الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 40
فهرس المحتويات
1-
أهل الكتاب في القرآن الكريم (3) : لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
2-
تعقيب لا تثريب - أتفسير هذا أم تغرير؟! : لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
3-
مع كتاب الله: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
4-
ثمار من غرس النبوة: لفضيلة الشيخ محمد الشال
5-
الوحدة الإسلامية: لمعالي الشيخ محمد المبارك
6-
حضارة الإسلام دعامة أساسية في الحضارة الأوربية: لفضيلة الشيخ محمد أحمد أبو النصر
7-
آراءٌ في البحث: لفضيلة الشيخ عبد الرءوف اللبدي
8-
المرأة في ظلال الإسلام: للدكتور خالد علي كماخي
9-
تعدد الزوجات وحكمه في الإسلام: لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
10-
كيف نكون شاكرين: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
11-
الصولي شاعرًا - دراسة فنية تحليلية لأهم أغراض الشعر عنده: لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
12-
صيغة "فعلان" واستعمالاتها في اللغة العربية (2) : لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
13-
النمل والنحل مملكتان فسبحان الرحمن: لفضيلة الدكتور محمد نغش
14-
الحمامة الحكيمة: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
15-
نظرات في كتاب مع الرعيل الأول: لفضيلة الشيخ محمد سليمان العبده
16-
العالم الإسلامي يتكلم: بقلم الطالب محمد الأمين الشيخ
17-
مختارات من الكتب
18-
مختارات من الصحف
19-
الفتاوى - حُكم الإحداد على الملوك والرؤساء: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
أهل الكتاب في القرآن الكريم (3)
لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
الذين يستجلون إنصاف القرآن لأهل الكتاب -يهود ونصارى- باعتباره الثبت الإلهي الوحيد الذي حفظه الله منذ كان من أن تمتد إليه الأهواء أو تلحقه مفتريات الأعداء، يزدادون بالنظر الموصول في الآيات التي نادتهم "يا أهل الكتاب"والآيات التي أخبرت عنهم بذلك أو باسم "يهود ونصارى"أو بصفاتهم التي تنم عنهم وتدل عليهم، أو بأنهم "أهل الإنجيل"كما تطالع المتأمل لسورة البقرة [1] وآل عمران [2] ، والنساء [3] والمائدة [4] والعنكبوت [5] والأحزاب [6] والحديد [7] والحشر [8] والبينة [9] وغيرها [10] يزدادون يقينا بأن الإسلام هو دين الله ونعمته التي أتمها على المسلمين، وأن القرآن كتاب الله حقا وهو يخاطب الأقوام ويخبر عمن انصف منهم ومن مارى في الحق واعتسف، وآثر هواه على هدى الله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [11]
ولقد عرف الرسول صلوات الله عليه اليهود، وشافههم أول من عرف وشافه من أهل الكتاب بعد أن هاجر إلى المدينة، وكانوا على بينة من أمر نبي يُبْعث في آخر الزمان يعرفون صفاته وتتحرك ألسنتهم بسماته ويعلمون أنه الحق من ربهم، ويتوعدون به وقد حان حينه وتقارب زمانه، غيرهم من مشركي يثرب، ولكن الذين ما حفظوا عهود موسى عليه السلام، والذين جرعوه كئوس الخلاف عن أمره متزعة، والذين لم يحفظوا التوراة التي استحفظوها فحرفوها حتى أُنسوها ووضعوا مكانها من كلام غير الله ما لا تثبت نسبته إلى السماء حجة، ولا يقوم على ذلك بها دليل.. هؤلاء الذين لم يكن حظ عيسى عليه السلام من أحفادهم أطيب من حظوظ من سبقوه، كان أحفادهم أمناء على أحقادهم المورثة ومكايدهم لمن عداهم فشعارهم في كل اتجاه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [12] .
فإنهم يطلقون "الأميين"على كل من ليسوا يهوداً، ويعاملونهم كما يشهد عليهم التلمود وبروتوكولات حكماء صهيون [13] بأحط ما تعامل به الحيوانات.
وفي باب الهجرة من صحيح الإمام البخاري رحمه الله جـ2 ص 230 طبعة الحلبي القاهرة 1372هـ من حديث أنس بن مالك قال "فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم -أي إلى المدينة- جاءه عبد الله بن سلام فقال:
"أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأَعلمُهم وابن أَعلمِهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يَعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يَعلموا أني قد أسلمت قالوا فِيَ ما ليس في.. فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا، فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا معشر اليهود. ويلكم، اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا فقالوا: ما نعلمه، فأعادها صلوات الله عليه ثلاثا عليهم، وهم يجيبونه كذلك، قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمِنا، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاش لله، ما كان ليسلم -وكررها ثلاثا وكرروا ما قالوا- قال صلى الله عليه وسلم: يا ابن سلام أخرج عليهم فخرج فقال:
يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "1هـ.
وفي الصحاح كلها روايات أخرى بزيادات تشهد بطبيعة اليهود، واستمساكهم بباطلهم، ودورانهم حول أنفسهم وأنانيتهم وعبادة ذواتهم، والنظر بعين المَقْتِ لسواهم"ولا أدلَّ على ذلك من حوار رسول صلوات الله وسلامه عليه لهم، وحوار الطب الحبير ابن سلام رضي الله عنه، ذلك الحوار الذي لم يثر فيم مقنعا ولا أدرك من قلوبهم موضعا، وقد لا يكون قرع منهم مسمعا، قال تعالى {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} حتى قال فيهم رب العالمين {إِنَّ شَرَّ الدَّوَاب} الآيتين [14] .
