الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 39
فهرس المحتويات
1-
أهل الكتاب في القرآن الكريم: لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
2-
التكرار في القرآن العظيم: لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
3-
بين القرآن والكتب السماوية - حكم حفظه دونها: لفضيلة الدكتور إبراهيم عبد الحميد سلامية
4-
عالمية الرسالة بين النظرية والتطبيق: لفضيلة الشيخ محمد الغزالي
5-
الدين الحق: لفضيلة الدكتور عبد المنعم حسنين
6-
المصلحة المرسلة محاولة لبسطها ونظرة فيها: لفضيلة الدكتور علي محمد جريشة
7-
الأدلة والبراهين على حرمة التدخين: فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
8-
رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
9-
الحضارة الإسلامية: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
10-
تأملات في كتاب (الله أو الدمار) : لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
11-
المقاومة في الشعر الأندلسي - دراسة تحليلية نقدية: لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي
12-
متى يفيق الغافلون: شعر فضيلة الشيخ: محمد المجذوب
13-
صيغة فعلان واستعمالاتها في اللغة العربية: لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
14-
تسعة أغلاط في خبر صغير
15-
الإسراء وفلسطين ودولة اليهود: لفضيلة الشيخ أسعد بيوض التميمي
16-
من أعماق الكتب
17-
محمد أمين المصري: بقلم الشيخ محمد الصباغ
18-
الصحافة المصرية في قفص الاتهام: عن مجلة (الاعتصام) - القاهرة
19-
رأي في إصلاح أجهزة الإعلام
20-
وصايا صحية: لسعادة الدكتور حسين كامل
21-
إلى أين أيها.. المغرب الحبيب؟
22-
أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
أهل الكتاب في القرآن الكريم
لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
إن الذين يستهدفون جلاء حقيقة إلهية في كتاب الله الكريم، أو إبراز قضية من قضايا السنة المطهرة، يمضون إلى غاياتهم في نور القرآن والسنة، غير ملقين أسماعهم لصيحات باطل تتردد في فترة من فترات الزمان، أو في أي مكان، آخذين ذلك الأدب من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول لمصطفاه.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك القدوة الحسنة لصحبه، حتى قال تعالى فيهم:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} القصص (55) .
وقال في خواتيم سورة الفرقان من صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} الآية (63) .
وقال: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} الآية (72) .
يمضي المسلمون إلى غاياتهم النبيلة لا يزايلون آدابهم التي توارثوها جيلا عن جيل، وقبيلا في أعقاب قبيل، من كتاب ربهم وسنة نبيهم، القولية والعملية على سواء.
((ولو أنهم ردُوا منكر القول وزوره بحجة الحق، وقوة الصدق ما اعتدوا أبدا، ولا جاوزوا مشارع الصواب)) قال تعالى:
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} النساء (114) .
ولكننا نرجو عفو القادر الذي يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.. وهو تعالى يقول.. {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} النساء115.
ولقد قال أحدهم لابن عباس رضي الله عنهما: هل عليَّ من جناح إن آخذت من ظلمني؟! فقال: لا. ثم تلا قوله تعالى:
وإني لأذكر، وكأن ذلك الساعة، أنني كتبت من قرابة ثلاثين عاماً كلمة في مجلة ((نور الإسلام)) التي كانت وما تزال تصدرها إذاعة الوعظ في الأزهر. وكان عنوان الكلمة ((الجامعة الإسلامية.. بعد الجامعة العربية)) وكانت الجامعة العربية وليدة ما تزال في السنة الرابعة من عمرها تقريبا، وكانت الفرحة بقيامها أملا في إمكان جمع الصف الإسلامي وتوحيد أممه وشعوبه في جامعة إسلامية، وكان الجو الذي كتبت فيه بحثي قبيل موسم الحج في ذلك العام، فاسترعيت الانتباه إلى إمكان جمع شتات أمتنا الكبرى التي تجتمع في الصلاة خمس مرات في كل يوم وليلة، وتجتمع في الجمعة تجمعا أكبر، وتجتمع في الأعياد على نحو اظهر وأبهر، وتجتمع في فريضة الحج من كل فج عميق في مهد التوحيد ومنزل الوحي، في عرفات وغيره من مشاهد الفريضة الخاتمة!!
ولم يمضي طويل زمن حتى حمل البريد إلي رسالة أحد القسس من بلدة اسمها صفط الخمّار بمديرية المنيا يومئذ، وهي في صعيد مصر، وتبعد كثيراً عن بور سعيد التي كنت أؤدي فيها آنذاك أمانة الدعوة إلى الله، وفي الرسالة من سخائ م النفوس، وأوغار الصدور، والضيق بالإسلام الكريم ما اجتزئ منه بمجرد الإشارة إليه، ولون الماء من لون الإناء كما يقولون، وصدق الله الذي يعلم من خلق، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} آل عمران/ 118
وحسبي أن أورد هذه العبارة من رسالة القس فهي أخف ما فيها.. قال ((أي جامعة إسلامية تريدها يا شيخ معوض؟! عوضَك الله خيرا في الإسلام)) !!!
ولقد رددت على الرسالة، ولكن العهد حينئذ، ونظام الحكم، وضيق المسئولين بكلمة الإسلام حالت دون نشر ما كتبت وللبحث والرسالة والرد عليها فرص تحين إن شاء الله مقرونة بذكريات ليس إلى نسيانها من سبيل مع قسس كانت تجمعنا بهم صوالح المناسبات، ولا يعلق بالخواطر من أقوالهم وأفعالهم ما يثير ريبة أو يدعو لإنكار، وبور سعيد تذكر ذلك العهد وكم ذكروني به حين كنت بينهم من أيام تجدد عهد الدعوة في ظروف طغت فيها مادية ((المدينة الحرة)) على طبيعة الهدوء التي عرف الناس بها بور سعيد من قديم.
أجل إن ما يتهاوى إلى الأسماع في هذه الأيام من برم تطبيق الشريعة الإسلامية في بعض أقطارها، واستعلان أقوام كانوا منذ قريب يدعون إلى ((وحدة الأمة)) و ((وحدة الكتب الدينية)) التي تملأ خواء الأنفس، وفراغ الأرواح من سلطان الدين والإيمان اللذين هما في المناخ الإسلامي البلسم والشفاء والهدى والضياء، ولا شيء من ذلك في غير كلمة الله الأخيرة.. الإسلام!!
استعلان هؤلاء باستنكارهم لتحكيم الشريعة الإسلامية في برقيات وبحوث ونشرات صفراء.. وإعلان الصوم أياما.. لا إلى الموت كما فعل ويفعل أقوام ـ يكشف عن خبيئة هؤلاء القناع ويسلط النور على ما يصطنعونه حينا بعد حين من كيد وحيلة وخداع، ويضيف جديدا من الشواهد على أن المسلمين وحدهم ـ هم صمام السلام، وألوية الوئام منذ أعطى نبيهم صلوات الله عليه ((أهل الكتاب)) من يهود عهده "لهم ما لنا وعليهم ما علينا.."وما يعنيه قوله "أحب أن يعلم أهل الكتاب أن في ديننا سماحة".
ولا يحسبن أحد أن هذه السماحة تعني الضعف أو المواربة والخداع، كلا وإيم الحق، وليسأل من شاء التاريخ القريب والبعيد،
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
وما يضائل من حرصي على متابعة ما بدأته من بيان ((أهل الكتاب)) في القرآن والسنة أن أدعو من ينصف من ((أهل الكتاب)) إلى استجلاء حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دعوة القوم إلى الإسلام ابتداء بالأهم فما يليه، وباب بعث معاذ إلى اليمن في الصحيحين وفي مسلم بشرح النووي يورد رواية "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم.." الحديث وقد أورد الإمام النووي كلاما للقاضي عياض كأنه الإلهام في هذه الأيام، أو رؤية الغيب من وراء ستر رقيق، قال النووي ((قال القاضي عياض:
وهذا ـ ما يستفاد من الرواية المذكورة يدل على أنهم ـ أهل الكتاب ـ ليسوا عارفين الله، وهو مذهب حذاق المتكلمين في اليهود والنصارى، أنهم غير عارفين الله تعالى، وإن كانوا يعبدونه ويظهرون معرفته، لدلالة العقل عندهم على هذا، وإن كان العقل لا يمنع أن يعرف الله تعالى من كذب رسولا)) .
قال القاضي عياض رحمه الله: ((ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهود، أو أجاز عليه البداء أو أضاف إليه الولد منهم، أو أضاف إليه الصاحبة والولد، وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج من النصارى)) .
((أو وصفه بما لا يليق به، أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه من المجوس والوثنية، فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله، وإن سموه به، إذ ليس موصوفا بصفات الإله الواجبة له)) .
((فإذن ما عرفوا الله سبحانه، فتحقق هذه النكتة، واعتمد عليها. وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا، وبها قطع الكلام أبو عمران الفارسي بين عامة أهل القيروان عند تنازعهم في هذه المسألة)) 1هـ[1] .
وفي القرآن الكريم آيات تنطق بهذا النحو من الفهم بصراحة لا يعتريها شيء من الخفاء أو اللبس، وآيات أخرى تطول بها أعناق طوائف اتَسموا بالإنصاف والبراءة من اللجاج والخلاف والإعتساف، وذهبوا بحظ وافر من الإيمان الواثق والإذعان المطمئن للإسلام وكم نجد اليوم غير أستاذ في جوانب من شرق الدنيا وغربها، قد خلعوا أردية التعصب للباطل، والتشبث بما تواصى به غيرهم لمجرد أنه مواريث أوائلهم، ونظروا في القرآن والسنة بتجرد وصدق في نشدان الحق، فانكشف لهم من خلال الإسلام عقيدة ومنهاج عبادة وسلوك ما صرحوا به ولم يلمحوا، وأعلوا حجته على مأثورهم من معتقدات لا تتماسك أمام النظر السليم والعقل القويم، وهكذا يشق الحق طريقه، ويشرق ويتألق، قاهرا الأوهام وسجف الظلام التي تكتنفه وتعترض بفعل الأقوام مساره.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله – في كتابه أضواء البيان جـ1 ص74 عند تناوله لقول الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} البقرة (131) .
أشار إلى أنه دين الإسلام هنا بقوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام} آل عمران (19) .
وقوله {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران (85) .. ثم علق رحمه الله على قوله تعالى {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى..} البقرة (136) فقال: ((لم يبين هنا ما أوتيه موسى وعيسى ولكنه بينه في مواضع أخرى، وذكر أن ما أوتيه موسى هو التوراة المعبر عنها بالصحف في قوله تعالى {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} الأعلى (19) ، وذلك لقوله {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب} الأنعام (15) –وهو التوراة بالإجماع ((وذكر أن ما أوتيه عيسى هو الإنجيل كما في قوله {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل..} الحديد (27) اهـ، إنها ليد بيضاء للقرآن على ((أهل الكتاب)) وهو يسمي كتبهم، ويعرِّف بها، ويشيد بخصائصها في زمانها، وشهادتها بما أنزل الله من بعد في الكتاب المهيمن والقرآن –ولله ولكتابه المثل الأعلى- هو الشمس التي تشرق بنور ربها، وتعطي الفرصة لغيرها من الأشياء التي تظهر مزاياها وجوانب الحسن فيها، فيكون للشمس ونورها في ذلك الظهور والوضوح أكبر الفضل.
ولقد كان من حق عارفة القرآن، على ((أهل الكتاب)) أن لا يجحدوها طرفة عين.. لكن الطبائع غالية، فمن القوم إن لم نقل أكثرهم من يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ويأخذون آيات الله هزوا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون ليس علينا في الأميين سبيل، قال تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} البقرة (89) .
هذا إجمال يتبعه تفصيل، وعموم تلقاك على تخصيصه عما قليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
شرح الإمام النووي لصحيح مسلم ج 1 ص 199-200.
تأملات في كتاب (الله أو الدمار)
لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
بين يدي الساعة كتاب (الله.. أو الدمار) من تأليف الأستاذ سعد جمعه رئيس الوزارة الأردنية أيام النكبة، التي زلزلت العالم الإسلامي عام 1387هـ (1967م) وقد سبق أن قرأت من تصانيفه كتابيه (المؤامرة ومعركة الصبر) ثم (مجتمع الكراهية) فحفزني إعجابي بهما على تصفح هذا الثالث، الذي لم يفارق سبيلهما في تقصي الوقائع واستشفاف الحقائق بنور الله، الذي يفيضه على القلم النظيف، فيهز بما يكتب القلب المفتوح لأشعة الحق.
لقد وفق المؤلف في هذا السفر إلى استجلاء كثير من الأسرار، التي لا يتوافر الحصول عليها إلا للصابرين على المطالعة والمتابعة والملاحظة، فهو حصيلة عشرات الكتب، وخلاصة لدراسات نفسية على الطبيعة، تغلغل بها إلى الأعماق من التيارات التي واجهها ويواجهها أثناء وجوده في الحكم، واستشرافه عن كثب للعوامل التي ألفت عناصر المأساة، ثم ما أعقبها من زعازع لا تزال تخض أعصاب الجيل فتبعثره بين مختلف المذاهب والجوانب، ولو شئت الإشارة إلى ل ما انطوى عليه هذا الجهد من الحسنات لاضطررت إلى الوقوف عند كل واحدة من صفحاته المائتين والسبعين، التي حفلت بالقبسات البارعة، والاستنباطات الرائعة، والتعابير المتألقة الماتعة، وما ذلك بالميسور في المحدود من السطور، فبحسبي إذن أن أوجه نظر القارئ منها إلى بعض النماذج الدالة على ما ورائها من الجمال، لينهض إلى استقصائها بنفسه فذلك أجدى عليه وأمتع له.
في صدر الفصل الخاص بالتبشير والاستعمار مثلا يقف المؤلف على عمل المستشرقين في تمجيد ما يسمونه (التصوف الإسلامي) لقربه في زعمهم من المفهومات المسيحية (فهم لذلك يسوغون عقيدة الحلول والفناء عند الصوفية التي تدعوا إلى الرهبنة والانعزال والهروب من مشاكل الحياة، وصرف المسلمين عن فكرة الجهاد)[1] ومع أن المؤلف لم يطل وقفته هناك، فقد قدح بها رغبة القارئ في تتبع مجاري هذه المكيدة الاستشراقية، ليرى مدى نجاحها في استهواء العديد من طلابهم المسلمين، ودفعهم إلى التشبث بهذه الانحرافات، بعد أن تمكنوا من الاستحواذ على إعجابهم، فعادوا إلى مواطنهم يبثون في قلوب العامة وأشباههم هاتيك السموم، ويتعهدون تغذيتها بكل ما أوتوا من طاقة ونشاط..
ويتبع المؤلف آثار المستشرقين والمبشرين في أوساط البعثات التعليمية (التي عادت محملة بخمائر المذهبيات الأوربية..) وراحت تحقق أغراضهم في بث الخلافات الايديولوجية التي صدعت الشمل، ونشرت بذور التشكيك. وضرب على ذلك مثلا بطه حسين الذي حمل دعوة هؤلاء الشياطين للانفصال عن الإسلام، والاندماج في بناء الحضارة الغربية بعُجَرَها وبُجَرها.. ثم يخص بالذكر الشيخ علي عبد الرزاق، الذي يعرضه كعينة لما يمكن لعدوى الاستشراق والتبشير أن تعمله حتى في أفكار بعض علماء الدين. وينقل هنا رأي الدكتور محمد البهي في نقد كتاب هذا الشيخ (الإسلام وأصول الحكم) ومهاجمته فيما حواه حيث يلخص مضمونه بأنه دعوة صريحة لتهديم النظام الإسلامي بإبطال الجهاد، واعتبار الشخصية الجماعية في الإسلام قد انتهى أمرها بوفاة صاحب الرسالة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَاّ كَذِباً} .
ولقد أحسن المؤلف صنعا حين نقل في أمثال هؤلاء، الذين خربهم المستشرقون والمبشرون، شهادة (جان بول سارتر) في مقدمته لكتاب (معذبو الأرض) المترجم إلى العربية وفيها يقول (شرعت الصفوة الأوربية تصطفي فتيانا مراهقين، ترسم على جباههم بالحديد الأحمر مبادئ الثقافة الأوربية، وتحشو أفواههم بشعرات رنانة، ثم تردهم إلى ديارهم وقد زيفوا، واستحالوا أكاذيب حية [2] ..) وإنها لشهادة دامغة لهؤلاء الناعقين بأبواق الغرب يطوقهم بعارها واحد من أساطين الهدامين الذين أسهموا في إفسادهم..
ومثل ذلك تصويره لخصائص اليهودية التي جمعت أولئك الشذاذ على إقامة إسرائيل حتى ينتهي بالقارئ إلى ذلك المشهد الرهيب حيث أحاطت جماهير اليهود بحائط المبكى، يوم السابع من حزيران لتقيم صلاة النصر، وهي تهتف بأصواتها المدوية: ليسقط.. اليوم انتهى محمد.. محمد مات وخلف بنات يالثاَراتِ خيبر!!!
ثم يردف ذلك العرض الفاجع بهذا التقريع الصادع: (لم يهتفوا ضد ناصر أو الأتاسي أو عارف أو الحسين، أو غيرهم من قادة العرب وزعمائهم لأن هدف المؤامرة هو محمد والإسلام) .
وإنها والله لكذلك..
فوا محمداه.. ووا إسلاماه!!! وبعد.. فتلك لمحات عجلى من روائع ذلك السفر لا تغني عن قراءته في تدبر. وأن عنوانه (الله.. أو الدمار) لأدل على مضمونه من أي محاولة لتعريفه إذ هو حشد من البراهين الحاسمة، تلاقى على صياغتها التاريخ والعلم والأحداث، والدراسات النفسية والاعترافات الصارخة، على أننا نحن العرب والمسلمين، بل البشرية أجمعون مهددون –بعد الضياع- بالدمار الماحق، إلا أن نعود إلى الله، ونعتصم بحبله الذي لا ينفصم: الإسلام. ولكم كنا نود لو تمت له ميزة السداد، فسلم من بعض الهفوات التي رأينا التنبيه إليها في هذا التعقيب، خدمة للكتاب، وتعاونا على الخير الذي يهدف إليه الكتاب.
1-
في القسم الخاص بالحديث عن مفاسد المبشرين من مقدمة الكتاب يعرض المؤلف صورا باهرة عن تسامح الإسلام، وعن آثار المسلمين في ميادين العلم والحضارة ويستشهد لذلك بكلام من مؤلفات بعض المستشرقين. وهو منهج سليم ومفيد، إلا أن بعض نقوله تكاد تتجاوز الضروري بل تكاد تؤدي إلى غير ما يريد، ونمثل على ذلك بما نقله على المستشرق (اميل درمنجهايم) في ص 85، 59 عن موضوع الصلة بين الإسلام والنصرانية، ومحاولة هذا المستشرق تصوير الصلب الذي يزعمونه للسيد المسيح، على أنه متفق مع تفسير بعض مفكري المسلمين -كذا- إذ ينسب لهؤلاء القول بأن المسيح قد صلب ولكنه لم يمت على الصليب، بل أنزل عن صليبه قبل أن يلحق روحه بالرفيق الأعلى وهو زعم لا نعرف له قائل في تاريخ الإسلام. اللهم إلا أن يكون من المأخوذين بترهات هذا الأفاك..الغافلين عن حكم الله بأنهم {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ..} وقد أجمع علماء القرآن على أن المراد بالتشبيه إلقاء شبه السيد المسيح (ع) على شخص الخائن يهوذا حتى أخذ مكانه، وهو ما أثبته برنابا في إنجيله المعروف. ومع ذلك فإن المؤلف سامحه الله يكتفي بعرض هذه المفتريات دون معارضة ولا مناقشة سوى قوله (ليس قصدي من إيراد هذه النصوص الخوض في مناقشات دينية أو التسليم بكل ما احتوته..) وإنما عمد إلى ذلك النقل ليثبت مدى رعاية الإسلام للنصارى، تألفا لهم وتطمينا لقلوبهم. وقد كثر هذا الضرب من المعاملة لهؤلاء المواطنين وبخاصة في هذه الأيام، حتى كدنا نهتم بالملق، دون أن يعود ذلك إلى قضايانا المصيرية بأي مردود مفيد. وأمامنا الأمثلة القاطعة على هذا الإخفاق في لبنان ومصر والفليبين واندنوسية، وعشرات الأقطار التي أطبقت عليها كوابيس التعصب الصليبي فلم تراع فيها إلا ولا ذمة.. وكان الأحرى بنا والأكرم أن نعاملهم بعدالة الإسلام وصراحته، فنخاطبهم بما خاطبهم الله {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (3/64) ونؤكد لهم في تصميم حاسم أننا ملتزمون معهم أبدا بالمبدأ الإلهي الخالد {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (60/8) فما داموا سَلَماً لنا، مخلصين في معاملتنا، فلهم ما لنا، وعليهم ما علينا، بل لهم فوق ذلك منا حق البر لهم الذي هو زائد على العدالة..
ولعمر الله إن لم يرضيهم منا هذا كله فلن يرضيهم إسرافنا في التزلف إليهم بالغا ما بلغ ذلك الإسراف.
2-
وفي القسم الأخير من الكتاب يتناول المؤلف الفاضل أوضاع المجتمع القائم في ديار الإسلام، فيعرض للتناقضات الماثلة بين طبقاته وحقائق الوحي، وفي أسف عميق يتساءل (أليس من عجائب دهرنا ومصائب زماننا أن يصبح علماء الإسلام في بعض البلاد العربية هيئة دينية كالاكليروس مهمتها اللهاث في مواكب الحاكمين والركض في ركابهم، والإفتاء لتشريعاتهم المخالفة للإسلام!..) .
وهو في هذه الزفرة اللاذعة إنما يعبر عن ضمائر المؤمنين في كل مكان من عالم الإسلام.. غير أنه في صدد النقد لبعض هؤلاء العلماء يحدثنا عن واحد من أساتذة كلية الشريعة في بلد عربي سمعه يخطب في إحدى المناسبات الدينية فيقول (إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يرسل إلى الإنس وحدهم، بل إلى الإنس والجن جميعا..) .
يقول المؤلف: هذا التقرير القطعي الذي لا سند له من قرآن أو سنة.. ومن أجل ذلك عاد إلى كتاب الله يكرر قراءته، وإلى الحديث الصحيح يتلوه مجتهدا، فلم يجد دليلا على أن رسول الله قد اجتمع برهط من الجن ليبلغهم رسالته.. ثم يأخذ في سرد الآيات المتعلقة بذكر الجن وبرسالته صلى الله عليه وسلم ليؤكد لنا ما ذهب إليه من نفي لدعوى ذلك الأستاذ!.
وأنا مع تقديري الكبير لمجهود المؤلف وإخلاصه العميق للحق، أجدني مضطرا للوقوف بجانب ذلك الأستاذ، لأني من المؤمنين بشمول رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم للثقلين جميعا. وفي اعتقادي أن الأستاذ المؤلف أيضا لن يتردد طويلا حتى ينضم إلى صف المؤمنين بهذه الحقيقة، بعد الإطلاع على دلائلها القاطعة إن شاء الله.
ولننظر إلى الموضوع من زواياه المختلفة، ففي كلام الأستاذ المؤلف حفظه الله أمور تقتضي التفصيل:
1-
أنه ينفي اجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي رهط من الجن.
2-
ومن ثم فهو ينفي أن يكون صلى الله عليه وسلم قد بلغ الجن.
3-
يفهم الأستاذ المؤلف من قوله تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} .. أن لكل من الفريقين رسلا من جنسه، فللإنس رسلهم من الإنس، وللجن رسلهم من الجن.
