الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 38
فهرس المحتويات
1-
افتتاحية العدد - كلمة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز
2-
دراسات حول إعجاز القرآن الكريم في القرن الثالث الهجري: لفضيلة الدكتور صادق إبراهيم خطاب
3-
القاضي عياض ومفهومه للإعجاز القرآني: لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
4-
رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
5-
ثمار من غرس النبوة رجال ومواقف: لفضيلة الشيخ محمد الشال
6-
فتح العرب للأندلس: لفضيلة الشيخ محمد أبو زيد طنطاوي
7-
تعقيب لا تثريب - إبراء للذمة وتذكيرا بالحق: لفضيلة الشيخ: محمد المجذوب
8-
الفكر والفلسفات المعاصرة - الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته: للدكتور عبد المنعم محمد حسنين
9-
الشيوعية في الميزان: لفضيلة الشيخ/ محمد علي عبد السميع
10-
ولم يزل أعداء الأمة يمكرون: لفضيلة الدكتور محي الدين رمضان
11-
دراسات في التربية والتعليم لمحة عن التربية الإسلامية: لفضيلة الدكتور محمد نغش
12-
حديقة الشعر - قال لي صاحبي: لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
13-
المكتبة الإسلامية - حول كتاب: الحمد لله هذه حياتي بقلم الدكتور عبد الحليم محمود
لفضيلة الدكتور: عبد المنعم حسنين
14-
حكم من يسخر من القرآن وأهله: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
15-
أخبار الجامعة - مجلس الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
افتتاحية العدد
كلمة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز
ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في الحفل السنوي لخريجي الجامعة لعام 96/97هـ مساء يوم السبت 16/7/97هـ بمقر الجامعة.
أيها الإخوة..
أحمد الله تبارك وتعالى وأصلي وأسلم على نبيه محمد، خاتم أنبيائه ورسله، وخيرته من خلقه هادي البشرية إلى خير البشرية، ورائدها على طريق سعادتها في دنياها وأخراها، وعلى آله وصحبه.
وبعد:
يسرني أن أحضر هذا الحفل السنوي للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مهبط الوحي الإلهي الذي عمّ نوره أرجاء الدنيا، وعاصمة الإسلام الأولى التي أعطت المثل الأعلى للحياة الكريمة والحضارة الرشيدة.. هذا الحفل الذي تقيمه الجامعة، بمناسبة تخرج فوج من أفواجها المتتالية، الذين يتزوّدون منها بخير زاد من العلوم والمعارف الإسلامية؛ ليعودوا منها إلى بلادهم في شتى أنحاء العالم مجاهدين في سبيل نصرة دينهم وإعلاء كلمة ربهم، مساعدين أقوامهم وبلادهم على التقدم والازدهار.
وإن المملكة - وعلى رأسها جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله، من منطلق مسئوليتها الكبرى عن نشر دعوة الإسلام دعوة الحق والخير والسلام، في مشارق الأرض ومغاربها، والعمل بكل إمكانياتها على ما فيه خير المسلمين وعزتهم واستعادة مكانتهم في قيادة ركب الحياة على طريق الخير والهدى - لتولي هذه الجامعة التي أنشئت من أجل الإسهام في تحقيق هذه الغايات السامية كل عنايتها ورعايتها، حتى تؤدي رسالتها، وتحقق أهدافها بعون الله تبارك وتعالى، وإني لأرجو أن يكون لخريجي الجامعة الدور الكبير والأثر المرجوّ في الدعوة إلى الله، وفي تغيير الحياة إلى الصورة المثلى والمستقبل الأفضل.
وعلى الشباب المسلم المثقف في كل مكان أن يواجه بإيمانه وعلمه وعمله الجادّ المخلص تحدّيات العصر؛ لتعود سفينة الحياة بقيادته الواعية الرشيدة إلى طريقها المستقيم، الطريق الذي هدى الله عز وجل إليه عباده ورتّب على سلوكهم إيّاه سعادتهم ورخاءهم في الدنيا وفوزهم ونعيمهم في الآخرة.
وعلى الجامعات أن تبذل كلّ جهودها في إعداد هذا الشّباب تعليما وتثقيفا وتربية؛ يتحمل مسئولياته في غده، على بصيرة بدينه، ومتطلبات عصره، وأهداف حياته.
أسأل الله عز وجل أن يوفّقنا ويعيننا جميعا على ما فيه خير ديننا ودنيانا؛ إنه سميع مجيب..
ولم يزل أعداء الأمة يمكرون
لفضيلة الدكتور محي الدين رمضان
كلية الآداب بجامعة اللآذقية
إن في عالم فكرنا المعاصر ظاهرة لا تخفى على أحد، تلك هي اضطراب المفاهيم الإسلامية لدى أغلب فئات الأمة، حتى كأنها مبتدعات الأفراد والجماعات؛ فلا تكاد هذه المفاهيم تستقل بذاتها ولا بمضمونها، ولا تكاد تأتلف في جزئياتها، ولا تلتئم في أساليبها، وهكذا هي سواء في أمور العقيدة والعبادات التي يرثها المسلم دون مناقشة ولا تمحيص، أم في أمور العلاقات فيما بين الفرد والجماعة، أم في أمور الحكم والتشريع، أم في أمور المعاملات وغير ذلك.
وأسباب ذلك كثيرة تتلخص في فوضى مناهج التربية وتضارب أفكارها ومبادئها، وهو شيء مهّد له منذ أبد، وأنفق الممهدون له جهدا ووقتا طويلا، ولم يكن ارتجالا أو خبط عشواء، وإنما هو النافذة التي فاجأ هؤلاء المتربصون منها هذه الأمة بعد أن أعيت عليهم المذاهب مدى قرون عديدة، وكانت هذه النافذة هي الثقافة والفكر والتربية ومناهجها والتعليم وأساليبه، فأجدى هذا أي جدوى بعد أن فلّ السيف وأُخرس المدفع ودحرت الجيوش.
فكل ما يتصل بالثقافة والفكر وأسباب نشرهما والحرص على إذاعتهما، والعناية بهما وما يستوجب هذا كله كانت مفاتيح بأيدي هؤلاء الناس الذين وجهوا العقول، واستمالوا القلوب حتى أذلوا الرقاب، وخلصوا إلى النفوس، وامتلكوا كل زمام دون أن يتكبدوا ما تكبده أسلافهم جيوشا وعتادا وجهودا وأموالا ثم لم يفلحوا، واتخذت هذه الجهود الماكرة صورا شتى بدأت برجال الثقافة والبعثات العلمية والمعونات الطبية، ثم المعاهد التبشيرية تناثرت هنا وهناك، وانتهت إلى صور أخرى يراها البصر ولا تدركها البصيرة.
وقد كثرت وسائل الإعلام من صحف ومجلات ونشرات وسينما وراءٍ [1] ، وتطورات أساليب التوجيه والتأثير، وأنجزت هذه كلها مراحل من المخططات العديدة التي كان همها الأكبر هو تنشئة شخصية ليس لها طابع مميز إلا أن يكون تبعا إمعة، تتنكر لأمتها وماضيها وتستهين بتراثها وتنعى عليه، وتتعلق بالأجانب وبما أتوا به، ويقلدونهم ويرون فيهم أئمة يقتدون بهم، ويحرصون على القوال بآرائهم واعتقادها والتسليم بها، وهؤلاء الذين استطاعت تلك المعاهد والبعثات أن تحتويهم وتربيهم وتعلمهم، وكانوا طلائع فئات من الشباب والرجال صاروا إلى مناصب في طول البلاد وعرضها، وقاموا بما نشئوا عليه وعُلِّموه، بما عوّل عليهم معلموهم ومربوهم؛ فأدوا عنهم ما كان موكولا إلى هؤلاء من الجديد الخطر تربية وفكرا وثقافة، ونابوا عنهم في مهمتهم، وبهذا تواروا عن الأنظار كغرباء، يمكن أن يبعث ظهورهم عند الأمة على الاستيقاظ والانتباه، وهذا من مكرهم وغفلة الأمة عما يدبر لها.
وليس هذا كله من هؤلاء المكيدين بدعا ولكنه صورة متجددة الشكل متفقة المضمون، وهو شيء تشرحه الآية الكريمة وتدل عليه قوله تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَق} (البقرة 109) .
وهذه الرغبة العارمة عند هؤلاء هي الدافع لهم إلى كل محاولة لصرف المجتمع المؤمن عن الجادة بكل وسيلة ودون توان، ورغبة الإفساد سببها الحسد الذي ذكر في الآية، وهذا الحسد إنما هو لخير ما أوحى به تعالى من كتابه العزيز إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو ما تقدّم ذكره في آية هي قوله عز وجل:{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (البقرة 105) .
ولا يتحقق لهؤلاء ما يرغبون فيه ويسعون إليه بنشر الفساد بين الناس، ولا يتم لهم الفساد ولا يتأتى إلا بأسباب وأساليب، ولا بدّ لهم من سعي وجهد، وأيسر أسباب الفساد وأجدى أساليبه تزيين المعاصي والمباعدة بين الدين وأهله، وتهوين أمر الكفر والعصيان، وهو ما حرض عليه أهل الكتاب من بني إسرائيل بعد أن كفروا وطغوا، فقال فيهم عزّ من قائل:{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (المائدة 64) .
وكذلك إشاعة الفاحشة بين المؤمنين وهي إحدى الطوامّ القوا صم التي تحلق الدين، وتوهي أواصر المجتمع، وقد قال سبحانه فيها:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النور 19) .
وتكفي الملاحظة الخاطفة إلى ما يتصل بهذه الظاهرة من عناية مصممي الأزياء وثياب الجنسين وأشيائهما، وما يتعلق بالرجل والمرأة جنسين متميزين، وما ينشأ من تأثير أحدهما في الآخر إغراء وإثارة، فذلك يكفي في الكشف عن غرض هؤلاء الناس.
وهناك ظواهر كثيرة يجدر بأهل الغيرة من علماء وباحثين وكُتَّاب أن يولوها عنايتهم في رصدها والكشف عنها وتحليلها بما يقف جمهور الأمة على وجهها وينبه أولي الأمر كيما يوجهوا بما يناسب ويحول دون هؤلاء المتربصين وكيدهم.
وينبغي أن يقترن هذا بالتوجيه والتربية الكفيلين بحماية الفرد والجماعة من هذه الأشراك الخفية، ويتم هذا التوجيه وتلك التربية في كل بيئة من بيئات المجتمع، الأسرة والعمل والطريق والمدرسة، وذلك أن هذه البيئات متكافلة متواشجة الصلة جدا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
هو التلفزيون.
دراسات في التربية والتعليم
لمحة عن التربية الإسلامية
لفضيلة الدكتور محمد نغش - كلية الشريعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالتربية الإسلامية هي الوسيلة للسعادة في الدارين الأولى والآخرة، بها تتكون شخصية المسلم المؤمن بربه، والمطيع لأوامره والمتجنب لنواهيه، المتمسك بدينه، الذي يؤدي رسالته في الحياة بأمانة، ويعمل للآخرة متبعا الكتاب والسنة، محاربا كل بدعة، مطيعا لربه العليم؛ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [1] ، ومقتديا بسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم؛ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} [2] .
والتربية معناها التنمية للقوى العقلية والخلقية والجسدية، وكلمة الأدب الواردة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"أدبني ربي فأحسن تأديبي"[3] معناها أن الله سبحانه وتعالى هو الذي ربّى نبيه ليكون خير قدوة للبشرية، وقد منحه سبحانه هذه الشهادة الممتازة، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [4] .
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية الرجال والنساء والأولاد، مثلما جاء في الأحاديث الثلاثة التالية:"أوقفوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدبوهم"[5] ، و"أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم"[6] ، و"مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع"[7] .
التربية الأبوية:
إن هذا تقسيم تدريجي، محكم الحلقات في أصول التربية الأبوية الإسلامية، وضعه خير البرية ليساير أرقى النظريات التربوية الحديثة؛ فمعظم ما يقوم به الإنسان مرجعه إلى العادات، والعقوبات الوسيلة الناجحة لمعالجة الانحرافات، وكلما كانت في سن مبكرة أثمرت ثمرة طيبة، والتفرقة بين الآباء والأبناء في المضاجع منذ العاشرة يجعل لهم شخصية مستقلة، ولنستمع إلى قوله تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [8] ، هذا الاستئذان رمز لكل الآداب الأخرى، صغيرة كانت أو كبيرة، فيه توجيه حسن للسلوك الفردي، وتهيئة للسلوك الجماعي اللازم في مواجهة الحياة، وهو أعظم هبة يهبها الله ورسوله المؤمنين في تعليم تلك البراعم الصغيرة، وهو شرع يتوارثه الأخلاف عن الأسلاف، وتقليد فيه خير لكافة الأجيال، فيه يعرف الفرد ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وهو الأدب الحسن الذي يسيطر على النوازع والرغبات، وبه تتحقق هذه الأمنية الغالية؛ {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [9] .
والذي يعلّم ولده فيحسن تعليمه، ويؤدبه فيحسن تأديبه فقد عمل في ولده عملا حسنا، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [10] .
وهذا الواجب يتقاسمه الوالدان بصفتيهما الأبوية، ويشاركهما في هذا الواجب أب روحيّ وهو المدرس، فإذا شعر بمسئوليته تجاه الله والمجتمع، عرف أن التربية أمانة في عنقه، وأن جزاءها تضعيف الأجر؛ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَة} [11] ، فالآباء هم القدوة للأبناء؛ إذ يقلدونهم في سلوكهم الحسن منه أو الرديء، فليكن الأب لابنه مصباح هداية، وليحذر أن يكون مفتاح غواية، وللموعظة الحسنة أثرها بجانب السلوك السوي، وخير ما نلقنه للأبناء وصايا الرحمن على لسان لقمان لابنه؛ فهي تجمع بين الإيمان والتوحيد، والدعوة إلى الخلق القويم، {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
…
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [12] .
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وصايا عديدة، من اقتدى بها حصل على مزايا جليلة [13]، يقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في وصية له:"اضمنوا لي ستا أضمن لكم الجنة؛ اصدقوا إذا حدثتم، وأدوا الأمانات إذا ائتمنتم، وأوفوا بالعهد إذا وعدتم، غضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفّوا أيديكم"[14] ، إن هذه الوصية الجليلة من جوامع الكلم، تجمع آداب السلوك الاجتماعية اللازمة لسعادة البشرية.
فالله خلق الإنسان وأنشأ له الإرادة، فعليه الاختيار إما أن يفعل الخير فيصير من الأبرار، وإما أن يفعل الشر فيصبح من الأشرار، والجزاء معروف؛ فلهذا الجنة ولذلك النار.
ولذا يحرص الآباء المسلمون على تعليم أبنائهم تعاليم الدين ويبدأون بحفظ القرآن الكريم؛ لتتحد البواعث الدينية في نفوسهم مع البواعث الشخصية منذ نعومة أظافرهم.
وهذه هي الوسيلة السليمة لتنشئتهم النشأة القويمة التي تؤتي ثمارها الطيبة بإذن ربها.
التربية المدرسية:
والمدرسة من أكبر العوامل في تكوين الشخصية، خصوصا في المرحلة الأولى حيث يتصل الطفل بغيره من الصبيان ممن هم في مثل سنه أو ممن يكبرونه أو يقلون عنه قليلا، ويتصل أيضا بالمدرس الذي يعده التلاميذ قدوتهم، ويقلدونهم في سكناته وحركاته، فمحاكاة الحركات والأعمال أسبق من محاكاة المعاني والآراء.
ففي المرحلة الأولى من حياة الصبي يقع سلوكه في دائرة تأثير المعلم، وتأثير الصبيان الذين يختلط بهم، وتأثير آبائه في المنزل، فإن صلحت هذه الدائرة نما الطفل وترعرع بين الفضيلة، وإن فسدت انغمس الصبي في متاهات الرذيلة، ولهذا يجب الحرص على أن يتنفس أبناؤنا - فلذات أكبادنا - في جو إسلامي صحي، فمن الخير للإنسان المبادرة بتكوين العادات الفاضلة في الأبناء حتى تتأصل فيهم، وتنزل منزلة الطبع؛ لأن الإقلاع عن العادات المرذولة إذا تمكنت يكون شاقا عسيرا.
من هذه الصفات الخلقية التي يجب أن يتحلى بها الصبيان الطاعة لله ورسوله أولا وقبل كل شيء ثم لأولي الأمر، وفي القرآن آيات كثيرة تحث على الطاعة بل تأمر بها، فقد أمر الله المرأة أن تطيع زوجها، والابن أن يطيع أباه، والمعلم يحل محل الوالد، ومنزلته هي نفس منزلته، ولذلك تجب طاعة الصبيان له.
ومن الصفات الخلقية التي يجب أن يتعودها الصبيان النظام؛ لأن الفوضى مفسدة للمجتمع، ومضيعة للتعاون الضروري للحياة الإنسانية.
ويجب أن يكون للإشراف الاجتماعي والرياضي دوره الفعال في الاستعلاء بالغريزة الجنسية عندهم، وقد حذّر القابسي الفقيه السني من خطورة الاختلاط بين الطلبة بقوله:"وإنه لينبغي للمعلم أن يحرس بعضهم من بعض، إذا كان فيهم من يخشى فساده، يناهز الاحتلام، أو يكون له جرأة".
وهو أسلوب وجيز العبارة، لطيف الإشارة، يدل على عفة في نفس المؤلف، تحمله على الابتعاد عن الإطالة في مواطن الفحشاء والمنكر [15] .
والإعلاء بالغريزة الجنسية والتسامي بها يأتي من استغراق الجهد واستنفاذ الطاقة وتحويلها إلى عمل نافع للفرد والمجتمع، وليكن قول الله رائدنا {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [16] .
فالعبادة - وبخاصة الصوم - وقاية للمؤمن؛ فهي تملأ قلبه بالطمأنينة، وتذهب عنه وساوس الشيطان؛ إذ يتيقن أن ما يفعله هو استجابة لأمر الرحمن حين يقول:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [17] .
وبهذا الأسلوب تنتصر الإرادة على الهوى، والإنسانية على الحيوانية، وإن لنا في قصة يوسف لعبرة.
تربية الدعاة:
ولتخريج الدعاة إلى الله يستلزم الأمر تهيئة بيئة إسلامية سليمة يعيش العاملون فيها ونفوسهم مفعمة بحبّ الرحمن، الذي خلق الإنسان علمه البيان، وقلوبهم مؤمنة بخلود رسالة الإسلام وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
يجب أن تكون عقيدة المعلم والمتعلم مبنية على التوحيد لله رب العالمين، وفهم القرآن فهما دقيقا؛ فعلى الإنسان أن يعيش مع آياته الكريمة حتى يكون خلقه القرآن، فهو الكتاب الوحيد الذي يرافقه في رحلته طيلة حياته، يحل به كل مشكلة، وينتصر به على كل معارضة، ويفوز به في الدنيا والآخرة، إنه مفتاح السعادة وباب الرحمة.
ويجب أن تدرّس السنة المحمدية؛ فبها ينتظم المجتمع على أسس قويمة، فهي تزكية للنفوس الإنسانية، وهي هادية لفهم الآيات السماوية، إنها الوحي الثاني من رب البرية.
وأن يهتم الدارسون بالكشف عن جوانب العظمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلاحية هذه الشخصية الكريمة لتكون قدوة لجميع الأجيال، وأسوة حسنة لجميع طبقاتها وأفرادها؛ إنها الشخصية التي لا تسعد البشرية ولا تتزن الحياة ولا يقوم المجتمع الصالح إلا بالاقتداء بها واتخاذها إماما ورائدا [18] ، ويتفرع من هذين الأصلين الثابتين كتاب الله وسنة رسوله علوم الدنيا والدين.
فلننظر مثلا في فرع كالشريعة الإسلامية، ولنطبق ما فيها من حكمة بالغة ومقاصد نبيلة، مع مراعاة تطور العصر الحديث، وما جدّ فيه من نظريات وأفكار شملت الحياة بأسرها، وتناولت العلوم كلها.
ولنأخذ بعين الاعتبار أن تكون علوم اللغة العربية أدوات لمعرفة ما في هذين المصدرين من كنوز وضعها الله لعباده؛ رحمة بهم وجعلها خيرا وشفاء لما في صدورهم.
وكما نعلم أن كتاب الله لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ فعلوم البشر النظرية أو العقلية ضئيلة، وهي مستمدة من علم الله الذي لا حدود له، ولا يمكن الإحاطة به، فلنتخذ القرآن سراجنا إلى السعادة.
فالله يرشد عباده في كثير من آياته إلى الحياة الاجتماعية الفاضلة؛ فيحثهم على الزواج وينفرهم من الزنا، وينظم الحياة الأسرية على المحبة والمودة المتبادلة والأواصر المتينة المبنية على أسس سليمة، ولا قيمة للعبادات إذا لم تكن لصالح الجماعات المحتاجة إلى الإعانات، كما في قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [19] .
ولما كان المال عصب الحياة فقد ورد في القرآن الكريم الحثّ على الإنفاق في صور شتى، كالصدقة والزكاة وعتق العبد وإطعام المسكين والعناية باليتيم.
وقرن سبحانه وتعالى الإحسان بالوالدين بعبادته الحقة فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [20] .
والله يعلم أعمالنا كبرت أم صغرت؛ {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [21] ، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [22] ، بل أكثر من ذلك {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [23] .
والهدف من وراء ذلك هو ألا يعمل الإنسان إلا الخير، ولا يفكر إلا في الخير؛ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [24] .
أن يعلم كل فرد أن الله رقيب عليه، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه يحاسبه بالعدل الذي هو أساس ملكه، سبحانه وتعالى لا يظلم أحدا؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [25] .
يا أخي اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فالإيمان بالله وحده والتزام عبادته، والاعتصام به سبحانه، هي الوسائل الفعالة في التربية المؤدية إلى حياة الضمير ويقظته، والعبادة العملية هي الطريق الصحيحة إلى تثبيت ذلك وتدعيمه.
فالصلاة - وهي الركن الركين في الإسلام - عبادة الغرض منها معرفة الله، وذكره في كل وقت، ودوام الذكر هو السبيل إلى يقظة الضمير، لهذا السبب نصّ الفقهاء على وجوب انصراف المرء في الصلاة إلى ذكر الله، مع عدم الانشغال بأي أمر من أمور الدنيا، والصلاة المفروضة على المسلمين يؤدونها في خمسة أوقات متفرقة من كل يوم لدوام الذكر [26] ، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [27] .
ولا تصح الصلاة بغير وضوء؛ لأنه شرط للصلاة، والوضوء غسل وطهارة ونظافة، والنظافة من الفضائل الشخصية العظيمة الأثر في الصحة، كما تنتقل فائدتها إلى النفس فتطهرها، ذلك أن الشعور بالنظافة الظاهرة يهيئ الإنسان إلى النظر في المعاني بنفس الأسلوب؛ فيعف اللسان ويطهر الفكر، فالإنسان مطالب بطهارة الجسم كما هو مطالب بطهارة القلب والنفس، لذلك ينبغي أن يكون صادقا عفيفا، أمينا، حافظا للعهد [28] .
وأسلوب القرآن حكيم في الترغيب في الدين والترهيب من الخروج على مبادئ الإسلام والمسلمين؛ لعلمه سبحانه بالطبيعة الإنسانية التي فيها التفكير والتدبير، وفيها المحبة والكراهية، وسلوك الفرد يتحرك بدافع من الرأي والنظر، ويتحرك بقوة الخوف والغضب، وقد وصف الله الجنة في محكم آياته ليكون الناس على بصر بما يلقون من ثواب هو النعيم الذي إليه يشتاقون، وفي نفس الوقت صور الجحيم وما فيها من عذاب أليم ليكون المجرمون على علم بما ينتظرهم يوم الدين.
وهكذا يرسم الدين الإسلامي للناس قواعد التربية السليمة التي ينبغي أن يسيروا عليها، ولن يضل الناس طالما تمسكوا بالقرآن والسنة على الرغم مما يسود العالم من فساد رأي يدعى بالحرية، ووقاحة فكر تنعت بالجرأة، وفلسفة مادية ملحدة تحاول تفسير كل شيء على هواها، إنها مضللة مفسدة.
إن الدين الإسلامي ينظم أفعال المرء مع نفسه، وأفعال المرء مع غيره، فالله سبحانه ينصح الإنسان بالاقتصاد في المال، كما يقتصد في تناول الطعام والشراب لصلاح حاله وصلاح جسده، فيقول:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْط} [29]، ويقول:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [30] ، هذه فضيلة الوسط بين الإفراط والتفريط التي لا تتلاءم مع الحياة الواقعية.
ويرى جولد زيهر: "أنه إذا أردنا الإنصاف ينبغي أن نؤمن أن في مذهب الإسلام قوة صالحة توجه الإنسان نحو الخير، وأن الحياة المتفقة مع التعاليم الإسلامية حياة أخلاقية لا غبار عليها، ذلك أنها تتطلب الرحمة نحو جميع مخلوقات الله، والوفاء بالعهود، والمحبة والإخلاص، وكفّ غرائز الأنانية"[31] .
فالإسلام شريعة سمحة تدعو الإنسان إلى الخير والرحمة، وتحثه على الإخلاص والمحبة، وتقضي على الأنانية التي هي آفة البشرية.
وإذا كان أصحاب الكهف مثلا للشباب المستبصر الذي لم تطمس ظلمات الكفر في بيئته شعاع فطرته، ولم تشب أوضاع الضلال صفاء استقامته فإن المجتمع الإسلامي لا يترك شبابه لهذه المعاناة، ولا يعرضهم لهول هذه المحن، فهو مجتمع يقوم على الإيمان بالله وتحقيق شريعته، ومن هنا فهو حريص على أن يحمي ناشئته من الفتنة، ويقيهم سبل الضلال والغواية، فلا يكل توجيههم إلى قلوب مريضة، ولا يترك زمامهم بأيد ملوثة، بل يوفر لكل ناشئ فيه جوا صالحا تزكو فيه الفطرة وتتفتح أزهارها.
فأئمة الضلال حين يتولون التوجيه والتنشئة يصبغون الأجيال بصبغتهم، ويوجهون بها إلى طريقهم؛ فيضل المجتمع ويشقى [32]، وهذا مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"[33] .
فإذا شبّ الفتيان على العقيدة السليمة، ورسخت في نفوسهم العادات الحميدة استحقوا أن يوصفوا بما وصف به أهل الكهف من قبلهم ِ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [34] ، إن أهل الكهف قد راعهم ما تردى فيه قومهم من الشرك بالله، فاعتزلوا بهتانهم، ونجوا بأنفسهم حتى لا يصيبهم ذلك البلاء، ولا تتسرب إليهم تلك الأدواء، إنهم لجأوا إلى الكهف ينشدون من الله الرحمة، وأن يثبت قلوبهم على الإيمان به، ويهديهم بنور الحقيقة، ويفتح لهم أبواب المعرفة؛ ليبنوا بسواعدهم الفتيّة وعزائمهم القوية مجتمعا جديدا خالصا من أدران الوثنية والشرك برب البرية.
والدعاة من الشباب المسلم يصنعون بإذن الله الخير للناس كلهم، فينقذون العالم من الظلام الذي يعمهم، ومن المفاسد التي سرت بينهم إلى حد بعيد؛ حتى أصبح الناس منها في كرب عظيم.
والشباب المؤمن يملك القوة ويتحمل المسئولية مستجيبا لأمر ربه، ناشرا رحمته وعدله.
وأملنا أن يحقق هذا الشباب رسالة السماء ويكسب العالم الأمن والصفاء، ويعيش الناس في سعادة وهناء في ظل شريعة الإسلام السمحاء.
وأخيرا فهذه كلمة كتبتها موجزة، ولكن التربية الإسلامية تحتاج إلى دراسة مستفيضة، أرجو الله تعالى أن يوفقني إلى القيام بها، فالعالم في حاجة ملحّة إليها، وستكون إن شاء الله الهادية له من الضلال والظلام والمنقذة له من الغرق والآلام.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
سورة الحشر الآية 7.
[2]
سورة الأحزاب الآية 21.
[3]
النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ج 1 ص 3.
[4]
سورة القلم الآية 4.
[5]
رواه البخاري.
[6]
رواه ابن ماجة.
[7]
رواه أبو داود والحاكم واحمد في مسنده.
[8]
سورة النور الآية 59.
[9]
سورة الفرقان الآية 74.
[10]
سورة النساء الآية 124.
[11]
سورة البقرة الآية 245.
[12]
سورة لقمان الآية 13،17،18.
[13]
من وصايا الرسول لطه عفيفي (عشرة أجزاء) .
[14]
أخرجه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه.
[15]
الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: التعليم في رأي القابسي ص 118.
[16]
سورة الشرح الآية 7، 8.
[17]
سورة النور الآية 33.
[18]
نحو التربية الإسلامية الحرة لأبي الحسن علي الحسن الندوي ص 93.
[19]
سورة الماعون الآية 7.
[20]
سورة الإسراء الآية 23.
[21]
سورة يونس الآية 61.
[22]
سورة الحديد الآية 4.
[23]
سورة ق الآية 16.
[24]
سورة البقرة الآية 235.
[25]
سورة الزلزلة الآية 7، 8.
[26]
الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: التعليم في رأي القابسي ص 102.
[27]
سورة الذاريات الآية 55.
[28]
الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: التعليم في رأي القابسي ص 115.
[29]
سورة الإسراء الآية 29.
[30]
سورة الأعراف الآية 31.
[31]
أحمد فؤاد الأهواني: التعليم في رأي القابسي ص 96.
[32]
الدكتور مصطفى عبد الواحد: المجتمع الإسلامي ص 167.
[33]
أخرجه الطبراني والبيهقي.
[34]
سورة الكهف الآية 13.
حديقة الشعر
قال لي صاحبي
لفضيلة الشيخ: معوض عوض إبراهيم
كلية الشريعة وأصول الدين
لك ما قصته من الأبناء
قال لي صاحبي وإني لراد
ويجيبون في ارتياح دعائي
أترى القوم يحمدون مقالي
شهوات لا يسمعون ندائي
أم تراهم كما أراهم أسارى
ناصحا للعِدا وللأصدقاء
قلت حدّث فما أظنك إلا
فتن العيش عن حياة النقاء
قال: إن الكثير قد صرفتهم
حسبُه أنه من الأعداء
واستباهم فكر جديد دخيل
ليس يزكو في نور وحي السماء
وهو لو فكروا سراب وزيف
دونها بالحجارة الصَّماء
ويحَ من يترك اللآلي ويرضى
ن أو هدي سيد الأنبياء؟!
واللآلي ماذا تكون من القرآ
أمعنوا في الجهالة الجهلاء
قلت هذا مصابنا في أناس
كالأوالي، ولا النّسا كالنساء
لست ألفي الرجال منهم رجالا
كي يعودوا من عالم الأهواء
فادعهم جاهدا فأني سأدعو
يقتدى الدين في دواعي الفداء
علَّنا أن نكون لله جندا
م نهج السلام والعلياء
ويقيم الحياة في كنف الإسلا
المكتبة الإسلامية
حول كتاب: الحمد لله هذه حياتي بقلم الدكتور عبد الحليم محمود
لفضيلة الدكتور: عبد المنعم حسنين - كلية الدعوة وأصول الدين
نشر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر أخيرا كتابا تحت عنوان (الحمد لله هذه حياتي) ، سجَّلَ فيه جزءا من الأحداث التي مرّت به منذ ولادته إلى حصوله على درجة الدكتوراه، وذكر في نهاية الكتاب أن جزءا ثانيا من الكتاب سيصدر في المستقبل، وقد تتلوه أجزاء أخرى على حسب الأحداث التي مرّت بحياة فضيلته التي جاوزت ثلثي قرن من الزمان.
وأحب أن أقول إن قيام شخص بكتابة تاريخ حياته عمل لا يمكن أن يتم بصراحة وحَيدة وتنزه عن المبالغة؛ لأن الإنسان مهما تجري الدقة والأمانة لا يمكن أن يتخلى عن عواطفه وبخاصة نحو نفسه، فالإنسان يحب نفسه حبا مفرطا يجعله لا يرى عيوبه، ويدفعه إلى مداراة هذه العيوب إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، والإفراط في ذكر المحاسن والمزايا؛ فلا يعقل أن ينقد إنسان نفسه أو يذكر عيوبه ونواقصه، ولذلك لم نر كاتبا تحدث عن نفسه وذكر عيبا خطيرا فيه أو منقصة تخل بالشرف أو تقوض دعائم الخلق القويم، وكثيرا ما تنشر المذكرات الخاصة بشخص بعد وفاته، فإذا هي تتناقض ما كتبه في كتاب نشره على الناس في حياته، وهذه هي طبيعة الإنسان في كل عصر وأوان، لا يرى عيوب نفسه، وإذا رأى بعضها لا يذكر عيبه أمام الناس حتى ولو ذكره في مذكراته الخاصة التي يعلم أنها لن تنشر في أثناء حياته، فإن نشر شيئا من مذكراته في أثناء حياته حذف منه ما سجله من عيوب نفسه.
وهذا ما نلاحظه في كتاب الدكتور عبد الحليم محمود (الحمد لله هذه حياتي) فهو في هذا الكتاب الذي يعدّ من قبيل الكتابة الذاتية لا يذكر شيئا يعيبه، لا في خلقته ولا في خلقه وسلوكه، ولا في حياته في داخل مصر وخارجها، وحتى الأحداث التي ذكرها وبدا فيها عيب لم ينتبه الشيخ إليه حين ذكره، وظن أن في ذكره نوعا من الظرف أو التظرف، وشيئا من الدعابة التي يمتع بها القارئ، ويسري بها عن الفارق في الاطلاع على تاريخ حياة الشيخ وما جرى فيه من أحداث كلها طيبة في رأيه بدرجة جعلته يحمد الله على حدوثها في الصورة التي حدثت بها.
وفي رأيي أن شيخ الجامع الأزهر كان ينبغي عليه أن يعف عن مثل هذه الكتابات الذاتية التي لا تحمل غير معنى الدعاية لنفسه، والتباهي بماضيه وحاضره، وأن يستعمل قلمه ومواهبه في الدعوة إلى دين الله، وفي إرشاد الحيارى الضالين من أبناء المسلمين، وفي محاربة الفساد والانحراف، وفي إخراس صوت الشيوعيين، وفي دعوة الناس إلى عبادة الله إله واحد لا شريك له وترك عبادة غير الله.
ولكن شيخ الأزهر آثر أن يدعو لنفسه، ويعرف بشخصيته ويظهر نفسه في صورة لم يكن يتمنى لنفسه أفضل منها، ويتحدث عن فرنسا حديثا يشبه ما كتبه طه حسين في كتابه (الأيام) ، وما كتبه كل مبهور بالغرب، مشيد بما فيه من حضارة مادية زائفة، ممسك عن الحديث عن الإلحاد والفساد الخلقي ومحاربة للإسلام والحضارة الإسلامية، وتلفيق الأباطيل والإلقاء بها في ساحة الشريعة الإسلامية الغراء - برغم أن شيخ الجامع الأزهر كتب ما كتب ونشره على الناس في كتابه (الحمد لله هذه حياتي) وهو في موقع المسئولية مسئولية حمل أمانة الدعوة إلى دين الله، وردّ كيد أعدائه وبيان حقيقة الإسلام، وحاجة البشرية إلى دين الحق.
وسأعرض نماذج مما جاء في كتاب شيخ الجامع الأزهر أرجو أن تكون كافية لبيان ما فيه وبالله التوفيق.
يقول الشيخ في كتابه المذكور ص 39: "كان يوما مشهودا ذلك اليوم الذي ختمت فيه القرآن الكريم، لقد كان والدي في فرح غامر، وكان البيت كله في بهجة وسرور شاملين، وكانت حفلة حافلة بأطايب اللحم والزبد، ختمت بالذكر شكرا لله تعالى".
ويقول في ص 113 حين ذهب لأداء امتحان العالمية: "أما والدي فإنه قد أسرع إلى ضريح العارف بالله الإمام أحمد الدرديري، واعتكف بمنزله بمسجده يقرأ من القرآن ما تيسر وبخاصة سورة يسن، ويتضرع إلى الله أن يوفقني ويكتب لي النجاح".
فهو في أكثر من مناسبة يبين تعلقه بالفرق الصوفية وبالأضرحة، وهو يعلم علم اليقين أن الفرق الصوفية روّجت كثيرا من البدع والخرافات، ونشرت التواكل بين كثير من المسلمين، وصرفتهم عن العمل الجاد الذي دعا إليه الدين، كما يعلم الشيخ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد عليها.
والعجيب أن الشيخ يقرر بعد هذا أنه هو الذي صمّم على السفر إلى فرنسا برغم معارضة والده في هذا الأمر، فهو يقول في ص 113-114 من الكتاب:"كان والدي -عليه رحمة الله - يحب أن يراني مدرسا بالأزهر، لقد كان ذلك يسعده كل السعادة، ولكنه فوجئ برغبتي الملحة في السفر إلى فرنسا لإتمام دراستي في جامعاتها، إنه لم يكن يتوقع ذلك، ولا يدور شيء منه في خلده، وأخذ يثنيني عن عزمي بشتى الوسائل، ولكن محاولاته لم تفلح، وأعلنت في عزم مصمم التمسك برأيي في السفر، ولو لم يكن بيدي شيء من المال، وأخيرا رضي والدي بعد لأي".
ثم يصف الشيخ نزوله إلى مارسيليا بفرنسا فيقول في ص 117-119 "ويبدو أن الوقت الذي نزلنا فيه كان وقت انصراف العمال للغداء؛ لقد رأيت السرعة في كل اتجاه، ونشاط الحركة في كل ناحية، ورأيت النساء والفتيات وكأنهن يقفزن في سير من السرعة، كما كن يتحدثن في سرعة أيضا، وهن فرحات مستبشرات سعيدات يضحكن في سرور وبشاشة، ولست أدري لماذا وردت على ذهني صور من الشعر العربي تصور الجمال في النساء العربيات، وثب إلى ذاكرتي قول ذلك الشاعر الذي يعبر عن المثل الأعلى في جمال المرأة بقوله: (مشي القطاة ونطقها إيماء) ؟؛ إن المرأة هنا لا تمشي مشي القطاة، وليس نطقها - كما يقول الشاعر - إيماء، فأين إذن نؤوم الضحى؟ ".
ثم يقول الشيخ: "ورأيت في مارسيليا أمرا آخر نحن أشدّ ما نكون حاجة إلى الانتباه له، وإلى الالتزام به؛ لأنه من شُعَب الإيمان، ذلك هو النظافة؛ نظافة الشوارع، ونظافة المحال ونظافة الناس جميعا ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وتجتمع النظافة مع التنسيق والتناسق، فيبدو الجو كله فتنة للناظرين ".
هذا ما كتبه شيخ الجامع الأزهر بالحرف الواحد، وهو غني عن التعليق؛ فتمجيده للغرب واضح، وكأن الأمر نظافة ظاهرية شكلية، أما نظافة الباطن وطهارة العقيدة وعدم الإضرار بالشعوب الإسلامية والإساءة إلى الإسلام من جانب الغرب فكل هذه الأمور لا تهم الشيخ ولا تلفت نظره في البداية، وإنما الذي لفت نظره فور وصوله الجمال والنظافة الظاهرية.