والأيام والليالي تؤكد أن الأبناء على هوى الآباء " ولا تلد الحية إلا الحية "وأنهم في بغيهم وصلفهم وغيهم على قلب رجل واحد، رجل حاقد واحد -سواء في ذلك أحبارهم ورجال دنياهم- وقديما قيل:"من التعذيب تهذيب الذئب، ومن العناء رياضة الهرم"و "شديد عادة منتزعة"إن القوم يملكون اليوم مقاد الإعلام العالمي المجنون، ويتلاعبون بالأفكار، ويتوسلون بكل سبيل إلى استثارة الغرائز واستمالة الأغرار، وإشباع أهواء من يحسبونهم قادرين على خدمة أغراضهم في قيادة العالم، والتصرف في مقدراته كما يشاءون، ويجامعهم في كثير من عدة المكايد من غير اليهود أقوام في نفوسهم كحز المدى على الإسلام والمسلمين، يدخلون معهم تحت عنوان "أهل الكتاب" ويدني بعضهم إلى بعض -إلى حين- فرصة يظنونها تُعِين على التمكين من المسلمين، وبينهم من الخلاف الواغل ما لا يخفى على لبيب، واصطلاحهم الظاهري على ذلك في هذه الأيام، كسحابة الصيف وخيال الطيف لا تلبث الأعين أن تبصرها حتى يدركها الزوال، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [15] .
وما ينبغي أن تستبد بنا الغفلات، أو تستهوينا الشعارات أو يخدعنا عن حقائق الأشياء كلامُ مُنَمَّقٌ تردده كالببغاوات أبواق الشرق، أو حديث مزوقٌ يرسله في مجتمع الإسلام أقوامٌ هم أصداء للغرب وأفكاره وتصوراته ومطامحه وأطماعه، فإن هؤلاء جميعا {هُمُ الْعَدُوّ} [16] الذي ينبغي أن نعرفه ونكشفه في نور الإسلام وضياء الحنفية السمحة التي يظلمها من يقيسها بغيرها.
إذا أنت فضلت امرءاً ذا نباهة
على ناقص، كان المديح من النقص..
إن الرسول قد حاور اليهود وعاهدهم وواثقهم، وواثق من بعدهم غيرهم، فهل أجدى الحوار؟ وهل أغنى عن الجهاد الجاد مع اليهود بخاصة نُبل النبي وفضله؟ الجهاد الذي يسترد الحقوق، وليس منه بحال صراخ الصارخين الذي يُصم الآذان في أماكن وأزمان، وحين تقرع الحجة الحجة، ثم لا ينتصف البرهان، وتفقد الكلمة معناها يكون إباء الرجال متمثلا في القتال، لا في الهمس والدَّس والتآمر في الدروب والأوكار، هو الطريق الذي يحق الله به حقه وينصر جنده، ويحمي أقداسه، ويعزُّ عباده وبلاده.
إذا الحرب حلت ساحة القوم أظهرت
عيوب رجال يعجبونك في الأمن
وللحرب أقوامٌ يذودون دونها
وكم قد ترى من ذي رواءٍ ولا يغنى!
وكنت من أكثر من ثلاثين سنة قد قلت في موقف من مواقف الدعوة إلى الله
إن جرى غيرنا مع الكفر يبغون
سوى الأرض دولة في السماء
وتهنَّوا بقوةٍ مكنتهم
بعض حين من كاهل الضعفاء
واستطالوا بعلمهم وهو منا
نهلوه، وأفحشوا في الجزاء
وسعوا سعيهم ونحن نيام
نتغنى بعزَّة الآباء
أن يكن ذاك شأنهم فعلينا
وزر ما كان، لا على الأعداء
شغلتنا عن الجهاد رءوس
نشأوا في مهاد الاستخذاء
لا يرون الجهاد إلا كلاما
في كلامٍ لا في صفوف الفداء
أي وربي جناية الغرب فينا
دونها من رجالنا هؤلاء
وما أهون الكفاح، وأيسر الجهاد إن كان هو ذلك الذي يضحك الثكالى في أماكن وأزمان!!
_ إن إنعام النظر في آيات سورة البقرة يضعنا أمام حشد طاغ من تعنت اليهود مع الله الذي آتاهم من أنعمه مالم يؤت أحدا من العالمين، ومع ملائكة الله الذين هم بأمره تبارك وتعالى يعملون، ومع أنبيائهم على النحو الذي سنجلوه مرات - إن شاء الله - ومهما اجتهدنا في ذلك فما نحن ببالغين من بيانه المدى الذي بلغوه..
ولا يخطئ الصواب من جعل "أهل الكتاب"مرادين في كلام الله عن الكافرين في صدر سورة البقرة فكلامه عن المنافقين {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وما وراءها من آيات قرر الله فيها أنه: يستهزئ بهم عدلاً وقسطاً لاستهزائهم بالمؤمنين، وآيات ضرب لهم فيها الأمثال على أنهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْي} وأنهم لم ينتفعوا بالحق الذي عرفوه كما لم ينتفع أقوامٌ في المثل الآخر {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ..} الآيتان.. [17] .
و"أهل الكتاب"هم بنو إسرائيل (يعقوب عليه السلام {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [18] ويفد عليَّ من ذاكرتي مثل الفتى الذي قال لأخيه "لأهجونك"فقال له أخوه: كيف تهجوني وأبي أبوك وأمي أمك؟ فأنشد:
أبوك أب حر وأمك حرة
وقد يلد الحراَّن غير نجيب!
وخطاب الله لبني إسرائيل في عهد سيدنا محمد صلوات الله عليه تذكير وتبصير للأبناء بسوالف هبات الله وإحسانه إلى الآباء..
قال ابن الجوزي "المراد من ذكرها أي في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ..} [19] شكرها، "أي إيجاب شكرها، فإن من لم يشكر فما ذكر" [20]
وفي إجماع واع دال لما تكلفت به سورة البقرة من أغراض قال الشيخ رشيد رحمه الله [21] ..
"ثم خص بني إسرائيل بالدعوة تاليا عليهم ما لم يكن يعلمه محمد لولا وحيه تعالى له، فذكرهم بنعمه، وأمرهم أن يؤمنوا بما أنزله على خاتم رسله، ونهاهم أن يكون المعاصرون له منهم أول كافر به، وحاجَّهم في الدين بتذكيرهم بأيام الله، وبأهم الوقائع التي كانت لسلفهم مع كليمه، من كفر وإيمان وطاعة وعصيان ثم بالتذكير لهم وللعرب بهدى جدهم إبراهيم الخليل، وبنائه لبيت الله الحرام، مع ولده إسماعيل، ودعائهما إياه تعالى أن يبعث في الأميين رسولا منهم، وبأن علماءهم يعرفون أن محمدا هو الرسول الذي دعا به إبراهيم وبشر به موسى -كما يعرفون أبناءهم-، وبأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون، أي والفريق الآخر يؤمنون به، ويعترفون بوعد الله لإبراهيم ثم لموسى بقيام نبي من أبناء إخوتهم مثله".
