المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 35 فهرس المحتويات 1- فواصل القرآن الكريم: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ١٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 35 فهرس المحتويات 1- فواصل القرآن الكريم: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح

‌العدد 35

فهرس المحتويات

1-

فواصل القرآن الكريم: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي

2-

أبو بكر الباقلاني ومفهومه للإعجاز القرآني: بقلم الدكتور أحمد جمال العمري

3-

من وحي السيرة - صور من جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة: لفضيلة الشيح محمد عبد المقصود جاب الله

4-

الحق.. أحق أن يتبع: لفضيلة الدكتور عبد المنعم محمد حسنين

5-

رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

6-

تعقيب.. لا تثريب - يا أنصار الغناء.. تعالوا إلى كلمة سواء: بقلم الشيخ محمد المجذوب

7-

قطرات من الضوء في رحلة قلم: لفضيلة الشيخ عبد الحميد ربيع

8-

أثر الإسلام في النقد الأدبي عند العرب: بقلم الدكتور عبد الحميد محمد العبيسي

9-

التعليم المعاصر والتربية الإسلامية: لفضيلة الشيخ محمد الشربيني

10-

قضية للبحث.. الإسلام وعلم النفس الاجتماعي: بقلم فضيلة إبراهيم محمد سرسيق

11-

الإسلام وتحديات العصر: لفضيلة الشيخ محمد أحمد أبو النصر

12-

من وحي القوة في الإسلام: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح

13-

الضوء القرآني على كتابة العلوي حول النبهاني: بقلم عبد القادر بن حبيب الله السندي

14-

من الجاني؟..: للعلامة الشيخ محمد سالم البيحاني رحمه الله

15-

معسكرات الإخاء الإسلامية وأبعادها: بقلم الطالب سليم ساكت المعاني

16-

حوار بين الليل والنهار: بقلم الطالب عبد الرحمن شميلة الأهدل

17-

وداع رمضان: للطالب أحمد حسن المعلم

18-

الفتاوى - الفرق بين الصدقة والهدية: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

19-

أخبار الجامعة

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 438

فواصل القرآن الكريم

لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي

من أساليب القرآن الممتعة، وتراكيبه الرصينة المبدعة فواصله (رؤوس آياته) والفواصل: جمع فاصلة، والفاصلة في القرآن: هي آخر كلمة في الآية، وهي بمثابة السجعة في النثر، وبمنزلة القافية في النظم، وسميت فاصلة لأنها فصلت بين الآيتين، والآية التي هي رأسها، والآية التي بعدها، ولعل هذه التسمية أخذت من قوله تبارك وتعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} آية 2 من سورة هود، وقوله جلّ ذكره {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} آية 3 من سورة فصلت.

ولمعرفة فواصل القرآن الكريم ورؤوس آية طريقان:

ص: 439

الطريق الأول: توقيفي سماعي ثابت من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وسماع الصحابة لها، كفواصل سورة الفاتحة؛ فقد روى أبو داود وغيره عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية، يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"ثم يقف ثم يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ثم يقف، ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم يقف، ثم يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، ثم يقف، ثم يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ثم يقف، ثم يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، ثم يقف، ثم يقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} "، وإنما وقف صلى الله عليه وسلم على هذه الكلمات: الرحيم، العالمين، الرحيم، الدين، نستعين، المستقيم، الضالين؛ ليعلم الصحابة أنّ كل كلمة من هذه الكلمات فاصلة، ورأس آية، يصح الوقوف عليها اختيارا.. وهكذا كل ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقف عليه في قراءته دائما نتحقق أنه فاصلة، ورأس آية، ويصح أن نقف عليه حال الاختيار.

وأما ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وصله ولم يقف عليه أبدا فهو غير فاصلة، وغير رأس آية قطعا، فلا ينبغي الوقوف عليه في حال الاختيار.

ص: 440

وفي القرآن العظيم كلمات وقف عليها صلى الله عليه وسلم حينا، ووصلها حينا، وهذه محل نظر العلماء، ومحط اختلافهم؛ لأن وقفه عليه السلام عليها في المرة الأولى يحتمل أن يكون لبيان أن هذه الكلمات فواصل، ورؤوس آيات، ويحتمل أن يكون لبيان صحة الوقف عليها، وإن لم تكن فواصل، ووصله عليه السلام لها في المرة الثانية يحتمل أن يكون لبيان أنها ليست رؤوس آيات، ويحتمل أنه وصلها - وهي فواصل في الواقع - لأنه وقف عليها في المرة الأولى لتعليم الصحابة أنها فواصل، فلما اطمأنت نفسه إلى معرفتهم إياها في المرة الأولى وصلها في المرة الثانية، ومن هنا نشأ اختلاف علماء الأمصار: المدينة، مكة، الكوفة، البصرة، الشام، في مقدار عدد آي القرآن، وعدد آياتها.

الطريق الثاني - لمعرفة الفواصل-: قياسي؛ وهو ما ألحق فيه غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه لعلاقة تقتضي ذلك، وليس في هذا محذور، لأنه لا يترتب عليه زيادة في القرآن، ولا نقص منه، بل قصارى ما فيه تعيين محال الفصل والوصل.

ولمعرفة فواصل الآيات رؤوسها فوائد جمة، ومنافع جليلة، منها:

1_

تمكين المكلف من الحصول على الأجر الموعود به على قراءة عدد معين من الآيات في الصلاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أيجب أحدكم إذا رجع إلى أهله وبيته أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟ قالوا: نعم، قال: فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان". رواه مسلم. والخلفات- بفتح الخاء وكسر اللام-: الحوامل من الإبل، والواحدة خلفة.

ص: 441

وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في صلاة الصبح بالستين إلى المائة". وفي مسند الدارمي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ في صلاة الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ بخمسين آية كتب من الحافظين، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بمائتين كتب من الفائزين، ومن قرأ بثلاثمائة كتب له قنطار من الأجر".

فإذا لم يكن المكلف عالما بفواصل الآيات رؤوسها ومبدئها ومنتهاها لا يتيسر له إحراز هذا الأجر، والظفر بهذا الثواب. ومن أجل ذلك كان بعض الصحابة يعقدون أصابعهم في الصلاة لمعرفة عدد ما يقرؤون فيها من الآيات رغبة منهم في نيل هذا الأجر، وحرصا على إحراز هذا الثواب.

وممن روى عنه عقد الأصابع في الصلاة ابن عباس وابن عمر وعائشة من الصحابة، وعروة، وعمر بن عبد العزيز من التابعين.

ومن فوائد معرفة الفواصل: 2_ صحة الصلاة؛ فإن صحتها - في بعض الأوقات - تتوقف على معرفة الفواصل؛ وذلك أن فقهاء الإسلام- وبخاصة علماء الشافعية- قرروا أن من لم يحفظ الفاتحة - وهي ركن من أركان الصلاة - يتعين عليه أن يأتي بسبع آيات بدلا منها، فإذا كان عالما بالفواصل استطاع أن يأتي بالآيات التي تصح بها صلاته، وإذا لم يكن عالما بالفواصل عجز عن الإتيان بما ذكر.

ومن هذه الفوائد: 3_ صحة الخطبة فإن صحتها - في بعض المذاهب - تتوقف على العلم بالفواصل؛ وذلك أن فقهاء الشافعية نصُّوا على أن الخطبة لا تصح إلا بقراءة آية تامة، فمن لم يكن عالما بالفواصل يعسر عليه معرفة ما يصحح به الخطبة.

ومنها 4_ العلم بتحديد ما تسنّ قراءته بعد الفاتحة في الصلاة، فقد نصّ العلماء على أنه لا تحصل السنة إلا بقراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، ومن يرى منهم وجوب القراءة بعد الفاتحة لا يكتفي بأقل من هذه العدد، فإنّ من لم يعرف الفواصل لا يتيسر له تحصيل هذه السنة، أو هذا الواجب.

ص: 442

إن القرآن الكريم - مع بالغ عنايته، وعظيم اهتمامه بالمعنى الدقيق، والهدف النبيل، والفكرة العميقة، والأسلوب الفذ والتركيب الرصين- لم يغفل أمر الفواصل، بل عني بها أيُّما عناية، فجعلها متناسبة متكافلة، متناسقة متآخية، لا متنافرة ولا متعادية، ومن أجل ذلك خرج عن مقتضى ظاهر الأسلوب في بعض المواطن.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في ختام آية 87 من سورة البقرة {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} فكان مقتضى ظاهر الأسلوب أن يقال: "وفريقا قتلتم"، ولكن لما كانت فواصل السورة مبنية على وجود حرف المد قبل الحرف الأخير في الكلمة قيل {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} حتى تتناسب مع بقية فواصل السورة.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في ختام آية 46 من سورة يوسف {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} كرّر كلمة (لعل) مراعاة لفواصل الآي السابقة واللاحقة، ولولا هذه المراعاة لقال:(ليعلموا) أو (فيعلموا) وحينئذ لا يكون ثَمَّ تناسب بين هذه الفاصلة وبين ما قبلها وما بعدها من الفواصل.

ومنها قوله تعالى في سورة طه {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} آية 67 قدم في الآية المفعول - وهو (خيفة) ، وأخَّر الفاعل وهو (موسى) على خلاف الأصل الذي يقتضي تقديم الفاعل على المفعول- رعاية لفواصل السورة المختومة كلها بالألف.

ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُر} 41 من سورة القمر، أخر فيها الفاعل وهو (النذر) على المفعول وهو (آل) رعاية لفواصل السورة التي بنيت كلها على الراء الساكنة.

ص: 443

ومن الأمثلة قوله تعالى في ختام آية 10 من سورة الأحزاب وهو {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ، وفي ختام آية 66 في السورة المذكورة وهو {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} ، وفي ختام الآية بعدها 67 وهو {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} زيدت الألف في ختام الآيات الثلاث (الظنونا، الرسولا، السبيلا) لتتساوى مقاطع السورة كلها، وتتناسب فواصلها، لأن جميع فواصلها ألفات. والله ولي التوفيق.

ص: 444

قضية للبحث..

الإسلام وعلم النفس الاجتماعي

بقلم فضيلة إبراهيم محمد سرسيق

المدرس في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} سورة الحشر: 19 {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} سورة ق: 16 {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} سورة فصلت: 53.

كثير من الجهلة يعتقدون اعتقادا أعمى، بأن ثقافات العصر وعلومه الحضارية إنما هي سماوات.. لا يستطيع أن يحلق في أجوائها المشتغلون بالدراسات الإسلامية بعقولهم المكدودة المحدودة، وقدراتهم وإمكاناتهم المعدودة، فكيف بالإضافة إلى حصاد الفكر العلمي في ميادينه الخصيبة؟

ونحن هنا، مستمدين من الله تعالى وحدة كل عون وهداية، نقدم للقارئ المتخصص نظرية قرآنية متكاملة، في علم من أهم علوم النفس، وهو (علم النفي الاجتماعي) ، وفي باب من أهم أبواب هذا العلم، وهو (سيكلوجية الجماهير) ، وفي فصل من أهم فصول هذا الباب، وهو (فكرة العقل الجمعي) .

ولسوف نستوثق في نهاية هذا البحث من خطل الرأي القائل: بأن العقل الإسلامي عقل (عقيم) ، وبأن الفكر الشرقي فكر (سقيم) ، وبأن الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا أبداً.

بالله ما ذنب الإسلام، يلصقون به التهم على الدوام؟؟

ما المقصود بعلم النفس الاجتماعي؟

ص: 445

هو العلم الذي يبحث التفاعل بين الفرد ومجتمعه، ويبحث سلوك الأفراد والجماعات في مختلف المواقف الاجتماعية، ونتائج هذا السلوك من حيث كونها الوسيلة إلى تكوين مختلف الآراء والاتجاهات والقيم والعادات الاجتماعية، كما يبحث أشكال التفاعل الاجتماعي، وهل هو قيادة أو خضوع أو منافسة أو تعاون أو نفاق أو تعصب.. إلخ. كما يقوم هذا العلم بمراقبة ورصد هذا التفاعل الاجتماعي في مجالات التفاعل المختلفة: كالأسرة، والمدرسة، وجماعة الرفاق، ووسائط التأثير الإعلامي، وصور الدعاية والإعلان وغير ذلك.

ومن الموضوعات الأساسية في هذا العلم:

1-

دراسة السلوك الاجتماعي السوّي والشاذ.