ومن عجب أن الشيخ بعد حديثه بإعجاب عن هذه النظافة الظاهرية يقول: "ولكن الأمر الهام الذي أحب أن يتنبه إليه الجميع ويفكروا فيه هو أننا - وكنا مجموعة قضى بعضنا سنوات في فرنسا من قبل - بمجرد أن نزلنا إلى مارسيليا وأخذنا نطوف هنا وهناك ننظر إلى واجهات المحال التجارية وإذا ببعضنا يصل وبسرعة إلى إقامة علاقات ببعض الفتيات".
ثم يقول في ص 120: "إن الطالب ينزلق إلى الشراب وإلى الصلة الآثمة في مجال الجنس، وإلى التخلي عن كل الفروض الدينية، والأخطر من ذلك سفر الفتيات إلى فرنسا"، إلى أن يقول:"ولا ريب أن الفتاة ستقاوم لأول مرة؛ رعاية بدينها وخلقها وشرفها، ولكن الجو الذي تعيش فيه سيدفعها حتما إلى الصلة الجنسية"، ثم يقول:"إنني هنا لا أتحدث بالمنطق وإنما أتحدث عن واقع محسوس، وما دام الأمر كذلك فإن كل نقاش فيه سيتهافت أمام الواقع".
وكلام الشيخ ليس في حاجة إلى شرح وتفسير، كما أنه ليس في حاجة إلى تعليق؛ فكيف يطلب علما في مثل هذه البيئة الفاجرة، وبخاصة إذا كان العلم الذي يطلبه دينيا؟!
وقد تحدّث الشيخ عن دراسته في هذه البيئة الفاجرة الملحدة؛ فقال إنه بعد حصوله على الليسانس فكر في رسالة الدكتوراه، وأراد اختيار موضوع يتصل بفن الجمال، غير أن الموضوع رفض، ففكر في موضوع يتصل بمناهج البحث، ولكنه رفض أيضا، وأخيرا اتصل بالأستاذ مسينون واتفق على أن يكتب عن التصوف الإسلامي من خلال دراسة الحارث ابن أسد المحاسبي.
يقول الشيخ في ص 171 من كتابه المذكور: "ونعمت في اللحظات الأولى من وصولي بهذا الذوق الراقي في كل شيء، وهذه النظافة التي تجدها أينما تسير"، إلى أن يقول:"وبهرتني الحضارة الأوربية في مظهرها هذا الخارجي الذي يتمثل في النشاط والنظافة والذوق"، ثم يقول في ص 172: "ودخلت الجامعة وبدأت الدراسة في علم الاجتماع ومادة الأخلاق وتاريخ الأديان، وكانت هذه المواد يتزعم دراستها وتدريسها الأساتذة اليهود الذين تتلمذوا على الأساتذة اليهود!.. وكانت هذه المواد كلها تسير في تيار محدد، هو أنها علوم مجتمع، أي أنها لا تتقيد بوحي السماء، ولا تتقيد بالدين على أنه وضع إلهي؛ فهي تدرس في موضوعاتها على أنها مظاهر اجتماعية ومظاهر إنسانية.
ثم يقول في ص 173: "ودراسة الدين والأخلاق إذن تتجه إلى النشأة والمظاهر وعوامل التطور، وظواهر التطور، وليس للسماء في الدراسة من نصيب إلا وصف الظاهرة نشأت في المجتمع".
ويقول في ص 174: "ومن هنا كانت الظاهرة التي تجدها في طلبة الجامعات في أوربا من الاستخفاف بكثير من العقائد وبكثير من القيم، وينتهي الطالب بالإلحاد"، ثم يقول في ص 176:"إن اليهود يهدفون من وراء كل ذلك إلى السيطرة على العالم، وألا يقف في وجههم قوة من إيمان أو قوة من خلق"، ويقول الشيخ في ص 177:"ولم يكن من السهل عليّ في أثناء هذه الدراسة الاستمساك الواثق بالقيم والمثل التي نشأت عليها، ولولا عون من الله سبحانه وتوفيق منه لصرت كواحد من هؤلاء الآلاف الذين يدرسون في الجامعات الأوربية ثم يخرجون منها وقد تحطمت في نفوسهم المثل الدينية الكريمة".
هذا ما كتبه الشيخ عن الدراسة في فرنسا بل في الجامعات الأوربية بعامة، والواقع أن ما كتبه ليس جديدا فهو معروف منذ عاد طه حسين من فرنسا وبدأت ظاهرة التشكيك تظهر في كتاباته وفي كتابات كل من درس في أوربا قبل سفر الدكتور عبد الحليم محمود في تصميم وإصرار على الدراسة في فرنسا برغم معارضة والده.
صحيح أن الشيخ يؤكد أنه لم يتأثر بموجة الإلحاد، ويزهو بثباته وتمسكه بمبادئ دينه الحنيف، ولا يثبت لنفسه إلا كل فضيلة على طريقة من يكتبون كتبا عن أنفسهم بأسلوب الكتابة الذاتية كما يسمونها، ولكن الشيخ لم يحاول وهو في موقع المسئولية أن يمنع سفر الطلاب والفتيات للدراسة في أوربا مع علمه بأن الكثيرين منهم يذهبون لدراسة العلوم الإسلامية في هذه البلاد التي تطغى فيها موجة الإلحاد.
أنا لا أنكر أن الشيخ تحدث عن بعض جوانب الإسلام ضمن حديثه عن نفسه واستعراضه لتاريخ حياته، وانتقد وجود كليات الحقوق التي تخصص عشرين ساعة في الأسبوع للقوانين الأوربية، أي للفكر الأوربي في التشريع، أي أنها تعرض على الطالب أن يستعمر فكره الأوربيون في مجال التشريع، وأن يلغي ذاتيته الإسلامية في هذا المجال، بينما تخصص هذه الكليات ساعتين فقط للتشريع الإسلامي، وقال: إن منهج الاتباع هو الطريق الذي ينبغي أن يسلكه المسلم في حياته، وإذا سار المسلم فيه فردا - أو سار فيه المسلمون مجتمعا - فإن الله سبحانه وتعالى يكتب له الهدوء والطمأنينة والسعادة، {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
لا أنكر على الشيخ حديثه عن الإسلام ضمن حديثه عن نفسه في كتابه (الحمد لله هذه حياتي) ، ولكن الذي أنكره عليه في هذا الكتاب أنه لا يليق به وهو يشغل منصب شيخ الجامع الأزهر أن يتحدث عن نفسه بهذه الصورة، وأن يباهي بكل ما يصدر عن الصوفية وما يدعو إليه التصوف، وأن يشغل الناس بالحديث عن نفسه في وقت ينبغي أن يصرف فيه جهده في الدعوة إلى دين الله والحكم بما أنزل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة البدع والخرافات، ومقاومة موجة الإلحاد، ورد كيد أعداء الإسلام الذين يحاربونه بكل وسيلة ممكنة، ويستغلون وسائل الإعلام المختلفة في حربهم السافرة ضد الإسلام وحقائقه الناصعة.
ولعل شيخ الجامع الأزهر يقلع عن إصدار مثل هذه الكتب، ويصدر كتابا يوضح حقائق الإسلام، ويرشد الحيارى الضالين إلى دين الحق الذي يتفق مع الفطرة؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} .
والله يقول الحق ويهدي السبيل، وبالله التوفيق، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
حكم من يسخر من القرآن وأهله
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه:
أما بعد: فقد اطلعت على ما نشرته مجلة الدعوة في عددها الصادر في يوم الاثنين الموافق 27/1/1397هـ تحت عنوان (عكاظ تسخر من القرآن وأهله)، ثم ذكر تحت هذا العنوان ما نصه: وطلعت علينا عكاظ في عددها الصادر بتاريخ 7/4/1396هـ لتسخر من القرآن وأهله، ولتقول ما نصه:"والرجال يعتقدون أن المرأة كائن آخر، والمرأة في تعبيرهم ناقصة عقل ودين، وهم يعتقدون أن الرجال قوامون على النساء". انتهى ما نقلته مجلة الدعوة.
ولقد دهشت لهذا المقال الشنيع، واستغربت جدّا صدور ذلك في مهبط الوحي وتحت سمع وبصر دولة إسلامية تحكم الشريعة وتدعو إليها، وعجبت كثيرا من جرأة القائمين على هذه الجريدة حتى نشروا هذا المقال الذي هو غاية في الكفر والضلال والاستهزاء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطعن فيهما، وليس هذا ببدع من القائمين على صحيفة عكاظ؛ فقد عرفت بنشر المقالات الداعية إلى الفساد والإلحاد والضرر العظيم على المجتمع، كما عرفت بالحقد على علماء الإسلام والاستطالة في أعراضهم والكذب عليهم؛ لأنه ليس لدى القائمين عليها وازع إيماني، ولم تردع بوازع سلطاني، فلهذا أقدَمت على ما أقدمت عليه من الكفر والضلال في هذا المقال الذي لا يقوله ولا ينشره من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يقوله ولا ينشره من يحترم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولمزيد التثبت والرغبة في الوقوف على أصل المقال ومعرفة من قاله طلبت الصحيفة المذكورة المنشور فيها هذا المقال، فأحضرت لي، فألفيتها قد نشرت ما نقلته عنها مجلة الدعوة حرفيا، ونسبت ذلك إلى من سمّت نفسها: أمل عبد الله، ولم تعلق الصحيفة شيئا في إنكار هذا المقال، فعلم بذلك رضاها به وموافقتها عليه.
ومعلوم أن الذي جعل الرجال قوامين على النساء هو الله عز وجل في قوله تعالى في سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية، فالطعن في قوامة الرجال على النساء اعتراض على الله سبحانه، وطعن في كتابه الكريم وفي شريعته الحكيمة، وذلك كفر أكبر بإجماع علماء الإسلام، كما نصّ على ذلك غير واحد من أهل العلم منهم القاضي عياض في كتابه (الشفاء) .
كما أن الذي وصف النساء بنقصان العقل والدين هو النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عليه الصلاة والسلام أن من نقصان عقلها أن شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل الواحد، وذكر أن من نقص دينها أنها تمكث الليالي والأيام لا تصلي، وتفطر في رمضان بسبب الحيض، وإن كان هذا النقصان ليس عليها فيه إثم، ولكنه نقصان ثابت معقول لا شك فيه ولا اعتراض على الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لأنه أصدق الناس فيما يقول وأعلمهم بشرع الله وأحوال عباده، فالطاعن عليه في ذلك طاعن في نبوّته ورسالته، ومعترض على الله سبحانه في تشريعه، وذلك كفر وضلال لا ينازع فيه أحد من أهل العلم والإيمان، والأدلة النقلية والعقلية والشواهد من الواقع ومن معرفة ما جبل الله عليه المرأة وميزها به عن الرجل كل ذلك يؤيد ما أخبر الله به سبحانه من قوامة الرجال على النساء وفضلهم عليهن، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من نقصان عقل المرأة ودينها بالنسبة إلى الرجل، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون كل فرد من أفراد الرجال أفضل ولا أعقل من كل فرد من أفراد النساء، وكم لله من امرأة أفضل وأعلم وأعقل من بعض الرجال، وإنما المراد تفضيل الجنس على الجنس، وبيان أن هذا أكمل من هذا، والأدلة القطعية شاهدة بذلك كما سبق.
وقد اتضح من كلام صاحبة المقال (أمل عبد الله) أنها أرادت من طعنها على قوامة الرجال على النساء، ومن اعتراضها على نقصهن في العقل والدين أن ذلك يسبب انقسام المجتمع وعدم ترابطه وتعاونه، وذلك يؤيد ما ذكرنا آنفا من كون المقصود بالمقال المذكور هو الطعن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتهامها بأنهما سبب التخلف وانقسام المجتمع وعدم تعاونه، ولا شك أن هذا من أوضح الكذب وأبطل الباطل، وليس في اعتقاد ما دلّ عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في قوامة الرجال على النساء ونقص عقول النساء ودينهن ما يوجب الضرر على المجتمع الإسلامي وانقسامه وعدم ترابطه وتعاونه، بل ذلك من تزيين الشيطان وإيحائه إلى أوليائه من الجهال والمشركين ومن سار في ركابهم، كما أنه لا يلزم من ذلك إهدار المرأة من حساب المجتمع، ولا إعفاؤها من المشاركة فيما يصلح المجتمع من النصيحة لله ولعباده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الحق، وغير ذلك من الأمور الواجبة على الجميع، بل هي مأمورة بذلك ومفروض عليها القيام بما تستطيع في هذا السبيل، كما قال الله عز وجل:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية، قال سبحانه:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَ جْراً عَظِيماً} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم مشورة أم سلمة
يوم الحديبية، وحصل بذلك نفع كبير، وقصة خديجة رضي الله عنها في بدء الوحي وما حصل بها من الخير الكثير والتفريج عن النبي صلى الله عليه وسلم معروفة لدى أهل العلم، والوقائع من هذا النوع في التاريخ الإسلامي كثيرة.
وإنه لعجب عظيم أن يجترئ أصحاب هذه الصحيفة على نشر هذا المقال مع انتسابهم للإسلام، وقبضهم المعونات السخية من دولة الإسلام لتشجيع صحيفتهم واستمرار صدورها، ولكن لا عجب في الحقيقة فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وفي الأمثال السائرة المتداولة: من أمن العقاب أساء الأدب.
وقد روي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قالا: "إن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن".
وإن هذه الصحيفة قد تجاوزت الحدود واجترأت على محاربة الدين والطعن فيه بهذا المقال الشنيع جرأة لا يجوز السكوت عنها، ولا يحل لوزارة الإعلام ولا للحكومة الإغضاء عنها، بل يجب قطعا معاقبتها معاقبة ظاهرة بإيقافها عن الصدور ومحاكمة صاحب المقال والمسئول عن تحرير الصحيفة وتأديبهما تأديبا رادعا، واستتابتهما عما حصل منهما؛ لأن هذا المقال يعتبر من نواقض الإسلام ويوجب كفر وردة من قاله أو اعتقده أو رضي به؛ لقول الله سبحانه:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية، فإن تابا وإلا وجب قتلهما لكفرهما وردتهما، ولا يخفى على ذوي العلم والإيمان ان هذا الإجراء من أهم الواجبات؛ لما فيه من الحماية لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشريعة الله الكاملة، ولما في ذلك من ردع كل من تسول له نفسه أن يفعل ما فعلته صحيفة عكاظ، ويجترئ على ما اجترأت عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أخبار الجامعة
مجلس الجامعة
الدورة الرابعة للمجلس الأعلى للجامعة:
عقد المجلس الأعلى للجامعة دورته الرابعة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير فهد ابن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة - حفظه الله - في المدة من 16 إلى 18 من رجب 1397هـ بمقر الجامعة بالمدينة المنورة، وافتتح سموه هذه الدورة بكلمة قال فيها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
ومن دواعي سروري في هذا اليوم أن أفتتح أنا وزملائي أعضاء المجلس الدورة الرابعة للمجلس الأعلى للجامعة، ويسرني في هذه المناسبة أن أنقل تحيات جلالة الملك خالد لأعضاء المجلس، وتمنياته الطيبة لهم بالتوفيق والنجاح في هذا العمل المثمر.
ومما يشرفني أن أساهم في شدّ أزر هذه الجامعة من جميع النواحي؛ سواء إدارية أو مالية أو اجتماعية، وإني لأرجو من صميم قلبي أن تستمر هذه الجامعة في حالة تطوّر مستمر، وأن تكون قدوة إن شاء الله لجميع الأقطار الإسلامية، وأن تمتد إلى جميع النواحي في مشارق الأرض ومغاربها في كافة البلاد الإسلامية، وأن المملكة العربية السعودية ملكا وحكومة وشعبا سوف تبذل ما تستطيع من جهد لدعم هذه الجامعة التي بنيت على أسس سليمة.. وختاما أرجو لكم التوفيق، وأرجو أن نبتدئ عملنا في هذا اليوم بالخير والبركة إن شاء الله، وشكرا لكم".
ومن أهم قرارات المجلس الأعلى في هذه الدورة ما يلي:
اقتراح افتتاح فرعين للجامعة:
أيّد المجلس الأعلى اقتراح الجامعة افتتاح فرع لها في كل من (اندونيسيا) و (نيجيريا) ، على أن تقوم الجامعة بإجراء الدراسات التمهيدية لذلك، وعرض النتيجة في الدورة التالية.
تعيين أعضاء بهيئة التدريس بالجامعة:
وافق المجلس الأعلى على تعيين كل من:
أستاذا مشاركا.
- فضيلة الشيخ محمد حماد الأنصاري
أستاذا مساعدا بهيئة التدريس بالجامعة
- وفضيلة الشيخ محمد المختار الشنقيطي
أستاذا مساعدا.
- وفضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة
اللائحة التنفيذية، ولائحة المتعاقدين:
أقر المجلس اللائحة التنفيذية للجامعة، وكادر المتعاقدين من أعضاء هيئة التدريس والمدرسين المساعدين (المحاضرين) والمعيدين بالجامعة.
وفود الدعوة في الخارج:
أوفدت الجامعة في العطلة الصيفية هذا العام 96/1397هـ وفودا للدعوة الإسلامية إلى كل من: أندونيسيا، نيجيريا، غانا، تونس، موريتانيا، فرنسا، ألمانيا الغربية، سويسرا، ماليزيا.
تعيين عمداء لبعض الكليات:
تم تعيين كل من:
- فضيلة الدكتور محمد بن حمود الوائلي عميدا لكلية الشريعة.
- الشيخ عبد العزيز محمد القويفلي عميدا لكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية.
- الشيخ محمد أمان علي الجامي عميدا لكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية.
محاضرات الجامعة في موسمها الثقافي هذا العام:
ألقيت في هذا الموسم 15 محاضرة من أساتذة الجامعة، ويجري طبع هذه المحاضرات في كتاب مستقل لتوزيعه تعميما للفائدة.
معسكر الجامعة في بلجرشي:
أقامت الجامعة في العطلة الصيفية هذا العام معسكرا لطلاب الجامعة الذين لم يسافروا إلى بلادهم، واشترك فيه عدد منهم من أقطار مختلفة، واستمر مدة شهر في مدينة بلجرشي في المنطقة الجنوبية من المملكة، ومن أهم أهدافه:
شغل أوقات فراغ الطلاب بوجوه النشاط العلمية والعملية التي تنمي معارفهم، وتكشف عن مواهبهم، وتهذب سلوكهم، وتعمق التدين العملي في حياتهم.
تقوية عناصر التعارف وأواصر التآخي والتآلف، وتعزيز سبل التعاون فيما بينهم، وتوثيق صلتهم بأساتذتهم.
تدريبهم على الدعوة إلى سبيل ربهم، وإكسابهم المهارات في هذا المجال.
تعريف غير السعوديين ببعض مناطق المملكة التي يتوقون إلى معرفتها.
وقد أمضى الطلبة أوقاتهم في هذا المعسكر في تنفيذ البرامج المعدة لهم من قبل إدارة المعسكر بإشراف بعض الأساتذة من الجامعة، مع الاستجمام والاستمتاع بجو المنطقة.
حفل التخرج:
أقامت الجامعة بعد عصر يوم السبت 16 من رجب 1397هـ بقاعة المحاضرات بها الحفل السنوي لتكريم المتخرجين والمتفوقين في العام الدراسي 96/1397هـ برعاية صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء، والرئيس الأعلى للجامعة.
وقد تفضل سموه الكريم بحضور هذا الحفل، وإلقاء كلمة فيه، نشرت افتتاحية لهذا العدد من المجلة، كما تفضل بتوزيع الشهادات على الخريجين.
وألقى في هذا الحفل كل من فضيلة نائب رئيس الجامعة وفضيلة رئيس قسم الدراسات العليا، وأحد الخريجين كلمة بهذه المناسبة، وفيما يلي كلمة نائب رئيس الجامعة عبد المحسن ابن حمد العباد.
نص الكلمة
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه وبركاته على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنها لفرصة طيبة ومناسبة عظيمة أن تحتفل أسرة الجامعة معبرة عن سرورها واغتباطها بتخرج الدفعة الثالثة عشرة من خريجي هذه الجامعة المباركة، وقد زاد في السرور وضاعف البهجة أن يتم هذا الحفل برعاية صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة: يسرني أصالة عن نفسي ونيابة عن أسرة الجامعة أن أتقدم بالشكر لسموكم الكريم على العناية التامة والتشجيع المستمر الذي تلقاه هذه الجامعة من سموكم الكريم، فبالرغم من كثرة أعمالكم قدمتم هذا اليوم إلى المدينة لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة في دورته الرابعة، وفي العام الماضى قدمتم اليها لرئاسة المجلس في دورته الأولى، وفي ذلك تعبير عملي عن حرص سموكم على هذه الجامعة، وتشجيع لهذه الجامعة يزيد في نشاطها ويشد من أزرها؛ لتواصل مسيرتها الخيرة في سبيل تحقيق الأهداف السامية التي أنشئت من أجلها.
إن الجامعة يسرها كثيرا أن تحتفل هذا اليوم بتخرج الدفعة الثالثة عشرة من كلية الشريعة، وتخرج الدفعة الثامنة من كلية الدعوة وأصول الدين، وفي العام القادم بمشيئة الله تحتفل بتخريج الدفعة الأولى من كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، وفي العام الذي يليه يتخرج الدفعة الأولى من كلية اللغة العربية والآداب، وفي العام التالي الذي يليه يتخرج الدفعة الأولى من كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية، ولقد بلغ عدد الخريجين في الدور الأول هذا العام مائة وثلاثة وثمانين جامعيا، منهم مائة وثلاثة وخمسون من خارج المملكة وينتمون إلى خمسة وثلاثين قطرا من أقطار العالم، ثمانية عشر قطرا من آسيا، وسبعة عشر قطرا من أفريقيا، وبإضافة خريجي هذه الدفعة إلى المتخرجين في الأعوام الماضية وعددهم ألف ومائتان وسبعة وسبعون جامعيا يكون عدد الحاصلين على الشهادة العليا (الليسانس) من كلتي الشريعة والدعوة وأصول الدين في الجامعة حتى الآن ألفا وأربعمائة وستين جامعيا ينتمون إلى اثنين وستين قطرا من أقطار العالم.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:
إن حكومة المملكة - وفقها الله - تقدّم للمسلمين في أنحاء العالم المساعدات المادية والمعنوية، وإن أفضل شيء قدمته وتقدمه للعالم تعليم أبنائه ليقوموا بالدعوة إلى الخير والتحذير من الشر، فهؤلاء الخريجون في الحقيقة أنفس هدية تقدمها حكومة المملكة للعالم، وأي هدية أنفس وأغلى من دعاة إلى الجنة وهداة إلى الصراط المستقيم {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
وإني لأرجو أن يكتب الله لجلالة الملك خالد حفظه الله، ولسموكم الكريم، ولكل من ساهم في تحقيق أهداف هذه الجامعة مثل أجورهم وأجور من استفاد خيرا بسببهم، فإن من دل على خير فله مثل أجر فاعله، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:
لعالمية هذه الجامعة وشمول نفعها وسمو أهدافها تلقى دائما من حكومة المملكة - وفقها الله - كل تأييد ودعم مادي ومعنوي، وتحظى بالعناية والرعاية، ويتمثل الدعم المادي باعتماد المبالغ الكبيرة في ميزانيتها سنويا، أما التأييد المعنوي فلا حدود له، وأبرز أمثلته أن جلالة الملك فيصل رحمه الله هو الرئيس الأعلى لهذه الجامعة، ثم بعد تولي جلالة الملك خالد حفظه الله تفضل بإسناد رئاستها لسموكم الكريم فانتقلت رئاستها العليا من يد قوية أمينة إلى يد قوية أمينة، وما قدوم سموكم إلى المدينة هذا اليوم لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة في دورته الرابعة، وقدوم سموكم في العام الماضي لرئاسة الدورة الأولى إلا نموذج مما تلقاه الجامعة من سموكم الكريم من رعاية وعناية.
ومن آثار اهتمام حكومة المملكة - أدام الله توفيقها - بهذه الجامعة وعنايتها بها وحرصها على تعميم نفعها ما حصل لها من توسع في مجال الدراسات العالية وفي مجال الدراسات العليا، فحصل لها نمو أفقي يتمثل بافتتاح ثلاث كليات خلال ثلاث سنوات، فقد افتتحت كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية في عام 94/1395هـ، وافتتحت كلية اللغة العربية والآداب في عام 95/1396هـ، وافتتحت كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية في عام 96/1397هـ، وبحمد الله إن الجامعة الإسلامية سبقت إلى افتتاح كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية وكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية، في عام 96/1397هـ، وهما أول كليتين من نوعهما في العالم، وحصل للجامعة نمو رأسي بافتتاح قسم الدراسات العليا لمنح درجة الماجستير ثم الدكتوراه، وقد افتتح هذا القسم في أول العام الدراسي 95/1396هـ، وخلال أشهر قليلة بمشيئة الله يبدأ في هذه القاعة بمناقشة الرسائل المقدمة لنيل درجة الماجستير.
أيها الإخوة الخريجون، يسرني أن أهنئكم بإتمام دراستكم العالية في هذه الجامعة، وبهذا التكريم الذي ظفرتم به، وهو رعاية سمو الرئيس الأعلى للجامعة حفل تخرجكم وتفضله بتسليم شهاداتكم لكم، وأحب أن ألفت أنظاركم إلى أن نيل هذه الشهادة لا يعني انتهاءكم من الدراسة، وإنما يعني وصولكم إلى بداية طريق العلم ودخولكم ميدان العمل، ودراستكم في هذه الجامعة إنما هي وسيلة إلى غاية نبيلة هي الدعوة إلى الخير والتحذير من الشر، وأسأل الله تعالى أن يزيدكم علما وهدى وأن يوفقكم لما فيه رضاه ونفع عباده.
وفي الختام أشكر الله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ثم أشكر لحكومة المملكة وعلى رأسها جلالة الملك خالد بن عبد العزيز الرئيس الفخري لهذه الجامعة، وسمو ولي عهده الأمير فهد بن عبد العزيز الرئيس الأعلى للجامعة على رعايتهما وعنايتهما بهذه الجامعة العالمية، ولا يفوتني أن أشكر سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي بدأت مسيرة هذه السفينة على يديه، فقادها خلال خمسة عشر عاما إلى بر النجاة وشاطئ السلامة، وكان له الفضل بعد الله في ثباتها واستقرارها على طريق الحق والهدى، كما أشكر العاملين في هذه الجامعة من مسئولين وهيئة تدريس على الجهود الطيبة التي بذلوها في صالح هذه الجامعة، وأسأل الله تعالى أن يثيبهم خيرا وأن يبارك في جهود الجميع إنه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم، وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
دراسات حول إعجاز القرآن الكريم في القرن الثالث الهجري
لفضيلة الدكتور صادق إبراهيم خطاب
أستاذ البلاغة والنقد بكلية الشريعة
القرآن الكريم منذ أن نزل على النبي الأمين محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - كان وما يزال الحجّة الكبرى والمعجزة العظمى التي وقف العرب أمامها مبهورين لا يملكون جواباً وما عساهم يفعلون، لم يكن أمامهم إلا أن يرجعوا إلى أنفسهم لعلّهم يجدون مخرجاً، ولكنّ الحجّة أعيتهم ووقفت ألسنتهم واحتبست أصواتهم وهم يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ الناس قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [1]، وقوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [2]، وقوله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [3] .
ولكنّهم عجزوا أن يأتوا بمثله أو بأقصر سورة؛ وهم أصحاب لسن وفصاحة وبيان وإقناع، مع حرصهم البالغ على تكذيب الرسول فيما يدّعيه أنه مرسل به من ربّه، وبدأوا يتخبّطون؛ فقالوا:{مَا هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُفْتَرى} ، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} ، ويقولون:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، ومع هذا أخذوا يتحاشون سماع القرآن الكريم خوفا من أن يؤثّر في نفوسهم ويهديهم برغم أنوفهم، ولنستمع إلى الوليد بن مغيرة أحد خصوم الدعوة الألدّاء بعد أن استمع إلى بعض آي الذكر الحكيم قال: والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق.
كان هذا موقف العرب عند بدء الدعوة، ولكن بعد أن اتّسعت الفتوح وانتشر الإسلام واختلط العرب بغيرهم من أهل البلاد التي فتحوها شُغل الناس بالقرآن الكريم؛ يتدارسونه ويوضحون معانيه ويبحثون عن ألفاظه وتراكيبه وما فيه من علوم وفنون، فأضحت آياته ميدانا لدراسات مختلفة، خاصة البلاغيّة منها؛ يحاولون بذلك بيان الوجه الذي من أجله عجز الناس عن محاكاته أو الإتيان بأقصر سورة منه، وكان لانقسام المسلمين إلى فرق وطوائف أثر بالغ في هذه الدراسات التي تدور حول القرآن وما فيه من معان وأغراض وأسرار، وأقدم ما ظهر من الكتب في هذا الشأن هو كتاب ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 208هـ، ويقول أبو عبيدة عن سبب تأليفه هذا الكتاب: إن الفضل بن الربيع وزير الرشيد ثم الأمين استقدمه من البصرة، فلما بلغ مجلسه ببغداد وكان به إبراهيم بن إسماعيل الكاتب سأله الكاتب عن معنى قوله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} وإنما يقع الوعد والوعيد بما عرف مثله وهذا لم يعرف؟ فقال له أبو عبيدة: إنما كلّم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم ويفزعهم أوعدوا به؛ فاستحسن الحاضرون هذا الجواب.
ومنذ ذلك الحين عزم أبو عبيدة على أن يخرج كتابا يبين فيه ما يشتبه على الناس، فلما رجع إلى البصرة أخذ في تأليف كتابه هذا ((مجاز القرآن)) وهو لا يريد بكلمة (مجاز) ما يقابل الحقيقة كما هو اصطلاح المتأخرين، وإنما يريد الدلالة الدقيقة لصيغ التعبير القرآنية المختلفة، وقد ظهر مراده هذا في السطور الأولى من الكتاب.
جاء في فاتحته: قال الله جل ثناؤه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} مجازه تأليف بعضه إلى بعض، ثم قال سبحانه:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه} مجازه فإذا ألّفنا منه شيئا فضممناه إليك فخذ به واعمل به وضمه إليك
…
وهكذا يمضي في كتابه مسترشدا باستعمالات العرب وما أثر عنهم في أشعارهم وأساليبهم، وأدّاه هذا الاختيار إلى أن يتحدّث عمّا في الآيات من تشبيه وكناية وتقديم وتأخير وحذف وإضمار وتوسّع في تصور الخصائص التعبيرية، كالدلالة بلفظ الخصوص على العموم، وبلفظ العموم على معنى الخصوص، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، ومخاطبة الجميع مخاطبة الواحد، كما تنبّه في ثنايا ذلك إلى الصورة العامة للالتفات وإن كان لم يسمّه باسمه؛ يقول: ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد ثم تركت وحوّلت مخاطبته إلى الغائب، قال تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} أي بكم.
والذي يقرأ كتاب أبي عبيدة يلاحظ أنه اختار الآيات التي تصوّر طرقا مختلفة في الصياغة والدلالة، متمثلا بما يشبهها من أشعار العرب وأساليبهم، وشارحا لما تضمنه من لفظ غريب أو معنى بعيد، وما كان أبدا يعني بكلمة مجاز المعنى الذي أراده البلاغيون؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية [4] :(أول من عرف أنه تكلّم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية) .
وفي النصف الأول من القرن الثاني الهجري ظهر أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ المتوفى 255هـ فألف كتبا كثيرة نقف عند اثنين منها، هما: البيان والتبيين، والحيوان، وقد تحدّث في كتابه الأوّل عن الفصاحة والبلاغة عند العرب وعند غيرهم، وأكثر من الحديث عن جزالة الألفاظ وفخامتها ورقتها وعذوبتها ونشر ذلك في كل جوانب كتابه، كما عرض لتلاقي الكلمة مع الكلمة، ملاحظا أن من الألفاظ ما يتنافر بعضه من بعض، وأوجب أن تكون الكلمات كأفراد الأسرة الواحدة التي تقوم بينها واشجة الرحم. وعلى الجملة فقد ألَمّ الجاحظ في كتابه هذا بالصور البيانية المختلفة وبكثير من فنون البديع، غير أنه لم يسق ذلك في تعريفات وتحديدات، فقد كان مشغولا بسوق النموذج البلاغية من غير أن يعنى بتوضيح دلالة المثال على القاعدة التي يقررها.
وكتب الجاحظ وإن لم تكن في موضوعنا الذي نعالجه نصّا إلا أن بالمسلم حاجة إلى قراءتها؛ ليستطيع تمييز الكلام الجيّد من غيره، وكما نعلم فإنه لا يقف على وجوه إعجاز القرآن إلا من عرف معرفة بينة وجوه البلاغة العربية، وتكوّنت له فيها ملكة يقيس بها الجودة والرداءة في الكلام، بحيث يميز بين نمط شاعر وشاعر ونمط كاتب وكاتب، وبحيث يعرف مراتب الكلام من الفصاحة.
ولا شك أن الجاحظ فيما كتب كان خبيرا بالأساليب الفصيحة يميزها ويذكر خصائصها ويكشف عن سبب حسنها أو رداءتها؛ فهو صيرفيّ بارع في هذا الشأن، وسنورد طرفا مما أتى به من تأويل بعض الآيات لنتبين مذهبه في بيان ما أشكل فهمه على الناس.
وكانت عنايته في كتاب الحيوان منصبّة على أنواع الحيوانات، وطبائعها وخصائصها وما جاء في القرآن الكريم عنها وما ذكره العرب في ذلك، وإن كان قد عرض لكثير من النصوص الأدبية وبيّن المراد منها وسبب حسنها أو قبحها.
يقول في تأويل آية [5] : حدثني أبو الجهجاه قال: سأل أبو عمرو المكفوف عن قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} ؟ فقلت: إن تدبيرا يعجب منه نبي من الأنبياء ثم يعظم خطره حتى يضحكه لعجب! قال: فقال: ليس التأويل ما ذهبت إليه؛ فإنه قد يضحك النبي عليه السلام من الأنبياء من كلام الصبي ومن نادرة غريبة، وكل شيء يظهر من غير معدنه - كالنادرة تسمع من المجنون - فهو يضحك؛ فتبسم سليمان عندي على أنه استظرف ذلك المقدار من النملة، فهذا هو التأويل.
ويقول [6] في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} : وليس أن الناس رأوا شيطانا قطّ على صورة، ولكن لما كان الله تعالى قد جعل في طباع جميع الأمم استقباح جميع صور الشياطين واستسماجه وكراهته، وأجرى على ألسنة جميعهم ضرب المثل في ذلك رجع بالإيحاش والتنفير وبالإخافة والتفزيع لما قد جعله الله في طباع الأولين والآخرين وعند جميع الأمم على خلاف طبائع جميع الأمم.
ويقول [7] في تأويل قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} ، وقوله عزّ اسمه:{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} : إنه قد يقال لهم ذلك وإن شربوا بتلك الأموال الأنبذة ولبسوا الحلل وركبوا الدواب؛ ولم ينفقوا منها درهما واحدا في سبيل الأكل، وقد قال الله عز وجل:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} .
وقال الشاعر في أخذ السنين من أجزاء الخمر:
وتَبَقّى مُصاصَها المكنونا
أكل الدهر ما تجسم منها
وقال الشاعر:
يأكل منها بعضها بعضا
مرّت بنا تختال في أربع
ثم يعلّق على هذه النصوص بقوله: إذا قالوا (أكل الأسد) فإنما يذهبون إلى الأكل المعروف، وإذا قالوا (أكله الأسود) فإنما يعنون النهش واللدغ والعضّ فقط.
ويقول في باب آخر في مجاز الذوق وهو قول الرجل إذا بالغ في عقوبة عبده: ذق! وكيف ذقته؟ وكيف وجدت طعمه؟.
وقال عز وجل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} .
ويختم كلامه بقوله [8] : وللعرب إقدام على الكلام؛ ثقة بفهم أصحابهم عنهم، وهذه فضيلة أخرى، وكما جوّزوا بقولهم (أكل) وإنما عضّ، و (أكل) وإنما أفنى، و (أكل) وإنما أحاله، و (أكل) وإنما أبطل عينه جوّزوا أيضا أن يقولوا:(ذقت) ما ليس بطعم، ثم قالوا:(طعمت) لغير الطعام، وقال العرجي:
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
وإن شئت حرمت النساء سواكم
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} ، يريد لم يذق طعمه.
وعلى هذا النهج وضّح الجاحظ كثيرا من المعاني التي ربما أشكل فهمها على غير الواقفين على أسرار العربية، وبين المراد منها مستشهدا باستعمالات العرب؛ إذ إن القرآن الكريم نزل بلغتهم؛ فهو يسوق اللفظ ويبيّن المراد منه في القرآن ويستدل على أن العرب يستعملونه هذا الاستعمال، وإن جاء ذكر المجاز في كلامه فيعني به ما عناه أبو عبيدة وما يقصد منه في اللغة، ولا يستطيع منصف أن ينسب للجاحظ أو يأخذ من كلامه أنه قصد من المجاز ما ذهب إليه المتأخرون من أنه قسيم الحقيقة.
ولذلك نرى أن الدكتور شوقي ضيف [9] قد جانبه التوفيق حين قال: إن استعماله - يعني الجاحظ لكلمتي الحقيقة والمجاز في كتاب الحيوان - يدخل في استعمال البلاغيين المتأخرين، وقد أدّاه هذا الفهم الخاطئ لكلام الجاحظ إلى أن يحكم على ابن تيمية بالخطأ؛ إذ يقول [10] : إن ابن تيميه أخطأه التوفيق حين زعم أن تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث بعد القرون الثلاثة الأولى للهجرة. والنصوص التي سقناها من كلام الجاحظ فيما سبق شاهدة على صدق ما نقول.
وننتقل الآن إلى كتاب آخر ظهر في منتصف القرن الثالث الهجري، هو تأويل مشكل القرآن لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى المتوفى سنة 276هـ، وهو عالم سنيّ محافظ يكره الاعتزال والمعتزلة، وكان غرضه من تصنيف كتاب (تأويل مشكل القرآن) الردّ على الملاحدة الذين يطعنون على القرآن الكريم؛ ويقولون إن به تناقضا وفسادا في النظم واضطرابا في الإعراب، وإنما أدّاهم هذا إلى جهلهم بأساليب العربية وقصورهم عن إدراك أسرارها وفهم مراميها، ومن ثم جاء هذا الكتاب لإظهار الحق وإبطال ما يدعون.
وقد عرض ابن قتيبة لبعض آيات الذكر الحكيم وبيّن المراد منها، مستشهداً على ما يراه بنصوص من الشعر العربي؛ ليقيم الدليل على ما يقول ويسقط دعوى الطاعنين وسفه المكابرين، وكان متأثرا بأبي عبيدة في كتابه (مجاز القرآن) يصنع مثل صنيعه وينسج على منواله؛ فيعرض من صور الآيات المشكلة ويبيّن المعنى المراد منها على غرار ما صنع أبو عبيدة، وكأنما يتحدث بلسانه ومضمون آرائه حين يصور مباحث مصنفه وجهل الملاحدة بمعرفة أسرار العربية فيقول: وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها طرق القول ومآخذه؛ ففيها الاستعارة، والتمثيل، والقلب، والتقديم والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء والإظهار، والتعريض والإفصاح، والكناية والإيضاح، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص
…
إلى آخر ما ذكره.
