامة، وشدائدها، فمن اتقى الله في هذه الدار فرج الله عنه كربات يوم القيامة، وفاز بالسعادة والنجاة في ذلك اليوم
العظيم العصيب، فمن وقع في كربة من الكربات فعليه أن يتقي الله في جميع الأمور، حتى يفوز بالفرج والتيسير، فالتقوى باب لتفريج كربة العسر وكربة الفقر وكربة الظلم وكربة الجهل وكربة السيئات والمعاصي وكربة الشرك والكفر إلى غير ذلك، فدواء هذه الأمور وغيرها أن يتقي بترك الأمور التي حرمها وبالتعلم والتفقه في الدين حتى يسلم من عواقبها في الدنيا والآخرة، فالسيئات لها عواقب في الدنيا من عقوبات قدرية، أو عقوبات شرعية، من الحدود والتعزيرات والقصاص ولها عقوبات في الآخرة، أولها عذاب القبر، ثم بعد الخروج من المقابر بعد البعث والنشور عقوبات وشدائد يوم القيامة، ومن عقوباتها أيضا أن الإنسان يخف ميزانه بسبب إضاعة التقوى ويرجح ميزانه بسبب استقامته على التقوى، ويعطى كتابه بيمينه إذا استقام على التقوى، وبشماله إذا انحرف عن التقوى، ويدعى إلى الجنة إذا استقام على التقوى، ويساق إلى النار إذا ضيع التقوى وخالف التقوى ولا حول ولا قوة لا بالله.
الإنسان محتاج أيضا إلى الرزق الحلال الطيب في هذه الدار وإلى النعيم المقيم في الآخرة وهو أحسن نعيم وأعظم النعيم ولا نعيم فوقه، ولا طريق إلى ذلك ولا سبيل إلا بالتقوى، فمن أراد غز الدنيا والرزق الحلال فيها والنعيم في الآخرة، فعليه بالتقوى.
والإنسان محتاج إلى العلم، والبصيرة والهدى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقوى كما قال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانا} والفرقان كما قال أهل العلم: هو النور الذي يفصل به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال.
ولا يخفى على من تأمل أن الاجتهاد في طلب العلم والتفقه في الدين من جملة التقوى، وبذلك يحصل النور والهدى، وهما الفرقان، فالتقوى كلمة جامعة حقيقتها الإيمان والعمل الصالح كما قال الله جل وعلا:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} وكما قال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} فالتقوى حقيقتها إيمان صادق بالله ورسوله، وبما أخبرت به الرسل عما كان وعما يكون، ثم عمل صالح وهو مقتضى الإيمان وموجبه، ومن ذلك التعلم والتفقه في الدين وهما من التقوى كما تقدم، ولذلك رتب الله على التقوى الفرقان، لأن من شعبها التعلم والتفقه في الدين والتبصر في ما جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام.
فالإنسان قد تضيق أمامه الدروب وتسد في وجهه الأبواب في بعض حاجاته، فالتقوى هي المفتاح لهذه المضائق وهي سبب التيسير لها كما قال عز وجل:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} وقد جرب سلفنا الصالح وهم الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، كما جرب قبلهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام الذين بعثهم الله لهداية البشر، وحصلوا بالتقوى على كل خير وفتحوا بها القلوب، وهدوا بها البشرية إلى الصراط المستقيم.
وإنما حصلت لهم القيادة للأمم والذكر الجميل والفتوحات المتتبعة بسبب تقواهم لله وقيامهم بأمره وانتصارهم لدينه وجمع كلمتهم على توحيده وطاعته، كما أن الناس في أشد الحاجة إلى تكفير السيئات وحط الخطايا وغفران الذنوب وسبيل هذا هو التقوى كما قال عز وجل:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} ومن أعظم الأجر الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهكذا المسلمون في أشد الحاجة إلى النصر على أعدائهم والسلامة من مكائد الأعداء ولا سبيل إلى هذا إلا بالتقوى كما قال عز وجل:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فالمسلمون إذا صبروا في طاعة الله وفي جهاد أعدائه واتقوا ربهم في ذلك بإعداد العدة المستطاعة البدنية والمالية والزراعية والسلاحية وغير ذلك نصروا على عدوهم لأن هذا كله من تقوى الله، ومن أهم ذلك إعداد العدة المستطاعة من جميع الوجوه، كالتدريب البدني والمهني والتدريب على أنواع الأسلحة، ومن ذلك إعداد المال وتشجيع الزراعة والصناعة وغير ذلك مما يستعان به على الجهاد والاستغناء عما لدى الأعداء وكل ذلك داخل في قوله سبحانه:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ولا يتم ذلك إلا بالصبر، والصبر من أعظم شعب التقوى وعطفها عليه في قوله سبحانه:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} من عطف العام على الخاص، فلابد من صبر في جهاد الأعداء، ولابد من صبر في الرباط في الثغور ولابد من صبر في إعداد المستطاع من الزاد والبدن القوي المدرب كما أنه لابد من الصبر في إعداد الأسلحة المستطاعة التي تماثل سلاح العدو أو تفوقه حسب الإمكان، ومع هذا الصبر لابد من تقوى الله في أداء فرائضه وترك محارمه والوقوف عند حدوده والانكسار بين يديه والإيمان بأنه الناصر، وأن النصر من عنده لا بكثرة الجنود ولا بكثرة العدة ولا بغير ذلك من أنواع الأسباب، وإنما النصر من عنده سبحانه وإنما جعل الأسباب لتطمين القلوب وتبشيرها بأسباب النصر كما قال جل وعلا:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية وهذه الأعمال من شعب التقوى، وبهذا يعلم معنى قوله سبحانه:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} فإذا أراد المسلمون النصر والعزة في الدنيا والآخرة وتفريج الكروب وتيسير الأمور وغفران الذنوب وتكفير السيئات والفوز بالجنات إلى غير هذا من وجوه الخير فعليهم بتقوى الله عز وجل، والله وصف أهل الجنة بالتقوى فقال:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} ، {إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، فبين سبحانه أنه أعد الجنة لأهل التقوى، فعلمت يا أخي أنك في أشد الحاجة إلى أن تتقي ربك، ومتى اتقيته سبحانه حق التقوى فزت بكل خير ونجوت من كل شر، وليس المعنى أنك لا تبتلى، بل قد تبتلى وتمتحن، وقد ابتلي الرسل وهم أفضل الخلق وأفضل المتقين حتى يتبين للناس صبرهم وشكرهم وليقتدى بهم في ذلك، فبالابتلاء يتبين صبر العبد وشكره ونجابته وقوته في دين الله عز وجل، يقول سبحانه:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فلابد من الامتحان والفتنة كما تقدم، وكما قال جل وعلا:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} ، وقال سبحانه:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ، وقال سبحانه:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
فالاختبار لابد منه، فالرسل وهم خير الناس امتحنوا بأعداء الله. "نوح"تعلمون ما جرى عليه وهكذا هود وصالح وغيرهم وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين وأفضل المجاهدين ورسول رب العالمين تعلمون ما أصابه بمكة، وفي المدينة وفي الحروب، ولكنه صبر صبرا عظيما حتى أظهره الله على أعداءه وخصومه، ثم ختم له سبحانه وتعالى بأن فتح عليه مكة ودخلت عشيرته في دين الله أفواجا وتابعهم الناس بعد ذلك، فلما أتم الله النعمة عليه وعلى أمته وأكمل لهم الدين اختاره إلى الرفيق الأعلى وإلى جواره عليه الصلاة والسلام بعد المحنة العظيمة والصبر العظيم والبلاء الشديد فكيف يطمع أحد بعد ذلك أن يسلم أو يقول متى كنت متقيا أو مؤمنا فلا يصيبني شيء ليس الأمر كذلك، بل لابد من الامتحان، ومن صبر حمد العاقبة، لكن كما قال جل وعلا:{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} ، وقال:{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} ، فالعاقبة لأهل التقوى، ومتى صبروا واحتسبوا وأخلصوا لله وجاهدوا أعداءه وجاهدوا هذه النفوس، فالعاقبة لهم في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
فأنت يا عبد الله في أشد الحاجة إلى تقوى ربك ولزومها والاستقامة عليها ولو جرى ما جرى من الامتحان، ولو أصابك ما أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله، أو من الفسقة والمجرمين لا تبالي، اذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، واذكر أتباعهم بإحسان، فقد أوذوا واستهزئ بهم وسخر بهم ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.
فأنت يا أخي كذلك اصبر وصابر فإن قلت ما هي التقوى؟ فقد سبق لك شيء من بيانها وقد تنوعت عبارات العلماء في التقوى، وروي عن عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين رضي الله عنه ورحمه أنه قال: ليس تقوى الله بقيام الليل وصيام النهار والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداء فرائض الله وترك محارمه، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير، فمن رزق بعد أداء الفرائض وترك المحارم نشاطا في فعل النوافل وترك المكروهات والمشتبهات فهو خير إلى خير، وقال طلق بن حبيب التابعي المشهور رحمه الله: تقوى الله أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تدع معاصي الله على نور من الله تخاف عقاب الله، وقال بعضهم في تفسيرها: التقوى طاعة الله ورسوله، وقال آخرون: أن تجعل بينك وبين غضب الله وعقابه وقاية تقيك ذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، وكل هذه العبارات معانيها صحيحة. فالتقوى حقيقتها هي دين الإسلام وهي الإيمان والعمل الصالح، وهي العلم النافع والعمل به وهي الصراط المستقيم وهي الاستسلام له جل وعلا بفعل الأوامر، وترك النواهي عن إخلاص كامل له سبحانه وعن إيمانه به ورسله، وعن إيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، إيمان صادق يثمر أداء الفرائض وترك المحارم والمسارعة إلى الخير والحذر من الشر والوقوف عند الحدود، وإنما سمى الله دينه تقوى لأنه يقي من استقام عليه عذاب الله وغضبه، ويحسن له العاقبة جل وعلا وسمى هذا الدين إسلاما، لأن المسلم يسلم نفسه لله وينقاد لأمره، يقال أسلم فلان لفلان أي انقاد له، ولهذا سمى الله دينه إسلاما في قوله:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وغيرها من الآيات، لأن المسلم انقاد لأمر الله وذل لعظمته، فالمسلم حقا ينقاد لأمر الله، ويبتعد عن نهيه ويقف عند حدوده قد أعطى القيادة لربه فهو عبد مأمور رضاه وأنسه ومحبته ونعيمه في امتثال أمر الله وترك نهيه، هذا هو المسلم الحق.
ولهذا قيل له مسلم، يعني منقادا لأمر الله تاركا لمحارمه واقفا عند حدوده، يعلم أنه عبد مأمور عليه الامتثال، ولهذا سمى الدين عبادة كما سمى إسلاما، سمى عبادة كما في قوله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وفي قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} فسمي عبادة لأن العباد يؤدون أوامر الله ويتركون نواهيه عن ذل وخضوع وانكسار، وعن اعتراف بالعبودية وأنهم مماليك لله وأنه سيدهم، وأنه القاهر فوقهم، وأنه العالم بأحوالهم وأنه المدبر لشؤونهم، فهم عبيد مأمورون ذليلون منقادون لأمره سبحانه وتعالى، فلهذا سمى الله دينه عبادة لأن العبادة عند العرب هي التذلل والخضوع والانكسار، يقولون طريق معبد، يعني مذلل قد وطأته الأقدام، ويقولون أيضا، بعير معبد، يعني قد شد ورحل حتى ذل للركوب والشد عليه، فسميت طاعتنا لله عبادة لأننا نؤديها بالذل والخضوع لله جل وعل، وسمي العبد عبدا لأنه ذليل بين يدي الله مقهر والخضوع لله جل وعلا، وسمي العبد عبدا لأنه ذليل بين يدي الله مقهور مر بوب للذي خلقه وأوجده وهو المتصرف فيه سبحانه وتعالى.
وسمى هذا الدين أيضا إيمانا، لأن العباد يؤدونه عن إيمان بالله وتصديق به ورسله، فلهذا سمي دين الله إيمانا لهذا المعنى كما في الحديث الصحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم، فبين عليه الصلاة والسلام أن الدين كله إيمان وأن أعلاه قول لا إله إلا الله، فعلمنا بذلك أن الدين كله عند الله إيمان ولهذا قال سبحانه:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فسماهم بذلك لأنك أيها المؤمن بالله واليوم الآخر تؤدي أعمالك وطاعتك وتترك المحارم عن إيمان وتصديق بأن الله أمرك بذلك ونهاك عن المحارم وأنه يرضى منك هذا العمل ويثيبك عليه وأنه ربك ولم يغفل عنك وأنت تؤمن بهذا، ولهذا فعلت ما فعلت فأديت الفرائض وتركت المحارم ووقفت عند الحدود وجاهدت نفسك لله عز وجل.
وسمي الدين برا لأن خصاله كلها خير، وسمى هذا الدين هدى لأن من استقام عليه فقد اهتدى إلى خير الأخلاق وإلى خير الأعمال، لأن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليكمل مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وفي حديث أنيس أخي أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى مكارم الأخلاق فهذا الدين سمي هدى لأنه يهدي من استقام عليه إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وقال في أهله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} وقال في أهله أيضا: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وبهذا تعلم يا أخي معنى هذه الألفاظ "الإسلام"، "الإيمان"، "التقوى"، "الهدى"، "البر"، "العبادة"، إلى غير ذلك.
وتعلم أيضا أن هذا الدين الإسلامي قد جمع الخير كله فمن استقام عليه وحافظ عليه وأدى حقه وجاهد نفسه بذلك فهو متق لله وهو موعود بالجنة والكرامة وهو موعود بتفريج الكروب وتيسير الأمور وهو الموعود بغفران الذنوب وحط الخطايا وهو الموعود بالنصر والسلامة إذا استقام على دين الله وصبر عليه وجاهد نفسه لله وأدى حق الله وحق عباده فهذا هو المتقي وهو المؤمن، وهو البر، وهو المفلح، وهو المهتدي والصالح، وهو المتقي لله عز وجل، وهو المسلم الحق.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للتقوى وأن يأخذ بأيدينا جميعا لما يرضيه وأن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين ومن حزبه المفلحين، وأن يمن علينا بالاستقامة على تقواه في كل أقوالنا وأعمالنا والدعوة إلى ذلك والصبر عليه إنه سبحانه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أخبار الجامعة
المجلس الأعلى لجامعة يعقد دورته الثانية للعام الدراسي 95 – 1396 هـ.
بناء على الموافقة السامية من صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة حفظه الله على عقد المجلس الأعلى للجامعة دورته الثانية وإنابة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وعضو المجلس في رئاسة هذه الدورة بكتاب سموه رقم 15497 بتاريخ 22-6-1396هعقد المجلس الأعلى للجامعة دورته الثانية في العام الدراسي 95-1396هبمقر الجامعة أيام الأحد والاثنين والثلاثاء 21-22-23 من شهر رجب 1396هوقد حضر الدورة أعضاء المجلس الآتية أسماؤهم وصفاتهم مرتبين حسب حروف الهجاء:
سعادة الدكتور أحمد عبيد الكبيسي أستاذ مساعد بجامعة بغداد.
سماحة الشيخ عبد الله غوشة رئيس قضاة الأردن.
فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة.
فضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة الأمين العام للجامعة.
فضيلة الدكتور كامل محمد الباقر رئيس جامعة أم درمان الإسلامية.
فضيلة الدكتور محمد أمين المصري رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة.
سعادة الدكتور محمد الحبيب بن الحوجة عميد الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس.
معالي الدكتور محمد حسن فايد رئيس جامعة الأزهر.