4-
ويستشهد لذلك بقوله تعالى في خطاب محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً..} إذ يفهم منه حصر رسالته صلى الله عليه وسلم بالناس دون غيرهم.
وعلى هذا فسنتناول كلاً من هذه النقاط على حدة حتى ننتهي إلى النتيجة المقنعة.
ونبدأ بالأول فنقول ما قاله رواة السنة عن ابن عباس وغيره أن النفر الذين ورد ذكرهم في سورتي (الأحقاف) و (الجن) لم يجتمعوا برسول الله بل أوحي إليه خبرهم، وإنما أتاه داعي الجن بعد ذلك، فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل، كما رواه البيهقي عن ابن مسعود (رض)[3] .
وفي رواية البيهقي أيضا عن ابن هريرة (رض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له: "أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت الله تعالى لهم ألاً يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوه طعاما" وقد أخرجه البخاري في صحيحه بإسناد قريب منه.
وفي مسند الإمام أحمد عن علقمة عن ابن مسعود (رض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أتاني داعي الجن فقرأت عليهم" وفيه أنهم سألوه الزاد فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم.." وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية به نحوه.
ومن أخبار ابن مسعود (رض) عن اجتماع رسول الله بالجن ما يرويه ابن جرير وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم انطلق به ذات ليلة "حتى إذا كنا بأعلى مكة خطً لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته..".
والقارئ لتفسير ابن كثير لسورة الأحقاف يواجه العديد من الأحاديث التي ورد فيها هذا الخبر من طرق كثيرة العدد أيضا.. مما يقطع بأن اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن، وتبليغه إياهم الدعوة، قد حصل في مرحلة تالية لاستماعهم منه دون علمه.
هذا إلى أن سورة (الرحمن) بأسرها توكيد لهذا الواقع، الذي يتجلى في خطاب الثقلين. وإقامة الحجة عليهم جميعا، بآلائه التي لا يسع أحداً من الفريقين إنكارها. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان!!} .
وقد روى البيهقي والترمذي عن جابر بن عبد الله (رض) قوله: قرأ رسول الله سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: "مالي أراكم سكوتا؟ لَلْجن كانوا أحسن منكم ردا. ما قرأت عليهم هذه الآية {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك أو نعمك ربنا نكذب. فلك الحمد".
أما قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} فهو كقوله سبحانه {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} . ومعلوم أنهما لا يخرجان إلا من أحد البحرين دون الآخر، وهي من طرائق العرب في إعطاء حكم الواحد للأكثر لعلاقة بينهما، وإنما الآية تقرير ملزم بإيصال الرسالة إلى الثقلين دون تحديد لجنسية الرسول من أي الفريقين. لأن هذه الهوية قد حددت في آيات أخرى كقوله عز اسمه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ..} ففي ذلك توكيد قاطع بأن الجن تابعون لرسل الإنس، وليس فيهم رسل من جنسهم وإنما فيهم منذرون يبلغون رسالات النبيين من بني آدم. ويستدل العلماء على ذلك من آية الأحقاف (29-32) حيث نرى المستمعين القرآن من الجن ينطلقون لفورهم إلى قومهم منذرين، فيربطون بين رسالة موسى ورسالة خاتم النبيين، ويعلنون ألاّ خلاص من عذاب الله إلا بإتباع هذا الداعي الجديد، المصدق لما سبقه من كتب الله، والهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. وهو سياق لا يدع مجالا للريب بأن هؤلاء كانوا مؤمنين برسالة موسى عليه السلام ثم أقبلوا يكملون إيمانهم بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم وبذلك يسقط كل جدل حول هذه القضية. إذ لا يبقى مناص عن الإقرار بشمول الرسالة الخاتمة للثقلين جميعا، وبذلك أيضا ينتفي الوهم بحصر رسالته صلى الله عليه وسلم في الناس وحدهم كما فهم الأستاذ من قوله تعالى {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} لأن مساق هذا الجزء من الآية التاسعة والسبعين من سورة النساء صريح بأنه تفنيد لمغالطات المنافقين الذين لا
يفقهون حقيقة الرسالة، ويردون كل سوء يصيبهم إلى إتباعهم -في الظاهر- لرسول الله، فجاءت الآية ردا على تقولاتهم، وبيانا لمهمته صلى الله عليه وسلم بأنها التبليغ عن الله، مع تنزيهه عن كل ما ينسبه إليه أولئك الخراصون.
والبحث مع مثل المؤلف لا يقتضي الإسهاب في موضوع الجن، وجودهم وكونهم مكلفين وملزمين بإتباع الرسالات الإلهية. فذلك أمر مفروغ منه بحكم إيمانه بالكتاب والسنة، وإنما يكفي لإقناعه بالحق تذكيره بالنصوص الشاهدة له عملا بقوله تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (24/51) وحسب المؤمن في ذلك قول ربه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (51/56) ولا عبادة إلا بشرع، ولا شرع إلا بوحي، ولا وحي إلا برسول. وما أخال الأستاذ حفظه الله بعامد إلى الجدال في الأحاديث المتعلقة بالبحث لكونها من الآحاد، فذلك قول لا يقف أمام الحجة البينة من أعمال الصحابة في التبليغ عن رسول الله، وفي صحيح البخاري باب خاص في إجازة خبر الواحد لا يدع مجالا لمعترض يريد وجه الله.
3-
وقد بقيت ثمة هفوات صغيرة، ولكنها على ضآلتها مشوهة لجمال الكتاب رأينا أن نختم الكلام بالإشارة إليها رجاء أن يتداركها في الطبعات التالية فيكمل له الأجر من الله، والدعاء من عباده إن شاء الله.
ففي ص 14 من المقدمة. وأثناء تحديده لمهمة المفكر الشريف في إطار الإصرار الصارم على قولة الحق، يفاجئنا بهذا الكلام:(أما الصخب والكذب و.. فهي ليست من صفات من يحمل قلمه كصليب يسوع!..) فلا نتمالك أن نتساءل في أسى: وما شأن الصليب ويسوع في هذا المقام!.. وكيف سمح لقلمه أن يلتقط مثل هذا التعبير الدخيل المنافي لمعتقده الإسلامي!..
وفي ص 140 يقول (فكل من يدعو إلى القومية، وينكر وجود الله، هو حيوان في صورة إنسان!) وأنا أستميحه عذرا للدفاع عن حقوق الحيوان، الذي أفرط في إهانته عندما وضعه على مستوى الملحد المنكر لوجود خالقه.. فكيف؟.. وربنا يشهد للحيوان بارتفاعه عن مكانة أولئك المسوخ حين يقول:{إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (25/44) ويستمر المؤلف في تسفيه هذا الضرب الحقير من شراذم الكفر حتى يقول: (فهو جاهل غبي مخلوق خطأ..) وأحسب الأستاذ يريد بذلك أنه مقلوب العقل مشوه الفطرة، إلا أن التعبير بكونه (مخلوقا خطأ) من الأشياء التي كنا نود أن يتنزه عنها مثل ذلك القلم المؤمن. لأن أقل ما يفهم منه نسبة الخطأ إلى الخالق في إيجاد هذا النوع من المخلوقات ومثله أبعد ما يكون عن قبول هذا المضمون، لأن خلقه تعالى هؤلاء الكفرة كخلقه الأفاعي والجردان، لا يخلو من حكمة تليق بجلاله سبحانه، فلو سلمت الحياة من هذه الآفات لقُتِلت حوافز البحث في الإنسان ولما كان ثمة ضرورة لإقامة المخابر والمصانع، والالآف من مظاهر المدنيات..
ولنختتم هذه الجولة بوقفة قصيرة حول كلمة صغيرة. ولكنها من حيث آثارها المجربة كبيرة.
لقد عني الأستاذ بالعبارة المشهورة (اختلاف أمتي رحمة) فأقر نسبتها إلى الرسول وجعل يؤكد بها يسر الإسلام، وتقديره لحرية الفكر والعقل. وما إلى ذلك [4] . ولو هو قد رجع إلى ما كتبه المحققون حولها لبحث عن نص آخر من الكتاب أو السنة يدعم بها فكرته. ذلك لأن العبارة موضع (اختلاف) كثير، ولم يثبت لها سند متصل عن رسول الله.
يقول السخاوي في (المقاصد) عن بعض رواتها: جويبر هذا ضعيف جدا، والضحاك عن ابن عباس منقطع. ثم يقول: وعزاه الزركشي إلى كتاب الحجة لنصر المقدسي مرفوعا من غير بيان لسنده ولأصحابيه، وعزاه العراقي لآدم بن أبي إياس بدون بيان وبلفظ:(اختلاف أصحابي رحمة لأمتي) وهو مرسل ضعيف [5] . وفي (الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة) يعقب السيوطي على العبارة بقوله: هذا يدل على أن المراد اختلافهم في الأحكام. وقيل المراد اختلافهم في الحرف والصنائع) . وهذا أقرب إلى المعقول من تسويغ الاختلاف في كل شيء. لأن ذلك كناف لروح الإسلام الذي يحذر المسلمين الاختلاف وحسبنا في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3/105) وأي خير يرجى من الاختلاف بعد أن جعله الله في مقابل الرحمة إذ يقول سبحانه {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّك} (81-118 و119) ولعمر الحق لو أن الأستاذ استحضر في ذهنه ما يعلمه من واقع المسلمين وما يعانونه من دواهي الاختلاف، وما أدى إليه من تفرقهم حتى في العقائد، لم يأذن ليراعه بإثبات هذه الكلمة، ولتذكر أن موقف الإسلام من تقدير الفكر والعقل لا يعود إلى الاختلاف بل إلى التعاون على البر والتقوى، وبذل الوسع في إصابة الحق وإلتزام القول السديد، حسب توجيهات الكتاب المجيد.. ولا بأس بعد ذلك في تباين الفهوم، وتفاوت القُدَر، ففي هذا متسع للمواهب غير محدود.
وأخيرا.. لقد سبق أن ذيلت آخر صفحات (مجتمع الكراهية) بالكلمات التالية:
((.. في هذه النفثات حقائق ووثائق، ولكن أروع ما فيها هو صدقها وحرارتها.. فليجزك الله يا سعد عنا كل خير، وليغفر لك هفواتك التي لم ترد بها إلا الخير..)) .
عالية- لبنان 19/7/1391هـ.
وأكرر في كتاب اليوم ما قلته في كتاب الأمس.. سائلا الله جل وعلا أن يهدينا لما اختلف فيه الناس من الحق بإذنه، فإنه الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
ص 63 ق 3.
[2]
ص 121.
[3]
يراجع في ذلك تفسير ابن كثير لسورة الأحقاف.
[4]
ص 156.
[5]
(المقاصد الحسنة) للسخاوي ص 26 و27 ط العلبي والمغني 1956.
المقاومة في الشعر الأندلسي
دراسة تحليلية نقدية
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي
يرى بعض الكتاب أن أوربا هي أول من عرف أدب المقاومة، وذلك حين وقعت في قبضة النازية، فكان الأدب أحد العناصر القتالية التي قاومتها، وشنت عليها حرب شعواء، فقد بدأ الأدب يكشف مخازيها وإهدارها لكرامة الإنسان، فعبأ النفوس وأشعل جذوة الحماس، ودعا للقتال، ونادى لمقاومتها، حتى يتقلص ظلها وتذهب ريحها، فتسلم البشرية من بالغ ضررها وعظيم خطرها.
هذه النظرة إن خلت من التعصب فهي قطعا لا تخلو من القصور، ذلك أن الأدب العربي قد سبق الأوربي إلى ميدان المقاومة، فهو حتى في جاهليته لم يكن بمعزل عن وجدان الأمة منصرفا عن احتياجاتها مقصراً في الذود عن قيمها. بل كان فكرها المدبر ولسانها المعبر يحدو مسيرتها، ويعبئ قواها، ويثر حماسها خاصة في الأوقات التي تتعرض فيها للهزائم العسكرية والهزات النفسية.
ونحن نعرف أن القبيلة في الجاهلية كانت تقيم الحفلات وتدق الطبول ابتهاجا بنبوغ شاعر، لأنه سيكون الناشر لأمجادها الذائد عن حياضها. وكان الشاعر إذا مدح قبيلة رفعها مكانا عاليا رغم دنو منزلتها وحقارة شأنها، وإذا هجا أخرى حط من قدرها وإن كان ذاهباً في أجواء السماء. ومرجع هذا طبيعة الكلمة العربية ذات الخاصية المتفردة، فهي إذا ما صيغ منها شعر موزون أو نثر مسجوع فعلت في النفوس فعل السيف في الأبدان فلا غرو إن شبهوا اللسان بالسيف. قال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
كحسام السيف ما مس قطع [1]
ولسانا صيرفيا صارما
ولما جاء الإسلام بما خالف عليه العرب في حياتهم الدينية والاجتماعية، وجد الشعر نفسه أمام معركة لم يلبث أن حدد فيها دوره، وأخذ مكانه، وأعلن إلتزامه، فكان أحد الأدوات الحربية والوسائل النضالية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض حسان بن ثابت على قول الشعر رداً على المشركين، وكان يخبره أن شعره أشد عليهم من وقع النبال، ويدعو له:"اللهم أيده بروح القدس"[2] .
وظل الشعر يواكب مسيرة الأمة في عصورها المختلفة، يتغنى بنصرها، ويستعرض مواقف المجد والبطولة في تاريخها، ويستنهض هممها، ويحرك مشاعرها وينعى عليها تخاذلها وقعودها عن جهاد العدو المتربص بها الطامع في أرضها.. وهكذا مضى هذا التيار الهادر حتى وصل مداه وبلغ زباه في الأندلس.
ونعني به هنا الشعر الذي أنشئ أيام الحرب الإسلامية المسيحية التي دارت رحاها في جزيرة الأندلس، وكما عرفنا آنفا بأن الأدب العربي حتى في جاهليته لم يخل من شعر المقاومة إلاً أنه لم يكن بالتوسع والعمق اللذين نجدهما في الأدب الأندلسي، ولعله مما أكسبه ذلك طبيعة الأحداث التي جرت في منطقته، إذ أن الأمة الإسلامية لم تعرف في تاريخها الطويل نكبة كتلك التي وقعت في أندلسها، ورغم ما وقع في مشرقها من حروب التتر والمغول والصليبيين إلاً أنها استطاعت أن تنتصر على هؤلاء جميعا، وأن تخرج من تلك النكبات وهي أقوى عوداً وأمضى عزما وأشد مراساً بينما لم تستطع ذلك في الأندلس، فقد تقلص هناك ظلها، وطويت رايتها، وأفلت شمس وجودها، فلا عجب إن كان الشعر الأندلسي أكثر بكاء وأحر ندبا وأشد حرقة وأعلى صوتا وأعمق أثرا في استنهاض الهمم وتحريك المشاعر حتى شعرهم الرثائي لم يكن خلواً من المضامين النضالية والصرخات الإنذارية والإشراقات الوطنية، فقد كانوا طوال فترة الحرب يعبئون الجهود، ويشحذون العزائم، وهم يرْثون المدن الضائعة ويبكون جمالها الذاهب، وقد فطن بعض الكتاب لهذا الملحظ فقال:((.. ولم تسقط مدينة في يد مسيحي الشمال إلا بكوها، وتفجعوا عليها تفجعا حاراً، وهو تفجع كانوا يضمنونه استصراخاً للمسلمين في مغارب الأرض ومشارقها لعلهم يستنقذون تلك المدن من براثن الأسبان، ويستعيدونها إلى حضيرة الإسلام قبل أن تدك هناك كل صروحه، وتسقط كل رايته وأعلامه)) [3] .
وقد توسع مدلول المقاومة عندهم فشمل الدعوة إلى الثورة على الملوك الذين خضعوا لملوك النصارى، واستعانوا بهم على إخوانهم في العقيدة والوطن، كما شمل محاربة المنكرات الفاشية والمفاسد البادية بحسبانها سبب الضعف والهلاك، وشمل كذلك الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ومقاومة العدو المغير، كما شمل أيضاً البحث عن قيادة رشيدة تجمع شمل الأمة، وتمضي بها في عزم وثبات، ولا ننسى القصيدة المادحة التي مجدت الأبطال، وتغنت بانتصاراتهم وقد استعانت في نقل التجربة وتكثيف العاطفة بالمعنى الحي والكلمة المؤثرة والصورة المعبرة التي تستلفت النظر، وتستوقف العجل، وتستنفر القاعد، وتجعل المرء يخوض غمار الحرب بصدر رحب وجنان جريء وعزم قوي. هذا، وقد ارتفع صوت هذا الشعر حتى جاوز حدود الأندلس الجغرافية فشّرق وغرّب مستنجدا مستنهضاً.
ونحب أن تقف عند بعض ضروب المقاومة التي ألمحنا إليها آنفاً، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، إذ أن تتبع جزئياتها والإلمام بها يحتاج إلى جهد متصل وبحث منفصل قد لا تتسع له مجلة تعالج أكثر من موضوع.
من ذلك ما قاله خلف بن فرج الألبيري في حكام غرناطة:
ماذا الذي أحدثتمو
ناد الملوك وقل لهم
أسر العدا وقعدتمو
أسلمتم الإسلام في
إذ بالنصارى قمتمو
وجب القيام عليكمو
فعصا النبي شققتمو [4]
لا تنكروا شق العصا
فالشاعر هنا يعلنها ثورة على هؤلاء الحكام الذين فرطوا في الدفاع عن الإسلام وخذلوه حين أسلموه للأعداء برضوخهم لهم، فتخلوا عن قيمه، وقعدوا عن حمايته، وقد مضوا في هذا الطريق الخطر إلى غاية ما بعدها إلا العثور وذلك حين استعانوا بالنصارى بعضهم على بعض في عراكهم الذي هو غير معترك، ومن أجل ذلك وجب مقاومتهم وشق العصا عليهم، لأن طاعتهم والتسليم لهم سيقود حتما إلى نهاية أليمة وعاقبة مخزية وخيمة. والشاعر هنا يبرر الخروج على الملوك بأنهم أحدثوا في الإسلام حدثاً، وأنهم سلموه للأعداء، وقعدوا عن نصرته، وأنهم ما لأو الكفار وواطؤهم على النيل منه، وأنهم عصوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه كلها براهين يسوقها لتأييد قضيته وتدعيم دعوته ووجاهة فكرته.
وقد تناول الشعر المنكرات، فشدد النكير على مرتكبيها مبينا مضارها وخطورة انتشارها، فقال أحد الشعراء عند سقوط طليطلة، في يد الأسبان عام 478هـ:
وجاءهم من الله النكير
فإن قلنا العقوبة أدركتهم
نجور وكيف يسلم من يجور
فإنا مثلهم وأشد منهم
وفينا الفسق أجمع والفجور
أنأمن أن يحل بنا انتقام
إليه فيسهل الأمر العسير
وأكل للحرام ولا اضطرار
كذلك يفعل الكلب العقور
ولكن جرأة في عقر دار
على العصيان أرخيت الستور [5]
يزول الستر عن قوم إذا ما
إن نكبة طليطلة لم تأتي ضربة لازب، وإنما تقدمتها أسباب مهدت لها، وساقت إليها، من تلك الأسباب ما ذكره الشاعر في أبياته المتقدمة، وكما هو واضح فإنا ما ذكره لم يكن قاصراً على طليطلة منتشرا بين أهلها وحدهم وإنما هو عام في كثير من الأقاليم والمدن، ولو أن المسلمين هناك وعوا الدرس لعادت نكبة طليطلة ربحاً لبقية مدن الأندلس، ولكنهم استمرأوا ارتكاب المنكرات من فسق وفجور وأكل للحرام من غير اضطرار، ومن تجرؤ على حدود الله وارتكاب للمعاصي في السر والعلن، فلا عجب إن عمت مصيبتهم ونزلت من سماء الأندلس رايتهم.
ولا شك أن مقاومة هذه الأمراض الاجتماعية التي تفتك بالأمة أمر تحتمه المحافظة على جسم الأمة صحيحا وروحها قويا وعزمها صلبا حديداً، فذلك أدعى لصمودها أمام من عاداها وردٍ سهام من رماها.
وكان الشعر يدعو إلى الجهاد، ويرغب فيه ذاكراً ما أعد للمجاهدين من أجر عظيم ومثيراً الحفائظ بأبلغ ما تستثار به من حماية الدين وتدعيم لأركانه، وتمهيد لنشره بين الناس. من ذلك ما قاله إبراهيم بن خلف المتوفى سنة 649هـ.
هي عزة الدنيا وفوز المحشر
ورداً فمضمون نجاح المصدر
شيم الحمية كابراً عن كابر
يا معشر العرب الذين تواراثوا
بيعوا ويهنيكم وفاء المشترى
إن الإله قد اشترى أرواحكم
وبكم تمهد في قديم الأعصر
أنتم أحق بنصر دين نبيكم
ذاك البناء بكل لدن أسمر
أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا
أغنتكم عن كل طرف مضمر
ولكم عزائم لو ركبتم بعضها
مستمسك بذناب عيش أغبر
الكفر ممتد المطامع والهدى
ألاً تجوس حريم رهط أصفر
والخيل تضمر في المرابط غيرة
من معشر كم غيروا من معشر
كم نكروا من معلم كم دمروا
من حلية التوحيد صهوة منبر
كم أبطلوا سنن النبي وعطلوا
أين العزائم مالها لا تنبري
أين الحفائظ مالها لم تنبعث
سيفاً ودين محمد لم ينصر [6]
أيهزٌ منكم فارس في كفه
فالشاعر هنا يأمرهم بورود حوض المنايا جهاداً في سبيل الله ضامنا لهم نجاح المصدر فهو: إما نصر وسيادة وإما قتل وشهادة، ثم يذكرهم بأنهم أهل الحمية الإسلامية والنخوة العربية التي هي إرث موروث لهم أبا عن جد مستنهضا بذلك ما همد من عزائمهم ومشعلاً ما خمد من رجولتهم، مذكراً لهم بأنهم قد باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى مشيراً بذلك إلى قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ..} الآية [7] .