ويردف الشيخ رشيد قائلا: "بدئ هذا السياق بالآية 40 من السورة؟ {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
…
الخ} وانتهى بالآية 142 منها [22] وتخلله بعض الآيات الموجهة للمؤمنين للاعتبار بما فيه من شئون أهل الكتاب السابقين والحاضرين من اليهود بالتفضيل، ومن النصارى بالإجمال، إذ لم يكن أحد منهم -أي من النصارى- مجاورا ولا مخالطا للمسلمين في تلك الحال، فإن نزول البقرة كان في أول عهد الهجرة، وما تقدم يناهز نصف السورة وهو شطرها الخاص بأمة الدعوة
…
"1هـ.
لكن الشيخ محمد عبده رحمه الله يضيف لهذا الكلام الجليل إضافات جزيلة الفائدة نلحقها بهذا الكلام إتماما للموضوع في هذا السياق وإجابة على سؤال قد يعرض وهو: لم أعطى الله كل هذا الاهتمام لبني إسرائيل؟! قال الشيخ رشيد: [23] قال شيخنا في سياق درسه ما مثاله:".
"اختص بني إسرائيل بالخطاب اهتماما بهم لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية، والمؤمنة بالأنبياء المعروفين، ولأنهم كانوا أشد الناس على المؤمنين [24] " ولأن في دخولهم في الإسلام من الحجة على النصارى وغيرهم أقوى مما في دخول النصارى من الحجة عليهم، وهذه النعمة التي أطلقها في التذكير لعظم شأنها هي نعمة جعل النبوة فيهم.. ولذلك كانوا يسمون شعب الله -كما في كتبهم- وفي القرآن أن الله اصطفاهم وفضلهم.. ولا شك أن هذه المنقبة نعمة عظيمة من الله، منحهم إياها بفضله ورحمته فكانوا بها مفضلين على العالمين من الأمم والشعوب، وكان الواجب عليهم أن يكونوا أكثر الناس شكرا، وأشدهم بنعمته ذكرا، وذلك بأن يؤمنوا بكل نبي يرسله لهدايتهم، ولكنهم جعلوا النعمة حجة الإعراض عن الإيمان، وسبب إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام لأنهم زعموا أن فضل الله تعالى محصورٌ فيهم، وأنه لا يبعث نبياً إلا منهم، ولذلك بدأ الله تعالى خطابهم بالتذكير بنعمته وقفَّي عليه الأمر بالوفاء بعهده"1هـ.
وحتى نبلغ هذه الآية إن شاء الله وما بعدها نتساءل: هل تغير إلى الأحسن أهل الكتاب من اليهود فحفظوا العهود وأنجزوا الوعود، وانطفأت فيهم جذوة الأنانية، وصاروا شيئاً آخر غير أصولهم الذين قال الله فيهم {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [25] .
إلى لقاء
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
البقرة في آيتي 105، 109 عدا الآيات التي سماهم فيها باليهود والنصارى أو وصفهم بها.
[2]
_ آل عمران في اثنتي عشرة آية من 64 _ 199.
[3]
_ النساء في أربعة آيات من 133 _ 171.
[4]
_ المائدة في ست آيات والسابعة خطاب لأهل الإنجيل من 15 _ 77.
[5]
_ العنكبوت في الآية 46 وفيها الرفق في خطاب خيارهم.
[6]
_ الأحزاب الآية 16.
[7]
_ الحديد /26.
[8]
_ الحشر / 2، 11.
[9]
_ البينة / 1_6.
[10]
_ لم تستقص الآيات التي نودوا فيها بغير أهل الكتاب.
[11]
_ القصص /50.
[12]
_ آل عمران / 75 وسنتناولها بالبيان بعون الله.
[13]
_ التلمود من كتبهم المقدسة والبروتوكولات نشر الأستاذ محمد خليفة التونسي.
[14]
_ سورة الأنفال / 21 _ 23.
[15]
_ ص /88.
[16]
_ المنافقون /4.
[17]
_ الآيات الثلاثة عشرة من 8 _ 20.
[18]
_ فاطر /18.
[19]
_ الآية /40.
[20]
_ زاد السير جـ1 ص73.
[21]
_ تفسير المنار ص 106، 107.
[22]
_ وهي قوله تعالى {سَيَقُولُ السُّفَهَاء.. الخ} وسنعرض لها إن شاء الله عما قليل.
[23]
_ جـ1 من تفسير المنار ص289 وما بعدها.
[24]
_ أن شدتهم على المؤمنين من جهتين: مكايدهم وسوء مكرهم بهم، والثانية وهي أشد وأمعن لأنهم عرفوا الحق وعادوه وافتروا عليه الأكاذيب _ الكاتب.
[25]
_ البقرة /100.
كيف نكون شاكرين
لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
كيف نكون شاكرين؟ ولكي نعرف كيف نكون شاكرين بما أمر الله سبحانه في قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، يجب أن نعرف أولا ما هو الشكر الذي لا يصح أن نشكر الله إلا به، فلقد فهم الكثير الشكر على أنه كلمة جهرية أو سرية، يشترك في صوغها اللسان والشفتان، على نحو: نشكر الله، والشكر لله، شكرا لله على نعمه، وفي الغالب لا يرددون مثل هذه الكلمات إلا فيما يسرهم من المناسبات، وحتى الذين زادوا على هذا المستوى في معرفة الشكر، ظنوه ينتهي عندما يمدون به أكفهم الندية من خير، ليشركوا غيرهم معهم فيما أعطوا من فضل الله.