سعادة الشيخ محمد صالح قزاز الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.
معالي الدكتور محمد عمر زبير مدير جامعة الملك عبد العزيز بجدة.
فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
فضيلة الشيخ مصطفى أحمد العلوي مدير دار الحديث الحسينية بالرباط.
فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس قسم الدراسات الإسلامية بقطر.
وقد افتتح سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (الرئيس بالنيابة) الدورة بكلمة حمد فيها الله تبارك وتعالى وصلى وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد أن رحب بأعضاء المجلس ودعا الله أن يثيبهم ويبارك في جهودهم وأن يمنحهم التوفيق والسداد توجه بالشكر إلى حكومة المملكة العربية السعودية على أعمالها الجليلة في دعم هذه الجامعة وعنايتها بها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه وحققت الكثير من أهدافها العظيمة وعنايتها بقضايا المسلمين في كل مكان ودعا الله عز وجل أن يعظم لها الأجر ويجزل لها المثوبة واختتم كلمته بالدعاء لجلالة الملك المعظم خالد بن عبد العزيز وولي عهده الكريم صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز حفظهما الله ورعاهما وأعز بهما دينه وأعلى كلمته.
ثم بدأ المجلس النظر في الموضوعات المدرجة في جدول أعماله واتخذ قرارات بشأنها ومن أهم ما أقره:
- الموافقة على مشروع إنشاء دار القرآن الكريم بالجامعة.
- الموافقة على قواعد وشروط منح الإعانات للجمعيات والمؤسسات والمنظمات التي تتعاون مع الجامعة في آداء رسالتها.
- الموافقة على مشروع لائحة مجلس شئون الدعوة الإسلامية بالجامعة.
- الموافقة على مشروع لائحة المجلس العلمي بالجامعة.
صدور الموافقة السامية على إنشاء كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
تلقى نائب رئيس الجامعة الإسلامية موافقة المقام السامي على إنشاء كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية في الجامعة الإسلامية وتتخذ الجامعة الترتيبات اللازمة لافتتاحها في مطلع العام الدراسي القادم بمشيئة الله. وتعتبر هذه الكلية الكلية الخامسة في الجامعة وهي أول كلية من نوعها أيضا ولا شك أن كلية القرآن الكريم في الجامعة هي الكلية الأولى من نوعها ولا شك أن إنشاء كليتين في الجامعة الإسلامية إحداهما للقرآن الكريم والثانية للحديث الشريف من توفيق الله لحكومة المملكة أيدها الله وأدام توفيقها لكل خير ففي إنشائهما خدمة لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحافظة على دستور حكومة هذه البلاد الذي أكرمها الله واعزها به والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد والذي تكفل الله بحفظه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
المؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة
يجري بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الإعداد لعقد المؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة والذي تحدد انعقاده ابتداء من الرابع والعشرين من شهر صفر المقبل 1387هوقد تلقى نائب رئيس الجامعة موافقة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية على افتتاح هذا المؤتمر ومما يستهدفه المؤتمر:
أولا: التعريف بالدعوة الإسلامية ومنهاجها الأقوم في توجيه الحياة الإنسانية في كل جوانبها إلى غايتها الفاضلة التي يسعد بها الإنسان في دنياه وأخراه وفي توجيه بناء حضارتها بناء متكاملا يلبي دائما مطالب الروح والجسم معا.
ثانيا: الأخذ بأفضل المناهج العلمية والأساليب العملية في إعداد الدعاة وتمكينهم من أداء رسالتهم.
ثالثا: التطوير العلمي لأساليب الدعوة على ضوء النتائج العملية في حقل الدعوة.
رابعا: دراسة المشاكل والصعوبات العامة التي تعترض مسار الدعوة والعمل على حلها بالوسائل الممكنة.
خامسا: تعزيز سبل الاتصال والتعاون بين الهيئات والمؤسسات المعنية بالدعوة الإسلامية والتنسيق العام للجهود المبذولة في هذا الميدان على الصعيد العالمي وتنظيم سبل التعاون الإيجابي بين الدعاة.
سادسا: المتابعة العلمية المستمرة لحركة الدعوة الإسلامية وملاحظة اتجاهاتها وتقويم نتائجها وآثارها والعمل المشترك على تعزيزها وتعميق مسارها وتحقيق أهدافها.
وسيدعى لحضور هذا المؤتمر ممثلون للهيئات والمؤسسات المعنية بالدعوة الإسلامية داخل المملكة وخارجها وبعض قادة الفكر الإسلامي المشتغلين بالدعوة.
موضوعات المؤتمر:
وسيتناول هذا المؤتمر بالبحث والمناقشة الموضوعات التالية:
(1)
مناهج الدعوة الإسلامية وأساليبها.
(2)
إعداد الدعاة ومسئولية الجامعة في هذا المجال.
(3)
أساليب الدعوات المضادة وأهدافها وآثارها.
(4)
المذاهب والاتجاهات الإلحادية والمعادية للإسلام والفرق المرتدة والزائفة في هذا العصر وتحديد موقف الإسلام والمسلمين منها.
(5)
أجهزة الإعلام والنشر ودورها في توجيه المجتمعات وتأثيراتها المضادة للدعوة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية خاصة وفي غيرها عامة وما يجب أن يتخذ بأزائها.
(6)
مشاكل الدعوة والدعاة إلى الإسلام في العصر الحديث وكيف يمكن التغلب عليها.
أضواء من التفسير
لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المناسبة:
لما كانت عاد هي التي أعقبت قوم نوح في التاريخ ذكرها عقيبها هنا.
القراءة:
قرأ الجمهور "في يوم" بغير تنوين يوم، وقرئ بتنوينه.
المفردات:
"صرصرا"أي شديدة الصوت أو البرد إما من صرير الباب وهو تصويته أو من الصر الذي هو البرد.
"نحس" أي طار غباره في أقطار السماء، وامتلأ شرا على الكافرين.
" مستمر " ممتد الشر أو قويه، " تنزع " تقلع، " أعجاز " أصول.
" منقعر " منقلع من أصله. من قعرت الشجرة قعرا إذا قلعتها من أصلها فانقعرت، وقعرت البئر نزلت حتى انتهيت إلى قعرها. وقعرت الإناء شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره.
التراكيب:
قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} إنما عرف عاد بالعلمية وعرف قوم نوح بالإضافة لأنه لما كانت عاد علما لقوم هود كان مقتضى المقام تعريفها بالعلمية، لأنها أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة، ولما لم يكن لقوم نوح علم عرفها بالإضافة إلى نوح. والفاء في قوله:{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} للترتيب على محذوف تقديره: فعذبوا فكيف كان عذابي ونذر.
وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} استئناف لبيان ما أجمل أولا من العذاب. وقوله: {تَنْزِعُ النَّاسَ} يجوز أن يكون صفة للريح أو يكون حالا منها لأنها وصفت فقربت من المعرفة. ويحتمل أن يكون مستأنفا. وإنما قال: " تنزع الناس " ولم يقل: تنزعهم فوضع الظاهر موضع الضمير ليشمل ذكور هم وإناثهم. وقوله: " كأنهم أعجاز نخل منقعر " في محل نصب على الحال من الناس وهي حال مقدرة، وقيل في الكلام حذف والتقدير: فتتركهم كأنهم أعجاز نخل. وإنما شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لطولهم، ولأن الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس وإنما ذكر الصفة وهي منقعر بالنظر إلى لفظ النخل. والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث. والتذكير هنا أولى لمناسبة الفواصل. وأنث في الحاقة فقال:{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} بالنظر إلى المعنى ولمناسبة الفواصل فيها.
المعنى الإجمالي:
جحدت قوم هود رسالة هود فعذبوا فكان عذابهم عجيبا غريبا. إنا سلطنا عليهم ريحا شديدة الصوت أو البرد في يوم تطاير شره عليهم، وامتد بلاؤه، تقلع ذكورهم وإناثهم، من حفر الأرض المندسين فيها، وتصرعهم على رؤوسهم، فتدق رقابهم، فتبين الرأس من الجسد، مشبهين بأصول نخل لا فروع لها، وقد قلعت من مغارسها، لقد عذبوا فكان عذابهم عجيبا، إنا سهلنا القرآن وهيأناه للتلاوة والحفظ فهل من متعظ موجود.
ما ترشد إليه الآيات:
1-
بيان نوع العذاب الذي عذب به قوم هود.
2-
حالتهم البشعة عند نزول العذاب عليهم.
3-
تخويف قريش وتهديدهم.
4-
الإعذار بتيسير أسباب المعرفة.
المناسبة:
لما كانت ثمود تعقب عادا في التاريخ أتى بها عقيبها في الذكر.
القراءة:
قرأ الجمهور {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً} بنصبهما، وقرئ {أَبَشَرٌ مِنَّا وَاحِدٌ} برفعهما.
وقرأ الجمهور {سَيَعْلَمُونَ} بالياء وقرئ بالتاء.
المفردات:
" واحدا " أي منفردا لا تبع له. أو " واحدا " يعني من آحاد الناس وليس بملك ولا من أشرافهم. " نتبعه " ننقاد له، " ضلال " حيرة وميل عن الصواب وذهاب عن الجادة. " سعر " أي من قولهم ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة. قال الشاعر:
كأن بها سعرا إذا العيس هزها
زميل وإزجاء من السير متعب
وفسر قتادة السعر بالعناء. وقيل السعر النيران جمع سعير وهو وقود النار.
"ألقي "أنزل. " الذكر "الكتاب والوحي. "أشر "أي متكبر بطر يريد العلو علينا. "غدا "يراد به هنا الزمان المستقبل لا الذي يلي خطابهم. قال الطرماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح
وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي في غد
إذا راح أصحابي ولست برائح
يريد وقت الموت لا غدا بعينه. {مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} أي موجدوها ومخرجوها من الصخرة. " فتنة " أي ابتلاء واختبارا. " فارتقبهم " فانتظر يا صالح ما هم صانعون وما يصنع بهم. " واصطبر"أي اصبر على أذاهم وتجمل بالصبر.
" ونبئهم " أي أخبرهم إخبارا عظيما عن أمر عظيم. " قسمة " أي مقسوم لها يوم ولهم يوم. " شرب " نصيب من الماء. " محتضر " يحضره صاحبه في نوبته. " فنادوا " أي دعوا رجلا ليقتلها. " صاحبهم " هو قدار بن سالف كما عن محمد بن إسحاق. " فتعاطى " فتناول السيف. والتعاطي تناول الشيء بتكلف. " فعقر " أي فقتل الناقة، من العقر وهو الجرح أو منعقر النخلة إذا قطع رأسها. "كهشيم " كحشيش يابس يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته فتفتته، أو ما يتفتت من الشجر الذي يتخذه للحظيرة. " المحتظر " صانع الحظيرة وهي ما يصنعه العرب وأهل البوادي للمواشي والسكن من الأغصان والشجر والقصب، من الحظر وهو المنع لأنها تمنع ما بداخلها وتحفظه من الذئاب والسباع والحر والبرد.
التراكيب:
قوله: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي وبشرا مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده. ومناصفة. " واحدا " صفة ثانية وجملة " نتبعه " تفسير للفعل المحذوف لا محل لها من الإعراب. وأما على قراءة: {أَبَشَرٌ مِنَّا وَاحِدٌ نَتَّبِعُهُ} بالرفع فيهما فبشر مبتدأ ومنا واحد صفتان له وخبره " نتبعه " والتنوين في إذا عوض عن المضاف إليه المحذوف أي إذا اتبعناه. والاستفهام في قوله: " أألقي " للإنكار. وقوله: " ستعلمون " بالتاء على الالتفات لتشديد التوبيخ أو على حكاية ما أجابهم به صالح. وقوله:
" من الكذاب الأشر " من استفهامية معلقة ليعلمون عن العمل وهي مبتدأ. والكذاب خبرها والجملة سدت مسد المفعولين. وقوله: {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} مستأنف. وقوله: " فتنة " مفعول لأجله والفاء في قوله: " فارتقبهم " فصيحة. والطاء في قوله: " واصطبر " بدل من تاء الافتعال. وقوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} الفاء للعطف على محذوف أي فملوه فهموا بقتل الناقة فنادوا صاحبهم. ومفعول
" تعاطى " محذوف لظهوره وكذلك مفعول عقر.
المعنى الإجمالي:
جحدت قوم صالح الإنذارات التي جاءت عن الله، وأنكروا أن ينقادوا لرجل واحد من جنسهم، قائلين: إنا إن انقدنا له لفي حيرة وبعد عن الصواب وجنون.
أأنزل عليه الكتاب والوحي دوننا مع أنه ليس بأشرفنا ولا أكثرنا مالا. بل هو كثير الافتراء بطر متكبر يريد العلو علينا. عن قريب يتبين لهم أيهما المفتري المتكبر أهو صالح أم هم؟ إنا مخرجو الناقة من الصخرة –كما بعثناك من بينهم- اختبارا وابتلاء لهم، فانتظر يا صالح ما هم صانعون وما يصنع بهم.
وتجمل بالصبر حتى يأتيك النصر، وأخبرهم إخبارا إعظاما أن ماء البئر الذي يشربون منه مقسوم بينهم وبين الناقة، كل نصيب من الماء يحضره صاحبه في نوبته فملوا وهموا بقتل الناقة، فنادوا أحد رجالهم المبالغين في الضلال، فتناول سيفا فقتل الناقة، فأهلكناهم فكان إهلاكهم بعذاب عجيب.
إنا بعثنا عليهم صوتا فظيعا مرة واحدة من جبريل فصاروا شبه حشيش يابس داسته المواشي في الحظيرة. ولقد هيأنا القرآن للحفظ ويسرناه للتلاوة فهل من متعظ موجود.
ما ترشد إليه الآيات:
1-
إنكار ثمود للنذير البشري.
2-
زعمهم أن اتباع الرسل بعد عن الصواب وجنون.
3-
رمي صالح بالكذب والتكبر.
4-
تهديدهم بعقاب عاجل.
5-
تدميرهم لما كذبوا الرسل.
6-
كان تدميرهم الفظيع في غاية السهولة.
7-
في القرآن مواعظ فاتعظوا.
المناسبة:
لما كانت قرى لوط المؤتفكة هي أقرب دورا لها لكن إلى ديار ثمود من جهة الشام في طريق أهل مكة ذكرها هنا عقيبها لأنهم يمرون عليهم مصبحين وباليل
القراءة:
قرأ الجمهور " بكرة " بالتنوين. وقرئ بغير تنوين.
المفردات:
" حاصبا " أي ريحا شديدة تحصبهم أي ترميهم بالحصباء وهي صغار الحجارة. " آل لوط " هم لوط وابنتاه. " نجيناهم " خلصناهم. " بسحر " أي قبيل انصداع الفجر. " أنذرهم " خوفهم وحذرهم. " بطشتنا " أخذتنا الشديدة بالعذاب.
" فتماروا " فتشككوا وكذبوا وهو مشتق من المرية. " بالنذر " بالأمور التي خوفهم بها لوط. " راودوه " أي طلبوا منه المرة بعد المرة أن يخلي بينهم وبينهم وأن يمكنهم من هؤلاء الأضياف للفاحشة. " ضيفه " الملائكة الذين زاروه للبشارة بنصر الله وتدمير المكذبين. " طمسنا أعينهم " أعميناهم ومسحنا أعينهم، وسويناها كسائر الوجه من الطموس وهو الدروس والإغماء " فذوقوا عذابي " فاختبروا طعمه، وهذا على سبيل التكبيت بسبب إنكارهم. " صبحهم " أتاهم عند الصباح. " بكرة " غدوة في أول النهار. " مستقر " دائم متصل بعذاب الآخرة.