وهو هنا يشتار من رياض القرآن، ويعتصر رحيق الآيات، ليأخذ من جماله زينة لأسلوبه ومن قوته دعماً لمعانيه، فما دام الأمر كذلك فليس هناك أحد أحق بدعم هذا الدين منكم أنتم الذين بعتم أنفسكم وأموالكم في سبيله لقاء الجنة، ثم أنتم الذين شيدتم أركانه، وأعليتم بنيانه، ومهدتم طريق نشره بين العالمين، ومما يعينكم على ذلك عزائمكم الماضية التي لو ركبتم بعضها لأغنتكم عن الخيول الضامرة، فلم هذا التقاعس والكفر مرفوع الراية ممتد الرواق مسنود الجانب طمعاً في القضاء على الإسلام بينما ((الهدى مستمسك بذناب عيش أغبر)) وهذا التعبير كناية عما يعانيه الإسلام الذي هو دين الهدى من اضطهاد وخذلان وانكسار جناح، ثم يبالغ في استثارتهم فيقول إن هذا الأمر قد استفز حتى العجماوات، فها هي الخيل تتحرق شوقا وتتحرك ضجراً في مرابطها ألا تجد سبيلا إلى ميدان الوغى لمقاتلة الرهط الكفار الذين أبطلوا سنن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعطلوا المنابر من دعوة التوحيد ونكروا المعالم وغيروا المشاعر، وقتلوا المسلمين، لعله بذلك يبعث عزائمهم، ويثير حفائظهم، ويدفع إلى الجهاد كتائبهم، ثم يخاطبهم في لهجة استنكارية ونغمة توبيخية فيقول:
سيفاً ودين محمد لم ينصر
أيهزٌ منكم فارس في كفه
ولئن سلكت هذه الكلمة مسلك الشدة في الخطاب والعنف في العتاب فإن الكلمة الآتية قد نهجت نهجا تميز بالهدوء والرقة إلا أن قسوتها في رقتها، وعنفها في هدوئها، وأعني بهذا تلك القصيدة التي أرسلها لسان الدين بن الخطيب المتوفى سنة 776هـ إلى أهل المغرب في الاستنفار للجهاد وإغاثة الأندلس والتي يقول فيها:
فقد كاد نور الله بالكفر أن يطفأ
إخواننا لا تنسوا الفضل والعطفا
فقد بسط الدين الحنيف لكم كفا
وإذا بلغ الماء الزبا فتداركوا
فلهفا على الإسلام ما بينهم لهفا
تحكم في سكان أندلس العدا
فإن ظمئت لارى ألا الردى صرفا
وقد مزجت أفواهها بدمائها
وما نام طرف في حماها ولا أغفا
أنوماً وإغفاء على سنة الكرى
فلا وزراً عنهم وحداً ولا لهفا
أحاط بنا الأعداء من كل جانب
أقام عليها الكفر يرشفها رشفا [8]
ثغور غدت مثل الثغور ضواحكا
فهو يبدأ قصيدته بكلمة ((إخواننا)) لإثارة الحمية والعطف في نفوس المخاطبين إدراكا للإسلام الذي كاد الكفر يطفئ نوره وقد بلغ الأمر مبلغه من الشدة والحرج ولم يعد ممكن الاحتمال، وها هو الدين يبسط لكم كفه مستنجدا بعد أن مد الأعداء أياديهم إلى راياته، وبسطوا سطوته على أهله، وعاثوا في الأندلس فسادا، وأذاقوا أهلها ذلا واضطهادا، فمن ظمئ منهم لا يجد إلاً كأس المنية مشربا، فلم النوم والإغفاء وبلاد الإسلام لم ينم لها طرف ولا غفا لها جفن وها هم الأعداء قد أحاطوا من كل جانب ولا معين ولا نصير.
وفي البيت الأخير يشير إلى ما عليه ثغور الإسلام من رونق وجمال، وكأنها بذلك تطمع الأعداء فيها، وتغريهم بالهجوم عليها، ولما شبهها بالثغور رشح ذلك أن يقول:
ثم بين الصلة التي تجمعهم والحبل الذي يربطهم والعروة التي يعتصمون بها فقال:
من الملأ الأعلى تقربنا زلفى
وسيلتنا الإسلام وهو أخوة
وذلاً وقد عذنا بعز من استعفى
أخوفاً وقد لذنا بجاه من ارتضى
يجير من استعدى ويكفي من استكفى
فهل ناصر مستبصر في يقينه
فلا مشتر أولى من الله أو أوفى
وهل بائع فينا من الله نفسه
وكيف لضوء الصبح في الأفق أن يخفى
أفي الله شك بعد ما وضح الهدى
قبائل منكم تعجز الحصر والوصفا
وكيف يعيش الكفر فينا ودوننا
ليوث نزال كلما حضروا الزحفا
غيوث نوال كلما سئلوا الندى
وهبوا لنصر الدين فينا فقد أشفى [9]
فقوموا برسم الحق فينا فقد عفى
فالإسلام هو الدين الذي يجمع بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وتباعد أقطارهم ويجعل منهم إخوة يأسى يعضهم لجراح بعض، ويسمو بأرواحهم إلى الملأ الأعلى، ويكوّن. منهم وبهم قوة تهوي على رأس العدو وتحطمه، فهم على الله متوكلون وبنصره واثقون، فلم الخوف وهو أقوياء، ولم الذل وهم أعزاء، ولم التهيب وركنهم شديد.
ثم يلتفت فيسأل في لهفة وشوق عن رجل قوي اليقين واثق من نصر ربه ليكون غياثا لهؤلاء الضعفاء، فيرد الطمأنينة إلى قلوبهم وسهام الأعداء إلى نحورهم ثم يعتب عليهم بأنهم قبائل لا يحصيها العدد، ولا يعوزها المدد والكفر ممتد رواقه ظاهر في الأرض عيثه وإفساده، فليهبوا للجهاد بأموالهم فهم غيوث هاطلة، وبأنفسهم فهم ليوث ضارية، فقد أظلهم زمانه، وحل بينهم إبانه.
ومما يدخل في شعر المقاومة المديح الذي مجد البطولة، وأثنى على الأبطال، وألهب المشاعر الوطنية، وأضرم القلوب والصدور غيرة وحماسا، ونظر بعين الأمل والرجاء لعله يرى تباشير النصر تلوح من قريب. من ذلك ما قاله أبو جعفر المرقشي من قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين يوسف بن عبد الله المؤمن بن علي صاحب مراكش عندما دخل الأندلس، وأخذ يسترجع كثيرا مما أخذه النصارى من المدن مطلعها:
وهامت به عذب الحمام ورودا
أبت غير ماء للنخيل ورودا
يقول:
فأبصر شمل المشركين طريدا
ألا ليت شعري هل يمد لي المدى
تغادرهم للمرهقات حصيدا
وهل بعد يقضي النصارى بنصرة
يعيد عميد الكافرين عميدا
ويغزو أبو يعقوب في شنث يافث
فيتركهم فوق الصعيد هجودا
ويلقي على إفرنجهم عبء ككل
ركوعا على وجه الفلا وسجودا [10]
يغادرهم جرحى وقتلى مبرحا
فهو هنا يتطلع مستشرقا إلى اليوم الذي يرى فيه شمل الكفار مبددا، وقد انتصر عليهم المسلمون بعد أن ألحموهم سيوف الحق، وجرعوهم كئوس الموت، ومضى أبو يعقوب فغزاهم في عقر دارهم ومكان عبادتهم.... في شنث يافث وهي كنيسة عظيمة في ثغور ماردة لها عند النصارى قداسة دينية عظيمة لأسباب ذكرها الحميري في كتابه: صفحة جزيرة الأندلس صفحة 115، وهناك ألقى عليهم بثقله، ورماهم بجنده، وأسر عميدهم فغادرهم ما بين قتيل وجريح وساجد على وجه الأرض. وهذا تعبير رائع يعج بالحركة، ويرسم صورة حية لما يتمنى أن تنتهي إليه هزيمة الكفار، فهو أشبه ما يكون بمهندس بارع يرسم خريطة منزل على صفحة الورق ثم يطلب من العمال تنفيذها على صفحة الأرض.
وينعى شعر المقاومة على الناس تركهم أوطانهم ونزوحهم إلى غيرها هروباً من المدافعة والتماسا للنجاة، فيقول أبو المطرف بن عميرة المتوفى سنة 658هـ:
بكل طريق قد نفرنا وننفر
كفى حزناً أنا كأهل محصب
بنار اغتراب في حشاه تسعر
وإن كلينا من مشوق وشائق
وقول ألا ليت شعري تحير
ألا ليت شعري والأماني ضلة
عهدنا وهل حصباؤه وهي جوهر
هل النهر عقد للجزيرة مثلما
فيزور عنه موجه المتكسر
وهل للصبا ذيل عليه يجره
بما راق منها أو بما راق تسحر
وتلك المغاني هل عليها طلاوة
نروح إليها تارة ونبكر
ملاعب أفراس الصبابة والصبا
بها العيش مطلول الخميلة اخضر
وقبل ذاك النهر كانت معاهد
في هذه الأبيات نجد نهجا جديدا في المقاومة.. نهجا يعتمد على الإقناع المنطقي والروح الإنساني، ويعدل عن اللهجة الحادة التي نجدها في قصيدة المرقشي السابقة والتي دعا فيها إلى حصد الأعداء وسحقهم واتخاذ بساط من أشلائهم إلى غير ذلك.
أما أبو المطرف فقد عدل عن كل ذلك إلى القول الهادي والأسلوب المقنع حين ذكر أن هذه الأرض ذات الأنهار الجارية الخمائل المخضرة والمغاني الساحرة والهواء النقي هي ملاعب صبانا ومراتع لهونا ومنابت رزقنا، وهي من أجل ذلك واجب علينا البقاء فيها والدفاع عنها، وبهذه الجمل الهادئات الهامسات ينجح الشاعر في إقناع هؤلاء الفارين النازحين بالبقاء في ديارهم والعيش على أرضهم ودفع العدو المغير حتى لا تثبت أقدامه فيها، وتمتد يده إلى ما سواها.
ونحن نعلم أنه عندما سقطت طليطلة في يد الأسبان ظهرت دعوة تنادي إلى شد الرحال والهجرة إلى خارج الأندلس من ذلك ما قاله ابن العسال:
فما المقام بها إلا من الغلط
حثوا رحالكم يا أهل أندلس
سلك الجزيرة منثورا من الوسط
السلك ينثر من أطرافه وأرى
كيف الحياة مع الحيات في سفط [11]
من جاور الشر لا يأمن بوائقه
وقد تصدى الشعر لهذه الدعوة فحاربها، وبين سوء عاقبتها وعظيم مخاطرها من ذلك هذه الأبيات الرائية التي استغل الشاعر فيها العاطفة الوطنية ومازال يبدئ فيها ويعيد، ويعزف على هذا الوتر الحساس تكثيفاً للعاطفة وإثارة للحمية حتى يقنع هؤلاء النازحين بالرجوع إلى ديارهم والبقاء فيها، فذلك أحفظ لكرامتهم، وأحمى لحوزتهم.
ومن شعر المقاومة الشعر الذي تطلع إلى قائد ينهض بالأمة من كبوتها، ويخلصها من محنتها، ويدفع عنها وبها كيد عدوها. يقول بعضهم:
به مما نحاذر نستجير
ألا رجل له رأي أصيل
وأين بنا إذا ولت كرور
يكر إذا السيوف تناولته
يقول الرمح ما هذا الخطير
ويطعن بالقنا الخطار حتى
بأندلس قتيل أو أسير
عظيم أن يكون الناس طراً
على أن يقرع البيض الذكور
أذكر بالقراع الليث حرصاً
لخطب منه تنخسف البدور
يبادر خرقها قبل اتساع
إذا ضاقت بما تلقى الصدور [12]
يوسع للذي يلقاه صدراً
فهو هنا يستشرف إلى رجل عبقري في تفكيره حازم في رأيه وتدبيره قوية عزيمته مشدودة شكيمته، لا يرام ما وراء ظهره، صبور في ميدان القتال، لا يستسلم مهما عظمت الخطوب وكثرت العقبات وأظلمت الدروب بل يقتحمها بفكر نير وعزم قوي وسيف مسلول ذوداً عن حرمات الأمة وحماية لظهرها، وأنه إذا رأى خرقاً بادر بسده وإذا أبصر خطراً أسرع برده توحيداً للكلمة وصوناً لها من الفرقة والانقسام، ويزين كل هذه الخلال سعة صدر يلقى بها الأمور الخطيرة إذا ضاقت بها الصدور.
إن الناظر في واقع الحكام المسلمين يوم ذاك يجدهم قد انشغلوا بملذاتهم عن الدفاع عن الإسلام وأهله ودياره، كما أن المعارك فيما بينهم قد استوعبت جهدهم واستقطبت طاقتهم، ومن ثم فإن الشاعر قد يئس منهم، وانصرف عنهم، وأصبح كأنه يصيح في عالم المجهول بحثا عن قائد ذكي التفكير حكيم التدبير تجد فيه الأمة ضالتها المفقودة وأمنيتها المنشودة، يوحد صفها، ويجمع كلمتها، ويتجه بها إلى ميدان المعركة، ويواجه بها أعداءها صابراً محتسبا، لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلاً، ولا ترى في أعماله من الرياء فتيلا.
ومما يدخل في هذا الباب الشعر الذي تحدث عما حل بالمساجد من تحويلها إلى الكنائس وارتفاع صوت النواقيس بداخلها بدل الأذان وتعطيل الصلوات فيها وتلويثها بعقيدة الشرك وأكل الخنزير وشرب الخمر وما أصاب السكان من تقتيل وتشريد للرجال وسبي النساء وامتهان لعفتهن، وفي هذا يقول عمرو بن المرابط:
فأهلك عليه أسى فلا تتجلد
كم من جامع فيها أعيد كنيسة
والخمر والخنزير وسط المسجد
القس والناقوس فوق مناره
من قانتين وراكعين وسجد
أسفي عليها أقفرت صلواتها
مستكبر مذ كان لم يتشهد
وتعوضت منهم بكل معاند
فكلاهما يبغي الفداء فما فدى
كم من أسير عندهم وأسيرة
فيهم تود لو أنها في ملحد
كم من عقيلة معشر معقولة
ولداه وداً أنه لم يولد
كم من وليد بينهم قد ودً من
يبكي لآخر في الكبول مقيد
كم من تقيٍ في السلاسل موثق
ما بين حد ذابل ومهند
وشهيد معترك توزعه الردى
ورقً لهم من قلبه كالجلمد
ضجت ملائكة السماء لحالهم
ثم يقول:
وسيوفكم للثأر لم تتقلد
أكذا يعيث الروم في إخوانكم
خمدت وكانت قبل ذات توقد
يا حسرة لحمية الإسلام قد
فشعر كهذا مثير للحفائظ محرك للمشاعر، فقد استعمل فيه الشاعر القلم والريشة فجاءت صورة واضحة المعالم تستلفت النظر، وتستوقف العجل ثم يبالغ في استثارة المشاعر الدينية والعواطف الإنسانية، فيذكر ما حل بالمساجد التي حولت إلى كنائس والمآذن التي تعطل الأذان فيها، وارتفع من فوقها صوت الناقوس والمحاريب التي خلت من الركع السجود، وعمرت بكل معاند متكبر لا ينطق بشهادة التوحيد.
وقد كان للنصارى تقاليد معينة في تحويل المساجد إلى كنائس، فما إن يفتحوا بلداً، وتتم لهم السيطرة عليه حتى ينتظموا في موكب فخم يتقدمه الكهنة وفرسان الجماعات الدينية، ويتجهوا صوب المسجد وهم ينشدون أناشيد الحمد والثناء ثم يتم تحويله إلى كنيسة، ويرفع فوق ساريتها علم النصر [13] .
ومن أبشع ما ارتكبه النصارى انتهاك الحرمات وامتهان الكرامة الإنسانية والاعتداء على عفة النساء، فكم من أسير وأسيرة امتهنت كرامتها، ولم يجدا إلى الفداء سبيلاً، وكم من امرأة مصونة اعتدي على عفتها حتى تمنت لو أنها في قبر، وكم من طفل حيل بينه وبين والديه حتى تمنيا أنه لم يولد، وكم من تقي عابد كبل بالسلاسل، وكم من شهيد قطعته السيوف إرباً إرباً.. إنها حال بلغت من القسوة النهاية، وتجاوزت في سوءها الغاية حتى لقد ضج أهل الملأ الأعلى وانفطر منها قلب الجليد، واهتز لها وقار الحليم، ولا شك أن ذلك من أبلغ ما يستثار به غيور أو تستنهض به همة، أو يدعى به إلى نجدة.
وقد استعان الشاعر في تعبيره للوصول إلى هدفه بإثارة العواطف الدينية والأسرية وبالإلحاح على صور المأساة وأوضاعها مما كثف آثارها فجعلها تسيطر على نفوسنا، وتهيمن على حسنا، وتنفخ في جمرة الحمية.
وقد استغل الشاعر ما وصلت إليه النفوس من حماس وغليان فقال:
وسيوفكم للثأر لم تتقلد
أكذا يعيث الروم في إخوانكم
خمدت وكانت قبل ذات توقد
يا حسرة لحمية الإسلام قد
ولكن هذه الصيحات ذهبت جميعاً أدراج الرياح، ونفذ أمر الله، وخرج المسلمون من الأندلس بعد ثمانية القرون التي كانت حجر الزاوية في بناء الحضارة الأوروبية الحديثة.. خرجوا وقد تركوا تراثاً ثقافياً ضخماً على صفحات الكتب وآثاراً عمرانية رائعة على صفحة الأرض تشاهد الآن وكأنها نوادب تبكي قوماً رحلوا، وتتطلع في لهفة إلى عودتهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
المفضليات، ط 3 القاهرة، 201.
[2]
عمدة القارئ شرح صحيح البخاري للبدر العيني ط بيروت، 4/217.
[3]
شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ط 6 القاهرة، 434.
[4]
أنظر، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، القاهرة 1955م، 113.
[5]
أحمد المقري، نفح الطيب، القاهرة 1302هـ، 2/592.
[6]
الرسالة، مجلة، 105 8 يوليو 1935م، السنة الثالثة.
[7]
التوبة 111.
[8]
نهاية الأندلس، محمد عبد الله عنان، القاهرة 1966م، 190.
[9]
نفسه.
[10]
نفح الطيب 2/588.
[11]
نفح الطيب، 2/523.
[12]
نفسه 2/594.
[13]
يوسف أشباخ، تاريخ الأندلس ترجمة محمد عبد الله عنان، القاهرة 1958م، 433.
متى يفيق الغافلون
شعر فضيلة الشيخ: محمد المجذوب
فغدت بفضل الجهل جمر
كانت هدايا الحج تمره
على التوافه والمضَرَّه
تلفاً لمال المسلمين
رج مالئاتٍ كل ثغره
أنَّى التفتَّ ترَا لبها
حَ وكلَّ زاويةٍ وحُفره
الدرب والأرض والبرا
تِ وخُذْ وكمْ) عن كل فكره
والكلُ مشغولٌ بـ (هَا
تِ عن العبادة والمبرَّه
فُتنوا بتلك المغريا
ن من الزخارفِ كل صُرَّه
وتدافعوا يتأبَّطو
أَحداثِ في حُرَقٍ وحسره
وأولوا النهى من هَذه الـ
رِّ الخفيِّ الضَّخْم سِتره
كشفوا بحكمتِهم عن السـ
ن تُصبُّ في سَرفٍ وشِرَّه
فإذا كنوز المسلميـ
لكي يُحَققَ ما أسرَّه
تُشرى بها سلع العدو
جَارِ من جدواه قِشره
كلُّ اللباب له واللتُّـ
ع وما لهم لهواه سُخْرَه
فجهود هاتيك الجمو
من عُسرِهم للغربِ يُسره
وعليهمو أن يَصْنَعوا
من كلّ ذَاكَ ببعض قطره
وبحسبِهم أن يظفروا
ن سوّى الذي هو قد أقرَّه
فكأنهم لا يحسنو
يوماً جرائِمه وكُفرَه
وكأنهم لم يعرفوا
بيديه أَسلِحةً وقُدره
ولْتَسْتَحِلْ أموالُهم
وبها يُعدُّ لكل غَدرَه
فيها يدُكُّ وجدهم
أمنوا على الأيام مكره
ولوَنَّهم فطنوا لَما
حتى يُطأطئَ وهو مُكره
ولَقاطعُوا أسواقه
دتِهم بمغفرة وعبره
وإذن لعادوا من وفا
ل: ليهنِكم حجٌّ وعُمر
ولَحُقَّ فيهم أن يقا
حمن لا زهوٌ وشهره
والحجُّ زاد من تُقى الر
ن ويَنْفُضُ المخمور سُكْره
فمتى يُفيق الغافلو
وأخو الغباوة ألف مرَّه
فلقد يلام الخِبُّ مرَّه
صيغة فعلان واستعمالاتها في اللغة العربية
لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
المتتبع لصيغة (فعلان) بفتح الأول وسكون الثاني، أو بضم الأول أو كسره في اللغة العربية يجد أنها من الصيغ العملية التي يدور استعمالها في كثير من أبواب النحو والصرف وقد أثرت البحث في هذه الصيغة كي أجمع حبات العقد المنفرط هنا وهناك وما يستتبع الأحكام الخاصة بما ورد على هذا الوزن تبعا لنوعية استعماله عند العرب فأقول وبالله التوفيق.
صيغة (فَعْلان)[1] الملحوظ فيها أنها ختمت بألف ونون زائدتين، وهذه الزيادة مطردة في كل صفة مؤثنها على وزن (فَعْلَى) لأن الصفات تشبه الأفعال والفعل أقعد في باب الزيادة وإذا وجدنا بعض الأعلام وأسماء الأجناس على صيغة (فَعْلان) فهي بالحمل على الصفات فابن يعيش يقول في شرح المفصل [2](فالأول وقوعها (أي النون) آخرا بعد ألف زائدة نحو سكران وعطشان ومروان وقحطان وأصل هذه النون أن تلحق الصفات مما مؤنثه (فعلى) لأن الصفات بالزيادة أولى لشبهها بالأفعال والأفعال أقعد في باب الزيادة من الأسماء لتصرفها، والأعلام من نحو: مروان وقحطان محمولة عليها في ذلك وقد كثرت الزيادة آخرا على هذا الحد ولا يحمل شيء منه على الأصل إلا بدليل) [3] .
صيغة فعلان ومعانيها:
وردت صيغة (فَعْلان) متعددة المعاني والدلالة وهاك أنواعها:
1-
فعلان المصدر:
قال في اللسان قال أبو الهيثم لم يجئ من المصادر على (فعلان)(بفتح فسكون) إلا (ليَّان) وقال ابن الحاجب [4] : وأما فعلان فنادر نحو لوى ليَّاناً [5] وقد ذكره أبو زيد بكسر اللام، وجاء شنآن وقرئ في التنزيل بهما. وجاء في القاموس [6] الزيدان بمعنى الزيادة فتكون فعلان جاءت مصدرا نادرا في ثلاثة معان
…
قال ذو الرمة:
وأُحْسنُ يا ذات الوشاحِ التقاضيا
تُطيلَن ليًّاني وأنتِ مليئة
وقال زيادة العنبري [7] :
مخافة الإفلاس والليَّانا
قد كنت داينت بها حسَّانا
وأصل ليَّان لَوْيان اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء الخ فهو قليل في المصادر وكثير في الصفات.
2 -
فَعْلان العلم [8]
وردت صيغة فَعْلان علما للإنسان وغيره نحو: بدران، سعدان، ومروان، ورغدان (اسم قصر بالأردن) وشعبان علم على الشهر المعروف كما وردت اسماً للجنس مثل سعدان نبت من أفضل المراعي كما يقول القاموس ومنهم قولهم في المثل:(مرعى ولا كالسَّعدان) وقد اتفق العلم واسم الجنس.
3-
فعلان الصفة:
تستعمل صيغة فعلان صفة مشبهة من الفعل اللازم المكسور العين قياسا بشرط أن يدل على الامتلاء كسكران وريان [9] والشبع كشبعان والخلو مثل غرثان (للجائع) وصديان وحرارة البطن كغضبان وثكلان وحران قال عروة بن حزام:
إلَّى حبيبا إنَّها لحبيبُ
لَئن كان برد الماء حَرّان صاديا
والمؤنث لفَعْلان يكون صفة ممتنعة من التاء بأن يكون المؤنث على (فَعْلى) مثل جوعان، وسكران وهذا هو المطرد الغالب وقد يخرج عن هذا الأصل وعده علماء اللغة شاذا كقولهم نعس [10] بالفتح فهو نعسان ومثله جوعان من جاع وقد يكون صفة لا تمتنع من التاء مثل سفيان للطويل ومؤنثه سفيانة وقد حصر ابن مالك الألفاظ التي مؤنثها بالتاء ومذكرها على صيغة فَعْلان وهي كما نظمها في كتابه الفرائد في قوله:- كل ما جاء على (فَعْلان) فمؤنثه على (فَعْلى) غير اثني عشر اسما فإنها جاءت على (فعلانة) ثم نظمها فقال:-
إذا استثنيت حَبْلانا
أجز فَعْلَى لفَعْلانا
وسَفْيانا وضَحْيانا
ودَخْنانا وسَخْنانا
وقَشْوانا ومَصَّانا
وصَوْجانا وعَلاّنا
وأتبعهن نصرانا
ومَوْتانا ونَدْمانا
انظر المزهر للسيوطي ج 2 ص 113.