2-

دراسة الاتجاهات والقيم والميول من حيث تأثيرها على السلوك الاجتماعي.

3-

قياس الآراء، واتجاهات الرأي العام، ومعرفة ما يؤثر فيه.

4-

دراسة الطبيعة الإنسانية وكيف تتأثر بالوسط المحيط بها.

5-

دراسة التفاعلات الاجتماعية وكيفية حدوثها ونتائجها.

6-

دراسة التطبيع الاجتماعي للناشئة.

7-

تحليل الظواهر الاجتماعية ومعرفة أسبابها، قديمة أو جديدة.

8-

بحث مظاهر القيادة المختلفة ومعرفة أدوارها ووظائفها.

المصادر الأصيلة لعلم النفس الاجتماعي:

يرى الباحثون في نشأة هذا العلم: أنّ مصادره الأساسية تتمثل في القنوات الأربع الآتية، التي عبرت من خلالها الروافد الأولى لهذا العلم:

كتابات الفلاسفة الاجتماعيين، سواء في الحضارات الماضية أو المعاصرة، ومنهم على وجه الخصوص: أفلاطون في جمهوريته، وأرسطو في كتاباته عن السياسة والأخلاق، ومن المحدَثين: مونتسكيو، وجان جاك روسو، وغيرهما.

وأولها:

الرواد الأوائل في عل الأنثروبولوجيا: حيث يعد ما كتبوه من الأجناس، وما بدءوا به عن العمليات العقلية للشعوب البدائية، نقطة البداية في هذا العلم، من حيث اتصالها بالتراث الثقافي للإنسان.

ثانيا:

ص: 446

علماء التطور: فقد كان لاهتمامهم بالتوافق الاجتماعي وميض أنتج الخفقات المضيئة لمباحث علم النفس الاجتماعي، من ناحية تناوله بالبحث خصائص الإنسان باعتباره فردا منتميا إلى الجماعة في (وحدة عضوية) ويؤثر فيها ويتأثر بها، أو ليست الحياة التي نحياها عملية توافق دائمة؟ أو ليست يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار؟

ثالثا:

علماء الاجتماع:

رابعاً:

ويجدر بنا أن نضع في دائرة الضوء، جهود العلماء المسلمين في إرساء حجر أساس لعلم الاجتماع الذي تفرّع عنه مباشرة: علم النفس الاجتماعي. فإن ما تقرءوه الآن من (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي (870 – 950م) وحديثه عن حاجة الإنسان إلى الاجتماع والتعاون، وعن ضرورة القيادة في المجتمع، وعن الصفات الاثني عشرة للرئيس، كلها تنبئنا عن الجهد العلمي المبذول من هذا العالم في وضع اللبنات الأولى في صرح هذا العلم.

ويحدثنا الغزالي (1059-1112م) في إحياء علوم الدين حديثا موسعا عن (أثر الحكام في غرس الاتجاهات العلمية في المجتمع) وعن سبب الإقبال على دراسة أوجه الخلاف في الآراء، وعن المناظرة وما تجلبه من إحن وأحقاد بين المتناظرين، وعن صفات المعلم الواجب توافرها فيه وأولها عمله بما علم، إلى غير ذلك من آراء وخبرات هامة ومفيدة.

ص: 447

أما ابن خلدون (1332-1406م) فحدّث عنه ولا حرج! هذا هو واضع علم الاجتماع بلا مراء.. كيف لا، وهو الذي ساق نظريات علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي لم يسبق إليها! وكان له من نظره الصائب، وفكره الثاقب، ما جعله يستقرئ الظواهر الاجتماعية ذات الأصل الاجتماعي أو النفسي فيصوغ منها نظريات سديدة، دلت على قوة، دلت على عارضته، وأصالة بحثه، ودقة رصده للأحداث والظواهر على مر التاريخ! من هنا كان الرجل حقيقاً بدراسة مستقلة توضح جهده في ركام الجهل أو التجاهل عن تراث العلماء المسلمين وجهودهم الجبارة في صنع الحضارة، ومع اعتراف الغربيين بجهود ابن خلدون في وضع بذور هذا العلم، نراهم يعتبرون أوجست كونت (1798-1857م) هو المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع عندهم، يليه في ذلك جوستاف لوبون 1841-1931م) ، ثم جبريل تارد (1843-1904م) .

علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي:

هناك فرق بين كل من علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، ولكل منهما علماء وباحثون، فالأول يدرس المجتمع والثاني يدرس التفاعل بين الفرد والمجتمع، علم الاجتماع يهتم بالمجتمعات من حيث تكرار ظواهرها، وتعدد مؤسساتها وتنظيماتها، وكثرة ما فيها من طبقات أو فئات أو نظم اجتماعية تحكمها قوانين علمية، فهو يبدأ بالمجتمع البشري وينتهي به، أما علم النفس الاجتماعي فهو يلقي الضوء على (الإنسان) من خلال معايشته بمجتمعه، وليس من ناحية انفراده بذاته لأن ذلك مجال علم آخر هو (علم النفس الكلينيكي) أو علم النفس الاجتماعي هي الفرد، مرورا بالمجتمع الذي يعيش فيه، وانتهاء بالنتائج التي يخرج بها منه والآثار التي يؤثر بها فيه. وبالإضافة إلى ذلك يهتم علم النفس الاجتماعي بدراسة الآثار الثقافية الموروثة والمكتسبة للإنسان من حيث هو حلقة في سلسلة حضارية بعيدة الأمد عبر هامات القرون المتباعدة.

جوستاف ليبون وفكرة العقل الجمعي: The group Mind

ص: 448

استطاع جوستاف ليبون (1841-1931م) وهو مفكر وكاتب فرنسي مشهور، أن يضع كتابا كاملا ضمّنه أهم آرائه المتميزة في علم النفس الاجتماعي، وهو كتاب (روح الاجتماع) .

وفي هذا الكتاب عرض الكاتب فكرة تجذب انتباه الباحث في دراسته لـ (سيكولوجية الجماعات) . وقد عرفت هذه الفكرة بين الباحثين في علم النفس الاجتماعي بفكرة (العقل الجمعي) . وتتلخص فيما يلي:

- كل جماعة تتكوّن من أفراد، ولكن ليست الجماعة من الناحية النفسية هي المجموع الحسابي لأفرادها، فإنّ التشكيل الجديد الذي يتكوّن أساسا من الأفراد يتميز بخصائص جديدة لا توجد في الفرد الواحد.

- فالجماهير تختص بأن لها (عقلا جمعيا) ، يعتبر أحط في نوعه، وطريقة استجابته للأحداث، من عقول الأفراد الذين تتألف منهم الحشود الكبيرة؛ ذلك لأنهم ينزلون إلى مستوى الصفات المشتركة التي تجمع بينهم جميعا، وهي في الغالب صفات غريزية، أو أقرب ما يكون إليها، فينتج عن ذلك أن يتعطل الذكاء في الجماهير، ويصبحوا محكومين بتصرفات تلقائية هي أكثر شبها بالاستجابات اللاشعورية. لكن لماذا يقلّ الشعور الفردي بالمسؤولية؟

الجواب على ذلك: أنّ الفرد عندما يرى نفسه في جماعة يشعر بمزيد من القوة لوجوده وسط هذه الجماعة، ويترتب على ذلك عجزه عن ضبط نزعاته، بل إنّ ذلك يتيح له الفرصة للتنفيس عن رغباته ومكبوتاته، فتراه يصيح بأعلى صوته، وأحيانا بكلام غير مفهوم، أو غير مقنع، وتراه يقفز في حركات هستيرية، وينفلت عياره –كما يقلون- بهتافات عدائية، وقد يصاحب ذلك كله عمل تخريبي يعتبر مكملا للثورة الانفعالية التي تفجرت في داخل النفس وخارجها.

هذا العقل الجمعي إذن:-

أ _ يتميز بالانطلاق وعدم المبالاة بالعواقب.

ب _ يتميز بعدم القدرة على ضبط الانفعالات.

ج _ يتميز بفقدان الشعور بالمسؤولية، بصورة مؤقتة، بدليل أن المرء يندم بعد ذلك على ما اجترحه من مخالفات.

ص: 449

د _ يتميز بالاحتماء بالجماعة والشعور بالأمن في ظلها، أو بالذوبان وتميع الجرم وإمكان الهرب من خلالها. وهذا ما يطلق عليه (غريزة القطيع) .

وتتخلص سمات هذه الجماعة في:

_ أنّ أفرادها يشعرون ويفكّرون ويعملون بطريقة تخالف الطريقة التي يشعر ويعمل ويفكر بها كل فرد على حدة.

- وأنها تندفع إلى العمل بدون رويّة.

- وأنها متقلبة، تنتقل في الحالات الشعورية من حاله إلى ضدها.

- وهي متعجلة، لا تقبل وجود عوائق تمنعها عن أهدافها وهي شديدة التقبل للمؤثرات الانفعالية: تصدقها سرعة وتعمل بوحيها.

- وهي شديدة الانفعال تتطرف في عواطفها وتستجيب للعواطف الملتهبة بسهولة، وتنتقد الاعتدال والتروي، ولا تستطيع أن تتوسط بين عاطفتين: فإما أن تندفع إلى السيطرة، أو إلى الانقياد في مغالاة، ولكنّها تميل إلى المحافظة، وتكره التجديد.

- وهي تفضل البسيط من الأفكار والأقوال ذات المستوى المنطقي السطحي، والتي تعتمد على الصور الذهبية الواضحة. ومن الصعب على الجماعة أن تغير رأيا ارتأته بسهولة، ولذلك فإنها تتعصب للرأي إذا تصطنعه وتعتقد بصحته اعتقادا أعمى..

ويرى جوستاف لوبون: أن الجماعة تؤثر في الفرد، فتغيّر من صفاته الذاتية حتى يسهل اندماجه في الجماعة، إذ تسلبه الشعور بالمسؤولية الجماعية، وتزيد من قابليته للتأثر والإيحاء، ولهذا فإنّ الفرد داخل الجماعة يغلب عليه الانقياد والاندفاع، وسهولة التأثر بالإيحاء، وضعف القدرة على التفكير المنطقي الموضوعي، والنقد النزيه". [1]

وهذه الصورة التي رسمناها للجماهير ذات العقل الجمعي، نراها واضحة في أي تجمع جماهيري لأي سبب من الأسباب، تجتمع بسرعة وتنقض بسرعة، تتآلف عندما يجمعها حب الاستطلاع، وتتفرق عندما يهددها أمر كريه، وهي في جميع حالاتها بالصورة التي رسمناها توجد في التجمعات التلقائية: كالتظاهرات والمسيرات وغيرها.

ص: 450

الاهتمام بدراسة (العقل الجمعي) :

تبدو أهمية دراسة هذه الفكرة واضحة لدى:

- السياسيين، ورجال الحكم، وذلك لأنهم مهتمون دائما بمعرفة سيكولوجية الجماهير، وأسلوب تفرقها، ويبنون أحكامهم في العادة على هذه الأسس جميعا.

- كذلك يهتم المؤرخون بمعرفة طبيعة تصرف العقل الجمعي، لأن هذه الطبيعة تفسّر لهم الكثير من الأحداث التاريخية، وتشرح لهم الكثير من ردود الأفعال الجماهيرية، فيستطيعون وضع الفروض الصحيحة بناء على هذه التفسيرات النفسية الاجتماعية.

- وأيضا يرى رجال الاجتماع مائدة كبرى في دراسة العقل الجمعي وأساليبه الحركية، لأنهم يدركون من خلال ذلك كُنه التفاعلات الاجتماعية، والدوافع المستكينة وراءها، والنتائج التي أسفرت عنها، كما يدركون أسباب اختفاء (الزعامة الفردية) وسط هذا التفاعل الاجتماعي.

ماذا يقول القرآن؟

إنّنا حريصون هنا على إيراد حقيقة مهمّة، وهي أننا لسنا ممن يلوون أعناق الآيات ليخضعوها لما يريدون إثباته من النظريات. فنحن نعلم علم اليقين، أنّ القرآن كتاب هداية قبل كل شيء، وهو في أسلوب الإقناع يورد الحجج القولية، والبراهين الساطعة، مصورا وقائع الحال في أبلغ عبارة وأبدع مقال.