وهم وإن كانوا بالتأكيد أفضل حالا من سابقيهم لما وقوا شح أنفسهم. وغيرهم اكتفى بكلمات ميتة حبيسة الفم، تحمل الشر أكثر مما تحمل الشكر، لما قالوها في سرائهم وتركوها في ضرائهم، والآن أدعو النوعين لنفهم معا أمر الشكر من أصفى ينابيعه، من كلام المشكور نفسه سبحانه، فلقد أكرمني بحب كتابه منذ طلبت العلم، وأعطيت منه قدرا والحمد له، كان المداد لما أقول وأكتب فقد قدم لنا سبحانه الشكر على أنه الإيمان به، وأن غير الشاكر هو الكافر به، كفر بلفظه ومعناه، المتصل بإنكار الله، فلم يجعل سبحانه في القرآن شيئا ضد الشكر إلا صريح الكفر، وإليكم من روضة القرآن هذه القطوف من الأدلة {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تؤمنون، حيث لم يسبق لهم إيمان ليكون الشكر فرعا له، بل إن كفرهم من نوع هو أجرأ ما يكون من مخلوق على خالقه، لما اشترطوا لإيمانهم رؤية ربهم جهرة، وهم يعلمون استحالة ذلك في الدنيا من كتبهم، حيث ادخر رؤيته في الآخرة لتكون قمة العز لمن آمن به بالغيب، فرد على مطلبهم بأن أراهم نفسه في بأسه، لما صعق جموعهم في لحظة، وأراهم نفسه في قدرته، لما أعادهم إلى الدنيا من جديد، ثم قال لهم:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لعلكم بما فعلت بكم تؤمنون بي، وقوله تعالى مخاطبا عباده {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} فهذه الآية القصيرة لم تضم إلا أربع كلمات ما أعجبها، اذكروني بالإيمان والطاعة، أذكركم بالأجر والمثوبة، واذكروني بهذا الوصف، فإن لم تفعلوه فأنتم تكفرون، وقوله تعالى:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} فالكلمتان، شكرتم وآمنتم، معناهما ينتهي عند الثانية وهو الإيمان، إن أدركتم الشكر بالفكر،
وأعلنتم الإيمان بالذكر، فلا يُفْعل بكم عذاب، وغير ذلك كافر يقع به العذاب، ومعلوم أننا ما قصدنا التفسير بالتفصيل، وإنما نأخذ من الآيات الكريمة ما نثبت به حقيقة الشكر، وهو أنه الإيمان كله الذي لا يتجزأ، وأن عكسه الكفر الذي لا يتجزأ أيضا، وحكاية القرآن عن يوسف عليه السلام، عندما لم يمنعه شعور السجين المظلوم عن تعريف من في السجن حقيقة الشكر، حيث يقول بوحي ربه مخاطبا صاحبي السجن الكافرين {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} ، فكلمة يشكرون، جاءت في نهاية حديث وجه إلى كافرين، أو مشركين بإشارة واضحة في الآية الثانية، وأنه قال لهما: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون، ويشير إلى نفسه عليه السلام بقوله:"ذلك من فضل الله علينا" أي نحن الأنبياء _ لم أوحى الله بالإيمان"، (وعلى الناس) لما أمرنا بتبليغ هذا الإيمان إليهم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} لا يؤمنون بما أبلغناهم به، وقوله تعالى على لسان نبيه سليمان عليه السلام، لما أرى عرش بلقيس مستقرا عنده في أقل من رمشة الجفن {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟} فهو هنا عليه السلام وهو الرَّبيُّ المعلم بالوحي، وضع صريح الكفر إن لم يقع الشكر، فلم تذهله صنعة سرير بلقيس عن ذكر القدرة التي حملته إليه بهذه السرعة، ليس محمولا على طائرة أسرع من الصوت ولا على صاروخ، وإنما في الزمن الذي تستغرقه كلمة (كن) ، وقدرت الآية هذا الزمن بأنه لا يوازي طرفة العين وإنما أقل {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ، ثم تنتهي
الآية بتأكيد حقيقة الشكر على نفس الألفاظ والمعاني السابقة بقوله {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} . فسليمان عليه السلام بعد أن كرر هنا مفهوم الشكر، غلبت عليه صفته الأصلية، وهي أنه رسول مبلغ لحكم لله، ومن ذلك، ما هو مقرر عند الله لكل من الشاكر والكافر كما ذكرت الآية، وهذا الحكم في أمر الشكر الذي أجراه الله على لسان سليمان، وهو أن الشكر أصل وليس فرعا، بل هو أصل الأصول كما أثبت وما سأثبت، لأن المشكور سبحانه إما أن يُعرف بنعمه فيعبد ويوحد، وإما أن تكفر نعمه فيجحد، أقول إن هذا التفهيم الذي أنطق الله به نبيه سليمان، هو بعينه مع حكيم الله لقمان {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
فانظروا إلى تعريف معنى الحكمة، وهي الموصوفة من ربها سبحانه بأنها خير كثير {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا} حيث شملت خيرية الحكمة بكل كثرتها كلمة {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} فيصبح المعنى، ولقد منحنا لقمان الحكمة، ولكي يعرفها قلنا له: هي شكر الله، ثم يكمل ليؤكد، بأن الشكر بعد أن فهم ليس ضده إلا الكفر، وليس مجرد معصية {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِه وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ونزيد من تعليم ربنا لنا عن حقيقة شكره، يقول سبحانه:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فالآية هنا هذه المرة، بدأت بالكفر ليعرف أنه مقصود بحرفيته ومعنويته ليضاد الشكر، ولا يقبل هنا تأويل بغير ذلك، فكلمة الكفر هنا يستمسك اللفظ فيها بالمعنى لا انفصام لهما، والدليل قوله في نفس الآية:{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ثم تأتي كلمة الشكر بعد ذلك تحمل كل الإيمان بجذره وفرعه، لتكون كفئا لمحق كلمة الكفر بكل دنسها، فهو لا يرضى لعباده الكفر لأن ما أعد للكافرين لا يرضيهم ويرضى لعباده الشكر لأن ما أعد للشاكرين سيرضيهم، وفي نهاية هذا الجزء من المحاضرة أتصور تساؤلين، أحدهما: ألا يجوز أن ندخل فيما أوضحنا جواز اعتبار الكفر المقصود فيها أيضا، هو كفر بالنعمة وليس كفراً بالمنعم؟ ومع أنني سأفرد جزءا كاملا من المحاضرة سيأتي بعد إن شاء الله، أفصل فيه الجواب عن ذلك، إلا أنني خشيت أن يعيش معي البعض الآن بشتات فكر، حيث سمع وربما لأول مرة ومن كتاب الله، أن الشكر هو مجموع الإيمان كله، وأن عدمه هو مجموع الكفر كله، ولا وسط بينهما، أقدم الآن مُسكَّناً حتى يتم العلاج بكامله بإذن الله، فأقرر بأنه لا يجوز أبدا أن ندخل فيما ذكرنا إمكان الكفر بالنعمة وليس بالمنعم، لأن التفريق بين المنعم ونعمته
محال، بل هو زيادة في الكفر، فالله لا يبعض، فهو بذاته وصفاته وأفعاله واحد له المثل الأعلى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} وما قاله سبحانه في سورة الإنسان، هو تتمة مشبعة لما سبق من أدلة، {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} ، هديناه السبيل بيناه له، والإنسان إزاء هذا التبيان إن قَدَرَ حق ربه كان شاكرا، وإن أنكر كان كافرا، وليس في الآية معنى ثالث، لا بالعبارة ولا بالإشارة، ولقد جاءت الآية هنا بشيء يؤكد ما قلت، وهو أنها بالغت في الكفر ولم تبالغ في الشكر، فذكرت الشكر بصيغة اسم الفاعل وذكرت الكفر بصيغة المبالغة، فلمجرد أنه أبى أن يكون شاكرا، أصبح كفورا مبالغا {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} .