1-
(الحبلان) الرجل الكبير البطن قال في القاموس حبل من الشراب والماء فهو حبلان وهي حبلى ومن الغضب وهو حبلان وهي حبلانة.
2-
(الدخان) يوم دخنان كثير الدخان.
3-
(يوم سخنان) كثير السخونة.
4-
(سفيان) الرجل الطويل الممشوق الضامر انظر القاموس.
5-
(ضحيان) يوم ضحيان ضاحي قال في القاموس رجل ضحيان يأكل في الضحى، يوم ضحيان: لاغيم فيه.
6-
(الصوجان) من الإبل والدواب الشديد الصلب.
قال في القاموس: الصوجان كل يابس وصلب من الداوب والناس ونخلة صوجانة يابسة كزة السعف، وأي صوجان؟ هو أي الناس.
7-
(غلان) الرجل الكثير النسيان وقال في القاموس:
الغَلَل محركه وكأمير العطش أو شدة حرارة الجوف وقد غُل بالضم فهو غليل ومغلول ومغتل ومعبر غل (وغلان)(وغَل يَغَل) بفتحهما الحقد كالغلِ بالكسر، وقد غَلَّ صدري يَغِلّ (من باب ضرب يضرب) من حرارة الحب والحزن، والعلَاّن (بالعين) الصغير الحقير كما في المرجع ج 1 ص 96.
8-
(القشوان) القليل اللحم وقي القاموس: القشوان الدقيق الضعيف وهي بهاء.
9-
(المصان) اللئيم.
10-
(الموتان) الضعيف الفؤاد قال في القاموس: رجل موتان الفؤاد بليد.
11-
(ندمان) النديم: ندم فهو ندمان أي نادم، ونادمني فلان على الشراب فهو نديمي وندماني وجمع النديم ندام وجمع الندمان ندامى والمرأة ندمانه والنسوة ندامى أيضا.
12-
(نصران) نصراني والجمع نصارى والنصرانة واحدة النصارى قد استدرك عليه لفظان وهما خَمْصان لغة في خُمْصان بضم الخاء وأليان في كبش أليان أي كبير الالية فذيل الشارح المرادي أبياته بقول:
على لغة وأليانا
وزد فيهن خمصانا
ومما يجدر ملاحظته أن النحاة يمثلون (لفَعْلان) الذي مؤنثه على (فعلى) بعطشان وغضبان وسكران مع أن كتب اللغة كالقاموس تذكر للثلاثة مؤنثا مختوما بالتاء ومؤنثا آخر ليس مختوما بها وَمَرَدُّ ذلك أن كتب اللغة تذكر ذلك تبعا للغة بني أسد التي تلحق التاء في مؤنث فَعْلان اطراد مثل سكران ونظائرها قال ابن جني في المحتسب [11] :
(يقال رجل سكران وامرأة سكرى كغضبان وغضبى، وقد قال بعضهم (يعنى لغة بني أسد) سكرانة كما قال بعضهم غضبانة (والأول أقوى وأفصح) انتهى.
ونظرا لكثرة ما ورد في ذلك أخذ المجمع اللغوي القاهري بلغة بني أسد في جواز إلحاق تاء التأنيث بكلمة سكرانة ونظائرها وفيما يلي نص القرار كما قدمته اللجنة المختصة [12] ووافق عليه المجمع وأخذ به نهائيا (أن تأنيث (فعلان) بالتاء لغة كما في بني أسد (كما في الصحاح) – أو لغة بني أسد (كما في المخصص)[13] وقياس هذه اللغة صرفها في النكره (كما في المفصل*)) .
والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ وإن كان غير ما جاء خيرا (كما في قول ابن حني) لذا يجوز أن يقال: عطشانة وغضبانة وأشباهها ومن ثم يصرف (فعلان) وصفا ويجمع (فعلان) ومؤنثه (فعلانة) جمع تصحيح ولعلك تدرك الآن أن الجمهور من النحاة يأخذ بما أطرد عن جمهور العرب وهو أن فَعْلان مؤنثه الغالب المطرد على (فَعْلى) وورد من غير الغالب الأسماء التي ذكرتها تبعا لابن مالك في منظومته.
فعلان وصف لمذكر ولا مؤنث له:
وقد تكون صيغة (فعلان) دالة على المذكر الذي لا مؤنث له في الواقع لا على (فَعْلى) ولا على (فَعْلانة) مثل: (رحمان) علم على الله جل شأنه، و (لحيان) لكثير اللحية.
جمع فعلان
(فَعْلان) المذكر الذي مؤنثه على (فَعْلى) لا يجمع جمع التصحيح وإنما يجمع جمع التكسير وذلك لأنه وصف غير جار على فعله وذلك أن الصفات على ضربين أحدهما ما كان جاريا على الفعل كضارب وضاربة وثانيهما ما ليس جاريا على الفعل كأحمر وحمراء، وسكران وسكرى فما كان من الأول فإنه يجمع جمع السلامة أي بالواو والنون في جمع المذكر السالم وبالألف والتاء في جمع المؤنث السالم تقول: قائمون وقائمات وضاربون وضاربات وذلك لأنه لما جرى على الفعل شبه بلفظ الفعل الذي يتصل به ضمير الجمع للمذكر والمؤنث لأن الفعل يسلم ويتغير بما يتصل به فقولك ضاربون مثل يضربون وضاربات بمنزلة يضربن.
وما كان [14] من الثاني وهو غير الجاري على الفعل فلا يجمع جمع السلامة مثل (فَعْلان ومؤنثه فعلى)(وأفعل ومؤنثه فعلاء) إلا في ضرورة الشعر مثل قول حكيم الأعور يهجو امرأة الكميت بن زيد باهل وكان مولعا بهجاء مضر؛ لأنه من بني كلاب.
حَلَائِلَ أحمْرِين وأَسْودَيِنا
فما وَجَدتْ بناتُ بني نزارٍ
ولا يجوز هذا إلا ابن كيسان فيقول لا أرى بأسا به ولكن مذهب الجمهور يمنعه ويجعله ضرورة لا يصح لنا ارتكابها ولذلك لا يجمع (فعلان: فعلى) جمع السلامة فإن سميت بشيء من ذلك جاز أن تجمعه جمع السلامة لأنه اسم
…
وقال الرضي في شرح [15] الكافية مفصِّلا هذا الحكم:
((وأما الخاص من شروط الجمع بالواو والنون فشيئان: العلمية وقبول تاء التأنيث أما العلمية فمختصة بالأسماء وأما قبول التاء فمختص بالصفات فلم يجمع هذا الجمع (أفعل فعلاء)(وفعلان فعلى) وما يستوي مذكره ومؤنثه كما ذكرنا في باب التذكير والتأنيث، وإنما اعتبر في الصفات قبول التاء لأن الغالب في الصفات أن يفرق بين مذكرها ومؤنثها بالتاء لتأديتها معنى الفعل، والفعل يفرق بينهما فيه بالتاء، نحو الرجل قام، والمرأة قامت وكذا في المضارع التاء وإن كان في الأول نحو: تقوم والغالب في الأسماء الجوامد أن يفرق بين مذكرها ومؤنثها بوضع صيغة مخصوصة لكل منها (كعير وأتان) وجمل وناقة (وحصان وحجر)[16] ويستوي مذكرها ومؤنثها كبشر وفرس هذا هو الغالب في الموضعين وقد جاء العكس أيضا في كليهما نحو أحمر وحمراء والأفضل والفضلى وسكران وسكرى في الصفات وكامرئ وامرأة ورجل ورجلة في الأسماء فكل صفة لا يلحقها التاء فكأنها من قبيل الأسماء، فلذا لم يجمع هذا الجمع (أفعل فعلاء) (وفعلان وفعلى) وأجاز ابن كيسان أحمرون وسكرانون واستل بقوله:
حَلَائِلَ وأحمْرِين وأَسْودَيِنا
فما وَجَدتْ بناتُ بين نزارٍ
وهو عند غيره شاذ وأيضا حمروات وسكريات بناء على تصحيح جمع المذكر والأصل ممنوع وكذا الفرع وأجاز سيبويه قياسا لا سماعا ندمانون في قولهم:
ندمان لقبوله التاء كندمانة وكذا سيفانون لقولهم: سيفانة قال سيبويه: لا يقولون ذلك وذلك لأن الأغلب في (فَعْلان) الصفة أن لا يلحقه التاء فندمانة وسيفانة كأنهما من قبيل الشذوذ فالأولى أن لا يجمعا هذا الجمع حملا على الأعم الأغلب انتهى.
ومن هذه النصوص يتبين أن (فَعْلان) الذي مؤنثه على فَعْلى لا يجمع جمع التصحيح وإنما يجمع جمع التكسير [17] وقد جمع (فعلان) تكسيرا على صيغ كثيرة منها:
1-
(فِعّال)[18]
شاع فِعَال (بكسر الفاء) في وصف على فَعْلان ومؤنثيه فَعْلى وفعلانة تقول: غضبان وغضاب، وغضبى وغضاب وندمان وندام، وغَرْثان [19] وغِراث.
2-
فعلىوجمع فَعْلان على (فَعْلى) تقول:
وجياع جمع جوعان إلا أنه لا يطرد فيه وجعله ابن مالك في التسهيل مطردا فيه.
رجل سكران ورجال سكرى [20]، ورجل روبان [21] وقوم روبى قال بشر:
فألفاهم القوم روبى نياما
فأما تميم تميم بن مر
قال الرضي [22] : (ولا يبعد أن يكون سكرى وروبى) في مثل هذا الموضع مفرداً مؤنثاً (لفعلان) وذلك لأن مؤنث فعلان الصفة من باب فعل يفعِل قيامه (فعلى) وصفة المفرد المؤنث تصلح للجمع المؤنث.
3-
(فَعَالَى) وجمع (فعلان)[23] على فَعَالَى تقول:
سكران وسكارى. وغضبان وغضابي ومثلهما سكرى وغضبى وتقول: شاة حرمى أي مشتهية للنكاح وشياه حرامى. وإنما جمع فعلان كسكران على فَعَالَى تشبيهاً للألف والنون بالألف الممدودة فسكران وسكارى كصحراء وصحارى.
وجاء الضم في جمع بعض فعلان الذي مؤنثه فعلى خاصة وهو في كسالى وسكارى أرجح من الفتح، وإنما ضم في جمع فعلان خاصة لكون تكسيره على أقصى الجموع خلاف الأصل؛ وذلك لأنه إنما كسر عليه لمشابهة الألف والنون فيه لألف التأنيث فغير أول الجمع غير القياسي عما كان ينبغي أن يكون عليه لينبه من أول الأمر على أنه مخالف للقياس وأوجب الضم في قدامى جمع قادمة وأسارى جمع أسير وإلزام الضم فيهما دلالة على شدة مخالفتهما لما كان ينبغي أن يكسرا عليه.
وفي المفصل أن بعض العرب يقول: كسالى وسكارى وعجالى، وغيارى كل هذا يضم أوله.
جمع (عُريان)
ومما تجدر ملاحظته أن بعض الناس يقعون في أخطاء شائعة فيشيع على الألسنة جمع عريان على عرايا وهذا الجمع للعريان غير صحيح وإنما للعرايا جمع (العرية) وهي النخلة يمنحها الغني للفقير لينتفع بثمرها.
فأما عريان فيجمع في التصحيح إذا كان للعقلاء على عريانون وفي التكسير يجمع على عراة وقد جاء الخطأ في جمع عريان على عرايا من قبل شبهه بخزيان وندمان وهما يجمعان على خزايا وندامى.
وإني أقدم إليك نصاً من سيبويه قال في الكتاب ج 2 ص 212 (وإن شئت قلت في عريان عريانون فصار بمنزلة قولك: ظريفون وظريفات، لأن الهاء ألحقت بناء التذكير حين أردت بناء التأنيث فلم يغيروا ولم يقولوا في عريان: عراء، ولا عرايا، استغنوا بعراة لأنهم مما يستغنون بالشيء عن الشيء حتى لا يدخلوه في كلامهم) .
وقوله (لم يقولوا: عراء) أي كما قالوا خمُصان وخِماص فكان هذا سائغا لهم في القياس أن يقولوا: (عراء) ولكنهم أطرحوه استغناء عنه بعراة، وقوله (ولا عرايا) أي كما قالوا: خزيان وخزايا وسكران وسكارى، لأن عريان ليس من باب خزيان) .
وقد بان من كلام سيبويه أن عراة ليس في القياس جمعا لعريان وإنما هو قام مقام جمعه وهو عراء كخماص، وذلك أن عراة جمع لعار كقضاة جمع لقاض غير أنه لما كان عريان في معنى عار جعل عراة جمعا لعريان في الاستعمال واستغنى به عن عراء وهذا كما استغنوا بكماة في جمع كمي عن (اكمياء) لما كان (كمي) في معنى كام (وفي اللسان) والكمي الشجاع المتكمي في سلاحه لأنه كمى نفسه أي سترها بالدرع والبيضة، والجمع كماة كأنهم جمعوا كاميا مثل قاضيا وقضاة)) .
جمع فعلان اسم الجنس والعلم:
4-
(فعالين) وقد جمع (فعلان) على فعالين بشرط أن يكون اسما تقول في شيطان شياطين لأنه من شاط يشيط إذا بطل وهلك قال الأعشى:-
وقد يَشِط على أرماحنا البطلُ
قد تخْضَبُ العيرُ من مَكْنون [24] فَائِله
فِعلان بكسر الفاء وضمها:
ويشارك (فعلان بالفتح ما كان مكسورا الفاء أو مضمومها تقول: سِرحان وسراحين وسُلطان وسلاطين قال في المفصَّل [25] : أعلم أن ما كان من الأسماء على وزن فَعُلان فإنه يكسر على فعالين ولا فرق في ذلك بين المفتوح الأول والمضمومة والمكسورة) .
وقال الرضي [26] : (كل اسم على فعلان مثلث الفاء ساكن العين كان أو متحركة كَوَرشَان والسَبعُان والظَرِبان بجمع على فعالين إلا أن يكون علما مرتجلا كسلمان، وعثمان وعفان، وحمدان وغطفان وذلك لأن التكسير في المرتجل مستغرب بخلافه في المنقول إذ له عهد بالتكسير ولا سيما إذا كان في المرتجل ما ينبغي أن يحافظ عليه من الألف والنون لشبهه بألف التأنيث) .
(فعلان) الممنوع من الصرف
1-
صيغة (فَعْلان) إذا كانت صفة فإنها تمنع من الصرف وذلك بشرطين أن تكون وصفيته أصلية (غير طارئة) وأن يكون تأنيثه بغير التاء وذلك صادق على نوعين أحدهما أن يكون تأنيثه الشائع عند العرب بألف التأنيث المقصورة، والثاني أن يكون خاصا بالمذكر فلا مؤنث له كلحيان، ورحمان ومثال الأول عطشان وغضبان وسكران، صديان فأشهر مؤنثاتها على (فعلى) فإن كان الغالب المسموع على مؤنثه وجود تاء التأنيث في آخره لم يمنع من الصرف تقول: نظرت إلى سيفان بالجر بالكسرة، وكذلك لا يمنع من الصرف إذا كانت الوصفية طارئة غير أصلية مثل كلمة صفوان والتي معناها الحجر قد تستعمل استعمال الصفان فتقول: لا حبذا رجل صفوان قلبه فكلمة صفوان هنا لا تمنع من الصرف، وإذا كان من الصفو فتقول يوم صاف وصفوان أي بارد وبلا غيم فحينئذ بمنع من الصرف فهي في الأول عارضة الوصفية فصرفت بخلافه في الثاني.
2-
وصيغة (فعلان) إذا كانت علما [27] فإنها تمنع من الصرف كذلك للعلمية وزيادة الألف والنون سواء كان علما على الإنسان أم علما على غيره نحو بدران، قحطان، عدنان، شعبان.
ويشارك (فعلان) بالفتح والسكون ما بغيره كرمضان، غطفان [28] ، عِمْران وعُثمان.
فإن كان الألف والنون صالحين للزيادة والأصالة جاز في الاسم الصرف وعدمه بهذين الاعتبارين نحو (حسان) علما على شخص فيجوز أن يكون مشتقا من الحسّ بمعنى الشعور فيمنع من الصرف لأن الحرفين زائدان، وإن كان مشتقا من الحُسنْ وهو الجمال فلا يمنع من الصرف لأن وزنه حينئذ فعّال لا (فعلان) ومثله (غسان) قد يكون من الغسّ بمعنى الدخول في البلاد فيمنع من الصرف وقد يكون من الغَسنْ بمعنى المضغ فلا يمنع لأن وزنه (فعال) وكذلك عفان من العفة وحيان من الحين وهو الهلاك ومن الحياة.
وكذلك قبان من قبن في الأرض إذا ذهب فيها وعلى هذا يصرف لأن النون فيه أصلية ووزنه (فعال) ويجوز أن يكون من القب وهو شدة الخصومة، وقب بطنه أي قطع وحينئذ يمنع من الصرف لأن وزنه (فعلان) .
يقول ابن يعيش [29] وأما الألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث [30] فهي من الأسباب المانعة من الصرف من حيث كانتا زائدتين والزائد فرع على المزيد عليه وهما مع ذلك مضارعتان لألفي التأنيث نحو حمراء وصحراء، والألف في حمراء وصحراء يمنع الصرف فكذلك ما أشبه وذلك نحو عطشان وسكران وغرثان وغضبان واعتباره أن يكون (فعلان) ومؤنثه (فعلى) نحو قولك: في المذكر عطشان وفي المؤنث عطشى وسكران، وفي المؤنث سكرى وغرثان وفي المؤنث غرثى لا تقول: سكرانة ولا عطشانة ولا غرثانة في اللغة الفصحى، وإنما قلنا:(فعلان ومؤنثه فعلى) احتراز من فعلان آخر لا فعلى له في الصفات قالوا رجل سيفان للطويل الممشوق، وقالوا امرأة سيفانة ولم يقولوا (سيفى) ووجه المضارعة بين الألف والنون في سكران وبابه وبين ألفي التأنيث في حمراء وقصباء أنهما زيدتا معا كما أنهما في حمراء كذلك وأن الأول من الزائدتين في كل منهما ألف، وأن صيغة المذكر مخالفة لصيغة المؤنث وأن الآخر من كل واحد منهما يمتنع من إلحاق التاء للتأنيث، ثم يقول: أما الأعلام نحو: مروان وعدنان، وغيلان فهي أسماء لا تنصرف للتعريف وزيادة الألف والنون وأعلم أن هذه الألف والنون في هذه الأعلام وما كان نحوها محمولات على باب عطشان وسكران لقرب ما بينهما ألا ترى أنهما زائدتان كزيادتهما وأنه لا يدخل عليها تاء التأنيث لا نقول: مروانة ولا عدنانة لأن العلمية تحظر الزيادة كما تحظر النقص وليس المانع من الصرف كونه على فعلان بفتح وسكون ألا ترى أن عثمان وزبيان وشعبان حكمهما حكم عدنان وغيلان) انتهى.
وقال الرضي [31] : (أعلم أن الألف والنون إنما تؤثران لمشابهتهما ألف التأنيث الممدودة من جهة امتناع دخول تاء التأنيث عليهما معا وبفوات هذه الجهة يسقط الألف والنون عن التأثير..)
ثم إنهم بعد اتفاقهم على أن تأثير الألف والنون لأجل مشابهة ألف التأنيث اختلفوا، وقال الأكثرون تحتاج إلى سبب آخر ولا تقوم بنفسها مقام سببين كالألف لنقصان المشبه عن المشبه به وذلك الأخر إما العلمية (كعمران) وإما الصفة كما في (سكران) .
وذهب بعضهم إلى أنها كالألف غير محتاجة إلى سبب آخر فالعلمية عندهم في نحو (عمران) ليست سببا بل شرط الألف والنون، إذ بها يمتنع عن زيادة التاء وهذا الانتفاء هو شرطها سواء كانت مع العلمية أو الوصف والوصف عندهم في نحو (سكران) لا سبب ولا شرط، والأول أولى لضعفها فلا تقوم مقام علتين.
هل المؤثر انتفاء التاء أم وجود فعلى؟
الرأي السائد أن المزيد بالألف والنون إنما يمنع من الصرف بشرط ألا يكون مؤنثه بالتاء، فانتفاء التاء هو الشرط الضروري للمنع من الصرف.
وقول بعضهم إن الشرط هو أن يكون مؤنثه على فعلى أي يكون مؤنثه على غير لفظه، قال ابن الحاجب في الكافية عارضا هذين الرأيين (أو صفة فانتفاء فعلانة وقيل وجود فعلى ومن ثم اختلف في رحمان دون سكران وندمان) قال الرضي معقبا عليه: وقوله: (وقيل وجود فعلى) والأول أولى لأن وجود (فعلى) ليس مقصوداً لذاته بل المطلوب منه انتفاء التاء، لأن كل ما يجئ منه (فعلى) لا يجئ منه فعلانة في لغتهم إلا عند بعض بني أسد فإنهم يقولون في كل فعلان جاء منه فعلى:(فعلانة) أيضا نحو: غضبان وسكران فيصرفون إذن (فعلان فعلى) وهذا دليل قوي على أن المعتبر في تأثير الألف والنون انتفاء التاء لا وجود فعلى، ثم يدلل على قوله ببعض الألفاظ التي لا يكون مؤنثها على (فعلى) ومع هذا فهي ممنوعة من الصرف.
يقول الرضي: (فإذا كان المقصود من وجود (فعلى) انتفاء التاء وقد حصل هذا المقصود في (رحمان) لا بواسطة وجود (رحمى) بل لأنهم خصصوا هذه اللفظة بالبارئ تعالى فلم يطلقوه على غيره ولم يضعوا منه مؤنثا لا من لفظه أعني بالتاء ولا من غير لفظة أعني (فعلى) فيجب أن يكون غير منصرف) .
فإن قلت لا نسلم أن وجود (فعلى) مطلوب ليطرق به إلى انتفاء فعلانة بل هو مقصود بذاته لأنه يحصله بوجودها مشابهة بين الألف والنون وبين ألف التأنيث لكون مؤنث هذا على غير لفظه كما أن مذكر ذاك على غير لفظه قلت هذا الوجه وإن كان يحصل به بينهما مشابهة إلا أنه ليس وجها للمشابهة ضروريا بحيث لا يؤثر الألف والنون بدونه بل الوجه الضروري كما ذكرنا في التأثير انتفاء فعلانة ألا ترى إلى عدم انصراف مروان وعثمان بمجرد انتفاء التاء من دون وجود (فعلى) انتهى كلام الرضي.
ويقول الإمام بدر [32] الدين محمد الزركشي في التنبيه الثالث في معرض الحديث عن لفظة (رحمان) : أنه لو جرد عن الألف واللام لم يصرف لزيادة الألف والنون في آخره مع العلمية أو الصفة.
وأورد الزمخشري [33] بأنه لا يمنع (فعلان) صفة من الصرف إلا إذا كان مؤنثه على (فعلى) كغضبان وغضبى وما لم يكن مؤنثه على (فعلى) ينصرف كندمان وندمانة وتبعه [34] ابن عساكر بأن رحمن، وإن لم يكن له مؤنث على فعلى فليس له مؤنث على فعلانة لأنه اسم مختص بالله تعالى فلا مؤنث له من لفظه. فإذا عدم ذلك رجع فيه إلى القياس وكل ألف ونون زائدتين فهما محمولتان على منع الصرف.