ولفظ المجاز عند ابن قتيبة لا يزال يستخدم بالمعنى العامّ كما هو عند أبي عبيدة، ولم يذهب إلى المعنى الاصطلاحي عند المتأخرين، ولم يشر إليه في كلامه.
نراه يعرض لصور قرآنية مما يدخل عند المتأخرين في المجاز المرسل والاستعارة، ويتحدث عن المقلوب؛ وهو أن يوصف الشيء بضد صفته، كتسميتهم اللديغ سليما، والفلاة مفازة، كما يتكلم عن التقديم والتأخير في الآية الكريمة {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} أي: بشرناها فضحكت، كما تحدّث عن الحذف والاختصار والتعريض والكناية ومخالفة ظاهر اللفظ معناه، وعن الاستفهام يأتي للتقرير أو التعجب أو التوبيخ، وعن الأمر يكون للتهديد أو التأديب أو الإباحة، ومنه عام يراد به خاص وجمع يراد به واحد، وواحد يراد به جمع، وقد يعود الضمير على صنفين وهو لأحد هما، أو على واحد من اثنين وهو لهما جميعا، وهو يفيض في ذكر صور كثيرة من آي الذكر الحكيم عارضا لمعناها، شارحا للمراد منها، موضّحا ما فيها من بيان على الحدّ المعروف عند العرب الذين نزل القرآن بلغتهم.
والواقع أن ابن قتيبة كان متأثّرا كل التأثر بأبي عبيدة معمر بن المثنى؛ حتى لنستطيع أن نقول: إنه لم يزد عليه شيئا ذا بال إلا ما عرف من دقة التبويب، وإلا ما توسع فيه عند الحديث عن بعض الكنايات.
وابن قتيبة يسوّي بين اللفظ والمعنى في البلاغة ويجعل المزية لهما جميعا، وكأنه بذلك يردّ على الجاحظ مذهبه في تقديم اللفظ على المعنى، وجعل المزيّة له حيث يقول: المعاني مطروحة في الطّريق يعرفها العربيّ والعجميّ، ولكن ابن قتيبة يجعل المعنى شريكا للّفظ في الحسن، ويقسم الكلام على هذا الأساس إلى ما حسن لفظه ومعناه، وما حسن لفظه دون معناه، وما حسن معناه دون لفظه، وما ساء وقبح في لفظه ومعناه جميعا، وإن كان لم يقف عند القسم الأخير لأنه لا يدخل فعلا في الكلام البليغ.
ومن هنا نتبين مذهب ابن قتيبة في الحكم على الكلام وسبب الحسن فيه، وأنه لكي يكون الكلام بليغا لا بد أن يجتمع فيه حسن اللفظ وحسن المعنى جميعا.
ولا يبقى معنا بعد ذلك لنوفيّ البحث في علماء القرن الثالث الهجري سوى ملاحظات عابرة نثرها الإمام النحوي المبرّد المتوفى سنة 285هـ في كتابه الكامل.
وقد عرض في كتابه هذا نماذج شعرية ونثرية كثيرة متّبعا لها بالشرح اللغوي، ومشيرا أحيانا إلى ما فيها من التفات أو إطناب أو تقديم أو تأخير، وأحيانا يذكر كلمة المجاز ولكن بالمعنى اللغوي، ولعلّ أعظم ما خلفه للبلاغيين للسّير على هديه هو ما وضّحه لهم بشأن الكلام وتنوّعه، ذلك أن الفيلسوف الكندي قال له يوما: إنّي أجد في كلام العرب حشوا؛ يقولون: (عبد الله قائم) و (إنّ عبد الله قائم) و (إنّ عبد الله لقائم) والمعنى واحد! فأجابه المبرّد قائلا: بل المعاني مختلفة؛ (فعبد الله قائم) إخبار عن قيامه، و (إن عبد الله قائم) جواب عن سؤال سائل، و (إن عبد الله لقائم) جواب عن إنكار منكر.
وقد كانت هذه الإجابة سببا في بحث البلاغيين لباب من أبواب علم المعاني سمّوه أضرب الخبر، وسمّوا الضرب الأول ابتدائيا والثاني طلبيا والثالث إنكاريا.
هذا ما يسّره الله مع ضيق الوقت وقلّة المراجع، ونعتذر للقارئ الكريم! وللبحث بقية إن شاء الله تعالى. وبالله التوفيق.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
سورة البقرة 23،24.
[2]
سورة هود 13.
[3]
سورة الإسراء 88.
[4]
كتاب الإيمان.
[5]
كتاب الحيوان جـ4 ص 22.
[6]
كتاب الحيوان جـ4 ص 39.
[7]
كتاب الحيوان جـ5 ص 23 وما بعدها.
[8]
كتاب الحيوان جـ5 ص 32.
[9]
البلاغة تطور وتاريخ ص 56.
[10]
المرجع نفسه ص 56.
القاضي عياض ومفهومه للإعجاز القرآني
لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
كلية الدعوة وأصول الدين
هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون، أبو الفضل اليحصبيّ السبتي الغرناطي الأندلسي [1] القاضي الإمام العلاّمة.
ولد بمدينة سبتة في شهر شعبان سنة ستّ وتسعين وأربعمائة 496هـ؛ لذا فهو أندلسي الأصل، قال ابنه محمد: "كان أجدادنا في القديم بالأندلس ثم انتقلوا إلى مدينة فاس، وكان لهم استقرار بالقيروان، لا أدري قبل حلولهم بالأندلس أو بعد ذلك، وانتقل عمرون إلى سبتة بعد سكنى فاس.
رحلاته العلمية: في سبيل العلم رحل عياض إلى الأندلس سنة تسع وخمسمائة 509هـ طالبا للعلم، فأخذ بقرطبة عن مجموعة غير قليلة من العلماء، وأجاز له بعضهم، ثم انتقل إلى المشرق فأخذ عن مجموعة أخرى من العلماء؛ فهو بذلك جمع إلى جانب علم المغاربة علوم المشارقة حيث نهل من المنبع والمصبّ معا.
أساتذته: تذكر المصادر القديمة عشرات الشيوخ والأساتذة الذين تلمذ لهم الرجل؛ ففي قرطبة أخذ عن القاضي أبي عبد الله محمد بن علي بن حمدين، كما أخذ عن أبي الحسين بن سراج وأبي محمد بن عناب وغيرهم، وأجاز له أبو علي الغساني.
وفي المشرق: أخذ عن القاضي أبي علي حسين بن محمد الصدفي، وأخذ أيضا عن أبي عبد الله المازني، وأجاز له الشيخ أبو بكر الطرطوشي، وذكر ولده محمد مجموعة أخرى من الشيوخ منهم: أحمد بن بقي، وأحمد بن محمد بن محمد بن مكحول، وأبو الطاهر أحمد ابن محمد السلفي، والحسن بن محمد بن سكره وغيرهم، وقال صاحب الصلة البشكوالية - بعد أن ذكر بعض شيوخه -: وقد اجتمع له من الشيوخ بين من سمع منه وبين من أجاز له مائة شيخ.
وكانت الحصيلة العلميّة التي استقاها من هؤلاء العلماء كبيرة جدّا؛ يقولون: إنه صار إمام وقته في الحديث وعلومه، والتفسير وعلومه، كما صار من أهل التفنن في العلم، واليقظة والفهم، حتى إنه بعد عودته من رحلاته العلمية أجلسه أهل سبتة للمناظرة في المدوّنة وهو ابن ثلاثين سنة أو ينيف عنها، ثم أُجلس للشورى، ثم ولي قضاء بلده مدة طويلة، حمدت سيرته فيها، ثم نقل إلى قضاء غرناطة في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة 531هـ.
ولقد أشارت المصادر القديمة بمكانته العلميّة؛ فقالت إنه كان فقيها أصوليا، عالما بالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، بصيرا بالأحكام، عاقدا للشروط، بصيرا حافظا لمذهب مالك، ريّانا في علم الأدب، خطيبا بليغا.
كما تحدثت عن كريم أخلاقه، فقالت إنه كان صبورا حليما، جميل العشرة، جوادا سمحا كثير الصدقة، دؤوبا على العمل، صلبا في الحقّ.
ونظراً لمكانته الدينية والعلمية قرّبه الموّحدون، حكّام المغرب في عصره، حيث رحل إلى أميرهم بمدينة سلا؛ فأجزل له العطاء وأوجب برّه، وظلّ عياض في رحابهم إلى أن اضطربت أمور الموحّدين عام ثلاثة وأربعين وخمسمائة 543هـ، حيث رحل إلى مراكش مشرّدا، بعيدا عن وطنه، فكانت بها وفاته في شهر جمادى الثانية، وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة 544هـ، ودفن في باب أيلان. رحمه الله.
مصنفاته: صنّف القاضي عياض مجموعة ضخمة من المصنفات أهمها:
1_
الإعلام بحدود قواعد الإسلام.
2_
الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع.
3_
ترتيب المدارك وتقريب المسالك، لمعرفة أعلام مذهب مالك.
4_
الشفا بتعريف حقوق المصطفى.
5_
مشارق الأنوار في تفسير غريب حديث الموطأ والبخاري ومسلم.
6_
المعلم في شرح مسلم.
وللأسف الشديد ضاع معظم مؤلفاته التي تقدر بعشرين مؤلفا، ولم يبق منها إلا النّزر اليسير، وأهمّ الكتب التي أفلتت من يد الزمن (كتاب الشفا) الذي يبرز عقليّة الرجل ومنهجه في الفهم وطريقته في التأليف، ومن هذا الكتاب نستطيع أن نعرف مفهوم الرجل للإعجاز القرآني.
ولم يخصص القاضي عياض للإعجاز القرآني كتابا مستقلا، ولكنه تناول هذا الموضوع بين ثنايا كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى [2] ) صلى الله عليه وسلم، وأثناء حديثه عن معجزات الرسول؛ فقد خصّص فصلا صغيرا جعل عنوانه (فصل في إعجاز القرآن) ذكر فيه أوجه الإعجاز القرآني كما رآها هو.
فهو يرى أن الإعجاز القرآني ينحصر في أربعة أوجه:
أولها: حُسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب.
وثانيها: صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ووقفت مقاطع آيِه وانتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.
وثالثها: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع؛ فوُجد كما ورد على الوجه الذي أخبر.
والوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك.
ويعلل القاضي عياض للأسباب التي جعلت من حسن تأليف القرآن التئام كلمه وجها من أوجه الإعجاز التي تميّز بها؛ فيقول: "وذلك أنهم (أي العرب) كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام؛ فقد خُصّوا من البلاغة والحكم بما لم يُخصّ به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان [3] ما لم يُؤتَ إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيّد الألباب، وجعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة يأتون منه على البديهة بالعجب، ويُدْلون به إلى كلّ سبب، فيخبُطون بَديهاً في المقامات وشديد الخَطْب، ويَرتَجِزون به بين الطَّعن والضَّرب، ويَمدَحون ويَقدَحون، ويَتوَسَّلون ويَتوصَّلون ويرفعون ويضعون؛ فيأتون من ذلك بالسِّحر الحلال، ويُطوِّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللَاّل؛ فيَخدعون الألباب، ويذَلِّلون الصِّعاب، ويُذهِبون الإحَن [4] ، ويُهيِّجون الدِّمن، ويُجرِّؤون الجَبان، ويَبسُطون يَد الجِعد [5] البنان، ويُصيِّرون الناقص كامِلا، ويتركون النّبيه خامِلا، منهم البدويّ ذو اللفظ الجَزْل، والقول الفصل، والكلام الفخم، والطبع الجوهري، والمنزع القويّ، ومنهم الحضريّ ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطَّبع السَّهل، والتصرّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرَّونق، الرَّقيق الحاشية
…
ولهم في البلاغة الحجّة البالغة، والقوّة الدامغة، والقدح الفالُج [6] ، والمهيع الناهج [7] ، لا يشُكُّون أن الكلام طوْع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حوَوْا فنونها واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعَلَوْا صرحا لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفنّنوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القلّ والكُثر، وتساجلوا في النظم والنثر
…
فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.. أُحكمت آياته، وفصِّلت كلماته، وبَهَرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته كل مقول، وتظافر إيجازه وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوَت كل البيان مجامعه وبدائعه، واعتدل مع إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه، وهم (أي العرب) أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا، وأشهر في الخطابة رجالا، وأكثر في السجع والشعر سجالا، وأوسع في الغريب واللغة مقالا، بلغتهم التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صارخا بهم في كل حينٍ، ومقرعا لهم بضعا وعشرين عاما على رؤوس الملأ أجمعين:
{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} [10] .
ذلك أن المفترى أسهل، ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب، واللفظ إذا نبع المعنى الصحيح كان أصعب.
فلم يزل يقرّعهم صلى الله عليه وسلم أشدّ التقريع، ويوبّخهم غاية التوبيخ، ويسفّه أحلامهم، ويحطّ أعلامهم، ويشتّت نظامهم، ويذمّ آلهتهم وإياهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والإغراء بالافتراء، والادّعاء مع العجز بقولهم:{لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} وقد قال لهم الله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} فما فعلوا ولا قدروا
…
"
هذا هو الوجه الأوّل من وجوه الإعجاز القرآنيّ كما يراه القاضي عياض.
وعن الوجه الثاني: وهو صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، يقول القاضي عياض: "إنه لم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، وتدلَّهت دُونَه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم؛ من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر.
لما سمع كلامه صلى الله عليه وسلم الوليد بن المغيرة وقرأ عليه القرآن رقّ، فجاءه أبو جهل منكرا عليه، قال: والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا.
وفي خبره الآخر حين جمع قريشا عند حضور الموسم، وقال: إن وفود العرب تَرِد فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بعضا؛ فقالوا: نقول كاهن! قال: والله ما هو بكاهن؛ ما هو بزمزمته [11] ولا سجعه، قالوا: مجنون! قال: ما هو بمجنون؛ ولا بخنقه ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر! قال: ما هو بشاعر؛ قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر، قالوا: فنقول ساحر! قال: ما هو بساحر؛ ولا نفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإنّ أقرب القول أنه ساحر؛ فإنه سِحر يفرّق بين المرء وابنه، والمرء وأخيه، والمرء وزوجه، والمرء وعشيرته، فتفرقوا وجلسوا على السُّبل يحذّرون الناس، فأنزل الله تعالى في الوليد:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَاّ إِنَّهُ كَانَ لآياتنَا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [12] .
والأخبار في هذا صحيحة كثيرة، والإعجاز بكل واحد من النوعين الإيجاز والبلاغة بذاتها، والأسلوب الغريب بذاته، كل واحد منها نوع إعجاز على التحقيق، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما؛ إذ كلّ واحد خارج عن قدرتها، مباين لفصاحتها وكلامها، وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين".
أما الوجه الثالث - كما يراه القاضي عياض - فهو الوجه التاريخي الذي عبر عنه بقوله: "ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع؛ فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر، كقوله تعالى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ، وقوله تعالى:{آلم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} ، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} .
فكان جميع هذا كما قال؛ فغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل الناس في الإسلام أفواجا، فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام، واستخلف الله المؤمنين في الأرض، ومكّن فيها دينهم، وملّكهم إيّاها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب، كما قال صلى الله عليه وسلم:"زويت لي الأرض؛ فأُريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها".
وأما الوجه الرابع من وجوه إعجاز القرآن: فهو يتصل كسابقه بالجانب التاريخي، ولكنه لا يتناول الأمور المستقبلة، ولكنه يتحدّث عن أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أحبار أهل الكتاب على نصِّه فيعترف العالم بذلك؛ فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه وأن مثله لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أمّي لا يقرأ ولا يكتب ولا اشتغل بمدارسة ولا مثافنة [13] ، ولم يغب عنهم ولا جهل حاله أحد منهم ".
ويدلّل القاضي عياض على دقة هذا الوجه فيقول: "وقد كان أهل الكتاب كثيراً ما يسألونه صلى الله عليه وسلم عن هذا فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرا، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى والخضر، ويوسف وإخوته، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، ولقمان وابنه، وأشباه ذلك من الأنباء، وبدء الخلق، وما في التوراة والإنجيل والزّبور وصحف إبراهيم وموسى مما صدّقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل أذعنوا لذلك
…
فمن مُوفَّق آمَن بما سيق له من خبر، ومن شقي مُعاند حاسد، ومع هذا لم يحك عن واحد من النصارى واليهود على شدّة عداوتهم له، وحرصهم على تكذيبه، وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم وتقريعهم بما انطوت عليهم مصاحفهم، وكثرة سؤالهم له صلى الله عليه وسلم، وتعنيتهم إياه عن أخبار أنبيائهم وأسرار علومهم، ومستودعات سيرهم، وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم ومُضمَّنات كتبهم، مثل سؤالهم عن الروح، وذي القرنين، وأصحاب الكهف، وعيسى، وحكم الرّجم، وما حرم إسرائيل على نفسه، وما حرِّم عليهم من الأنعام، ومن طيبات كانت أحلّت لهم فحرِّمت عليهم ببغيهم، وقوله:{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ..} وغير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن، فأجابهم وعرّفهم بما أوحي إليه من ذلك؛ أنه أنكر ذلك أو كذّبه، بل أكثرهم صرّح بصحة نبوّته وصدق مقالته، واعترف بعناده وحسده إياه، كأهل نجران وابن صوريا وبني أخطب وغيرهم.
هذه هي الوجوه التي اعتمدها القاضي عياض دليلا على إعجاز القرآن، وخصّص لها في كتابه (الشفا) بابا من أربعة فصول.
فإذا نظرنا إلى ما كتبه القاضي وجدنا أن هذه الأوجه ليست جديدة على أذهاننا، أو بمعنى آخر: وجدنا أنه ليس أوّل من أشار إليها، إن هذه الوجوه ليست من كدّ فكره، ولا من إعمال عقله، ولكنها من جمعه وتحصيله، ونقله وتدوينه.
فالقاضي عياض - شأنه شأن علماء عصره - جال جولات واسعة بين ثنايا مؤلفات السابقين وانتقى منها واختصر لبعضها؛ كي يجمع مادة علمية لهذا الباب الذي خصّصه للإعجاز؛ لذلك نستطيع أن نقول بوضوح إنه لم يأت بجديد في بحثه.
إن عصره لم يكن عصر إبداع أو إختراع.. وإنما كان عصر تجميع وتهذيب، ثم انتخاب وسرد، إن العلماء السابقين - منذ القرن الثالث الهجري إلى حوالي منتصف القرن الخامس - قتلوا كل هذه الموضوعات بحثا وتدقيقا، وتحليلا وتمحيصا، وتعمّقوا إلى أن توصّلوا إلى آراء كثيرة طيبة وجديدة، أما من جاء بعدهم فكان مجهودهم متواضعا؛ لم يكن في مقدورهم أن يضيفوا شيئا جديدا، ولكنه - نتيجة لما اكتسبوه من ثقافة - استطاعوا أن يختصروا ويهذبوا، وينتقوا ويوفِّقوا.. وفي حقيقة الأمر لم يستطيعوا الإتيان بجديد يذكر في مجال البحث.
من هنا نستطيع أن نقول: إن القاضي عياض كان جمّاعا ناقلا، مختصرا مهذِّبا لآراء السابقين، والدليل على ذلك قوله أحيانا:"وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين [14] " وقوله: "وقد اختلف أئمة أهل السنة [15] " وقوله: "وقد عدّ جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة [16] "، وهو وإن استطاع أن يلبس ما نقله واختصره ثوبا جديدا، إلا أنه لم يستطع أن يخفي حقيقة صاحبه، أو يحجب وجه مؤلفه؛ نستطيع أن نسمع صوت الجاحظ من خلال الوجه الأوّل حين قال عن العرب:"ولهم الحجة البالغة والقوة الدامغة، القدح الناتج والمهيع الناهج..، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حوَوْا فنونها واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعَلَوْا صرحه لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفننوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القُلّ والكُثر، وتساجلوا في النظم والنثر.. [17] ".
ونستطيع أن نرى صورة الرماني من خلال آرائه البلاغية [18] ، ونستطيع أن نسمع صوت الخطّابي وهو يتحدث بعمق عن الوجه النفسي للإعجاز القرآني [19] ، كما نستطيع أن نقرأ ما كتبه الجرجاني والباقلاني عن نظم القرآن.. وهكذا.
فالقاضي عياض وإن كان لم يُشِر إلى مصادره إلا أننا استطعنا بما لنا من خبرة في هذا الموضوع أن نُحدّد مصادره بدقّة، أضف إلى ذلك أن القاضي عياض قد كشف عن حقيقة نقله حين وجد أن هناك كثيرا من الآراء لم يسلكها بين أوجه الإعجاز التي حددها، وخشي أن يفوته ذكرها..؛ لذلك سمعناه يقول بعد الفصول التي اعتمدها للإعجاز: "ومن الوجوه البيّنة في إعجازه من غير هذه الوجوه آيٌ وردت بتعجيز قوم في قضايا إعلامهم أنّهم لا يفعلونها؛ فما فعلوا ولا قدروا على ذلك.. كقوله لليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً..} ، وكذلك آية المباهلة من هذا المعنى، حيث وفد عليه أساقفة نجران، وأبوا الإسلام؛ فأنزل الله تعالى آية المباهلة بقوله:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} .
ومنها: الرّوعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه.
ثم وجد القاضي عياض أنه رغم ذلك لم يستوف كل وجوه الإعجاز التي ذكرها العلماء السابقون؛ فعقد فصلاً جديدا بدأه بقوله: "ومن وجوه إعجازه المعدودة.. كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفّل الله تعالى بحفظه، فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
كذلك وجد القاضي عياض نفسه لم يستكمل كل جوانب موضوعه، وأن هناك آراء أخرى كثيرة ذكرها العلماء ولم يسجّلها؛ فلم يجد من ذلك بدّا من أن يجمعها معا ويفرد لها فصلاً أخيرا لم يحدّد له عنوانا، بل قال في مطلعه:"وقد عدّ جماعة من الأئمة ومقلدّي الأمة في إعجازه وجوها كثيرة".
ولعل هذا الفصل الأخير خير دليل على صحة ما ذهبنا إليه من أن القاضي عياض كان جمّاعا ناقلا، مختصِرا مهذِّبا؛ فقد أجمل في هذا الفصل الأخير معظم ما قيل من آراء ووجوه حول إعجاز القرآن، وهي وجوه متباينة ليس بينها رابط معيّن، إنما تندرج جميعا تحت باب الإعجاز.
قال: "ومنها أن قارئه لا يَملّه، وسامعه لا يمجّه....
ومنها: جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة، ولا محمّد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة بمعرفتها، ولا القيام بها
…
ومنها: جمعه فيه بين الدليل ومدلوله..
ومنها: أنْ جَعَله في حيّز المنظوم الذي لم يعهد
…
ومنها: تيسيره تعالى حفظه لمتعليمه، وتقريبه من متحفظيه..
ومنها: مشاكلة بعض أجزائه بعضا، وحسن ائتلاف أنواعها، والتئام أقسامها.
ومنها: الجملة الكثيرة التي انطَوَت عليها الكلمات القليلة.
وختم القاضي عياض هذا الفصل بقوله: "وهذا كلّه كثير مما ذكرنا أنه ذكر في إعجاز القرآن إلى وجوه كثيرة ذكرها الأئمة لم نذكرها، أكثرها داخل في باب بلاغته".
وكأنّه وجد أن هذا السَّرد سيُخرجه عن نطاق البحث؛ فاستدرك قائلا: "فلا نُحبّ أن يُعدّ فنّاً منفرداً في إعجازه إلا في باب تفصيل فنون البلاغة، وكذلك كثير مما قدّمنا ذكره عنهم يُعدّ في خواصّه وفضائله، لا في إعجازه.
وحقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا فليعتمد عليها، وما بعدها من خواصّ القرآن وعجائبه التي لا تنقضي
…
".
هكذا رأينا أن القاضي عياض - في بحثه عن الإعجاز القرآني - قد جَمع الوجوه جميعها، ونَقَل كل ما ذكره العلماء الراسخون في العلم، المبتكرون لأصوله، الذين كدّوا واجتهدوا؛ جَمَع جهودَهم وحصيلة أبحاثهم وخلاصة نتاجهم، ووَضَعها جَنباً إلى جَنب، أردف ما قاله الثاني إلى ما قاله الأول.. وكان حصيلة جمعه خلاصة ما قيل عن الإعجاز القرآني من آراء، وما كتب من بحوث منذ القرن الثالث الهجري حتى عصره.
وقلنا إن هذا العمل لا يرمي إلى مرتبة الإبداع، وإنما هو جمع وانتخاب وتلخيص وتهذيب؛ يظهر من خلاله كثرة قراءات الرَّجل، وسَعة اطّلاعه وصبره أيضا.
فإذا درسنا ما سجّله القاضي عياض في كتابه نجد أن التوفيق وإن كان قد حالفه في عملية اللمّ والحصر، إلا أنه لم يحالفه في الفهم والتبويب؛ فهو لم يفطن إلى موضع كل وجه من هذه الأوجه من الآخر، ولم يدرك تحت أيّ الفصول يوضع أو يندرج؛ لذلك ظهر بحثه مفكَّكاً قلقاً غير مترابط؛ لتعدُّد المسارات وتشتّت العبارات، كما ظهر لنا أيضا - أنه هو نفسه متردّد حائر تائه بين مصنَّفات السابقين وآرائهم؛ تَنقصه ثقة العالِم وخبرة الأستاذ.
فإذا نظرنا في وجوهه الأربعة التي اختارها وجدنا أن الوجه الثاني – وهو: (صورة نظم القرآن العجيب والأسلوب الغريب) - ما هو إلا تكرار للوجه الأول: (حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته وبلاغته..) ؛ فكلا الوجهين يندرجان تحت علوم البلاغة، بيد أنّه حين وضعهما على صورتهما هذه قد أضفى عليهما صفة التعميم..؛ فالوجهان الأول والثاني - في حقيقة أمرهما - وجه واحد يتصل ببلاغة القرآن.. هكذا قال الجرجاني.
كذلك الوجه الثالث وهو: (ما انطوى عليه القرآن من الإخبار بالمغيبات) والوجه الرابع: (ما أنبأ به من أخبار القرون السابقة والأمم البائدة..) كلاهما يتدرج تحت الجانب التاريخي، فهما في واقع الأمر وجه واحد يصوّر إعجاز القرآن من حيث الزمن.. واتّصاله بحركة التاريخ في الماضي والمستقبل.
ومعروف أن القاضي عياض كان يهتدي بآراء أهل السُّنة.. ومع ذلك فقد ضلَّله عنصر النقل والاقتباس؛ فوقع في المحظور حين لم يفهم ما ذكره المعتزلة من القول (بالصَّرفة) ؛ فنراه يذكر ما ذهب إليه أبو الحسن الرماني المعتزلي؛ من أن القرآن ممّا يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر، ويقدرهم عليه ولكنه لم يكن هذا.. فمنعهم الله هذا وعجّزهم عنه [20] . وهو لا يدري أن هذا الرأي أنكره أهل السنة وحاربوه، وسفّهوا آراء القائلين به، هذا من حيث الشكل العام أو المظهر..
فإذا ما درسنا أوجه الإعجاز الأربعة التي اختارها القاضي عياض وأمعنا النظر فيها وجدنا أنّ الوجه الأول في حقيقة أمره ليس من وجوه الإعجاز، وإنما هو في وضعه الدقيق شاهد من شواهد الإعجاز، ودليل من أدلّته القاطعة.
أما الوجه الثاني: الذي يتعلّق بنظم القرآن وأسلوبه فهو ما توافَق عليه جلّ الباحثين والعلماء الذين بحثوا في إعجاز القرآن وحاولوا الكشف عن أسراره؛ لقد أجمعوا على أنّ هذا الأسلوب الذي انفرد به القرآن مخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها.. وأن نظمه جاء على صورة لم تقع للعرب، وإن جمعت الطيِّب الحسن من كل أسلوب.
وأما الوجه الثالث الذي اختاره القاضي عياض - وهو (الإخبار بالمغيبات) - فهو في حقيقته أمره ليس وجها من وجوه الإعجاز يمكن أن نقطع الخصم عن المعارضة ونمسك به عن العناد واللجاج؛ "إذ كثير من الكهّان كانوا يرجمون بالغيب؛ فيصيبون ويخطئون، ولو كان القرآن حين تحدّى العرب قد أشار إلى هذا الوجه من التحدّي كما أقرّوا بالعجز عنه، ولما شهدت عليهم الحياة به، بل لكان لهم على هذا الوجه سبيل إلى المجادلة والمحاجّة والمعارضة، ولاستدعوا إليهم كهنتهم وأصحاب الرؤى عندهم، ولكان لهم قول إلى جانب هذا القول الذي جاء به القرآن.. وإن بعُد ما بين القولين في مقام الصِّدق واليقين، ولكن الخصم العنيد المتجبّر لا يستسلم حتى يرمي بآخر شيء في يده، ولو كان عودا من الحطب يقاوم به السيوف والرماح"[21] .
وأما الوجه الرابع - (ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة..) - فهو كسابقه؛ لا يمكن أن يكون معجزة قائمة للتحدّي القاطع المفحم.. وإن كان هو وسابقه ممّا يضفي على إعجاز القرآن جلالاً وروعة، ومما يزيده إشراقا وألفا.
إذن فالوجوه الأربعة التي اختارها القاضي.. في أغلبها أدلة أو شواهد على الإعجاز، أما الوجه الحقيقي فهو ذلك الوجه الذي ألحقه الرَّجل بهذه الوجوه الأربعة وكأنه يرى أنه نافلة وليس أصلا في باب الإعجاز، وهو:(الرّوعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه) ؛ فهذا الوجه - في رأينا - هو عمدة وجوه الإعجاز القرآني على الإطلاق إن لم يكن وحده وجه الإعجاز، وهو الوجه عينه الذي توصّل إليه الخطابي قبله بنحو قرنين من الزمان؛ فالروعة التي تعتريهم عند تلاوته - هي مناط الإعجاز الحقيقي، وهي المعجزة القائمة فيه أبد الدَّهر وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإن كان القاضي عياض قد جعله حاشية في وجوه الإعجاز، من باب تحصيل الحاصل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
اليحصبي - بفتح الياء وسكون الحاء وضمّ الصاد وفتحها وكسرها -: نسبة إلى يحصب بن مالك قبيلة من حمير. والسبتي: نسبة إلى مدينة سبتة. والغرناطي نسبة إلى غرناطة؛ المدينة الأندلسية المشهورة.
[2]
طبع هذا الكتاب في دار الفكر بيروت، ولكنها طبعة غير محققة وبها بعض الأخطاء والتصحيفات. انظر: ص 258 من الجزء الأول من هذه الطبعة.
[3]
ذرابة اللسان: حذقه.
[4]
الإحن: جمع إحنة وهي الحقد.
[5]
الجعد: الكريم من الرجال، أما إذا قيل جعد اليدين، أو جعد الأنامل فهو البخيل، وربما لم يذكروا معه اليد.
[6]
القدح الفالج: السهم الفائز.
[7]
المهيع الناهج: الطريق السالك.
[8]
سورة البقرة الآية 24.
[9]
سورة هود الآية 13.
[10]
سورة الإسراء الآية 88.
[11]
الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم (القاموس) .
[12]
سورة المدثر آية 11-26.
[13]
المثافنة: المجالسة، والمراد بها هنا مجالسة العلماء لتلقي العلم عنهم.
[14]
الشفا ج 1 ص 266.
[15]
المصدر نفسه 1/266.
[16]
المصدر نفسه 1/273.
[17]
انظر حجج النبوة للجاحظ ص 144 وما بعدها.
[18]
انظر رسالة الرماني (النكت في إعجاز القرآن) وقارن ما كتبه القاضي عياض في الوجهين الأول والثاني.
[19]
انظر رسالة الخطابي (بيان إعجاز القرآن) ص 64 وما بعدها، وقارن ما كتبه القاضي في ج 1 ص 273.
[20]
الشفا 1/267.
[21]
عبد الكريم الخطيب: إعجاز القرآن ص 289.
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
الأستاذ المساعد بكلية الشريعة
أخي:
إذا ما التقينا بعرض الطريق علام تشيح بوجهك عني
كأني عبد بسوق الرقيق
وحينا تحدّق عيناك فيّ
وما كنت يوما مضيع الحقوق
فما كنت يوما مسيئا إليك
فأنت بها فاكه لا تريم
زرعت لك الأرض شتى الثمار
وأحرسها في الظلام البهيم
أقوم عليها بياض النهار
وكم صفعتي رياح السموم
وكم لطمتني رياح الشتاء
وآبت يداك بغنم عظيم
فآبت يدايَ بسدّ الكفاف
وقلت مشيئة ربّ حكيم
وما إن حقدت وما إن حسدت
يدايَ على سابحات الغيوم
وهذا بناؤك قد شَيَّدَتْه
لآلئ تضحك فيها النجوم
تخيّرتُ أحجاره زاهيات
وهرّأ كفي طين الشوم
تقوّس ظهري لطول انحناء
بكوخ حقير أقاسي الهموم
وكان نصيبي أني بقيتُ
تفيّأ فيه ظلال النعيم
وكان نصيبك قصرا منيفا
وقلتُ مشيئة ربّ رحيم
وما إن حقدت وما إن حسدت
كساك جمال الشباب النّضر
وهذا الرّداء الذي قد لَبِستَ
تألّق غبّ سحاب مطر
تميس به ميسان الربيع
إطافة برعم ورد عطر
أطاف بجسمك حلوا أنيقا
ولحمته من شعاع القمر
جعلت سداه ضياء النجوم
تمزّق معظمها واندثر
وعشت أنا في زري الثياب
وقلتُ مشيئة باري البشر
وما إن حقدتُ وما إن حسدت
يكاد سناه يزيغ البصر
وهذا حذاؤك تختال فيه
وفي الليل طال عليّ السهر
ظللت مُكبّا عليه النهار
وأُحكِم فيه غروز الإبر
أنسّقه قطعة قطعة
مثال الجمال وملهي النظر
إلى أن تكامل بين يديّ
وأنعلق رجلي الثرى والحجر
مشيت به مشيةَ الكبرياء
وقلت مشيئة رب قدَر
وما إن حقدت وما إن حسدت
بأمري ولا تستبين الرؤى
إلام تظلّ أخي لا تبالي
ورحتَ تسير وراء الهوى
نسيت الإله وهديَ الرسول
يودّ إخاءك طول المدى
وإني أخوك أخوك الذي
أم اغتال قلبك حبّ الدُّنا
سواء عطفت وكنت رؤوفا
وأدعو بدعوى رسول الهدى
على دين ربي سأقضي الحياة
ثمار من غرس النبوة
رجال ومواقف
لفضيلة الشيخ محمد الشال - كلية الشريعة
ثم عرف الفُرس من أمر العَرب أنهم جادّون، وأنهم في غزوتهم ليسوا طلاب إغارة للتزوّد بزاد أو التبلّغ بمقام؛ فقد وضعوا أيديهم على الكثير من سواد العراق، وهم وإن تريّثوا في الغزو فليس ذلك عن ضعف أو بلوغ غاية، ولكنهم يروون رأيهم ويجمعون جموعهم ويتلمسون نبأ أعدائهم، وقد قابل الفرس نبأ غزو العرب باستخفاف المتكبّر وسخرية المستخفّ، فما كان للعرب في ماضيهم دولة ولا كان لهم في حياتهم هدف، بل كان أمرهم مضيّعا مع هوى الفرس تارة وهوى الروم أخرى، وإنهم راضون من حياتهم بانتجاع الكلأ وتلمّس المرعى والرضا بالكفاف وتوسّد الخيال الشعريّ المهدهد على الأمل والمروّض على الحبّ؛ فما بالهم يغِيرون ولا يخافون، ويغزون ولا يتردّدون، ويقيمون ولا يرجعون، ثم تبلغ بهم الجرأة أن يطلعوا النّزال وأن يراجعوا الرأي.
وهل في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ما يحي الموات وينبت الأجادب، ويجمع الشتات ويوحّد الرأي، ويقضي على الهوى ويحدّد الأهداف، ويستخفّ بالملك العريض والجاه الواسع، وما كان لأهله من ملك ولا لجماعته من تاريخ؟ !.
نعم راجع الفرس الرأي فيما بينهم، ثم استقرّ أمرهم على لقاء العرب على كره، ونزالهم على هون؛ فجمعوا الجموع القاضية والجيوش الساحقة؛ حتى يبيدوا من العرب الجمع القليل، ويقضوا على الأمل العريض، ثم يتّبعونهم في ديارهم؛ ليبدّدوا منهم الأحلام ويفرقوا منهم الكلمة، ويعيدوهم إلى سيرتهم الأولى من انتجاع الكلأ وتلمّس المرعى واستجداء ذوي الثراء، والميل مع الأهواء.
وخرجت جيوش الفرس بقيادة أعظم قوادهم (رستم) ، يحفّ به أمراء للجند مترفون، واتّخذوا أماكنهم غربيّ الفرات على أبواب القادسيّة، ومن ورائهم الثراء العريض والمدن العامرة، وجعلوا بينهم وبين جيش المسلمين رافدا من روافد الفرات يعلوه جسر؛ لسهل حراسته والذود عنه.
ومن ينظر إلى الجيش الكثيف والجند العديد لا يخال إلا أنهم سيقضون على العرب في غدوة نزال أو روحة منه، ولكنهم يقيمون ويطول بهم المقام حتى ليحار الناظر من عددهم وعدّتهم، والمتطلع إلى جيش العرب وعدته، ويتساءل: ما الذي يمنع الفرس من منازلة العرب وليس لهم في ماضيهم جولة مع الفرس رجعوا منها بهزيمة، أو آبوا منها بنصر؟! نعم ما الذي يمنعهم من نزالهم والعدد العربي قليل والزاد يسير والعتاد خفيف؛ والتردّد في اللقاء إنما يكون عند تعادل الجيشين لكل منهما لا يبدأ بحرب عسى أن لا يصبر الخصم على طول الإقامة مع كمال الأهبة؛ فيرضى من الغنيمة بالسلامة ويسعد من المعركة بالعافية؟!.
ويرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر أن القوم لم يبدأوا بنزال، وقد طال المقام واستمرّ التأهب!، ولكن الخليفة الحكيم يأمر قائده بالتريّث والانتظار، ويطلب منه أن لا يبدأ بعدوان، وألا يَملّ من طول المقام.
ونجد أوامر عمر من نفس سعد ونفوس المسلمين سعة وقبولا؛ فيصابرون العدوّ حتى ينفذ صبره، ويطاولونه حتى يمل مقامه؛ فيرسل إلى سعد أن أرسل إلي مِن رسلك مَن نبادله الرأي، ويجمع سعد مجلس الشورى من خاصته، ويعرض عليهم أن تذهب منهم طائفة إلى رستم؛ يبسطون له دعوتهم ويحددون لهم هدفهم، ويتقدم ربعي بن عامر ويقول لسعد: إن الأعاجم لهم آراء وآداب، ومتى نأتِهم جميعا يرَوْا أنا قد احتفلنا بهم؛ فلا تزدهم على رجل! فوافقه الجمع، وأمره سعد بأن يذهب إلى رستم.