ومن هذا الذي ذكرناه يفترض التساؤل الثاني، هل إذا شكرتُ بمعنى آمنت بالمشكور سبحانه، وأقمت له أركان الشكر بما أمر ونهى، وجاء يوم رزقت فيه مالا أو عيالا أو شيئا قرت به عيني، ولكن حدث أني ما شكرت في هذه المناسبة أفأكون قد كفرت؟ أقول لك مستحيل أن يقول أحد بهذا التفكير، فقط لك حكم سيأتي في خلال المحاضرة أيضا إن شاء الله تعالى.
هل لنا أن نعرف، إن كان الحمد والشكر لفظين مترادفين لمعنى واحد؟ أم أن لكل منهما مدلولا خاصا به؟ ظاهر الأمر أن مفهومها واحد، وأن البعض ظن ذلك، أو قال به، وأنا لا أظن ذلك ولا أقول به، وإنما بينهما أكثر من فرق، وهذه حجتي إليكم، فالحمد لفظ ينتهي مدلوله عند مرحلتين، الاعتقاد بالقلب والإقرار بالقول، والشكر يشترك معه فيهما ويزيد الإلزام بالعمل، فمن الحمد قال الله سبحانه:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدا} {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} ، وعن الشكر قال:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} ، فقد سأل الله تعالى أن يعينه على شكره بالعمل الصالح الذي يرضاه، بل فهمها من هو أفضل من سليمان. وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرت آية آل داود إلا أن فيها أمر تنفيذ الشكر مذكورٌ بلفظ العمل الصريح، وليس معاذ الله عدم تقدير مني لدرجات الأنبياء، فرسولنا صلوات الله عليه قال لربه:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، أي كن من الشاكرين بأن تعبد، وليس فقط بأن تقول، وراح الرسول يفسرها بالعمل حتى تورمت قدماه، ولما طلبوا منه التهوين على نفسه، أجاب بنفس الاشتقاق الصادر إليه:"أفلا أكون عبدا شكورا؟ "، ولكن كان عندما يتكلم يبدأ قوله بكلمة الحمد، وما علم عنه صلى الله عليه وسلم أنه بدأ قوله بكلمة الشكر، فهو قد جعل الاعتراف بالحمد قولا، وجعل الاعتراف بالشكر يتعدى إلى العمل حتى تورمت قدماه {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} ، فالعمل الصالح في الآية هو الشكر على الأكل من الطيبات، ولأن الحمد قول فقط أيضا، نقول في الصلاة سمع الله لمن حمده، ولا يجوز (رأى الله لمن حمد) ، لأن القول يسمع، والعمل يرى، ولهذا قال سبحانه لموسى
وأخيه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، أسمع ما يقال، ورأى ما يعمل، ويقول لنا المفسرون عن كل كلمات الحمد التي بدئت بها سور أو آيات، ولم يذكر قبلها القول صريحا، أن يذكر قبلها تقديرا {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قل أو قولوا: الحمد لله رب العالمين {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} قولوا: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض إلى آخر الآية {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ} أي قولوا: الحمد لله، وهكذا بقية الآيات التي من هذا النوع، فآيات ذكر فيها لفظ القول، وآيات للقياس عليها، وفرق آخر بين الشكر والحمد، وهو أن الشكر بالنسبة للإنسان ألزم من الحمد، لأن الشكر عمل كما أوضحنا، والحمد قول كما أوضحنا أيضا، والعمل للإنسان أجلّ {آمَنُوا وَعَمِلُوا} {وَقُلِ اعْمَلُوا} {ِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} ولم يبلغ القول في القرآن إلى مستوى العمل أبدا، فالكثيرون يدعون صحة الاعتقاد، وإن يقولوا تسمع لقولهم تجده يخالف نهائيا ما ادعوه، والكثيرون يقولون، ولو حقا، ومن القول الحق ترديد كلمتي الحمد والشكر، ولكن الصعوبة في تحويل صحة الاعتقاد وحسن القول إلى عمل، وتحريك الجوارح لتكون آلة بشرية تنتفع وتنفع، أذكر وأنا في تجوالي في بعض البلاد الإسلامية، ركبت سيارة أجرة، وفيها أربعة بالسائق من أهل البلد الذي كنت فيه، وبعد أن تحركت السيارة صاح أحدهم بكلمة: الحمد لله، وردد الباقون جميعا وراءه، وكنا في نهار رمضان، فقلت لعلها صحبة طيبة جمعها الله على حمده، لعونه لهم على صيام شهره، وما لبث أحدهم أن أخرج من جيبه علبة الدخان وأشعل سيجارة، وربما هو الذي صاح فيهم بكلمة الحمد، وكما رددوها جميعا وراءه، تبعوا جميعا في إشعال سجائرهم،