قال الجويني وهذا فيه ضعف في الظاهر وإن كان حسنا في الحقيقة لأنه إذا لم يشبه غضبان ولم يشبه ندمان من جهة التأنيث فلماذا ترك صرفه مع أن أصل الصرف كان ينبغي أن يقال ليس هو كغضبان فلا يكون غير منصرف ولا يصح أن يقال هو كندمان فلا يكون منصرفا لأن الصرف ليس بالشبه إنما هو بالأصل وعدم الصرف بالشبه ولم يوجد ولعل تقدير ابن عساكر السابق يؤيد إنكار ابن مالك على ابن الحاجب تمثيله ب ((رحمن)) .
لزيادة الألف والنون مع منع الصرف وقال لم يمثل به غيره ولا ينبغي التمثيل به فإنه اسم علم بأغلبه لله مختص به وما كان كذلك لك يجرد من (أل)[35] ولم يسمع مجردا من (أل) إلا في النداء قليلا مثل (يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة) .
وقد أنكر الزمخشري [36] على شاعر اليمامة قوله:
وأنتَ غيثُ الوَرَى لازلتَ رَحْمانَا
سموتَ بالمجدِ بابنِ الأكرمين أباَ
وأجاب ابن مالك بأن الشاعر أراد (لازلت ذا رحمة) ولم يرد الاسم المستعمل بالغلبة وحينئذ يستعملونه مضافا ومنكرا وقد أنكر على الشاطبي قوله في أول أرجوزته المعروفة في القراءات والمسماة حرز الأماني ووجه التهاني.
تبارك رحمانا رحيما وموئلا
بدأت ببسم الله في النظم أولا
لأنه أراد الاسم المستعمل بالغلبة وكان ينبغي عليه أن يعرفه بالألف واللام، ولما كان الرحمن علما لا صفة كما يقول:
الأعلم وابن مالك وصف بقوله في البسملة (الرحمن الرحيم) وليس الرحيم مرادفا للرحمن [37] فالرحمن كالعلم لا يوصف به إلا الله تعالى فلهذا قدم، لأن حكم الأعلام وغيرها من المعارف أن يبدأ بها ثم يتبع الأنكر أي الأقل في الصفة وما كان في التعريف أنقص.
وهذا مذهب سيبويه وغيره من النحويين فجاء هذا على منهاج كلام العرب ومثل (رحمان) ، (لحيان)[38] لكبير اللحية وفيه الخلاف المذكور والصحيح منع صرفه أيضا، لأنه وإن لم يكن له (فعلى) وجودا فله (فَعْلى) تقديرا لأنا لو فرضنا له مؤنثا لكان (فعلى) أولى به من (فَعْلانةُ) لأن باب فَعْلان فَعْلى أوسع من باب فعلان فعلانة فالأولى أن يحمل على أوسع البابين انتشارا عند العرب، والتقدير في حكم الوجود بدليل الإجماع على منع أكمر [39] وآدر [40] مع أنه لا مؤنث له ولو فرض له مؤنث لأمكن أن يكون كمؤنث أرمل وأن يكون كمؤنث أحمر لكن حمله على أحمر أولى لكثرة نظائره.
ويقول أبو حيان الصحيح فيه الصرف لأنا جهلنا فيه النقل عن العرب والأصل في الاسم الصرف فوجب العمل به فهذه المسألة مما تعارض فيها الأصل والغالب.
(وللحديث بقية)
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
وزيادة الألف والنون آخر الاسم ودلالتها على النسب تعد من الظواهر التي تشارك فيها بعض اللغات الشرقية والغربية.
[2]
شرح المفصل ج 9 ص 154، 155.
[3]
ومن الملحوظ أننا نشاهد استعمال هذا الوزن كثيرا في اللهجة الدارجة فقالوا فلان بخلان، بردان، بطران، بهتان، جربان، جحدان، حلمان، خدران، زعلان، زهقان، زوران، سرحان، طرشان، شرقان، صفقان، عميان، فجعان، كحيان، عمشان، مرضان، شقيان.. إلخ.
[4]
انظر الشافية ج 1ص 159، وشرح المفصل ج 6 ص 45.
[5]
تقول: لواه دينه، ولواه بدينه إذا مطله.
[6]
انظر القاموس مادة (الزيد) .
[7]
البيت لزيادة العنبري ونسبوه في كتاب سيبويه ج 1 ص 97 إلى رؤبة بن العجاج.
[8]
كثير من الأوصاف قد استعمله أسلافنا أعلاما ومنه ما يستعمل حتى الآن مثل حسان بن ثابت شاعر النبي وحمدان (بنو حمدان) ومنهم سيف الدولة الحمداني وحيان ومنهم أبو حيان التوحيدي البغدادي، وأبو حيان الأندلسي النحوي وسحبان الخطيب المشهور يضرب المثل بفصاحته، شعبان وشرهان، وعدنان عفان، غسان غيلان (اسم الشاعر ذو الرمة) قحطان وكهلان وهمدان (قبائل عربية) وردان (مولى عمرو بن العاص وحامل لوائه) يقظان (حي بن يقظان) ومن الكنايات عن مجهول النسب (هيان بن بيان) .
* كذلك صفوان وصفا لمن ينفق ماله رياء في قوله تعالى {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} .
فصفوان في الأصل حجر وقد يستعمل علما مثل خالد بن صفوان.
[9]
قال سيبويه ج 2 ص 221: (وقالوا قدح نصفان وجمجمة نصفى، وقدح قربان وجمجمة قربى إذا قارب الامتلاء جعلوا ذلك بمنزلة الملآن، لأن ذلك معناه معنى الامتلاء لأن النصف قد امتلاء والقربان ممتلئ أيضا إلى حيث بلغ ولم نسمعهم قالوا: قرب ولا نصف اكتفوا بقارب وناصف ولكنهم جاءوا به كأنهم يقولون قرب ونصف كما قالوا مذاكير ولم يقولوا: مذكير ولا مذكار) انتهى كلام سيبويه.
[10]
انظر القاموس مادة (نعس) .
[11]
انظر المحتسب ج 2 ص 72.
[12]
انظر المجلد الشامل للمحاضرات والبحوث ص 83، 91 التي ألقيت في مؤتمر الدورة الثانية والثلاثين المنعقد ببغداد سنة 1965.
[13]
المخصص لابن سيدة.
* شرح المفصل لابن يعيش ج 1ص 66.
[14]
انظر شرح المفصل لابن يعيش ج 5ص 60.
[15]
انظر شرح الكافية ج 1ص 182 طبعة بيروت.
[16]
هي بالأصل حجر بكسر الحاء.
[17]
انظر الشافية ج 2 ص 174.
[18]
قال ابن مالك في الألفية حيث يتحدث عن الأسماء والصفات التي تجمع على فعال: وشاع في وصف على فعلانا وأنثيية أو على فعلانا وانظر شرح الأشموني ج 4 ص 98 والشافية ج 3 ص 173.
انظر سيبويه ج 2 ص 212.
[19]
غراث جمع غرثان كعطشان وهو الجرعان وتقول غرث الرجل كفرح يفرح فهو غرث وغرثان وامرأة غرثى وغرثان والجمع غرثى كجرحى، وغراثى كسكارى، وغراث كعطشان. قال الشاعر: غراث الوشح صافية البرين أي دقيقة الخصر لا يملأ وشاحها فكأنه غرثان والبرين كل حلقة من سوار وقرط وهذا كناية عن كونها سمينة.
[20]
وبه قرأ حمزة والكسائي {وترى الناس سكرى وما هم بسكرى} مع الأمالة.
وانظر الأشموني جزء 4 ص 97.
[21]
قال في اللسان: راب الرجل روباً تحير وفترت نفسه من شبع أو نعاس، وقيل سكر من النوم وقيل إذا قام من النوم خائر البدن والنفس، ورجل رائب وأروب وروبان والأنثى رائبة عن اللحياني لم يزد على من قوم روبى إذا كانوا كذلك، وقال سيبويه: هم الذين أتخنهم السفر والوجع فاستلقوا نوماً وهو في الجمع شبيه بهلكى وسكرى، وأحدهم روبان، وقال الأصمعي: واحدهم رائب مثل مائق وموقى وهالك وهلكى.
انظر سيبويه ج 2 ص 214.
[22]
انظر الشافية ج 2 ص 140 والأشموني ج 4 ص 97.
[23]
انظر سيبويه ج 2 ص 212 والأشموني ج 4 ص 105.
والشافية ج 2 ص 167، 174.
[24]
مكنون فائله: الدم.
[25]
انظر شرح المفصل لابن يعيش ج 5 ص 64.
[26]
انظر شرح المفصل لشافية ج 2 ص 172.
[27]
قال ابن مالك:
كغطفان وكاصبهانا
كذلك حاوى زائدي فعلانا
وفي أصبهان لغات كثيرة: منها كسر الهمزة، ومنها إبدال بائها فاء ولا تكون الألف والنون زائدتين إلا على اعتبار أن أصل الكلمة عربي أما على الرأي القائل إنها أعجمية وهو الصواب فلا تمنع للعلمية مع الزيادة وإنما تمنع للعلمية والعجمة.
[28]
الغطف: اتساع النعة.
[29]
انظر شرح المفصل ج 1 ص 66، شرح الكافية ج 1 ص 60.
[30]
فالسبب في منع (فعلان) من الصرف فيه خلاف إما لأنه ينتهي بزيادة تشبه ألف التأنيث وهذا عند سيبويه، والمبرد يقول امتنع فعلان من الصرف لكون النون بعد الألف مبدلة من ألف التأنيث، والكوفيون يقولون امتنع (فعلان) لكون النون بعد الألف زائدتين لا يقبلان الهاء. انظر شرح الأشموني ج 3 مبحث الممنوع من الصرف للزيادة.
[31]
انظر شرح الكافية ج 1 ص 60 وما ينصرف وما لا ينصرف للزجاج ص 35، 36.
[32]
انظر البرهان في علوم القرآن ج 2 ص 509 التنبيه الثالث.
[33]
انظر الكشاف للزمخرشي ج 1 ص 6.
[34]
انظر التكميل والإفهام لابن عساكر.
[35]
والذي يدل على أن العرب كانت تعرف هذا الاسم قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَن} .
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} فجهلوا الصفة دون الموصوف ولذلك لم يقولوا ومن الرحمن.
انظر البرهان ج 2 ص 503 ويقول أبو حيان في البحر المحيط ج 1 ص 17 الرحمن فعلان من الرحمة واصل بنائه من اللازم من المبالغة وشذ من المتعد (وال) فيه للغلبة كهي في الصعق فهو وصف لم يستعمل في غير الله كما لم يستعمل اسمه في غيره وسمعنا مناقبة قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ووصف غير الله من تعنت الملحدين، وإذا قلت الله رحمان ففي صرفه قولان يسند أحدهما إلى أصل عام وهو أن أصل الاسم الصرف، والآخر إلى خاص وهو أن أصل (فعلان) المنع لغلبته فيه. ومن غريب ما قيل فيه أنه أعجمي بالخاء المعجمة فعرب بالحاء قاله ثعلب وذهب إلا علم وابن الطراوة وغيرهم إلى أنه اسم علم مشتق من المتعدي كما اشتقوا الدبران من دبر صيغ للعلمية ويدل على علميته وروده غير تابع لاسم قبله في أكثر الكلام فعلى قول هؤلاء يكون الرحمن بدلا من اسم الله.
[36]
مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف ج 1 ص 5.
[37]
قال الإمام محمد عبده في تفسيره لسورة الفاتحة وقد ميز بين صيغتي الرحمن الرحيم فعنده أن الرحمن من يكثر من الأفعال الرحيمة فهي صيغة مبالغة، والرحيم من طبيعته الرحمة فالرحيم كسائر ما نسميه في الصرف صفة مشبهة تدل على الطبيعة الملازمة لصاحبها.
[38]
انظر شرح الأشموني ج 3 ص 174، وما لا ينصرف للزجاج ص 35، 36.
[39]
الأكمر وصف على أفعل لا مؤنث له يقال لكبير الحشقة.
[40]
الآدر وصف على أفعل لا مؤنث له يقال لكبير الخصيتين.
انظر البحر المحيط ج 1 ص 7.
تسعة أغلاط في خبر صغير
قال مؤلفو المنجد في تعريف أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه
أبو سفيان تاجر عادى النبي وحاربه في بدر واحد وقاد جناحاً من الجيش الكبير الذي زحف لحصار المدينة في وقعة مؤته سنة 627 ثم اعتزل الحرب وصالح محمداً في معاهدة الحديبية وسلمه مكة. كان في وقعة اليرموك توفي نحو 652.
التعقيب
1-
هو أبو سفيان صخر بن حرب الأموي القرشي.
2-
أبو سفيان لم يشهد بدراً بل مضى بالقافلة إلى مكة.
3-
خلط مؤتة بالمدينة وإنما قاد الجناح في معركة الخندق.
4-
لم يشهد مؤتة قط.
5-
وكانت وقعة مؤتة سنة ثمان للهجرة وتقابل سنة 629م لا 627م كما زعم المنجد.
6-
لم يحضر صلح الحديبية وكان سهيل بن عمرو هو مندوب قريش إليها.
7-
صلح الحديبية لم يسفر عن تسليم مكة وإنما تم فتحها بعد ذلك.
8-
لم يسلم أبو سفيان مكة بل منح بعض التكريم من قبل رسول الله تألفاً له.
9-
يحدد المنجد وفاته بعام 652 وإنما هو عام 655 الموافق لعام 34 للهجرة.
الإسراء وفلسطين ودولة اليهود
لفضيلة الشيخ أسعد بيوض التميمي
مدير مسجد الأقصى
الإسراء وعلاقته بقضية المسلمين في الأرض المباركة.
اشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار من قريش حيث خافت قريش على ما يوفره الكفر لها من امتيازات طبقية ودينية، وامتيازات اقتصادية، وأخذ الصراع بين الحق والباطل يتصاعد بين الدين الجديد وما يمثله من خير للإنسان وما يعطيه للبشرية من حياة كريمة يعبد فيها الإنسان ربه الذي خلقه ويسجد لبارئه الذي أوجده فلا يسجد لبشر، ولا ينحني أمام حجر أو شجر. ولا يعبد فلكا ولا مظهرا من مظاهر الكون وإنما يستمد العزة لنفسه من عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ويولد ولم يكن له كفوا أحد.
اشتد الصراع بينه وبين الشرك وما يمثله من انحطاط في الفكر الإنساني والسلوك البشري الذي يظهر في السجود لحاكم أو رجل دين أو حجر أو شجر أو فلك. ذلك الانحطاط الذي ينتج عنه أن الغرائز في الإنسان تتحكم في مسيرته لا مقياس عنده يقيس به الأمور ولا حلال ولا حرام، وإنما كل أمر مباح من قتل نفس أو ظلم إنسان أو أكل مال حرام، أو استعباد نفس وإذلال للخلق فلا عجب إن ظهرت الطبقية العرقية الممثلة في السادة والعبيد والأشراف والسوقة والطبقية الاقتصادية الممثلة في تجارة الربا وأكل أموال الناس بالباطل، واستغلال حاجة الآخرين للإثراء غير المشروع والطبقية الدينية بحيث يصبح الدين وفهمه احتكارا على طبقة معينة وناس مخصوصين يستغلون جهل الناس ويطلبون منهم أن يعبدوهم ويطلبون منهم تقديم النذور والقرابين لهم ولما يمثلون.
وأخذ الكفر يقاتل عن مواقعه بشراسة حتى اضطر المسلمين إلى الهجرة مرتين فرارا بدينهم وحرصا على عقيدتهم، وحتى يأذن الله بالفرج.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يقارع قومه الحجة، يبين باطل ما هم فيه وما عليه حياتهم، ولكنهم أصابهم الكبر ولحق بهم العناد وكان الله قد هيأ له زوجة صالحة تعتني بأمره وتدعمه بمالها، وتخفف عنه قسوة عناد قومه، وجهل عشيرته، وهيأ له كذلك عمه أبا طالب يحميه، ويمنعهم من قتله واغتياله، وإن لم يمنع عنه ما دون القتل والاغتيال من الأذى وهم مع هذا يحسبون حساب عمه من حين إيذائه حتى أن بعضهم يطرح عليه سلا جزور وهو يصلي.
ثم أن خديجة رضي الله عنها، وأبا طالب هلكا في عام واحد قبل هجرته بثلاث سنين فعظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاكهما وذلك أن قريشا وصلوا في أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه حتى نثروا التراب على رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم فدخل الرسول بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله يقول لها يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك.
ولما استعصت قريش، وصمت آذانها، وأغلقت قلوبها وعقولها، اتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فلما وصلها عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم ثلاثة إخوة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير، فردوه ردا غير جميل فقال أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك، وقال الآخر أما وجد الله أحدا يرسله غيرك، وقال الثالث والله لا أكلمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لئن أنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن إن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك.
فقام رسول الله من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم فيما ذكره شيخ المؤرخين المسلمين الطبري وأنا أروي عنه: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيزئرهم ذلك عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجاؤه إلى بستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يناجي ربه مناجاة الصابر المحتسب يطلب منه المدد والعون حيث قومه لا يستجيبون للنور ولا يلتقون على الخير، والطائف كانت أسوأ من مكة، وأقسى من قريش، فأخذ يقول كما يروي الطبري ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلت حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)) .
في هذا الجو القاتم الشرس كان الله بنبيه رؤوفا رحيما، وكانت حادثة الإسراء من مكة إلى القدس، وكان المعراج من أرض المسجد الأقصى إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، وكان في الإسراء أكثر من معنى، وآثره لا يزال على مر الأيام وكر السنين يفعل.
يكرم الله نبيه على صبره ويجازيه الجزاء الأوفى على تحمله فيستدعيه إليه ويقربه منه، ويرفعه إلى درجة لم يصلها أحد من خلقه حتى ولا الملائكة المقربون. ويقدم له أرض الشام، أرض فلسطين أرض القدس، المسجد الأقصى هدية إيمان وجائزة رضوان فيفتح النبي أرض الشام، ومنها أرض فلسطين فتحاً مادياً بجسده الشريف، ويعلن الله للدنيا في ذلك الحين وللدنيا في هذا الحين وللدنيا في كل حين أن المسجد الأقصى أصبح مسجداً للمسلمين، فيصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة الإسلامية الأولى إماماً للأنبياء المرسلين حيث أحياهم الله له ويصلي الصلاة الثانية بعده عمر وأبو عبيدة، وكبار الصحابة والجنود المؤمنون يوم أن دخل عمر القدس، واستلمها من بطريركها صفرونيوس وأعطاه العهدة العمرية التي تنص فيما نصت عليه أن لا يسكن إيليا (القدس) أحد من اللصوص واليهود وذلك أن كبار أصحاب رسول الله كانوا على علم منه لا يعلمه بقية الناس، وهذا النص في الوثيقة يدل على مبلغ فهم عمر لخطر اليهود على هذه الأرض.
ويذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه القرآن الكريم هذا الخبر العظيم فيقول في سورة الإسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وسورة الإسراء تتحدث عن المسجد الأقصى وإسراء النبي إليه وتقرر أن هذا المسجد الذي بني بعد البيت الحرام بأربعين سنة كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: "المسجد الحرام"قلت ثم أي قال: "المسجد الأقصى"قلت كم بينهما قال:"أربعون سنة ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل") فعاد للمسجد بالإسراء قدسيته وطهره حيث كان المسجد خراباً يباباً لا يصلي فيه أحد إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم فتقررت مسجيديته في القرآن واستلمه عمر فكان ينظفه هو وأصحابه من الكناسة وطهوره وأصبح من يومها منارة علم ودار إيمان ومحجة زوار ومحراب صلاة.
إذن سورة الإسراء تتحدث عن علاقة المسلمين بالمسجد الأقصى وأن المسجد للمسلمين حيث أسري بنبيهم إليه، وتقرر بركة أرض الشام أو أرض فلسطين، وتبدأ بعد ذلك في الحديث عن الفساد والعلو لليهود والتدمير الذي سيلحق بهم، وأنهم سينازعون المسلمين أرض الإسراء والمسجد الأقصى.
وهنا لابد أن نقرر أن علماء التفسير اختلفوا اختلافا كبيرا في (العلوين)(والإفسادين) اللذين أشارت إليهما الآية وهي قوله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} فقال قوم هم أهل بابل، وكان عليهم بختنصر قاله ابن العباس رضي الله عنهما وقال قتادة أرسل عليهم جالوت فقتلهم فهو وقومه أولوا بأس شديد، وقال مجاهد جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر، وقال محمد بن اسحق أن المهزوم سنحارب ملك بابل وقيل أنهم العمالقة إلى غير ذلك من الأقوال المتضاربة، ونحن حين ننظر إلى الآيات نظرة موضوعية نجد الأشياء التالية:-
أولا: الآيات مكية وتتحدث عن علوين وإفسادين لليهود فهل مضى هذان العلوان قبل نزول الآية أم أنهما آتيان.
مما لا شك فيه أن اليهود دمروا أكثر من مرة قبل الإسلام، وقبل نزول الآيات فقد سباهم البابليون، ودمرهم الرومان وذلك أنه منذ أن غضب الله عليهم نتيجة سوء تصرفهم وحقدهم على الله وأنبيائه غضب الله عليهم وجعلهم يتصرفون تصرفا يلجئ البشرية إلى إذلالهم وضربهم. يقول الله تعالى في سورة البقرة آية 61 {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ثم تقرر آية أخرى في سورة أخرى أن العذاب سيستمر في اليهود والتدمير لهم إلى يوم القيامة:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} الأعراف آية 167.
إذن لا غرابة أن يكون إفساد اليهود وعلوهم ثم تدميرهم أكثر من مرة قبل الإسلام ولا غرابة أن يكون كذلك علو وفساد بعد الإسلام ثم تدميرهم.
وليس هناك ما يمنع أن يكون الفساد والعلو ثم التدمير لمرتين بعد نزول الآيات والواقع أن المتعمق في الآيات يجد المرتين في علو اليهود وإفسادهم ثم تدميرهم هما بعد نزول آيات الإسراء.
وذلك أن الله يقول {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} ، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان ولا علاقة لما بعدها بما قبلها فوجود كلمة إذا في الآية تدل على أن الفساد والعلو ثم التدمير الأول آت وأنه لم يمر كما أن استعمال إذا للمرة الثانية يدل على أنها آتية لم تمر كذلك.
وقوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} .
إن الذين سيتولون تدمير اليهود هم من المؤمنين إذ أن الله سبحانه وتعالى حين يضيف كلمة العباد لذاته تكون في موضع التشريف، ويخص بها المؤمنين يقول الله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِم} ويقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه} ، وأعظم منزلة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ورسوله.
وفي التحيات (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) .
وهذا التشريف والتكريم الإيماني لا ينطبق على البابليين ولا على الرومان لأنهم جميعا من الوثنيين. إذن ينطبق هذا الوصف على رسول الله وأصحابه الذين جاءوا إلى المدينة ولليهود فيها نفوذ سياسي واقتصادي. وكان من أول أعماله في المدينة إبرام المعاهدة السياسية بينه وبين اليهود وأن اليهود جماعة مستقلة، وأن المسلمين جماعة مستقلة، فلما غدر اليهود ونقضوا العهد كعادتهم ودأبهم سلط الله عليهم المسلمين فجاسوا خلال الديار اليهودية وتغلغلوا فيه وأزالوهم عن المدينة وخيبر وتيماء، وزال سلطانهم وتدمر علوهم فكان ذلك من خلال معارك بني قريضة وبني النضير، ومعارك خيبر الشهيرة، وتأتي سورة الحشر لتأكد هذا المعنى في قوله تعالى في وصف معارك المسلمين مع اليهود في المدينة {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} آية 2.