التراكيب:
قوله: " إلا آل لوط" الاستثناء متصل، ولم يرسل الحاصب على آل لوط. وقوله:" نجيناهم بسحر" استئناف بياني كأن سائلا سأل وماذا حصل لآل لوط؟ فقيل: نجيناهم بسحر. يعني أنهم خرجوا من البلد قبل إرسال الحاصب على أهلها، فإن آل لوط خرجوا بسحر يعني قبيل الفجر، وأرسل الحاصب في الصباح بعد خروجهم كما قال:" إن موعدهم الصبح ". وتنوين " بسحر" لأنه لا يراد هنا سحر بعينه.
وقوله: " نعمة" مفعول مطلق ملاق لعامله في المعنى وهو " نجيناهم " لأن الإنجاء نعمة.
ويجوز أن يكون مفعولا لأجله والعامل نجينا. وقوله: " فتماروا بالنذر" إنما عدي " فتماروا " بالباء لأنه ضمن معنى التكذيب فعدي تعديته.
وقوله: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} الفاء داخل على محذوف تقديره فقلنا لهم ذوقوا. "وذوقوا عذابي" مقول لهذا القول المحذوف.
المعنى الإجمالي:
لم تصدق جماعة لوط بالأمور المنذرة لهم على لسانه، إنا سلطنا عليهم ريحا ترميهم بالحصباء إلا لوطا وابنتيه. خلصناهم قبل انصداع الفجر. إنعاما منا عليهم. مثل ذلك الإجزاء نثيب من اعترف بنعمتنا وأطاع أوامرنا. والله لقد خوفهم لوط أخذتنا الشديدة بالعذاب فتشككوا وكذبوا بالإنذارات ووالله لقد طلبوا منه المرة بعد المرة أن يخلي بينهم وبين أضيافه من الملائكة للفاحشة فمحونا أعينهم، وسوينا وجوههم، فلم يبق بها أثر للأعين، وصارت كسائر الوجه. فقلنا لهم اختبروا طعم عقابي وإنذاراتي. وبالله لقد نزل بهم وقت الصباح أول النهار عذاب دائم متصل بعذاب الآخرة. فقلنا لهم: اختبروا طعم عقابي وإنذاراتي. وتالله لقد هيأنا القرآن للتلاوة وسهلناه للحفظ فهل من متعظ موجود.
ما ترشد إليه الآيات:
1-
إنكار قوم لوط للنذير.
2-
تدمير المكذبين.
3-
إنجاء المؤمنين.
4-
الشكر يدفع الله به البلاء.
5-
نصح لوط عليه السلام لقومه
6-
تسليط أنواع من العذاب عليهم.
7-
اتعظوا يا أهل مكة.
المناسبة:
لما كانت قصة آل فرعون من أشهر القصص لدى أهل مكة، وكانت بعد قوم لوط بزمان ختم بها القصص الواردة في هذه الصورة.
القراءة:
قرأ الجمهور " أم يقولون" بياء الغيبة وقرئ بتاء الخطاب. وقرأ الجمهور " سيهزم الجمع " بالياء للمفعول وضم العين، وقرئ " ستهزم " بالتاء مبنيا للفاعل، وقرئ بالنون مبنيا للفاعل، وقرئ " ويولون " بالياء وقرئ بالتاء. وقرئ " إنا كل شيء " بنصب كل. وقرئ برفعهما شذوذا. وقرأ الجمهور " ونهر " بفتح النون والهاء وقرئ بضمها.
المفردات:
" النذر" الإنذارات والتحذيرات على لسان موسى وهارون. " بآياتنا " أي حججنا التسع وهي العصا واليد والسنين والطمس والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. " عزيز "قوي غالب. " مقتدر " قادر لا يعجزه شيء. " خير " أقوى وأشد وأعظم مكانة في الدنيا. " براءة " أمن وعهد بالنجاة وعدم المؤاخذة. " الزبر " الكتب الإلهية. " جميع " أي جماعة مجتمع أمرنا فكلنا يد واحدة. " منتصر " لا نرام ولا نضام ولا نغلب. " سيهزم " سيدحر. " الدبر " هو هنا اسم جنس وهو كناية عن الهزيمة والقهر فكأنهم يمكنون أعداءهم من أدبارهم ليضربوها. " أدهى " أعظم داهية وبلية. والداهية الأمر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص منه " أمر " أشد مرارة. " يسحبون " يجرون. " مس سقر " إصابة جهنم. وسقر مشتق من سقرته الشمس أو النار أي لوحته بمعنى غيرت جلده ولونه من ملاقاة حرها أو أحمته. " بقدر " أي بتقدير. والقدر اسم لما صار مقدرا عن فعل القادر، يقال قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد. " واحدة " أي كلمة واحدة هي كن. " لمح " اللمح النظر بالعجلة يقال لمحه إذا أبصره بنظر خفيف. " أشياعكم " أشباهكم في الكفر. " الزبر " جمع زبور وهو الكتاب يعني ديوان الحفظة. " مستطر " مكتتب مسطور في اللوح. يقال سطره واستطره إذا كتبه فهما بمعنى واحد. " جنات " بساتين. " نهر " بفتحتين وهي اللغة العالية وهي أفصح من نهر بفتح النون وسكون الهاء. وقد أريد به الجنس أي أنهار. يعني من ماء غير آسن ومن لبن لم يتغير طعمه ومن عسل مصفى ومن خمر لذة للشاربين. " مقعد " مجلس. " صدق " أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم. " مليك " عزيز الملك تام السلطان.
التراكيب:
قوله: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} إنما صدر القصة بالتوكيد القسمي لإبراز كمال الاعتناء بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات، وإنما اكتفى بذكر آل فرعون للعلم بأن نفسه أولى بذلك. وقوله:{كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا} استئناف بياني كأنه قيل فماذا فعل آل فرعون حينئذ؟ فقيل كذبوا بآياتنا كلها. والفاء في قوله: " فأخذناهم" مفيدة للسببية. والاستفهام في قوله: " أكفاركم خير من أولئكم" للتبكيت. والضمير في " أكفاركم " لقريش. والإشارة للأمم الهالكة المعدودة من قوم نوح إلى فرعون. وأم في قوله: " أم لكم براءة في الزبر " منقطعة بمعنى بل والهمزة المفيدة للتبكيت. والإضراب فيه انتقالي من التبكيت بما ذكر أولا إلى التبكيت بما ذكر ثانيا. وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} أم فيه منقطعة بمعنى بل والهمزة التي للتبكيت أيضا. والإضراب فيه كذلك للانتقال من التبكيت المذكور إلى وجه آخر من التبكيت. والالتفات على قراءة الجمهور للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض وإسقاطهم عن رتبة الخطاب. وإنما لم يقل: جميع منتصرون، بل قال:" جميع منتصر " على الإفراد باعتبار لفظ جميع. وبل في قوله: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُم} للانتقال من تهديدهم بعذاب فظيع إلى تهديدهم بعذاب أدهى وأمر. وإنما وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: " والساعة أدهى" بدل وهي أدهى لزيادة تهويلها. وقوله: " إن المجرمين" استئناف لبيان أحوال الكافرين. وقوله: " يوم يسحبون" معمول لقول مقدر تقديره: يقال لهم ذوقوا مس سقر يوم يسحبون، ويجوز أن يكون منصوبا بما يفهم من قوله:" في ضلال وسعر " أي كائنون في ضلال وسعر يوم يجرون. وسقر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} على قراءة الجمهور بنصب 0"كل"وهو منصوب بفعل محذوف يفسره المذكور بعده. والباء في قوله: " بقدر" للملابسة. وأما على
قراءة الرفع فهو مبتدأ أو خبره خلقناه والمبتدأ وخبره في محل رفع خبر إن. وعلى هذا فكل من قراءة الرفع والنصب يثبت القدر الذي يجب الإيمان به. والتقدير على قراءة النصب إنا خلقنا كل شيء خلقناه حالة كونه متلبسا بتقديرنا. والتقدير على قراءة الرفع إنا كل شيء مخلوق لنا حالة كونه متلبسا بتقديرنا.
وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} استئناف لبيان حسن حال المؤمنين عقيب بيان سوء حال الكافرين على سبيل الترهيب والترغيب. وقوله: " في مقعد صدق " في محل رفع خبر ثان لإن. والإضافة في مقعد صدق من إضافة الموصوف إلى صفته. وقوله: " عند مليك مقتدر " في محل رفع خبر ثالث لـ"إن". ومن تمت له هذه الخصال فقد كملت له الآمال.
المعنى الإجمالي:
والله لقد أتى قوم فرعون الإنذارات والتحذيرات على لسان موسى وهارون. لم يصدقوا بالخوارق التسع جميعها، فأهلكناهم إهلاك قوي غالب قادر لا يعجزه شيء، أكفاركم يا قريش أقوى وأشد وأعظم مكانة في الجناية من هؤلاء المكذبين المذكورين الذين دمرناهم؟ بل ألكم عهد بالنجاة في الكتب الإلهية.بل أيقولون نحن يد واحدة لا نرام ولا نضام ولا نغلب. ستدحر جماعتكم ويضرب المسلمون ظهورهم يعني يوم بدر.
بل لكم الويل يوم القيامة، ولعذاب القيامة أعظم داهية وبلية وأشد مرارة.
إن المشركين في حيرة وجنون أو نيران متقدة يوم يجرون في النار على وجوههم يقال لهم اختبروا طعم إصابة سقر وأحسوا بهل وقاسوا حرها. إنا أوجدنا كل شيء أوجدناه بتقدير منا وعلم سابق لوجوده. وما أمرنا لشيء نريد إيجاده إلا بكلمة واحدة كإشارة بالعين في السرعة وهي كن فيكون. ووالله لقد دمرنا أشباهكم وأمثالكم في التكذيب فهل من متعظ موجود. وكل شيء يعمله هؤلاء مكتوب في كنب الحفظة. وكل صغير وكبير من العمل مكتتب في اللوح المحفوظ.
إن الذين يخافون الله فيتخذون لأنفسهم وقاية من عذابه بطاعته في بسبتين وأنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ومعه عسل مصفى ومن خمر لذة للشاربين. إنهم في مجلس صدق وحق لا لغو فيه ولا تأثيم. إنهم لدى عزيز الملك تام السلطان قد كملت لهم الطيبات بفضل الله تعالى.
ما ترشد إليه الآيات:
1-
تكذيب آل فرعون بجميع الآيات.
2-
تدميرهم تدميرا شنيعا بسبب التكذيب.
3-
ليست قريش أشد قوة من هؤلاء الهالكين.
4-
وليس لهم عهد بالنجاة في الكتب الإلهية.
5-
تهديدهم بعذاب آجل هو أشد وأفظع.
6-
تهديدهم بعذاب عاجل لابد منه.
7-
جميع المخلوقات بتقدير الله عز وجل.
8-
لا يصعب على الله إيجاد ولا إعدام.
9-
جميع أفعال العباد مدونة محفوظة.
10-
سعادة المتقين وتمام نعمة الله عليهم.
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
أنت
…
أنت الذي لا أكنيك في مطلع هذه الرسالة ولا أسميك، ولا ألقبك ولا أناديك، فأنا أخشى على قارئي أن يروع قلبه بذكرك، وأن يزلزل جسمه باسمك فيلقى بهذه المجلة جانبا ثم هيهات أن يعود.
أنت لست سيفا صقيلا ولا رمحا طويلا، لست رصاصا يدمدم ويئز ولا قنابل تدمر وتهز، لست زلزالا يطيح بالجبال ويفجر البراكين ويبتلع القرى والمدن، ولا إعصارا يطوي ما حملت فوق ظهورها المحيطات، وينسف ما ازدانت به شواطئ وشواطئ ولا وباء يترك الناس هشيما وترابا. ومع ذلك فكل أولئك -أيها الموت- بعض جندك، وجزء صغير من مملكتك.
لقد أرسلك الله - أيها الموت - نعمة من للعالمين ونقمة، فما أحلاك حينا وما أمرك أحيانا، ما أحلاك حين تدك الظلم وتدق أعناق الظالمين، وما أمرك حين تدرك أحباء مقربين وحكاما مصلحين وعلماء كانوا مصابيح هدى ومعالم إرشاد.
لا أدري أيها الموت لماذا أذكرك كثيرا هذه الأيام ولا أكاد أنساك أتراني أصبحت قريبا من أجلي، أم أن مصارع المسلمين المنبثة على كل أرض، ودماءهم السائلة هدرا في كل واد – جعلتك حيا في قلبي لا تنسى، شاخصا أمام عيني لا تحتجب؟!
ومهما يكن من أمر فأرجو أيها الموت ألا يطوف بخلدك أني أكتب إليك هذه الرسالة خوفا وطمعا أو تملقا وزلفى، فأنا أعلم أن ليس لك من الأمر شيء، وأن الأمر كله بيد الله يصرفه كيف يشاء.
على أن الحياة في هذه السنوات العجاف قد أمست خاوية عجفاء، ليست خليقة بأن يتملق في سبيلها ويتزلف، فهي لا تعدو ليلا يقبل ويدبر، وشمسا تشرق وتغرب، وأطعمة مأدومة بالقلق، وأشربة مر نقة بالخوف والضياع.
لقد فقدت الحياة مثلها العالية وغاياتها السامية ونواياها الطيبة، فقدت نفسها المطمئنة وقلبها البريء، فقدت نورا يشع في أحناء الصدر ورجعي تطمئن بها الأفئدة، فقدت كل هذا على الرغم من هذه المظاهر الجذابة التي تبهر الأعين وهذه الدعاوى الخلابة التي تملأ الأسماع.
أرجو ألا تسيء فيما قلته الفهم فتظن أني كرهت الحياة وطبت نفسا بلقائك، لا، لم يبلغ بي الأمر هذا الحد بعد، على الرغم من أني قد سلخت من حياتي نيفا وخمسين عاما، وحاولت مرارا كثيرة أن أقنع نفسي بالإخلاد إلى باطن الأرض بدلا من ظهرها، ولطالما قلت لها: علام التعلق بهذه الحياة، وفيم هذا الحرص الشديد على العيش، وحتى متى هذا السعي الذي لا يكاد يفتر في ليل أو نهار؟!
يكفيك يا نفس ما من فرح وترح، وما قضيت من خير وشر،؟ ام يعد بك قدرة على التزود بالأعمال الصالحة، فقد أفسدت الحياة الحديثة على الصالحين صلاحهم، ملأت عليهم عيونهم وأسماءهم ودخلت عليهم بيوتهم من غير أبوابها بلا استئذان، فما استطاعوا لها منعا وما استطاعوا لها دفعا، وغلبوا على أمرهم فهم يستغفرون الله بكرة وعشيا.
لا، لا أيها الزائر الذي لا مفر منه، لم أبغض حياتي بعد، ولم أطلب نفسا بلقائك، ولا أريد أن أتعجل زيارتك التي لا محيص عنها، إنه ليخيل إلى نفسي - وإن كانت لا تدري ماذا تكسب غدا - إنه ليخيل إليها أنه لا يزال في حياتي بقية أسأل الله أن تكون نافعة صالحة، وليس الإنسان كما يخيل إلى بعضهم زورقا مرجحنا هلك ملاحه فوق غوارب موج أرعن.
لا أريد بهذا القول أن أبرر طول حياتي، ولا أن أقنعك بالتخلي عني إلى حين، فأنا أعلم علم اليقين أن الأعمار لا تطول ولا تقصر بما لدى أصحابها من حجج، ولا تسرع ولا تبطئ بما لدى أصحابها من نفع وضر، وأعلم كذلك أنك لا تسير في هذه الحياة حسب منهج يعرفه العقل، أو طريقة تهواها الأنفس، فلله فيك وفي صرعاك شؤون أغلقت دون فهمها الأبواب، ولله في قضائه وقدره حكم لا يعلمها إلا هو.