وبالتأكيد ما كانوا جميعا يهودا ولا نصارى، لأن البلد إسلامي والدين الرسمي فيها هو الإسلام، بل انبرى أحدهم وهو أضخمهم طولا وعرضا، يعيب على رمضان لأن أيامه طالت أكثر من اللازم، قال ذلك وهو يجر نارا من سيجارته جرعات يملأ بها بطنه، ورمضان لم يتعبه صومه ولم يمنعه من أن يتكيف، وكان لابد أن يحدث بيني وبينهم ما شاء الله أن يحدث، فهؤلاء سهل عليهم قول الحمد في رمضان، وثقل عليهم تحويله إلى صوم رمضان، وهو العمل ليحصل به الشكر {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} ولهذا كان المتلفَّظون بالحمد كثيرين، من نوع من كانوا معي في السيارة، وكان العاملون بالشكر قليلين، بقوله تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وقوله {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} ، وقيل إن عمر رضي الله عنه سمع رجلا يكثر من قوله:"اللهم احشرني مع القليل، فسأله عن هذا القليل، فقال الرجل: أما سمعت قوله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ، فسر عمر بها واستعملها لنفسه، ونقدم ما يزيد علمنا بأن عمل الشكر زاد عن قول الحمد، أن الله تعالى لما جعل الشكر من عباده أساسَ عبادته المباشرة، من صلاة وصوم ونحوهما، جعل أيضا شكرهم لبعضهم عبادة له تزيد من أجرهم، فقد أمر سبحانه العبد أن يشكر لوالديه {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك} فشكر الله عبادته، وشكْرُ الوالدين برُّهُما، وكلاهما عمل بل فاض أمر الشكر حتى زاد عن الوالدين إلى التعامل مع كل الناس، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله"، وشكر الناس أن تقابل إحسانهم بمثله، إن كان قولة أو فعلة، لأن مبدأ الشكر الاعتراف بالفضل لأهله، فإن وجد ذلك كان لله ثم لعباده، وإن عُدِم فليس لله ولا لعباده ومعلوم من غير توضيح أن شكر الوالدين وشكر الناس جزء من شكره سبحانه وحده، فمستحيل
الفهم على الظاهر هنا بأن يكون له شكر ولغيره شكر آخر، لأن أحدهم سألني عن هذا يوما. وفرق ثالث بين الشكر والحمد يصبح الحمد فيه هو المستمر بلا انتهاء، ويكون الشكر فيه هو المنتهي، ذلك أن الشكر وقد فهمناه على أنه عمل، سينتهي مع الناس بنهاية الدنيا، حيث لا عمل للناس في الآخرة، ولكن ثواب وعقاب، أما الحمد فهو قول قدسي قيل في الدنيا، ثم عبر حاجز فنائها ليبقى في الآخرة، وليقال من جديد بلا حدود، من أفواه لم تكلح وجوهها بلفحة نار، ولم تشوه بماء كالمهل، وإنما هي وجوه نضرة النعيم، فلم يكن يومها أعظم من كلمة الحمد يثنون بها على المحمود وحده، بما ذكر القرآن عنهم {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وآخر ثنائهم قولهم: الحمد لله رب العالمين، وفي آية أخرى {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} مجرد مساس من التعب لا يقع لنا فيها وفي آخر سورة الزمر ينقل القرآن حديثهم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} . إلى أن تُختم السورة بقوله سبحانه {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
أما العباد الشاكرون وقد انقطع عملهم بترك الدنيا، فإنهم هم الذين سيشكرون من ربهم في الآخرة بالأجر الذي سيظلون أبدا يحمدونه من أجله، لما يقول لهم سبحانه بعد أن يستقروا في نعيمهم:{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} ، وأظنه قد وضح لكم تماما، أني ما قصدت المفاضلة بين الحمد والشكر، فكلاهما لا غنى للمؤمن عنهما يصرفهما إلى الله وحده وإنما قصدت توضيح أمر علمي على النحو التالي: أن نحمد ونشكر بالقلب والقول، وأن نخص الشكر بالعمل لأنه الإلزام للعبد، وبانتهاء شكرنا في الدنيا يستأنف الشكر لنا من الله بسخاء عطائه، ومن أجل هذا العطاء يستأنف الحمد منا له أبدا الآبدين، إن شاء الله، فلعلنا نعرف اليوم كيف نكون شاكرين، عسى أن نكون يومها من الحامدين.