فيركب فرسا له قصيرة غير مظهمة ولا فارِهة، ومعه سيفه المرهف مغمورا في لفافة من ثوب خَلِق، ورمحه غمده من أديم بال، وترسه من أديم البقر، ودرعه وعمامته مما يجلل به فرسه عند امتطائه.
فلما وصل إلى الجسر حبسه حرّاسه حتى يستأذنوا له، وأرسلوا إلى قائدهم، وعرف من أمره أنه رجل واحد، ولكنه جمع له مجلسه ليستشيرهم في لقاء العربي البادي؛ فأشاروا عليه بأن يهيّئ له من المظهر ما يأخذ بالنفوس إن كانت كنفوسهم، ويرهب الأفئدة إن كانت كأفئدتهم، ويعقد الألسنة إن كانت كألسنتهم، ويغشى الأبصار إن كانت كأبصارهم.
وحسبوا أن هذا المظهر المترف سيكون له في نفس العربي الذي لم يألف النعمة ولم يتقلب في مظاهر الثراء وقعٌ أبلغ من وقعه في نفوسهم؛ إن لم يكن من مبالغة التقدير فسوف يكون من غفلة المفاجأة، ويأمر رستم بأن تبسط البسط وأن تصفّف النمارق، وأن يكثروا من مظاهر الثراء وآثار النعمة، وأن يوضع له سرير من ذهب، ثم يلبس القائد زينته ويتكئ على الوسائد المنسوجة من الذهب.
وأقبل ربعي بن عامر يسير، وهو راكب فرسه، في وسط جموع من جند الفرس وحرس القائد، وهم ينظرون إلى مظهره وبزّته وسلاحه وعدّته في كثير من الاستخفاف أو كثير من الإشفاق، ولعلهم كانوا يتهامسون إذا كان هذا رسول العرب فما أخفّ وزنهم وما أقل شأنهم، ولعلّ غاية العرب أن نَكْسوا عريهم البادي، وأن نشبعهم من جوع ونرويهم من ظمأ.
وربعي لا يلتفت إلى الأبصار الشاخصة، ولا يستمع إلى النفوس الهاجسة، ولكنه يسير على سمته لم ترهبه كثرة الجمع ولم يؤخذ بمظاهر الثراء؛ فلما وصل إلى أدنى البسط قيل له: انزل عن فرسك! فأصمّ أذنيه عن الأمر الذليل، وهمز فرسه؛ فسارت على البسط الوثيرة حتى استوت عليها، ثم نزل عنها وربطها بوسادتين من وسائد الحرير المنسوج بالذهب؛ عمد إليهما فشقّهما ثم أدخل الحبل فيهما.
ولقد عقدت المناجأة والجرأة ألسنة القوم وقائدهم؛ فلم يمنعوه وإن أنكروا عليه، وتقدّم إليه أحدهم وقال له: ضع سلاحك! فقال له: إني لم آتيكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني؛ فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت؛ فأخبروا رستم بمقالة ربعي، فقال: ائذنوا له! هل هو إلا رجل واحد؟!.
ونظر ربعي إلى سمات القوم فوجد عليها سحابات من الغيظ المكبوت والحقد المتأجّج؛ فأراد أن يزيد النار ضراما؛ فأقبل يتوكّأ على رمحه يمشي وئيدا قريب الخطو وهو يزجّ النمارق والبسط برمحه؛ فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركه متهتّكا مخرقا، فلما دنا من رستم تعلّق به الحراس؛ فجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط؛ فقالوا له: ما حملك على هذا؟ قال: إنّا لا نحبّ القعود على زينتكم هذه.
وعرف القوم أنهم أخطأوا التقدير حينما حسبوا أن مظاهر النعمة ستبهر ابن الصحراء أو تشتّت عليه رأيه أو تروّع منه فؤاده، وعرف ربعي ما يهدف إليه القوم من المبالغة في إظهار مظاهر الثراء وأسباب الترف، وما خرج ربعي بفعله عن آدابه أو حاد عما تدعوه إليه أخلاقه، ولكنه أراد أن يبصر القوم بغايته قبل أن يتكلم بها، وأن يعرفهم أن هذه المظاهر قد رانت على قلوبهم؛ فلم يصل إليها نداء لحرية أو صوت يدعو إلى كرامة، أو دعوة تحثّ على مساواة، وأنّهم واهمون إن ظنوا أن غاية ربعي ومن خلفه طلب شيء من دنياهم أو الظفر بشيء من ديارهم.
ويقول رستم لربعي: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل منّا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نقضي إلى موعود الله. قال له رستم: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخّروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحبّ إليكم؛ أيوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.
وأراد رستم أن يقرب ربعيا منه وأن يدنيه، وأن يحسن له القول ويزيّن له الحديث؛ لعلّه يجد منه إيناسا به أو ركونا إليه؛ فيمنّيه أو يَعده؛ لعله بهذا يرجع إلى قومه بوجه غير الذي جاء به، ولكن ربعيّا يبدّد الوهم بالجد من القول، فيقول: إن مما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا أن لا نُمكّن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجّلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث؛ فنحن متردّدون عنكم ثلاثا، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فنقبل ونكفّ عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه وإن كنت إليه محتاجا منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، وأنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلي جميع من ترى من قومي! قال: أسيّدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد لبعضهم من بعض؛ يجير أدناهم على أعلاهم، وخلا رستم برؤساء قومه وقال لهم: ما ترون؟ هل رأيتم كلاماً قطّ أوضح ولا أعزّ من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى دين هذا الأعرابي الجائع! أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة؛ إن العرب تستخفّ باللباس والمآكل ويصونون الأحساب، وهم ليسوا مثلكم في اللباس ولا يرون فيه ما ترون.
وعجب القوم من كلام قائدهم، وظنوا به الظنون في تقديره للعرب مثل هذا التقدير، وأرادوا أن يؤيّدوا ظنهم أو يدفعوا وهمهم؛ فتقدموا إلى ربعي وتناولوا سلاحه وهم يزهّدونه فيه، فقال لهم: هل لكم إلى أن تروني فأريكم، ثم أخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار، فقال القوم: أغمده! فغمده، ثم رمى ترسا لهم فخرقه، ورموا هم وقايته من الأديم فسلمت، فقال لهم: يا أهل فارس إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب، وإنا صغرناهن.
وعرف الفرس حينما رأوا بريق سيفه أن له مضاء ولصاحبه عزيمة، فأسرعوا إلى طلب إغماده، كما رأوا عندما انخرق ترسهم وسلمت وقايته مع تفاوت الصلابة أن الذي خرق ترسهم إنما هي قوة عزيمة ربعي وصلابة إيمانه بدعوته، وأن الذي حفظ ترسه الجلدي من رميهم إنها رمية الأذلاء المستضعفين، وأنّى للنفوس الذليلة أن يكون لها قوة، وللمستضعفين من الناس أن يكون لهم مضاء.
ثم رجع ربعي إلى أن ينظر إلى الأجل؛ فلما كان من الغد بعثوا: أن ابعثوا إلينا ذلك الرجل؛ فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن؛ فأقبل في بذة صاحبه وهيأته وسمته وسلاحه، وعملوا له كما عملوا لصاحبه، وعمل هو معهم مثل ما عمله صاحبه؛ فلما وقف على رستم قال له: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال: إن أميرنا يحبّ أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء؛ فهذه نوبتي، ثم سأله رستم عما جاء بهم؟ فما زاد ولا نقص عن قول ربعي، فسأله الموادعة إلى أجل؟ فقال له: لكم ثلاثة أيام من أمس، فلما لم يجد عنده إلا ذلك ردّه، وأقبل على أصحابه فقال لهم: ويحكم ألا ترون إلى ما أرى؟ جاءنا الأوّل بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على ما نحفل به غالي الحرير وربطه به، وقد ذهب إلى قومه في يمن الطائر مع فضل عقله، وجاءنا هذا اليوم فما رأينا منه إلا ما رأينا من صاحب الأمس، ثم رجع كما رجع أخوه؛ فأغضبهم وأغضبوه، فلما كان من الغد أرسل: أن ابعثوا إلينا رجلا آخر منكم؛ فأرسلوا إليه المغيرة بن شعبة، فعملوا له مثل ما عملوا لصاحبيه، وعمل هو معهم مثل ما عمل صاحباه، ثم زاد أن جلس على سرير رستم واتّكأ على وسادته؛ فوثبوا عليه وأنزلوه، وحقروا فعله وشأنه؛ فلم يغضب المغيرة مما فعل به، ولعلّه أراد أن يرى من فعالهم ما يكون فيه الدليل على مهانتهم وذلتهم وسفاهة رأيهم، ثم يريهم من أمر العرب فيما بينهم ما تتوق إليه نفوسهم، وما يؤلّب عامّتهم على خاصّتهم؛ فيكون عمل بعمله هذا فوق ما يعمله جيش قوي
العتاد كثير الجند، فلما رأى منهم ما رأى قال لهم: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، وإنا معشر العرب سواء؛ لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، وأنا لم آتكم ولكنكم دعوتموني، اليوم علمت أن ريحكم ذاهبة وأنكم مغلبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول [1] .
وبلغ المغيرة بمقالته ما أراد، وحقّق لنفسه ما قصد، فوصلت مقالته إلى نفوس ظامئة إلى الحرية وإلى قلوب مطوية على ضغينة، وهي وإن تظاهرت بالرضا فما ذلك إلا لضعف حيلتها أو فقدان قيادتها، وقال المستضعفون: صدق والله العربي! وقال السادة: والله لقد رمى العربي بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه! ثم قالوا: قاتل الله من سبق منا؛ ما كان أحمقهم حين كانوا يصغّرون أمر هذه الأمة، ثم مازحه رستم ظنا منه أن المغيرة قد كره ما حصل من قومه، ثم مدّ رستم يده إلى كنانة المغيرة فأخرج منها سهما وقال له: ما هذه المغازل التي معك؟ فقال له المغيرة: ما ضرّ الجمرة ألا تكون طويلة؟! ثم قال: وما بال سيفك رثّا؟ قال: رثّ الكسوة حديد المضربة!، واستنبأه نبأ قومه، فقال مقالة صاحبيه، ولكنه تخير من اللفظ ما يثير الحميّة حتى يفضحه على المطاولة، وما ترك رستم إلا وهو متوعّد ومنذر.
ولما انصرف المغيرة خلا رستم بخاصته بعد أن رأى من أمر العربي الجدّ الجادّ فقال لهم: أما ترون من أمر هؤلاء القوم أنهم لم يختلفوا، وسلكوا طريقا واحدا ولزموا أمرا واحدا؟! هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن كان بلغ من أربهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ مما أرادوا منهم، ولئن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء.
ولقد ترك المغيرة القوم وقد اختلط عليهم الأمر وتشتت منهم الرأي وتنازع الهوى؛ فالسادة يودّون الإبقاء على أبّهة الحكم والسلطان والرئاسة، والعبيد سمعوا نداء الحرية التي ينزعون إليها، وعرفوا أنهم إن فاتتهم الفرصة المواتية على أيدي المسلمين اليوم فقلّ أن تعود.
ورأى القائد وذوو الرأي معه بوادر التمرّد تسري في جنبات جيشه، فأمر بالقيود والسلاسل فقيدت بها الجند وشدّت بها الرجال، وأنّى لمكره أن يدافع عن ديار؟!، وأنّى لمستعبد أن يدافع عن أوطانه، وليس له في هذا الوطن رأي مسموع ولا حق مصان ولا حياة كريمة؟!.
وما عرف الفرس أن القلوب إذا طويت على ضغن من طول الإذلال فقلّ أن تستجيب لنداء أو تحفّ لنجدة، وما غناء مَن قُيّد بالقيود وقُرِن في السلاسل في الدفاع عن الأوطان والذود عن الحمى؟!.
ولقد كشف ربعي وأخواه للفرس عما يدور في المجتمع الجديد من حرية في الرأي ووحدة في الهدف وسموّ في المقصد، وأعلموهم أنهم وإن لم يكن لهم في التاريخ صفحات، ولا بين الأمم وزن إلا أنهم من اليوم سوف يكون لهم منهج من الحرية الصادقة؛ يأخذون أنفسهم به وينشرونه في الناس، وأنهم إن جاءوا إلى بلادهم اليوم وإن ذهبوا إلى بلاد غيرهم غدا فهم لا يتطلّعون فتحا لاغتصاب أرزاق ولا لاستعباد شعوب ولا لاحتلال ديار، وإنما هم يرفعون راية حرية الإنسان أينما حلّوا، وأنهم لِسموّ ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من توحيد الكلمة ونكران الذات وحرية الرأي وأخوة الإنسان لأخيه - لم يرضوا أن يعيشوا ناعمين بالحرية وغيرهم يرسف في أغلال العبودية، وأن الإنسانية التي طال عليها الظلام لا بدّ لها من نور ساطع قويّ ينفذ إلى النفوس المظلومة؛ فيضيء لها السبيل ويوضح الطريق ويحدّد الغاية، وأن العرب قد حملوا الأرواح على الأكفّ في سبيل دعوة الحقّ والعدالة؛ فمن مات في سبيلها مات ونفسه راضية لأنه يدافع عن مبادئ الإسعاد للإنسانية، ومن بقي منهم سرّه أن ينعم الناس بما ينعم به.
ونحن في هذه الآونة التي تمرّ بالعرب والمسلمين نحتاج إلى الكثير من أمثال ربعي وأخويه، والرأي لا ينضج إلى في ظلال الحرية والإيمان لا يقوى إلا في كنف الرحمة، كما نحتاج إلى الكثير من أمثال سعد ممّن يأخذون أمرهم بالشورى المبرّأة من الإرهاب، البعيدة عن الإعجاب بالرأي والاستبداد به؛ لأنه لا يستقيم أمر أمة استبدّ قادتها برأيهم، أو أرهبوا غيرهم حتى لا يجهروا برأي، والطريق لا توضح معالمه إلا إذا كثرت السواعد المتعاونة على تمهيده، وتبودلت الآراء في حرية تامة وأمن كامل.
أما أن نقتل في النفوس حبّ الخير بالإرهاب، أو نقضي على الآراء الناضجة بالإهمال، أو نَحول بين الناس وبين إبداء آرائهم بالقسوة؛ فإن هذا أمر يجعل اليأس يتطرّق إلى القلوب؛ فلا تُخلص النصح ولا تنطوي على محبة، وقلّ أن يرتفع شأن أمة وقلوب بنيها متنافرة من القسوة أو متعادية بسبب الحرمان.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
راجع تاريخ الطبري.
فتح العرب للأندلس
لفضيلة الشيخ محمد أبو زيد طنطاوي
كلية الدعوة وأصول الدين
بعد أن تمّ لموسى بن نصير فتح بلاد المغرب، وبعد استقرار الإدارة العربية في شمال إفريقيا أخذ يتطلع لفتح أسبانيا، وبدأ يعدّ من مدينة القيروان الخطط لنشر الإسلام في هذه البقعة من أرض أوربا، ويجمع الأخبار عنها، ويستفسر عن أحوالها، وصارت مدينة طنجة مركز عمليات موسى بن نصير في تلك المرحلة الاستطلاعية؛ بسبب قربها من أسبانيا، ولموقعها المباشر على بحر الزقاق (مضيق جبل طريق) المؤدي إلى تلك البلاد الأوربية، وأقام في طنجة منذ تَمّ فتحها أشهر قادة البربر المسلمين؛ وهو طارق بن زياد الذي صار الساعد الأيمن لموسى بن نصير في إعداد خطة فتح أسبانيا، وفي سائر العمليات الحربية الكبرى التي تطلبها تنفيذ تلك الخطة.
وساعد طارقا في تلك المرحلة عاملان: أوّلهما أنه من البربر؛ السكان الأصليين لإفريقية والخبيرين بأحوال أسبانيا، وما حفلت به من خيرات وثروات، وثانيهما: أنه ثمرة من ثمار القوة الجديدة للدولة العربية الإسلامية؛ فهو من قبيلة نفزاوة، ومن أسرة اشتهرت بسبقها إلى اعتناق الإسلام؛ إذ أسلم والد طارق أيام عقبة بن نافع الفهري، والتحق هو بعد وفاة والده بخدمة المسلمين، وكان إذ ذاك صغير السن، ولكنه كان يتمتع بقدر كبير من الحماسة والغيرة على الدين الإسلامي، الأمر الذي جعله من أشدّ المقرّبين إلى موسى بن نصير، ومن الطبقة الأولى من رجال البربر الذين اختصّهم بسرّه وثقته المطلقة، وأشركه مشاركة عملية في رفع راية الإسلام، وأثبت طارق بن زياد أنه خير أمين على تنفيذ خطط موسى بن نصير التي بدأ يعدّها لفتح أسبانيا؛ ذلك أن موسى بن نصير - بعد أن فتح طنجة - اتجه إلى مدينة سبتة التي كان يحكمها إذ ذاك رجل من الروم يدعى يوليان، ولكن هذه المدينة استعصت عليه؛ فآثر إرجاء الاستيلاء عليها، وكلّف طارق بن زياد الذي عيّنه على طنجة مهمّة الاتصال بهذا الحاكم وجعل مدينة سبتة نافذة يطلّ منها المسلمون على أسبانيا ودراسة أحوالها، وكشف موسى بن نصير بذلك عن مقدرة سياسية فائقة حين آثر العمل في هذه المرحلة بطريق غير مباشر، وتقديم طارق بن زياد للقيام بالعمل في هذه الجبهة؛ ذلك أن طارقا كان أقدر على الاتصال بالبربر التابعين لحاكم سبتة، وكلهم ممن خبروا أسبانيا وانتقلوا بين أرجائها، ولم تلبث تطورات الأوضاع في سبتة أن هيّأت لطارق بن زياد السير قدما في سبيل تنفيذ خطط موسى بن نصير؛ فقد رأى يوليان حاكم سبتة أن الحكمة تفرض عليه التقرّب من القوة الإسلامية الجديدة التي صارت تجاور أملاكه مباشرة، وأن يقيم معها علاقات ودّية تعوّضه عن الضعف الذي دبّ إلى سلطانه في سبتة، وكان يوليان أصلا عاملا من عمّال دولة الروم، وحكم إقليم مرطانية الطنجية بحكم
كونه قائدا عامّا مفوّضا من قبل الامبراطور، وتولّى يوليان إدارة هذا الإقليم وهو صغير السن، ثم طال به الزمن دون أن تتمكّن دولة الروم من عزله أو استبدال غيره به؛ بسبب انشغالها بالحروب ضد العرب المسلمين الفاتحين في شمال أفريقيا، وأصبح يوليان مطلق التصرف في ولايته، وله صلات ودّية كثيرة مع أهلها من البربر وزعماء القبائل المجاورة له؛ حتى صار خبيرا بتقاليدهم وعاداتهم، وأجاد القيام بها إلى درجة جعلته يبدو كأحد أبناء البلاد الأصليين، لا تابعا لإمبراطورية الروم، ولا يمكن كشف حقيقة لونه السياسي في سهولة ويسر؛ فاختلط على كثير من المؤرخين أمر يوليان حتى ذكر البعض أنه من البربر، على حين قال البعض الآخر إنه من القوط دون أن يفطنوا إلى تبعيّته أصلا لإمبراطورية الروم، ولما انهار سلطان الروم في إفريقية بعد الفتوح العربية أخذ يوليان يعمل على تقوية روابطه بدولة القوط في أسبانيا على نحو ما فعل مع جيرانه من البربر؛ ليدعم مركزه ويحفظ أملاكه، ورحّب ملك القوط إذ ذاك - واسمه غيطشة - بولاء يوليان؛ بسبب أهمية سبتة لحماية دولته؛ فهي تتمتع بمركز جغرافي فريد يجعلها مفتاح أسبانيا والحارس الذي يحميها من هجوم قد يشنّ عليها من الجانب الإفريقي؛ فهي قبالة الجزيرة الخضراء من أرض أسبانيا، وتسيطر على المياه التي بينها وبين تلك الرقعة الأسبانية، هذا وتتمتع أسبانيا بموقع طبيعي يجعلها حصنا منيعا في استطاعته أن يقاوم زمنا طويلا أيّ هجوم مفاجئ قد تتعرض له؛ فيوجد على بعد ميلين منها جبل موسى (نسبة إلى موسى بن نصير) ، كما يحيط ماء البحر بها من ثلاث جهات مما زاد في مناعتها وقوتها، هذا إلى أنه قام على مقربة منها دار لصناعة السفن التي استخدمت في العبور إلى الأندلس.
ورأى يوليان على الرغم من دعم صلاته بدولة القوط في أسبانيا أنّ تطوّر الأوضاع في بلاد المغرب واستقرار الفتوح الإسلامية بها يفرض عليه حسن الجوار مع الإدارة العربية الجديدة وتجنّب الاصطدام بها؛ ولذا رحّب يوليان بسياسة موسى بن نصير الذي آثر عدم الاستمرار في الاستيلاء على سبتة، وكان موسى قد ترك لقائده طارق بن زياد في طنجة مهمة تنظيم علاقة الجوار مع حاكم هذه المدينة الهامّة الذي يعتبر مفتاح بلاد الأندلس، ونجح طارق في دعم صداقته ليوليان، وبدأ يطلّ من هذه المدينة على أسبانيا ويدرس أحوالها دون أن يثير مخاوف القوط أو يبعث الريبة في نفوسهم باستعدادات المسلمين الحربية، وسارت الأمور بعد ذلك في سبتة بما ساعد موسى بن نصير على أن يكمل دراسته الخاصة بفتح أسبانيا ويعرف المزيد من الأخبار التي تهيّئ للمسلمين القيام بفتوحهم في هذا الميدان الجديد؛ وسبب ذلك أن دولة القوط في أسبانيا تعرّضت لاضطرابات شديدة تردّد صداها في مدينة سبتة، ودفعت بحاكمها يوليان إلى الانتقال من سياسة حسن جواره للمسلمين إلى سياسة التحالف والاتّفاق على تحقيق المصالح المشتركة بينهما، ذلك أن أحد كبار رجال القوط - واسمه رودريك، وهو الذي عرفه العرب باسم لوذريق - استطاع أن يطيح بالملك الحاكم وهو غيطشة، ثم اعتلى العرش، ولم يكتف لوذريق بذلك وإنما أخذ يعمل على إنزال أشدّ ألوان الأذى بأبناء غيطشة وسائر آل بيته، وآتت هذه السياسية الخرقاء من جانب لوذريق ثمرة لم يكن يتوقعها على الإطلاق؛ ذلك أن أبناء غيطشة حين اشتدت بهم المتاعب وسدّت في وجوههم السبل أخذوا يلجئون إلى جهة أخرى يستمدون منها العون والمساعدة على استرداد حقّهم المسلوب، وكان موسى بن نصير قد بدأ يتطلّع إلى أسبانيا عن طريق نافذة سبتة، ولم تلبث الأحداث أن جعلت سبتة تقوم بدور مباشر في نقل صورة كاملة عن تلك الأحوال السائدة في أسبانيا إلى موسى بن نصير، فضلاً عن قيامها بدور الوساطة
بين أبناء غيطشة وموسى بن نصير، ووجد أبناء غيطشة من يوليان حاكم سبتة رسولا إلى موسى ابن نصير، وساعِدا ومعاضدا لمشاريعهم؛ بسبب سوء العلاقات التي وقعت إذ ذاك بين هذا الحاكم وبين لوذريق، وتذكر المراجع أن سبب سوء العلاقات يرجع إلى اعتداء لوذريق على شرف ابنة يوليان التي كانت تتعلّم في طليطلة، وكانت العادة قد جرت على أن يبعث كبار رجال الدولة من القوط بأبنائهم إلى طليطلة ليتأدّبوا بآداب البيت المالك، وليكون ذلك سبيلا لتأليف القلوب.
وأسهبت المراجع في قصة ابنة يوليان؛ فوصفتها بأنها بارعة الجمال، فلما صارت عند لوذريق وقعت عينه عليها فأعجبته وأحبّها حبّا شديدا، ولم يملك نفسه حتى أكرهها، فاحتالت حتى أعلمت والدها بذلك سرّا بمكاتبة خفيّة؛ فأحفظه شأنها جدّا واشتدّت حميّته وقال: ودين المسيح لأزيلنّ ملكه وسلطانه، ولأحفرنّ تحت قدميه! ورأى يوليان أن يحتال أوّلا لاستدعاء ابنته من بلاط لوذريق؛ فخرج بنفسه في يوم من أيام الشتاء البارد دون أن يأبه بمخاطر الطريق، وعندما وصل إلى طليطلة أوجس منه لوذريق خيفة بسبب حضوره في ذلك الوقت غير الملائم، وسأله عمّا لديه، وما جاء فيه، ولِمَ جاء في مثل وقته؟ فأجاب يوليان بأن سبب حضوره هو أن زوجته مريضة مرض الموت، وأنها في شدّة شوقها لرؤية ابنتها التي هي عنده، وتمنّيها لقاءها قبل الموت وإلحاحها عليه في إحضارها، وأنه أحبّ إسعافها ورجا بلوغ أمنيتها منه، وانخدع لوذريق بهذه الحجّة وسمح لابنة يوليان بالعودة إلى أبيها بعد أن استوثق منها بألا تطلعه على ما حدث بينهما.
وبعد أن استقرّ يوليان ومعه ابنته في سبتة بدأ يكشف نواياه صراحة، وأخذ يساعد أبناء غيطشة والعناصر المناوئة للوذريق في أسبانيا، فأعدّ يوليان حملة نزلت بأسبانيا، واشتركت مع الثوّار في أعمالهم الحربيّة، لكن قوّات لوذريق استطاعت الحصول على النصر، ودمرت حملة يوليان واضطرّتها للعودة إلى سبتة، وما أن انتهت هذه الحروب في أسبانيا عن فوز لوذريق حتى أيقن يوليان أنه لم يعُد أمامه مفرّ من الاتجاه نحو السلطات العربية في القيروان وطلب مساعدتها ضدّ لوذريق، واتصل يوليان بطارق بن زياد طالبا مساعدة العرب له ضدّ لوذريق، ونقل طارق أخبار المفاوضات التي دارت بينه وبين يوليان إلى موسى ابن نصير الذي وجد أن الوقت قد حان لفتح الأندلس، ثم تحقّق موسى من صدق ما نقله إليه طارق حين ذهب يوليان نفسه إلى القيروان ليعرض وجهة نظره على السلطات العربية هناك؛ إذ أكّد يوليان لموسى بن نصير الخير الوافر الذي سيعود على العرب من القيام بغزو الأندلس ومساعدتهم له ضدّ لوذريق، ووجد موسى بن نصير أن كلّ الظروف قد أصبحت سانحة للانتقال إلى ميدان جديد حافل بالمجد والفخار، وأعلن موافقته على مساعدته ضدّ لوذريق، واستطاع بذلك أن يستفيد من الموقف السياسي الذي ساد حكام الأندلس، وأن يسخره لخدمة الجيوش الإسلامية المجاهدة.
وكتب موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك يستأذنه في فتح تلك البلاد، ويشرح له اضطراب أحوالها وأنّ الفرصة غدت مواتية بعد مؤامرة يوليان ضدّ لوذريق، غير أن الخليفة أمر موسى بأن يختبر الأندلس ويدرس أحوالها بنفسه بإرسال حملات استطلاعية إليها، وعهد موسى بن نصير إلى يوليان نفسه القيام بإغارة على جنوب أسبانيا ليتحقّق بذلك من أمرين: أولهما أن يوليان جادّ في دعواه ضدّ لوذريق، وكراهيته له ولحكومته في أسبانيا، وثانيهما: أن يعرف مِن المقاومة التي يتعرض لها يوليان مدى قوّة القوط وما لديهم من استعداد حربي، وقام يوليان فعلا بإغارة سريعة على جنوب أسبانيا، ورجع منها محمّلا بالكثير من الغنائم والسبي.
فتح جزيرة طريف:
وأراد موسى بن نصير أن يقف بعد ذلك بنفسه على أحوال أسبانيا؛ فأعدّ حملة من المسلمين جعل على رأسها أحد قادته المشهورين بالمغامرة والشجاعة، وهو أبو زرعة طريف ابن مالك؛ فبعث هذا القائد إلى الأندلس في أربعمائة من خيرة الفدائيين، وذلك على سفن قدّمها لهم يوليان، ونزل المسلمون في جزيرة صغيرة اسمها بالوماس، وهي التي صارت تحمل بعد ذلك اسم القائد المسلم وعرفت بجزيرة طريف، وبادرت قوّة مكونة من أبناء غيطشة التي اشتركت في الحملة إلى مساعدة المسلمين وحراسة المضيق، وذلك في شهر رمضان عام 92هـ يوليو 711م، وشنّ طريف من مركزه بتلك الجزيرة عدّة حملات استطلاعية على سواحل أسبانيا الجنوبية، حيث درس تحصيناتها وعرف الكثير من أحوال أهلها ومدى علاقتهم بحكامها من القوط، وأخيرا عاد طريف إلى بلاد المغرب؛ فقدّم تقريرا مفصّلا عن إغاراته إلى موسى بن نصير، وشرح له في إسهاب أحوال أسبانيا، وقد أكّدت غارة طريف لموسى بن نصير صدق الأقوال التي نقلها إليه يوليان عن انهيار الأحوال في أسبانيا وافتقارها إلى أسباب الدفاع؛ بسبب انشغال القواد بملاذهم وانصرافهم إلى أعمال الطغيان وسلب ثروات البلاد لأنفسهم؛ فلم يلق طريف نوعا من أنواع المقاومة، كما لم يقابل قوّة من قوات القوط أثناء استطلاعه لأحوال جنوب أسبانيا، هذا إلى أن مبادرة أفراد بيت غيطشة إلى مساعدته وحراستهم لخطوط مواصلات المسلمين جاء دليلا واضحا على الانقسام الذي ساد الطبقة الحاكمة من القوط، وأن لوذريق لا يحكم إلا بالعنف والقسوة، وهو أمر لن يكفل له مقاومة المسلمين طويلا عندما يبدأ الفتح الإسلامي للبلاد، هذا إلى أن يوليان برهن مرة أخرى بما قدّمه من مساعدات لحملة طريف على أنه كاره فعلا للوذريق، وأن المؤامرة التي دبّرها مع أبناء غيطشة ضدّ هذا الحاكم المستبدّ مؤامرة لها خطرها، وأن خيوطها صحيحة وسليمة.
وبعودة حملة طريف انتهى موسى بن نصير من دور الحملات الاستطلاعية، وبدأ الإعداد الفعلي للفتح المنظّم لأسبانيا، وأثبت موسى بن نصير مقدرة حربية فائقة في هذا السبيل؛ إذ دارت الاستعدادات الحربية التي قام بها دون أن يتسرّب أمرها إلى القوط، ودون أن يتنبّه يوليان نفسه إلى حقيقة أهدافها وجوهر مراميها؛ فقد استطاع موسى بن نصير أن يوهم يوليان بأن استعداداته الواسعة النطاق التي أعقبت حملة طريف ما هي إلا حملة قوية لمساعدة أبناء غيطشة ضدّ لوذريق، وأخفى عنه تماما أنها ستكون الحلقة الأولى في سلسلة الفتح المنظّم لأسبانيا، وأعدّ موسى بن نصير حملة مكوّنة من خمسة آلاف جندي حتى لا يثير كثرة عددها ريبة يوليان أو مخاوفه، وفي الوقت نفسه سار موسى بن نصير في ذلك الإعداد على النهج الذي سارت عليه الفتوح الإسلامية الكبرى في شتىّ الجهات، وهو القيام أوّلا بإرسال حملة صغيرة العدد يتبعها إمدادات لا تنتهي - سواء من حيث الكثرة أو حسن الاستعداد - حتى يتم تحقيق الأهداف الحربية، وانتدب موسى لقيادة هذه الحملة الأولى على الأندلس أحسن قادة المسلمين إذ ذاك وأشدّهم ثقة به وهو: طارق بن زياد.
جاء اختيار موسى بن نصير لطارق بن زياد لقيادة هذه الحملة خطوة موفّقة، وأكّد بُعد نظر موسى وسعة خبرته الحربية؛ فطارق من البربر الذين عرفوا أرض الأندلس معرفة وثيقة؛ لأنهم يرونها امتدادا لبلادهم لا فارق بين بيئتها وبيئتهم، يضاف إلى ذلك أن طارقا هو الذي تولّى بنفسه جمع المعلومات عن بلاد الأندلس، وتولّى مفاوضات يوليان، وصار خبيرا بالميدان الجديد في سائر نواحيه الحربية والسياسية، وعمل موسى بن نصير على أن يشدّ أزر طارق الذي عهد إليه بالقيادة العليا للحملة؛ إذ ضم إليه هيئة من كبار رجال الحرب من العرب والبربر ليكونوا بمثابة مجلسه الاستشاري ومساعديه في إدارة المعارك، ومن أولئك القادة العرب: عبد الملك بن أبي عامر المغافري، وعلقمة اللخمي، وأحد موالي الخليفة الوليد بن عبد الملك واسمه مغيث الرومي، وكان القائد الأخير يعتبر مندوب الخلافة الحربي في تلك الحملة التي أعدّها موسى بن نصير، وحلقة الاتصال بين السلطات المركزية في دمشق ومقرّ القيادة الإسلامية في القيروان، وكلّف موسى بن نصير بعد ذلك يوليان بأن يقدّم للقوات الإسلامية السفن اللازمة لنقلها إلى أسبانيا، كما يتولى حراستها ويقوم بمهمة الدليل لها، وكان السبب في إصرار موسى بن نصير على الاعتماد في نقل الجند بسفن يوليان هو حرصه الشديد على إخفاء تحركات هذه الحملة عن العيون والجواسيس؛ فالأسطول الإسلامي كان قد تمّ إعداده على عهد موسى بن نصير وصارت له قاعدة هامة في تونس، كما ظهر نشاطه في السيطرة على الجزر الهامة في غرب البحر المتوسط، ولذا كانت تحركات هذا الأسطول محطّ أنظار الجميع ولا يمكن إخفاء أمرها، ولما كان موسى بن نصير يستهدف مفاجأة القوط بالأندلس لم يكن أمامه سوى الاعتماد على سفن يوليان التي لا تثير الريبة في نفوس من يشاهدها وهي تعبر بحر الزقاق (مضيق جبل طارق) ، وكان لدى يوليان أربع سفن لا تتّسع لنقل أفراد الحملة مرّة واحدة، ولذا تمت عملية
عبور بحر الزقاق على دفعات، وأخذت كل جماعة يتمّ نقلها تختفي في جهات خصّصت لها على الشاطئ الأسباني، حتى انتهى الجميع من العبور وذلك عام 92هـ (711م) .
وبادر طارق بن زياد بتحصين القاعدة الأولى التي استولى عليها في جنوب أسبانيا قبل التوغّل في داخل البلاد، ثم استولى على بلدة الجزيرة الخضراء قبالة جبل طارق، وصار بحر الزقاق (مضيق جبل طارق) في قبضة المسلمين وعلى اتصال وثيق بسبتة قاعدة الاتصال الأولى ببلاد المغرب.
وتمت المرحلة الأولى بذلك من نزول الحملة الإسلامية في أسبانيا دون مقاومة تذكر، وكان السبب في ذلك هو أن موسى بن نصير اختار وقت قيام حملة طارق وفق أدقّ المعلومات التي وصلته، وكانت المخابرات الإسلامية تتبع حركات لوذريق وتتحيّن الوقت المناسب لبدء الحملة، وسرعان ما سنحت الفرصة حين ذهب لوذريق إلى أقصى شمال أسبانيا ليخمد ثورة قام بها سكان جبال البرانس المعروفة باسم القبائل البسقاوية، وكانت تلك الجموع القبلية مشهورة بالمراس وقوة الشكيمة، مما جعل لوذريق يأخذ معظم جيشه معه، وأصبح جنوب أسبانيا خاليا تماما من أسباب الدفاع عنها، ولذلك لم تشعر سلطات القوط بنزول المسلمين في جنوب البلاد إلا بعد أن استقرّت دعائمهم ومكّنوا لأنفسهم على بحر الزقاق، فعبأت قوات سريعة وأرسلتها على عجل للهجوم على المسلمين تحت قيادة (بنج) المعروف باسم (بنشو) في المراجع الأسبانية، ولكن القوط لقوا هزيمة فادحة لم ينج منهم إلا واحد استطاع الهرب والذهاب إلى معسكر لوذريق في أقصى الشمال، ونقل إليه أنباء تلك الكارثة وهجوم المسلمين على البلاد، وكان لوذريق يقيم في مدينة بنبلونة بأقصى الشمال حيث يدير الحرب ضد القبائل البسقاوية، ولذا صمّم العودة سريعا إلى الجنوب والهجوم على المسلمين قبل أن يتوغّلوا في داخل البلاد، وكان لوذريق من أشهر رجال القوط في ميدان الحروب؛ إذ قدّر تماما الخطر الذي أحاط بدولته بسبب نجاح المسلمين في اتخاذ قاعدة لهم عند جبل طارق، وأدرك أنهم جاءوا للفتح وليس للإغارة من أجل السلب والنهب والحصول على المغانم كما راجت الإشاعات بذلك، ومن ثم عمد إلى جمع صفوف القوط لمواجهة المسلمين؛ فاتصل بأبناء غيطشة وصالحهم ليكونوا جميعا يدا واحدة، ولكن أعمال لوذريق في تلك السبيل جاءت متأخرة؛ لأن بيت غيطشة ظلّ على ولائه سرّا للخطة التي وضعها يوليان، ولم ينس ما حلّ به من أذى واضطهاد وتشريد على يد لوذريق، وفي الوقت نفسه ظلّ أبناء
هذا البيت في اعتقادهم أن المسلمين لم يأتوا للفتح ولكن للحصول على المغانم مقابل مساعدتهم في القضاء على لوذريق، وزحف لوذريق بجيشه سريعا واحتلّ قرطبة؛ ليحول بين المسلمين وبين الاستيلاء عليها؛ لأنها المفتاح الذي يسيطر على سهول الأندلس الجنوبية الشرقية، ويمكن لصاحبها من الاستقرار في البلاد.
وكان طارق بن زياد يريد فعلا الاستيلاء على قرطبة؛ فقد زحف على هذه المدينة بعد انتصاره في جنوب أسبانيا، وسلك الطريق المارّ بجزيرة طريف (الجزيرة الخضراء) ثم زحف شمالا بعد ذلك حتى اقترب من بحيرة الخندق التي يخترقها نهر صغير يسمى البرباط، وفي ذلك المكان مدينة صغيرة سمّاها المسلمون (بكة) ونسبوا إليها النهر الذي صار يعرف باسم وادي بكة، وحرف بعض المسلمين هذه التسمية إلى وادي لكة، وعند وادي بكة عرف طارق ابن زياد عن طريق عيونه أن لوذريق علم بنبأ الحملة الإسلامية وأنه وصل إلى قرطبة واستولى عليها، كما أنه تابع زحفه جنوبا واتخذ معسكره عند بلدة شذونة في سهل البرباط، وأنه صار بذلك على أهبة القتال، وذكرت بعض المراجع أن جيش القوط بقيادة لوذريق بلغ عدده مائة ألف مقاتل وضمّ عددا عظيما من الفرسان، ويرجح أن هذا العدد مبالغ فيه، وأدرك طارق بن زياد أن العدد الذي معه من جند المسلمين لا يكفي لقتال قوات لوذريق الهائلة؛ ولذا أرسل إلى موسى بن نصير يشرح له الموقف ويطلب إليه إرسال الإمدادات بسرعة، فأمدّه موسى بن نصير بحملة عددها خمسة آلاف مقاتل بقيادة طريف بن مالك الذي قاد أول حركة استطلاعية في أرض أسبانيا، ونقل هؤلاء الجنود مرّة واحدة على سفن الأسطول العربي إلى أسبانيا، ووصلت الإمدادات الإسلامية إلى طارق في اللحظة الحاسمة التي كان القوط على وشك شنّ الهجوم على المسلمين، وأعدّ طارق بن زياد قواته للمعركة، ثم وقف بين جنده خطيبا يحثّهم على الاستبسال في القتال، شأنه في ذلك شأن قادة الفتوح العربية الذين دأبوا على رفع روح
جندهم المعنوية بإلقاء خطاب حماسي بينهم قبل نشوب المعركة، وتعتبر خطبة طارق من روائع الأدب العربي، ومما جاء في هذه الخطبة: "أيها الناس! أين المفرّ؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصبر والصدق، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم، وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوّضت القلوب عن رعبها فيكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية؛ فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقّ قليلا استمتعتم بالأرفة الألذّ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي؛ فما حظّكم فيه بأوفى من حظّي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدرّ والمرجان والحلل المنسوجة بالعقبان، المصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا؛ ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان؛ ليكون حظّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي أنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين.
أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله؛ إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أنهيه حتى أخالطه وأمثل دونه؛ فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وتولوا الدبر لعدوكم فتبدوا بين قتيل وأسير، وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة الراحة من المهانة والزلة، وما قد أجل لكم من ثواب الشهادة فإنكم إن تفعلوا - والله معكم ومفيدكم - تبوءوا بالخسران المبين وسوء الحديث غدا بين من عرفكم من المسلمين، وهاأنذا حامل حتى أغشاه؛ فاحملوا بحملتي".
وفي الوقت الذي أثرت فيه خطبة طارق تأثيرا كبيرا في نفوس جنوده ورفعت من روحهم المعنوية كانت العناصر الحانقة على لوذريق تحدث أعمالها وتدفع بكثير من أولئك الغاضبين إلى الانضمام إلى جيش طارق، ووقف الفريقان على ضفتي النهر أخيرا استعدادا للقتال، وكان المسلمون ببساطتهم ويقظتهم موضع الهيبة في النفوس، على حين كان منظر القوط يدعو إلى السخرية والازدراء؛ إذ جلس لوذريق في عربة مطهمة يجرها جوادان وعليه أثواب الحرير البراقة، وهو يحاول عبثا بثّ روح الحماسة في جنده، وكان في جيشه اثنان من إخوة غيطشة، وهما: أبه وششبرت اللذان صالحهما بغية توحيد صفوف القوط، وجعل أحدهما على الخيالة التي كانت عماد جيش القوط، وفي يوم الأحد 28 من رمضان عام 92هـ (19 يوليو 711م) بدأت المناوشات بين الجانبين على وادي البرباط بالقرب من بلدة شذونة، واستمرت المناوشات ثلاثة أيام أظهر فيها كل من الجانبين الكثير من ضروب الشجاعة والبسالة دون أن يحصل أحدهما على نصر يذكر، غير أن أتباع يوليان نشطوا في أثناء القتال وبثّوا رجالاتهم وسط جند لوذريق ليصرفوهم عنه ويؤكدوا لهم أن المسلمين لم يأتوا إلى الأندلس للفتح والاستقرار ولكن للقضاء على هذا الطاغية، وأنه إذا تمّ القضاء على حكم لوذريق عادت البلاد ملكا لهم ينعمون بخيراتها، ونجحت دعايات يوليان بين فرسان القوط، خاصة تلك التي كان يتولى قيادتها أحد إخوة غيطشة ملك القوط السابق الذي قضى عليه لوذريق، وفي اليوم الرابع من المعركة ظهرت نتائج دعايات يوليان بين صفوف جيش لوذريق؛ فقد تخلى عنه جماعات الخيالة التي كانت العامود الفقري للعمليات الحربية، وأدى ذلك إلى وقوع الاضطراب بين سائر جند القوط وهرب الكثيرون منهم طلبا للنجاة، هذا إلى أن غالبية الجيش اشتملت على أعداد كبيرة من العبيد الساخطين على حكم القوط المتمنين زواله، ووجدوا في تلك المعركة فرصتهم للخلاص مما حلّ بهم من ظلم واضطهاد، ولما أخذت
مظاهر الفوضى تسود الجيش بسبب انسحاب الخيالة تراخى العبيد عن القتال وانتهت المعركة بانتصار المسلمين، وفرّ لوذريق تاركا عددا كبيرا من القتلى على أرض الميدان، وحسب البعض أن لوذريق غرق في النهر الذي دارت المعركة بقربه؛ لأن الجند وجدوا على الشاطئ بعد انتهاء القتال خفّه دون أن يعثروا له على أثر، غير أن لوذريق أبى الاستسلام بعد الهزيمة الساحقة التي نزلت به، وفرّ إلى داخل البلاد دون أن يكشف أحد أمره، مستهدفا جمع فلول القوط مرة أخرى والانتقام ممن انضمّ من رجاله إلى المسلمين، وبعث طارق بأنباء انتصاراته إلى موسى بن نصير الذي أبلغها بدوره إلى الخليفة الوليد ابن عبد الملك، وبدأت راية الإسلام تعلو خفاقة فوق غرب أوربا للمرة الأولى في التاريخ، وازدادت قوات طارق بن زياد بعد معركة وادي بكة؛ لأن الإمدادات انهالت عليه من المغرب، ورأى طارق أن يتابع زحفه دون إبطاء ليستولي على قرطبة ويقضي على ما بها من بقايا جيش القوط، غير أنه لقي في الطريق إلى هذه المدينة مقاومة عنيفة جعلته يعدل عن خطته ويبادر بالاستيلاء على طليطلة عاصمة دولة القوط ويتوج بذلك انتصاراته في أسبانيا، وكان السبب في هذا التطوّر الجديد هو ما بلغ طارقا من أن أنصار لوذريق حين ترامت إليهم الشائعات بأن ملكهم لم يقتل بدءوا يجمعون صفوفهم مرّة أخرى في طليطلة لمقاومة المسلمين، ومن ناحية أخرى أخذ أنصار الملك السابق غيطشة يجتمعون في طليطلة ويتشاورون فيما بينهم لإعلان أحدهم ملكا مكان لوذريق المهزوم، ولذا عجل طارق بإرسال جزء من جيشه للاستيلاء على قرطبة ليحمي ممتلكاته بجنوب أسبانيا، على حين انطلق بنفسه سريعا إلى طليطلة قبل أن يتمكّن أتباع لوذريق من تحصينها، وقبل أن يصل أبناء غيطشة أيضا إلى قرار يصعب على المسلمين مواجهته، ذلك أن بيت غيطشة ظلّ واهما حتى تلك الأحداث بأن المسلمين ما جاءوا إلا للمغانم مقابل مساعدة أبناء غيطشة للوصول إلى العرش، واستولى
طارق بن زياد على مدينة طليطلة في سهولة ويسر؛ لأن القوط آثروا تجنّب لقاء المسلمين انتظارا لما تسفر عنه استعداداتهم، وحاول طارق أن يتتبع فلول القوط الهاربة من طليطلة حتى بلغ مدينة أطلق عليها (المائدة) على مقربة من هنارس، وهناك عثر المسلمون على كنز ثمين، عبارة عن مذبح كنيسة طليطلة المحلى بأغلى ما كان لدى القوط من الذهب والجواهر، غير أن طارقا اضطرّ إلى العودة إلى طليطلة لأن الصيف كان قد انقضى؛ فآثر البقاء في العاصمة دون أن يعرض جنده لبرد الشتاء القارس، وفي طليطلة بلغه أن جيشه الذي بعث به إلى قرطبة قد استولى عليها.
وقد شعر موسى بن نصير أن زحف طارق وراء فلول القوط يوشك أن يعرض الفتوح الإسلامية في البلاد الأسبانية المترامية الأطراف لخطر محقّق، ذلك أن خطوط مواصلات المسلمين فيما بين طليطلة والجزيرة الخضراء وبلاد المغرب صارت غير آمنة؛ لأن المعاقل الكبرى المبعثرة على امتداد تلك الخطوط لم تخضع للمسلمين، ولم يسيطر طارق إلا على قرطبة فقط من بين تلك المعاقل المتعددة، هذا إلى أن قرطبة لم يكن بها سوى حامية صغيرة لا تستطيع أن تؤدي رسالتها كما ينبغي إذا انبعثت أية حركة مقاومة بين صفوف القوط، وأول من شعر بالخطر الذي بات يهدّد المسلمين في أسبانيا هو القائد يوليان الذي قام إذ ذاك في الجزيرة الخضراء ليؤمن خطوط مواصلات المسلمين بين أسبانيا والمغرب، وذلك في الوقت الذي اندفع فيه طارق بن زياد إلى طليطلة عاصمة القوط، فقد بعث يوليان مجموعة من رجاله مع المسلمين عند توغّلهم في البلاد، واستطاعت بفضل خبرتها وأهلها أن تدرك ما يدور في نفوس القوط من غدر، وأنهم يتجمّعون وفق خطة مرسومة لإنزال الهزيمة بالمسلمين، أفضى يوليان إلى طارق بما جاءه من أخبار وطلب منه القيام بعمل حاسم لتأمين ظهر جيوشه، غير أن طارقا آثر البقاء في طليطلة دون القيام بأية أعمال توسيعية، ثم كلّف يوليان بأن يتصل بموسى بن نصير في القيروان ويطلب إليه سرعة المجيء إلى أسبانيا لإنقاذ الموقف.
ولما جاءت استغاثة طارق إلى موسى بن نصير أدرك أن مخاوفه من انطلاق طارق في فتوحه بعد معركة وادي بكة لها ما يسوغها، وأسرع موسى بإعداد جيش مكوّن من ثمانية عشر ألفا من خيرة جنده، وكان معظمهم من العرب والبربر الذين عرفوا بقوّة الشكيمة وشدّة المراس، وممن اشتهروا ببلائهم في ميدان الحروب ببلاد المغرب، وغادر موسى بلاد المغرب على عجل، وقسّم موسى بن نصير جيشه بحسب القبائل ليسهل عبورها إلى الأندلس دون أن تقع فوضى في صفوف الجند، وفي رمضان عام 93هـ (يونيه 712م) كان موسى ابن نصير قد غادر المغرب ووصل إلى الجزيرة الخضراء في الأندلس، وشيّد بها مسجدا وانتظر هناك حتى تمّ عبور سائر الجند واطمأنّ على سلامتهم وحسن ترتيبهم، وفي تلك الأثناء أسرع يوليان إلى لقاء موسى بن نصير وعقد معه مجلسا حربيا للتشاور في هذا الموقف الخطير، وقرر هذا المجلس الحربي أن الضرورة تقضي بالسيطرة أوّلا على المعاقل التي تركها طارق والتي باتت خطرا يتهدد المسلمين، وبعث موسى بن نصير عقب هذا المجلس الحربي الهام رسالة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالانتظار في طليطلة، وألا يقوم بعمل حربي إلا بإشعار آخر.
وردّدت بعض المراجع أن موسى لم يقدم على هذا العمل والعبور إلى الأندلس إلا منافسةً لطارق ورغبة استبدت به لينال بدوره نصيبا كبيرا من الغنائم، وأن الحسد كان يأكل قلبه، وأنه صمّم على محاسبة طارق على أعماله، وأنه رأى أن يتولى بنفسه فتوحا أخرى أعظم مما قام به هذا القائد.
وقد وقعت تلك المراجع في هذا الخطأ الفاحش لأنها صوّرت موسى وطارقا تصوير القائدين المختلفين، وأنّ كلا منهما كان يعمل دون علم الآخر، والمعروف أن طارقا لم يقم بما قام به من أعمال حربية إلا باسم موسى بن نصير الذي تولى القيادة العليا ورسم الخطط، وأمدّ طارقا بكل المساعدات الحربية ولا سيما في ساعة الخطر بعد معركة وادي بكة، هذا إلى أن طارق بن زياد كان يرسل إلى موسى بن نصير عن طريق يوليان أنباء تقدّم المسلمين خطوة خطوة، مما جعل القيادة العليا في القيروان تتابع الأحداث عن كثب، ومن ثمّ لم يكن هناك سبب يدعو موسى لأن يحقد أو يحسد طارقا على ما تم على يديه من فتح؛ لأنه شارك في هذا الفتح وأعدّ خططه، هذا إلى أن موسى لم يكن يتطلع بعبوره إلى الأندلس إلى الحصول على مغانم؛ لأن توزيع الغنائم وغيرها من ممتلكات القوط كان هو المرجع الأخير فيه.
والحقيقة أن موسى بن نصير باعتباره القائد الأعلى قد أفزعه زحف طارق السريع بعد معركة وادي بكة، وتعريضه خطوط مواصلات المسلمين لخطر محقّق؛ بسبب تركه الكثير من المعاقل والمدن الهامة جريا وراء مطاردة القوط، ولذلك بادر موسى برسم خطة للسيطرة أوّلا على المراكز الحربية وغيرها في المدن التي كانت تهدّد خطوط مواصلات المسلمين، وليدعم فتوح المسلمين قبل الذهاب إلى طارق في طليطلة.
وتنهض هذه الخطة التي وضعها موسى دليلا على أنه لم يكن يهدف إلى القيام بفتوح جديدة تغطي أخبارها وعظمتها ما قام به طارق، وأن مجيئه إلى الأندلس كان ضرورة حربية ملحّة وإصلاح خطأ وقع فيه قائده طارق.
فتح إشبيلية وماردة:
وعمد موسى بن نصير إلى تأمين خطوط مواصلات المسلمين بين الجزيرة الخضراء التي نزل فيها وبين قرطبة التي تعتبر مفتاح السيادة في جنوب الأندلس؛ فعجل بالسير في بلدة شذونة، ومنها زحف إلى قرمونة ورواق واستولى عليهما، وبذلك أصبحت المحطّات الهامة على الطريق إلى قرطبة في أيدي المسلمين، وصار في استطاعتهم التقدّم من تلك القاعدة نحو الغرب، وفتح مدينة إشبيلية التي كانت أكبر مدن القوط بعد العاصمة طليطلة ومصدر الخطر المباشر على القوات التي كانت تحت قيادة طارق في داخل البلاد، وكانت إشبيلية تعتبر نقطة التقاء للطرق الهامة في جنوب الأندلس، ولا سيما التي تربط الجزيرة الخضراء بداخل البلاد، فكانت هناك طريقان يربطان إشبيلية بالجزيرة الخضراء التي جعلها موسى مركزا لالتقاء جنده في أسبانيا، وكان أحد هذه الطرق بحريا والآخر بريا، وعلى كل منهما محطات كثيرة ومعاقل.
هذا إلى أن إشبيلية اشتهرت بأسوارها الحصينة ومتاجرها الواسعة، وبهذا أصبحت قاعدة كبيرة من قواعد الفتوح الإسلامية في أسبانيا.
وبعد أن استولى موسى بن نصير على مدينة إشبيلية اكتفى بوضع حامية بها، وأسرع إلى الاستيلاء على مدينة ماردة التي كانت معقلا خطيرا في أيدي القوط خلف خطوط المسلمين، ووجد موسى بن نصير مدينة ماردة قوية الحصون وأشدّ منعة من إشبيلية؛ فكان لها أسوار منيعة يعلوها الأبراج والحصون القوية، ثم إن فلول القوط وأنصار لوذريق جعلوا تلك المدينة ملجأ لهم بسبب بعدها عن طريق المسلمين، كما كانت المسالك إليها وعرة صعبة، ولذا استغرق حصار المسلمين لها آخر الصيف والشتاء التالي له دون أن يسيطروا عليها، ودار حولها قتال عنيف سقط فيه كثير من الضحايا، فقد أعدّ موسى بن نصير كمائن كثيرة أخفاها في جهات صخرية مواجهة للمدينة، أنزلت ضربات قاصمة بالقوط كلما رغبوا في الخروج إلى معاقلهم، وقتل كثير من المسلمين أيضا في محاولاتهم ثقب سور المدينة.
ولم يستقرّ الأمر لموسى في ماردة إلا بعد جهد شاق بذل فيه الكثير من الوعود لأهلها الذين سلموا بعدها في شوال عام 94هـ (يونيو 713م) .
وبعد أن غادر موسى بن نصير مدينة إشبيلية وبدأ حصار ماردة جمع القوط فلولهم في المدن المجاورة وفاجئوا الحامية الإسلامية في إشبيلية وقتلوا منها ثمانين فردا، وأجبروا الباقين على الخروج من المدينة، وآثر موسى بن نصير الاستمرار في حصار ماردة حتى استولى عليها، ثم بعث بابنه عبد العزيز إلى إشبيلية لطرد القوط منها.
واختار موسى بن نصير بعد ذلك للمدن التي استولى عليها نفرا من خيرة قادته ممن اشتهروا باليقظة والبطولة.
واضطر موسى بن نصير أمام تلك المقاومة العنيفة التي لقيها جيشه إلى أن يريح جنده في مدينة ماردة مدة شهر تقريبا قبل أن يستأنف السير إلى طليطلة لمقابلة طارق، وأدرك موسى بن نصير أن القوط يهدفون إلى الهجوم على المدن التي يستولي عليها؛ من أجل دفع طارق بن زياد إلى مغادرة طليطلة لنجدة موسى بن نصير ثم يستردون مدينة طليطلة في غيبة القوات الإسلامية عنها، ولذا عمد موسى إلى تشتيت خطة القوط بأن يظلّ يقاومهم أطول فترة ممكنة دون أن يطلب إلى طارق مساعدته.
ولكن ما كاد موسى يغادر مدينة ماردة حتى جاءته الأخبار أن لوذريق نفسه - ملك القوط الذي فرّ بعد معركة وادي بكة - بدأ ينظم فلول جيشه ويجمع أتباعه استعدادا للهجوم على المسلمين مرة أخرى، ثم إن لوذريق بعد أن آثر البقاء ساكنا ليضرب ضربته الأخيرة في عنف وشدة، اختار قوات موسى بن نصير لتكون هدفه ليهدم بذلك خطط الفتوح الإسلامية كلها في الأندلس مرة أخرى، واتخذ لوذريق مركز مقاومته في شعاب الهضاب التي تلي وادي آنه إلى الشمال في جبال سيرا دفرانشيا على أبواب قشتالة واستراما دورة في السهل المنبسط الذي يحيط بمدينة سلمنقة.
وأجاد لوذريق إخفاء قواته في تلك الجهة الوعرة حتى إن موسى بن نصير اضطرّ أن يتخلى عن خطته، وأن يطلب من طارق بن زياد الخروج من طليطلة وأن يلقاه في منتصف الطريق بين تلك العاصمة وماردة؛ لينقذ المسلمين إذا ما دهمهم خطر مفاجئ.
وسار طارق نحو مائة وخمسين ميلا، واتخذ مكانه في الجهات المعروفة باسم العرض بين التاجة ونهر التتار، وسار موسى بن نصير مع قواته في طريق روماني قديم يصل ماردة وسلمنقة، وبجوار نهر حمل اسمه فيما بعد، وهو نهر (فاموتا) أي نهر موسى، وذلك بعد أن اتخذ كل الاحتياطات حتى لا يؤخذ على غرة.
ولما وصلت القوات الإسلامية إلى منتصف الطريق السالف الذكر اعتقد لوذريق أن الوقت قد حان ليضرب ضربته الأخيرة، وأن المسلمين لن يجدوا من ينقذهم أو يبادر إلى مساعدتهم، وعند ناحية اسمها السواقي على مقربة من ثمامس شنّ لوذريق هجومه دون أن يدري أن موسى بن نصير قد اتخذ كل الوسائل ليحمي قواته ويجنبها الأخطار، ولذا صمد المسلمون لهجوم القوط وأنزلوا بهم خسائر فادحة، وقتلوا كثيرا منهم من بينهم لوذريق نفسه الذي قتله مروان بن موسى بن نصير، وصار الطريق إلى طليطلة مفتوحا أمام موسى بن نصير فسار حيث التقى بطارق بن زياد وقواته التي كانت قد غادرت تلك المدينة في سبيلها إلى مقابلته في عرض الطريق.
استعادة فتح طليطلة:
ولما كان هجوم لوذريق على قوات موسى بن نصير شعبة من مؤامرة مزدوجة استهدف طرفها الثاني السيطرة على طليطلة وانتزاعها من المسلمين إذا ما خرج طارق منها لنجدة إخوانه؛ فإن جماعات من القوط انتهزت خلوّ العاصمة من الحامية الإسلامية واستولت عليها إكمالا لحلقة المقاومة ضدّ المسلمين، غير أن القوات الإسلامية المشتركة بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد تمكنّت من هزيمة القوط والسيطرة على طليطلة مرة ثانية، وبذلك انتهت مقاومة لوذريق وجنده بمجيء قوات موسى بن نصير على عجل، ولولا ذلك لانهارت أعمال طارق وأصيب جنده بكارثة مروعة.
وفي مدينة طليطلة أخذ موسى بن نصير يحاسب طارقا على اندفاعه الذي كاد ينزل بالمسلمين كارثة محقّقة، ولا سيما بعد أن ثبت عمليا أن القوط كانوا قد أعدّوا حركة مقاومة عنيفة، ورددت بعض المراجع أن موسى شدّ وثاق طارق وحبسه وهمَّ بقتله لولا تدخّل مغيث الرومي مندوب الخلافة في الحملة الإسلامية إلى أسبانيا وإسراعه بإبلاغ الحادث إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي أمر موسى بعدم إنزال الأذى بطارق، غير أن هذه الرواية استندت إلى شائعات مغرضة ردّدها القائد مغيث الرومي الذي كان بينه وبين موسى بن نصير سوء تفاهم؛ فانتهز فرصة ذهابه إلى دمشق ليبلغ الخليفة أنباء انتصارات المسلمين وأساء إلى هذا القائد، غير أن المقطوع به هو أن موسى بن نصير عنّف طارقا أو حدث عتاب بينهما؛ لأن طارقا كان قد تقدّم في الفتح أكثر مما ينبغي ولما تثبت أقدام المسلمين في البلاد بعدُ متحديا بذلك أوامر مولاه، لكن موسى كان من الحكمة بحيث أنه سرعان ما اتفق مع طارق واشترك الرجلان اشتركا كاملا في العمل.
واستقرّ رأي كل من طارق بن زياد وموسى بن نصير على القيام بمسح شامل لسائر الأراضي الأسبانية التي لم تفتح بعد، ونشر الإسلام بين ربوعها، وتطيهرها تطهيرا شاملا من جيوب القوط وفلولهم، وأثبت موسى بن نصير بذلك أنه ما زال يولي طارق بن زياد ثقته المطلقة.
وأتبع موسى هذه الخطوة بعمل إداري رائع لتنظيم أحوال البلاد؛ فأمر - وهو في طليطلة - بضرب عملة ذهبية دفع منها رواتب الجند العاملين تحت إمرته، ويعتبر سكّ هذه العملة الذهبية دلالة على سيطرة موسى بن نصير على الأوضاع في تلك البلاد الأوربية الجديدة، وعلى مهارته الفائقة في بناء إدارة عربية مستقرة الأركان في أسبانيا منذ الأيام الأولى للفتح الإسلامي بها، وكانت هذه العملة الذهبية على غرار العملة التي سكّها موسى بن نصير في بلاد المغرب؛ فكان على وجه هذه العملة اسم (محمد رسول الله) ، وعلى الوجه الآخر نجمة ذات ثمانية أذرع، وإلى جانب ذلك أمر موسى بن نصير بضرب عملة برنزية صغيرة لمساعدة الناس في تسهيل عملياتهم اليومية.
وبعد أن أتمّ موسى بن نصير تنظيماته الإدارية استأنف الجهاد، واتفق مع طارق ابن زياد على الزحف معا نحو الشمال الشرقي لفتح حوض نهر الإبرو وما فيه من مدن، واشترك طارق مع موسى في هذه الحملة لأن المقاومة الشديدة التي سبق أن أظهرها القوط حملت القيادة الإسلامية على جمع جهودها وتنسيق أعمالها بما يجنب المسلمين الأخطار مرة أخرى.
وقصدت القوات الإسلامية بقيادة موسى بن نصير مدينة سرقسطة، واقتربت منها على حين غفلة من أهلها، وأراد أسقف المدينة ومن معه من الرهبان جمع دخائرهم وكتبهم المقدّسة والفرار بها، غير أن موسى بن نصير بعث إليهم رسولا من قبله أزال مخاوفهم وأعطاهم العهود والمواثيق بالأمان، وبذلك استولى المسلمون على المدينة دون قتال، وشيّدوا بها مسجدا صار فيما بعد أحد المراكز الكبرى لنشر الدين الإسلامي وحضارته في أسبانيا، وقام ببناء هذا المسجد أحد التابعين في جيش موسى بن نصير وهو حنش بن عبد الله السبئي الصنعاني.
الزحف شمالا نحو البرانس:
وتابع موسى زحفه بعد ذلك، واستولى على كثير من المدن الهامة في تلك الجهات، وظلّت القوات الإسلامية تتابع زحفها حتى بلغت مشارف جبال البرت (البرانس) ، وشاهد المسلمون سكان تلك الجبال من القبائل البسقاوية (البشكنس) ، واستمعوا إلى لغتهم الغريبة التركيب والأصوات.
وفي الوقت الذي كان فيه موسى بن نصير يبذل كل ما لديه من جهد لتأمين ممتلكات المسلمين شمالي مدينة سرقسطة جاءه مندوب الخلافة وهو مغيث الرومي، ومعه أمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك لكل من موسى بن نصير وطارق بن زياد بالمجيء إلى البلاط ومقابلته شخصيا في دمشق، ورأى موسى بحنكته الحربية ومقدرته السياسية أن هذا الاستدعاء جاء في وقت غير مناسب؛ لأن مطاردة القوط لم تنته بعد، كما أن فتح البلاد يتطلب السيطرة على المعاقل الشمالية الجبلية، أضف إلى ذلك أن موسى أحسّ أن أمرا قد دبّر له في دمشق، ويحتمل أن هذا التدبير هو السرّ في استدعائه إلى عاصمة الخلافة، ولذلك ألَحّ على مغيث الرومي أن يؤجل تنفيد طلب الاستدعاء حتى ينتهي من العمليات الحربية، ومنحه قصرا في قرطبة يقيم فيه ريثما يفرغ المسلمون من مهمّتهم.
وتقدّم موسى بقواته نحو مدينة قشتاله؛ لأنها تعتبر المركز المباشر الذي يمكن أن يهدّد منه القوط مدينة طليطلة وغيرها من البلاد الإسلامية، ثم إن اقترابها من الجهات الجبلية الوعرة يساعد من يتحصن بها على أن يبقى على المقاومة زمنا طويلا، ولذا قسّم موسى بن نصير قواته قسمين عهد بواحد منهما إلى طارق بن زياد وجعل مهمته السير غربا، على حين قاد هو الشطر الثاني واتجه في البلاد شرقا.
وقصد طارق بن زياد إلى جبال كنتبرية، وأخضع جماعات البسقاوية غربي نهر الأبرو، ودخل كثير من سكان تلك الجهات في الإسلام على يد طارق بن زياد، وصاروا يكوّنون نواة كثير من الأسر الأندلسية الإسلامية التي قدّر لها أن تمثّل دورا هاما في تاريخ البلاد فيما بعد.
وفي الوقت نفسه سار موسى بن نصير على الضفّة الشرقية لنهر إبرو في إقليم قشتالة، ورحّب به زعماء البلاد كذلك، ودخلوا في طاعة المسلمين، غير أن نفرا من فلول القوط آثروا الفرار أمام الزحف الإسلامي إلى المناطق الجبلية الساحلية الشمالية، واعتصموا بمكان اسمه الصخرة، فطارد موسى تلك الفلول حتى بلغ خيخوت، وجعل منها حصنا يحمي ما تم على يديه من فتوح في تلك الجهات القاصية، وصارت تلك الجهات أقصى ما وصل إليه المسلمون في منطقة اشتريس، حيث بدأ موسى بن نصير يعد العدة للعودة من تلك البلاد النائية.
وتمّ في ذلك الوقت أيضا إخضاع المنطقة الساحلية بين مالقة وبلنسية، وإخماد الفتن التي حاول القوط القيام بها، وقام بهذه المهمة عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي اشترك مع والده في إكمال الفتوح الإسلامية في أسبانيا، وسار هذا القائد على نهج والده في معاملة أهالي البلاد المفتوحة بالرفق والتسامح والعدل في فرض الضرائب، ومن ذلك ما حدث حين زحف عبد العزيز بن موسى على مالقة ثم غرناطة ثم أريوله، وهي كلها سلمت دون قتال.
ارتياح أهالي الأندلس للحكم الإسلامي:
وقد شعر أهالي الأندلس مع امتداد الفتح الإسلامي طلائع المساواة، وخاصة في الضرائب، وهو أمر لم يألفوه منذ زمن طويل، هذا إلى احترام حرية العقيدة وإزالة الاضطهاد الديني، وردّد كثير من الباحثين في التاريخ الأوربي المظاهر الجديدة التي سادت الشطر العربي من أوربا في بلاد أسبانيا عقب الفتح الإسلامي، وسجلت بهذا الدين الحنيف مظاهر الحياة الجديدة التي نفحها في تلك البلاد، وذكروا أن الفتح العربي كان من بعض الوجوه نعمة لأسبانيا، فقد أحدث فيها ثورة اجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعانيها البلاد منذ قرون، وتحطمت سلطة الأشراف والطبقات الممتازة أو كادت تمحى، ووزّعت الأراضي توزيعا عادلا؛ فكان ذلك حسنة سابغة وعاملا في ازدهار الزراعة إبان الحكم الإسلامي، ثم كان الفتح عاملا في تحسين أحوال الطبقات المستعبدة؛ إذ كان الإسلام أكثر معاضدة لتحرير الرقيق من النصرانية كما فهمها أحبار المملكة القوطية، وكذلك تحسّنت أحوال أرقاء الضياع؛ إذ غدوا من الزرّاع وتمتعوا بشيء من الاستقلال والحرية.
وكان موسى بن نصير حريصا على أن يظلّ المسلمون العاملون تحت رايته - سواء من العرب أو البربر - مثلا أعلى أمام شعب أسبانيا؛ فلم يترفّع أولئك الفاتحون المسلمون على أبناء البلاد، وإنما امتزجوا معهم وصاهروهم وشاركوهم أيضا في مباهج البلاد ومسرّاتها؛ يطلبون العيش في سلام جنبا إلى جنب مع أهلها، وكان شعب أسبانيا من العنصر الأيبيري المسالم المحبّ لحسن العشرة، ومن ثم أنس إلى الفاتحين الجدد سواء من العرب أو البربر، وأقبل عليهم طواعية لا عن ضغط وإرهاب، ووجد فيهم محرّرين من بطش القوط وظلمهم الفاحش، ولم يحاول الفاتحون إدخال أبناء الشعب قسرا في الدين الإسلامي، وإنما حرصوا أوّلا على بيان فضائل هذا الدين حتى يتنبّه الناس ويدخلوا في رحابه إيمانا بأركانه وقواعده.
ثم إن موسى بن نصير عمد إلى تنظيم الأحوال المالية للبلاد حتى يجنبها الاضطرابات ويهيء لها أسباب الاستقرار، وقد طبق على أسبانيا القواعد التي اتبعها المسلمون الفاتحون في شتى الجهات التي استولوا عليها، فالأراضي التي فتحت عنوة قسمت بين الفاتحين بعد أخذ الخمس لبيت المال، أما الجهات التي فتحت صلحا فتركت بيد أصحابها مقابل دفع العشر من نتاجها، ولا شكّ أن هذا التنظيم المالي لم يكن عملا هيّنا بالنسبة لموسى بن نصير، وبخاصة في تلك الجهات من غرب أوربا التي لم تعرف منذ زمن بعيد لونا من ألوان الإدارة العادلة؛ فالمعروف أن القوط كانوا يستبيحون لأنفسهم ثروات البلاد ويعتبرون السكان أقنانا يعملون في الأرض، ولا همَّ لهم إلا إنتاج ما يحتاج إليه سادتهم من القوط، ولذا جاءت تنظيمات موسى بن نصير في أسبانيا وسيلة جيدة لخلق الامتزاج السليم بين الفاتحين وأهل البلاد الأصليين؛ فالأراضي المنبسطة في الجنوب - أي جنوب الوادي الكبير - اعتبرها موسى ابن نصير أرضا مفتوحة عنوة؛ فقد تم الاستيلاء عليها بعد معارك عنيفة ضد لوذريق، وقسم موسى أربعة أخماس هذه الأراضي إلى قطاعات بين الفاتحين، على حين بقي الخمس ملكا للدولة، أما بقية أرض الأندلس فقد اعتبرت أرض صلح وهي الأراضي الواقعة شمال نهر الوادي الكبير من شبه جزيرة ايبريا، فأخذ كل ناحية لأنفسهم عهدا، وهذا العهد يقرر ما عليهم من مال للدولة، وبذلك سار الاستقرار في بلاد أسبانيا سريعا حيث سار موسى بن نصير، وبدأ العرب والبربر ينتشرون في شتى الجهات في طمأنينة وسلام، واستقر العرب دائما في المناطق المنبسطة والمنخفضات، أي في النواحي الدافئة قليلة المطر في الجنوب والشرق والغرب وفي ناحية سرقسطة، أما البربر فاختاروا المناطق الجبلية التي سبق أن ألفوا مثلها في وطنهم ببلاد المغرب، بينما نزل العرب في المناطق الواطئة بجنوب أسبانيا مثل شذونه واستجة، فضَّل البربر منطقة رنده الجبلية
واختاروها سكنا لهم، ونزل بعض البربر في مناطق متفرّقة كذلك أو في بعض الهضاب حسبما راق لهم ذلك، واستطاع كل من العرب والبربر الامتزاج بأهالي البلاد الأصليين وارتبطوا معهم برباط الزواج، وكان للبربر خاصة أثر عظيم جدّا في انتشار الإسلام في الأندلس بسبب قرب مزاجهم وطباعهم من أولئك السكان، هذا إلى أن البربر بسبب حداثة عهدهم بالإسلام كانوا شديدي الحماسة للدين الجديد لأنه صار رمز سيادتهم وعزّهم، وحرص موسى بن نصير على ترك حاميات من جيشه في المدن التي فتحها، وهذا هو الأمر الذي جعل معظم أرجاء أسبانيا تعمر بالفاتحين الجدد وتمهد أسبانيا في سرعة ويسر لاعتناق الدين الإسلامي الحنيف.
واستطاعت الإدارة الإسلامية التي شيّدها موسى بن نصير أن تضع الحجر الأساسي لبناء الحضارة الإسلامية في أسبانيا، وجعلت من تلك البلاد أعظم مركز للإشعاع الحضاري في أوربا في العصور الوسطي، ومن ثم أخذت أسبانيا تخطو سريعا في مضمار الازدهار العلمي وتدخل سجل التاريخ باعتبارها الشريان الذي نقل إلى أوربا ثمار الحضارة الإسلامية ومعارفهم، وهيّأ لسكان غرب أوربا السبيل للخروج من جهالة العصور الوسطي إلى نور الإسلام وضوء الحضارة الإسلامية الساطع.
وقد استغرق الفتح الإسلامي لأسبانيا ثلاث سنوات وبضعة شهور؛ إذ بدأ الفتح الإسلامي لأسبانيا في رجب عام 92هـ وتم في ذي القعدة عام 95هـ.
ويلاحظ أن العرب أطلقوا اسم الأندلس على المناطق التي كانوا يسيطرون عليها من شبه جزيرة أيبريا، ولا زال اسم الأندلس يطلق على الجزء الجنوبي منها.
موسى وطارق يقابلان الوليد في عاصمة الأمويين:
سبق أن ذكرنا أن الخليفة الوليد بن عبد الملك استدعى كلا من موسى بن نصير وطارق بن زياد لمقابلته شخصيا في دمشق، وأن موسى بن نصير أجّل تنفيذ هذا الطلب حتى ينتهي من عملياته الحربية، وبعد أن فرغ موسى بن نصير من إتمام الفتح اختار مدينة أشبيلية حاضرة للبلاد وعيّن ولده عبد العزيز واليا على الأندلس، واستخلف على المغرب الأقصى ابنه عبد الملك، كما استخلف على إفريقية ابنه عبد الله، ثم غادر موسى بن نصير الأندلس وبصحبته طارق بن زياد وكبار الجند في ذي القعدة عام 95هـ (714م) ، ويقال إن يوليان كان معهم.
وكان موكب موسى بن نصير إلى دمشق من الموضوعات التي أفاض في وصفها الرواة والإخباريون العرب، ونقلها المؤرخون مثل ابن عبد الحكم وابن قتيبة وابن القوطية والمراكشي وابن عذارى وابن خلكان والمقري وابن الأثير، ويقال إن موكب موسى ابن نصير اشتمل فيما عدا حاشيته الخاصة على أربعمائة من أفراد الأسرة القوطية المالكة وأسر النبلاء؛ تزين رؤوسهم التيجان وتطوق أوساطهم الأحزمة الذهبية، ومعهم جموع من العبيد والأسرى يحملون نفائس الغنائم.
وعندما اقترب موسى من دمشق وصلته رسالتان كان لهما أكبر الأثر في اختتام حياته فيما بعد، أما الرسالة الأولى فكانت من ولي العهد سليمان بن عبد الملك يطلب فيها من موسى بن نصير أن يبطئ في الحضور إلى دمشق لأن الخليفة الوليد بن عبد الملك مريض مرض الموت وفي أيامه الأخيرة، وبذلك يحظى سليمان عندما يعتلي العرش باستقبال أعظم موكب للنصر عرفه الإسلام، ولكن موسى بن نصير رفض الاستجابة لهذا الطلب وتابع سيره إلى دمشق، وبعد ذلك بقليل تسلم الرسالة الثانية وكانت من عند الخليفة الوليد نفسه يأمره فيها بالإسراع بالحضور إلى دمشق حتى لا تحرمه المنية من شرف مشاهدة موكب النصر القادم على عاصمة الخلافة، وليتوج أيامه الأخيرة بهذا النصر المظفر.
ودخل موسى بن نصير مدينة دمشق في السادس والعشرين من يناير عام 715م جمادى الأولى عام 96هـ، أي قبل وفاة الخليفة الوليد بأربعين يوما، وحرص موسى على أن يشرف بنفسه على طريقة سير الموكب وارتداء المشتركين فيه بثيابهم وبطريقة عرض الكنوز والغنائم، وأمر موسى بالأموال والجواهر واللؤلؤ والياقوت والزبرجد والجزع والوطاء والكساء المنسوج بالذهب والفضة المحرشة باللؤلؤ والياقوت والزبرجد وضمّها إلى موكب النصر مع رجاله بأرديتهم الجميلة الزاهية، ثم أقبل موسى بالذين ألبسهم التيجان حتى دخل مسجد دمشق والوليد على المنبر يحمد الله، وكان الخليفة يعاني في تلك الأيام من وطأة المرض ومع ذلك أبى إلا أن يخرج إلى المسجد متحملا لأجل قدوم موسى بن نصير، ولما رأى الخليفة هذا الموكب استولت عليه الدهشة والعجب الشديد وصاح الحاضرون من الناس: موسى موسى!، وأقبل هذا القائد المظفّر حتى سلّم على الخليفة ووقف ثلاثون رجلا من أصحاب التيجان في موكب النصر عن يمين المنبر وشماله، على حين وقف أمام الخليفة سائر أفراد الموكب ومراكب الغنائم المقامة على عجل، وهزّ هذا المنظر الباهر قلوب الحاضرين ومشاعرهم كما أثار ذكرياتهم عن فتوح المسلمين الكبرى، وقالوا إن الدولة الإسلامية لم تشهد منذ فتح فارس مثل هذا الموكب الرائع، ومثل تلك الغنائم الوافرة، وأخذ الخليفة يلقي خطبته في هذا المشهد الحافل وأكثر فيه الحمد لله والثناء عليه والشكر لما أيده الله ونصره، وأذهل موسى الناس بما أتى به من الخيرات والغنائم والأسرى، وكان موكب النصر هذا موكبا مشهودا؛ إذ لم ير الناس من قبل مثل هذا العدد من أمراء الغرب والأسرى الأوربيين، وقد جاءوا يقدمون الولاء والطاعة لأمير المؤمنين.