على أنني أود أيها الموت أن أصارحك وأقول: إنني رجل ما أكثر ما تتغشاني الأحلام، أحلام اليقظة لا أحلام المنام، ما أكثر ما ألقي بجسمي على الفراش، وأترك خيالي يهيم قريبا مني كالفراش، أو يحلق بعيدا عني كالسحب، أو يطير عاليا عاليا مع مواكب النجوم.
ولأحلام اليقظة عند علماء النفس تفسيرات وتعليلات لا يعنيني ولا يعنيك أن أقصها عليك، وإنما الذي يعنيني أن أقص عليك حلما رأيته ذا علاقة وثيقة بك:
لا أدري متى كان ذلك، أكان ذات صباح أم ذات مساء، وإنما الذي أذكره أنني سمعت مناديا ينادي: من أراد أن يمتد عمره بضعة قرون، وأن تطول حياته مئات السنين، فليختر لنفسه عملا يتقنه وينفع به الناس، لا يقصر فيه ولا يهمل، ولا يخادع فيه ولا يحتال، ومن أراد أن يدنو أجله فلا يزيد على بضع ليال وقليل أيام فليختر لنفسه عملا يتخون فيه حقوق الناس، ويتبع فيه هوى النفس.
وتعالى النداء يدوي في الأرجاء يصخ الآذان في كل ميدان، ويهز النائم واليقظان، وأصبح الناس من ذاك النداء في أمر مريج، قد أصابهم ّذهول وفزع، وأخذتهم حيرة وتردد.
وما كان أشد دهشتي حين رأيت جماعات كثيرة من المدرسين على اختلاف الثقافات والشهادات يقدمون الاستقالات، ثم يتفرقون في البلاد سعيا وراء أعمال أخر هم بها أجدر وأشد لها إتقانا، وهم عليها أقدر وأكثر إحسانا.
ورأيت أطباء الحكومة يوفضون إلى عياداتهم مبكرين، لا يبرحونها وقت الدوام، ولا يغلقونها في وجوه المرضى يكلمون زائريهم بلطف ويسألونهم بعطف، ويفحصونهم بأناة ودقة، ثم هم يقدمون لهم العلاج بلا من ولا ضن، لا يخصون الفقراء بما رخص من الدواء، ولا يدخرون الجيد الغالي لمن يرجى نفعه أو يخشى ضرره.
رأيت مستشفيات متحركة وصيدليات متنقلة، وأطباء يرحلون إلى القرى البعيدة والأماكن النائية، يقضون على الأوبئة، قبل أن تتمكن، ويستأصلون الأمراض قبل أن تعمر وتستوطن.
وفي مساجد كثيرة على شتى الديار واختلاف الأقطار، رأيت المصلين يموج بعضهم في بعض يتلفتون يمنة ويسرة، ويتساءلون في لهفة وحسرة، ما بالك يا منابر الجمعة حزينة لا تخطبين وما بالك يا مجالس الوعظ صامتة لا تعظين؟!
أين أولئك الذين كانوا يفقهوننا في الدين، ويهدوننا الصراط المستقيم، ويأمروننا بالمعروف وينهوننا عن المنكر؟! أتخالينهم حبسوا عنك فغابوا، أم تظنينهم سلكوا طريق السلامة وأغراهم حب الحياة؟!
ورأيت الموظفين يغدون على مكاتبهم مبكرين، ويقبلون على أعمالهم ناشطين ويستقبلون مراجعيهم منجزين، لا يعدونهم مطالا، ولا يقولون لهم قولا غليظا.
رأيت الكتاب والشعراء ورجال الصحافة قد كسروا أقلام النفاق، وأراقوا حبر الكذب، وأخذوا يكتبون صادقين، وينشرون غير منافقين، قد طلعوا على الناس بأفكار ومعارف تثقف وتنفع، وآداب تهذب وترفع، ليس فيها قصص تخدير وإسفاف، ولا مقالات يداف فيها السم الزعاف، ولا دعوات تلبس الحق بالباطل.
ومررت بالكسالى والعاطلين وأحلاس المقاهي والملاهي، وأولئك المترفين الذين يقضون حياتهم سائحين، فإذا هم في حيرة، قد علت وجوههم صفرة، وزاغت منهم الأبصار.
ورأيت المتقين مشفقين من طول الحياة، قد طابت نفوسهم بلقاء الله، يخافون على أنفسهم من هذه الفتن التي تتوالى كقطع الليل، قد رضوا بما كتب الله لهم في هذه الدنيا من حياة قصيرة.
ومررت بالمقابر - وكنت أتوقع أن تكون خالية ليس فيها عين تدمع ولا قلب يجزع - فإذا الجنائز طبقات بعضها فوق بعض، وإذا الحفر قد غصت بالموتى وفاضت بالجثث، فقلت في همس حزين: يا للمساكين! لقد كانوا عن ذاك النداء غافلين، فجاءوك عجالا أيها الموت وهم لا يشعرون.
وإذا قائل يقول:لقد أسمعهم ذلك المنادي، وصلصل في آذانهم ذياك النداء، ولكن غلبت عليهم شقوتهم في الحياة الدنيا، والله أعلم بهم في الآخرة.
- عجبا! من يكون هؤلاء إذن؟!
- هؤلاء نسوة اغتصبن أعمال الرجال، وتركنهم عاطلين ليس لهم مورد رزق وفوق ذلك كانت رواتبهن تذهب ضياعا، لا تسد خلة ولا تدفع عادية، كانت تنفق إسرافا وتبذيرا في أدوات الزينة والتجميل، وفي (موضات) الفساتين والأحذية، ليتها كانت تنفق على أبوين عاجزين أو على صبية صغار، ولكن النسوة اللاتي من هذا القبيل قليل، وما أراه أمام عيني من الموتى كثير!
- مع هؤلاء النسوة رجال وثقت بهم حكوماتهم فوكلت ‘ليهم تصريف أمور الناس والأشراف على مصالح الشعب، فاتخذوا من وظائفهم مكاتب تجارة ومصايد ثروة وسياط إرهاب وتهديد.
- ولكن من تصف قليل، وما أراه كثير
- مع هؤلاء وأولئك أناس
…
وهنا يقرع جرس الباب، فأستيقظ من حلمي أسرع من ذاك القارع، وإذا امرأة تسأل إحسانا، قد حملت على حضينها شبح طفل، وعلى الآخر حملت ظلا لك يا موت!
وحين رأيتها وسمعت صوتها تذكرت ما كنت فيه من حلم وعرفت بعض من كانوا في أولئك الموتى.
كان فيهم أناس يكنزون أموالهم وفيها حق للسائل والمحروم، وكان فيهم تجار يرفعون أسعارهم نهما وظلما فلا يقدر عليها جائع، ولا يستطيعها فقير مضيع.
وهكذا انتهى حلمي أيها الموت وانتهت رسالتي إليك، ولكن قبل أن أقول وداعا أحب أن أقول فيك كلمة حق، أرجو ألا تعدها من هذه المجاملات الكاذبة التي اعتادها الناس، ولا من ذاك التزلف المريض الذي مرد عليه بنو آدم:
لو لم يكن هناك جوع ما أحس آكل لذة الطعام، ولو لم يكن هناك مرض ما شعر سالم بمتاع الصحة، ولو لم تكن أنت أيها الموت مقيما معنا في هذا العالم ما ذقنا لذة الحياة، ولا رضعنا هذه الدنيا أفاويق حلوة، ولا عرفنا إحسان كثير من ذوي الإحسان، ففيك خير ولك منافع، وماأنت بشر محض.
والآن لا أستطيع أن أقول وداعا، وداعا أيها الموت، وداعا على أجل قريب أو بعيد، وداعا إلى أن يأتي أمر الله، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
كل ما خلق الله إلى موت حتى أنت أيها الموت، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام.
أبو الحسن الرماني ومفهومه للإعجاز القرآني
للدكتور: أحمد جمال العمري
هو علي بن عبد الله أبو الحسن الرماني الإخشيدي الوراق
الرماني: بتشديد الراء والميم نسبة إلى الرملن أو قصر الرمان الموجود بواسط.
والإخشيدي: نسبة إلى الإخشيد أستاذه المعتزلي.
ويعرف أيضا الوراق لقيامه بأعمال الوراقة التي كانت شائعة في عصره وتعيشه مما كانت تدره عليه من دخل.
ولد الرماني سنة ست وتسعين ومائتين للهجرة ببغداد أو سامراء، وشغل بطلب العلم وتحلق في حلقات شيوخ عصره مثل أبي بكر ابن دريد، وأبي بكر السراج. والزجاج. وغيرهم من أساتذة اللغة والنحو، ولكن يبدو أن أكثر شيوخه أثرا في نفسه وفي علمه هو الإخشيد المتكلم المعتزلي المشهور في عصره. يقولون إنه تخرج على يديه وكان له أثره البارز في حياته وعلمه حتى لقب بالإخشيدي نسبة إليه من كثرة ملازمته له عنه وتبنيه لآرائه.
يقول أصحاب التراجم إنه كان واسع الاطلاع، غزير العلم، متقنا للأدب وعلوم اللغة والنحو لذلك لقبوه: بالنحوي، شيخ العربية، صاحب التصانيف، ووضعوه في طبقة أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي.
ويبدو أنه كان مغرما بعلوم المنطق والفلسفة. ونرى أثر ّلك واضحا في كتاباته وتحليله للآراء والموضوعات. وقديما لمس فيه معاصروه هذه الخصيصة وقالوا عنه إنه كان يمزج كلامه في النحو بالمنطق. حتى لقد كان يتفلسف في عباراته ويتخير أوجزها وأدلها على المعنى، سئل يوما (لكل كتاب ترجمة فما ترجمة كتاب الله عز وجل؟ فقال:{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ}
لم تقف اهتمامات الرماني العلمية عند حدود اللغة والنحو - أو علوم المنطق = والفلسفة والنجوم بل تعدت ذلك إلى العلوم الدينية..علوم القرآن والحديث والفقه، وألف فيها مصنفات كثيرة. وتظهر مكانة الرجل العلمية فيما ذكره عنه معاصروه ومترجموه، يقول أبو حيان التوحيدي:"إنه لم ير مثله قط، علما بالنحو، وغزارة في الكلام، وبصرا بالمقالات، واستخراجا للعويص، وإيضاحا للمشكل مع تأله وتنزه ودين ويقين، وفصاحة وفقاهة، وعفافة ونظافة ".
وقال ابن سنان: "إنه ذو مكان مشهور في الأدب ". ونظرا لثقته ورجاحة عقاه، وعمق آرائه، وجديتها..فقد اعتمد عليه كثير من العلماء ونقلوا عنه..في مقدمتهم:
ابن رشيق، وابن سنان وابن أبي الأصبع العدواني، والسيوطي وغيرهم، فكتبهم تنطق بما أخذوه ودونوه عنه في مصنفاتهم.
آثاره:
صنف الرماني مجموعة ضخمة من المصنفات والمؤلفات، قدرتها بعض المصادر بما يقرب من مائة كتاب، معظمها في علم النحو الذي علش له وبرع فيه واشتهر به.
بيد أن هذه المؤلفات لا تحجب المؤلفات الدينية خاصة في علوم القرآن منها:
1) تفسير القرآن المجيد: ويوجد بدار الكتب المصرية – المكتبة التيمورية – تفسير جزء عم من هذا التفسير مخطوطا.
2) النكت في إعجاز القرآن: وهي رسالة علمية بليغة طبعت ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن - بدار المارف بمصر-. وستكون محور دراستنا لتوضيح مفهومه للإعجاز القرآني.
3) الجامع في علوم القرآن.
4) ألفات القرآن.
5) شرح معاني القرآن للزجاجي.
6) التفات القرآن.
أما مؤلفاته النحوية فأهمها:
7) شرح كتابي المدخل والمقتضب للمبرد.
8) شرح كناب سيبويه.
9) نكت سيبويه.
10) أغراض كتاب سيبويه.
11) المسائل المفردة من كتاب سيبويه.
12) شرح مختصر الجرمي.
13) شرح المساءل للأخفش.
14) شرح الألف واللآم للمازني.
15) شرح كتاب الموجز والأصول لابن السراج.
16) كتاب الإيجاز في النحو.
17) كتاب المبتدأ في النحو: هذا بالإضافة إلى مجموعة أخرى من كتب اللغة أهمها:
18) كتاب الاشتقاق الكبير.
19) كتاب الاشتقاق الصغير والألفاظ المترادفة.
20) كتاب التصريف.
21) كتاب الهجاء.
وغير ذلك من الكتب.
مفهومه للإعجاز القرآني:
حدد لنا الرماني مفهومه للإعجاز القرآني في رسالته (النكت في إعجاز القرآن) وهي رسالة أدبية بلاغية قيمة، تعكس لنا تخصصه العلمي، ومنهجه الاستدلالي التحليلي، في توصيل أفكاره ورؤاه.
فهو يقرر في فاتحة رسالته، أن وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات:
1) ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة
2) والتحدي للكافة.
3) والصرفة.
4) والبلاغة.
5) ونقض العادة.
6) وقياس بكل معجزة.
ولما كان الرماني من علماء اللغة البارزين - في عصره - فقد خص الجهة البلاغية من رسالته بجانب كبير: فذكر أنها ثلاث طبقات:
- منها ما هو في أعلى طبقة.
- ومنها ما هو في أدنى طبقة.
- ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة.
فما في أعلاها طبقة فهو معجز وهو بلاغة في القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس ثم يعرف الرماني مفهومه للبلاغة قائلا: إنما البلاغة، إيصال المعنى إلى القلب في حسن صوره من اللفظ، فأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن، ولقد حصر الرماني البلاغة القرآنية فجعلها في عشرة أقسام. هي: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان.
خصص لكل قسم منها بابا على حدة أبرز فيه سماته البلاغية وأدق خصائصه
فالإيجاز: في نظره تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى، فإذا كان المعنى يمكن أن يعبر عنه بألفاظ كثيرة، ويمكن أن يعبر عنه بألفاظ قليلة، فالألفاظ القليلة إيجاز، وكدأبه دائما يجنح إلى التقسيم، فيقول: والإيجاز على وجهين: حذف وقصر.
فالحذف: إسقاط كلمة جزاء عنها بدلالة غيرها من الحال، أو فحوى الكلام.
والقصر: بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف.
فمن الحذف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ومنه {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ومنه {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} .
ومنه حذف الأجوبة: وهو أبلغ من الذكر، وما جاء منه في القرآن كثير، كقوله جل ثناؤه:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} كأنه قيل: لكان هذا القرآن.
كأنه قيل: حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير.
وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب. ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان، فحذف الجواب أبلغ من الذكر.
وأما الإيجاز بالقصر:
فهو أغمض من الحذف، وإن الحذف غامضا، للحاجة إلى العلم بالمواضع التي يصلح فيها من المواضع والتي لا يصلح، فمن ذلك {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} [1] ومنه {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [2] ومنه {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُس} [3] ومنه {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ} [4] وهذا الضرب من الإيجاز في القرآن كثير.
ولكي يدلل الرماني على روعة الإعجاز القرآني من حيث الإيجاز، يقارن بين قولهم:"القتل أنفى للقتل" وبين قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} فيقول: إن بينه وبين لفظ القرآن تفاوتا في البلاغة والإيجاز، وذلك يظهر من أربعة
أوجه: أنه أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من التكلفة بتكرير الجملة
وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة، أما الكثرة في الفائدة، ففيه كل ما في قولهم:"القتل أنفى للقتل"وزيادة معان حسنة منها إبانة العدل لذكره القصاص، ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه لذكره الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به.