القرآن يكشف اللثام في آيات كثيرة عن طبيعة الأكثرية المطلقة من البشر في كل بيئة ومجتمع. فما خصائص هذه الأغلبية، وكيف نتعامل معها؟

أ _ إنّ أكبر مساوي السواد الأعظم من البشر هو الجهل، ونقصان المعرفة، والقعود عن تحصيل العلم من طرقه المشروعة، ولأهدافه الموضوعة:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} النحل 28، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} النحل 101، {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} سبأ 36.

ص: 451

ب _ ومن مساوئ هذه الجماهير الغوغائية أنها لا تحكّم العقل في تصرفاتها فهي مندفعة متهورة عشوائية: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} العنكبوت 63، {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} النجم 28، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} الأنبياء 24.

ج _ والجمهرة الكاثرة من الناس لا تسمو عواطفهم إلى درجة العرفان بالجميل، وشكران النعمة للمنعم، فقد أخلدوا إلى الأرض، واتبعوا هواهم، وغرّتهم أموالهم وأهلوهم فكفروا بنعمة ربهم:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} النحل83. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً} الفرقان 5.

د _ والغالبية من الجماهير العريضة تمثل قاعدة الاستهلاك المبني على الحياة الحيوانية الصرفة الخالية من العبادة لله، والتسبيح بحمده، والتوجه بالشكر إليه:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} محمد 12، {إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} الفرقان 44.

هـ_ وترى قاعدة الجماهير المتسعة أبعد ما تكون عن النوازع الروحية فيها، لأنها أكثر انجذاباً إلى الباطل واللهو:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِما} الجمعة 11، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} يوسف 103، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} الأنعام 116.

ص: 452

و _ وتتصف الأغلبية المطلقة بأنها مستورة العقيدة، في حاجة إلى اليقين مما تدين به لترى أهي قريبة أم بعيدة من صواب الاعتقاد:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} يوسف 106.

من هنا كانت حاجة السواد الأعظم إلى مراجعة العلماء، واستفتائهم فيما يقعون فيه من خطايا وأخطاء، ليكونوا دائماً على ذكر من الحق فيما يأخذون وما يدعون:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} الأنبياء 7.

ولقد كرّمنا بني آدم:

ولقد يتساءل البعض، بعد كل ما قدّمناه من نصوص حول رأي القرآن في الأكثرية، ومعتقداتها، ومسالكها، ومدى صحة مسيرتها الحيوية في دنياها، ألا يتعارض هذا مع قول الله تعالى في سورة الإسراء {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ، والحقيقة أنه تكريم إلهي طيِّبٌ لبني آدم على الإجمال، وتمييز لهم على من سواهم من العوالم الأخرى في هذا الكون، وإيثار للجنس البشري بميزات اختصّ بها دون غيره من سائر الأجناس.

لكن موضع استشهادنا هو ضرورة أنّ يتميز كل جنس بفئة آمرة ناهية، وهذه الفئة هي التي تصرّف شئون المجموع، وتقود زمام الحركة والنشاط فيه، وتتحمّل مسؤولياتها من أجل ذلك أمام الله تعالى.

الجود يفقر والإقدام قتال

لولا المشقة ساد الناس كلُّهُمُ

ص: 453

وهذه الفئة هي التي نصبها الله للقيادة والريادة، بحكم ما منحه لها من مؤهلات الحكم وصلاحيات التوجيه والنظر، ولكن يقابل هذه الفئة من الجهة الأخرى أكثرية محكومة، بالعدل كما أمر الله، وليس لها أن تطمع فيما هو أكثر من ذلك؛ لأن لها من ميادين النشاط والتسابق والتنافس والإنتاج ما تحتل به مكانها الطبيعي فوق الكوكب الأرضي:{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} (سورة المزمل) ، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (سورة الملك) .

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

فالصفوة الحاكمة هي التي تقيم العدل، وتحمي بيضة الدين، وتذود عن العرين كل من تسوّل له نفسه انتهاك حرمة المسلمين. وهذا الحق في يد الصفوة الحاكمة لم تنله عنوة ولكن نالته بإجماع الأمة، ورغبتها عن طواعية:"اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد"، "يد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".

الماركسيون ودكتاتوريوية الطبقة:

بعد التحليل الذي أوردناه لطبيعة العقل الجمعي في الجماهير.. نجد مظاهرة صاخبة يرفع لواءها في هذه المرة (كارل ماركس) اليهودي الأحمر.. باكياً بدموع التماسيح على الآمال المفقودة لهذه الجماهير الكادحة الجماهير (المنسحقة) .. الجماهير (المطحونة) .. وكلها تعبيرات ماركسية!.

يريد الماركسيون أن يتاجروا بدموع الفقراء ويجعلوا منها (قميص عثمان) مرفوعاً على أسنّة الرّماح.. مدّعين أنّ من حق هذه الجماهير أن تثور، وأن تصارع الطبقات الغنية (البرجوازية) حتى تصرعها! ، وبهذا الصراع الدموي تنحلّ التناقضات الموجودة في رحم المجتمع، وتتمكّن الطبقة العاملة من السيطرة على الحكم، وفرض الفردوس الشيوعي المزعوم.. بقوة الحديد والنار!.

ص: 454

والتساؤل هنا مرتبط بالعقل الجمعي لهذه الجماهير المطحونة الكادحة، هل استطاعت أو تستطيع هذه الجماهير، ذات العقل الجمعي المنخفض، الذي يوازي في قدراته درجة دقل من عقل الفرد المتوسط في الذكاء أن تمسك دقة الحكم؟، وتضع في يدها صولجان القيادة؟، وتصبح قادرة على تحقيق آمال ومصالح الناس؟.

متى حدث ذلك؟ وفي أي عصر من عصور التاريخ ثبت نجاحه وفلاحه؟ وكيف تستطيع عقول غوغائية حاقدة حاسدة، جاهلة متعصبة لما هي عليه من جهل أن تنتزع الحق من أصحابه الشرعيين في أي قطر، لتشبع نهمها إلى الانتقام والبطش وسفك الدماء والتحكم في الأبرياء، وتشريد العجزة والأطفال والنساء، حقاً: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة!.

إنه لا معنى لسيطرة الجهلاء والدهماء والرعاع والسفلة إلاّ سيادة الشهوات وتسلط الرغبات الهائجة في أحط الفئات، وقلب الأوضاع، وزيادة الأوجاع.. وحوَّل المجتمع إلى قطيع من الذئاب يذوق بعضه بأس بعض!

إنّ طبقة البروليتارية، كما سماها ماركس، أعجز من أن تقوم بنفسها، لتحقيق هذا الانقلاب الدموي. ومن هنا أضاف لينين إلى النظرية الماركسية "ضرورة أن تتصدر طليعة الحزب للقيام بهذا الجحيم الأحمر، فتعود المظاهرات وتخرّب المنشآت، وتثير القلاقل والمنازعات، وتقوم بتوزيع النّشرات على مختلف الفئات، بحكم ما تتمتع به من قدرة على تحقيق أهدافها، ومرونة في استخدام الوسائل المناسبة مشروعة أو غير مشروعة"! أي أنّ هذا العقل الجمعي الخامد، الخامل، العاجز عن أيّ تصرّف إيجابي منظّم، يجد في ظلّ النظرية الماركسية من يقوده، ويوسّع خطواته على طريق التخريب، حتى يقع في النهاية صريع المنتفعين من قادة الحزب!.

دعوة القرآن للإصلاح الاجتماعي..

ص: 455

يجب أن يعلم القاصي والداني، أنّ الإسلام لا يترك العقل الجمعي الخامل هذا دون تحريك وإيقاظ، لا من أجل الشر الذي تنسج الماركسية خيوطه بدأب شديد، ولكن من أجل الإصلاح الاجتماعي، لخير البشرية وقيادة خطاها من أجل عالَمٍ مِلؤُهُ الأمن والسلامة والرخاء، يقول الحق تبارك وتعالى:{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} سورة النساء.

ويقول سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} سورة الحجرات. ويقول تبارك أسماؤه: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} سورة النساء.

العقد الجمعي الإسلامي

يقول عزوجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} سورة الحجرات.

إنّ المتصفح لكتاب الله تعالى يجد الكثير من الآيات الداعية إلى الإصلاح الاجتماعي بجميع ألوانه وأشكاله القديمة والمعاصرة. إنّ الإسلام لا يترك الجماهير سادرة في غيِّها، متنكبة طريق هداها، بل إنه يقوِّمُ اعوجاجها، ويهديها سبيل رشادها، ويفتح أعينها على حقائق الكون المضيئة من حولها، ويبصّرها بالنور في كتاب الحياة الذي نطقت سطوره، وتوهج نوره، ولمعت أساريره {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} ، {إِلَاّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

ص: 456

فلتكن للجماهير المؤمنة بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر طريقتها في نبذ الغفلة عن الله، والرجوع إلى تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والانشغال بعيوب النفس عن عيوب الغير، والأخذ فيما هي ماضية فيه وساعية لأجله من نشر دين الله، وإصلاح العقيدة في الله، وربط النفوس بشريعة الله.

إنّ الجماهير المسلمة تتحرّك في سلمها وحربها على هدى من الله، وبتوفيق منه سبحانه، ومن ثَمّ فإنّ أكثريتها المطلقة تتمتع ببصيرة مستمدة من شريعة الإله الحق لجميع الخلق، ومصداق ذلك قول الرسول الكريم:"لا تجتمع أمتي على ضلالة".

والعقل الجمعي في مجتمعات الإسلام ليس عقلا غوغائيا، ولا عشوائيا؛ لأنه عقل ملتزم بتوجيهات الكتاب والسنة "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" أخرجه البخاري. وهو عقل جمعي إيجابي نشيط، وليس سلبيا خوّارا: "من ردّ عن عرض أخيه بالغيب ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة" أخرجه الترمذي وحسنه.

والعقل الجمعي الإسلامي عقل متعاون لا متصارع، متآلف لا متحاسد: يقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة "2". ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" أخرجه الترمذي وصححه.

ص: 457

والفرد المسلم إزاء هذا العقل الجمعي عقل يقظ حذر، لا يذوب فيه، ولا يفقد استقلاله معه، ولا يهمل تقويمه وتصحيح الخطأ الذي يقع فيه، ولا يكون عاملا من عوامل تفتته:"المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدوره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" أخرجه مسلم. والمسلم لا يفقد الشعور بالمسؤولية أبداً.

إنه أمام خالقه مسؤول دائما وباستمرار عن نفسه، وعمّن يعول، مسؤول عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، مسؤول عن إخوانه المسلمين أن يخالطهم ويعاشرهم ويعاملهم ويصبر على أذاهم:"المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" أخرجه ابن ماجه.

والمسلم في خِضَمِّ هذا العقل الجمعي كذلك لا يفقد اتزانه، ولا تهزمه حدة انفعالاته، حيث يقول صلى الله عليه وسلم "العجلة من الشيطان" أخرجه الترمذي وقال: حسن. ويقول أيضا "ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق" أخرجه أبو داود والترمذي وصححه.

من هذه الأدلة والنصوص يتضح الدور الخطير الذي قام به الإسلام في ترقية الجماعة البشرية والسمو بها فوق نظائرها من أتباع الملل الأخرى. ألا وإنّ روح الإسلام تسري في حنايا المجتمع المسلم فتضيء قلبه، وترشد حواسه وجوارحه إلى أمثل الطرق وأهدى السبل، فيسير على الجادة في غير عوج، ويصبح قدوة لغيره من المجتمعات الأخرى في المعتقدات وألوان السلوك المتعددة {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ، وسوف تتهذّب مسالك الشعوب والأقوام إذا تناولت هذا السراج الوهاج بروح الإنصاف، واستضاءت بما فيه من قِيَمٍ وأهداف، واستخرجت من أحكامه وحكمه الكنوز التي تفاخر بها أمة الإسلام غيرها من الأمم..

إبراهيم محمد سرسيق

المراجع

ص: 458

- القرآن الكري. م

- كتب السنة المعتمدة.

- د. مصطفى فهمي، د. محمد علي القطان: علم النفس الاجتماعي مكتبة الأنجلو المصرية "1395"هـ.

- د. علي أحمد علي: سلوك لإنسان. مكتبة عين شمس بالقاهرة "1392"هـ.

- عبد المجيد عبد الرحيم: علم النفس الاجتماعي. مكتبة النهضة المصرية "1390"هـ.