إذن هو إخراجهم لأول الحشر، فخرج قسم منهم إلى اذرعات من أرض الشام حتى تبدأ المرة الثانية من علوهم وفسادهم. ويقول الله {وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} يعني في عهد النبي والوحي ينزل وأتمه أصحابه من بعده. وتبدأ الآيات بعد ذلك تتحدث عن المرة الثانية من العلو والفساد، فتخبر الآيات أن الله سيجعل لليهود الكرة عليهم على من؟ على الذين جاسوا خلال الديار أول مرة، والكرة الدولة والسلطة. وحين أراد الله لليهود أن يكروا استعمال كلمة (ثم) وثم كما هو معروف معناها العطف مع التراخي أو المهلة فهل كر اليهود في التاريخ على البابليين وكانت لهم دولة وسلطة عليهم؟ لم يحدث ذلك في التاريخ، ولن يحدث الآن ولا في المستقبل حيث أن البابليين قد انصرفوا من الدنيا كافة وليس لهم مكان يعرفون فيه أو دولة يعيشون فيها وحاشا لله أن لا يصدق القرآن أو يكون خبره غير محقق. إذن لابد أن تكون الكرة على أبناء الذين جاسوا خلال الديار وهم المسلمون أو العرب المسلمون فقد كر اليهود على ديار الشام وفلسطين منها وهذا هو الذي قد حدث ونعيشه الآن، ويعاني منه المسلمون كل المسلمين، وانظروا معي إلى بقية الآيات تمضي فتصف الواقع الذي نعيشه وتعيشه دولة اليهود إذ بعد أن جعل الله الكرة لليهود علينا يقول الله لليهود {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً}
وهنا نسأل مرة أخرى هل مد الله اليهود في التاريخ بأموال وبنين غير هذه المرة. لم نعرف أن ذلك قد حدث، واليهود منذ أن غضب الله عليهم وهم في بلاء متصل وعذاب مستمر فقبل الإسلام كان عذاب البابليين لهم والرومان، وبعد الإسلام أخرجهم المسلمون من الجزيرة ثم بدأت أوربا تعذبهم في أسبانيا حتى جاء المسلمون فأنقذوهم من الأسبان واستمر العذاب.
واليهودي في كل الأرض يعتبر إنسانا شريرا متآمرا يستحق التعذيب والقتل، وآخر من عذبهم في حياتنا المعاصرة هو أدولف هتلر ومعه النازيون وحتى نرى مبلغ صدق الآية، ونرى إعجازها بأعيننا نجد دولة اليهود اليوم تعيش على البنين الذين يأتونها من أطراف الأرض ليمدوها بالجند، وفي هذه الفترة من روسيا بالذات، وترى الأموال من دول الغرب تأتيها بمساعدات مذهلة حتى تستمر في عدوانها وطغيانها وجبروتها، ثم يقول الله {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} ولذلك فإن أكبر قوة في الأرض أو أكبر دول الأرض تساند دولة اليهود في حال نفرتها وحربها.
إذن هذه هي المرة الثانية من العلو فما بال الفساد؟ وحتى يتحقق الفساد فنرى اليهود في دولتهم يرتكبون أفظع الجرائم بحيث فاقوا كل أنواع العذاب التي عانوا منها في زعمهم أو عاناه غيرهم ولذلك يحذرهم الله فيقول لهم {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وهم قد أساءوا فقتلوا النفس الإنسانية وعذبوها ويتموا الأطفال وسجنوا النساء وهدموا البيوت واغتصبوا الأرض وأقاموا المستعمرات وحرقوا الأقصى في 21/8/1969 والأقصى عند الله عظيم، ودنسوا مسجد الخليل عليه السلام، والخليل عند الله هو الخليل، وارتكبوا جريمة الجرائم في مسجد الخليل يوم أن عمدوا إلى كتاب الله القرآن العظيم فمزقوه وداسوه.
وهنا تأتي عقوبة الله على ما اقترفوا من الإثم والجرائم بتفسير من الآيات أن دولتكم لن يطول فسادها ولا علوها فيقول الله {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} وهنا حين يخبر الله عن زوال دولتهم استعمل كلمة الفاء للعطف ولم يستعمل ثم والفاء للعطف مع التعقيب والتعقيب كل شيء بحسبه وما يناسبه وهو يدل على السرعة المناسبة في حصول المقصود {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أي لذهاب علوهم الثاني تصبح وجوه بني إسرائيل سيئة ويبشرنا ربنا جلت قدرته أننا سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة، وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى دخولنا المسجد مرتين. والمرتان حدثتا بعد نزول الآية المرة الأولى الفتح العمري للمسجد حين دخله باسم الله والإسلام، والمرة الثانية هذه التي نحن على أبوابها حيث سيدخل المسلمون المسجد فاتحين للمرة الثانية، ثم يقرر الله أننا سنتبر أي ندمر، ونهلك علو اليهود المادي والمعنوي. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن فلسطين لم تعرف العمارات ذات الطوابق التي تزيد عن أربعة أو خمسة طوابق إلا في ظل اغتصاب اليهود لها. ولذلك فإن هذه العمارات الشاهقة التي يقيمونها على الأرض المباركة سيلحقها التدمير والخراب ثم تمضي الآيات فنحذر اليهود من محاولة العودة للفساد والتعالي فيقول الله لهم {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} ، وتأتينا البشرى من الله بعد أن يفهمنا ربنا أن القرآن يهدي إلى الطريق السوي والحياة الصحيحة تأتينا البشرى بالنصر فيقول:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} . وفي آخر السورة سورة الإسراء آية أخرى تتعلق بهذا الأمر، وهي قوله تعالى
في آخر السورة {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} ولفيفا جماعات ملتفة وفي بقية الآية إنذار لليهود وبشرى لنا، فيقول الله {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} بشرى لنا وإنذار لهم فإذا ربطنا هذه الآيات وتفسيرها بالحديث الذي يدلنا على صدق النبوة، ومعجزة الرسول صلى الله عليه وسلم حين أخبرنا عن قتال اليهود فيما رواه الشيخان البخاري ومسلم وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود".
أيقنا بعد ذلك لماذا لم ينجح المحاولات لتثبيت دولة اليهود وذلك أنه منذ سنة 1948، وكل محاولة للصلح وتثبيت دولة اليهود يفشلها اليهود أنفسهم وذلك لأن الله يلهمهم الخطأ فيرفضون كل الحلول لأن اليهود لا يعالجون أي أمر إلا بالحقد والتآمر والخديعة، ويقرر الله أن لا عقل عندهم فيقول {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} ، وذلك كله يجري حتى يأتي اليوم الموعود يوم تتخلص المعركة أو ديار المسلمين من الإيديولوجيات المنافية للإسلام وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر في حديث قتال اليهود أن الجحر والشجر سينطق ويقول "يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله" إذن لن يكون قتال النصر في فلسطين قتالا يمينيا رجعيا ولا يساريا تقدميا، وإنما يكون قتالا إسلاميا في سبيل الله كما كان دائما قتال النصر للمسلمين {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} .
وبعد فإن الآية الأولى في سورة الإسراء نصت على بركة الأرض التي تحيط بالمسجد الأقصى وكذلك آيات أخرى نصت على هذه البركة مثل قوله تعالى في حق الخليل إبراهيم {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} وقوله {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} ، والبركة الزيادة في كل شيء، وليست بركة هذه الأرض مادية وإنما بركتها بالإضافة إلى الأشياء المادية بركات معنوية تتمثل في أنها عش الأنبياء ولذلك فكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دفنه في بيت المقدس عند وفاته باعتبارها عش الأنبياء، وكانت لم تفتح بعد، وهي مهبط الوحي وهي مسرى النبي ومعراجه منها صلى الله عليه وسلم وهي القبلة الأولى فقد صلى المسلمون إلى مسجدها ستة عشر شهرا ومسجدها تشد إليه الرحال كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى".
ومن بركة هذه الأرض استقراء أنه حينما يبتعد المسلمون عن محور عزهم ومركز قوتهم وهو الإسلام يضعفون ويتمزقون وتكثر دولهم ودويلاتهم فيسهل على العدو أن يتسرب من خلالهم فيأخذ الأرض المباركة ويأخذ المسجد الأقصى وعندها يتحرك المسلمين حركة حياة من جديد وينفضون غبار الهزيمة فيعملون لاستخلاص هذه الأرض فعن طريق استخلاصها يتم توحيد المسلمين من جديد. ألا ترون أنه بسبب حريق المسجد الأقصى كان مؤتمر القمة الإسلامي الأول في المغرب الذب انبثق عنه مؤتمر وزراء الخارجية المسلمين الذين كونوا الأمانة العامة الإسلامية في جده، وهذا من بركة هذه الأرض التي باركها الله. ولذلك لن يصل أحد مع اليهود وأعوانهم إلى حل حتى يأتي أمر الله ويتوحد المسلمون، ويعود الإسلام محركا للحياة في ديار الإسلام وفي العالم كله.
وقد ظهرت بركتها في الحروب الصليبية إذ بعد أن أخذها الصليبيون وظنوا أن الأمر قد استقر لهم كانت حروبهم سببا في توحيد المسلمين من جديد فكان نور الدين زنكي الذي وحد الأجزاء المبعثرة وأخذ الراية منه صلاح الدين، فكانت حطين النصر المبين وكانت معركة القدس فيما بعد ودخلها رحمه الله فأعاد الأمن والأمان إليها وعاد مسجده إلى قدسيته وطهره.
وقدر أهل الشام وفلسطين منها أنهم مرابطون إلى يوم القيامة حيث الكفار لا يتركون الأرض المباركة يستقر أهلها وهم يريدون مسجدها ليقيموا عليه الهيكل.
روى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم وإماءهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون ممن نزل مدينة وقرية من المدائن فهو في رباط أو ثغر من الثغور فهو في جهاد، وقدر أهل الشام كذلك أن ينتقم الله بهم من أعدائه فعن خريم بن فاتك "أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده وحرام على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم وأن يموتوا إلا هما وغما وغيظا وحزنا"رواه الطبراني مرفوعا وأحمد موقوفا ورجاله ثقات، وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول "الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ" رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد وقد روى أبو بكر بن شيبة عن أبي الزاهرية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"معقل المسلمين من الملاحم دمشق ومعقلهم من الدجال بيت المقدس ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطور".
وعلى هذا فالأرض المباركة بركتها بالإضافة إلى الأشياء المادية التي ذكرها المفسرون من الثمار والأشجار والأنهار والأرض المعطاء والسهل الخصيب والجبال العالية والأرض المنخفضة التي تجعلك تنتقل في ساعة من زمن أو أقل من مستوى سطح البحر إلى العلو الشاهق إلى الغور المنخفض فهناك البركة المعنوية والبركة المادية تتصاغر أمام البركة المعنوية والتي باركها الله فجعلها القبلة الأولى يصلي إليها المسلمين وأسرى بنبيه إليها وعرج به من مسجدها الأقصى تشد إليه الرحال وهي عش الأنبياء وهذا مما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي بنفسه لتسلم القدس ولذلك فحينما يتحدث اليهود وأعوانهم عن الوطن البديل للفلسطينيين يظنون أن أي أرض يمكن أن تستبدل بها الأرض المباركة ويظنون أن الأمر أمر إسكان ٍلاجئين أو استقرار مشردين وما علموا أو هم يتجاهلون أن هذه الأرض لا تدانيها أرض أخرى ولا يمكن أن يقوم مقامها وطن بديل في أي بقعة من بقع الكرة الأرضية إذ أن هذه الأرض مرتبطة بعقيدة المسلمين سجلت في كتاب الله بوصفها القبلة الأولى وبوصفها مسرى النبي وبوصفها معراج الرسول وبوصفها الأرض المباركة ولذلك فهي لا تخص الفلسطينيين وحدهم ولا تخص العرب وحدهم بل تخص المسلمين أينما كانوا وحيثما وجدوا وما دام كتاب الله القرآن موجودا على الأرض يتلى وفي الأرض مؤمنين فليس هناك استقرار لدولة اليهود وهي في طريقها لأن تصبح من مخلفات التاريخ كما أصبحت دولة الصليبيين من قبلها من مخلفات التاريخ تؤلف الكتب عن أسباب زوالها ويكتب الباحثون أبحاثهم ويعطى العلماء آراءهم في ذلك وكلهم أو جلهم ينسى أو يتناسى الحقيقة الأزلية وهي استحالة أن يملك هذه الأرض غير المسلمين ملكا مستقرا وأن تبقى في حوزة أعدائهم لأن هذه إرادة الله بينها في ليلة الإسراء.
والواقع أن العالم كله لا يفقه القضية الفلسطينية أو القضية اليهودية وإنما كل فئة تنظر إلى القضية من زاوية معينة تتفق مع مصلحتها وهذه النظرة بالنسبة لمصالحها صحيحة، فالغرب ينظر إلى القضية على أنها امتداد للحروب الصليبية، وأن اليهود أداة في يديه لتمزيق الوطن الإسلامي والسيطرة على بلاد المسلمين وتهديدهم حتى لا يفيقوا مرة أخرى فيتعرضوا لقيادة الدنيا وإنقاذها مما تعانيه. وروسيا تنظر إلى القضية على أن بقاء دولة اليهود في بلاد المسلمين أمر ضروري لإيجاد التناقض حسب الفكر المادي ولذلك هي مع بقاء دولة اليهود، وتحارب الطبقة الحاكمة في إسرائيل حربا طبقية باعتبارها عملية للغرب، ويهمها أن يبقى التناقض في المنطقة، وعدم الاستقرار لأن ذلك حسب وجهة نظرها يغذي الحركة الشيوعية وينميها. والحكام في المنطقة أو أكثرهم يرون في دولة إسرائيل ضمانا لبقائهم فهم يريدون لها أن تبقى حتى يبقوا ولكن يريدون منها أن تتنازل عن بعض ما أخذته حتى يكون ذلك (انتصارا) ظاهريا يخدع به الشعب العربي والمسلمون من ورائهم. وأهل البلاد الذين أخرجوا من ديارهم (الفلسطينيون) ينظرون إلى القضية من زاوية أنهم شعب ظلم وشرد واضطهد فهم يريدون حياة الاستقرار في الأرض التي ولدوا فيها أو نبت أباؤهم فيها أو دفن أجدادهم في ترابها فهم يحنون بفطرتهم إليها ولا يرون في الدنيا أرضا تكون بديلا لها وهذا صحيح ولكن هذه النظرات المختلفة للقضية من زواياها المختلفة ليست هي القضية وإنما القضية تتعلق باليهود أو بغضب الله على اليهود والمستمر عبر التاريخ بالعذاب الواقع بهم نتيجة سوء تصرفهم وحقدهم على الإنسانية حلقة من حلقات الغضب والسخط عليهم من الله. إن الله أخبر في القرآن في آيات الإسراء كما أسلفت في أول البحث وفي حديث البخاري ومسلم أنه قبل قيام الساعة ستقوم لليهود دولة ثم يتولى المسلمون تصفيتها حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله خلفي يهودي
فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود.
ولقد حاول العالم منذ 1948 أو القرى الكبرى في العالم أو الغرب على وجه التخصيص أن يثبت إسرائيل دولة فوضع الحلول وحاك المؤامرات وخلق قيادات وأوجد زعامات لتتعاون معه على تثبيت إسرائيل دولة، ولكن المؤامرات تفشل والطبخات تحترق وذلك بفضل الله ثم معاونة اليهود أنفسهم حيث يرفضون كل ما يعرض عليهم حتى يأتي يومهم الموعود وقدرهم المرصود فتزول دولتهم بآثامها وشرورها وأن الغرب اليوم يحاول جاهدا لإنقاذ دولة اليهود من مصيرها المحتوم وقدرها المرسوم رغم أنفها، ولكن اليهود يتمردون على من أوجدهم ذلك بأنهم قوم لا يعقلون وصدق الله إذ يقول في حقهم {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} .
وإن من بركة الأرض المباركة أن المسلمين يتوحدون دائما عن طريق استخلاصها من أيدي أعدائهم وذلك أن الأمة الإسلامية حينما تبتعد عن محور قوتها وهو الإسلام يلحقها الضعف والتشتت فتقام فيها دول ودويلات حتى تصل في صغرها إلى مستوى الأحياء والحارات فيأتي العدو ليتسلل عبر هذا الضعف فيأخذ الأرض المباركة وتسقط القدس، ويسقط الأقصى في يديه عند ذلك تبدأ الأمة في التحرك حركة الحياة من جديد حتى إذا وقفت على قدميها كرت على عدوها لتخلص الأرض المباركة منه فتتوحد من أجل ذلك أو بسبب ذلك. كان ذلك في الحروب الصليبية وكان ذلك في حروب التتر وهو الآن. ولذلك بسبب حريق الأقصى في 21/8/69 انعقد مؤتمر القمة الإسلامي الأول وخرجت من ذلك المؤتمر منظمة الدول الإسلامية الممثلة في الأمانة العامة الإسلامية في جده والتي يعقد مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية مؤتمرهم السنوي في أحد العواصم الإسلامية وسيستمر اللقاء والتقارب حتى يصل إلى حد التمازج والتلاحم فيشترك المسلمون كل المسلمين في تحرير الأرض المباركة التي تكون سبب وحدتهم.
وبمناسبة انعقاد مؤتمر السيرة النبوية في إستنبول، عاصمة المسلمين لعدة قرون ومركز الخلافة الإسلامية لمئات السنين لابد من الإشارة إلى الدور الذي لعبته الدولة العثمانية في حماية المقدسات الإسلامية وخصوصا في فلسطين، ولابد من الإشارة هنا إلى الخليفة العثماني السلطان عبد الحميد رحمه الله حيث رفض أن يعطي اليهود امتيازات في الأرض المباركة مما جعلهم يحنقون عليه ويشوهون سمعته ويعملون على عزله متعاونين مع قوى الشر المختلفة من صليبية وماسونية، ونعرات قومية مما هيأ الظروف من بعده إلى التآمر على دولة الخلافة، ومن ثم ذهابها وقيام دولة اليهود في الأرض المباركة ولكن هذه الدولة لا تدوم كما أسلفت وكل الدلائل تشير إلى سرعة زوالها وذلك حتى تتحقق الآيات والأحاديث في حقها {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} .
والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
من أعماق الكتب
يقول ابن المقفع في (رسالة الصحابة) :
وقَدْ عَلِمْنَا علماً لا يُخالِطه شَكٌّ أن عامَّة قط لم تَصلُحْ من قِبَل أنفُسها، وأنها لم يَأتها الصَّلاحُ إلا من قبل إمامها؛ وذلك لأن عَدَدَ الناس من ضَعفتِهم وجُهّالهم الَّذِين لا يَستغنون برأي أنفُسهم، ولا يحملِون العِلْمَ، ولا يتقدمُون في الأمور. فإذا جَعَل الله فيهم خواص من أهل الدين والعُقُول، ينظُرون إليهم ويسمعُون منهُم، واهتمت خواصُّهم بأمور عوامهم وأقبلوا عليها بجدٍ ونصح وَمُثَابَرة وقوة، جَعَل الله ذلك صلاحاً لجماعتهم، وسبباً لأهل الصلاح من خواصهم، وزيادة فيما أنعم الله به عليهم، وبلاغاً في الخير كُله.
وحاجَةُ الخواص إلى الإمام الذي يُصْلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك. فبالإمام يُصْلح اللهُ أمرهم، ويكبِتُ أهل الطعن عليهم ويجمع رأيهم وكلمتهم، ويبين لهم عند العامة منزلتهم. ويجعل لهم الحُجة والأيْدَ في المقال على مَن نكب عن سبيل حقهم.
موعظة عمرية
زار يوماً حفص بن أبي العاص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان جالسا إلى طعامه فدعا إليه حفصاً، ولكن هذا رأى القديد اليابس الذي يأكل منه عمر، فاعتذر إليه. فسأله عمر رضي الله عنه: ما يمنعك من طعامنا؟. فأجاب حفص: إنه طعام جَشِب غليظ، وإني راجع إلى بيتي فأصيب طعاماً لينا قد صنع لي.
فقال عمر (رضي) أتراني عاجزاً عن أن آمر بصغار المعزى. فيلقى عنها شعارها، وآمر برقاق البرُ فيخبز خبزاً رقاقاً، وآمر بصاع من زبيب فيلقى في سمن، حتى إذا صار مثل عين الحجل صُبَّ عليه الماء فيصبح كأنه دم غزال. فآكل هذا وأشرب هذا؟ .. قال إنك بطيب الطعام لخبير..
قال عمر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لولا أن تنقص حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم.. ولو شئت لكنت أطيبكم طعاماً، وأرفهكم عيشاً، ولنحن أعلم بطيب الطعام من كثير من آكليه، ولكننا ندعه ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت. وتضع كل ذات حمل حملها.. وإني لأستبقي طيباتي لأني سمعت الله تعالى يقول عن أقوام:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} .
من كتاب (بين يدي عمر) .
محمد أمين المصري
بقلم الشيخ محمد الصباغ
جامعة الإمام محمد بن سعود
إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أخذ الموت - في الشهر الماضي - من بيننا علما من أعلام الإسلام، ورجلا من رجالاته، ظل في الساحة حتى آخر لحظة من حياته: إنه الدكتور محمد أمين المصري رحمه الله رحمة واسعة.
ووفاء ببعض حقه أكتب هذه الكلمة المتواضعة التي تعرف بهذا الرجل الكبير وتعبر عن عميق مشاعر الحب له، وتبكي حظ المسلمين الذي يفقدون الخلف حتى أصبحنا نخشى أن تخلو الساحة.
ولد محمد أمين في دمشق، وفي ربوعها الخيرة نشأ، وفي كريم أجوائها المتدينة المحافظة درج وشب، وكان الناس يومذاك بين عالم ديني منقطع عن الحياة المعاصرة، ويتبعه العامة، وشاب متفرنج تلقى عليه علوم الغرب بروح مجافية للدين فأضحى لا يبالي بالدين ولا يهتم به. ونشأت ناشئة فاضلة من فتيان دمشق المسلمة تلقت من علوم العصر ما يتلقى أولئك المتفرنجون ولكن لم تنس دينها ولم تنحرف عن الصراط السوي، وبقيت وفية للإسلام وتعاليمه، مقيمة لحدوده وأحكامه، معلنة باعتزاز وإباء استمساكها به وتبنيها له.
كان أولئك الفتية يلتهبون حماسة، ويمتلئون غيرة، فتنادوا للتعاون على الخير والبر والتقوى، واتخذوا لهم من ربى جبل قاسيون مقراً يأوون إليه، فيتداولون الرأي في الذي يجب عليهم أن يعملوا، ويقرأون بعض كتب التراث كإحياء علوم الدين ليتزودوا، ويلتفون حول مجلة الرسالة يطالعون بنشوة وسرور مقالات الرافعي.. وكان فقيدنا محمد أمين المصري واحداً من هؤلاء الشباب.
وانتهت اجتماعاتهم المباركة إلى العمل على إنشاء أول حركة إسلامية حديثة في بلاد الشام.
هكذا بدأت حياة الطالب محمد أمين المصري في مكتب عنبر عملا للإسلام ومواجهة للانحراف، واستعداداً للمضي في المعركة إلى الرمق الأخير.