وأما الإيجاز في العبارة، فإن الذي هو نظير "القتل أنفى للقتل"قوله:{الْقِصَاصِ حَيَاة} والأول أربعة عشر حرفا والثاني أحرف.
وأما بعده من التكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة، فإن في قولهم:"القتل أنفى للقتل"تكريرا غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصر في البلاغة عن أعلى طبقة.
ثم يتابع الرماني مستشهدا على دقة المعاني القرآنية، ومدى إعجازها البلاغي الذي يبرزه الإيجاز متناولا هذا الإيجاز من جميع زواياه..هذا عن الباب الأول.
بيد أن هذا الباب وإن كان عميقا إلا أنه يبين حقيقة مفهوم الرماني للإعجاز القرآني وإنما يظهر هذا المفهوم واضحا في الأبواب التالية. ويكفي أن نقف عند بابين اثنين من هذه الأبواب، لنتعرف مفهوم الرماني ومنهجه في إبراز أسرار هذا الإعجاز ولنتفهم مدى عمقه في الفهم ودقة إحساسه بالمعاني القرآنية وسر بلاغها.
فلنقف أولا عند باب الاستعارة:
وهو كعادته حين يقف عند أي باب يبدأ بالتعريف وتحديد العناصر والخصائص.
فالاستعارة: - كما عرفها الرماني - تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة. ويفرق بين الاستعارة والتشبيه بدقة وعمق قائلا: "والفرق بين الاستعارة والتشبيه أن – ما كان من التشبيه – بأداة التشبيه في الكلام – فهو على أصله، لم يغير عنه في الاستعمال.. وليس كذلك الاستعارة، لأن مخرج الاستعارة مخرج ما العبارة ليست له في أصل اللغة.
ويتناول الرماني الخصائص الفنية للاستعارة - كمقدمة لدراسة هذا الفن القولي في القرآن فيقول: "وكل استعارة بليغة فهي جمع بين شيئين بمعنى مشترك بينهما يكسب بيان أحدهما – بالآخر كالتشبيه، إلا أنه بنقل الكلمة. والتشبيه بأداته الدالة عليه في اللغة. وكل استعارة حسنة فهي توجب بلاغة بيان لا تنوب منا به الحقيقة. وذلك أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة، كانت أولى به، ولم تجز الاستعارة. وكل استعارة فلابد لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة.
فإذا انتهى من هذا الجانب التعريفي النظري، انتقل إلى الجانب التطبيقي الاستدلالي، مستشهدا بما جاء في القرآن الكريم من الاستعارة على جهة البلاغة. فلنستمع إلى قوله في تحليل بعض الآيات الكريمة.
قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [5] يقول الرماني: حقيقة قدمنا هنا عمدنا، وقدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر لأنه من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم، وفي هذا تحذير من الاغترار بال يقول الرماني: حقيقة قدمنا هنا عمدنا، وقدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر لأنه من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم، وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال. والمعنى الذي يجمعهما العدل لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل، والقدوم أبلغ.
وأما {هَبَاءً مَنْثُوراً} فبيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه حاسة.
وقال عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [6] يقول: حقيقته فبلغ ما تؤمر به، والاستعارة أبلغ من الحقيقة، لأن الصدع بالأمر لابد له من تأثير كتأثير صدع الزجاجة، والتبليغ قد يصعب حتى لا يكون له تأثير، فيصير بمنزلة ما لم يقع، والمعنى الذي يجمعهما الإيصال، إلا أن الإيصال الذي له تأثير كصدع الزجاجة أبلغ.
وقال عز وجل: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [7] حقيقته (شديدة) والعتو أبلغ منه لأن العتو شدو فيها تمرد.
وقال عز وجل: {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [8] يقول الرماني: "شهيقا"حقيقته صوتا فظيعا كشهيق الباكي، والاستعارة أبلغ منه وأوجز والمعنى الجامع بينهما قبح الصوت.
{تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} حقيقته من شدة الغليان بالاتقاد، والاستعارة أبلغ منه، لأن مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس مدرك ما يدعو إليه من شدة الانتقام فقد اجتمع شدة في النفس، تدعو إلى شدة انتقام في الفعل، وفي ذاك أعظم الزجر، وأكبر الوعظ، وأول دليل على القدرة وموقع الحكمة.
وقال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيرا} [9] أي تستقبلهم للإيقاع بهم استقبال مغتاظ يزفر غيظا عليهم. وقال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [10] وحقيقته انتفاء الغضب، والاستعارة أبلغ. لأنه انتفى انتفاء مراصد بالعودة فهو كالسكوت على مراصدة الكلام بما توجبه الحكمة في الحال، فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره، والمعنى الجامع بينهما الإمساك عما يكره.
وقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [11] ذرني ها هنا مستعار وحقيقته: ذر عقابي ومن خلقت وحيدا بترك مسألتي فيه، إلا أنه أخرج لتفخيم الوعيد مخرج ذرني وإياه لأنه أبلغ، وإن كان الله تعالى لا يجوز عليه المنع، وإنما صار أبلغ لأنه لا منزلة من العقاب إلا وما يقدر الله تعالى عليه أعظم. وهذا أعظم ما يكون من الزجر.
أما الباب الثاني – الذي سنطرقه في هذا المقال فهو باب الفواصل، والفواصل – في نظر الرماني – حروف متشاكلة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعنى وهي في رأيه من دلائل الإعجاز القرآني.
والرماني يرى أن هناك فرقا كبيرا بين هذه الفواصل القرآنية والأسجاع، فإذا كانت الفواصل بلاغة، فإن الأسجاع عيب، (وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهذا قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة، إذ كان الغرض الذي هو حكمة إنما هو الإبانة عن المعاني التي الحاجة إليها ماسة، فإذا كانت المشاكلة وصلة إليه فهو بلاغة وإذا كانت المشاكلة على خلاف ذلك فهو عيب ولكنة: لأنه تكلف من غير الوجه الذي توجبه الحكمة ومثله مثل من نظم قلادة ثم ألبسها كلبا. وقبح ذلك وعيبه بين لمن له أدنى فهم.
ويقدم لنا الرماني لذلك مثلا فيما يحكى عن بعض الكهان:
"والأرض والسماء، والغراب الواقعة بنقعاء، لقد نفر المجد إلى العشراء"ومنه ما يحكى عن مسيلمة الكذاب: "يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين ولا النهر تفارقين"، ثم يقول: "فهذا أغث كلام يكون وأسخفه، وهو تكلف المعاني من أجله، وجعلها تابعة له من غير أن يبالي المتكلم بها ما كانت.
وفواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة لأنها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدل بها عليها. ويرى الرماني أن فواصل القرآن الكريم على وجهين: أحدهما على الحروف المتجانسة.
والآخر على الحروف المتقاربة.
فمن أمثلة الحروف المتجانسة قوله تعالى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} الآيات، وقوله:{وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} الآيات.
أما الحروف المتقاربة، فمن أمثلتها تقارب الميم والنون في قوله تعالى:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيم مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وتقارب الدال مع الباء نحو قوله تعالى:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ثم قال: {شَيْءٌ عَجِيبٌ}
وإنما حسن في الفواصل الحروف المتقاربة لأنه يكتنف الكلام من البيان ما يدل على المراد ففي تمييز الفواصل والمقاطع لما فيه من البلاغة وحسن العبارة.
ويفرق الرماني بين موسيقى العبارة الحاصلة في هذه الحالة وبين القوافي فيقول:
إن القوافي "لا تحتمل ذلك لأنها ليست في الطبقة العليا من البلاغة، وإنما حسن الكلام فيها إقامة الوزن، ومجانسة القوافي، فلو بطل أحد الشيئين خرج عن ذلك المنهاج، وبطل ذلك الحسن الذي له في الأسجاع، ونقصت رتبته في الأفهام. والفائدة في الفواصل دلالتها على المقاطع، وتحسينها الكلام بالتشاكل، وإبداؤها في الآي بالنظائر.
هذا هو مفهوم الرماني للإعجاز البلاغي للقرآن، كما عرضه في رسالته. ولا شك أننا لا حظنا أن أسلوبه في عرض أفكاره كان علميا منطقيا يحتاج في كثير من المواضع إلى الجهد في فهمه وتتبعه. وذلك لغلبة الطابع الكلامي والمنزع الاعتزالي الذي يجنح فيه إلى المجادلة والمناقشة.
د. أحمد جمال العمري.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
سورة البقرة 179.
[2]
سورة النجم 23.
3]] سورة المنافقون 1.
4]] سورة فاطر 43.
[5]
سورة الفرقان الآية 23
[6]
سورة الحجر الآية 94.
[7]
سورة الحاقة الآية 6.
[8]
سورة الملك الآية 8.
[9]
سورة الفرقان الآية 12.
[10]
سورة الأعراف الآية 152.
[11]
سورة المدثر الآية 11.
تعقيب لا تثريب
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
ملاحظات إسلامية حول كتاب (أبو ذر والشيوعية)
كثيرا ما حاول الشيوعيون استغلال شخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري لإيهام العامة وأشباه العامة من المسلمين، بسداد نحلتهم، وأنها تلتقي مع الإسلام في أهم أهدافه الإنسانية، من حيث تأمين العدالة وتحقيق المساواة..وكثيرا ما سكت المفكرون من المسلمين عن هذه الفرية الكبيرة، التي تضع ماركس اليهودي الحاقد الهدام في مستوى الصحابي المجاهد لإعلاء كلمة الله، العامل بحقها في بناء المجتمع الأفضل، الذي يحمل إلى البشرية الضائعة رسالة بها الهداية إلى التي هي أقوم.
ومن هنا كان للكتيب الذي أصدره العلامة الدكتور عبد الحليم محمود بعنوان (أبو ذر والشيوعية) أثره الطيب في نفوس القراء من العارفين بأكاذيب الشيوعيين، الشاعرين بالحاجة إلى مواجهة أولئك الضلال بالحقيقة التي تدمغ باطلهم.
وعلى الرغم من أن الكتيب لم يخرج عن كونه لمحات عجلى عن حياة الصحابي الكريم تنتظر القلم الذي يتم ما بدأ في استقصاء للأحداث، وتحليل للمواقف يسدان على المستغلين طريق العودة إلى مثل هذا التضليل، فقد جاء بالإجمال كصفحة مشرقة في سفر قيم يسهم في تأليفه العديد من حملة القلم المسلم، الذين كتبوا ولا يزالون يكتبون في رد مفتريات الأفاكين على دين الله، وحملة مشاعله من تلاميذ النبوة الأولين رضوان الله عليهم أجمعين.
على أن تقديرنا لمجهود الدكتور حفظه الله، في هذا الكتيب وغيره من المواقف الرائعة في خدمة الإسلام، والدفاع عن دعاته وفضح مؤامرات أعداءه، والدعوة إلى تنفيذ أحكامه، لا ينبغي أن يصرفنا عن بعض الهفوات التي يتعثر بها فضيلته بين الحين والآخر فتشوه النقى من أعماله بنقاط ما كان لها من سبيل إلى قلمه لو نهنه من غربه قليلا فوقف به عند الحدود التي لا يبيح الشرع ولا العقل السليم تجاوزها.. ولو هو قد فعل ذلك لما وقف القارئون من المسلمين اليوم على ذلك التناقض المؤسف بين الشيخ الذي يرفض المنهج العلمي في دراسة حياة (الأولياء) - من حماة السويس والإسكندرية والزقازيق وقنا – ويأبى إلا الاعتماد على الأحلام والرؤى وما إليهما، مما يرسخ تقاليد العامة في الشطط عن طريقة السلف، وبين وزير الأوقاف الذي يضطر إلى الرد عليه في نشرة رسمية تحت عنوان (تقاليد يجب أن تزول) ! .
ولكن. .ما الحيلة. . وقد شاء الله أن ينفرد بالكمال، ويحصن أنبياءه وحدهم بالعصمة، فلا أحد إلا يؤخذ منه ويرد عليه غيرهم.
لقد أبى الدكتور أصلحنا الله وإياه أن يقصر جهوده على أعداء الإسلام في ذلك الكتيب، فخص دعاة الالتزام لكتاب الله وسنة رسوله ببعض الغمزات التي أقحمها في مقدمته دون حاجة أو مسوغ.
يقول الدكتور: "هل آن لنا أن نكف عن الحديث عن زيارة القبور وعن قراءة سورة الكهف، وعن الكتابة في الجبر والاختيار وعن حمل المسبحة وعن شد الرحال: وهل يتضمن زيارة الأولياء أو لا؟ . ."[1]
إنها لعبارة تحمل من الحرارة والعنف ما يصور ضيق صدر الشيخ بهؤلاء الذين يرون الإسلام الصحيح وقوفا عند حدود ما أمر الله وبين رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا جرم أن من حق كل مسلم يؤمن بهذه الحقيقة أن يعتبر كلام الشيخ موجها إليه، فمن حقه إذن أن يدلي برأيه فيه.
لقد اعتاد المخالفون لهذه الطائفة الملتزمة أن يرددوا مثل هذا الكلام كلنا ارتفع لأحد أفرادها صوت بالدعوة إلى الصراط السوي، ونبذ كل ما غشيه من انحرافات واختراعات، وحجتهم في ردهم ذاك أن أعداء الإسلام يتكالبون عليه من كل صوب، فواجب المسلمين والحالة هذه أن يقفوا كل إمكاناتهم على مناجزة هؤلاء الأعداء دون أن يتحدثوا بكلمة واحدة خارج هذا النطاق ويقولون إن بلاد المسلمين غارقة في آلاف المعاصي، من الربا والخمر والفجور، وما إلى ذلك من ألوان البلاء، ففي هؤلاء فلنجاهد، ولندع كل شذوذ عن جادة الوحي يجرف إخواننا الذين لا يرون رأينا من التزام جانب الوحي دون سواه.
ويا لها من حجة عجيبة فات أصحابنا أن الشرط الأساسي في الجيش المحارب ارتباطه بوحدة الهدف، والتزامه تعاليم القيادة، وتعاون أجزائه في انسجام تام لا يشوبه الاختلاف، وإلا فما أيسر أن تتفرق كلمة هذا الجيش فيخذل بعضه بعضا وهو في صميم المعركة، ثم النهاية كارثة على الجميع.
ونعود الآن إلى تحليل عبارة الشيخ، أنه يحصر مآخذه على الجماعة بأشياء ليست على مستوى واحد من الأهمية أو قابلية الاختلاف. فزيارة القبور أمر مسلم عند السلفيين ومخالفيهم على سواء، وهي كغيرها من القربات إما أن تقف عند حدود الشرع فتكون دعاء للميت، وعبرة للحي، وإما أن يشتط الزائر فيخرج بها إلى الاستغاثة بأصحابها وسؤالهم النفع والضر، وفي ذلك من الزيغ ما لا يصح أن يختلف في إنكاره عاقلان. وفي قراءة سورة الكهف يوم الجمعة أحاديث تسوغ للمطلع عليها الحكم بفضلها، والعمل بها، وعلى هذا فلا داعي لاعتبار هذا الأمر من مظان الخلاف ذوات الشأن. وكذلك القول في المسبحة، فمع أنها لم تعرف في الصدر الأول، لا تستدعي الكثير من الأخذ والرد، إذا كان الغرض منها هو ضبط العدد المسنون للتسبيحات. . وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى أزواجه تستعين على ذلك بالنوى فلم ينكره عليها، بل أرشدها إلى خير منه، أما موضوع زيارة الأولياء - ولعله أهم المهمات بالنسبة إلى القوم - فما ينبغي أن يترك أمره للأهواء والأذواق لما يترتب من نواتج تمس عقيدة التوحيد في الصميم.