- د. عبد العزيز القوصي: علم النفس مكتبة النهضة المصرية "1375"هـ

- د. عبد السلام عبد الغفار: علم النفس "مذكرات مدونة لطلاب كلية التربية بجامعة عين شمس بالقاهرة".

الغزو الشيوعي

إنّ الدولة الشيوعية كانت سخية جدا في تقديم المنح والبعثات الدراسية لأبناء تلك المنطقة، وإنّ وعي الشيوعية الكبير جعلهم لا يفكرون في إنشاء دور تعليمية وجامعات في البلاد العربية، ولا حتى مساعدة الدول العربية في هذا المجال؛ لأن الشيوعية لا يؤمنون بجدوى ذلك، لأن المجتمع هناك إسلامي ولا يمكن لأي جامعة أو معهد أن يؤتي أكله وثماره التي يريدها الشيوعيون في مجتمع مثل هذا. والشيوعيون لا يريدون مساعدة العالم العربي حبا في عيونه، ولكن لأهداف بعيدة ولخدمة الحركة الشيوعية التي تريد أن تطوق الإسلام وتقتله، ولا يمكن لهذه الأهداف أن تتحقق إلاّ بخلق كادر من شباب تلك المنطقة يستعبدون أرواحهم، ويحيلونهم إلى دمى تتحرك بأزرار مثبتة في موسكو، لذلك فإنّ أمثل مكان يمكن فيه صناعة مثل هذه الدمى بكل المواصفات اللازمة هو الدول الشيوعية نفسها؛ لأنّ هناك كل شيء معد ومرتّب ومدروس، وذلك لبلبلة أفكار الشباب، وضعضعة إيمانهم، وجرّهم في منعطفات ومزالق الشهوة، ثم بعد ذلك تلقينهم الأفكار الإلحادية، نعم إنّ خير مكان هو الدول الشيوعية نفسها، والتي تكتظ الآن بالآلاف المؤلّفة من أبناء الدول العربية والإفريقية.

مجلة المجتمع العدد 308 الثلاثاء 16 رجب 1396 هـ

ص: 459

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

عبد المجيد عبد الحليم: علم النفس الاجتماعي ص62 مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة

ص: 460

الإسلام وتحديات العصر

لفضيلة الشيخ محمد أحمد أبو النصر

المدرس بمعهد الجامعة الثانوي

انتصر الإسلام بمبادئه الروحية، وقوة عطائه، وتحدّيه لأصحاب ديانات حرفوها بأفكارهم وفلسفاتهم، وانتصارهم لماديات طاغية، ولم يتمكّنوا من التعادلية بين المادة والروح، واستمر ركب التاريخ في مسيرته، تنهض دول وتنتصر بفضل قلوب عامرة بالإيمان، وتموت دويلات بالإغراق في الترف والفجور، تلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وجاء على لسان ابن حزم: "إنّ الله عز وجل رتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبداً، ولا يمكن تبدلها عند كل ذي عقل، كطبيعة الإنسان بأن يكون ممكناً له التصرف في العلوم والصناعات إن لم تعترضه آفة، وطبيعة الحمير والبغال بأنه غير ممكن منها ذلك، وكطبيعة البُرِّ أن لا ينيب شعيراً ولا جوزاً، وهكذا كل ما في العالم والقوم مقرون بالصفات وهي الطبيعة نفسها.. وهكذا كل شيء له صفة ذاتية فهذه هي الطبيعة.

ومع استقراء أحداث التاريخ نجد أنّ سنن الكون وطبائع الأشياء لا تتناقض مطلقا.

ص: 461

فهذا هو سيد البشرية وإمام الهداة والمصلحين استطاع في فترة وجيزة لا تربو على ربع قرن من الزمان أن يسحق إمبراطوريتين من أعظم إمبراطوريات العالم بقادة عظام صنعوا هذا التاريخ العظيم، ويقلب التاريخ رأسا على عقب، وأن يكبح جماح أمة اتخذت الصحراء المحترقة سكنا لها، واشتهرت بالشجاعة ورباطة الجأش والأخذ بالثأر، ولم تستطع الدولة الرومانية أو الدولة الفارسية أن تنتصر على الأمة المسلمة. وليس أدنى شك عندي أو عند أي مؤرخ منصف أنّ القوة الخارقة للعادة التي استطاع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقهر بها أعداءهُ هي من عند الله. كان محمد صلى الله عليه وسلم هو أول قائد في الإسلام.. حقيقة لا مرية فيها.. النبوة كانت أولا.. ثم القيادة.. إنّ الرسول العظيم لم ينشأ قائدا، ولم يدخل كلية حربية، ولكنه اضطر إلى القتال حتى يدفع الأذى عنه وعن أهله وصحبه، فالقيادة عند رسولنا لم تكن هواية أو احترافاً، وإنما كانت مسؤولية تاريخية حتمية فرضتها مصلحة الدعوة، واحتياجات الدفاع، وحماية المؤمنين، الذين صبّ عليهم المشركون العذاب صبّاً.

وهو - في مركز القيادة - لم يبدأ أحدا بالعدوان، ولم يحارب إلا للدفع، ولا جرم أن كان من الخير أن يشرع استعمال القوة لحماية السلام من أعدائه في الداخل والخارج {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [1] ..

والإسلام فأول ما يلاحظ فيه اشتقاق اسمه من مادة السلام، فالإسلام والسلام من مادة واحدة.

ص: 462

ومن أسماء الله في القرآن "السلام"{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [2] .

وتحية أبناء الإسلام حين يلتقون "السلام عليكم ورحمة الله"، وهي تحية لنبيه في الصلاة "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".

وباب من أوسع أبواب المسجد الحرام في مكة، وأحد أبواب المسجد النبوي في المدينة المنورة يسمى "باب السلام"، وجنة الخلد وهي مثوى المؤمنين الصالحين في الحياة الآخرة تسمى "دار السلام":{لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [3] بل إنّ من يتبع آيات ربنا الباهرات في القرآن المجيد يجد أنّ لفظ "السلم"وما اشتق منه ورد فيما يزيد على 133 آية. بينما لم يرِد لفظ الحرب في القرآن كله إلا في ست آيات فقط.

ويصرّح كتاب ربنا بأنّ الأمل المرجو والهدى المطلوبة من اتباع الإسلام هو الاهتداء إلى طرق السلام والنور {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [4] .

فالإسلام دين سلام.. وقد أمر الله رسوله أن يدعوا الناس كافة إلى عبادة الله، وأن يكون سبيله إلى ذلك الحكمة والموعظة الحسنة، وليس العنف والإكراه والقتال" {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [5] .

ص: 463

وهذه الحضارة الإنسانية التي بزغت بمولد الرسول الكريم هي التي وقف في طريقها (شارل مارتل) ، وكان الغربيون الذين لا يعرفون شيئا عن الإسلام يمجّدون هذا القائد بل يقدسونه، فلما ظهر فيهم من أدرك أهداف الرسالة الإسلامية السامية، وعرف حقيقة دعواها، وعظيم فحواها، تغيّر حكمهم على تلك الحادثة التاريخية واعتبرها كثير من المستشرقين انتكاسة للإنسانية، والحضارة يوم أن انتصر شارل مارتل على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي في معركة (تور) وتقوقعت الحضارة الزاهية في الأندلس بعد أن نشرت العلم والحضارة والنور، وقال مسيو هنري دي شامبون:

"لولا انتصار جيش شارل مارتل الهمجي على تقدم العرب في فرنسا، لما وقعت فرنسا في ظلمات القرون الوسطى، ولما أصيبت بفظائعها، ولا كابدت المذابح الأهلية الناشئة عن التعصب الديني والمذهب، ولولا ذلك الانتصار البربري على العرب لنجت إسبانيا من وصمة محاكم التفتيش. ولولا ذلك لما تأخر سير المدينة ثمانية قرون. نحن مدينون للشعوب العربية بكل محامد حضارتنا: في العلم، والفن، والصناعة، مع أننا نزعم السيطرة على تلك الشعوب العريضة في الفضائل، وحسبها أنها كانت مقال الكمال البشري مدة ثمانية قرون، بينما كنا يومئذ مثال الهمجية. وإنه لكذب وافتراء وما ندعيه من أنّ الزمان قد اختلف، وأنهم صاروا يمثلون اليوم ما كنا نمثله نحن فيما مضى".

ص: 464

وتوالت علينا الحروب من مغولية وتترية وصليبية بهدف القضاء على الإسلام، ونحن لا ننكر الحقيقة التاريخية المؤلمة، إنّ المسلمين استكانوا للدعة والترف وحب الحياة وكراهية الموت، وبهرتهم الحضارة المادية الأوربية، فأصابهم الوهن والضعف والخور. وواجه أبناء الأمة الإسلامية التحديات التي وجهت إليهم ابتداء من الحروب الصليبية، حتى زرع إسرائيل في قلب العالم الإسلامي، وتوالت الهزائم والنكسات على العرب والمسلمين، ومزّقوا شرّ ممزّق نتيجة ابتعادهم عن كتاب الله وسنة رسول الله.. وفي صبر ومعاناة وعودة إلى ربهم كانت لهم ضربة في شهر رمضان المعظم أثارت إعجاب العالم وأعادت للمسلمين بعض هيبتهم، وحقق الإنسان المسلم بعض أمل كان يراود شباب هذا الجيل.. وغدا يحقّق حضارته وأمجاده القديمة، وتقول زيجربد هونسكه:

"إنّ هذه الطفرة العلمية الجبّارة التي نهض بها أبناء الصحراء ومن العدم من أعجب النهضات العلمية الحقيقية في تاريخ العقل البشري، فسيادة أبناء الصحراء التي فرضوها على الشعوب ذات الثقافات القديمة وحيدة في نوعها، وإن الإنسان ليقف حائراً أمام هذه المعجزة العقلية الجبارة، هذه المعجزة العربية التي لا نظير لها والتي يحار الإنسان في تعليلها وتكييفها.

إذ كيف كان من المستطاع أنّ شعباً لم يسبق له أن يلعب دوراً سياسيا أو ثقافيا من قبل يظهر بغية إلى الوجود، ويسمع العالم صوته، ويملي عليه إرادته، ويفرض عليه تعاليمه، وفي زمن قصير أصبح نداً لليونان. إنّ هذه المنزلة التي بلغها العرب أبناء الصحراء لم تبلغها شعوب أخرى كانت أحسن حالا وأرفع مكانة".

ص: 465

إنّ أصواتا كثيرة ترتفع في العالم الإسلامي مطالبة بالعمل الجاد المستمر على بعث تراثنا الخالد، وحضارتنا العريقة، حتى يقف العالم على المساهمة الفعالة لعلمائنا خلال أزمان سحيقة وعصور وسيطة، مما دفع (روجر بيكون) في محاضرة له في جامعة اكسفورد يعلن على العالم "إنّ وجود الفكر الأوربي والعلم الأوربي كان مستحيلا لولا وجود المعارف الإسلامية. لقد هبت أوربا تواجه الحياة وهي مدينة بكل مقوماتها إلى العالم الإسلامي".

وفي أول مؤتمر عن الحضارة العربية والإسلامية والأمريكية الذي عقد في (واشنطن) خلال شهر شوال 1396هـ، واشترك فيه علماء من الدول الإسلامية والعربية، قدم البروفيسور (وليام لوكتنزج أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا) :

".. أنه بالنسبة للأمريكيين فإنّ العرب أناس يعيشون خارج التاريخ، ورغم الحضارة الإسلامية التي تمتد بذورها إلى آلاف السنين، فإنّ جميع المؤرخين الأمريكيين وبلا استثناء ومهما كان موضوع الدراسة أو البحث كانوا لا يذكرون للعرب والمسلمين تاريخا أو حضارة أو تأثيرا على الحضارات الأخرى، وأرجع هذا الجهل للعلماء الأمريكيين العميق بتاريخ العرب والمسلمين، ولكنه حمل العالم الإسلامي جزءا من هذه المسؤولية"، واختتم محاضرته قائلا:

ص: 466

"لأول مرة وبصورة فعّالة بدأ الأمريكي المثقف يدرك العالم العربي، ويعرف أشياء عن العالم العربي والديانة الإسلامية، وبينما كان العربي يصوّر في الماضي على أنه معدم فقير، تغيّرت الصورة إلى العربي الذي يشتري قصراً في لندن إذا لم يجد حجرة خالية في فندق، وتمنى أن يتمكن علماء من العالم الإسلامي والأمريكاني من إمكانية التفاهم وتبادل الحضارتين، ومنذ أيام نشرت الصحف أنّ إسرائيل قامت بإصدار سفر ضخم تمتهن فيه عقليات العلماء، وتحاول طمس التاريخ وتزييف الحقائق حول التراث الحضاري للبشرية. وقد أصدرت دور النشر اليهودية كتابا جديدا حول التراث الحضاري للبشرية ثم ترجمته إلى لغات العالم، ويدور هذا البحث حول إيهام العالم أن اليهود هم أصحاب الدور التاريخي في بعث الحضارة، أمّا العرب فهم أعداء الإنسانية بل أعداء الحضارة البشرية!