وكان من أبرز ما قدّمه موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد من الغنائم التذكارية النفيسة مائدة تفوق قيمتها كل تقدير، كان طارق بن زياد قد غنمها من كاتدرائية طليطلة، وكان القوط قد تفننوا في صنعها فنسبها العرب إلى سليمان بن داود، وإنما أطلق عليها هذا الاسم كناية عن قدمها وعظم شأنها.
واختلفت الروايات كذلك في وصف هذه المائدة وبيان هيئتها وسبب وجودها، فذكرت إحدى الروايات أن الأغنياء والموسرين من القوط دأبوا أن يوصلوا للكنائس بقدر معلوم من ثرواتهم عند الوفاة وكلما تجمع المال الوفير بين المشرفين على تلك الكنائس أمروا بصناعة موائد وكراسي من الذهب والفضة تضع القساوسة عليها الأناجيل في أيام الاحتفالات من أجل المباهاة والتفاخر، ونالت كنيسة طليطلة قدرا كبيرا من مال الوصايا، وخاصة أنها كانت مقرّ البيت المالك، ولذا تأنق الملوك في عمل مائدة لهذه الكنيسة فاقت كل الموائد في سائر أسبانيا؛ إذ حرص كل ملك على أن يزيد في مائدة كنيسة طليطلة إعلاء لذكره وتباهيا بعاصمة ملكه حتى صار لها مركز الصدارة في جميع البلاد وتحدث الجميع بجمالها وعلو قيمتها، فكانت مصنوعة من الذهب الخالص مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزبرجد.
ومهما يكن من أمر تلك الروايات فمما لا شك فيه أنها أجمعت على شيء واحد هو عظمة هذا الكنز الثمين الذي فاقت أخباره ما عداه في كنوز وجدها الفاتحون في سائر مدن الأندلس، ويرجح أن هذه المائدة كانت مذبح الكنيسة الجامعة في طليطلة، وأنها كانت على درجة خيالية من الجمال حتى تليق بعاصمة القوط، ولتكون رمزا على ثراء دولتهم وغناها الوافر.
وكان مما قدّم للخليفة الدر والياقوت أكيالا والسيوف المحلاة بالجواهر والتيجان الذهبية المرصّعة بالحجارة الثمينة وآنية الذهب والفضة، وغير ذلك مما لا يحيط به وصف.
وقد أغدق الخليفة الخلع على موسى ثلاث مرات تشريفا له، كما أغدق المنح لآل بيته، ولما انتهى الخليفة من منح موسى براءات الشرف والتكريم استأذن منه هذا القائد العظيم في تقديم المشتركين معه في موكب النصر فأدخل عليه موسى ملوك البربر وملوك الروم وملوك الأسبان وملوك الفرنجة، ثم أدخل عليه رؤوس البلاد ممن كان معه من قريش والعرب؛ فأحسن الخليفة لهم العطايا والمنح.
وبانتهاء يوم الاستقبال اختتم موسى بن نصير حياته العامة، ذلك أن الوليد ابن عبد الملك توفي بعد ذلك اليوم بأربعين يوما فقط، وخلفه سليمان بن عبد الملك عام 96هـ (715م) ، وأعفى الخليفة الجديد غداة توليه العرش موسى بن نصير - وكان إذ ذاك قد ناهز الثمانين من عمره - من العودة إلى الأندلس، وأراد الخليفة سليمان بن عبد الملك أن يختم حياته بالحجّ إلى بيت الله الحرام واصطحب معه إلى مكة والمدينة موسى بن نصير، وقد توفي موسى بن نصير بالمدينة بعد أداء فريضة الحج ودفن بالبقيع في أوائل عام 97هـ.
أما طارق بن زياد فقد انتهت حياته في غموض، ولا تذكر الرواية الإسلامية أين ومتى توفي، ويقال إن مغيث الرومي وشّى به وخوّف الخليفة منه، وكان الخليفة سليمان ابن عبد الملك يريد أن يوليه الأندلس فعدل عن ذلك.
ولكن إهمال المؤرخين لطارق بن زياد لم يحرمه نصيبه من الخلود، فقد شاءت المقادير أن تحمل اسمه أول بقعة في الأندلس وطئتها قدماه وهي جبل طارق، كما سمي بحر الزقاق باسم مضيق جبل طارق، وانتقلت هذه التسمية إلى اللغات الأوربية جميعها بصيغها محرفة تحريفا بسيطا.
ولم تشر الروايات العربية إلى مصير يوليان الذي مهّد لفتح الأندلس، وتذكر بعض الروايات أنه عاد إلى سبتة وأقطع ما حولها من الأرض، وظل أميرا على سبتة نظير خدماته، ولكنه بقي نصرانيا هو وبنوه الأقربون، أما ذريته فيقال إنها دخلت الإسلام بعد ذلك، أما أبناء غيطشة فقد أقطعوا ما كان لأبيهم، كما عين أخ غيطشة حاكما لمدينة طليطلة.
بعض مصادر البحث:
1_
الكامل في التاريخ لابن الأثير.
2_
الحلل السندسية طبعة 1936م لأرسلان.
3_
المغرب في ذكر إفريقية والمغرب طبعة 1911م للبكري.
4_
فتوح البلدان طبعة 1900م للبلاذري.
5_
قيام دولة المرابطين طبعة 1957م لحسن محمود.
6_
فتح العرب للمغرب طبعة 1947م لحسين مؤنس.
7_
فجر الأندلس طبعة 1959م لحسين مؤنس.
8_
تاريخ المغرب العربي طبعة 1965م لسعد زغلول عبد الحميد.
9_
الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى طبعة 1804م للسلاوي.
10_
المغرب الكبير (العصر الإسلامي) طبعة 1966م للسيد عبد العزيز سالم.
11_
بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس طبعة 1884م للضبي.
12_
فتوح مصر والمغرب طبعة 1920م لابن عبد الحكم.
13_
العقد الفريد لابن عبد ربه.
14_
الأساطيل العربية طبعة 1957م للعدوى.
15_
البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى.
16_
دولة الإسلام في الأندلس طبعة 1943م لمحمد عبد الله عنان.
17_
الآثار الأندلسية طبعة 1956م لمحمد عبد الله عنان.
18_
تاريخ المغرب الكبير لمحمد علي دبوز.
19_
النجوم الزاهرة طبعة 1928م لأبي المحاسن.
20_
نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب طبعة 1855م للمقري.
21_
معجم البلدان لياقوت الحموي.
تعقيب لا تثريب
إبراء للذمة وتذكيرا بالحق
لفضيلة الشيخ: محمد المجذوب كلية الدعوة وأصول الدين
من مسلم ناصح إلى شيخ المقرئين في مصر - ومن ثم في العالم الإسلامي كله - الشيخ محمود خليل الحصري هدانا الله وإياه سواء السبيل.
الحمد لله الذي أكرم المؤمنين فجعلهم نصحة أمناء، وأنقذهم بذلك من صفات الكافرين الغششة السفهاء، وصلى الله وسلم وبارك على صفوته من خلقه محمد وآله وصحبه ومن التزم سبيله، ونهض بدعوته على بصيرة إلى يوم الدين..
أما بعد، فقد سمعتك أمس تتلو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مقربة من مثواه المبارك قوله تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ..} ؛ فأثار ذلك في نفسي ضروبا من التأملات، وكان من غرائب الاتفاق أن تعتري هذه الحالة كثيرين غيري أيضا؛ فإذا أحدهم يقول لآخر وهو يحاوره: كيف سمح هذا الرجل لنفسه أن يقدم على هذه التلاوة هنا في مهبط الوحي، وهو يعلم أن معصيته للوحي ومبلّغ الوحي لم تتلاش بعد من أذهان الناس، ولم يكد يفرغ الكرام الكاتبون من تسجيلها، أبهذا اللسان نفسه الذي افتتح أمس حفل الذكرى لأم كلثوم بآيات الحي القيوم، يرتل في مسجد رسول الله آيات الله!..
وقال آخر: مسكين! ألم يقرأ في كتاب الله غير هذا الويل الموجه إلى الهمزة اللّمزة؟!.. ولم يعلم أن ثمة ويلات كثيرة لكثيرين من العاصين، وبينهم المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون، والقاسية قلوبهم من ذكر الله، والظالمون والأفّاكون الآثمون!!.. ولا سهو عن الصلاة أهول من فقدانها روح التطهير من الفحشاء والمنكر، حتى تصبح عادة يؤديها فاعلها كما يؤدي أي عمل آخر في معزل عن الخشوع والوعي، وأي قسوة أشدّ من أن يقرأ امرؤ كتاب الله، بل يتخذ منه حرفة للارتزاق، ثم لا يتورّع عن اقتراف المنكر الذي يخزي صاحبه في الدنيا والآخرة!.. وهل ثمّة ظلم بعد الشرك أكبر من أن يفتتح مقرئ حفلة غناء بآيات من الكتاب الذي اؤتمن عليه، والذي يقول منزله - تبارك اسمه -:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ؟! ألا يعلم هذا المسكين أن هذا عين الإفك وجماع الإثم، وأدنى دركات التلاعب بكتاب الله!..
يا شيخ محمود.. هذا ما يقوله عنك كل مؤمن يعي آيات الله، ويفقه تعاليمه سبحانه، فهل علمت ذلك؟.. وهل أتيح لك من يبلغكه يا أبا الافراج؟!..
لقد والله أحدثت فتقا في الإسلام يتعذر - إذا لم يستحل – رتقه؛ بجرأتك على الله، واقتحامك تلك العقبة الخطيرة، يوم رضيت لتلك الهاوية المغفلة أن تقوم مقام هاتيك الفينة الصغيرة بنظر كل فاضل، وإن كبرت في منظار كل سفيه غوي من أهل الباطل، لتتغنى وتتمعج، كي تستثير إعجاب الغواة الهواة من أذناب الشيطان، كما فجرت الخمر من قبل مشاعر مدمنيها، فراحوا ينظمون في مدحها ونعتها أفانين الشعر، وهم الذين بهم وبأضرابهم دمّر الله حصون هذه الأمة في بغداد والأندلس؛ إذ استطاعوا أن يجردوها من مقوماتها، ويصرفوها عن رسالتها، فذلّت بعد عزّ، وطمع بقهرها كلّ ذي عجز.
ولو أن أي فارغ من الخلق قدم ابنته لأسماع الغواة وأبصارهم على ذلك النحو ولو في موكب من الآيات والذكر الحكيم لما كان لفعلته سوى أثر ضئيل يذكره الناس ثم لا يلبثون أن ينسوه، أما أن يقدم على ذلك شيخ أزهري يسمى في لغة الدواوين شيخ المقارئ المصرية، فتلك هي البدعة الشنعاء التي سيحمل إثمها وإثم من أخذ بها إلى يوم القيامة.
ولعلك قرأت فيما قرأت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" رواه مسلم، وليس كل من ارتكب سوءا يعتبر صاحب سنة سيئة، أو يقال إنه أحدث فتقا لا يرتق، فالحشاشون كثيرون، والسكارى أكثر، وتاركو الصلاة.. والمنسلخات من آداب الإسلام بالسفور الذي ملأ ديار الإسلام إلا من رحم الله، هؤلاء كثير كثير، ولكنهم مع ذلك لا يؤلفون السنة التي يلحق وزرها صاحبها إلى يوم القيامة؛ لأنهم عديمو الوزن في قسطاس الناس، فلا يؤبه لهم ولا يتأسى بهم.. وإنما المحدثون المحشورون في زمرة الظالمين لأنفسهم وغيرهم هم الذين يحملون صفة العلم، ويظنّ بهم الفقه والفضل.. ومن أحقّ بأن يكون مظنة العلم والورع - في نظر العامة وأشباههم - من حملة كتاب الله، الهادين به في بيوت الله، الشاحنين به أمواج الأثير إلى عباد الله!
…
أجل يا شيخ محمود.. لقد سبقت كل المبتدعين إلى خرق هذا الفتق الرهيب؛ لأن تاريخ الإسلام لم يعرف قطّ واحد قبلك من كبار القراء أو صغارهم قدّم كريمته للغناء في محافل العابثين، وفي موكب من آيات الكتاب المبين!
أنا لا أستبعد أن تكون قد ندمت على ما فرطت في جنب الله، وأسفت على ما أسلفت، فآليت أن لا تعود لمثلها - كما قيل على لسانك - ولكن ندمك وأسفك لن يمحو وزرك الكبير أبدا أبدا، إلا أن تعلن بكل ما وسعك من وسائل الإعلام أنك كنت بما فعلت في ضلال، وأنك تشهد الله وعباده على أنك أقلعت عنه إلى غير رجعة، وستعمل على تكفيره بكل ما أوتيت من قوّة، رجاء أن يتداركك الله بعفوه ومغفرته، وما أدري إذا كنت قادرا على ذلك وجارئا عليه.. وحولك من الشياطين من لا يرى في جنايتك بأسا، بل لا يرى فيها إلا سابقة مشكورة إلى العمل الصالح!..
استمع يا شيخ محمود إلى واحدة من فضائل حملة القرآن: في معركة المرتدين من بني حنيفة أصابت المسلمين جولة بسبب اختلاط الطلقاء - ذوي الإسلام الحديث - بأهل السابقة العليا من المهاجرين والأنصار؛ فكان الرأي استبعاد الطلقاء عن مباشرة القتال، وتركه لتلاميذ النبوة الناضجين الصامدين، وعهد بلواء الإسلام إلى خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، فأراد إخوانه أن يلهبوا رجولته فذكروه قائلين: إن الناس إنما يؤتون من قبل راياتهم؛ فحذار أن نؤتى من قبلك، فدفن ساقيه في الأرض، وهو يقول لإخوانه:"بئس حامل القرآن أنا إن أوتيتم من قبَلي".
ذلك شأن حملة القرآن من سلف هذه الأمة، ثبات في وجه الكفر كثبات الأرض في وجه العواصف، وتصميم على التحقق بكل عزائم القرآن حتى الموت.
فقس بهذا الطراز يا شيخ محمود أولئك الذين لا يفقهون من حملهم للقرآن سوى أنه وسيلة للارتزاق، وسبيل إلى التنافس على الدنيا، والحصول على إعجاب الفارغين العاطلين من تلاميذ الشياطين!.
يا شيخ.. محمود إن الذين يحاربون الإسلام وينخلعون من ربقته كل يوم كثيرون لا يحصرهم إحصاء، على حين إن الذين يلتزمون سبيله ويتفانون في نصرته هم الأقلون المضطهدون.. ولكنهم وحدهم السعداء بمرضاة ربهم؛ لأنهم الثابتون على عهد نبيّهم؛ لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة، فإلى أي الفريقين تنحاز يا شيخ محمود؟ وبأيهما تلوذ؟ فاختر لنفسك! وتذكر أنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه، فلن تنفعك فتوى فلان، ولا تصفيق فلتان، ولا تهريج علان {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} .
إن الزلّة لكبيرة يا شيخ محمود؛ فأدركها بتوبة تغسلها، وأعلن ذلك على الملأ كما اقترفتها على الملأ.. تلك نصيحتي أبعث بها إليك إبراء للذمة، وتذكيرا بالحق؛ فافتح لها صدرك، وتلقها بمثل الروح التي أملتها، ولا تكن كذلك الذي {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْم} ، {إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
هذه الكلمات كُتبت في أعقاب السقطة الفاجعة، وكان من حقّها أن تصل إليك يا شيخ محمود على صفحات إحدى المجلات الإسلامية منذ ذلك اليوم، ولكن قدّر الله أن تحول الحوائل دون نشرها، حتى تحمل إلى قرائها بعض ذيول القصة التي بدأت بحفلة الذكرى، ولا يعلم غير الله متى وأين وكيف ستنتهي.
لقد سمحتم للشيطان أن يستحوذ على تلك المسكينة منذ أغفلتم تحصينها بعواصم الإسلام؛ فلم تجد بأسا في الاستجابة لهواتف الغواية تأخذ بخطمها إلى مهاوي الأخسرين أعمالا من أهل الفن الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وقديما قيل: إن من وضع قدمه في مزلقة الإثم لا يسعه التوقف قبل القاع، وهكذا فتنت بالغناء وغرّها ما قرأته وما سمعت من تمجيد المضللين لأهله، وإكبابهم على مسجلاتهم يستهلكون معها لياليهم، حتى يصرعهم سكر الطرب، فيسلمهم إلى نوم لا يذكرون معه ربا ولا واجبا، ووجدت - وربما وجدتم - في حنجرتها نغما يؤهّلها للحاق بركب النجوم الذين واللواتي استطاعوا أن يفرضوا سلطانهم على قلوب الجماهير العمياء، التي تكاد تتخذهم آلهة من دون الله؛ فيستولون بذلك على ثروات الأمة، ويسلبوا السفهاء وعيهم حتى لا يروا للحياة معنى بغير وجودهم، فيقتلوا أنفسهم حزنا لفراقهم.
أجل.. لقد استهوى ذلك قلبها إذ كان كالحصن الذي لا حامية فيه؛ فلم تلبث أن سقطت في حبالة الشياطين، وكانت الخطوة الأولى في هذا المنحدر تلك الحفلة التي أفتاك بعض المعمَّمين من عشاق الطرب، وباركتها أنت يا شيخ محمود بالتقديم لها في زفة من آيات الله، ثم ما لبثن الخطى أن تلاحقت في المنحدر؛ فإذا هي تتخذ لنفسها اسم ياسمين الخيام بدل إفراج الحصري، وكأنّها بذلك تعلن الحرب على ماضيها الإسلامي نفسه بالانتساب إلى ذلك العربيد (الخيام) الذي أصبح مضرب المثل في عالم الضياع والدعوة إلى الاستهتار، وتبع ذلك ما لا مندوحة عنه من طرح للحجاب، وعمل مع الفرق الراقصة، وظهور في المسارح الماجنة.. استجداء لتصفيق المعجبين ومشاركة لصعاليك الفن في تجميع الملايين.. وقد رضيت أن تدفع ثمن ذلك الهُويّ كلَّ ذخيرتها من طمأنينة الحياة الزوجية، وأن يسلبها شططها هذا كل أثر للسكن والمودة والرحمة؛ فأشقت الزوج، وأيتمت البنين، وتناست موقفها القريب الرهيب بين يدي رب العالمين!! ولا عجب فهي الحصيلة الطبيعية لهذا النوع من الشذوذ عن سبيل المؤمنين، وليست مأساة (البيت الأردني) الذي دمره شطط تلك الهاوية الأخرى ببعيدة عن عيني إفراج وأبي إفراج، لو كانوا من المستبصرين المعتبرين..
وأخيرا.. لا أدري والله بأي كلمة يجب أن أختم خطابي هذا إليك، أبالدعاء لك بأن يتوب الله عليك؛ فيوفقك إلى التكفير عما أسلفت في هذه المأساة من آثار يتعذر رصد عواقبها على الأجهزة الحاسبة والحاسبين! أم أدعو عليك بعقاب يكافئ ما قدّمت لدينك من مساءة سررت بها الفاسقين، وكسرت قلوب المؤمنين؟!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
الفكر والفلسفات المعاصرة
الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته
للدكتور عبد المنعم محمد حسنين - كلية الدعوة وأصول الدين
مقدمة
الاستشراق حركة ظهرت في العصر الحديث، وتبدو هذه الحركة علمية في ظاهرها؛ فهي تحاول دراسة التراث الشرقي، ولكنها في الحقيقة تبغي من وراء هذه الدراسة التعرّف على منابع تراثنا الشرقي، ثم تحاول صرف أهله عنه، وليجرفهم تيار الحضارة الغربية الضالّة المضلّلة.
والمستشرقون جماعة من علماء الغرب - من مسيحيين ويهود وملحدين - درسوا اللغات الشرقية من عربية وفارسية وعبرية وسريانية وغيرها، وتوفر كثير منهم على دراسة اللغة العربية والإطلاع الواسع على علومها ومعارفها؛ لاتخاذ هذه الدراسة وسيلة للقاء كثير من المفتريات والأباطيل في محيط الإسلام للتهوين من شأن الدعوة الإسلامية والتقليل من أثرها في الحياة، وفي الارتفاع بالمستوى الإنساني، وبدورها في إنقاذ الإنسانية وتحريرها من العبودية، وإخراجها من الظلمات إلى النور.
كما أن هذه المفتريات والأباطيل تحاول التقليل من شأن الثقافة الإسلامية، ودورها في نشر العلوم والمعارف، وفي نقل أوربا من العصور الوسطى - عصور الجهل والظلام - إلى مشارف العصر الحديث، وما ظهر فيه من علوم ومعارف يفخر بها العالم الغربي.
ويواصل الاستشراق بذل جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته؛ لأن المستشرقين لم يستطيعوا التخلّص من نزعاتهم الموروثة وأهوائهم المعادية للإسلام، بحيث لم يعد خافيا ما يبذله المستشرقون من جهود في محاربة الإسلام بالتشكيك في مصادره وتلفيق الأباطيل والإلقاء بها في ساحة الشريعة الغرّاء، ومحاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضلّلة، ومحاربة اللغة العربية التي نزل بها القرآن، ومساندة الدعوات المضلّلة التي قامت تحت راية الإسلام، واستغلال وسائل الإعلام في إفساد المسلمين بإبعادهم عن دينهم، والحرص على تضليل أبناء المسلمين الذين يتتلمذون عليهم.
فينبغي أن نبين خطر الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويجب أن نكشف الأسلحة التي يستعملها في حربه السافرة والخفية، والوسائل التي نتقي بها شره، ونردّ بها كيد أعداء الإسلام في نحورهم.
وهذا ما سأحاوله في هذا البحث وبالله التوفيق.
أولا: نشأة الاستشراق
يخطئ من يقول إن الاستشراق حركة علمية، لا هدف لها إلا دراسة التراث الشرقي في معتقداته وآدابه؛ لأن الاستشراق في الحقيقة والواقع خادم للاستعمار وأهدافه، وهو يتخذ من دراسة التراث الشرقي وسيلة لمحاربة الإسلام، والتشكيك في مصادره ليصرف المسلمين عن دينهم، فلا تتحقق لهم قوة ولا عزة، بل يظلون تابعين للغرب، مقلّدين كل ما في بلاده من ألوان الفساد والانحلال.
إن الاستشراق في الحقيقة امتداد للحروب الصليبية ضدّ الإسلام وحقائقه الناصعة؛ لأن الحروب الصليبية لم تنته، وإنما اتخذت أشكالا وألوانا مختلفة، منها الاستشراق؛ فالمستشرق يجيء إلى الإسلام لابسا العلم الظاهر، ومدّعيا البحث عن الحقيقة، ولكنه في الباطن قد عقد النية على جمع المطاعن الملفقة عن الإسلام؛ فلا يلبث أن يرمي الإسلام بكل ما يحمل صدره من غل، وينفث قلمه من سم؛ فهو يتنكر لمنهج العلم الصحيح الذي من شأنه أن يعرض الحقائق، وأن يترك للناس الحكم عليها، دون أن يمزجها بمرارة حقده، ونفثات عداوته، ودون أن يحاول تشويه هذه الحقائق بصورة من الصور.
والمتتبع لحركة الاستشراق يجد أنه مواكب لحركة الاستعمار الغربي لبلاد الشرق والإسلام، مما يدل على أنه امتداد للحروب الصليبية، وشكل من إشكالها، وقد نشطت حركة الاستشراق وبلغت أشدها منذ قرنين من الزمان في صورة حركة تابعة لحركة الاستعمار.
والاستشراق مصدر الفعل (استشرق) أي: اتجه إلى الشرق ولبس زى أهله، وقد اتخذ المستشرقون من دراسة لغات الشرق وسيلة للاتجاه إليه، فدرس كل منهم لغة أو أكثر من لغات الشرق كالعربية والفارسية والعبرية والسريانية وغيرها، ثم درس بهذه اللغة علوم تلك اللغة وفنونها وآدابها ومعتقدات أهلها، وكانت اللغة العربية المطلب المقصود عند الكثير من المستشرقين.
قد أقبل المستشرقون على دراسة اللغة العربية والتخصص في علومها من نحو وصرف وأدب وبلاغة؛ ليتمكنوا من اللغة، ثم نظروا بعد ذلك في علوم الدين الإسلامي من عقيدة وشريعة؛ لاتخاذ هذه الدراسة وسيلة لتلفيق الأباطيل للتشكيك في حقائق الإسلام، وصرْف المسلمين عن دينهم الذي يهديهم إلى طريق التقدم والعزة؛ فتتحقق بذلك أهداف الاستعمار في مواصلة احتلال بلاد المسلمين.
وأوضح دليل على صلة الاستشراق بالاستعمار أن سوق الاستشراق رائجة في أوربا وأمريكا في الدول التي لها مصالح في الدول الشرقية بعامة وفي الدول الإسلامية بخاصة، وأن هذه السوق أكثر رواجا في الدول الاستعمارية التي تحاول غزو الدول الشرقية بأية صورة من صور الغزو والمعروفة في العصر الحديث؛ سواء أكان الغزو عسكريا أم اقتصاديا أم سياسيا أم ثقافيا، بل لا تكاد توجد سفارة من سفارات هذه الدول الاستعمارية في دولة من دول الشرق الإسلامية لا يوجد فيها مستشرق أيّا كانت رتبته بين رجال السفارة والعاملين بها.
إن ارتباط الاستشراق بالاستعمار وتبعته له جعلت الاستشراق يواصل جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويستعمل كل الأسلحة في حربه؛ لأن هذا الدين الحنيف هو السدّ المنيع الذي يقف في وجه الاستعمار والعبودية لغير الله.
إن المستشرقين يعلمون من دراستهم للإسلام أن العقيدة التي جاء بها ترتكز على أسس ثابتة من الفطرة الإنسانية العامة والمنطق العقلي المستقيم، والنصوص الدينية الصريحة، بحيث لا يمكن لعقول المفكرين والفلاسفة أن ينقضوا أصلا واحدا من أصولها إذا التزموا منهج العلم الصحيح، ولذلك يحاول الاستشراق منذ نشأته التشويش على دعوة الإسلام بتلفيق الأباطيل، واتخاذ البحث العلمي ستارا يلفقون من ورائه هذه الأباطيل.
وقد صار الاستشراق مظلة لكل أعداء الإسلام من المستعمرين والملحدين وغيرهم؛ فأصبح يستظل بها أصحاب العقائد الفاسدة الباطلة من الشيوعيين وأنصار المذاهب الإلحادية الانحلالية في العصر الحديث، فقد جمع هؤلاء بغضهم للإسلام؛ لأن أساسه التوحيد، وهو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها، ترتكز كلها عليه وتستند في وجودها إليه، وتبتدئ منه وتنتهي إليه؛ فكل رسول افتتح دعوته لقومه بقوله:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
والدين فطرة غرزها الله في البشر، وقد كانوا أوّل الأمر متفقين على التوحيد قبل أن تزيّن لهم الشياطين عبادة الطواغيت واتخاذ الأصنام.
والعقيدة الإسلامية عقيدة واضحة بعيدة عن إغراق الوهم، وجموح الخيال، وتحكم الأهواء، وهذا ما يسعى إليه العقل في تفكيره الدائب للوصول إلى الحقيقة التي ينشدها.
من هنا كان الاستشراق هو المطية التي يركبها أعداء الإسلام لعلهم يستطيعون بهذه الوسيلة التشويش على دعوته التي تتفق مع الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
وقد بذل الاستشراق منذ نشأته جهودا عديدة متواصلة في محاربة الإسلام، واصطنع وسائل متنوعة في حربه، واستفاد من تقصير المسلمين - أحيانا - في الدفاع عن دينهم، وانخداع بعضهم - أحيانا أخرى - بكلام بعض المستشرقين الذين يضعون السمّ في العسل.
وسأعرض فيما يلي جهود الاستشراق المختلفة في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، وأبيّن أهدافه من وراء هذه العداوة الشديدة، والله غالب على أمره ولو كره الكافرون.
ثانيا: جهود الاستشراق في محاربة الإسلام بسلاح العلم
ينبغي على المهتمين بتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة أن يكونوا على دراية تامة بالجهود التي يبذلها المستشرقون في محاربة الإسلام؛ لأنهم - في الحقيقة - ألدّ أعداء الإسلام.
والمستشرقون يتخذون العلم وسيلة للتشويش على الدعوة الإسلامية ويتسترون وراء البحث العلمي، وهم يلفّقون الأباطيل، ويلقون بها في ساحة الشريعة الإسلامية، ويحاولون تضليل شباب المسلمين الذين يتتلمذون عليهم، وإقناعهم بآرائهم الفاسدة الخبيثة؛ ليشركوهم معهم في الإساءة إلى الإسلام دون وعي.
إن ما يكتبه المستشرقون عن رسالة الإسلام ورسول الإسلام يفضح الحقد الدفين الكامن في قلوبهم، ويكفي أن نذكر - على سبيل المثال - ما كتبه واحد منهم هو (جولد تسيهر) ؛ لينكشف دورهم في الطعن على الإسلام، والتشويش على دعوته متخذين العلم وسيلة لما يهدفون إليه، يقول المستشرق المذكور:"فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها، التي تأثر بها تأثرا عميقا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني قومه"[1] .
وهذا قول آثم، ردّد به هذا المستشرق الحاقد زعما زعمه المشركون منذ أربعة عشر قرنا، وردّ الله تعالى عليه في حينه؛ فما إن قال المشركون هذا القول حتى فضحهم الله به، يقول الله تعالى على لسان المشركين:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} ، ويردّ جل جلاله عليهم بقوله:{فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} ، ثم يقول سبحانه على لسانهم:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأََوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، ثم يردّ جل وعلا عليهم بقوله:{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} .
ثم تحداهم سبحانه وتعالى بأن يأتوا بسورة من مثله؛ فعجزوا ولم يرفع أحد رأسه، يقول جل جلاله:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} .
إن جولد تسيهر وأمثاله من المستشرقين أعداء الإسلام يردّدون ما كان يردّده مشركو قريش من قبل في موقف العناد والكبر، غير أن مشركي قريش عدلوا عن عنادهم ودخلوا في دين الله وجاهدوا في سبيل الله، وكان منهم سيوف الله على رقاب أعداء الله، أما المستشرقون فمصرّون على محاربة الإسلام والتشويش على دعوته بالتشكيك في القرآن الكريم والإيهام بأنه من عمل محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول كان يتجاوز بعض الوحي القرآني، وينسخ بأمر الله ما سبق أن أوحاه إليه [2] .
والحقد واضح في مقولة هذا المستشرق، بل لقد ذهب الحقد بعقله؛ إذ كيف يستسيغ عقل سليم أن يصف محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه رسول ثم يقول إن هذا الرسول بدّل رسالة ربه بأمر من ربه لظروف اضطرته إلى ذلك! هل يعقل هذا؟!.. فأي رسول يحمل رسالة الله ثم يكذب على الله ثم يظلّ رسولا بعد ذلك؟! أليس ما يقوله ذلك المستشرق اللعين هو الحقد الذي يذهب العقول ويقلب حقائق الأشياء؟!
ألم يقرأ هذا الحاقد قول الله تعالى - ردّا على مفتريات المشركين بأن محمدا يفتري على الله الكذب -: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [3] ؟!
إن عداوة المستشرقين للإسلام قد بدت من أفواههم، ومن كتاباتهم المسمومة، وما تخفي صدورهم أكبر؛ فينبغي أن نقف منهم موقف الحذر دائما، وأن نكشف زيفهم وبخاصة الذين يصطنعون الحكمة والتعقّل، ويتظاهرون بالإعجاب برسالة الإسلام ليدخلوا على العقول دخول اللص في غيبة الحارس!! ويدسّوا السمّ في العسل؛ فلتكن عقولنا حاضرة ونحن نسمع أو نقرأ لهؤلاء المستشرقين ما يكتبون عن الإسلام ولو كان حقا وصدقا؛ فقد تندس كلمة هنا وكلمة هناك فتقع موقعا قاتلا لمن لا ينتبه إليها، ولا يأخذ حذره منها؛ فما أكثر الذين خدعوا من المثقفين من المسلمين بهؤلاء المستشرقين، وأخذوا مقولاتهم على أنها أحكام قاطعة لا تقبل نقاشا؛ فاشتركوا مع المستشرقين في محاربة الإسلام والتشويش على دعوتهم، وضلّ سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، والعياذ بالله!.
إن المستشرقين بعامة قد حاولوا دراسة الإسلام بنية منعقدة على جمع المطاعن الملفقة عن الإسلام، وهم يتزيّون بزي العلم والبحث عن الحقيقة، غير أن العصبية تغلبهم عن أن يقولوا كلمة الحق، وأن ينطقوا بما في أيديهم من شواهد؛ فيكابرون ويلجون في الضلال، ويرمون الإسلام بكل ما تحمل صدورهم من غل، وحتى من يقول منهم في الإسلام كلمة حق - ليبعد عن نفسه تهمة التعصب، ويلصق بنفسه صفات العالم النزيه الذي لا يدلس ولا يدجل - لا يمكن أن تسلم كتابته من بعض التعليقات المضلّلة؛ فيجب أن نحتاط ونكون على حذر ونحن نقرأ كتابات المستشرقين أو نقتبس منها؛ لأنهم لم يستطيعوا التخلّص من أهوائهم ونزعاتهم الموروثة منذ أيام الصلبيين؛ فصرفوا جهودهم في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته دعوة الحق التي يزهق أمامها كل باطل.
إن الإسلام يواجه عداوات متربّصة من كل جانب، وإن المسلمين في مواجهة حرب من أعدائهم المستشرقين؛ ورثة الصلبيين، وهذا ما يقتضيهم أن يكونوا على وعي ويقظة، وأن يتسلح الدعاة منهم بأسلحة الثقافة الواسعة الشاملة، وأن يتعرفوا على ما عند أعدائهم من أسلحة يحاربونهم بها، حتى يلقوهم بأسلحة من دينهم ومن تراثهم؛ ليردوا كيدهم ويبطلوا تدبيرهم، وما يريدونه من سوء بالمسلمين وبدينهم، والله من ورائهم محيط.
وسأعرض في هذا البحث بعض وسائل الاستشراق في محاربة الإسلام بتضليل المسلمين وصرفهم عن دينهم، ولكن الله ردّ كيدهم في نحورهم وحرس دينه الذي ارتضاه لعباده.
ثالثا: وسائل الاستشراق في التشويش على دعوة الإسلام
للاستشراق وسائل عديدة في التشويش على دعوة الإسلام ينبغي أن يتنبّه إليها المسلمون، حتى يتقوا شرّ أعدائهم ويحبطوا خططهم، وسأعرض في هذا البحث أهمّ هذه الوسائل وأكثرها خطورة؛ والله ولي الذين آمنوا!.
1_
التبشير الصليبي:
إن الشيء الذي يجب أن لا يشك فيه المسلمون هو أن الحروب الصليبية لم تنته، فمنذ خرجت أوربا من ظلام القرون الوسطى تطلّعت إلى الشرق الذي كان الضعف قد دبّ فيه، الأمر الذي جعله فريسة للدول الأوربية؛ فاستعمرت أكثر دوله، وكانت أوطان المسلمين أول ما أحكمت عليه قبضتها.
وكان الاستعمار الغربي يهدف من وراء السيطرة على أوطان المسلمين إلى استغلال هذه الأوطان أرضا وبشرا، ثم إلى محاربة العقيدة وإجلائها من قلوب المسلمين، ومحاولة ما عجزت عنه الحروب الصليبية من قبل، وذلك لما يعلمه المستعمرون - بواسطة أعوانهم المستشرقين - من خطر الإسلام على خططهم التي يرسمونها على أساس قتل المعاني الإنسانية في الأوطان المستعمرة حتى تموت مشاعر الناس هناك؛ فلا يحاول أحد أن يثور في وجه المستعمرين له المستغلين لأرضه وجهده، الأمر الذي لا يصبر عليه المسلم الذي يستظلّ براية التوحيد؛ فلا يخفض رأسه إلا لله ولا يحني قامته لغير الله، وهذا من شأنه أن يبعث في نفسه العزة والكرامة وإباء الضيم؛ ولهذا عمل المستعمرون - بواسطة المستشرقين - على محاربة الإسلام حرباً خفية بعد أن حاربوا المسلمين بالحديد والنار.
وظهرت هذه الحرب في صورة تجنيد جيوش من المبشّرين بقيادة المستشرقين، ودفع هؤلاء المبشرين إلى بلاد المسلمين، وحمايتهم بجيوش المستعمرين، والتمكين لهم من التغلغل في المدن والقرى، وإمدادهم بالمال؛ لقيموا المستشفيات والملاجئ والمدارس ليتخذوا منها شباكا لتضليل الناس، مختفين في زي المبعوثين إليهم لإنقاذهم من المرض والفقر والجهل باسم المسيح.
وكان مما حاوله المبشرون - بتوجيه من المستشرقين - محاربة اللغة العربية وإجلاؤها من الألسنة؛ حتى تنقطع الصلة بين المسلمين وبين كتاب الله الذي هو دستور دينهم ولسان شريعتهم، وكان من تدبيرهم لتحقيق هذه الغاية أن أشاروا على المستعمرين بأن يقربوا إليهم كل من يحسن لغتهم، وأن يمكنوا لهم من تولى المناصب العالية، الأمر الذي دعا كثيرا من المسلمين إلى تعلّم لغة المستعمر وحذقها، في الوقت الذي انصرف هؤلاء المتعلمون عن لغتهم العربية، معتقدين أن هذا لا ينتقص شيئا من دينهم، ولا يمسّ شيئا من عقيدتهم، وبهذا أصبحت دول كثيرة من الدول الإسلامية التي كان لسانها عربيا لا تكاد تنطلق بتلك اللغة، ولا تعرف من كلماتها إلا ما تؤدي به الصلاة في ركاكة عجمية، كما كان ذلك مشاهدا في البلاد الإسلامية الواقعة في شمالي أفريقية، وهذه البلاد تحاول جاهدة الآن - بعد أن جلا الاستعمار عنها - أن تسترد لسانها العربي بعد تلك الغربة الطويلة التي انقطعت فيها الأسباب بينها وبينه.
وقد استغلّ المبشرون وضعهم في البلاد الإسلامية المستعمرة في التشويش على دعوة الإسلام، مستفيدين من غياب اللسان العربي، الأمر الذي أدّى إلى إضعاف الغيرة الدينية عند كثير من المسلمين، وتراخي أيديهم عن التمسك بشعائر الدين، والتأدّب بآداب الإسلام والتخلق بأخلاقه.