ويبدو -كما يقرر ذلك أخونا الكبير الأستاذ عبد الرحمن الباني- أن هذه القراءة في كتب الغزالي تركت أثراً كبيراً في حياة الدكتور أمين ظل حتى آخر حياته عليه رحمة الله ورضوانه. والشيء الذي يذكره عنه الأستاذ الباني أن الدكتور أمين كان يتميز عن زملائه بإرادة صلبة جعلته يطبق كثيراً مما يمر معه في الإحياء مهما كان هذا الذي يطبقه صعباً.
وكان -غفر الله له- يمتاز بالابتسامة المضيئة العذبة، والحنان الدافئ، والرفق الوفير، والوفاء الجم لصاحب المعروف، فكان يشكره ويذكره بكل خير. وكان يتمتع برنة صوت محببة تزيدها الابتسامة الدائمة حلاوة وسحراً، أما بشاشته واهتمامه بمن يلقى ومحاولة خدمته فشيء منقطع النظير.
سار أمين في مكتب عنبر حتى حمل شهادة البكالوريا (قسم الرياضيات) ثم تابع دراسته في دار المعلمين حتى نال شهادة أهلية التعليم، وانتظم مدرساً في قرية (داعل) ، إحدى قرى محافظة حوران، ثم انتقل إلى دمشق مدرساً في مدرسة طارق بن زياد فعاد إلى أولئك الفتية يواصل عمله معهم لرفعة الإسلام، وكانت لديهم اهتمامات روحية وعلمية واجتماعية.
فمن مظاهر الاهتمامات الروحية في فقيدنا أنه التحق ببعض مشايخ الصوفية يلتمس تصفية نفسه وتزكية روحه، والتزم بتكاليفها وظل كذلك إلى أن تبين له ما تنطوي عليه من فساد وانحراف فتركها محذراً منها مبينا ما رآه فيها من المساوئ.
ومن مظاهر الاهتمام العلمي تلك الندوات العلمية التي كان يسهم فقيدنا فيها إسهاماً جيداً، وحضور دروس عالم الشام الشيخ محمد بدر الدين الحسني ودروس الشيخ أبي الخير الميداني. وغيرهم.
ومن مظاهر الاهتمام الاجتماعي اشتراكه مع زملائه في إنشائه الحركة الإسلامية الواعية التي أشرت إليها آنفاً.
ثم انتقل عمله إلى الثانوي فكان معيداً في التجهيز ومدرساً للدين فيها، فزاد نشاطه في الدعوة إلى الله جداً لأن الذين يعلمهم شباب لا أطفال، وكانت الدعوة القومية في أوج انتشارها وذيوعها، واستطاع بلباقة فائقة أن يشق طريقة في الدعوة في أوساط هؤلاء الشباب، وأن يحقق ما يريد من الخير على وجه يضمن له الاستمرار في عمله، وكانت دعوته للإسلام في هذه المرحلة عن طريق الدعوة إلى الأخلاق.
وفي سنة 1941 ذهب إلى مصر للدراسة في كلية أصول الدين في الأزهر، والداعي إلى ذلك استكمال معرفة هذا الدين، والرغبة في إصلاح المسلمين، ونال من هذه الكلية الإجازة، ثم دخل معهد التربية وحمل شهادته.
وقد أعجب أيما إعجاب بالعالم العامل المجاهد الشيخ محمد الأودن رحمه الله، ويبدو أن الصلة بقيت قائمة بينهما على أتم وجه، وقد اصطحبني مرة إلى زيارة الشيخ الأودن في بيته في مكة، رحم الله الجميع، وكانت له صلة طيبة بالحركة الإسلامية في مصر، وكان يحرص على حضور محاضرات الأستاذ البنا رحمه الله، ومحاضرات العلامة السيد محمد الخضر حسين، وكان يلقي بعض الخطب في الحفلات الإسلامية التي كانت تقام. وله موقف مشهود في الجرأة على قول الحق، ومواجهة الناس به وذلك أثناء حفلة أقيمت في دار جمعية الهداية الإسلامية في القاهرة.
وقد حدثني الأستاذ الباني أنه انتفع مع الفقيد في مصر بتلك الدراسة التي اشتركا فيها على العلامة السيد محمد الخضر في كتاب الموافقات للشاطبي.
وعاد أمين المصري إلى بلاد الشام، فعين مدرساً في الثانوي وقد درس علوماً عدة منها المنطق وعلم النفس.
ثم أرسل إلى باكستان ملحقاً ثقافياً بالسفارة السورية -عمل هناك على نشر العربية وتعليمها، وألف في ذلك كتاباً مهماً وممن تخرج على يديه الأستاذ خليل أحمد الحامدي مدير دار العروبة للدعوة الإسلامية ببكستان ثم عاد ليعمل في وزارة المعارف يشترك في وضع مناهج التعليم.
وفي سنة 1956 سافر إلى انكلترا لدراسة الدكتوراه وكانت له قصة في اختيار موضوع الرسالة، إذ أبى المستشرقون أن يكون موضوعه نقد (شاخت) ، فاختار موضوعاً في (معايير نقد الحديث عند المحدثين) .
وعندما عاد إلى الشام عمل في لجنة التربية والتعليم في وزارة المعارف ثم أستاذاً في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ودرس فيما درس العقيدة ومصطلح الحديث وفقه السيرة، وقد عهدت إليه كلية التربية أن يدرس الطلاب المتخرجين من كلية الشريعة طرق تدريس الدين، وألف كتاباً في الطرق الخاصة للتربية الإسلامية ليفيد منه الذين يعدون للقيام بالتربية الإسلامية وتدريس العلوم الدينية في المدارس المتوسطة والثانوية.
ثم عمل في الحقل العام فتعاون مع رابطة العلماء في توجيه الناس ودعوتهم إلى الخير، ثم اتخذ من جامع المرابط في حي المهاجرين بدمشق منطلقاً للدعوة.. إذ كان يخطب فيه الجمعة ويلقي فيه الدروس، وكان النساء يحضرن في مكان خاص بهن. ولقد كان لهذا النشاط أثر كبير ولحقه بسببه غير قليل من الأذى.
كما عمل أيضاً في خدمة المدارس الشرعية ولا سيما التي كانت تفتح أبوابها للطلاب الأتراك.
ثم هاجر إلى الحجاز بعد أن أدرك أن الظروف الصعبة التي قامت في بلده لا تتيح له أن يعمل ما يريد من أجل خدمة الإسلام. فترأس قسم الدراسات العليا في كلية الشريعة في مكة ثم في المدينة، وحذر من ابتعاث أبناء المسلمين إلى ديار الكفار ليتلقوا دينهم عن اليهود والنصارى. وكان له نشاط مذكور في إذاعة المملكة العربية السعودية وتلفزيونها.
وقد تبين له -تغمده الله بواسع رحمته- أنه لا بد من قيام دعوة إسلامية قوية متميزة شاملة، ووجد أن هذا هو السبيل الأوحد لإصلاح المسلمين وخدمة الإسلام، وكان ينادي بذلك ولا سيما في أيامه الأخيرة.
كما تبين له -عن طريق التجربة الذاتية- فساد الطرق الصوفية التي تدعي العمل لإصلاح النفس، ومن أجل ذلك كان من أشد الناس حرباً للدجالين القائلين بوحدة الوجود وكان يحذر من خطرهم أعظم التحذير ويعلن أن الخير كل الخير في إتباع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح لهذه الأمة.
وكان رحمه الله محباً لخدمة الصالحين لا يبخل بجاهه ولا يتأخر عن مساعدة يملكها.
ولا يفوتني أن أذكر مؤلفاته التي بلغني نبأ وجودها:
1-
كتاب الطرق الخاصة للتربية الإسلامية.
2-
كتاب تعليم العربية، ويقع في 4 أجزاء وهذا الكتاب ألفه خلال تعليمه العربية ببكستان.
3-
الطفل السوي وبعض حالات شذوذه، وقد ترجم هذا الكتاب عن الفرنسية بالاشتراك مع غيره، ونشر في عدد خاص من مجلة المعلم العربي التي تصدر في دمشق.
4-
محاضرات في فقه السيرة (مطبوع على الآلة الكاتبة) .
5-
محاضرات في العقيدة (مطبوع على الآلة الكاتبة) .
وبعد فما أكثر ما لقيت الدكتور أمين في دمشق ومكة والمدينة والرياض ولكني لم ألقه مثل اللقاء الأخير الذي سبق موته بأسابيع ثلاثة. فقد التقينا في دوسلدورف بألمانيا في مخيم الطلبة المسلمين كان -غفر الله له- يتألق صفاء، ويموج حيوية ويمتلئ نشاطاً وكانت محاضراته القيمة موضع الاستحسان والإعجاب من السامعين.
رحم الله الدكتور محمد أمين المصري وأحسن جزاءه وعوض المسلمين عن فقده وإنا لله وإنا إليه راجعون.
الصحافة المصرية في قفص الاتهام
عن مجلة (الاعتصام) - القاهرة -
في الجلسة الثانية لمحاكمة المتهمين بخطف وقتل المرحوم الشيخ محمد حسين الذهبي.. وقف المحامي رشدي بدوي ووضع (الصحافة) المصرية في قفص الاتهام.. صائحاً في وجهها.. ومشيراً إليها قائلاً:
لم تلتزم الصحافة بميثاق الشرف لقد بالغت الصحافة في وصف بعض المتهمين حتى فهم البعض أن ذلك يعتبر تحريضاً للرأي العام ضدهم قبل أن تثبت إدانتهم وأقل حق في عرف القضاء أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.. ولقد سمعت حواراً بين واحد من رجال إدارة المحاكم العسكرية.. ورتبة عسكرية أخرى جاء فيه:
- لقد فشلت الصحافة فشلاً ذريعاً في عرضها للقضية.. لقد زيفت.. وكذبت.. وقالت بسذاجة وجهل أن أعضاء الجماعة يتزوجون زوجات بعضهم.. وأنهم منحرفون.. وأنهم وأنهم.. وقد راجعت أحد الصحفيين في ذلك فقال:
- أنتم السبب.. لأنكم لم تعطونا أخباراً.. ولم تيسروا لنا المعلومات!! وحين سئل رئيس المحكمة أثناء الجلسة عن هذا قال:
- نحن لسنا مسئولين عما تنشره الصحف!!
ووقعت الصحافة في مأزق.. وتعرت تماماً.. لأنها أسرفت في السب.. والشتائم.. والتجريح لأعضاء الجماعة ووصفتهم بأبشع الصفات.
في نفس الوقت لم تستطع أي جريدة أو مجلة أن تتناول فكر هذه الجماعة بالتفنيد وإلقاء الضوء على نقاط الانحراف.. والسبب أن أغلب الذين كتبوا عن القضية جاهلون بالإسلام.. وكثير منهم حاقد على الإسلاميين أصحاب الاتجاه الإسلامي.. فراحوا يهرجون.. ويصخبون ويتملقون جهاز الأمن بصورة متورمه.. حتى قال البعض..
- ماذا كانت ستفعل الصحافة.. لو أن جهاز الأمن استطاع أن ينقذ حياة الشيخ الذهبي!!
ونحن مع يقيننا أن جماعة شكري مصطفى باعتقادها أن جميع المصريين كفار تكون قد انحرفت عن فقه أهل السنة.. وسلكت سبيل الخوارج.. إلا أننا نقول إن هناك ظروفاً كانت بمثابة المناخ الذي ساعد على تفريخ تلك الجماعة.. أقصد مناخ القهر.. والمطاردة والتشريد والسجن والاعتقال بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ هذا الشعب.. وكان أعضاء الحركة الإسلامية في مصر أكثر الذين تعرضوا للقهر والمطاردة والتشريد!! والسجن والاعتقال.. مما يجعلنا نعتقد أن وراء محن الحركة الإسلامية خلال الربع قرن الأخير عقلاً شيطانياً.. وحقداً وكراهية للإسلام والمسلمين!!
ونحن ضد الجريمة.. ونشجب كل فكر منحرف أيا كان صاحبه لأن الإسلام أعز علينا من كل البشر ولكننا قبل أن نصدر حكما بالإدانة علينا أن نتبين الدليل حتى لا نقع فيما ننهى غيرنا عنه..
كان الأجدر بالصحافة أن تفتح صفحاتها لمناقشة هذا الفكر لدحضه وتفنيده.. وإظهار باطله.. وإتاحة الفرصة الكاملة للعلماء المخلصين لأن يقولوا كلمتهم.. حتى نحمي شبابنا من الاستجابة لمثل هذه الأفكار!!
ولكن للأسف لم يحدث.. بل إن الذي حدث أن بعض علمائنا الذين كان لهم في نفوس الشباب مكانة كبيرة قبل توليهم سلطة الوزارة استدرجوا من الصحافة وقالوا كلاما سيحاسبهم الله عليه فقد وصفوا زوجات المتهمين بأنهن دميمات معقدات دخلن الجماعة بدافع نفسي هو الميل الأنثوي للرجل.
فما هكذا يتحدث العلماء!! يا علماء مصر!!
عن مجلة (الاعتصام) - القاهرة -
رأي في إصلاح أجهزة الإعلام
في موضوع الهبوط الذي تتخبط فيه وسائل الإعلام عقدت مجلة الدعوة (القاهرية) استطلاعا مع عدد من أهل القلم والفكر وقد أمكن تلخيص آرائهم في النقاط التالية:-
1-
الإسراع في تطبيق الشريعة الإسلامية فأجهزة الإعلام هي مرآة المجتمع فإصلاحها يتطلب إصلاح المجتمع الذي تعكسه حتى ينشأ جيل يرفض الانحراف تماماً وبذلك لا تجرؤ أجهزة الإعلام على تقديم الانحراف!!
2-
بناء رجل الإعلام المسلم عن طريق:
- إنشاء كلية للإعلام بالأزهر الشريف تحتوي على جميع التخصصات في هذا المجال ولا تقتصر فقط على قسم الصحافة بكلية اللغة العربية بالأزهر والهدف من ذلك تكوين جهاز إسلامي إعلامي مطبوع بطابع الإسلام وليس بطابع الغرب أو الشرق.
- إعطاء دورات ثقافية دينية لجميع العاملين بأجهزة الإعلام وذلك بصفة دورية وتشمل هذا البرامج التعريف بالإسلام وواقع المجتمع المصري ومشاكله حتى يكون العامل في الإعلام على علم بدينه وواقع المجتمع الذي يعيش فيه.
- جعل الدين مادة أساسية في كلية الإعلام حتى يتخرج طالب الإعلام وعنده فكرة كاملة عن الإسلام عقيدة وشريعة.. منهجاً وسلوكا.
3-
قصر العمل في مجال الإعلام على المتخصصين فيه مع تشجيع المواهب على الالتحاق بالمعاهد المتخصصة وبذلك تتوفر الموهبة والعلم والهدف من ذلك الارتفاع بمستوى أجهزة الإعلام والتخلص من الدخلاء الذين هبطوا بالإعلام إلى الحضيض.
4-
إجراء حركة تطهير في أجهزة الإعلام وتشمل المنحرفين خلقيا وعقائديا وتبدأ بالأساتذة الشيوعيين في كلية الإعلام فالشعار الذي ترفعه الدولة بأن من لا إيمان له لا أمان له يجب تطبيقه فورا.
5-
وضع ميثاق شرف لحماية المجتمع من الانحراف ويشمل هذا الميثاق معنى الانحراف وتحديد أهداف الدولة والمجتمع من أجهزة الإعلام وتوقيع عقوبة على كل مسئول يضع برنامج يتعارض مع دين الدولة وقيمها ومثلها مع وقف البرنامج فورا.
وهكذا أجمعت الآراء على تحديد معنى الانحراف من واقع ما ينادي به الإسلام.
آذان من السودان
(.. إن ما بدا من تعبيد السبيل إلى تطبيق أحكام الله خالصة من كل دخيل وغريب، وإقامة حدوده ومحارمه، إنما هو عمل إيماني وتاريخي كبير لن يقف آثره الموضعي المحلي على أرض السودان في خريطة العالم من حيث تحرير السودان من التبعية القانونية لغير ما أنزل الله، بل سيكون له صدى بالغ الدلالة عميق الأثر، وستكون جمهورية السودان، وهي قطعة غالية من خريطة العالم الإسلامي، نبراسا يقتدى به، وخير من يزف البشرى للعالم الإسلامي كله. فإن أوبةً إلى التشريع الإسلامي بعد طول غربة ووحشة هي أوبة العدل الإلهي الذي يعصم الإنسان عقله وعرضه ودمه وماله، وإرساء لصرح أمن قانوني رفيع على هدى المنهج الإلهي..)[1] .
عن مجلة الدعوة القاهرية
جميل بسيوني
المستشار وعضو اللجنة السودانية
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
المجلة: (إنها لبشرى تفجر الأمل بفجر جديد هو ما يتلهف إليه العالم البشري الضائع كله لا العالم الإسلامي وحده) .
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .
التكرار في القرآن العظيم
لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
بكلية اللغة العربية والآداب
الحمد لله.. أضاء بصائرنا وأبصارنا بنور القرآن. وجعله آية خالدة على مر الزمان، أحمده سبحانه، جلّت حكمته، وعظمت مشيئته، له في كل مجال آية، وفي كل خلق حكمة تشهد بعظمته الباهرة، وقدرته القاهرة.
والصلاة السلام على من لا نبي بعده، الذي شرفه الله بالقرآن.. محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان.
سبحانك ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربنَا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.
القرآن كلام الله المعجز للخلق في بلاغته وأسلوبه ونظمه، المعجز في تأثير هدايته المعجز في تشريعاته، المعجز في علومه وحكمه، المعجز في كشف الحجب عن الغيوب الماضية.. وفي كل باب من هذه الأبواب للإعجاز فصول وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول.. ولقد حار العلماء في كشف حجب البيان عن وجوه إعجاز القرآن.. فمن آيات هذا الإعجاز.. الإعجاز البلاغي..
ومن صور الإعجاز البلاغي ظاهرة التكرار.
والتكرار: مصدر كَرًرَ إذا رَدًدَ وأعاد، وهو (تَفْعَال) يفتح التاء، وليس بقياس. بخلاف (التًفْعيل) وهذا مذهب سيبويه البصري. أما الكوفيون، فقالوا: هز مصدر (فَعًل) والألف عوضٌ عن الياء في التًفْعيل.
وقد أنكر بعض العلماء كون التكرار من أساليب الفصاحة، وظنوا أنه لا فائدة له.. وهذا أمر مردود.. فالتكرار من محاسن أساليب الفصاحة العربية، خاصة إذا تعلق بعضه ببعض. وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذا أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه، أو قصدت الدعاء عليه.. كررته توكيداً.
وإنما نزل القرآن المجيد بلسانهم، وكانت مخاطباته جارية فيما بين بعضهم وبعض، وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة.
وعلى ذلك يحتمل كل ما جاء في القرآن من تكرار المواعظ والوعد والوعيد، لأن الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة، وكلها داعية إلى الشهوات، ولا يقمع ذلك إلا تكرار المواعظ والقوارع. قال الحق تبارك وتعالى:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْر} .
قال الزمخشري [1] : ((أي سهلناه للإدِكار والاتعاظ بأن نسجناه بالمواعظ الشافية، وصرفنا فيه من الوعد والوعيد..)) .
والتكرار- في القرآن العظيم- قد يكون بتكرير الجملة مرتين
كقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [2] .
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [3] .
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [4] .
{كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ} [5] .
وفائدته العظمى هنا التقرير. – لذلك قال العلماء: الكلام إذا تكرًر تقرًر.
وقد يكون بتكرير اللفظ.. وهذه هي حقيقته- أي إعادة اللفظ أو مرادفه، لتقرير معنى، خشية تناسي الأول لطول في الكلام.. كما في قوله تعالى:
وفي قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [8] .
فإن أعيد اللفظ لا لتقرير المعنى الأول، لم يكن من التكرار.
فأعاد قوله {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} بعد قوله {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} - لا لتقرير الأول، بل لغرض آخر..
لأن معنى الأول: الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيها.
ومعنى الثاني: أنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص، لذلك قدم المفعول على فعل العبادة في الثاني، وأخَر في الأول.. لأن الكلام أولا في الفعل، وثانيا فيمن فعل لأجله الفعل.
قال البلاغيون: إنما يحسن سؤال الحكمة عن التكرار إذا خرج عن الأصل. أما إذا وافق الأصل فلا.. ولهذا السبب لا يتجه سؤالهم:
لم كرَرً (إيًاك) في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} نقول: إنما كررت لغرض عظيم هو التأكيد.
ونقول أيضا: إنما كررت لارتفاع أن يتوهم-إذا حذفت- أن مفعول (نستعين) ضمير متصل واقع بعد الفعل، فتفوت إذْ ذاك الدلالة على المعنى المقصود، بتقديم المعمول على عامله.. هكذا قال النحويون.
وقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى بالأسباب التي من أجلها كررت الأقاصيص والأخبار في الكتاب العزيز فقال:
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [10] .
وقال سبحانه: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [11] .
وللتكرار –في القرآن العظيم- فوائد جمة تشهد بروعة البيان الإلهي.. أهمها:
1-
أن التكرار يأتي من مقام التعظيم والتهويل:
كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [12]{الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} [13]{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [14]{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [15]{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [16] .
2-
أنه قد يأتي في مقام الوعيد والتهديد:
كقوله تعالى: {كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [17] وقد ذكر (ثم) في المكرر، دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول.
وفي هذا القول أيضا، تنبيه على تكرر ذلك مرة بعد أخرى، وإن تعاقبت عليه الأزمنة، لا يتطرق إليه تغيير، بل هو مستمر دائما.
3-
التعجب:
كقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [18] فكرر تعجبا من تقديره وإصابته الغرض، على حد ((قاتله الله ما أشجعه)) .
4-
زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة، ليكمل تلقي الكلام بالقبول:
كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [19] فإنه كرر فيه النداء لذلك.
5-
الأمن من النسيان أو السهو:
فالكلام إذا طال وخشي تناسي الأول أعيد ثانية تطرية له، وتجديدا لعهده. كقوله تعالى:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .. ثم قال {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [20] فهذا تكرار للأول.
وقوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [21] فقوله (أنكم) الثاني بناء على الأول، إذكارا به خشية تناسيه.
وكذلك قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [22] .. إلى قوله {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} بغير (إنا) ، وفي غيره من مواضع ذكر (إنا كذلك) ، لأنه يبنى على ما سبقه في هذه القصة (إنا كذلك) فكأنه طرح فيما اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا.
ولأن التأكيد بالنسبة، فاعتبر اللفظ من حيث هو دون توكيده.
6-
وتظهر روعة إعجاز هذا الباب أكثر ما تظهر عند تعدد المتعلق.
كما كرره الله تعالى من قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} لأنه تعالى- ذكر نعمة بعد نعمة، وعقب كل نعمة بهذا القول.. فإنها وإن تعددت، فكل واحد منها متعلق بما قبله، وأن الله تعالى خاطب بها الثقلين من الإنس والجن، وعدد عليهم نعمة الله التي خلقها لهم، فكلما ذكر فصلا من فصول النعم طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه، وهي أنواع مختلفة، وصور شتى. فإن قيل.. فإذا كان المعنى في تكريرها عد النعم واقتضاء الشكر عليها.. فلما عقب بهذا القول ما ليس نعمة، كما في قوله:
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} [23] .
وقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [24] وأي نعمة هنا؟ وإنما هو وعيد..