وقد أذاعت وكالات الأنباء أنّ علماء المملكة العربية السعودية قد هبوا مشكورين للدفاع عن قصة الوهم الملفقة لليهود، وطالبوا علماء الإسلام في كل مكان للرد على هذا الكتاب، وإعداد أبحاث تاريخية علمية تتضمن الحقائق الثابتة عن حضارة العالم.. وأنّ المؤرخين المعاصرين قد أسعدهم تقديم الإمكانيات العلمية والمادية من المملكة العربية السعودية حتى يتمكنوا من كشف الزيف التاريخي واختلاق وقائع مدسوسة لإقناع الجيل الجديد من شاب العالم بأن اليهود هم صناع الحضارة في العالم. مع العلم بأنّ العالم ودارس التاريخ يعلمان تماما أن اليهود ليست لهم حضارة على الإطلاق كما يؤكد ذلك المؤرخ الأوربي جوستاف لوبون.

ص: 467

وأنا أقول أنّ اليهود لهم تاريخ عريق في الحضارة، ولكن في الوحشية وبقر بطون الحوامل، وسفك دماء الأنبياء قديما، وقتل الشيوخ والأطفال في دير ياسين وفلسطين حديثا، وما زالت أصابع الصهيونية تؤدي دورها في هدم حضارة العالم، وتمييع أخلاق الشباب، وإفساد أخلاقيات كبار المسؤولين حتى تتمكن من السيطرة وفرض نظريات التلمود.. أنّهم شعب الله المختار!.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

سورة الحج الآيتان 40، 41.

[2]

سورة الحشر الآية 23.

[3]

سورة الأنعام الآية 127.

[4]

سورة المائدة الآيتان 15-16.

[5]

سورة النحل الآية 125.

ص: 468

من وحي القوة في الإسلام

لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح

الإسلام دين أحيا الله به قلوبا أماتتها الشهوات، وأنقذ به عقولا سممتها الشكوك والشبهات، وأحل به من الأغلال، أفكارا قيدتها الخرافات وسجنتها التخرصات، وجدع به أنوفا شمخت بها الجاهلية الجهلاء..

وهو دين ينشط الإنسان للعمل، ويحث على طلب العلم، ويدعو لاحترامه واستثماره..

وهو دين العقيدة الرائقة، التي تطهر النفس، وتزكي القلب، وتربي الخلق وتغذي العقل، وتوقف الغريزة عند حدها، وتعطي مطمح من مطامح الإنسان معناه الذاتي وسيره الطبيعي..

والإسلام عقيدة استعلاء.. تبعث في روح المؤمن الإحساس بالعزة من غير، وروح الثقة من لير اغترار.

وهذه العقيدة الإسلامية.. كفيلة بتعديل القيم والموازين، والحكم والتقدير والمنهج والسلوك، والوسائل والأسباب.

والإسلام بجانب هذا.. دين المسالمة مع المسالمين، والردع للمعادين.. نور يهدي.. ونار تحرق الطغاة الآثمين يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا جد الجد كان الصخرة التي يتحطم عليها كل جبار عنيد. ويطلب من المسلمين أن يكونوا على حذر في وقت السلم، حتى لا يؤاخذوا على غرة.. ويدعو المسلمين إلى الاستشهاد من أجل عزة الإسلام، ولا يعدل الجهاد في سبيل الله، مال، ولا ولد، ولا والد ولا عشيرة، ولا أهل.. والدفاع عن العقيدة والبلاد الإسلامية، من أسمى أهداف الإسلام. ولهذا كله قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [1] .

ص: 469

فالاستعداد بما في الطوق.. فريضة الجهاد في سبيل الله. والإسلام يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وأسبابها.. قوة العقيدة لأنها أسس الفضائل، وقوام الضمائر، وسند العزائم في الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة، ونور الأمل في الصدور، وعزاء القلوب إذا نزلت بالإنسان نازلة..

والأمة الإسلامية في هذا العصر، الذي تكالبت فيه قوى الإلحاد، والمذاهب الهدامة، في أشد ما تكون إلى قوة العقيدة. وبالعقيدة القوية.. نستطيع أن نواجه تحديات العصر المسعورة من شيوعية، واشتراكية، وتقدمية، وثورية، وحتمية، وغيرها من ألفاظ قاموس الفكر الإلحادي الماركسي..

وقد تعلمنا من المعارك التي خاضها المسلمون، وانتصرت فيها الجيوش الإسلامية.. سواء في غزوة بدر أو القادسية، أو اليرموك، أو حطين أو عين جالوت، أو العاشر من رمضان تعلّمنا: أن الوسائل المادية ليست وحدها هي التي تفصل في المعارك. ولا يوجد ما يصون الاستعداد العسكري إلا العقيدة؛ لأنها هي التي تربط القلوب بالله، وتصل قوة المجاهدين بالقوة الكبرى التي لا تغلب..

ولو انتظر المسلمون في غزوة بدر الكبرى، حتى تتكافأ قوتهم، وقوة خصومهم، ما قامت للمسلمين قائمة.. إنما القلة المؤمنة بعقيدتها.. استعدت بقدر ما استطاعت، ثم خاضت المعركة فكان فيها الفرقان.. قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [2] .

ص: 470

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [3] .

وفي هذه الآية ينادي رب العزة الذين آمنوا.. وخطاب المسلمين المؤمنين بصيغة {الَّذِينَ آمَنُوا..} هو أمثل أنواع الخطاب، إبانة لحقيقتهم، هذا بجانب ما ينطوي عليه الخطاب من الدلالة على السمو والفضل..، وفي النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} زيادة إيناس وتكريم للمؤمنين بعقيدتهم. وأحب شيء إلى الإنسان هو: أن تناديه بما يدل على تكريمه. والله سبحانه وتعالى يُشعِرُ بهذا النداء المؤمنين بأنه يخاطب أقرب الأشياء إلى المسلمين. فما في الإنسان شيء أقرب إلى الله من الإيمان به..

والله سجانه وتعالى حينما يتوجه إلى المؤمنين من خلال إيمانهم، بصيغة فعل الأمر مثل قوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ..} ، أو بصيغة النداء مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} يكون التالي تعليما بموجبات هذا الإيمان، وحثا على القيام بها، في أي شأن من الشؤون، وفي أي درب من ضروب الحياة..

ومن هذا ندرك أنّ الإسلام قد انطوى على طاقة فعّالة، جعلت منه قوة هائلة، بل إنّ فاعلية الإسلام شملت حياة المسلمين في جميع جوانبها..

فما أجدر أبناء الأمة الإسلامية، أن يهتموا بتعاليم الإسلام، وآدابه، ويتمسكوا بما جاء به من التوجيهات وإرشادات..

ص: 471

وللأمة الإسلامية في عقيدتها، قوة لا تدانيها قوة في القضاء على تخويف الملاحدة، وسماسرة الشيوعية [4] .

والله سبحانه وتعالى يعلم أنّ هذه الأمة لن تجد الطريق ميسّرة لها، وممهدة لنشر مبادئها.. ويعلم أن الباطل من دأبه أن يزداد شراسة وتنمرا، كلما وجد الحق تعلو كلمته.. محاولا القضاء على الحق، وأهله، في غير مبالاة لعهد أو قرابة أو إنسانية..

وحينئذ لا بد أن يتخذ أهل الحق عدتهم، ويحموا أنفسهم ودينهم، ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمته بالاستعداد الدائم والرباط المستمر.. تلبية لأية إشارة واستجابة لأول دعوة إلى الجهاد. [5] .

والتاريخ العربي قبل الإسلام.. حافل بذكر أقاصيص الحروب التي كانت تنشب بين القبائل العربية، كحرب البسوس، وحرب داحس، وحرب الغبراء، وغيرها، على النحو الذي أصبحت معه تلك الحروب من خصائص المجتمع العربي في العصر الجاهلي.. وكان الدافع لشن تلك الحروب، الرغبة في المغامرات طلباً لمغنم، أو تحقيقا لزعامة، أو طلبا لثأر، أو رداً لاعتبار، أو نزعة حيوانية.

على أنّ هذه الأنماط من الحروب، ذات الطبيعة الاعتدائية، باتت تتغير وتنحصر، مع انتشار العقيدة الإسلامية ودخول الناس في دين الله..

حيث أنّ المسلمين أنفوا أن يتخذوا من الحروب وسيلة للإيذاء، وأداة للثأر والاعتداء. وإنما الظروف القاسية ألجأت المسلمين إلى تكثيف القوى، وتجميع الطاقات..

وذلك أن قوى الشر والضلال.. تعمل في هذه الأرض.. والمعركة مستمرة بين الخير والشر.. والصراع قائم بين قوى الإيمان، وقوى الطغيان منذ خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذا الوجود..

ص: 472

والشر جامع، والباطل مسلح، وهو يبطش غير متحرج، ويضرب غير متورع. فلا بد للحق من قوة تحمي من البطش، وتقي من الفتنة، وتحرس من الأشواك والسموم.. ولم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يترك الإيمان والحق والخير دون قوة، تكافح قوى الطغيان والشر والباطل والإلحاد..؛لأن القوة التي يملكها الباطل، قد تزلزل القلوب، وتفتن الناس، وتزيغ الفطر.. ولهذا أمر الله المسلمين بإعداد القوة، فقال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [6] ..

وعندئذ أذن الله للمسلمين في القتال، قال تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [7] .

والقتال في الإسلام.. جعل من غرضين أساسيين:

الغرض الأول: الدفاع عن النفس عند الاعتداء عليها، والدفاع عن الأرض، والبلاد التي يعيش المسلمون فيها..

الغرض الثاني: الدفاع عن الدعوة الإسلامية، والتعاليم الإلهية، حماية للحاملين مشعلها، وإفساح الطريق أمام الدعوة، ورسالة الحق..

ص: 473

ومن هذين الغرضين ندرك أن القتال في الإسلام، لم يشرع لتوسيع سلطان أو الغلبة والقهر، أو استعباد الشعوب، واستنزاف خيراتها، ولو ترك المشركون يعتذرون على المسلمين، ويقاومون الدعوة، ويصدون الناس عن الدخول في دين الله، ولم يشرع القتال في الإسلام، لطغى الباطل على الحق، وتضرّرت البلاد، وطمست معالم الدعوة.. ولولم يشرع القتال في الإسلام.. لبقى العالم من أقصاه إلى أقصاه، يئنّ ويرزح تحت وطأة الجهل والظلم والاستعباد..

وشعار الحروب الإسلامية.. الحرص على السلام والأمن، لجميع بني الإنسان في هذا الوجود.. ومن هنا صار الجهاد بوجه عام، مبدأ من مبادئ الإسلام التي أخذت مكانتها بين عقائده وفروعه، واستقرت دعوة القرآن إلى الجهاد على عمومه، متعلقة بذمة المسلمين جماعة وأفرادا [8] . ويقول صاحب البصائر [9] : "الجهاد: الطاقة والمشقة، وقيل بالفتح: المشقة، وبالضم: الوسع. وقيل الجهاد ما يجهد الإنسان.. قال تعالى في سورة التوبة: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم} أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم..

والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة، وتحمل المشقة في العبادة، يقال: جهدت رأيي واجتهدت: أتعبته بالفكر والجهاد.. والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. وقال صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله"[10] ..

وقد يطلق الجهاد، ويراد به معنى يشمل القتال وغيره، كالجهاد بالمال في قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [11] ..

ص: 474

و (؟) الجهاد بالكلمة منطوقة أو مكتوبة.. كجهاد الكافرين والمنافقين المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [12] ..