وقد جهل المستعمرون وأعوانهم من المستشرقين والمبشرين أن السرّ في فشلهم في حمل المسلمين على التخلي عن دينهم هو أنهم يعملون في اتجاه مضاد لطبيعة الأشياء؛ لأن الإسلام دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ فلا يمكن للفطرة أن تنفصل عنه، مهما بذل أعداء الإسلام من الجهد والمال.
وهذا هو السرّ الذي دخل به الإسلام إلى أوطان كثيرة؛ فغزا القلوب ونفذ إلى العقول، بدون جيوش زاحفة وحملات تبشيرية غازية، وإنما كان الإسلام بذاته هو الذي يفتح أوطانا بأسرها، على يد بعض التجار الذين لم يكن من قصدهم الدعوة إلى الدين، وإنما كانت هذه الدعوة تأتي عرضا في حديث جار، فإذا هي تسري بين الناس سريان العافية في الأجسام العليلة، وإذا الناس على دين الله وعلى فطرة الله.
هكذا دخل الإسلام كثيرا من بلاد إفريقية ومن بلاد آسيا، ودخل بلادا عديدة في أوربا، ودخله كثيرون في أمريكا، ولم يدخل أحد الإسلام في البلاد بحملات حربية أو تبشيرية، وإنما دخله طبيعيا بدعوة من الفطرة؛ لهذا فشلت حملات التبشير في بلاد الإسلام، وتكسّرت نصالهم على صخرة هذا الدين.
لقد كانت أهداف التبشير الصليبي - بعد الحروب الصليبية - التشويش على الدعوة الإسلامية؛ لكسب مواقع جديدة من أرض المسلمين، فلما عجز المبشرون عن بلوغ أهدافهم حاول قادتهم من المستشرقين أن يشوشوا على دعوة الإسلام بإلقاء الأباطيل والمفتريات في ساحة شريعته الغراء، خصوصا بعد أن انتشر الإلحاد في أوربا وأمريكا، بعد أن كشف العلم الحديث للمسحيين ما في دينهم من أمور لا يقبلها العقل، كالتثليث الذي يجعل الإله الواحد ثلاثة: أب وابن وروح قدس.
فخشي المبشرون الصليبيون أن يطلّ الإسلام بوجهه المُشرق على أوربا وأمريكا؛ فيجد قلوبا مهيأة له وعقولا متجاوبة معه؛ فشجع رجال الكنيسة حركة الاستشراق، وحمى المستعمرون هذه الحركة؛ فكثر عدد المستشرقين الذين يتصلون اتصالا مباشرا بالكنيسة ليشوشوا على الدعوة الإسلامية لإضعاف سلطان الدين على نفوس المسلمين، فيقلّ عزمهم في محاربة الاستعمار وطرده من بلادهم؛ فتحقق بذلك أهداف الاستشراق في خدمة الصليبيين والمستعمرين، لكن الله بالغ أمره {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [4] .
2_
محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة:
ومن الوسائل التي يستعملها الاستشراق في التشويش على دعوة الإسلام محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة، وتصدير هذه التيارات إلى أقطار المسلمين؛ لتضليل الشباب وصرفهم عن دينهم، والتشويش على دعوة الإسلام التي تتفق مع فطرة الله التي فطرهم عليها، وأهم هذه التيارات الفكرية المضللة ما يلي:
أ - المادية:
يتّسم العصر الحديث بتحكم المادية في تفكير الناس وفي سلوكهم، والمادية تنكر المشاعر الإنسانية التي يعمل الدين على غرسها وتنميتها في النفوس؛ من الرحمة والمودة والعطف والإيثار، وكل ما يشيع في كيان الإنسان من عواطف إنسانية نحو أهله وقرابته ومجتمعه والإنسانية كلها.
وأخطر ما في المادية أنها تتملّق شهوات الناس، وتأتي إليهم من الجانب الضعيف فيهم، حيث تميل النفوس دائما إلى العاجل من كل محبوب ومرغوب عندها، وقد بيّن الله جل وعلا طبيعة النفس البشرية في كتابه الكريم فقال تعالى:{كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [5] وقال جلّ شأنه: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [6] .
وقد حاول أعداء الإسلام أن يستغلوا هذا الميل إلى المادية في تضليل شباب المسلمين عن حقيقة دينهم، واستفاد الاستشراق في التشويش على الدعوة الإسلامية من أقوال الصوفية الذين ينتسبون إلى الإسلام؛ فالصوفية يروّجون أن الزهد في متاع الدنيا دليل الاتباع الصحيح للدين، وهذا زعم باطل، ولكن المستشرقين استفادوا منه في إغراق شباب المسلمين بتيار المادية ليشوشوا على الدعوة الإسلامية ويشككوا في مقررات الإسلام.
إن المادية تنكر على الدين الدعوة إلى الإيمان بما وراء الحسّ؛ من الإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر والحساب والجنة والنار، وكل ما لا يقع في مجال المدركات الحسية التي هي عمدة العقل المادي في الحكم على الأشياء وقبولها أو رفضها، أي أن المادية تغرق الناس في الشهوات ليتخذوا من حبّها دينا وينصرفوا عن دين الحق.
فينبغي على الدعاة الذين يتصدَّون لردّ هذه الدعوة المضلّلة أن يبينوا للشباب - بخاصة - أن الإسلام حينما يدعو الناس إلى الإيمان بالحياة الآخرة لا يحرمهم شيئا من طيبات الحياة الدنيا، بل إنه يطلق كل قوى الخير فيهم؛ ليعملوا جادين في كل ميدان من ميادين الحياة وليقطفوا كل طيب من ثمرات عملهم وجهدهم.
إن الإسلام لم يحرم على الناس شيئا من طيبات الحياة الدنيا؛ فالله جلّ وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [7]، كما يقول سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [8]، ويقول عز وجل:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [9]، ويقول تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [10] .
إن الله دعا الناس إلى العمل الطيب، ووعدهم بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة؛ ولذلك أطلق الإسلام كل قوة من قوى الإنسان الخيرة، ولم يقف حائلا دون أية رغبة من رغبات الإنسان الشريفة؛ فإذا رسم الإسلام للإنسان حدودا لا يتعداها، وإذا وضع على طريق مسيرته في الحياة معالم لا يخرج عنها فما ذلك إلا لضمان سلامة الإنسان في تلك المسيرة، ووقايته من شهوات نفسه التي تقوده إلى الهلاك، أو تلبسه الشقاء الدائم في حياته قبل آخرته، فمن رحمة الله تعالى بعباده أن أخذهم بأدب هذه الشريعة الغرّاء، وأنْ حرم عليهم الخبائث التي تفسد عقولهم وقلوبهم، وتغتال معالم الإنسانية فيهم، وتنزلهم إلى عالم الحيوان الذي تريد المادية إنزالهم إليه.
ب - الوجودية:
تقوم الوجودية على دعوة خادعة، وهي أن يجرد الإنسان نفسه بالتحلل من كل ما يربطه بالمجتمع من نظم وقواعد وعادات وتقاليد، وأن يطلق نفسه على هواها تهيم في كل واد، وترعى كل ما يصادفها على طريقها من غير وعي أو تفكير أو تقدير لما يأخذ أو يدع من أمور، ومن غير تقيّد بشيء ما؛ فلا دين ولا بيت ولا زوجة ولا وطن.
إن الوجودية - في الواقع - آخر تيار فكري أوجدته المادية الحديثة؛ فهي دعوة إلى عزل الإنسان عن عالمه الروحي، وجعله جسدا حيوانيا، ولا يجد في كيانه شيئا من العواطف والمشاعر الإنسانية، يقول بول سارتر زعيم الوجودية المعاصرة:"إن ما ينبغي أن تكون عليه حياة الوجودي هو توديع ما يسميه الجبناء وجدانا وضميرا، والاستجابة إلى داعي الحيوانية وتلبية كل ما تدعو إليه شهواته، ونبذ كل التقاليد والتعاليم الاجتماعية، وتحطيم القيود التي ابتدعتها الأديان"[11] .
إن الوجودية تفسد طبيعة الإنسان وتدمّر عقله وقلبه وروحه، وتحوله إلى حيوان بلا عقل ولا قلب ولا روح؛ فهي دعوة خبيثة انتشرت في ربوع أوربا وأمريكا نتيجة لموجة الانحلال عن المسيحية التي انتابت هذه البلاد، وقد حرّكت أصابع الصهيونية تلك الدعوة، وأخذ اليهود يروّجونها لإشاعة الانحلال والفوضى في المجتمعات الأوربية والأمريكية، ثم حاولوا تصديرها إلى بلاد المسلمين بواسطة شباب المسلمين الذين يذهبون إلى بلاد الغرب طلبا للعلم، وهم يوهمون شبابنا بأنها دعوة إلى التحرّر، ويلعب المستشرقون دورا كبيرا في تضليل شباب المسلمين بهذه الدعوة؛ ليتحرروا من الدين ومن العقل ومن الإنسانية، وليصيروا كالأنعام؛ فلا يخشى خطرهم على الاستعمار في أي شكل من أشكاله؛ فتتحقق بذلك أهداف الاستعمار والاستشراق في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته.
فيجب أن نحذر شباب المسلمين من هذه الدعوة الخطيرة، ونزوّدهم دائما بزاد كاف من العلم بأمور دينهم؛ ليعصمهم هذا الزاد من الزلل والتأثر بما يروجه أعداء الإسلام من دعوات ضالة مضللة، يتخذونها وسيلة لمحاربة الإسلام ودعوته التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتجعل الإنسان أفضل المخلوقات.
ج - العلمانية:
ومن الوسائل التي يشوّش بها الاستشراق على الدعوة الإسلامية إفهام بعض أدعياء العلم من الذين ينتسبون إلى الإسلام بأنه يجب الفصل بين العلم والدين، وهو ما يسمونه (العلمانية) ، وهي دعوة من الدعوات الخادعة المضللة لأنها مشتقة من العلم.
والحقيقة أن العلمانية التي يدعو إليها المستشرقون - ويعنون بها العلم المنعزل عن الدين - حركة ظهرت في أوربا نتيجة للصراع العنيف الذي نشب بين رجال العلم والكنيسة التي كانت بسلطانها القوي في القرون الوسطى متحكّمة في العقل الأوربي؛ فلا يقبل فكر أو رأي لا يكون مصدره الكنيسة ورجال الدين فيها، وكان من السلطان الديني للكنيسة أنها تملك حقّ الغفران للعصاة ومرتكبي الكبائر من المسيحيين، كما أن لها في أتباعها حقّ الحرمان والطرد من ملكوت الله ومن ساحة رحمته.
وقد انتهى هذا الصراع بين العلم والكنيسة بانفصال كل منهما عن الآخر؛ فالعلم له رجاله، ولهم في مجال العلم أن يقولوا ما يشاءون دون أن يكون للكنيسة حق مؤاخذتهم، وللكنيسة رجالها الذين يقولون ما يشاءون في أمور الدين دون أن يكون للعلم وعلمائه موقف معهم.
وإذا قام هذا الصراع بين العلم والدين في المسيحية - لأن الكنيسة صادرت كل كلمة يقولها العلم، وعزلت الدين عن الدنيا، فأخذ العلم وجهة غير وجهة الدين - فإنه لا مجال أبدا لأن يقوم مثل هذا الصراع بين العلم والدين في رحاب الإسلام؛ لأن الإسلام يؤاخي بين العلم والدين، ويجعل الدين علما، والعلم رائدا هاديا إلى الدين، وكلمة العلم وما يشتق منها من أكثر الكلمات دورانا في القرآن الكريم؛ فقد ورد ذكر العلم ومشتقاته أكثر من ثمانمائة وعشرين مرّة في الكتاب الكريم.
فالعلم هو رسالة الإسلام، وبالعلم يَعرف الإنسان ربه وخالقه، وما يجب عليه من ولاء لله واستقامة على أوامره واجتناب لنواهيه، حيث لا يكون عمل إلا عن علم، ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى طلب العلم، وإلى الاجتهاد الدائب في طلبه، يقول الله جل جلاله:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [12]، ويقول سبحانه وتعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [13]، ويقول عز وجل لنبيّه الكريم:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [14] .
فالدعوة إلى العلم دعوة كريمة مستحبة من كل ذي عقل؛ لأن العلم سبيل الإنسان إلى الكمال العقلي والسمو الروحي، حيث يميز به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والخير من الشر، والنافع من الضار.
أما العلمانية التي يروّج لها المستشرقون فتدعو إلى العلم الذي ينعزل عن الدين؛ فلا مجال لها في الإسلام، ولا ينبغي أن تظهر في المجتمع الإسلامي؛ لأن الإسلام جامعة العلم والمعرفة، الأمر الذي لا يمكن أن تقوم معه جفوة بين العلم والدين أبدا؛ فلا ينبغي أن يقبل مسلم دعوة إلى الفصل بين العلم والدين؛ لأن من يقبل هذه الدعوة يكون جاهلا بحقائق الإسلام؛ فلا يكون مسلما ولا عالما.
فينبغي أن نحذر المثقفين من شباب المسلمين من الانقياد الأعمى لمثل هذه الدعوات الضالة المضللة، ومن الغرق في التيارات الفكرية التي يحاول الاستشراق إغراق المسلمين بها؛ للتشويش على عقيدتهم وإبعادهم عن دينهم الذي به صلاحهم وعزتهم {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [15] .
3 -
محاربة اللغة العربية:
من الوسائل التي يحارب الاستشراق بها، ويشوش بها على دعوته محاربة اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وقد لجأ المستشرقون إلى هذه الوسيلة بعد عجزهم عن النيل من القرآن الكريم؛ فأخذوا يروّجون بين المثقفين من المسلمين من تلاميذهم أن اللغة العربية في حاجة إلى تطوّر وتجديد، وهم يهدفون من وراء دعوتهم هذه إلى إضعاف اللغة العربية؛ لينصرف المسلمون عنها؛ فتنقطع الصلة بينهم وبين كتاب الله وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام.
إن المستشرقين يتهمون اللغة العربية بالعجز عن مسايرة ركب الحضارة الحديثة، ويزعمون أن اللغة العربية تعجز بقاموسها اللغوي عن حمل العلوم والفنون التي جاء بها العصر الحديث، وأن التخلّف الذي أصاب المجتمع الإسلامي سببه قصور اللغة العربية وعجزها عن نقل ما جاءت به العقول والقرائح عند الأمم الغربية، ولهذا يجب على أهل العربية - في زعمهم - أن يتركوا هذه اللغة ويبحثوا عن لغة أخرى حتى يلحقوا بركب الحضارة، ويعيشوا مع أهل العصر.
وهذه دعوى باطلة من أساسها؛ فاللغة العربية أوسع اللغات وأقدرها على توليد الألفاظ الجديدة، والدليل على هذا أنها حين خرجت إلى ما وراء موطنها العربي إلى دولتي الفرس والروم استوعبت بألفاظها - من مفردات وتراكيب - كل ما وجدته من حضارات، ثم إنها مدّت ذراعها إلى حضارتي اليونان والرومان القديمتين، فترجمت كل ما أنتجته عقول حكمائها وعلمائها، وكان للتراث العلمي المشرق الذي أنتجته العربية أثره البعيد في تنوير أوربا، وإخراجها من ظلام القرون الوسطى وإدخالها إلى هذا العصر الحديث الذي تفخر به؛ فلا يعقل - بعد هذا - أن تعجز اللغة العربية عن نقل العلوم والفنون التي جاء بها العصر.
وقد لقّن المستشرقون بعض تلاميذهم من المسلمين الدعوة إلى العدول عن الكتابة بالحروف العربية إلى الحروف اللاتينية؛ بحجة أن عملية الطباعة بالحروف العربية شاقة بطيئة؛ لأن لكل حرف صورا عديدة بحسب موقع الحرف في الكلمة، أما كتابة الكلمات العربية بالحروف اللاتينية فإنها لا تحتاج إلى جهد ووقت؛ لأن الحروف تكتب متفرقة على صورة واحدة مهما اختلف موقع الحرف في الكلمة.
وهذه دعوة خبيثة تهدف إلى قطع الصلة بيننا وبين تراثنا القديم إذا طال الزمن وأصبحت الكتابة الإفرنجية هي التي تعلمتها الأجيال المتعاقبة، وصارت هي طريقها إلى القراءة والكتابة؛ فإذا رجع واحد من أبنائنا إلى كتاب مكتوب بالحروف العربية لا يحسن قراءته، وبذلك تطوى صفحة مكتبتنا العربية التي تضمّ موروثنا من العلوم والمعارف في الدين واللغة وفنون العلم المختلفة.
كما أن في اللغة العربية حروفا لا مثيل لها في الحروف اللاتينية، مثل الثاء والحاء والطاء والعين والقاف، وهذه الحروف لا يتيسر النطق بها نطقا سليما بالحروف اللاتينية.
فالدعوة إلى العدول عن الكتابة بالحروف العربية إلى الحروف اللاتينية تهدف في الحقيقة إلى إضعاف العربية لغة القرآن، ومحاربة الإسلام بهذه الوسيلة.
كما لقّن المستشرقون بعض تلاميذهم من العرب الدعوة إلى استعمال اللغة العامية بدل الفصحى؛ بحجة أن الفصحى لا تستعمل في الحياة العامة حتى بين المثقفين أنفسهم؛ فهي في واد والحياة في واد آخر.
وهي دعوة ظاهرة البطلان؛ لأن اللغة الفصحى هي التي يفهمها من يتكلمون العربية جميعا من مثقفين وغير مثقفين؛ فالعامة حين يستمعون إلى آيات القرآن يفهمون دلالتها وما تحمل من أوامر وزواجر وقصص ومواعظ، أما اللغة العربية العامية فلا تفهم إلا في نطاق ضيق بين المتحدثين بها في إقليم بعينه، وليس عجيبا أن تختلف العامية في بلد عنها في بلد آخر من بلاد اللغة الواحدة، فالإنجليزية تختلف عاميتها في إنجلترا عنها في أمريكا وهكذا..
وهذه الدعوة لا تهدف في الحقيقة إلا إلى محاربة الإسلام؛ لأن اللغة العربية الفصحى هي لغة القرآن الكريم، كتاب هذا الدين الذي يربط بين أتباعه برباط متين، كما أنها اللغة الوحيدة التي يتلقى عنها أهل العربية في جميع أقطارهم في مجال العلوم والآداب والفنون، وفي أخذهم من تراثهم الرائع في فروع المعرفة المختلفة.
وقد لقّن المستشرقون أيضا بعض تلاميذهم من العرب الدعوة إلى ترك الإعراب وتسكين أواخر الكلمات العربية تسكينا لازما في جميع الأحوال، شأنها في ذلك شأن اللغات الأوربية، بحجة أن هذا الأمر ييسر تعلّمها، ويجعل متعلمها في مأمن من الخطأ.
وهذا دعاء باطل يراد به هدم اللغة من أساسها، ومحاربة الإسلام؛ إذ كيف يقرأ كتاب الله جل جلاله وتقرأ أحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه؟!
إن الإعراب في اللغة العربية هو أعظم مميزاتها عن اللغات الأخرى، ويكفي اللغة العربيةشرفا أنها حملت المعجزة التي عجز الإنس والجن عن تحديها، وبهذا استحقت هذا الوصف الكريم من الله تعالى في قوله جل شأنه:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [16] .
فليس هناك شكّ في أن محاربة الاستشراق للغة العربية، ومحاولاته العديدة للقضاء عليها أو إضعافها إنما هي محاربة للإسلام وتشويش على دعوته.
وينبغي على الدعاة أن يدافعوا عن دينهم، وعن اللغة التي يتعلمون بها أمور هذا الدين الحنيف، حتى يردوا سهام المستشرقين إلى نحورهم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [17] .
رابعا: العوامل التي تساعد الاستشراق في محاربة الإسلام
يستفيد الاستشراق - في محاربته للإسلام وتشويشه على دعوته - من مختلف الأسلحة والوسائل التي تمكنه من بلوغ أهدافه التي أهمها صرف المسلمين عن دينهم حتى لا تقوم لهم قائمة، ويستغل الاستشراق ما يجده في المسلمين من عوامل الضعف؛ فيستفيد من هذه العوامل ويتخذ منها أسلحة يحارب الإسلام بها، ويشنّع بها على دعوته، وسأحاول هنا - بعون الله - أن أبين أهمّ تلك العوامل الموجودة في الأمة الإسلامية الآن، والتي تشبه الثغرات في صفوف المسلمين بحيث يستطيع المستشرقون - أعداء المسلمين وورثة الصلبيين - أن ينفذوا منها، ويستفيدوا منها في التشويش على الدعوة الإسلامية.
1 -
الدعوات المضللة التي قامت تحت راية الإسلام
يستغلّ المستشرقون ما يبدو من قول أو فعل من بعض الدعوات المضللة التي تنتسب إلى الإسلام في الإساءة إلى الإسلام والتشويش على دعوته، ومن هذه الدعوات المارقة المضللة التي قامت تحت راية الإسلام، وأساء أتباعها بمقولاتهم وسلوكهم إليه: الصوفية، والبهائية، والقاديانية.
أما الصوفية فقد زعموا أنهم يريدون سلوك الطريق إلى الله عز وجل، ولكنهم بدل أن يسلكوا طريق الكتاب والسنة - الذي لا طريق غيره - راحوا يشرّعون لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، ويصنعون لأنفسهم قواعد للسلوك تقوم على الزهد والحرمان ورياضة النفس ومجاهدة الشهوات، ولما وجدوا أن المنهج الإسلامي القائم على الاعتدال والتكامل، ومحاربة الغلوّ والتطرف لا يشبع نزعاتهم السلبية الغالية، اقتبسوا من الديانات والمذاهب الأخرى وادّعوا لأنفسهم أحوالا وواردات ومواجد وأذواقا لا يعرفها الدين، وما زال الشيطان بهم يصوّر لهم من الخيالات ما لا حقيقة له حتى أوقعهم في القول بالحلول ووحدة الوجود، وأفضى بهم إلى القول بالجبر وبطلان التكليف والتسوية بين الطاعات والمعاصي، والإيمان والكفر، بدعوى شهود الربوبية في كل موجود [18] .
أما البهائية فقد ظهرت في إيران في القرن الماضي نابعة من الفكر الشيعي؛ فقد بشر الشيرازي الملقب بالباب بقرب ظهور الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري الذي ينتظر الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ظهوره، ثم ظهر كذب الباب عند الشيعة حينما قال إن الإمام الغائب سيظهر في تبريز بآذربيجان، والشيعة يعتقدون أنه سيظهر في مشرق إيران عند جبل يسمى (كوه خدا) أي (جبل الله) ؛ فقبضت السلطة على الباب وحوكم وأعدم، وأعلن قبل إعدامه أن الإمام الذي يقصده هو تلميذه (حسين صبح أزل) الملقب ببهاء الله؛ فسميت الدعوة البهائية نسبة إلى بهاء الله هذا الذي خرج هاربا من إيران، وزعم أنه نبي أرسل بدين جديد مجدد للإسلام، كما زعم أن كتابا نزل عليه، وأخذ يدعو لهذه الدعوة المارقة المضلّلة حتى مات ودفن في فلسطين وقبره في الجزء المحتل منها.
ودعوة البهائية شبيهة بالشيوعية؛ فهي تدعو إلى التحلّل من الدين وترك الحرية للمرأة تفعل ما تشاء، وتقسم السنة إلى تسعة عشر شهرا؛ فهي في الحقيقة انسلاخ عن الإسلام وطمس لمعالمه.
وقد ساند الاستعمار وأعوانه من المستشرقين هذه الدعوة؛ ليستعينوا بها في تزييف حقائق الإسلام؛ فألفوا كتبا بلغات مختلفة لشرح عقيدة البهائية [19] . وأما القاديانية فهي دعوة مارقة مضلّلة ظهرت في بلاد الهند في أواخر القرن الماضي، وهي تقوم تحت راية الإسلام، وقد دعا إليها ميرزا غلام أحمد، وكان مركزها الهند، وأتباعها من مسلمي الهند، ثم امتدت إلى خارج الهند؛ فظهرت في بعض الدول الآسيوية والإفريقية، وساندها الاستعمار والاستشراق.
وقد ظهرت هذه الحركة في وسط جوّ فكري وسياسي عاصف اجتاح بلاد الهند في أعقاب ثورتها على الاستعمار الانجليزي في سنة 1857م، فقد أصابت المسلمين بعد إخفاق هذه الثورة وحشة الفتح ونكبة الهزيمة، وعانوا وطأة الاستعمار السياسي ووطأة الاستعمار الثقافي، وقامت الدولة الانجليزية المنتصرة بنشر ثقافتها وحضارتها في محاولة لزعزعة العقيدة الإسلامية وإضعاف الثقة بأسس العقيدة ومصادر الشريعة [20] ؛ لأن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد في الهند الذي كان يدعو إلى الجهاد في سبيل الدفاع عن الدين والوطن والعرض والمال.
وقد استغل الاستعمار أيضا المحترفين للتصوّف في نشر شطحاتهم وخرافاتهم؛ فاستولى على مسلمي الهند اليأس والقلق، ثم استسلموا للأوضاع الفاسدة، وأخذوا يتطلعون إلى منقذ ينقذهم من الحيرة واليأس ولو بالخرافات والأباطيل.
وفي وسط هذا الجوّ الفكري العاصف دعا ميرزا غلام أحمد إلى القاديانية، وكان غلام أحمد هذا من إمارة البنجاب، وكان والده من أصحاب الإقطاعات، ومن ذوي النفوذ في قومه، كما كان من صنائع الانجليز ومن أخلص الدعاة لهم.
وقد عرف عن غلام أحمد أنه كان في مطلع شبابه متصوّفا، ثم ترك العزلة ودخل في معترك الحياة، ونصب نفسه للمناظرات والمجادلات في أمور الدين؛ فلفت الأنظار إليه فاجتمع كثير من العامة عليه، واكتسب شهرة وصيتا ذائعا في أوساط المسلمين؛ فسولت له نفسه أنه ملهم من الله؛ فأخذ يتحدث للناس بما زعم أنه ينزل عليه من إلهامات، ويذكر لهم آيات قرآنية وأخرى محرفة، يحسبها من لا يحفظ القرآن قرآنا، وفي هذا تلبيس وتدليس وكيد عظيم لتحريف القرآن الكريم.
ولم يقف غلام أحمد عند هذا الحد بل ادعى أنه نبي يوحى إليه، وأخذ ينشر مفترياته [21] ، متخذا الدين مدخلا يدخل به إلى قلوب أتباعه؛ ليخدم بذلك أغراضا سياسية، وينفذ خططا رسمها له المستعمرون؛ فإلى جانب ما تتركه هذه الدعوة المجرمة من إفساد للعقيدة الإسلامية في عقول من يصيبهم شررها فإنها حملت في ثناياها دعوة إلى إبطال الجهاد الذي هو فرض على المسلمين حين تدعو دواعيه وتقوم أسبابه، وبهذا مكّن للاستعمار، ودفع عنه كل ما كان يتهدده من ثورة المسلمين في الهند على وجوده.
يقول غلام أحمد في كتاب نشره على الناس تحت عنوان (ترياق القلوب) : لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الانجليزية ونصرتها، ولقد ألّفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر (الانجليز) من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة، وقد نشرت هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائما أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة الانجليزية، وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك والمسيح السفاح والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة الجهاد، وتفسد قلوب الحمقى.
وهذا يدل على أن غلام أحمد كان يتخذ دعوة القاديانية وسيلة لتثبيط عزائم المسلمين في الهند حتى لا يثوروا على المستعمرين، وحتى يرضوا بالذل والعبودية، أي أن القاديانية منذ نشأتها صنيعة للاستعمار وأعوانه، وهذا هو سرّ بقائها بعد وفاة غلام أحمد في عام 1908؛ فما زال خلفاء غلام أحمد ينشرون دعوتهم بين المسلمين في حركة نشيطة يغذيها أعداء الإسلام بالمال والأفكار، ويفتحون لها الفروع في أوربا وآسيا وإفريقية على أنها داخل إطار الدعوة الإسلامية، ويتعاون في نشرها الاستعمار والاستشراق والصهيونية.
إن القاديانية وهي تنتسب زورا إلى الإسلام، وهي أخطر سلاح يوجه إلى صدر الإسلام، حيث يتخذ منها أعداء الإسلام دعاة لهم، يضعون على أفواههم ما يريدون وما يدبرون من كيد للإسلام والمسلمين بالتشويش على دعوة الإسلام، والله من ورائهم محيط.
2 -
وسائل الإعلام تشارك الاستعمار في محاربة الإسلام:
إن وسائل الإعلام بصورتها الحالية في الأقطار الإسلامية تتعاون مع الاستشراق في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته؛ فقد أصبح المجتمع الإسلامي يواجه غزوا رهيبا محملا بعوامل الإفساد للمسلمين، من وسائل الإعلام من جرائد ومجلات وإذاعة مسموعة ومرئية وأفلام سينمائية ومسرحيات وغيرها.
وخطورة هذا الغزو أنه يدخل إلى العقول والقلوب دون أن يلتفت الكثير من المسلمين إلى ما قد دخل عليه من أفكار قد يكون بعضها مسموما مما يروجه المستشرقون أعوان الاستعمار ضد الإسلام، محاربة له وتشويشا على دعوته.
إن وسائل الإعلام عدو خفي يحارب المسلمين بالكلمة والصورة والفكرة، وهي أسلحة أشد خطورة من الجيوش الزاحفة، والمدافع المنطلقة، التي يعرف المسلمون منها وجه العدو الذي يغزوهم.
والشيء المؤسف حقا أن المسلمين في سائر أقطارهم لا ينتبهون إلى خطورة وسائل الإعلام، كما أن الدعاة لا ينبّهون إلى خطورتها تنبيها كافيا لتحويلها إلى أدوات بناء للمجتمع الإسلامي بدلا من كونها أدوات هدم وتدمير.
إن وسائل الإعلام تنشر كثيرا من ألوان الفساد والانحلال والإلحاد بما تنقله من صورة الحياة في الأقطار الأوربية والأمريكية التي انتشر فيها الإلحاد في العصر الحديث؛ نتيجة لاستخفاف الناس بالدين، بعد أن كشف من متناقضات في المسيحية وفي اليهودية، لا يقبلها عقل مستنير، ولا يستريح إليها ضمير حيّ، في حين أن الإسلام ليس فيه متناقضات؛ فمن نظر فيه بعقله وجاء إليه بجميع وسائل العلم وجد أنه الحق الذي يلتقي مع العقل التقاء مؤاخيا، وهو يدعو المؤمنين به إلى العزة والجهاد دفاعا عن دينهم وأوطانهم وأموالهم وأعراضهم، الأمر الذي يشكل خطرا على الاستعمار وخططه ضد العالم الإسلامي، ويجعله يستغل وسائل الإعلام في تصدير عوامل الإفساد للأقطار الإسلامية لصرف المسلمين عن دينهم، والتشويش على الدعوة الإسلامية.
3 -
الحطّ من شأن العرب الجاهليين:
ومن العوامل التي تساعد الاستشراق في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته أن كثيرا من المثقفين من المسلمين أصبحوا يسايرون المستشرقين في الحطّ من شأن العرب الجاهليين، ظنا منهم أن في هذا خدمة للإسلام، وهم مخطئون كل الخطأ؛ فلقد رمى المستشرقون العرب بتهم مماثلة، فصوروا حياتهم في الجاهلية وكأنهم وحوش ضارية تعيش في أرض قفر ومكان جديب، فكانت قلوبهم أقفر من أرضهم، ومشاعرهم أكثر جدبا منها.. هكذا يتحدث المستشرقون عن الأمة العربية في جاهليتها؛ ليخلصوا إلى القول بأن الإسلام دين بداوة لا يصلح في أحكامه وتشريعاته إلا في تلك المناطق المتبدية المتوحشة المقفرة، فهو - كما يزعمون - ليس الدين العالمي الذي يصلح عليه أمر الناس في البدو والحضر، وفي الحاضر والمستقبل.
وقد خدع بهذا القول كثير من المسلمين الذين تصدَّوا للرد على هؤلاء المستشرقين؛ فسلّموا لهم بما قالوه في العرب الجاهليين، وفي أن الأمة العربية لم تكن شيئا قبل الإسلام، وهذا القول فيه حق، ولكن فيه باطل أيضا؛ أما الحق فيه فهو أن الإسلام قد ارتقى بالعرب إلى درجات عالية في عالم الفضائل والكمالات، وجعلهم في سنوات قليلة قادة الأمم وأساتذة الشعوب، وبناة الحضارة في كل موقع نزلوا فيه.
وأما الباطل في ذلك القول فهو أن الأمة العربية لم تكن خلوا من الفضائل؛ فقد كانت تحمل في كيانها أسلم القلوب، ويكفيها فخرا أن الله تخيرها كما تخير موطنها، وكما تخير بنيها لتكون هذه الأمة مطلع شمس دين الإسلام، وأفُقَه الذي يشعّ منه نوره على هذا العالم.
وقد وجد الإسلام في الأمة العربية كثيرا من الفضائل التي زكاها، وأبقى عليها مثل حماية الجار وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، وإكرام الضيف والغيرة على الحرمات من أموال وديار وأعراض؛ فكان ذلك ركيزة للأخلاق الفاضلة التي بنى الإسلام عليها دولته.
فوصْف الأمة العربية بالسوء، وتجريدها من كل فضيلة لا يتّفق مع الحق، وهو تقليد لما يقوله المستشرقون ليتخذوا منه سلاحا يحاربون به الإسلام، ويشوشون به على دعوته، وينبغي أن ينتبه المسلمون إلى هذا جيدا، وأن يحذروا التقليد والانخداع بأقوال المستشرقين أعداء الإسلام.
ومن الحق أن نقرّر هنا أن الثقافة الإسلامية هي في صميمها ثقافة عربية برسولها العربي، وعربية بلسانها الذي نزل به القرآن دستور شريعتها، وعربية بعروبة من استقبلوا دعوتها ورفعوا رايتها، وأذنوا بشريعتها في العالمين، وعربية بالوطن العربي الذي طلعت فيه شمسها، وتجلت فيه آياتها، وذلك ما يشير إليه قول الله تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [22] .
ومن فضل الله على العرب أن جعل محمدا صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين - عربيا، وجعل رسالة الإسلام خاتمة الرسالات، وجعل أهلها الأمة العربية؛ فكانت أكمل رسالة في يد أكمل الرسل في خير الأمم، فكل محاولة للتهوين من شأن العرب، والحط من قدر العرب الجاهليين مجاراة للمستشرقين في محاربة الإسلام بكل وسيلة.
فينبغي على المسلمين في جميع أقطارهم أن يسدوا الثغرات التي تمزّق صفوفهم، وتمكن المستشرقين من اتخاذها وسيلة للتشويش على الدعوة الإسلامية.
وأختم هذا البحث ببيان الوسائل التي نحارب الاستشراق بها؛ حتى نفسد خططهم ونردّ كيدهم في نحورهم، ونردّهم على أعقابهم خائبين خاسرين، وبالله التوفيق.
خامسا: الوسائل التي نحارب بها الاستشراق:
إن ما يقوم به الاستشراق من حرب سافرة وخفية ضد الإسلام لصرف المسلمين عن دينهم يجب أن يقابل بوسائل قادرة على دحر أعداء الإسلام، وكشف زيفهم وأباطيلهم وفضحهم بها؛ ولهذا كان من مهمة الدعوة الإسلامية اليوم أن يعمل دعاتها في ميدانين في وقت واحد، أحدهما دفاعي والآخر تبليغي.
أما الميدان الدفاعي:
ففيه يردّ الدعاة على حملات المستشرقين على الإسلام لمحاولة تشويه حقائقه، وإلقاء ظلال مزيفة من التهم عليه والتشكيك فيه، حتى ينصرف المسلمون عن دينهم، وحتى يتوقف الذين يبحثون عن الإسلام لاتخاذه دينا يملأ الفراغ الديني التي خلت نفوسهم منه.
ويحتاج هذا الميدان إلى أجهزة متخصصة، ودعاة متخصصين ذوي كفاءات عالية في العلم، ومنازل كريمة في الخلق والسلوك، دعاة ينذرون أنفسهم للدفاع عن دين الله مهما كلفهم هذا الدفاع من تضحيات، وإن أولي العزم والإيمان هم وحدهم الذين يقفون هذه الوقفة لله.
إن العاملين في ميدان الدفاع عن دين الله يجب أن يكونوا على درجة عالية من الفقه في دينهم، وعلى جانب كبير من العلم والإحاطة بما كتبه أعداء الإسلام من المستشرقين وأشباههم، ولا تتيسر لهم هذه الإحاطة إلا إذا كانوا على قدر كبير من الإلمام باللغات الأجنبية كالانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية؛ فيجب أن يتكوّن العاملون في ميدان الدفاع عن دين الله من جماعات، تتقن كل جماعة منها لغة أجنبية، إلى جانب درجتها العالية من الفقه في الدين، وبهذا يستطيع المدافعون عن دين الله أن يصرعوا أعداء الإسلام، وأن يفضحوا أكاذيبهم ومفترياتهم وما لفقوا ويلفقون من أباطيل للتشويش على الدعوة الإسلامية.
أما الميدان التبليغي:
ففيه يقوم الدعاة بالدعوة إلى دين الله في المواطن التي خلت من الدين، وفي المواطن التي خف ميزان الدين فيها؛ فالناس في هذه المواطن في ربوع العالم المختلفة يبحثون عن دين يجدون فيه الحق الذي يلتقي مع الفطرة الكامنة في كل نفس، ومع العقل المتشوق إلى الحق، الباحث عن الحقيقة.
ويحتاج هذا الميدان إلى دعاة يفقهون أمور دينهم بدرجة كبيرة، ويكونون على جانب كبير من الفطنة والذكاء، ويتكونون من جماعات تتقن كل جماعة منها لغة أو أكثر من اللغات الرائجة في أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقية، كالانجليزية والفرنسية والفارسية والأردية، حتى يحقق العاملون في هذا الميدان الغاية المرجوة ويصلوا إلى الهدف المنشود.
إن العلم والفقه في الدين والذكاء والفطنة وسائل لا غنى عنها في التصدي للاستشراق، ومواجهة أعداء الإسلام أيا كانت أسماؤهم وصورهم وأشكالهم؛ لأن الذي يعرض حقائق الإسلام إن لم يكن على مستوى عال من العلم والفقه والذكاء والفطنة كان ضرره أكثر من نفعه في هذا المقام.
فيجب أن نعدّ الدعاة الذين يفون بالمطلوب لدعوة الإسلام اليوم في ميدانها الدفاعي والتبليغي، وهنا نتساءل: هل أدّى المسلمون حق دينهم عليهم، وهم يعلمون أنه الحق من ربهم؟ الحق أن المسلمين مقصّرون متهاونون في أداء هذا الواجب الذي يفرضه الدين عليهم، إن الدين دعوة، ولابدّ لهذه الدعوة من دعاة يبلغونها إلى الناس، ويكشفون لهم عن وجه الحقائق فيها، وهذه هي الحكمة من إرسال رسل الله إلى الناس مع ما يحملون إليهم من رسالات الله، وإلا لوقف الرسول بمهمته عند وضع الرسالة بين أيدي الناس دون أن يقطع عمره كله واقفا عليها، مناعا عنها، متحملا الأذى والضر في سبيلها، ثم كيف يكون هذا موقفنا والله قد أناط بنا حمل أمانة الدعوة إلى دينه؟ فقال جل وعلا:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [23] .