فقبور الأولياء وغيرها من أضرحة المسلمين مجال صالح للدعاء لأهلها والاعتبار بمصايرهم، فلا اعتراض على زائريها على هذا الوجه المشروع ولكن الإنكار إنما ينصب على تخصيصها بالقصد والسفر، وتوجيه النذور، وذبح (العجول) التي تعد لها وتنحر على اسمها، وما يتعرى قصادها بإزائها من الخشوع الذي لا يعهد منهم بعضه بين يدي الله، وهم يقومون بأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين فكيف إذا أضيف إلى ذلك الطواف والتمسح ونشدان الحاجات. مما لا يجد فاعله مستمسكا يحتج به من وحى أو عقل.
وبقي من النقاط التي شملتها إشارات الشيخ الأكبر تلك الطامة الهامة التي لا أحسبه قد تنبه إلى أبعادها الخطيرة حين حشرها بين ما يعتبره من المآخذ.
إنها قضية الجبر والاختيار، وفي عبارة الشيخ ما يوحي أنها لا تستحق بنظره أي اهتمام، ناسيا حفظه الله أنها مدار كل الفلسفات التي حاولت تحديد مسؤولية الإنسان.
إن القول بأن الإنسان مجبر على سلوكه إنما هو تقرير قاطع بتجريده من كل أثر للحربة، ومن ثم إعفائه من أي مسؤولية عن أي فعل يأتيه. . وحصيلة ذلك تعطيل الشرائع، وإبطال القوانين واعتبار كل محاولة لتصحيح مسيرة الإنسان عبثا لا مردود له. . وهذا ما انتهى إليه السواد الأكبر من عامة المسلمين في العصور المتأخرة إذ سيطر عليهم الوهم، فأقنعوا أنفسهم بأنهم في كل ما يقترفون إنما ينفذون إرادة الله، الذي ألزمهم ذلك عن طريق الإكراه وليست الوجودية والسوفسطائية واللاإرادية إلا صورا لهذا الاتجاه المظلم. بل لعله اليوم أبرز ما يكون في الماركسية التي تعتبر أخلاق الإنسان كسائر تصرفاته نتيجة لازمة لنظام الإنتاج.
ثم إن وضع (الاختيار) في مقابل الجبر يوحي كذلك بأن المراد منه ما ذهب إليه منكرو القدر القائلون بأن الإنسان خالق لأفعاله في معزل عن قدرة الله وإرادته.
ومعلوم لدى أولي العلم والفطر السليمة أن كلا المذهبين من الضلالات الكبرى المنافية لحقائق الإسلام الذي وضع كل فرد تلقاء تبعته، وألزمه طائره في عنقه، فإذا ما تركنا للناس أن ينحرفوا عن جادته يمنة ويسرة لم يكن لنا أي حق في دعوتهم إلى التعاون لإشاعة المعروف وإزالة المنكر، إلا كما نتعاون مع أي فريق من الناس على أساس المنفعة العارضة، تجمع الملتقين عليها إلى حين ثم لا تلبث أن تمزقهم أيدي سبأ.
وهكذا يتضح خطر السكوت عن معظم القضايا الواردة في عبارة فضيلة الدكتور، والتي يرى أن الكف عن ذكرها وتنبيه المسلمين إلى أخطارها من الشروط التي لا مندوحة عنها للتعاون في وجوه أعداء الإسلام.
أما نحن - وأعني كل المؤمنين بخطأ هذا الرأي - فلا نستطيع أن نتناسى أن الإسلام نظام الله الشامل الكامل، لا يسع مسلما أن يساوم على أي جزء منه، فكما يفرض علينا إعلان الحرب على الشيوعية والوجودية والإلحاد أيا كان مصدرها يلزمنا كذلك تنقية صفوف المسلمين من عناصر الهزيمة، الذين لبس عليهم دينهم وأبعدوا عن منهج الحق، فضلوا عن سبيل المؤمنين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وأخيرا ليسمح لي صاحب الفضيلة أن أذكره بالحقيقة التي يجب أن تكون القاسم المشترك بين أفراد المسلمين جميعا، مهما تتفاوت سويتهم العلمية، ألا وهي ضرورة احتفاظ الأمة، أفرادا وجماعات بعناصر الشخصية المتميزة على سائر أصناف الناس. فإذا كان من شأن الشيوعي النفاق السياسي، حتى ليتظاهر بالإيمان وهو ألد أعدائه، ويحتج بمبادئ الإسلام وهو أول الكافرين بها. .
وإذا كان من خصائص اليهودي والنصراني الانسياق وراء مقررات رجال الدين من أحبار ورهبان، مهما تتصادم مع العقل والنقل.. فإن ميزة المسلم التي لا تتم مقوماته لا تتم مقوماته إلا بها هي التزامه هدى الله كما أنزله على رسوله، حتى يكون جديرا بتمثيل حقائق الإسلام في حياته كلها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. .
ومن أجل هذا نستسمح فضيلة الشيخ الأكبر عذرا إذا قلنا له: لقد قدمت للإسلام بكتابك هذا خدمة نرجو أن تجد ثوابك عليها جزيلا عند الله، ولكنك أخطأت كثيرا عندما دعوت المصلحين للكف عن تنقية الإيلام من بقايا رواسب خلفتها تعاليم الباطنية العبيدية، التي كادت تقطع صلة مصر بالإسلام ذات يوم، لو لم يتداركها الله بالناصر الأمين صلاح الدين والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
1 مقدمة الكتاب ص 8.
الجبال في القرآن آية من الرحمن
الدكتور محمد نغش
إن الجبال مخلوقات تسبح لله وتمجده، ترجو رضاه وتخشى غضبه، وقد حدثنا الله عنها في كتابه الكريم، وحكى عن مواقف عديدة لها مع الأنبياء عليهم السلام، فلنذكر منها ما يتسع له المقام.
من بديع صنع الله وعظيم قدرته هذه الجبال الراسيات في أنحاء العالم، لتثبيت الأرض في مكانها كما ترسى الأوتاد الخيام.
فنحن نعرف أن الأرض منبسطة كالفرش على بحيرة كبيرة من الماء هي عبارة عن المحيطات، والبحار والأنهار والعيون والآبار. والجبال أثقال فوقها تحفظ توازنها، قال تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} سورة سبأ7،6.
وحينما ينظر الإنسان إلى الجبال تهوله ضخامتها، فهي من عجائب مخلوقات الله الجديرة بالتأمل والدراسة إذ نرى العالم يقف متعجبا أمام بناء كالأهرامات، فكيف نصبت هذه الحجارة الضخمة فوق بعضها!؟.
فما بالك بالجبال الشاهقة التي نصبها الخالق المصور بخارق قدرته، وهي ثابتة تدل على عظمته.
وفي الجبال الراسيات خيرات عميمة للإنسان والحيوان. فمن الوجهة الاقتصادية:
الزراعة: تنبت نباتات مختلفة فوق الجبال من غابات في المناطق غزيرة الأمطار، إلى أعشاب السقانا في الجهات المتوسطة الأمطار، إلى عشيبات في الجهات النادرة الأمطار.
والحيوانات: منها ما يعيش في الغابات سواء المتوحش منها أو الأليف، ففي كل خير للإنسان، ومنها ما يعيش في المناطق الأخرى كالبقر والإبل والأغنام وغيرها.
والمعادن: في الجبال منها كنوز نفيسة كالذهب والحديد والنحاس وأمثالها قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} سورة النازعات الآية 33،32.
ولا تنسى يا أخي ما في الجبال من مواد البناء من حجر وإسمنت ورخام يقوم عليها عمران الأرض، واستقرار الإنسان في بيوت مشيدة، وقصور شامخة، قال تعالى:{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} سورة الشعراء الآية 149.
واسمع أخي قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} سورة النحل الآية 68.
حقا، ليس الإنسان والحيوان وحدهم الذين يعيشون فوق الجبال، بل قد ألهم الرحمن الرحيم النحل لسكنى الجبال، ومن النحل الذي يعيش معنا فوق الجبال نجني العسل الشهي المفيد للأبدان.
والجبال بمثابة الحصون يحتمى بها من العواصف والأمطار، ومن اعتداء الإنسان على أخيه الإنسان، وكذلك الحيوان على الحيوان {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} سورة النحل الآية 81. استمع إلى قوله تعالى:{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود} سورة فاطر الآية 27.
الجدد: واحدتها جدة، وهي الطريق في الجبال كالعروق، وغرابيب سود: شديدة السواد. معنى ذلك أن من الجبال ما هو أبيض، ومنها ما هو أحمر، ومنها ما هو أسود، ومنها ما تختلط فيه الألوان الثلاثة أو غيرها، فكما تختلف ألوان البشر، تختلف ألوان الجبال، فهذه جبال غنية بمواد ثمينة، وتلك جبال فقيرة لخلوها من المعادن النادرة، وهذه تكسوها خضرة فتجعلها جنة نضرة، أو تكسوها ثلوج فتجعلها بيضاء ناصعة، وتلك جرداء لا نبات فيها ولا ماء، وبعضها لا يعدو هضبة قصيرة تمتد في الصحراء.
ونقف أمام الآية التالية {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} سورة النور الآية 43، من السماء هنا تعني من عال، لأن السماء تطلق على جهة العلو. ومن جبال فيها من برد: أي ما ينزل من السماء من مطر وبرد وخلافه كالجبال حجما، والبرد فيها ينزل في كثافة فيصيب به الله من يشاء من عباده، ويصرفه عن غيرهم. إذن الجبال جنود الله إن شاء سخرها لخدمة مخلوقاته، وإن شاء أذاقهم بها شديد بأسه وعقابه.
فإذا تأملنا قوله تعالى في الآيتين التاليتين لعرفنا أن الجبال كسائر المخلوقات تعبد الله وتخشى عذابه.
اسمع {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَال} سورة الحج الآية 18. وفي الآية التالية تصوير بليغ لما يصيب الجبال لفزعها من خشية الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} سورة الحشر الآية 21، فإذا كانت الجبال يا أخي الإنسان تخشى الله القهار، وهي كما ترى قوية متينة البنيان، فما بالك لا تعبد الله حق عبادته، أأنت أشد صلابة منها، إنك لن تبلغ طولها، ولن تصل إلى متانتها.
أخي إن للجبال قصص مع الأنبياء عليهم السلام، فمثلا: موسى عليه السلام، كلم الله عند جبل الطور في سيناء، إذ يحدثه {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} سورة الأعراف الآية 143.
ومعنى سينين: المبارك الحسن بلغة أهل الحبشة، وقال مجاهد: هو المبارك باللغة السريانية، أما كلمة سيناء فهي لفظة نبطية تعني الحبل الذي فيه شجر مثمر.
والحجر الذي ضربه موسى عليه السلام فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} سورة البقرة الآية 60.
وقد تعبد عيسى عليه السلام فوق جبل الزيتون في فلسطين، وهنالك نزل عليه جبريل الأمين بالوحي من رب العالمين، ويتخذ الناس من غصن الزيتون رمزا للسلام.
ونزل الوحي على حبيب الله محمد عليه الصلاة والسلام، فوق جبل النور، حينما كان يفكر في خالق السموات والأرض وما بينهما في غار حراء.
فمن حديث لعائشة رضي الله عنها: فجاء الملك فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني في الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} سورة العلق الآية 1 - 5.
وفوق جبل عرفه في مساء يوم الجمعة نزل سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} سورة المائدة الآية 3 وهكذا أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه فلا ينقص أبدا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدا.
وأراد نوح أن ينجي ابنه من الغرق يوم الطوفان، وكان في معزل:{يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} سورة هود الآية 42. فرد عليه الابن الذي لا يؤمن بصدق نبوة والده {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} سورة هود الآية 43 واستوت السفينة على جبل الجودي من ديار بكر وخرج من في السفينة، وبارك الله فيهم فكثروا وملأوا الأرض.
وقد برهن الله لإبراهيم عليه السلام مقدرته إحياء الموتى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة البقرة الآية 260.
أمر الله نبيه إبراهيم أن يقطع الطيور ويخلط لحمهن وريشهن، ثم يفرق الأجزاء المختلطة على جبال متفرقة ثم ينادي عليهن، فيقبلن عليه مسرعين. أخذ إبراهيم عليه السلام طاووسا ونسرا وغرابا وديكا، وفعل بهن ما أمر به، وأمسك رؤوسهن عنده ودعاهن، فتطايرت الأجزاء إلى بعضها، حتى تكاملت، ثم أقبلت إلى رؤوسها.
وتسبح الجبال للواحد الديان {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} سورة الأنبياء الآية 79. كان داود إذا سبح سبحت معه، وقيل أنها كانت تسير معه، فكان من رآها معه يسبح بحمد ربه.
وكان وقت تسبيح الجبال في العشاء وفي صلاة الضحى عندما تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} سورة ص الآية 18.
وفي تسبيح الجبال لله في المساء والصباح منها بفضل الله خالق الليل والنهار، فهما آيتان باهرتان من آياته سبحانه وتعالى.
وعندما انتقم الله من قوم لوط عذبهم بحجارة من سجيل، وسجيل حجارة من طين طبخت بنار جهنم. عدا جبريل على قريتهم فقلعها من أركانها، ثم أدخل جناحه، ثم حملها على خوافي جناحه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها ثم إن الله طمس على أعينهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، وفي ذلك يقول العزيز العليم:{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} سورة هود الآية 82.
وهذا مثال آخ من تعذيب الله الناس بالحجارة فحينما قصد أصحاب الفيل من الأحباش تخريب الكعبة، أرسل عليهم العزيز الجبار جماعات من الطير في أعداد مهولة، لم ير قبلها ولا بعدها.
وقيل إنها طيور سود مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، لا يصيب شيئا إلا هشمه.
إذن في جهنم حجارة تختلف عما نعرف من أحجار الدنيا، إذ أن الطيور التي قضت على أصحاب الفيل، كانت تحمل قطعا صغيرة كالحمصة من هذه الحجارة المهلكة.
وحجارة جهنم حذرنا الله من شدتها، ونصحنا بعدم معصيته لتجنبها إذ يقول الرحمن الرحيم:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} سورة التحريم الآية 6.
ولما تعجب الدهريون من كيفية بعثهم بعد موتهم جفاف عظامهم وتناثرها وتفرقها في جوانب العالم، يرد عليهم الخلاق العظيم أنه قادر على أكثر من ذلك، فإذا تحولت أجسادهم إلى حجارة أو حديد أو خلق مما يكبر في صدورهم، وقيل المقصود السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس، فالله ينشئهم من جديد، وهو فعال لما يريد {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} سورة الإسراء الآية 49 – 51.
وكما أن لكل شيء نهاية، وأن كل المخلوقات فانية، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وكذلك الجبال تسير إلى نهايتها المحتومة يوم القيامة {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} سورة النمل الآية 88، {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} سورة الحاقة الآية 14، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} سورة المزمل الآية 14، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} سورة القارعة الآية 5.
فتصور يا أخي كيف تصير نهاية الجبال بعد أن ينسفها ربي نسفا، تصبح كالصوف المندوف في خفة سيرها حتى تستوي مع الأرض فتكون سرابا، إذ تمحى معالمها من الوجود فسبحان الذي يزيلها بقدرته وينهيها بعظمته:{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الحشر الآية 21.