ومنه جهاد النفس، كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [13] فإن السورة مكية ولم يفرض قتال في مكة، وهذا المعنى للجهاد، هو المعنى العام، المأخوذ من المعنى اللغوي، الذي هو بذل الجهد والطاقة..

وقد ورد لفظ الجهاد في القرآن الكريم ثلاثين مرة. وورد كثيراً بلفظ القتال المرادف له، وكلاهما يرد أحيانا مقرونا وسبيل الله..

والأمة الإسلامية في حاجة إلى استيقاظ كل الخلايا فيها، واحتشاد كل قواها، وتوفر كل استعدادها، وتجمع كل طاقاتها..

ومن الواضح أن كلمة قوة، والتي جاءت في آية سورة الأنفال، التي تأمر بإعداد القوة. كلمة قوة هذه جاءت نكرة عامة، أتدري لم كان ذلك؟

لتشمل إعداد القوة بما يتناسب مع التقدم العلمي في كل مجالات الحياة، وتفيد الأمة أن إعداد القوة، هو ما يتفق مع استطاعة الأمة الإسلامية، فلا يستساغ أن ينتظر المسلمون ريثما يتم إعداد قوة تكافئ قوة العدو لأن ذلك قد يطول.

ص: 475

وقد خطب عبد الله بن رواحة في جنده يشجعهم على لقاء العدو، حينما فزعوا من كثرة عَدده، وعُدده في غزوة مؤتة فقال:"يا قوم إن التي تكرهونها لهي الشهادة التي خرجتم تطلبونها، والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.. انطلقوا، فوالله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد ما معنا إلا فرس واحد.. انطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم فذلك ماوعدنا الله ورسوله، وليس لوعده خلف..وإما الشهادة فنلحق بالإخوان، نرافقهم في الجنان"[14] .

وروى الواقدي عن أبي هريرة قال: "شهدت يوم مؤتة، فلما دنا المشركون منّا رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة، والسلاح، والكراع، والحرير، والديباج، والذهب.. فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة: كأنك ترى جموعا كثيرة؟ قلت: نعم. قال: إنك لم تشهد بدراً معنا، إنّا لم ننتصر بالكثرة"[15] .

والأمثلة من واقع صفحات التاريخ الإسلامي كثيرة، وكلها تشهد لجنود الجيش الإسلامي بالصدق والإيمان. فما كانوا يرهبون الردى، يقدمون غير هيابين، ولا وجلين، على حد القائل:

على أيّ جنب كان في الله مصرعي

ولست أبالي حين أقتل مسلما

فلم ينظروا إلى كثرة جنود الأعداء، وحتى لو عرفوا، فما كان يحملهم ذلك على التراجع أو التردد.. وفي الوقت نفسه كان لهم من إيمانهم بالله، وثقتهم في النصر.. كان لهم من ذلك ما يدفعهم إلى الإقدام، وهم على حد قول محمد إقبال:

سرنا على موج البحار بحارا

كنا جبالا في الجبال وربما

لم نخش يوما غاشما جبارا

كنا نقدم للسيوف صدورنا

قبل الكتائب يفتح الأمصارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا

سجداتنا والأرض تقذف نارا

لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها

تنبت من حولنا الأزهارا

وكأن ظل السيف ظل حديقة

ص: 476

والأمة الإسلامية في أشد ما تكون إلى بطولة الأبطال، وحزم الرجال.. ونحن في حاجة إلى جيش إسلامي يعدّ إعدادا إسلاميا خاصا. وبهذا يمكن أن نتصدى لكل محاولات الأعداء، حتى ولو كانت من الداخل، وما أكثر محاولات الأعداء. فالأحزاب البعيدة عن الإسلام والتي تحكم بعض شعوب البلاد الإسلامية، يمكن أن تشكل خطرا جسيما، وبخاصة بعد تحالفها مع الأحزاب الشيوعية.. والأنظمة المستبدة يمكن أن تشكل خطرا، والأفكار المستوردة يمكن أن تكون أشد خطرا، وهناك من الفوضويين والمتمردين والأصوليين ما يسيء إلى البلاد الإسلامية..

ولهذا وغير هذا، كان على الأمة الإسلامية أن تفكر جديا، في أمر البلاد الإسلامية، وإنقاذ شعوبها من قسوة الأحزاب المستبدة، والأفكار الحمراء. وإن الشعوب تئن وتتوجع، ولا يصح أن نرى المد الإسلامي ينحسر، ونقف مكتوفي الأيدي، أو نزيد من الحوقلة، أو نقف موقف اللامبالين.. إن شؤون المسلمين تنادي المسلمين: أين أنتم، وأين مكانكم؟

إن الأمر بالإعداد يجب أن يستمر، ولا يتوقف، ورسول الله عليه الصلاة والسلام لم يتوان ولم يتمهل في إعداد المسلمين إعداداً يتفق مع بناء دولة الإسلام. وكان المسلمون أقوياء في عقيدتهم، وأقوياء في إيمانهم، وأقوياء في فكرهم وثقافتهم وأخلاقهم وسلوكهم.

أحمد عبد الرحيم السايح

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

سورة الأنفال الآية رقم 60.

[2]

سورة التوبة الاية رقم 20 إلى 22.

[3]

سورة الصف الآية رقم 10 إلى 13.

[4]

انظر مقالنا: "من وحي الإسلام بمجلة الجندي المسلم العدد العاشر الرياض.

[5]

انظر: مكتبة الإمام. عدد5 ص27 وزارة الأوقاف المصرية.

[6]

سورة الأنفال، الآية رقم 60.

[7]

سورة الحج، الآيتان 29، 30.

[8]

راجع: سبل السلام للصنعاني، الجزء الرابع ص54.

ص: 477

[9]

صاحب البصائر هو: الفيروز أبادي. صاحب كتاب (بصائر ذي التمييز في ألطاف الكتاب العزيز) وهو كتاب عظيم يقع في خمسة مجلدات، وقد قام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بطبعه.. وبصيرة الجهاد تجدها في الجزء الثاني. من ص401.

[10]

رواه الترمذي وابن حبان كما في الجامع الصغير.

[11]

سورة التوبة، الآية رقم 20.

[12]

سورة التحريم، الآية رقم 9، وسورة التوبة الآية رقم 73.

[13]

سورة العنكبوت، الآية رقم 69.

[14]

صورة من حياة الرسول ص517.

[15]

صورة من حياة الرسول ص516.

ص: 478

الضوء القرآني على كتابة العلوي حول النبهاني

بقلم عبد القادر بن حبيب الله السندي

المدرس بمعهد الحرم المكي

الحمد لله وكفى وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

فهذه حلقة ثانية من المقال الذي نشرته مجلة الجامعة الإسلامية الغراء في عددها الصادر الثالث من السنة الثامنة في شهر ذي الحجة لعام 1395هديسمبر لعام 1975م، والذي وعدت فيه القراء الكرام بإتمام الموضوع في حلقات مسلسلة، وها أنا مع الموعد المذكور داعيا المولى الكريم سبحانه وتعالى أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم، ومنهجه القويم الذي رسمه الله جل وعلا على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم للإنسانية كلها.

ص: 479

وكم كنت سعيدا في هذه الكتابة المتواضعة بأن تكون مناقشي مع إنسان فاضل كريم ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبا وصهرا، فوالله إن له في نفسي لمنزلة كبيرة من الناحية المذكورة، وأما الحق فهو واضح بيِّن لا غبار عليه أمام من رزقه الله تعالى فهما ثاقبا، وعلما نافعاً، وبصيرة تامة، ولقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته المكية بصفة خاصة بعد البعثة شارحا هذه الدعوة الكريمة التي لأجلها خلق الله الكون، وبعث الرسل، ولقد ضرب رسول الله عليه وسلم أمثلة رائعة في دعوته السامية أثناء وجوده بمكة والمدينة أثناء أسفاره المتعددة لإعلاء كلمة الله تعالى حتى لقي ربه جل وعلا، فلم يترك خيرا صلى الله عليه وسلم إلا ودلّ الأمة إليه، ولم يترك شرا إلا وحذر الأمة منه فكان أعظم الخير الذي أتي به صلى الله عليه وسلم هو توحيد الله تعالى ذاتا وصفة وعبادة فهو محور أساسي للكائنات كلها تدور حوله جميع أعمال الخير والبر، إن صح هذا الأساس أو البنيان فقد صحت بقية الأعمال، والعكس بالعكس، ومن أعظم الشر الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة هو الشرك بجميع أنواعه الظاهرة والباطنة.

ص: 480

ولقد شرح القرآن الكريم هذين المعنيين وكذا السنة النبوية المطهرة شرحا وافيا وفصّلاه تفصيلا كاملا فلم يتركا المجال لأحد كائن من كان ممّن ادّعى النبوغ في البلاغة والفصاحة أن يخالف هذا الأساس المتين، والبرهان الواضح، والحجة القوية الباهرة {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ_ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ_ إِلَاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [1] . ولقد ظل النبهاني الذي مدحتموه في رسالتكم مخالفا لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته ظاهرا، وباطنا، وأما الظاهر فقد أوضحت ذلك في المقال السابق لكونه تولى تلك المناصب الهائلة ضاربا بأحكام الباري جل وعلا، وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط، ولم يبال بشيء رادع يردعه عما أقبل عليه وفرح به من تحاكمه وحكمه إلى الطاغوت الكافر اللعين، وأما الباطن فلتَنكُّرِه لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي دعوة التوحيد الخالص، فكتب كتاباً خبيثا لا يزال وصمة عار يحارب فيه أولئك الأمجاد الكرام من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين جدد الله تعالى بهم الدين، وأعلى بهم كلمته، ونشر بهم رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم. وا أسفاه على النبهاني وعلى اتباعه الذين يمجدونه ويرفعون ذكره، وحاله معروف واضح أمام من أُعطي أدنى فهم وعلم، ومعرفة في الدين، ولقد زعم النبهاني في كتابه "شواهد الحق"- وهي شواهد الضلال والكفر- أن الآيات القرآنية التي ساقها في التوحيد ونبذ الشرك، إنها لم تكن تشمل المؤمنين الموحدين في نظره، وليست العبرة بعموم اللفظ عنده، وقد خالف في ذلك جهابذة المفسرين، ومع ذلك هو متمكن في اللغة

ص: 481

العربية ومتبحر فيها، ها أنا أبدأ بالرد عليه فيما زعم، وحرّف كتاب الله تعالى، مستمدا العون من الباري جل وعلا، والتوفيق والسداد في القول والعمل، مسترشداً في ذلك بما جاء عن الله تعالى، في كتابه الحكيم، وفي صحيح سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبأقوال أهل العلم من السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

نعم زعم النبهاني في هذا الكتاب: أنّ قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [2]، وكذا قوله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [3]، وكذا قوله تعالى:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [4]، وقوله تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ [5] ، وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ} [6]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [7]، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ

ص: 482

وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [8] . قال الشيخ النبهاني عقب هذه الآيات: "وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن كلها حملها - أي محمد بن عبد الوهاب- على الموحدين"، وقال في موضع آخر من كتابه - قبل سرد هذه الآيات- "وزعم - أي محمد بن عبد الوهاب - أنّ ذلك كله شرك، وحمل الآيات التي نزلت في المشركين على الخواص، والعوام من المؤمنين.."ثم ساق هذه الآيات الكريمات.