ومجال الشاكر في الدنيا قبل الآخرة، إذا قام بالشكر على الصورة التي أوضحناها فإن أسرع ما يجمع الحسنتين في الدارين هو الشكر، وحسبنا عن الشاكر في الآخرة، أنه سيتحول من شاكر لربه إلى مشكور منه، يُسمعه كلمة الشكر ويغمره بالأجر، أما في الدنيا ونحن الآن فيها، فلا مانع أن يرجو الشاكر أجره الدنيوي أيضا، وإن عينه لتقر عندما يسمع هذا العهد يأخذه على نفسه مَنْ مَلَك الوفاء كله عندما قال سبحانه:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} قد أعلن مقسما بزيادة الشاكر، أما بقية الآية {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، فقد جعلت لها حديثا منفصلا يلي هذا إن شاء الله، لأن نصف الآية تحدث عن الشاكر، ونصفها الآخر تحدث عن الناكر، {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} ، ولكل حال مقال كما يقولون، أما الآن فحديثنا عن الشطر الأول من الآية الذي وعد الله فيه بالزيادة لمن يشكر، وفهمها البعض على أنها زيادة وقفت عند ظاهر التعبير على أنه شكر وقع وقوبل بزيادة ما، ولكن المعنى هنا مستمر لا يقف، أي كلما زاد الشكر زاد القدر، بلا توقف ولا كم معين، وفي ذلك يقول عالم الصحابة عليٌّ رضي الله عنه:"إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر معلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله، حتى ينقطع الشكر من العبد"، ثم إنه لا يطلب منا أن نوفي الله على كل نعمه، فكل نعَمِه يستحيل إحصاؤها من جهة، ومن أخرى فإننا مهما بلغ منا الشكر فلن نوفيه حقه في واحدة منها، ولكن نعم الله على العباد في هذه الدنيا أجملت أساسا في قسمين، قسم روحي، وقسم مادي، فقسم الروح لما يمن على الإنسان بالإيمان به، وهو منة المنن بلا شك {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} ، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} ، ومع عظم ما هديت إليه من نعمة الإيمان، فإنها في حاجة
إلى زيادة دائمة من واهبها إذا شكرته عليها بصورة دائمة أيضا، وهذا داخل في معنى الزيادة التي ذكرتها الآية، فكلما شكرته على الإيمان بعمل الطاعات، كلما رفع درجة إيمانك وقربك إليه، والعكس يقع كما سنوضح بعد في الشطر الثاني من الآية إن شاء الله، والقسم المادي من النعم هو ما تحسن وتطيب به دنيا الإنسان، من مال وولد وصحة بدن ومنصب وما إلى ذلك، والشكر على هذا النوع لا يقل عن شكر النوع الأول، فالمنعم واحد والمشكور واحد، والصفوة الممتازة وهم رسل الله، مع علمهم بأن الله أتم عليهم نهائيا نعمته، كانوا من أكثر خلقه شكرا على نعمه المادية الدنيوية هذه، ليبقيها لهم ويزيدهم منها، فهم أعرف الناس بأنه لا يجوز أن يؤمن مكرٌ الله، ولذلك أثنى عليهم بصريح المديح من ربهم، فمثلا إبراهيم عليه السلام مدحه ربه بقوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} ، فهو قد حمد بالقول لما وهب إسماعيل وإسحاق، وشكر بالفعل لما أكرم أضيافه بالعجل السمين الحنيذ، المشوي، فلم يقدم تيسا ولا كبشا وكان عنده من ذلك الكثير، وإنما شكر على أعلى مستوى مما أعطاه، ونوح عليه السلام، وهو من أمثلة المديح الإلهي للشاكرين، لما قال عنه ربه {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} ، قيل إنه بالغ في الشكر، فبالغ الله له في صفته {وكَانَ عَبْداً شَكُوراً} ، ومن أمثلة مبالغته في شكر ربه، ما ذكروا من أنه ما مس شيئا قط ولا مسه شيء قط، إلا شكر الله عليه، وأنه إذا سكت عن ذلك أثناء الغائط يقول فور خروجه منه:"الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ منفعته، وأذهب عني ضره"، لكن نعم الله الدينوية على عباده أنواع شتى، يميز كل عبد منها بنوع أو أكثر، ومن هنا يكون شكر المنعم عليه من نوع ما أوتي، فالحاكم مثلا وهو أكثر الناس حظا في الدنيا، شكره محدد بأمر لا
يجوز له سواه، وهو تحويل ما في المصحف إلى تنفيذ تام على نفسه وعلى قومه، فهو سلطان الله في أرضه كما وصف عمر رضي الله عنه نفسه بذلك، وصاحب عافية البدن شكره الإكثار من العبادة وعون العاجز والكليل، وصاحب الوظيفة أو المنصب الرفيع شكره الإخلاص وخدمة الناس، وصاحب السعة في الرزق شكره عدم قبض يده لتظل العليا وليست السفلى، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله "بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض، فسمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحابُ فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج (قناة الماء) قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له يا عبد الله لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هنا ماؤه، يقول: اسق حديقة فلانٍ لاسمك، فما تصنع فيها؟، فقال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثه"، رواه الإمام مسلم، فانظروا إلى قدر الشكر عند الله، يسخر سحابة كاملة لعبد شاكر، ويعين لها الاسم، فتطيع وتطير بمائها وتلقيه حيث أُمِرَتْ، على أن نوعا من الناس لم يعط من مادة الدنيا ما يمده للغير على نحو ما ضربنا من الأمثال، فهو ليس بحاكم، أو به علة منغصة، أو قدر عليه رزقه، فالأول لا يحبك انقلابا لمجرد أن يحكم هو، فقد يمسي مقتولا أو مسجونا، وصاحب العلة المنغصة يغدو بها ويروح، لا يحسد الصحيح، فهو خير ممن ألزمته علته الأرض حتى غدا لا هو حي ولا هو ميت، ومن لا يملك إلا قوت العيال، فلا يحسد ذا المال، فهو خير ممن اضطر أن يتكفف الناس، فهؤلاء وأشباههم شكرهم مداومة النظر إلى من تحتهم فيطمئنون إلى أنهم أحسن كثيرا من غيرهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يوجهنا بجميل قوله بروايتين للبخاري ومسلم، الأول يقول: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل
عليه بالمال، والخَلْق، فلينظر إلى من هو أسفل منه، ممن فُضَّل عليه"، ورواية مسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم"فالذي شكر بهذا التوجيه، وفهم الهدي النبوي منه، يعيش قرير النفس هادئ الفؤاد وَوُهب حب الخير للخلق، ونزع منه الغل للغير وارتفع بعز القناعة، ونعود إلى السؤال الذي افترضته ووعدت بالجواب عنه في موضعه، وهو، هل إذا شكرت بمعنى آمنت بالمشكور سبحانه، وأقمت له أركان الشكر بما أمر ونهى، وجاء يوم ورزقت فيه خيرا ما، وحدث أني في هذه المناسبة ما شكرت، أفأكون قد كفرت؟ نقول لك: لا، لأن عدم شكرك هنا ليس من العمل العمد المتصل بإنكار المشكور سبحانه، فكما لم تشكر اليوم قد تشكر غدا، لكن إذا شكرت في الكثير، وفي غير ذلك قلَّلَ الشيطان النعمة في عينك دون أن تجحد المنعِم، فحكمك حكم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا، عسى الله أن يتوب عليك فلا يعاقبك في الدنيا بزوال النعمة، وفي الآخرة بسؤالك عنها.