والدعوة إلى دين الله أمر مطلوب من كل مسلم، وذلك بسيرته المحمودة في الناس، وبخلقه الكريم، وسلوكه الطيب الذي يراه غير المسلمين عنه، في أقواله وأفعاله؛ فإن الدين بأهله، والناس إنما ينظرون إلى الدين فيما يرون من آثاره في المتدينين به، قبل أن ينظروا إليه في حقائقه،؛ فينبغي على أولي الأمر في الأقطار الإسلامية أن يحسنوا اختيار المبعوثين إلى أوربا وأمريكا من الطلاب وغيرهم؛ لأنه كثيرا ما يسيء هؤلاء المبعوثين إلى الإسلام بسوء سلوكهم، ويصيرون أخطر على الإسلام من أعدائه.
أما الدعاة المتخصّصون العاملون في الميدانين الدفاعي والتبليغي فيجب عليهم أن يبينوا للناس حقائق الإسلام؛ لأن بيان هذه الحقائق كاف لإخماد أصوات أعداء الإسلام مهما كانت مرتفعة، كما أنه كاف لإحباط خطط هؤلاء الأعداء الذين يقف المستشرقون في مقدمتهم.
وينبغي أن يبين الدعاة للناس أن الإسلام دين الفطرة، وأنه هو المثل الأعلى للإنسانية؛ لأنه حرّر العقل وأطلقه من عقاله إطلاقا يعود على الإنسانية بكل خير، ودفع العقل دفعا ليتفكر في الكون ليسمو الجانب الروحي، وليفكر في تسخير الأشياء للإنسان ليرتقي الجانب المادي.
ويجب أن يبين الدعاة للناس أن الإسلام حرّر الإنسانية من ظلم البشرية وتناقضاتها، ووحّد القوى الإنسانية التي تقود العالمين إلى السعادة القصوى؛ ولذلك ختم الله به الديانات السماوية، وجعل نبي الإسلام صلوات الله عليه آخر لبنة في بيت النبوة العتيد؛ فتم بها بناؤه، وكمل بها رواؤه.
وينبغي على الدعاة أن يبينوا للناس أن الإسلام هو النظام الإلهي الكامل الذي لا يمكن للإنسانية - في سعيها المتصل لبلوغ الكمال الإنساني - أن تجد أرقى منه في جميع مجالات الرقي؛ عقليا ونفسيا وخلقيا وعاطفيا وروحيا وماديا وفرديا واجتماعيا.
ويجب أن يبين الدعاة أن الدين كله لله؛ فهو الذي يتعبد عباده بما يشاء، ويشرع لهم من الأحكام والحدود والفرائض والآداب ما اقتضته حكمته مما يعلم أن فيه صلاحهم وسعادتهم؛ فلا يجوز لأحد أن يزيد في دين الله ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه، وأنّ دين الله واحد، وهو الإسلام الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، وأنّ الأنبياء كلهم إخوة؛ دينهم واحد وأمهاتهم شتى، وأنّ الواجب الإيمان بهم وما أنزل إليهم جميعا، قال الله تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [24] .
ينبغي أن يبين الدعاة للناس أن العقيدة الإسلامية تقوم على الإيمان بالله إلها واحدا لا تنبغي الإلهية إلا له، وعلى الإيمان بأن له وحده الأسماء الحسنى والصفات العليا.
ويجب أن يبين الدعاة للناس أن الإيمان باليوم الآخر وبالبعث والجزاء مما يقتضيه العقل تحقيقا لقاعدة العدل؛ إذ ليس في المعقول ولا في الحكمة أن تكون هذه الحياة القصيرة هي الغاية من خلق هذا العالم الكبير، وأن تكون نهاية المؤمن والكافر سواء، ونهاية الظالم والمظلوم سواء، ونهاية البَرّ والفاجر سواء، قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [25]، وقال سبحانه:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [26] .
فإذا علم كل إنسان أنه مسئول عما قدم، وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [27] ، سلك في حياته سبيل الجادة وحاسب نفسه بنفسه؛ فلا يمكن أن يصبر على ذنب ارتكبه، ولا أن يقصر في أداء ما وجب عليه، وبهذا تستقيم الأمور في هذه الحياة.
فإذا بيّن الدعاة أن العقيدة الإسلامية ترتكز على أسس ثابتة من الفطرة الإنسانية العامة، والمنطق العقلي المستقيم، والنصوص الدينية الصريحة لم يستطع عدوّ للإسلام من المستشرقين وأشباههم أن يقف في وجهه، أو يشوش على دعوته.
وهذه هي الوسائل التي يستطيع المسلمون أن يواجهوا بها أساليب الاستشراق، ويحبطوا بها جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويحولوا بينه وبين الوصول إلى أهدافه التي أهمّها إضعاف المسلمين بصرفهم عن دينهم.
خاتمة
إن كشف الجهود التي يبذلها الاستشراق في محاربة الإسلام بكل سلاح وبأية وسيلة أمر لازم لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة.
وإذا كان الإسلام قد واجه في جميع أزمانه - منذ مطلع الدعوة حتى اليوم - كثيرا من القوى المعادية له، حتى دخل معارك ضارية متصلة باللسان مرة وبالسنان مرة أخرى، فإن ما يواجهه الإسلام في العصر الحديث من القوى المعادية له أشدّ ضراوة، وأبلغ كيدا مما واجهه من قبل، ويعدّ الاستشراق أخطر القوى التي تحارب الإسلام وتشوش على دعوته؛ لأنه يستعين بالعلم في محاربته للإسلام؛ فيستعمل أسلحة كثيرة متنوعة، ويستفيد من كل وسيلة يمكن أن تصل به إلى أهدافه، وتمكنه من إضعاف المسلمين بصرفهم عن دينهم.
لهذا ينبغي على المسلمين في جميع أقطارهم أن يحاربوا الاستشراق بالعلم والخلق، وأن يحسنوا إعداد الدعاة الذين يتصدون للدعوة في ميدانيها الدفاعي والتبليغي؛ حتى يتمكنوا من إخراس ألسنة أعداء الإسلام الحاقدة بتوضيح حقائق دينهم القويم للناس أجمعين، وبذلك يندحر المستشرقون الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله رب العالمين، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [28] .
والله يقول الحق ويهدي السبيل، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة الدكتور محمد يوسف موسى وزميله، ص 15.
[2]
جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام ص 41.
[3]
سورة الحاقة: آية 44-47.
[4]
سورة الصف: آية 8.
[5]
سورة القيامة آية 20-21.
[6]
سورة الإنسان آية 27.
[7]
البقرة آية 132.
[8]
المائدة آية 87.
[9]
الأعراف آية 32.
[10]
النحل آية 97.
[11]
وليم جيمس: إرادة الاعتقاد ص 121 ترجمة الدكتور محمود حب الله.
[12]
سورة الزمر آية 9.
[13]
سورة المجادلة آية 11.
[14]
سورة طه آية 114.
[15]
سورة المنافقون آية 8.
[16]
سورة الشعراء: آية 193-195.
[17]
سورة يوسف: آية 21.
[18]
يمكن الرجوع إلى كتاب فصوص الحكم لابن عربي - وهو من القائلين بوحدة الوجود - لتتبين ما انتهى إليه أمر الصوفية من الضلال والإلحاد.
[19]
أبو الحسن الندوي: القادياني والقاديانية ص 19 وما بعدها.
[20]
توجد كتب في شرح البهائية بالانجليزية والفرنسية والفارسية والعربية.
[21]
من يريد مزيدا من المعلومات فليرجع إلى كتاب الندوي المذكور.
[22]
سورة الأنعام: آية 24.
[23]
سورة آل عمران: آية 105.
[24]
سورة البقرة: آية 285.
[25]
سورة ص: آية 27-28.
[26]
سورة الجاثية: آية 21.
[27]
سورة الزلزلة: آية 7-8.
[28]
سورة التوبة: آية 32-33.
الشيوعية في الميزان
لفضيلة الشيخ محمد علي عبد السميع - كلية الدعوة وأصول الدين
الإنسان متدين بطبعه:
لقد خلق الله هذا الكون لغاية فاضلة وحكمة سامية؛ فلم يخلقه لهوا ولا عبثا، وإنما خلقه للدلالة على ذاته وعنوانا على قدرته وإحكامه، ثم اقتضت حكمته تعالى أن أرسل من لدنه رسلا لينقلوا الناس من دياجير الجهل والظلام ومهانة الإفك والضلال إلى نور العلم والعرفان؛ حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .
وإن الناظر في هذا الكون العجيب ليرى الأدلة ناطقة على حكمة خالقه، والبراهين ساطعة على قدرة موجده، ولقد درج الإنسان من مبدأ الخليقة على التديّن والإقرار بأن للوجود إلها هو مسيّر أمره ومدبّر شأنه، والجماعات الإنسانية على مدى العصور والدهور وإن لم تتفق على من هو ذلك الإله، إلا أن الشعور من قرارة نفس كل فرد يناديه بأن قوة قاهرة هي المسيطرة على الوجود، وبالتالي يسميها الإنسان بالإله.
ومردّ ذلك الاختلاف بين الجماعة الإنسانية هو أن الديانات السماوية وإن أجمعت على أن إله الكون هو الله تعالى الذي لا إله إلا هو، إلا أن كثيرا ما كان ينحرف الناس عن تعاليم تلك الديانات؛ فيرمزون إليه بكوكب تارة، أو بحيوان تارة أخرى، أو غير ذلك من الأشياء التي يرون فيها القوة الخارقة والقدرة الفائقة؛ لاستشعارهم أن الإله لا بدّ أن يكون ذا جبروت لا يبارى واقتدار لا يجارى، وفي بعض الأوقات يرمزون إليه بشيء يجدون احتياجهم إليه شديدا، وأن حياتهم متوقفة عليه، وليس بلازم أن يكون ذا بأس وقوة.
كل هذه المعاني وتلك الاتجاهات من الإنسان تدل على اقتناعه في قرارة نفسه على أن للوجود إلها هو الذي إليه يرجع الوجود في كل أمر من أموره.
استمر الأمر على ذلك قرونا وقرونا وأجيالا وأجيالا يسطع نور الحق، حاملا مشعله رسول يرسل أو نبي يبشر، ويخبو نوره تارة أخرى عندما تمتدّ الفترة بين الرسل؛ فتنتكس عقائد الناس ويركسون في الضلالة من جديد، حتى أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، ورسولا إلى الخلق كافة؛ فملأ هداه الخافقين وانتشر نبأ رسالته في المشرقين، وهناك في أوربا وآسيا كانت المسيحية ضارية شرسة في القرون الوسطى، وكان لرجالها سلطان قوي، وكان للقياصرة في روسيا بأس شديد؛ فتسلل أحد قساوسة اليهود إلى صفوف هؤلاء القياصرة، وكان داعرا منحلا؛ فأشاع الدّعر والعهر بين صفوف هؤلاء القياصرة من حكام روسيا، فشوّه بذلك صورتهم ولطّخ بهذا الصنيع سمعتهم، فظهروا في أعين الناس بمظهر منبوذ كريه كما ظهر بهذا المظهر ذلك القسيس، وهنا أصبح رجال الدين والحكم في نظر العامة عنوانا على الفساد الخلقي والانحلال السلوكي؛ فتبرّم الناس بالقياصرة رجال الحكم وبالقساوسة رجال الدين، وقد كان الناس يئنون من بشاعة حكم هؤلاء وتسلّط أولئك؛ فوجدوا الفرصة سانحة لأن ينفضوا عن أنفسهم غبارا طال ما تراكم عليهم، وكتم أنفاس التخلص تغلي في صدورهم؛ فقرّروا أنه لا بد من التخلص منهما معا؛ لأن كلا منهما ظهر بصورة حطّت من شأنه وهوّنت من احترامه في نفوس الناس.
تبديل وتغيير:
فقام يتزعم الناس رجل يقال له ماركس، مناديا بسقوط القياصرة؛ فتهلل الناس لندائه واستجابوا له مندفعين ثائرين غير عابئين بما يترتب على ذلك من نتائج، وحتى لا يقوم معارض لتلك الجماعات الثائرة يقف في سبيلهم باسم الدين نادى ماركس وأتباعه بأن الدين خرافة، وأن كلّ منتم إليه مفتر كذّاب، ولكي يذيعوا الرعب في نفوس الناس أعملوا المناصل في رقاب رجال الدين؛ إسكاتا للمعارضين ودحرا للمحتجين على قتل من قتل من الحاكمين، وحتى لا يوجد بعد ذلك من يناصر هؤلاء أو هؤلاء غيّروا نظام البلاد السياسي إلى نظم أخرى سمّوها بأسماء خلابة، ووضعوا عليها لافتات براقة لتستهوي الناس وتستميل البائسين والمحرومين. والحديث عنها يطول وليس هذا مجاله.
أما الدين فلم يغيروه، بل أنكروه مدّعين أن الدين لن يصلح نفوسا ولن يربي أرواحا؛ إذ لو كان كذلك لظهر أثره في رجاله الآثمين الذين تحالفوا مع القياصرة وأباحوا لهم ولأنفسهم ضروبا من الفساد تقشعّر لذكرها الجلود وتتقزز لسماعها النفوس.
إنكار وافتراء:
وحتى لا يحاول بعد ذلك إنسان ما أن يردّد صوت الدين أو نغمة التدين أنكروا وجود الله، وبفريتهم هذه اضطروا إلى القول بأن العالم الذي هو صنعة الله موجود بالصدفة تلقائيا أي: بدون حكمة أو تدبير، أو بالتفاعل أي: بتأثير جزئياته بعضها في البعض بمعنى أن الشيء مؤثر ومتأثر.
وبذلك نخلص إلى أن مبادئ الشيوعية من حيث العقيدة تتلخص في شيئين اثنين:
(1)
إنكار وجود الله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(2)
أن وجود العالم بطريق الصدفة أو التفاعل.
تدليل باطل:
ولقد سلك ماركس - عليه اللعنة - في التدليل على دعواه الباطلة مسلكا عجيبا، وتبعه في ذلك لينين ومن نحا نحوه؛ فيرى ماركس أن كل موجود لا بد وأن يُرى، وحيث إن الله لا تراه عيوننا في دار الدنيا فاستنتج من ذلك أنه غير موجود، وكأنه جعل الإقرار بوجود الله كالتسليم بنتيجة نظرية من النظريات الطبيعية المادية؛ لأن المادة عنده مكونه من عناصر، وكل عنصر مغاير للآخر فله خصائصه ومميزاته، وكل عنصر مركب من جزئيات، وكل جزئية لها خصائصها ومميزاتها، إذن كل هذه الأشياء متمايزة متغايرة ولا يمكن معرفة تمايزها وتغايرها إلا برؤيتها بالعين أو إحساسها بإحدى الحواس الأخرى التي بها تميّز الأشياء ويفرّق بينها عند الإدراك، وكأنه يريد بذلك أن يقول - لا بل قال -: إن الله فرد من أفراد المادة يخضع لقوانينها، ويقاس بمقاييسها ويوزن بموازينها، (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) .
ولو أنه لو تريّث هنيهة أو تعقل قليلا لوجد الفطرة من أعماقه تناديه إن للعالم إلها إليه تهرع في الملمات وتلجأ إلى رحمته عند النكبات، وهو مغاير لذلك العالم في ذاته وصفاته، وإلا ما كان للجوء إليه دون غيره معنى أو مدلول، وما صرخة ذلك المهندس الشيوعي مستغيثا بالله عندما هوى ابنه من جانبه من أعلى الصرح إلا تعبيرا صادقا ودليلا قاطعا على أن الفطرة مهما طمسها الضلال وطغى عليها الكذب والبهتان لا بد وأن يشعّ وميضها بين تلك الجحافل الآثمة، ويلمع بريقها من خبايا تلك الافتراءات الملحدة معلنا أن للوجود إلها خلقه بقدرته وسيّر أمره بإرادته، ولو أن الملحدَيْن الخبيثين (ماركس ولينين) استجابا لنداء الفطرة لأيقنا بأن للعالم إلها، ولكن كيف يكون منهما ذلك وقد أغرقا في الكذب والافتراء والإلحاد والكفران. ولندع اعتقادهما؛ فذلك لا يعنينا، ونناقش الفكرة والدليل فهي التي في الأمر تهمنا وتعنينا.
ففكرتهم أو مبدؤهم هو أنه لا وجود لله، ودليلهم أن الله لم تره أعيننا، وحيث إن الأمر كذلك فهو غير موجود.
نقاش وإبطال:
إننا إذ نناقش هذا الدليل نجد أن بطلانه أهون من أن يوجه إليه طعن، وأن انهياره ليس بمحتاج لعناء.
فنقول: إذا كان لا بدّ من رؤية كل موجود، وأن الشيء الذي لا يُرى لا يكون موجودا فماذا تقولون في الروح التي بها حياة الفرد هل هي موجودة مع كونها لم تُر، أم أنها ليست موجودة؟ إن قلتم بالأول فقد غايرتم بين الموجودات في صفة هي مردّ الحكم، وإن قلتم بالثاني فقد ادّعيتم إفكا وزورا؛ لأنها موجودة بالضرورة؛ إذ بها تكون حياة الفرد. والعقل الذي به نفكر وندرك هل موجود أو معدوم؟ إن قلتم إنه معدوم فقد افتريتم كذبا وقلتم بهتانا وإدا، وإن قلتم إنه موجود - ولا مناص لعاقل أن يقول غير ذلك - فهل ثبتت لديكم رؤيته، أم أنكم تقولون بوجوده والحال أنكم لم تروه؟ فإن قلتم بالأول فالواقع يصفع عقولكم ويبطل دليلكم، وإن قلتم بالثاني فقد أقررتم بوجود شيء لا نستطيع رؤيته، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تعترفون بحكم بالنسبة لأمر وتنكرونه بالنسبة لآخر؟ وهو أن بعض الموجودات لا يمكن رؤيتها، وبذلك يكون الله تعالى موجودا ومع ذلك لا تراه الأبصار {لا تُدْرِكُهُ الأََبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأََبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
تعصب ممقوت:
إن ماركس وأتباعه الذين اتخذوا الشيوعية لهم عقيدة ومبدءا لا يواكبون مسار العلم والعقل، بل يشايعون التعصّب للباطل ومظاهرة الضلال والجهل؛ إذ من القواعد العامة والأمور الثابتة التي لا تقبل نقاشا ولا جدلا أن الأشياء إذا كانت لها صفة توفرت فيها جميعها يكون الحكم عليها باعتبار تلك الصفة واحدا، وتخصيص فرد منها بحكم دون الآخر تعصّب ممقوت وتحيّز مردود.
من هذا ننتهي إلى أن العقل والروح كل منهما موجود، ولم يثبت أن إنسانا ما في الوجود رآهما أو رأى واحدا منهما، ولا يوجد إنسان ما ينكر وجودهما، وحيث إن الأمر كذلك فإذاً تقرِّر البديهة أن الشيء يكون موجودا ومع ذلك لا يرى؛ إذ ان عدم رؤيته لا تطعن في وجوده، وقد ثبت ذلك بالنسبة للروح والعقل، إذاً عدم رؤية الله تعالى لا تطعن في وجوده، إذاً فالله موجود وإن لم تره العيون، وإن العقول السليمة تقرر في جلاء ووضوح ودون شك أو ريب أن الله تعالى موجود؛ لأنها تدرك البرهان على ذلك في كل شيء دالا على قدرته، شاهدا بعلمه وحكمته، ناطقا في كل وقت وحين، تبارك الله أحسن الخالقين، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} .
زيادة إيضاح:
إن الأدلة كثيرة ناطقة وعديدة واضحة، وجميعها تدل على وجود الله تعالى؛ فهذا النظام البديع الذي يسير عليه الكون، وهذا الإبداع المعجز الذي وجد عليه العالم يدل على أن للكون إلها، بقدرته خلق الوجود، وبحكمته أبدع كل مخلوق، ووجود تلك الأنواع المتعددة، وكثرة تلك الخصائص المتباينة أصدق دليل على وجوده تعالى.
وقولهم إن العالم وجد بطريق الصدفة فهذا أمر لا يسلم به عاقل؛ إذ كيف تنتج الصدفة هذا النظام البديع، والمعلوم أن السمع لا يهبه لفرد إلا عالم بقانون السمع، وكذلك كل صفة من الصفات التي يسعد بها الإنسان والتي لا بدّ لوجودها من تدخل وقدرة عالمة حكيمة مدبّرة، ولا يمكن القول بأن تلك القدرة من جنس تلك الموجودات، وإلا لأمكن غيرها أن ينازعها أو يبطل عملها؛ إذ المفروض أن الجميع متساوون في كل شيء، وإن قانون التأثير والتأثر يحتم تقدم المؤثر على المتأثر، والمفروض أن كلا منهما يساوي الآخر تماما؛ فإذاً يكون الشيء على هذا موجودا ليوجد ومعدوما ليوجد، وهذا باطل، كما وأنه لا بدّ من كون تلك القوة المؤثرة مغايرة لما عداها في كل شيء في ذاتها وفي صفاتها حتى تكون قادرة على الخلق والإيجاد، ولا يصح أن تأخذ تلك الصفات عن غيرها وإلا لكان غيرها مؤثرا فيها، وبذلك يكون شأنها شأن غيرها من المخلوقات، ومعنى هذا أنه لا بدّ وأن يكون وجودها من ذاتها حتى تتمّ المغايرة بينها وبين ما توجد وتخلق.
أما قولهم (إن العالم وجد بطريق التفاعل) فنقول لهم مبطلين ما يدّعون: إن المادة التي سيتم التفاعل بين جزئياتها مَنْ الذي أوجدها؟ مَن الذي جعلها قابلة للتفاعل؟ ومَن الذي غاير بينها في الصفات والخصائص؟ لا بدّ من قوة مدبرة حكيمة عالمة بقوانين التفاعل والتغاير، حتى يمكنها أن تعطي ذلك العنصر من الصفات ما يجعله يتفاعل مع ذلك العنصر خاصة بكيفية خاصة؛ لينتج عن تفاعلها شيء خاص، وإلا لو كان التفاعل راجعا إلى عنصرية محضة دون تغاير أو تمايز بين العناصر لكانت نتيجة التفاعل واحدة، ولجاء العالم صورة واحدة متماثلة، كما ينادي بذلك قانون التفاعل في علم الكيمياء؛ لأننا لو وضعنا في مخبر مادتين فتفاعلتا، ثم أحضرنا بعد ذلك آلاف المخابر ووضعنا في كل منها مقدارا من المادتين اللتين وضعتا في المخبار الأول لكانت النتيجة واحدة، ونحن إذا نظرنا إلى العالم وجدنا التغاير بين أفراده وعناصره واضحا ملموسا؛ فلو كان موجودا بالتفاعل بين جزئياته لما وجد ذلك التغاير بين أفراده في خصائصه ومميزاته؛ فهذا معتم وهذا مضيء، وهذا حسّاس نام وذاك جامد لا ينمو، وهذا يعيش في الماء ويموت في اليابس وهذا على العكس من ذلك، إلى غير هذا مما تراه العين، ولا ينكر التغاير بينه وبين غيره إلا مكابر أفّاك ومدّع كذّاب، ولله درّ القائل ردا على منكري وجوده تعالى:
فهرعت ربي أحتمي بحماك
رباه مالي في الكروب سواك
فوجدتها مقرونة بتقاك
رباه إني قد نشدت سعادتي
ينكر وجودك يصبح الأفاك
يا رب أنت الخالق الباري ومـ
موجدا من ذا الذي سوّاك
يا مؤمنا قل للذي زعم الطبيعة
من أبدع الإيجاد في دنياك
يا من تخبط في الضلالة سادرا
متطلعا للخير في أخراك
إن كنت تسعى للحقيقة صادقا
متدبرا ثم احتكم لنهاك
فدع التعصب جانبا وانظر معي
ومن الذي بالنطق قد حلاك
من ذا الذي قد شق سمعك محكما
ومن الذي بالحسن قد أولاك
والعين من أعطاك فيها مقلة
وأقام في شتى السهول رباك
ومن الذي يعل الجبال رواسيا
من غير أعمدة ترى عيناك
ومن الذي رفع السموات العلا
طول المدى لا تخطئ الأفلاك
مزدانة بكواكب تجري على
بالخير والإنعام قد ربّاك
هو خالق الأكوان جل جلاله
في الإفك بل والله ما أشقاك
يا منكر الله إنك مغرق
وإلى المهيمن ترشد الإدراك
إن العجائب في الوجود كثيرة
وإذا أصابك بعضه أرداك
فالسم في الأفعى يصون حياتها
والشهد من عاني السقام شفاك
والنحل في زهر الرياض غذاؤه
وإذا طغى يوما يصير هلاكا
بالماء نحيا والحياة رغيدة
واليبس يفني الحوت والأسماك
والحوت يسبح في الخضم موحدا
والطير في كبد السما أشجاك
في الصخر يحيا الدود غير منغص
ينمي الزروع ويقتل الفتاك
والشمس ترسل في النهار شعاعها
وبدونه لن نستطيع حراكا
والليل يمسح بالنعاس عناءنا
والبدر يؤنس في الدجى مسراك
والنجم للسفن المواخر مرشد
وبدونه لن تستبين خطاك
والعقل ينتج للأنام حضارة
عند الذي من فضله أحياك
والروح سرّ في الجسوم وعلمه
للحق والإيمان قد ناداك
والقلب ينبض في المنام ونبضه
لكنها صنع الذي يرعاك
تلك العجائب لا تنظم صدفة
قولي فماذا يا عنيد دهاك
وجميعها فيها الدليل مؤيّدا
وعن الغواية يا شقي نهاك
والعقل يدمغ ما تقول بداهة
لله تقديسا وما جاراك
والكون يلهج بالثناء جميعه
نبذ الورود وفضّل الأشواك
لكنك الغاوي الأثيم ومن غوى
وتجنّبت صوت الهدى أذناك
عطلت عقلك يا غوي حماقة
وتسابقت نحو الردى قدماك
وركبت من بحر الضلالة لجة
أو مبدع شيئا فما أغواك
أما التفاعل إن نقل هو موجد
والكون فاض تغاير أخزاك
إن التفاعل في النتائج واحد
فعل الإله ومبطل دعواك
هذا التغاير في الخصائص مثبت
والجهل بالبهتان قد أغراك
فارجع عن الإنكار إنك مفتر
سبحانك اللهم جل علاك
وانهض لربك بالقداسة هاتفا
لا يشبه القدوس ذا أو ذاك
ذات الإله عن المثيل تقدست
فالله في جنح الظلام يراك
ودع المآتم تائبا مستغفرا
ليست بخافية على مولاك
خطرات نفسك في الظلام أو الضحى
عما يفيد النقص والإشراك
لك خالقي كل الكمال منزها
والكون يا رحمان في يمناك
تعطي وتمنع من تشاء بحكمة
وجعله ربي مشرقا بسناك
فاحفظ إلهي القلب من زلاته
هذا بيان مجمل عن الشيوعية وما تنادي به، والمؤسف المؤلم أن بعض دول العالم العربي - وهم يدينون بدين الإسلام - ينادون بالاشتراكية، بل اتخذوها لهم شعارا ومبدأ، ونحن نتساءل من أي لون هذه الاشتراكية؟ هل هي اشتراكية علمية أم اشتراكية ديمقراطية؟ بمعنى هل هي عقيدة أم مذهب؟ إن كانت عقيدة فهي تساوي الماركسية تماما في أهدافها وغاياتها، ولا تختلف عنها إلا في الاسم فقط، وهذا الذي نقوله بناء على تعريفها وبيان كنهها عند الماركسيين أنفسهم حتى ولو سموا الماركسية بالاشتراكية؛ لأنهم جعلوا من ضمن مبادئهم الشيوعية أنه لا مانع من التضليل والكذب والبهتان ووضع أسماء على غير مسمياتها ما دام يؤدي ذلك الخداع والكذب إلى الهدف المنشود، أما إن كانت اشتراكية ديمقراطية - أي أنها مذهب اقتصادي فقط لا شأن له بالعقيدة والخلق - فما أغنانا عنه بما عندنا من تراث إسلامي عريق نهض بالعرب من الحضيض إلى أوج السعادة والرقي البشري، يوم أن قاد جماعة المسلمين رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا التراث الإسلامي العظيم ممثل في الفقه الإسلامي، وإن أولئك الذين ينادون بالاشتراكية مذهبا اقتصاديا، ويرهقون أنفسهم في الدعوة له والدعاية إليه لو أنهم اطلعوا على الفقه الإسلامي لأغناهم ذلك عن كل هذا العناء، يا قومنا أجيبوا داعي الله واحكموا بما أنزل على نبيه، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
إن الإسلام دستور كامل أسعد البشرية يوم أن استظلت بظلاله، ويسعدها اليوم إن هي التزمت أحكامه وارتضت قضاءه؛ ففيه السياسة والاقتصاد والحرب والسِّلم والسلوك والاجتماع والروح والمادة وجميع ما يحتاج إليه بنو الإنسان في حياتهم، إن الإسلام من وضع خالق البشر، العليم بما يصلح شأنهم ويقوّم معوجهم ويسعد جماعتهم، وينهض بهم إلى أسمى درجات السعادة والرقي؛ لذلك أودعه كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . ولله درّ القائل:
وتبددت بجيوشها الظلماء
بالمصطفى الهادي تألق صبحنا
وعلى الأمور يسيطر الجهلاء
قد جاء والإلحاد في طغيانه
فيها لمن يبغي العلاج شفاء
فأقام بالتوحيد أعظم ملة
هي للوجود الكوكب الوضاء
وهي للحياة سدادا ورشادها
هي في الهجير الروضة الغناء
هي للشعوب بلا سم لجراحها
وبغيثه جدب الحياة رخاء
دستورها القرآن فاض هداية
للمسلمين العزة الشماء
في هرم الزمان ولم يزل في هديه
يا قومنا اضربوا على أيدي المتطرفين الملحدين الذين يدينون بالشيوعية؛ فإنهم في جسم الأمة الإسلامية كالسرطان، يهدمون كيانها ويقوضون كل مقوماتها، ولا تربطهم بفرد فيها رابطة من خلق أو دين؛ إذ الرابطة بينهم هي مبادئ الشيوعية فقط دون غيرها من روابط اجتماعية أو أسرية أو روحية أو قومية أو وطنية، بمعنى أن الشيوعي في مشرق الأرض أولى بالشيوعي في مغربها من أمه وأبيه أو ابنه وأخيه؛ فكل القيم منهارة في نظر الشيوعي أمام عقيدته التي يبذل في سبيلها كل شيء، فهل يصح ونحن نؤمن بالله وبرسوله أن ندع الخطر يستشري ونحن سكوت زاعمين أننا لن نمكنهم من الوصول إلى مركز القيادة والسلطة، فهذا لا يعفينا من المسئولية، وإلا كان مثلُنا كمثل من أرادوا خرق السفينة ليصلوا إلى الماء دون عناء فإن تركهم من هم في أعلاها غرقوا جميعا وإن منعوهم سلموا جميعا، فنحن إن وقفنا عند هذا الوضع السلبي كان ذلك أخذا للأمور الخطرة بسهولة لا توائم بعض ما يجب أن تؤخذ به من الاهتمام والجدّ.
يا قومنا إن الأمر جدّ خطير؛ فالشيوعية بلاء ومحنة، وهي - كما سبق أن قلت -كالسرطان يعايش الإنسان زمنا طويلا، ولا يظهر له خطر ولا يبدو منه أذى، حتى إذا ما اكتملت قدرته على الهجوم وشرست استطاعته على الفتك انقضّ عاتيا لا يرحم، جبارا لا يتفاهم، كل همه الوصول إلى غايته والحصول على مأربه مهما شرّد أو قتل أو هدم أو دمّر؛ لأن الغاية عنده تبرر الوسيلة، وهل يوجد أحطّ مستوى ممن يبيح لنفسه الخداع والكذب والتضليل والتمويه، بل يجعلها من مبادئه وأخلاقه ما دامت تصل به إلى مقاصده وأهدافه.
يا قوم إن الشيوعية في تقديرها لبعض الأمور وخاصة المعنوية منها أخطر من بعض فصائل الحيوان، وإن ادّعى معتنقوها سموّ إحساسهم ورِقَّة وجدانهم، وإن تباكوا على الإنسانية المعذّبة التي يدعون أنهم يريدون إسعادها، وتخليصها من نير الذل والاستعباد، وتحكم الإقطاع والاستغلال، وجموح رأس المال المستبد الذي لا يعرف رحمة ولا شفقة في نظرهم، إلى غير ذلك من العبارات الخادعة الخلابة التي يخدعون بها الشعوب، ويغشون بها الجماعات، حتى إذا ما وقعت في الفخ الذي نصبوه واحتواها الشرك الذي حاكوه ذاقت من الذل ألوانا يشيب لها الولدان وتضطرب لذكرها الأبدان.
أي سعادة في نظام يجعل إنكار الإله عقيدة، والتناحر بين الطبقات مبدأ، وإشاعة الهلع بين الأفراد طابعا، وخيانة الابن لأبيه والزوجة لزوجها بالتلصص عليهما سلوكا ومنهجا، ثم أي سعادة في هذا النظام الذي يسلب الفرد قسرا ما امتلك بحجة التأميم لصالح الدولة؛ لأنها هي التي يجب أن تملك وسائل الإنتاج ورأس المال، أليس ذلك قتلا لغريزة حب الاقتناء التي هي جزء من مقومات الإنسان التي تدفعه إلى العمل راضيا بما يجد من مشقة وعناء؟ ثم هذا الإنتاج الذي هو ثمار شقاء الطبقات الكادحة المحرومة إلى أين يذهب؟ ومن الذي في خيره ونعيمه يتقلب؟ أليست تلك الفئة الباغية الحاكمة التي تقبض على نواصي الأمور بقبضة من حديد، ولا ترى الشعوب إلا سوط الإرهاب تلوح به في الفضاء بدا ليفي والاستعباد لابسة قفازا من الحرير تخدع الشعوب بملمسه، وهي لا تعرف ما بداخله من ظلم وفساد وعتو واستبداد.
لا تصح المقارنة:
إنه لا تصح المقارنة بين نظام هذا طابعه وتلك المذكورة آنفا أهدافه وغاياته، وبين الإسلام الذي هو في أسمى درجات الرقي بين النظم الاجتماعية التي سعد بها بنو الإنسان؛ فلا استغلال فيه ولا عسر في العمل والإنتاج، إنما عن اقتناع وإيمان يعمل الإنسان في الإسلام؛ لأن له ثمرة ما يعمل، وهو مع ذلك يؤدي ما عليه من واجبات يسهم بها في بناء المجتمع الإسلامي السعيد الذي هو حلية نافعة في جسمه الكبير، وبهذا يعلن الإسلام بين بنيه ما استحق الحياة من عاش لنفسه فقط؛ فهو بذلك يحقق الخير لنفسه ولغيره، فالإسلام بذلك نظام محكم؛ فليس أنانية محضة كما هي الرأسمالية المستقلة، وليس حرمانا محضا كما هي الشيوعية الملحدة، بل هو وسط بين نقيضين؛ فحرّم الرّبا وحثّ على الإنفاق والصدقة بعد تأدية فرض الزكاة "لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع"، قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
فهل يداني هذا النظام قانون ما من القوانين التي تستنها الدول تخفيفا لآلام الفقراء والعاجزين؟ ثم هو لا يجرد الإنسان من الامتلاك بل جعل له ذلك الحق بشرط ألا يعتدي على حق غيره أو يسلبه ماله؛ فإن فعل ذلك فله في الدنيا خزي وعار وفضيحة ونكال، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} .
إن الإسلام عالج مسألة الاقتصاد علاجا لم يسبق إليه، ولن تستطيع دولة ما أن تصل إلى ما وصل إليه من علاج يحقق الرفاهية لأهله والمساواة الصحيحة بين ذويه؛ فنظام الزكاة والكفارات والمغانم وغير ذلك من وجوه البذل يجعل من المسلمين أمة متكافلة بالمعنى الصحيح، وفي الوقت نفسه لا يعوق الإنسان عن الكسب الكريم الشريف، بل يشجعه ويحث عليه، "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
فلا تواكل في الإسلام ولا تعطيل للطاقات ولا مصادرة للأموال والممتلكات؛ لأن كل نظام فيه أقيم على أساس سليم، فكل فرد في الدولة الإسلامية عضو من أعضائها تحسّ به ويحسّ بها وترعاه ويعمل من أجلها، بل يتفانى بحق في سبيلها مدفوعا لذلك بشعور صادق وإيمان عميق؛ لأنه يراها الأم الحانية والراعي الذي لا يدّخر وسعا في سبيل سعادته، بخلاف الشيوعي؛ فهو يعمل ولكن على مضض يعمل، وهو ينتج ولكنه من وجل ينتج، بل في وسط اللهيب وعلى القنا يسير؛ لأنه يرى أن يد البطش القاسية مسلطة عليه، والجاسوسية القذرة متربصة به؛ فهو لا يأمن على نفسه، وليس بمستريح ضميره طول حياته؛ لأنه خدع بألفاظ لم يجد لها مدلولات، وبعبارات لم يلمس لها مفهوما، فهو على يأس يعيش متمنيا ساعة الخلاص، ولكن هيهات هيهات أن تمكنه مما يريد، تلك الشرذمة الطاغية المتسلطة عليه فهي لن تدع له فرصة يتمكن فيها من الفرار من ميدان الذل والاستعباد والتسخير والاستقلال؛ لأنهم يرون ذله عزا لهم، واستعباده سيادة لجماعتهم، ولذلك كثيرا ما نسمع أن أفرادا غافلوا الحراس وفرّوا من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي؛ لأن الحرمان استبدّ بهم واليأس قد سدّ كل طريق أمامهم؛ فوجدوا ألا خلاص إلا بركوب المخاطر والتعرض للهلاك باقتحامهم الأسوار.
هذا من الناحية الاقتصادية التي هي الشغل الشاغل للعالم أجمع، أما ما عدا الناحية الاقتصادية فإن نظاما يقوم على مبدأ الروح والمادة اللذين هما العنصر المكوّن للإنسان لا شكّ أنه يسعد المرء في دنياه وفي أخراه، وهذا ما حقّقه الإسلام لمعتنقيه، بخلاف نظام يقوم على نكران الروح ويجعل الحياة مادة صرفة، وان الشيوعي ما هو إلا قطعة من آلة ما دام تسير فيها الوقود فهي تعمل ولا تفكر وتسير، وحذار أن تلتفت حولها أو تسأل عن شيء بدا لها.
فنظام هذا طابعه لا شكّ يشقى معتنقيه ويجعلهم يرزحون طول حياتهم تحت عبء الهمجية الداعرة والفوضوية التي لا تقرّ نظاما مهذّبا أو دستورا كريما ساميا يرتقي ببني الإنسان عن مستوى الهوام والحيوان، وبذلك اتضح الأمر لذي عينين، وأميط اللثام عن نظامين ومنهجين، أحدهما في أسمى درجات الرفعة والعلو وهو الإسلام، والثاني من أحطّ دركات الحضيض والامتهان، وهو الشيوعية، وتلكم ما هي إلا نظام الإلحاد والكفران.