ص: 483

فأقول: ولقد صدق العلامة محمود شكري الألوسي في كتابه (غاية الأماني في الرد على النبهاني) إذ قال رحمه الله تعالى: "فإن الرجل جاهل - أي يوسف النبهاني - كما ستعلمه من رد كتابه هذا، سقيم الفهم بأخبار العدول الثقات ورواية الصادقين من الرواة، وما نشره من هذيانه الصريح، أعدل شاهد على ذلك، وأصح دليل على ما هناك، فضلا عما ذكره فيه جهابذة العصر الذين رأوه، وخالطوه، وعرفوا حاله، وشاهدوا أعماله.."، ثم ذكر فيه بقية الكلام [9] قلت: الآية التي ساقها النبهاني من سورة الأحقاف وهي قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} إنّ هذه الآية نزلت بمكة تصف حال المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام، وهي اللاّت، والعزى، والهبل، وغيرها من الأصنام، والآية تحكي قصة حال المشركين، وعن سفاهة عقولهم، وفساد فطرتهم إذ كانوا يدعون من دون الله تعالى هذه الأصنام، وإن كانت عبادتهم، ودعاؤهم لم تكن مقصودة لها، لأنهم اتخذوها علامات، وشعائر لأصحابها، لكي يتصوروا وجودهم عن طريق هذه الأجسام الحجرية عند الدعاء والاستغاثة بهم، ولقد أخرج الإمام البخاري في الصحيح، وكذا ابن المنذر وابن مردويه في تفسيرهما عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:"صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العربِ بعدُ، أمَّا ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني عطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت"[10] . قلت فهذه الرواية الصحيحة تزيل شبهة قوية تمسك بها النبهاني، ومن سار

ص: 484

على منهجه من الأقزام بأن قريشاً كانت تعبد الأصنام الحجرية معتقدة فيها الخير والشر، والأمر ليس كذلك، وإنما كانت تعبد مسمّياتها كما تشير إليه هذه الرواية. ولقد شرح هذه الرواية الحافظ في الفتح شرحا مفصلا، وردّ على الواقدي في زعمه إذ قال:"كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة طائر"، ثم قال الحافظ:"وهذا شاذ والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها والله أعلم"[11] . قلت: الذي حكم عليه بالشذوذ فهو منكر؛ لأن الواقدي متهم بالكذب فلا عبرة بروايته، وأما أصنام قريش فمنها اللات، والعزى، والهبل، وأساف، ونائلة، فهي أيضا أسماء لرجال صالحين، قال الإمام ابن الأثير في النهاية:"وفي حديث مجاهد في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَاّتَ وَالْعُزَّى} قال: "كان رجل يلت السويق لهم"، يريد أن أصله (اللاّت) بالتشديد؛ لأن الصنم سمي باسم الذي كان يلتّ السويق عند الأصنام، أي يخلطه فخُفِّفَ، وجعل اسما للصنم". [12] وقد أخرج البخاري في الصحيح بإسناد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {اللَاّتَ وَالْعُزَّى} : "كان اللات رجلا يلتّ السويق للحاج"[13]، وقال الحافظ في الفتح:"وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس: - ولفظه فيه زيادة - "كان يلتّ السويق على الحجر، فلا يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه"، واختلف في اسم هذا الرجل، فروى الفاكهي من طريق مجاهد قال: "كان رجل في الجاهلية على صخرة بالطائف، وعليها له غنم، فكان يسلو من رسلها، ويأخذ من زبيب الطائف والأقط فيجعل منه حيسا، ويطعم من يمر به من الناس، فلما مات عبدوه" [14] ، ثم قال الحافظ: "فقد أخرج الفاكهي من وجه آخر عن ابن عباس: "أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة فعبدوها، وبنوا عليها بيتا"، وقد

ص: 485

تقدم في مناقب قريش أن عمرو بن لحي هو الذي حمل العرب على عبادة الأصنام" [15] قلت: وهكذا سائر الأصنام التي عبدت من دون الله تعالى كانت هي علامات وشعائر فقط، وإنما العبادة كانت لمسمياتها كما روى لك حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد عرف الإمام ابن الأثير - وهو إمام في اللغة - الصنم بقوله: "قد تكرّر فيه الصنم والأصنام: وهو ما اتخذ إلها من دون الله تعالى، وقيل: هو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن" [16] قلت: فعلى هذا التعريف تدخل فيه القبور وغيرها التي تعبد من دون الله تعالى، وإن كانت عبارتها راجعة إلى الشيطان لا إلى أصحابها إلا إذا كانوا راضين بها في حياتهم فهؤلاء هم الطواغيت. وقد أوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم اللعن على الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، سداً للذرائع، وقطعا لوشيجة الشرك. ومن الجهل الواضح أن يقال لإنسان يدعو غير الله تعالى في أمر لا مجال للمخلوق ولا قدرة له على إنجازة ثم يكون هذا الداعي لغير الله تعالى والمستغيث بسواه موحدا ومؤمنا في نظره، كما زعم النبهاني في كتابه (شواهد الحق) . نعم يجب على المسلم أن يفكر في هذه الآية الكريمة، وما في معناها، وفي سياقها البليغ الفصيح الذي لا قدرة للإنسان مطلقا أن يأتي بشيء من هذا الأسلوب البلاغي الحكيم، إذ يقول جل وعلا {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} فاستعمل جل وعلا في هذا السياق المبارك لفظة (مَنْ) وهي تستعمل لذوي العقول عند جميع أهل اللغة، ما عدا النبهاني ومن سار على نهجه في الضلالة؛ فإنه خالف اللغة العربية وقواعدها، ولقد سبق أن خالف السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، وخالف نص القرآن الكريم، وظاهره، ومنطوقه، ومفهومه، ولو لم يكن كما ذكر، فكيف ارتضى لنفسه أن

ص: 486

يقبل رئاسة محكمة الحقوق المدنية ببيروت، ومات عليها، وهي محكمة لا دينية ولا مذهبية، وكيف ينسب نفسه إلى الشافعي وهو بريء منه، ولقد سبق أن نقلت عن غاية الأماني في الرد على النبهاني ما قال فيه جهابذة العصر، وكيف جاز لمحب آل البيت النبوي أن يخالف النظام السماوي العادل المبارك الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند مولاه جل وعلا، فكما ارتكب النبهاني في قبوله تلك المناصب الكفرية جريمة كبيرة، ارتكب في تفسير هذه الآيات القرآنية وتحريفها على غير مراد الله جل وعلا، وعلى غير مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، إنها محنة عظيمة للإسلام أن يبتلى بأشخاص لاحظَّ لهم من العلم النبوي الصحيح؛ من علم الكتاب والسنة وإجماع الأمة من السلف الصالح، فيفتوا الناس بالضلال، والكفر، فضلوا أضلوا.

نعم لازلت في تفسير هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف بأن الأصنام لم تتخذ غاية في الدعاء والعبادة، والاستغاثة، وإنما كان مقصود كفار قريش كما أخرج البخاري وغيره رحمهم الله تعالى في دعائهم واستغاثتهم بهؤلاء الرجال الصالحين، ولهذا يقول جل وعلا في سورة الزمر:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [17] .

ص: 487

ولقد صوّر القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة وغيرها موقفهم من عبادتهم، ودعائهم لغير الله تعالى بأنهم لم يكونوا قد قصدوا دعاءهم وعبادتهم لهذه الأصنام ولا لأصحابها أي مسمياتها، وإنما كان قصدهم من ذلك العمل الشنيع أن يقرب هؤلاء الأصحاب إياهم إلى الله زلفى، فكان المقصود عندهم هو الرب جل وعلا، كما نصت آية الزمر على هذا المعنى، فلم يكن قد اعتقدوا في هذه الأصنام الحجرية وغيرها الضر والنفع ذاتيا. ولقد أوضح القرآن الكريم هذا المعنى في آية أخرى من سورة الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [18] . وقد أورد الإمام السيوطي في تفسيره الدر المنثور أثرا إذ قال رحمه الله تعالى:"أخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب القرظي رضي الله تعالى عنه، في قوله تعالى {وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} ، قال رحمه الله تعالى: "كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح فنشأ قوم بعدهم يأخذون كأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس:"لو صورتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم"، فصوروا ثم ماتوا فنشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس:"إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها"، فعبدوها" [19] ، قلت: فالأمر في ذلك واضح بيِّن جلي، لا يخفى على أحد إلاّ من خبثت فطرته، وبخست قريحته من عبّاد القبور والأضرحة، وقد عاملهم الشيطان نفس المعاملة التي عاملها قوم نوح ثم مع قريش، وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير مفسرا هذه الآية الكريمة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} : استفهام على سبيل الإنكار، والمعنى أنه لا أمر أبعدُ عن الحق، وأقرب إلى الجهل ممن يدعو من دون الله الأصنام فيتخذها آلهة، ويعبدها، وهي إذا دعيت لا تسمع، ولا تصح منها الإجابة لا في الحال، ولا بعد ذلك اليوم إلى يوم القيامة"ثم قال رحمه الله

ص: 488

تعالى: "وقال بعضهم: بل المراد عبدة الملائكة وعيسى؛ فإنهم في يوم القيامة لمظهرون عداوة هؤلاء العابدين". قلت: هذا المعنى هو الصحيح؛ لأنه يؤيده قوله تعالى {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} ، وكيف يعقل وصف الأصنام وهي جمادات بالغفلة، وكيف جاز وصف الأصنام بما لا يليق إلا بالعقلاء؟ وهي لفظة (مَنْ) ، وقوله {غَافِلُونَ} ، أجاب الإمام الرازي عن هذا الاعتراض مع ذكره بقوله:"قلنا إنهم لمّا عبدوها، ونزّلوها منزلة من يضر وينفع صح أن يقال فيها إنها بمنزلة الغافل الذي لا يسمع، ولا يجيب"، ثم قال: وهذا هو الجواب أيضا عن قوله: "إن لفظة (مَنْ) ولفظة (هُم) كيف يليق بها"قلت: مع منزلته العلمية الكبيرة في الإسلام وباعه الطويل في الكلام والفلسفة وغيرها من العلوم، لم يصب الإجابة الصحيحة إلا في آخر كلامه إذ قال رحمه الله تعالى:"وأيضا يجوز أن يراد كل معبود من دون الله من الملائكة، وعيسى، وعزير، والأصنام، إلا أنه غُلِّب غير الأوثان على الأوثان"[20] . قلت: هذا المعنى الأخير الذي ذكره هو الوجيه والموزون لأنه أيده القرآن الكريم في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [21] قلت: فهذه الآية نص صريح على أنهم عبدوا عيسى عليه الصلاة والسلام، واستغاثوا به ودعوه في

ص: 489

أمورلم تكن له بها قوة على كشفها عنهم، إذا كان عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام قد عبدوا من دون الله تعالى كما نص القرآن الكريم فغيره من الأولياء والصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من باب أولى. ولما لاحظ الصديق رضي الله عنه هذا المعنى في الأمة المحمدية فألقى أول خطبة بعد الخلافة كما أخرجها البخاري في الصحيح وابن ماجه في السنن، والإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها، وجاء في تلك الخطبة التاريخية المباركة: فتكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله عز وجل يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} حتى فرغ من الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} حتى فرغ من الآية، ثم قال:"فمن كان يعبد الله عز وجل فإنّ الله حيٌّ، ومن كان يعبد محمداً فإن محمد قد مات"، فقال عمر:"وإنها لفي كتاب الله ما شعرت أنها في كتاب الله"، ثم قال عمر:"يا أيها الناس هذا أبو بكر وهو ذو شيبة المسلمين، فبايعوه، فبايعوه"، ثم ذكر الحديث [22] قلت: فهل كان أبو بكر وعمر وهابيين في نظر النبهاني، وأتباعه؟ لولا خوف الصديق رضي الله تعالى عنه عن وقوع الأمة في الشرك لما كان رضي الله تعالى عنه قد خطب بهذه الخطبة بهذه الصراحة الواضحة في هذا الوقت الحرج على الأمة، وقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى في جامع الصحيح من خطبة عمر رضي الله عنه في هذا الباب أيضا، وذلك من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك في الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتشهد، وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال:"كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا"، يريد بذلك أن يكون آخرهم، ثم قال رضي الله تعالى عنه: "فإن يك