والآن نريد أن نعرف ما إذا كان الكفر بالنعمة غير الكفر بالمنعم، وهو الأمر الذي قلت إني سأفصله بعد، ودعامة الحديث فيه هو الشطر الثاني من الآية {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، فالكفر هنا الذي أعد الله له العذاب الشديد هو الكفر بالنعمة، المضادُ لقوله تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} فهل العذابُ الموصوفُ في الآية بالشدة، والمعلنُ بالقسم منه سبحانه، يمكن ألا يعد إلا للكافر الذي ذكرته الآية هذه، أو من نوعه في قوله تعالى {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} فالكفر بالنعمة يقتضي الكفر بالمنعم، فلا عقل ولا نقل يختلف في هذا أبدا، ولنسمع هذا المثل النازل من السماء، في أمر صاحب الجنتين اللتين آتت كلتاهما أكلها ولم تظلم منه شيئا، فصورة كفره بهذه النعمة الكثيرة في قوله لزميله الشاكر بقليله وما في القرآن من حكايتهما {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} إلى آخر الآيات، فهو لم يشكر النعمة التي ظن أنها لن تبيد، وجره الظن بذلك إلى الظن بعدم قيام الساعة، التي سمع أنها ستبيد الدنيا ومنها حدائقه الواسعة، فلا شيء يُبيدُ بساتينه أو يُغيضُ ماء نهره، ومع أن كلمة الكفر لا وجود لها من هذا الجاحد في كلمات الآية، إلا أن صاحبه وصمه بها على الفور، فلم ينقله من الكفر بالنعمة إلى الكفر بخالقها، وإنما طبعه مباشرة بالكفر بالخالق، عندما قال له:{أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ؟} إلى أن أعلنت الآية إبادة ما ظن أنه لن يبيد، {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} ، وهكذا بعد الفوات، علم بأن عدم شكره أدى إلى شركه، ومن أمثلة
القرآن أيضا نقدم قصة السَّبَئِييَّن: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيل ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} فما طُلب منهم مقابل هذا العطاء العظيم إلا أن يأكلوا ويشكروا، فما أرهقوا بخراج ولا أثقلوا بمغرم، فعن الأكل أكلوا، وعن الشكر أعرضوا، فجوزوا بالعقاب الرهيب الذي ذكرته الآية، فهم أيضا لم يعلنوا كفرهم بربهم، وإنما كفروا بنعمته لما أعرضوا عن شكرها، فغرقوا في مستنقع الكفر بالله إلى رءوسهم كإغراق سيل العرم لزرعهم، ويقرر ذلك باستفهام التقرير مع حصر المعنى بأن جزاءه هذا لا يقع إلا للكافر والمبالغ فيه {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} ، وغير هذا من وقائع كثيرة مذكورة في القرآن، كقصة القرية التي كفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، وكقوله:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي كفرت نعمتها، وأصحاب الجنة التي أصبحت كالصريم، لما انطلقوا وهم يتخافتون ألا يدخلنها أي مسكين، والذي عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين، فلما آتاه من فضله خان عهد الله ومنع الصدقة، فكان أن طرد من رحمة الله نهائيا، وشبيه بذلك كل مانع للزكاة، إجماع على أنه يقاتل ودمه هدر، والسنة أيضا زاخرة بذلك، فكلكم يعلم بماذا قضى على الأقرع والأبرص، لما أنكرا نعمة الله في حديث الصحيحين المشهور عن الثلاثة، حيث فاز الأعمى بشكره للنعمى، وخسر الآخران بكفرهما بها، وكذا ما روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه بسند صحيح، قوله صلى
الله عليه وسلم: "التحدث بالنعمة شكر، وتركها كفر" ولفظ الحديث بتمامه جميل نسمعه "التحدث بالنعمة شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والجماعة بركة، والفرقة عذاب" إذاً فلنشكر نعمة الله على الفهم الذي قدمناه، وليس فقط بكلمة شكر يخادعون بها، وما يخدعون إلا أنفسهم، ويقدمون لزوال نعمتهم، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم:"اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك" وروى الموقدي والزهري عن عروة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى كسرة ملقاة، فمسحها فقال:"يا عائشة، حَسَّني جِوار نعم الله عز وجل، فإنها قلما نفدت عن أهل بيت، فكادت أن ترجع إليهم"، أو قد تستدرج، بمعنى أن تبقى النعمة وقد تزيد ولو لم تشكر، وذلك في تأويلين بمعنى واحد لقوله تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} ، أحدهما، نُسبغُ عليهم نعمنا ونمنعُهم شكرنا، والثاني: كلما أحدثوا ذنبا، أحدثنا لهم نعمة، ليظنوا صواب طريقتهم، فإذا ما جمعوا فأوعوا، جمعوا المال حتى امتلأت به أوعيتهم، وليس كما استعمل البعض الآية في غير معناها _ وماتوا وتركوها بخلابها وكنزهم لها، فهؤلاء داخلون في قوله تعالى:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} وأعلم واحد من هذا النوع، كان يخبئ أوعية المال في أماكن خفية لم يخبر عنها أهله، ففاجأه الموت على غرة، وهكذا حرم نفسه وغيره من نعمة الله، فما استفاد منها ولا أفاد، ولا يقولن جاهل بأن الكافر أوفى نعمة من المؤمن في هذه الدنيا، ذلك لأنه ليست له نعمه، وإنما هي عليه نقمة، فمعروف بأن الدنيا جنته أمليت له، ليزداد بها عند الله شقاء. {وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وعندها سيسمعونها مرعبة {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} فليس في موضوعنا هذا الذي اختار التعامل مع دنياه، أما نحن الذين نتعامل مع الله، فقد آثرنا ما يدوم على ما يزول، فهذا جعلنا نرضى بما نُعطى، وعرفْنا شكره على ما أعطى بأنه إفادة الغير، من نوع أو أنواع ما أنعم علينا به، والاشتغالُ بطاعته وعدمُ إغضابه، بهذا نعرف كيف نكون شاكرين، فيبقي لنا النعمة في الدنيا، ويتمها برحمته في الأخرى، ولنحذر العكس فنحرم، أو نستدرج من حيث لا نعلم وقينا شر ذلك، وجُعلنا من الشاكرين.