تراث الحديث والسنة في الهند
لفضيلة الشيخ تقي الدين الندوي
لما كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة الصالحة والأسوة الحسنة لطبقات الناس جميعا، وللأجيال البشرية على اختلاف الزمان والمكان اتجهت عناية الله إلى حفظ أخباره وآثاره وصفاته وأخلاقه وعاداته وتصرفاته. وصرف الله قلوب المؤمنين إلى تتبع كل ما يصدر منه حركة وسكون وأخذ ورد، وعادة وعبادة وألهمهم الاعتناء به اعتناء لا مزيد عليه، كأن سائقا يسوقهم إلى ذلك.
وقد تجلت حكمة الله وعنايته الخاصة بكل وضوح في صيانة علم الحديث وحفظه ولنظرة عابرة في كتب السنة تكفي للإيمان بأن هذا الاهتمام البليغ الخارق للعادة بتسجيل دقائق الحق والخلق والعادات والعبادات والأقوال والأفعال وبكل ما يتصل بهذه الشخصية الكريمة اتصالا لا يتصوره الذهن الإنساني، وفي بسط تفصيل لا نظير له في تاريخ أمة ولا حضارة.
لم يكن هذا مجرد مصادفة بل كان ذلك سرا من الأسرار الإلهية، وبرهانا ساطعا على مدى عناية الله تعالى بهذه الرسالة التي ختم الله بها الرسالات وبهذه الشريعة التي قضى ببقائها وخلودها وانتشارها وعمومها لجميع العصور والأجيال، وكان لكل قطر من الأقطار الإسلامية نصيب وافر من هذا الإرث النبوي يدخل مع الغزاة والفاتحين، والدعاة والمبلغين والفقهاء والمدرسين.
وبدأ فجر الإسلام يطلع على الهند وبدأت أشعته تغمر هذه البلاد الرحبة الفسيحة، ولم يكن ذلك في وقت متأخر عن صدر الإسلام، وإنما كان في عهد الخلافة الراشدة الذي بدأ فيه الإسلام يزحف شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وبدأت موجاته تجتاز الحدود والسدود معلنة في الدنيا كلمة الله ومبشرة بدينه.
ولم تكن شبه جزيرة الهند منقطعة عن جزيرة العرب منزل الوحي ومهبط الرسالة ومشرق النور، فقد كان ثمة تجارة بين العرب والهند منذ أقدم العصور.
فقد كان تجار العرب يرتادون شواطئ الهند الغربية ويمرون بها إلى جزيرة سرنديب حتى يصلوا إلى شواطئ الهند الشرقية، ومن هناك كانوا يبحرون إلى الصين، وبقيت هذه الصلات التجارية قائمة حتى جاء الإسلام فدخل الهند في العهد المبكر مع التجار المسلمين العرب.
ولم تكن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي دخل بها الإسلام هذه البلاد، بل هناك واسطة أخرى فقد دخل الإسلام مع الغزاة والفاتحين بطريق البحر والبر وكذلك دخل علم الحديث في أوائل الفتح الإسلامي في بلاد الهند، وكان من جملة من وفد إليها من المجاهدين في سبيل الله، الربيع بن الصبيح السعدي الذي قال عنه الحلبي في"كشف الظنون"هو أول من صنف في الإسلام، ولا شك أنه من أول المؤلفين في علم الحديث إذ لم يكن أولهم بالإطلاق وقد مات ودفن في الهند سنة 160 هـ[1]
وأدركت الهند العناية الإلهية، فأتحف الله البلاد بالوافدين الكرام من المحدثين من الأقطار الإسلامية وذلك في القرن العاشر وكذلك ساق سائق التوفيق لبعض علماء الهند إلى الحرمين الشريفين مصدر هذا العلم ومعقله ويطول ذكر أسمائهم، هو عصر النشاط في علوم الحديث.
ولو استعرضنا ما لعلماء الهند من الهمة العظيمة في علوم الحديث من ذلك الحين لوقع ذلك موقع الإعجاب والاستغراب، كم لهم من شروح ممتعة وتعليقات نافعة على الأصول الستة وغيرها، ومؤلفات واسعة في أحاديث الأحكام وكم لهم من أياد بيضاء في نقد الرجال وعلل الحديث وشرح الآثار وتأليف مؤلفات في شتى الموضوعات، وشروحهم في الأصول الستة وغيرها من كتب السنة تزخر بالتوسع في شرح أحاديث الأحكام.
وقد عرف علماء الهند بشغفهم بالعلوم الدينية وانتهت إليهم رئاسة التدريس والتأليف في فنون الحديث، سلمت زعامتهم في العهد الأخير حتى قال العلامة السيد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار) في مقدمة (مفتاح كنوز السنة) :"لولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضى عليها بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة".
فدونك كتاب (كنز العمال) للشيخ على حسام الدين المتقي البرهانبوري من رجال القرن العاشر، وهو ترتيب (جمع الجوامع) للسيوطي وهو من الكتب التي انتفع به علماء الحديث كثيرا، واعترفوا لصاحبه بمجهود عظيم وفر عليهم وقتا كثيرا، قال الشيخ أبو الحسن البكري الشافعي من أئمة العلم في القرن العاشر:"إن للسيوطي منة على العالمين وللمتقي منة على السيوطي".
ومنها كتاب (مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار) للشيخ محمد بن طاهر الفتني م (976) قال العلامة السيد عبد الحي الحسني في (نزهة الخواطر) : جمع فيه المؤلف كل غريب الحديث وما ألف فيه. فجاء كتابه كالشرح للصحاح الستة، هو كتاب اتفق على قبوله بين أهل العلم، وكذلك المغني، وتذكرة الموضوعات للمؤلف من الكتب السائرة المتداولة في الموضوع.
ومنها (لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح) للعلامة الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي م (1052) ، ومنها كتاب حجة الله البالغة للإمام ولي الله الدهلوي، وهو يغنى عن الوصف والبيان وكذلك كتابه الأبواب والتراجم على البخاري، معروف بين أهل العلم.
ومن علماء الهند مولانا نواب صديق حسن أبهوبال م (1307هـ) يبلغ عدد مؤلفاته (222) منها (56) كتابا باللغة العربية وفيها عون الباري شرح مختصر البخاري في عشرة مجلدات والحطة بذكر الصحاح الستة.
وتبلغ مؤلفات علامة الهند فخر المتأخرين الشيخ عبد الحي اللكنوي (1304) مائة وعشرون كتابا (120) منها ستة وثمانون (86) كتابا باللغة العربية، من أشهرها التعليق المجد في شرح الموطأ للإمام محمد، يا ليته يطبع في مصر أو لبنان، وظفر الأماني والرفع والتكميل، والأجوبة العشرة.
وكتاب إحياء السنن، وجامع الآثار للشيخ حكيم الأمة محمد أشرف علي التهانوي صاحب المؤلفات الكثيرة البالغ عددها ألف بل أكثر من ذلك.
وبذل المجهود في حل أبي داود في عشرين مجلدا للمحدث الكبير الإمام العلامة خليل أحمد السهارنفوري.
وغاية المقصود في شرح أبي داود للمحدث مولانا شمس الحق العظيم أبادي وتلخيصه (عون المعبود) وآثار السنن للشوق التيموي وتحفة الأحوذي في شرح الترمذي للمباركفوري وفيض الباري على البخاري والعرف المبتذي في شرح سنن الترمذي، أمالي درس العلامة الكشميري ومعارف السنن على الترمذي لفضيلة الشيخ يوسف البنوري، وفتح الملهم شرح صحيح مسلم، للعلامة شبير أحمد العثماني وإعلاء السنن، لمولانا المحدث ظفر أحمد التهانوي، وجعل له في جزء خاص مقدمة بديعة في أصول الحديث طبع مع تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة ومرعاة المصابيح في شرح مشكاة المصابيح لمولانا عبيد الله المباركفوري وزجاجة المصابيح. ولنظرة عابرة على كتاب (الثقافة الإسلامية في الهند) تكفي للاطلاع على أكثر المؤلفات في الموضوع.
أما كتب المحدث العلامة ريحانة الهند وبركة العصر نولانا محمد زكريا الكاندهلوي عددها أكثر من خمسين ومائة (150) كتابا وجلها باللغة العربية حول السنة: منها لامع الدراري على الجامع الصحيح للإمام البخاري في عشرة مجلدات، وأوجز المسالك في شرح موطأ الإمام مالك في خمسة عشر مجلدا والكوكب الدري على جامع الترمذي في أربع مجلدات والأبواب والتراجم على البخاري في ثمانية مجلدات.
وأماني الأحبار في شرح معاني الآثار للطحاوي لرئيس التبليغ الداعي إلى الله مولانا محمد يوسف الكاندهلوي رحمه الله.
وأما الكتب التي طبعت ونشرت بتحقيق بعض المحدثين فعددها أيضا كثير: منها سنن سعيد بن منصور، وكتاب الزهرلبن المبارك، ومسند الحميدي، ومصنف عبد الرزاق بتحقيق المحقق الكبير المحدث مولانا حبيب الرحمن الأعظمي ولا يزال مشغولا بتحقيق بعض كتب السنة.
ولقد حقق الدكتور مصطفى الأعظمي بعض كتب السنة التي طبعت ونشرت منها كتاب العلل لعلي بن المديني وصحيح ابن خزيمة، ودراسات علم الحديث، وكذلك عنى كثير من الأمراء وكبار العلماء باقتناء مكتبات عظيمة وشغفوا بها شغفا عظيما ومن أغنى مكاتب الهند ودور الكتب وأجمعها للكتب النادرة والآثار الثمينة ومخطوطات المؤلفين ونوادر الكتب مكتبة بانكى بورفي بتنه وهي مكتبة المرحوم القاضي خدابش خان ومكتبة أمارة رامبور في وسط الهند، والمكتبة الآصفية والمكتبة سعيدية في حيدر آباد ومكتبة العلوم بديوبند ومكتبة ندوة العلماء بكلنؤ، ومكتبة مدرسة مظاهر علوم بسهانفور ومكتبة دار المصنفين بأعظم كده ومكتبة أحمد آباد.
وهناك مكتبات لأشخاص كثيرين خاصة توجد فيها نوادر الكتب ومخطوطاتها يطلع عليها الإنسان باتصال العلماء المختصين في العلوم الذين لهم ثغف بهذه المخطوطات.
ها أنا ذا أترك ذكر مؤسسات النشر والطباعة لكتب السنة في الهند، لها شهرة عالمية، منها دائرة المعارف بحيدر آباد دكن، والمجلس العلمي بدابهيل وغيرها لأنها تحتاج إلى مقالة مستقلة. أنا أذكر أسماء بعض كتب السنة التي توجد في البلاد، التي تحتاج إلى تحقيق ونشر استنهاضا للهمم نحو إحياء تراث أسلافنا الكرام منها:
1-
كتاب المجروحين لابن حبان.
2-
كتاب العلل للمام الدارقطني.
3-
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر المالكي.
4-
المسند المعتلي في أطراف مسند الإمام أحمد.
5-
القبس شرح الموطأ لابي.
6-
رجال البخاري للباجي.
7-
شرح ابن رسلان لسنن أبي داود.
8-
شرح الثقات للعجلي.
9-
ترتيب الثقات لقاسم بن قطلوبغا.
10-
ترتيب الثقات لقاسم بن قطلوبغا.
11-
الإكمال للمغلطائي.
12-
الإرشاد لأبي يعلى القزويني.
13-
الأشراف لابن المنذر
14-
جامع التحصيل في أحكام المراسيل للصلاح العلائي.
15-
أحاديث الاختيار لقاسم بن قطلوبغا.
16-
التقييد لرواة السنن والمسانيد لابن نقطة.
17-
تقييد المهمل لأبي علي الغساني.
18-
الإلماع في قواعد الرواية والسماع للقاضي عياض. وقد طبع.
19-
شرح علل الترمذي لابن رجب.
20-
التحقيق في أحاديث التعليق لابن الجوزي.
21-
الاقتراع لابن دقيق العيد المالكي.
22-
تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي.
23-
إتحاف المهرة برجال العشرة للحافظ ابن حجر العسقلاني.
24-
المواعظ والحكم للمتقي.
25-
كتاب الزهد الكبير للإمام البيهقي.
وفي الختام أدعو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لخدمة السنة الشريفة وأن يغرس في قلوبنا الحب والتقدير للخدمات التي أسداها السلف الصالح ويقوى شوقنا للرجوع إلى المصادر القديمة ومراجعها بفارغ صبر.
تقي الدين الندوي
باحث شرعي
المحكمة الشرعية أبو ظبي
--------------------------------------------------------------------------------
1 بسطت ترجمته في كنابي (علم الحديث في الهند) .
التعليم المعاصر والتربية الإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد الشربيني
ماذا يقصد بالتعليم والتربية؟!
التعليم: هو عملية اكتساب المعلومات والمعارف والخبرات والمهارات عن طريق عملية التعلم التي يقوم بها المتعلم بنفسه أو عن طريق غيره (المعلم) ويتم كل ذلك بطرق ووسائل مختلفة بعضها مباشرة وأخرى غير مباشرة.
والتعليم عملية مستمرة من المهد إلى اللحد، والتعليم فرض عين وليس فرض كفاية، والتعليم ليس مجرد تلقين المعرفة ولكنه عملية تدريب وتعلم وتثقيف وممارسة والتعليم لا يقوم على الكم بقدر ما يهتم بالكيف والنوع، والتعليم ليس من أجل العلم للوظيفة أو العلم للعلم أو العلم للمجتمع، وإنما لكل هذه النواحي جميعها بحيث يجعل من الفرد شخصا مستنيرا ومتدينا ومحافظا على واجباته نحو ربه ونحو أسرته ونحو مجتمعه الصغير ووطنه الكبير.
أما التربية: فمعناها أعم وأشمل فهي مرتبطة بنمو حياة الفرد جسميا وعقليا ووجدانيا واجتماعيا وسلوكيا وأخلاقيا ويتم ذلك عن طريق الأسرة والمدرسة والبيئة التي يعيش فيها الطالب وهو في خلال ذلك يتأثر ويؤثر فيما حوله من ظروف وأحوال طبيعية وغير طبيعية بحيث تحدث عملية تفاعل وتكيف يكون لهل الأثر الكبير على تكوينه وسلوكه واتجاهاته وأفكاره ومختلف حياته في سلسلة مراحل نموه بوجه عام.
ومن هنا يتبين لنا أن عمليتي التعليم والتربية مرتبطتان ارتباطا وثيقا، فهما يتعاونان ويشتركان معا في تنشئة الطفل في مختلف مراحل حياته، وقد ينتهي به الحال أن يصبح شخصا سويا مستقيما في حياته العامة والخاصة متمسكا بدينه محافظا على مبادئه وقيمه الإنسانية الرفيعة، وقد يضل الطريق ويحيد عن الصراط المستقيم والخط المرسوم فيصبح (والعياذ بالله) عضوا فاسدا في المجتمع بعيدا عن الأخلاقيات غارقا في الماديات مليئا بالانحرافات.
ومن هنا كان لزاما علينا نحن المربين والعاملين في حقل التربية والتعليم أن نعالج هذا الموضوع الذي نحن بصدده الآن بإعطاء صورة حقيقية عن التربية الإسلامية مقرونة بالأسانيد والحقائق بما لا يتطرق غليه الشك – ذلك أن كثيرا من أهل الغرب من أوربيين وغيرهم ومن ساروا في فلكهم إنما ينسبون إليهم أصول الحضارة والمدنية والثقافة العالمية والإنسانية وأنهم أصحاب كل فكر وعلم ورأي ونظرية وكل لون من ألوان المعرفة البشرية – ولو عرفوا وأخلصوا وخففوا من تعصبهم وتأملوا في ادعاءاتهم لوصلوا إلى الحقيقة وهي أن مصدر الحضارة كلها في مجال التعليم والتربية إنما يرجع أساسا إلى التعاليم الإسلامية السمحة الواردة في كتاب الله الكريم وسنة رسوله العظيم وسير أصحابه والأئمة من علماء المسلمين والسلف الصالح.