ص: 490

محمد صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم"، ثم ذكر الحديث [23] . ولقد برع الحافظ في الفتح في الكلام على هذا الحديث براعة علمية لا نظير لها في عصره فيما علمت، إذ تكلم على تخريج الحديث وزياداته وفنون إسناده، ولطائف معانيه فجزاه الله تعالى خير الجزاء، ولم يترك شبهة إلا أزالها، وأثبت رحمه الله تعالى تلك المعاني السامية التي حملها هذا الحديث الشريف في طياته، في إثبات الهداية القرآنية الإلهية، وكذا أثبت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفاة حقيقية، وأنّ البقاء لله جل وعلا، ولا يزال القرآن الكريم يدعو بصراحة في آياته، وسوره إلى المقصد الأعلى والأسمى الذي بعث لأجله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر إخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في تثبيت العقيدة الصافية النقية، هي عقيدة توحيد الألوهية، وعقيدة توحيد الأسماء والصفات، فلا مجال لهؤلاء الخفافيش ولا قدرة لهم في الإساءة إلى هذا الأصل العظيم، والبنيان الراسخ والحجة القوية الباهرة التي ترك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا يمكن أن تنجح دعوة ما كائنة ما كانت إن خالفت هذا الأصل الوثيق والخط المستقيم، والمنهج الرفيع فإن دعا أحد إلى إصلاح أحوال البشرية على غير الخط الذي رسمه القرآن الكريم، والسنة المطهرة فإن دعوته لا تنجح أبداً فإن ضربت لك أمثلة حية على ما قلت ناقلا ذلك عن الحوادث التاريخية المتواترة منذ أن طلع نجم الإسلام في الآفاق إلى يومنا هذا لما كانت تكفيني هذه الصفحات، وللعاقل اللبيب أن يقلِّب صفحات التاريخ الإسلامي الحافل، أو ينظر فيما وقع أمام عينه، وبصره من حوادث خطيرة ضاعت فيها النفوس البريئة، وانتهكت لها الأعراض، وسفكت عليها الدماء، ونهبت فيها الأموال، ثم يتذكر بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الانقلاب التاريخي العظيم الذي تنفست

ص: 491

فيه الإنسانية لأول مرة في التاريخ الإنساني الطويل، بنفس راحة، وعزة، وكرامة، وشرف، وغير ذلك من المعاني السامية نعلم بهذا التقرير الواضح أنّ النبهاني كان كاذبا في دعواه الذي ادعاه؛ وهو ليس هناك شركٌ ولا كفر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنّ تلك الآيات القرآنية التي ساقها في كتابه، وزعم أنها لا تشمل المؤمنين الموحدين الحاليين في نظره ولو دعوا غير الله تعالى، واستغاثوا به، وأن دعاء الأموات والاستغاثة بهم وهم في قبورهم ليس بشرك، وإنما الشرك في نظره الدعاء للأصنام فقط، ولا يبالي بالقواعد الأساسية التي وضعها علماء التفسير من السلف الصالح في فن أصول التفسير (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) .

ص: 492

ماذا يقول النبهاني وأتباعه ومقلّدوه في آية الحج وهي قوله - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [24] قلت: لم تترك هذه الآية الكريمة أي شبهة قد يتمسك بها أهل الباطل، فإنها تصرح أن الذي يستحق الدعاء والاستغاثة لا بد من أن توجد فيه صفة الخالق، وهي أن يخلق الذباب، ولقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في سورة فاطر إذ قال جل وعلا:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَاّ غُرُوراً} [25] قلت: هذه الآية تفنّد الشبه التي تمسك بها النبهاني وأتباعه، والآية صريحة واضحة بيّنة لا غبار على معناها، أنّ من يُدعى من دون الله يجب فيه أن تتوفر فيه هذه الصفة التي نص عليها القرآن الحكيم، وهي أن يخلق أرضا، أو يكون له شرك مع الله تعالى في خلق السماوات، فلما لم توجد هذه الصفة، ولن توجد في مخلوق ما مهما بلغ الرتبة العليا في منزلته عند مولاه جل وعلا، فلا حق له أن يسمح لأحد بدعائه إياه في أمر لا مجال له، ولا قدرة معه على كشف الأمور المفصلة التي اختص الله تعالى وحده على كشفها وحلها، وهنا آية أخرى مماثلة في هذا المعنى في سورة الرعد: إذ قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ

ص: 493

هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [26] قلت: هذا وصف دقيق فيمن يستحق الدعاء، والاستغاثة، والخوف، والخشية، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، وغير ذلك من العبادات.

فهل يوجد هذا الوصف الذي أورده القرآن الكريم في سوره وآياته في غير الله تعالى من نبي مرسل، وولي صالح وشهيد؟ حتى يستحق الدعاء والاستغاثة؟ لا والله ورب محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 494

ويقول ربنا تبارك وتعالى في س {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} سورة الأنعام [27] فهذه الآيات كلها تتفق على معنى واحد، ولكن أين العقول الراجحة؟ ، والقلوب الواعية؟ ، والضمائر الحية؟ تدرك هذا المعنى الظاهر، يقول تبارك وتعالى في سورة الأعراف {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ} [28] . فالآيات هذه تنادي بأن الذي أتى به النبهاني أنها فرية عظيمة، وافتراء مكشوف على الإسلام، والمسلمين، وأن الشبه التي تمسك بها شبهة هزيلة نشأت عنده عن جهل مركب، وفساد عريض في قلبه. وقد أكتفي بالكلام على آية الأحقاف عن بقية الكلام غلى الآيات التي ساقها النبهاني؛ فإن الكلام عليها بمثل هذا الكلام الذي أوردته على هذه الآية خوفا من الإطالة، نعم يجب على المسلم التقي البارّ أن يتدبر في آيات القرآن الكريم، التي فصّلت هذه القضية، فشرحتها شرحا وافيا، ولم تترك أي شبهة قد يتمسك بها ممن لا عقل له، ولا ضمير، وقد فسدت قريحته، وخبثت فطرته بحكايات واهية كاذبة، وأرى من الضروري أن أورد هنا قصة غزوة أحد التي فيها عبر، ومواعظ، وما جرى فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم العصيب، وما جرى لأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين من محنة عظيمة شاقة، إنها قصة جهاد طويل، وجهود مباركة، أقدم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، أخرج الإمامان البخاري ومسلم، وكذا الترمذي، وابن ماجه في سننيهما، والإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه"أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رباعيته يوم أحد، وشُجّ في جبهته، حتى سال الدم على وجهه، فقال صلى

ص: 495

الله عليه وسلم: "كيف يُفلح قوم فعلوا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم" فنزلت هذه الآية: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [29] . ولقد عقد الإمام البخاري بابا في الجامع الصحيح بعنوان باب (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب الله عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) ، ثم ذكر الحديث، وقال الحافظ في الفتح شارحا هذا الحديث:"قوله: وقال حميد، وثابت عن أنس: شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: "كيف يفلح قوم شجوا بنيهم؟ "فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمرِ شَيْءٌ} ، ثم قال الحافظ: "وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثني حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عيه وسلم يوم أحد، وشج وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول:"كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم"فأنزل الله الآية، ثم ذكر رواية مسلم، فقال:"وأما حديث ثابت فوصله مسلم من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: - وهو يسلت الدم عن وجهه - "كيف يفلح قو شجوا نبيهم"، فأنزل الله عز وجل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمرِ شَيْءٌ} الآية. وذكر ابن هشام في حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى وجرح شفته السفلى، وأنّ عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته، وأنّ عبد الله بن قمئه جرحه في وجنته، وأنّ مالك بن سنان مص الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده، فقال:"لن تمسك النار"، وروى ابن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص قال:"فما حرصت على قتل رجل حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد". وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: "رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشج وجهه، وكسر رباعيته فقال: "خذها وأنا ابن قمئة"فقال

ص: 496

رسول الله صلى الله عليه وسلم: - وهو يمسح الدم من وجهه -، "مالك أقمأك الله"، فسلّط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعة قطعة" [30] قلت: هكذا ترى وتشاهد في هذه القصة ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وما تلفظ به صلى الله عليه وسلم عندئذٍ، وماذا كان جواب ربه جل وعلا في تلك الساعة. تدبر أيها المسلم في دعوة القرآن الكريم الصريحة الواضحة، البينة، وماذا جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل إنجازها، ونشرها، وإيصالها إلى الناس، إقرأ القرآن قراءة تدبر، وإمعان، وتفكير سليم، وافتح قلبك وضميرك لفهمهما، وتلقيهما، وإيّاك وخزعبلات النبهاني والكوثري، والدحلان، ومن سار على نهجهم في الكفر، والضلالة، ثم اقرأ قوله تعالى في سورة الأعراف مرة الثانية {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [31] ثم تدبر قصة أحد، وما جرى فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من محنة عظيمة، وما تلفظ به صلى الله عليه وسلم. فإنك ستجد بين هذه الآية الكريمة وبين قصة أحد تطابقاً كاملا، وموافقة تامة، وأن الله جل وعلا له حكمة بالغة، فيما جرى لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ويوم حنين، ويوم الطائف قبل الهجرة.

ص: 497

أخرج مسلم في الصحيح وأبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في سننهم ومالك في موطئه، والإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه، وجاء فيه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قال الله عز وجل: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، وقال مرة: لعبدي ما سأل، فإذا قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: حمدني عبدي. فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : قال: مجدني عبدي، أو أثنى عليّ عبدي، فإذا قال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : قال: فوّض إليّ عبدي، فإذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: فهذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وقال مرة: ما سألني عبدي" ثم ذكر الحديث [32] قلت: فالشاهد في هذا الحديث الصحيح واضح بيّن، وهو عهد قطعه العبد على نفسه، إياك نعبد وإياك نستعين، فالقرآن كله دائر حول هذا العهد، وأنه محور أساسي على صلاح الأعمال، والعقائد، والعبادات، إن صح هذا العهد مع المولى جل وعلا فسوف تصح الأعمال كلها فصلحت الإنسانية به، وإن انتقض كما هو دأب النبهاني، والدحلان، والكوثري وغيرهم وهم كثير، - لا أكثرهم الله تعالى - فسدت الإنسانية كلها بانتقاضها إياه، فحلّت المصائب الكبرى عليها من مرض، وفقر، وجهل، وغير ذلك من المصائب الاجتماعية، والأمراض الفتاكة، والويلات، والحروب، وسفك الدماء، وللمقال بقية في الحلقة القادمة - إن شاء الله تعالى -، وصلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تتمة " من سقطات المنجد "

يقول مؤلف (معجم الأعلام) أخبر المنجد في تعريف سعد بن معاذ رضي الله عنه: "حمل اللواء في وقعة بدر، وضمد جرح النبي بعد وقعة أحد، وأخذ حكما في مصير الأسرى من يهود خيبر، فحكم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم، واقتسام أموالهم".

ص: 498

ولا صحة لأيّ من هذه الأخبار الثلاثة؛ فسعد رضي الله عنه كان يحمل راية الأنصار في بدر، وهي غير اللواء الذي كان مع مصعب بن عمير رضي الله عنه، ولم يذكر سعد في ضمن جرح رسول الله يوم أحد، ولقد عاجله الأجل قبل غزوة خيبر، وإنما كان تحكيمه في قريظة عقيب الأحزاب..

المجذوب

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

التوبة آية رقم 109-110.

[2]

الجن آية رقم 18.

[3]

الأحقاف آية رقم 5.

[4]

الشعراء آية رقم 213.

[5]

يونس آية رقم 106.

[6]

الرعد آية رقم 14.

[7]

فاطر آية رقم 13-14.

[8]

الإسراء رقم الآية 56-57.

[9]

غاية الأماني في الرد على النبهاني 1/53.

[10]

أخرجه البخاري في التفسير سورة رقم 71 باب (1) ، حديث رقم 4920، ص 8/667 الفتح، انظر الدر المنثور 8/269.

[11]

الفتح 8/669.

[12]

النهاية لابن الأثير 4/320.

[13]

البخاري حديث رقم 4859.

[14]

الفتح 8/612.

[15]

المصدر السابق.

[16]

النهاية لابن الأثير 3/56.

[17]

الزمر رقم الآية 3.

[18]

الأعراف رقم الآية 194.

[19]

الدر المنثور 8/269.

[20]

التفسير الكبير للرازي 6/276.

[21]

المائدة رقم الآية 116.

[22]

أخرجه البخاري في الجامع الصحيح كتاب الأحكام باب رقم 51.

[23]

المصدر السابق 13/206 فتح الباري.

[24]

سورة الحج آية رقم 73-74.

[25]

سورة فاطر آية رقم 40.

[26]

سورة الرعد رقم 16.

[27]

سورة الأنعام رقم الآية 100.

[28]

سورة الأعراف رقم الآية 188.

[29]

آل عمران رقم الآية 128.

[30]

الفتح 7/365-366.

[31]

سورة الأعراف 188.

ص: 499

[32]

أخرجه مسلم الصلاة حديث رقم 38، وأبو داود في السنن الصلاة باب رقم 132، والترمذي في السنن في تفسير سورة الفاتحة والنسائي الإفتتاح باب رقم 23، ابن ماجه في الأدب باب رقم 52 الموطأ باب رقم 39، والإمام أحمد في مسنده 2/241، 2/285، 2/460.

ص: 500