وتحقيقا لذلك ورد في القرآن الكريم وفي آيات كثيرة ذكر الكتاب والقراءة والكتابة، والصحف والسجل والمداد وما إلى ذلك حتى أن بعض العلماء والباحثين أحصوا كلمات الكتابة ومشتقاتها مما ورد في القرآن الكريم فوجدوها تسعين كلمة ونيفا بأساليب متنوعة. ومن ذلك قوله تعالى لنبيه الكريم:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، وقوله جلت قدرته:{وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون} فأقسم بالقلم وما يخط بالقلم.
تطور الحركة التعليمية الإسلامية
أولا: فكرة الكتاتيب (وهي أولى مراحل التعليم) :
1-
تلقين الأطفال مبادئ عنى العرب منذ صدر الإسلام بتربية وتعليم أطفالهم عناية خاصة، فأبناء الخواص منهم كانوا يلقون عناية شديدة لتثقيفهم روحيا وتربيتهم بدنيا وعقليا، كما أن أبناء العوام لم يكن أمرهم مهملا. وكان التعليم في مدارس الأطفال (الكتاتيب) يقوم على القراءة، والكتابة وكان يقوم بالتعليم جماعة مخصوصة من الناس وكان لهم طرق في تعليم الأطفال المسلمين والعناية بتأديبهم وإصلاح أحوالهم وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده كتاتيب منتظمة يتعلم فيها أبناء المسلمين الأغنياء منهم والفقراء ز ومما ينبغي ذكره أنه كانت في المدينة دار تسمى "دار القرآن"أو "دار القراء"وأن بعض القراء كانوا يسكنونها ليحفظوا آي القرآن الكريم ويجودوا قراءته. ولا شك أن المرحلة الأولى (الابتدائية) في الوقت الحاضر يتعلمون فيها القراءة وأصول الكتابة العربية.
2-
ولما سارت جيوش المسلمين في فتوحاتهم خارج الجزيرة العربية برزت فكرة "الكتاتيب القرآنية"بصورة واضحة، وتعددت في كافة الأقطار والأمصار التي حل فيها الفاتحون من المسلمين. ولقد أدى المسلمون الأولون من أهل الحجاز والشام والعراق ومصر دورا كبيرا في إنشاء هذه الكتاتيب في عهد الخلفاء الراشدين، ليعلموا أبناء هذه البلاد القرآن الكريم ويلقنوهم آيات من كتاب الله المبين، وهكذا وجدت الكتاتيب بكثرة في البصرة والكوفة والفسطاط والإسكندرية والقيروان وغيرها من أمهات العواصم العربية.
3-
ولما اشتغل بنو أمية بأمر المسلمين ازدادت عنايتهم بالثقافة زيادة واضحة لتوسع رقعة الدولة وحاجتها إلى المتعلمين والمثقفين وقد نبغ في هذا العصر جمهرة من كبار المعلمين والمربين من ذوي المكانة السامية وكانت للأمويين عناية خاصة بتهذيب أبنائهم وأبناء رجالات دولتهم، فكانوا يرسلونهم إلى البادية لتفصح ألسنتهم ويستوي سلوكهم.
وقد ورد في ذكر ذلك أن قال الخليفة عبد الملك بن مروان: "أضر بالوليد حبنا له فلم نوجهه إلى البادية"، ولذلك خرج الوليد بن عبد الملك لحانة، وكذلك أخوه محمد، على عكس أخويهما هشام ومسلمة فإنهما كانا فصيحين لأنهما خرجا إلى البادية فتفصحا.
4-
أما في العصر العباسي: فلقد انتظم أمر هذه الكتاتيب بصورة فائقة نظرا لعناية الناس بأمر أولادهم من جهة ولاشتداد الدولة واهتمامها بالتعليم، بعد أن استقر لها الأمر ودانت لها كافة الأقطار. وهنا ظهرت الحركة العلمية الأدبية الدينية الفقهية وبلغت أقصى درجات التقدم والرقي في مجال العلوم الشرعية والإنسانية والعلوم التجريبية وسائر فروع المعرفة.
ويلاحظ بوجه عام أن معلمي الكتاتيب منذ العصر الأموي كانوا منقسمين إلى أربع نوعيات:
أولاهما: معلمو كتاتيب العامة الذين كانوا يهتمون بتعليم أبناء الطبقة المتوسطة وسواد الشعب.
ثانيهما: معلمو أبناء الطبقة العليا من الأمراء والأثرياء، وكان لهؤلاء المعلمين اسم يمتازون به وهو اسم "المؤدبين".
ثالثهما: طبقة كبار المؤدبين الذين امتازوا بسعة اطلاعهم في الثقافة العربية الإسلامية إلى جانب تعمقهم في ضروب العلم والأدب وسائر فروع المعرفة بما يقارب لدينا حاليا أساتذة الجامعات والدراسات العليا. ومن أمثال هؤلاء الأئمة الأعلام: سيبويه والكسائي والأصمعي وغيرهم من طبقة كبار علماء اللغة العربية ومن فقهاء الإسلام الأئمة الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة النعمان.
رابعها: طبقة العلماء الأعراب البداه: الذين ورثوا علم البادية وحفظوا أشعار البادية والقبائل العربية ورعوا أخبارها. وكان هؤلاء لهم ثقافة واسعة في اللغة العربية وكان هؤلاء يطوفون على أصحاب الكتاتيب والمؤدبين وكبار العلماء فيفيدونهم من علمهم ويستفيدون مما عندهم.
أما من حيث التقسيم الفني لهذه الكتاتيب فكانت تنقسم إلى قسمين رئيسيين:
(1)
كتاتيب أولية: وكان يتعلم الأطفال فيها مبادئ القراءة والكتابة ويحفظون القرآن ويجودونه وكذلك يتعلمون مبادئ الفقه والحديث والتفسير وأوليات الحساب.
(2)
كتاتيب ثقافية: وقد أنشئت لتعليم الأطفال والشبان علوم اللغة والآداب وكانوا يتوسعون في دراسة العلوم الشرعية وسائر صنوف العلم والمعرفة بصفة عامة.
أهداف الكتاتيب ومناهجها وبرامجها:
يبدو أن الفكرة الأولى من إنشاء الكتاتيب في صدر الإسلام كانت لتعليم الأطفال أوليات القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن كله أو بعضه. فلما انتظمت شئون الدولة الإسلامية في عهد بني أمية عنى الناس عناية شديدة بهذه الكتاتيب لتخريج طبقة من الكتاب ومستخدمي الدولة وموظفيها ورجال الأعمال خارج وداخل الدولة. وما أن جاء القرن الثاني الهجري حتى كانت الكتاتيب قد انتظمت شئونها وصار لها برامج ومناهج تطبق في كتاتيب الصبيان "البنين" وأخرى في كتاتيب "البنات" وكانت هذه الكتاتيب بوجه عام تسير وفق أنماط ثلاثة من النظم والبرامج تتلخص فيما يلي:
أولا: كانت الطريقة السائدة في معظم أنحاء العلم الإسلامي هي تحفيظ القرآن الكريم، بحيث يبدءون في إقراء الطفل للقرآن بجملته قراءة دارجة ثم يعمدون إلى تحفيظه إياه كله أو ما تيسر منه، وقد يبدأ المعلم بإعراب بعض آياته وتفسير بعضها بصورة مختصرة موجزة ثم يبدأ في ترتيله وتجويده ثم يعلمهم مبادئ العلوم والآداب التي تعينهم على تفهم معاني كتاب الله الكريم. أي أن المعلم كان يعني بحفظ القرآن وإعرابه من حيث الشكل ثم الاهتمام بالهجاء والإملاء والخط الحسن والقراءة الجيدة ولا يجوز أن يقرأ بالألحان، ولا يعلمهم التحبير (تحسين الصوت كالغناء) ويلزمه أن يعلمهم الوضوء والصلاة فهي أصل العبادات- فكلن منهجهم على أن القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من مالكات.
ثانيا: وأما أهل المغرب فمذهبهم الاقتصار على تعليم القرآن فقط ن ولا يخلطون فيه بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه وال من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه.
ثالثا: وأما أهل الأندلس فقد اهتموا بتعليم الطفل اللغة العربية والشعر والآداب حتى إذا ما برع في هذه العلوم انتقل إلى دراسة القرآن الكريم بحجة أن الطفل لا يستطيع فهم وإدراك معاني القرآن الكريم ما لم يلم بأصول اللغة العربية وآدابها. ولكن هذا الرأي مردود عليه ذلك لأنه من المتفق عليه أن الطفل يسهل عليه حفظ القرآن في السن المبكرة وربما صعب عليه ذلك في السن المتقدمة وبذلك تضيع عليه فرصة تعلم القرآن الذي هو منبع الدراسات كلها.
والرأي السائد هو ما سارت عليه معظم بلاد المسلمين في ذلك الوقت وهو الجمع بين حفظ القرآن وتلاوته وتجويده مع دراسة اللغة العربية وآدابها وقواعدها من نحو وصرف بالإضافة إلى بعض فروع المعرفة الأخرى التي توسع مدارك الطفل وتؤهله للحياة كما هو متبع حاليا في بعض معاهدنا وجامعاتنا ذات الطابع الإسلامي الأصيل.
المدارس النظامية الإسلامية
يقصد بلفظ "مدرسة "معنيان أو غرضان وهما:
المصطلح الأدبي: ويقصد به الرأي أو المذهب أو الاتجاه في فكر معين: فيقولون هؤلاء من أنصار المدرسة القديمة مثلا وهؤلاء من أتباع المدرسة الحديثة وهؤلاء من أصحاب المدرسة التقليدية (المحافظة) وهؤلاء من أنصار المدرسة المعاصرة (المتحررة) الخ أي أنه اصطلاح أدبي معنوي.
المصطلح المكاني: ويقصد به المكان المهيأ لتلقي الدروس بصورة منتظمة وفي مواعيد محددة ووفق خطة زمنية ومنهج مقرر لمرحلة معينة طبقا لأعمار الطلاب.
ويذكرنا ذلك بمطلع قصيدة الخز اعي (246) التي كان يرثي بها آل البيت وما يلقون من تقتيل وتعذيب وما أصاب معاهد العلم والدين في ذلك الوقت حيث قال:
ومهبط وحي مقفر العرصات
مدارس آيات خلت من تلاوة
وكانت هناك مدارس في القرن الرابع وأوائل الخامس من الهجرة في بلاد الإسلام شرقا وغربا وأنها كانت مكانا خاصا مهيأ للتدريس غير المسجد والكتاب ودار العلم والحكمة، وربما كانت فيها غرف يسكنها الطلاب الغرباء وكذلك بعض الشيوخ من المعلمين والمربين. ومن هذه المدارس: مدرسة بنيابور للإمام النيابوري، ومدرسة في طهران للإمام الحاتمي للتدريس على المذهب الشافعي، ومدرستان في بغداد لتعليم المذهب الشافعي، والمدرسة السعيدية والمدرسة البيهقية (بنيسابور) والمدرسة الجليلية وغيرها.
ولكن المدارس لم تأخذ صورتها النظامية بالمعنى المطلوب إلا حين أسس السلطان نظام الملك السلجوقي مدارسه في بغداد وغيرها من عواصم الدولة الإسلامية التابعة للدولة السلجوقية في عهده. ويعتبر عمل نظام الملك أول عمل رسمي قامت به الدولة الإسلامية لتنظيم الدراسة وترتيبها بتهيئة الأسباب وإيجاد المواد الضرورية اللازمة للدراسة وتحديد ميزانية مالية لها، وإعداد الرواتب والنفقات والإعانات للأساتذة والطلاب وتثبيت بعض النظم والتقاليد التي كانت غير مستقرة فعلا.
ولكن عندما حل القرن الخامس الهجري فترت الهمم وكثر الهدامون والمخربون ودعاة البدع والخرافات وأصحاب الملل والنحل. ولهذا كان عمل نظام الملك عملا جليلا صان به الحركات العلمية والأدبية والثقافية من التدهور والانحلال وسوء المصير.
غير أن نظام الملك وإن كان قد صان العلم وحفظه فإن كثيرا من العلماء في ذلك الوقت لم يكونوا يميلون إلى هذا النظام الجديد للمدارس وفضلوا عليه ما كان سائدا من قبل وهو نظام التعليم الحر في المساجد والبيوت والكتاتيب وحجتهم في ذلك إن الذين كانوا يقومون بالتعليم في النظام القديم كانوا من أرباب الهمم العالية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه، وبوحي من ضمائرهم وبصورة اختيارية لا إكراه فيها ولا لطمع مادي أو مأرب وظيفي.
والرد على ذلك أن نظام الملك اضطر إلى هذا النظام خشية انهيار الحالة التعليمية وحفاظا على العلم وأهله. وهذا يذكرنا بالدور الذي قام به الخليفة عثمان بن عفان من نسخ القرآن بعد أن تعرض الكثيرون من حفظته إلى الاستشهاد في حروب الردة.
هذه المدرسة النظامية الإسلامية التي كانت تقوم مناهجها أساسا على العلوم الشرعية والعلوم العربية وبعض العلوم الكونية والثقافية الأخرى، نريد أن يمتد أثرها إلى جميع مدارسنا ومعاهدنا في عالمنا المعاصر العربي والإسلامي بحيث تكون العقيدة والتوحيد والقرآن وهي أسس الدراسة وأن تستكمل الخطط والمناهج بألوان المعرفة الأخرى ذلك إن أردنا لشبابنا وأبناء جيلنا الإسلامي الهدى والرشاد في حياتهم الدنيا وحياة الآخرة.
ويؤكد هذا النداء ما دعا إليه مؤتمر ندوة العلماء في الهند في الشهر الماضي من إعادة صياغة المناهج التعليمية في مختلف أقطار العالم الإسلامي بصفة عامة وأقطار العالم العربي بصفة خاصة وفقا للعقيدة الإسلامية فكانت هذه من أقوى التوصيات التي لفتت أنظار العالم الإسلامي بأسره، فهي دعوة تجيء في وقتها بعد أن تبين للمسلمين والعرب أن المنهج الذي سلكوه في التربية والتعليم وأخذوه عن دول الغرب، هذا الأسلوب الوافد والمستورد كانت له محاذيره وأخطاره وآثاره البعيدة المدى في النتائج التي حدثت خلال الربع الأخير من هذا القرن. ولا ريب أن هذه المناهج التي أنشأتها معاهد الإرساليات التبشيرية وتبنتها بعد ذلك المدارس الوطنية في أغلب أجزاء الوطن العربي والبلاد الإسلامية كانت بعيدة عن روح الإسلام وتعاليمه السمحة حتى أن الإسلام كان يدرس إبان فترة الاحتلال والاستعمار على أنه دين عبادة وليس منهج حياة وأن ذلك كان له أثره في بناء العقلية والنفسية التي لم تستطع استيعاب التحديات الخطيرة القائمة وراء الاستعمار والصهيونية والشيوعية وأخطارها البعيدة المدى المهددة لكيان العالم العربي بصفة خاصة.
وإلى الحلقة التالية من هذا الموضوع الحيوي المرتبط مصيريا بتربية وتعليم شبابنا في نختلف بقاع العالم الإسلامي والله يلهمنا طريق الهدى والرشاد.
محمد الشربيني
خبير التعليم بالجامعة