أجاب القزويني فقال: العذاب وجهنم-وإن لم يكونا من آلاء الله تعالى- فإن ذكرهما ووضعهما عن طريق الزجر عن المعاصي، والترغيب في الطاعات، من آلائه تعالى، ونحوه قوله:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [25] ، لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة، واتبع كل قصة بهذا القول، فصار كأنه قال عقب كل قصة:(ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة)[26] .ونقول أيضا: إن الله أنعم فيما أنذر به، وحذر من عقوباته على معاصيه ليحذروها فيرتدعوا عنها نظير أنعمه على ما وعده، وبشر من ثوابه على طاعته، ليرغبوا فيها، ويحرصوا عليها، وإنما تتحقق معرفة الشيء بأن تعتبره بضده، والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذروتهما، فإنهما متقاربان في موضع النعم بالتوفيق على ملاك الأمر منهما.. وعليه قول الشاعر:
والحادثات وإن أصابك بؤسها
فهو الذي أنباك كيف نعيمها
ومن هذا النوع من التكرار قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [27] في ثمانية مواضع، لأجل الوعظ فإنه قد يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحدة.
وأما قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} فذلك لظهور آيات الأنبياء عليهم السلام. والعجب من تخلف من لا يتأملها مع ظهورها.
وأما مناسبة قوله {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فإنه تعالى نفى الإيمان عن الأكثر، فدل بالمفهوم على إيمان الأقل، فكانت العزة على من لم يؤمن، والرحمة لمن آمن، وهما مرتبتان كترتب الفريقين [28] .ومن هذا التكرار أيضا قوله تعالى:{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [29] .
قال الزمخشري [30]((كرر ليجدوا عند سماع كل نبأ منها اتعاظاً وتنبيها، وأن كلا من تلك الأنباء مستحق باعتبار يختص بها، وأن ينتبهوا كي لا يغلبهم السرور والغفلة)) .
ومنه كذلك- تكرار الأمر بالتوجه إلى بيت الله الحرام في ثلاث آيات من سورة البقرة. وهو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [31] .
لأن المنكرين لتحويل القبلة -كما ذكر المفسرون- كانوا ثلاثة أصناف في الناس:
- اليهود.. لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم.
- وأهل النفاق.. وكانوا أشد إنكارا له، لأنه كان أول نسخ نزل.
- وكفار قريش.. الذين قالوا: ندم محمد على فراق ديننا، فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون: بزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل، وقد فارق قبلتهما وآثر عليها قبلة اليهود.
فقال الحق تبارك وتعالى حين أمره بالصلاة إلى الكعبة:
{لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [32] والاستثناء في هذه الآية منقطع – أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون وقال جل جلاله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [33] أي الذين أشركوا فلا تمتر في ذلك.
وقال تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [34] أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.
ومن هذا التكرار أيضا- قوله عز وجل في سورة الصافات [35] : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} .
ثم كرر هاتين الآيتين بعد ذلك في قوله سبحانه [36] :
{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} .
قال المفسرون- في غريب القرآن: إنما كرر للتأكيد وتشديد الوعيد.
وقالوا أيضا: يحتمل أن يكون ((الحين)) في الأولين [37] يوم بدر، والحين في هاتين [38] يوم فتح مكة. وفرقوا بينهما فقالوا: إن من فوائد قوله تعالى في الأولين {أَبْصِرْهُمْ} وفي هاتين {فأَبْصِرْ} - أن الأولى بنزول العذاب بهم يوم بدر قتلا وأسرا، وهزيمة ورعبا، فلما تضمنت التشفي بهم قيل له:
{أَبْصِرْهُمْ} . وأما يوم الفتح، فإنه اقترن بالظهور عليهم الإنعام بتأمينهم، والهداية إلى إيمانهم، فلم يكن وفقا للتشفي بهم، بل كان في استسلامهم، وإسلامهم لعينه قرة، ولقلبه مسرة، فقيل له:{أَبْصِرْ} .
ومن التكرار كذلك- قول الحق تبارك وتعالى:
{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} [39] .
قال علماء الفقه: للتكرار هنا فائدتان..
أما الفائدة الأولى: أن التحريم قد يكون في الطرفين، ولكن يكون المانع من إحداهما كما لو ارتدت الزوجة قبل الدخول، يحرم النكاح من طرفين، والمانع من جهتهما، فذكر الله سبحانه الثانية، ليدل على أن التحريم كما هو ثابت في الطرفين، كذلك المانع منهما.
وأما الفائدة الثانية: أن الأولى دلت على ثبوت التحريم في الماضي، ولهذا أتي فيها بالاسم الدال على الثبوت، والثانية في المستقبل، ولهذا أتي فيها بالفعل المستقبل.
ومن التكرار في القرآن المجيد أنواع كثيرة.. كلها تشهد بعظمة الحق سبحانه، وتعترف بإعجاز كتابه المبين. أهمها:
1-
تكرار الإضراب [40] :
وقد ورد في القرآن العظيم منه ضربان:
أولهما: أن يكون ما فيه من الرد راجعا إلى العباد.
كقوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [41] .
وثانيهما: أن يكون إبطالا، ولكنه على أنه قد مضى وانقضى وقته، وأن الذي بعده أولى بالذكر. كقوله تعالى:
وزعم ابن مالك في شرح الكافية –أن (بل) حيث وقعت في القرآن فإنها للاستئناف لغرض آخر لا لإبطال الأول. وهذا الكلام مردود بما سبق، ومردود بقوله أيضا:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [43] فأضرب بها عن قولهم، وأبطل كذبهم.
2-
تكرار الأمثال:
كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ} [44] .
وكذلك ضرب مثل المنافقين –في أول سورة البقرة [45]- ثناه الله تعالى، فقال سبحانه:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} - مع قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت} .
قال صاحب الكشاف [46]- معلقا على قيمة هذا التكرار: ((والثاني أبلغ من الأول، لأنه أدل على فرط الحيرة، وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخر، والعرب يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ)) .
3-
تكرار القصص:
وما دمنا نتحدث عن التكرار في القرآن العظيم –بوصفه آية من آيات إعجازه الكبرى، فإننا لا نستطيع أن نغفل عنصرا هاما من عناصر هذا التكرار- ألا وهو تكرار القصص القرآني، وإن كنا نعتقد أنه موضوع كامل متكامل، يحتاج إلى بحث مستقل –وسنتناوله إن شاء الله- إلا أننا نشير الآن إلى بعض ما يتصل به استيفاء لهذا البحث.
أقول.. إن من أنواع التكرار –تكرار القصص، كقصة إبليس في السجود لآدم، وقصة موسى وغيره من الأنبياء. فقد ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من القرآن العظيم، وذكر قصة نوح في خمس وعشرون آية، وقصة موسى في سبعين آية، وإنما كررها- كما يقول صاحب كتاب ((العواصم من القواصم)) [47] لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر. وسبب ذلك أمور:
إحداها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا، ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا، فقال تعالى:{فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [48] وقال سبحانه: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [49] .
وهذه سمة من سمات البلغاء.. أن يكرر أحدهم في خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة.
الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن، ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين، وكان أكثر من آمن به مهاجريا، فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى آخرين، وكذلك سائر القصص.. فأراد الحق سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها، فيكون فيه إفادة القوم، وزيادة تأكيد وتبصرة لآخرين وهم الحاضرون.. هكذا قال ابن الجوزي.
الثالثة: تسليته لقلب النبي –صلى الله عليه وسلم مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم- قال تعالى: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [50] .
الرابعة: إن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.
الخامسة: قالها ابن فارس [51] –وهي أن الله تعالى أنزل هذا القرآن، وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأي نظم جاءوا بأي عبارة عبروا.
السادسة: أنه لما سخر العرب بالقرآن قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [52] وقال في موضع آخر: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد، واكتفى بها، لقال العربي بما قال الله تعالى:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} : (إيتونا أنتم بسورة من مثله) فأنزلها الله تعالى في تعداد السور، دفعا لحجتهم في كل وجه.
السابعة: أن القصة الواحدة من هذه القصص، كقصة موسى مع فرعون –وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى، فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ، فإن كل واحدة لابد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه، لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها. فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها، ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة، من انفراد كل قصة منها بموضع، كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصة.
وخلاصة القول: لقد اجتمعت في هذه الخصيصة من نظم القرآن عدة معان عجيبة:
منها: أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة، ولا أحدث مللا، فباين بذلك كلام المخلوقين.
ومنها: أنه ألبسها زيادة ونقصانا، وتقديما وتأخيرا، ليخرج بذلك الكلام أن تكون ألفاظه واحدة بأعيانها، فيكون شيئا معادا، فنزهه –الحق سبحانه- عن ذلك بهذه التغيرات.
ومنها: أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص، صارت متفرقة في تارات التكرار، فيجد المرء –لما فيها من التغيير- ميلا إلى سماعها، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة.
ومنها: ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد.
وقد كان المشركون –في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يعجبون من اتساع الأمر في تكرار هذه القصص والأنباء، مع تغاير أنواع النظم، وبيان وجوه التأليف، فعرفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية، ولا يقع على كلامه عدد لقوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [53] .
وهنا يكون القرآن قد وصل إلى غايته وهدفه من التكرار..
وهنا يبرز سر إعجازه ومبلغ عمقه في تقرير المسائل وتكريرها..
نفعنا الله بالقرآن العظيم، وجعله فاتحة الخير لنا.. نورا لأبصارنا وضياء لبصائرنا، إنه نعم السميع المجيب..
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الكشاف 4/346.
[2]
المدثر 20،19.
[3]
القيامة 35،34.
[4]
التكاثر 7،6.
[5]
النبأ 5،4.
[6]
آل عمران 78.
[7]
النحل 119.
[8]
النحل 110
[9]
الزمر 11-15.
[10]
القصص 51
[11]
طه 113.
[12]
الحاقة 2،1.
[13]
القارعة 1.
[14]
القدر 2،1.
[15]
الواقعة 27.
[16]
الواقعة 9،8.
[17]
التكاثر 7،6.
[18]
المدثر20،19.
[19]
المؤمن 39،38.
[20]
البقرة 89.
[21]
المؤمنون 35.
[22]
الصافات 105- 107.
[23]
الرحمن 35.
[24]
الرحمن 43-44.
[25]
المؤمنون 35.
[26]
الايضاح 198.
[27]
الشعراء 9،8.
[28]
البرهان 3/14.
[29]
القمر 39.
[30]
الكشاف 4/349.
[31]
الآيات 150،149،144.
[32]
البقرة 150.
[33]
البقرة 147.
[34]
البقرة 146.
[35]
الآيتان 175،174.
[36]
الآيتان 179،178.
[37]
أي في الآيتين 175،174.
[38]
أي في الآيتين 179،178 من سورة البقرة.
[39]
الممتحنة 10.
[40]
قال البلاغيون: أن (بل) إذا ذكرت بعد كلام موجب فمعناها الإضراب، وهو إذا وقع في كلام البشر فمعناه إبطال ما سبق على طريق الغلط من المتكلم، أو أن الثاني أولى.
[41]
الأنبياء21.
[42]
سورة ص 8.
[43]
الأنبياء 26.
[44]
فاطر 22،19.
[45]
الآيتان 19،17.
[46]
الزمخشري 1/61.
[47]
الإمام أبو بكر ابن العربي نقلا عن البرهان في علوم القرآن 3/25.
[48]
طه 20.
[49]
الأعراف 107.
[50]
هود 120.
[51]
فقه اللغة ص 178.
[52]
البقرة 23.
[53]
الكهف 109.
وصايا صحية
لسعادة الدكتور حسين كامل
أخصائي الصدر بمستشفى الجامعة الإسلامية
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وصحبه وآله أجمعين
نيابة عن أعضاء الإدارة الطبية بمستشفى الجامعة يطيب لي أن أتقدم بهذه النصائح الطبية لأبنائنا الطلبة وإخواننا العاملين بالجامعة وأساتذتنا، وخصوصاً أن موسم الحج على الأبواب ونظراً لانتشار مرض الكوليرا في كثير من الأقطار العربية الشقيقة.
الكوليرا مرض سريع الانتشار وهو يسبب للمصاب حالات قيء مستمر وإسهال شديد مائي مما يؤدي إلى فقد كمية كبيرة من السوائل في الجسم ويؤدي إلى هبوط حاد في الدورة الدموية ووظائف الجسم وقد ينتهي الأمر بوفاة المصاب.
وللوقاية من هذا المرض يجب علينا ما يلي:
أ- سرعة التوجه إلى مركز التطعيم بالجامعة في المستشفى وقد تم حتى الآن تطعيم غالبية العاملين بالجامعة والطلبة كما يقوم المركز بتطعيم الأهالي.
ب- مقاومة الذباب لأنه يلعب دورا كبيرا في نقل المرض وتغطية الفضلات، والقمامة يجب أن تكون في صناديق مغلقة.
ج- مراعاة غسل الخضروات الطازجة جيدا بالماء والصابون أو وضعها في محلول برمنجانات البوتاسيوم لمدة 15 دقيقة.
د- مراعاة غسيل الأيدي جيدا بعد الخروج من دورة المياه.
هـ- التوجه فورا إلى المستشفى إذا كانت هناك أعراض مرضية حتى يمكن العلاج المبكر وعزل المصاب.
كما يجب على أبنائنا الطلبة توعية أصدقائهم وأسرهم.
وفقنا الله جميعا لخدمة ولرفعة هذا الوطن الطاهر الأمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إلى أين أيها.. المغرب الحبيب؟
يوم 17/10/96 وبينما كان ثلاثة من المسلمين يعرضون كتباً وصحفاً إسلامية في حي الأسوفال، فوجئوا بخمسين من الشيوعيين المنتسبين لما يسمى بالاتحاد العام لطلبة تونس، يهاجمون الثلاثة بالضرب، ولم يكتفوا بذلك حتى أقبلوا على الكتب والصحف الإسلامية يمزقونها. وخصوا القرآن الكريم بكبر هذه الجريمة فقطعوه إرباً إرباً ثم احتفلوا بإحراقه.
جريدة (النور) المغربية
المسيح ليس ابن الله
فاجأ ثمانية من علماء اللاهوت البروتستانتيين الأوساط الدينية المسيحية في بريطانيا بفتوى أصدروها في كتاب (المسيح ليس ابن الله) الذي قالوا فيه: إن إمكانية تحول الإنسان إلى الله لم تعد بالشيء المعقول والمصدق به في هذه الأيام، وإن النبي عيسى هو إنسان طبيعي وهبه الله هبات لم يهبها لغيره فهو نبي مرسل.
وقد لقي الكتاب رواجاً منقطع النظير.
مجلة النور
بيان رسمي له أثره..
إن البيان الذي صدر من مصر ينعى ماوتسي تونج قد صدم مشاعر المؤمنين في كل مكان. فقد ختم بهذه العبارة:
((رحم الله الفقيد العزيز وألهم شعب الصين الصبر والسلوان)) ..
إن رحمت الله التي وسعت كل شيء ليس فيها متسع لماوتسي تونج.
مجلة الدعوة..
محمد سيد أحمد
مدرس مساعد بكلية أصول الدين
شهادة حق
صرح الباندت بشميه ناته ياندي عضو البرلمان الهندي بمدينة (إله آباد) : أن الإسلام يعلم دروس الوحدة والتآخي والنظرية التي عرضها النبي الخاتم على الإنسانية حول القومية والمحبة مع الوطن، إنما هي من أمثل الوجهات منقطعة النظير في العالم، وأضاف قائلاً بأن المستعمرين البريطانيين قدموا الحقائق التاريخية مشوهة وشوهوا مآثر الإمبراطورية الإسلامية لغرس النفاق والشقاق بين الشعوب الهندية وخاصة أنهم شوهوا الأعمال الناصعة التي قام بها الملك أورنك زيب.
جريدة (الرائد) الهندية
أخبار الجامعة
تلقى نائب رئيس الجامعة موافقة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة على تعيين فضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة رئيساً لمجلس شئون الدعوة الإسلامية بالجامعة.. وجدير بالذكر أنه يشترك في عضوية المجلس عضو من هيئة التدريس من كل كلية من كليات الجامعة ورئيس شعبة الدعوة في قسم الدراسات العليا بالجامعة ورئيس قسم الدعوة في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة.
الموسم الثقافي في الجامعة الإسلامية للعام الدراسي 1397هـ / 1398هـ
بدأ الموسم الثقافي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مساء يوم الأربعاء الموافق 4/1/1398هـ بأولى محاضراته البالغ عددها خمس عشرة محاضرة ستكون بإذن الله على النحو التالي:
تاريخها
موضوع المحاضرة
اسم المحاضر
العدد
4/1/1398هـ
موقف اليهود من الدولة الإسلامية عند نشأتها
الشيخ الدكتور جاد رمضان
1
11/1/1398هـ
كيف نكون شاكرين
الشيخ عبد الفتاح عشماوي
2
18/1/1398هـ
في الدبلوماسية الأموية
الشيخ الدكتور أحمد الأحمد
3
25/1/1398هـ
أصول الإيمان
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
4
2/2/1398هـ
مع سورة الكهف
الشيخ محمد أبو طالب شاهين
5
9/2/1398هـ
آراء في البحث
الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
6
16/2/1398هـ
نظرات في دراسة السيرة النبوية
الدكتور أكرم ضياء العمري
7
23/2/1398هـ
علم النفس الإسلامي
الشيخ إبراهيم سرسيق
8
1/3/1398هـ
قبس من تاريخ الفقه الإسلامي
الدكتور محمد الوائلي
9
8/3/1398هـ
مسئولية التعليم
الشيخ عبد الله القادري
10
15/3/1398هـ
ثبات العقيدة الإسلامية أمام التحديات
الشيخ عبد الله الغنيمان
11
22/3/1398هـ
تصحيح المفاهيم في جوانب من العقيدة
الشيخ محمد أمان
12
29/3/1398هـ
الشيخ عبد الرحمن الأفريقي حياته وآثاره
الشيخ عمر محمد فلاتة
13
6/4/1398هـ
ما أدخلته الشيعة في التاريخ الإسلامي
الشيخ صالح المحيسن
14
13/4/1398هـ
لزوم التزام المسلم بأحكام الشريعة
الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
15
بين القرآن والكتب السماوية
حكم حفظه دونها
لفضيلة الدكتور إبراهيم عبد الحميد سلامية
بكلية الدعوة وأصول الدين
إذا كانت الكتب السماوية التي عرفتها البشرية قبل القرآن الكريم، قد طواها الزمن، وصارت كأن لم تكن، ولم يصل إلينا منها سوى التوارة والإنجيل على ما بهما من تحريف وتبديل، فإن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي ضمن الله له البقاء والخلود، وتكفل سبحانه بحفظه وحراسته مصداقا لقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1] .
فكما أن ظاهر القرآن حجة على فصحاء العرب والعجم بنظمه، فكذلك باطنه حجة على علماء العرب والعجم بحكمه وعلمه، وكما أن ظاهره مربوط بنظم لا يتطرق إليها عيب، فكذلك باطنه مبسوط بحكم، لا تبقى معه مادة لريب، وكما أن ظاهر نظمه، لو وقع فيه خلل، لكان للطاعنين فيه مقال، فكذلك إن وقع في نظم معانيه زلل لكان للمعرضين عنه مجال، وإليه أشار الحق بقوله {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [2] .
وتكفل الحق جل في علاه –بحفظ القرآن الكريم من التحريف، دون غيره من الكتب السماوية الأخرى، حقيقة قررها القرآن الكريم، وصدقها ويصدقها واقعه الملموس ويشهد بها المنصفون من أعدائه، حيث أذعنوا واعترفوا بأن ما بين دفتي المصحف هو عين ما نطق به محمد، لم يصبه أدنى تحريف [3] .
حكمة حفظ القرآن من التحريف دون غيره من الكتب السماوية
وإنما كان الأمر كذلك، بالنسبة لهذا الكتاب الخالد، لحكم متعددة أبرزها ما يلي:
الحكمة الأولى:
أن القرآن الكريم هو أصل الدين، ومنبع التشريع الحكيم، ودستور الإسلام، ولما كان الإسلام دينا عاما خالدا، ليس موقوتا بزمن معين، ولا بمكان محدد، بل هو عام شامل لكافة الخلائق، منذ بعث الله به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مصداقا لقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً} [4] لما كان الأمر كذلك فقد اقتضت حكمة الله حفظ كتابه وبقاءه كاملا غير منقوص صحيحا غير باطل، ضمانا لهذا العموم في الزمان والمكان وتحقيقا له.
ولما كانت الرسالات السابقة محلية موقوتة بزمان ومكان معينين فلم تكن هناك من حكمة في حفظ كتبها، وما كانت هذه الكتب السابقة على القرآن إلا خطوات تمهيدية مهدت للخطوة الأخيرة وللغرض النهائي وللكتاب العزيز الذي أوتي الإنسانية بعد أن بلغت رشدها، وأتي العقل بعد أن بلغ نضجه وعلمه، ولو أراد الله أن تكون هذه الكتب هداية للإنسانية عامة في كل مكان وآن، لحفظها وصانها ولحال دون تحريفها، ولذلك لم يحفظ الله إلا كتابه الخالد المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
الحكمة الثانية: أن القرآن الكريم هو آية الإسلام الكبرى ومعجزته العظمى، فكان لابد في نظر الحكمة الإلهية من حفظه لتكون هذه المعجزة ملازمة لهذا الدين الخالد، باقية إلى جواره تؤيده وتعززه إلى قيام الساعة، حتى لا يكون لأحد عذر في ترك هذا الدين الأخير، الذي ختم الله به الأديان والشرائع، ولذلك اقتضت حكمته تعالى أن تكون معجزة هذا الدين صالحة للبقاء والخلود، فكانت دون سواها كلاما يتلى في أذن الدهر، وحديثا يقرأ على سمع الزمان، وكتب له الخلود فلم يذهب بذهاب الأيام، ولم يمت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو قائم في فم الدنيا يحاج كل مكذب، ويتحدى كل منكر، ويدعو أمم العالم جمعاء إلى ما فيه من الهداية
…
ومن هنا يظهر الفرق جليا بين معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات إخوانه من الأنبياء – عليهم السلام فمعجزات محمد في القرآن وحده آلاف مؤلفة، وهي متمتعة بالبقاء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم، أما معجزات سائر الرسل فمحدودة العدد قصيرة الأمد، ذهبت بذهاب زمانهم، وماتت بموتهم، ومن يطلبها الآن لا يجدها إلا في خبر كان [5] .
يقول الإمام السيوطي في ذلك، ولأن هذه الشريعة، لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية، ليراها ذو البصائر كما قال صلى الله عليه وسلم:"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا"[6] .
ومعنى هذا أن معجزات الأنبياء قد انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، ويمكن أن يقال في معنى الحديث، أن معجزات الرسل السابقين لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت حسية تشاهد بالأبصار، كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزات القرآن تشاهد بالبصائر فيكون من يتبع محمد لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا [7] .
الحكمة الثالثة: أن القرآن الكريم قد أتى بهدايات تامة كاملة، تفي بحاجات البشر في كل زمان ومكان وفاء لا نظير له في أي كتاب آخر، وأن البشرية لا غنية لها عن هذه الهدايات القرآنية، فما أمر القرآن بشيء يمكن الإستغناء عنه ولا نهى عن شيء يحسن الإلمام به، ولذلك خلد على مر الزمان.
ومن جهة ثانية فإن القرآن بما اشتمل عليه من أحكام وآداب، وأخلاق ومعاملات حق دائم لا ريب فيه وصدقه باق لا تناله الأيام بشيء، لأن الحق لا يزول ولا يحول، وذلك سر خلود هذا الكتاب العظيم.
الحكمة الرابعة: أن القرآن الكريم خلاصة وافية لكتب الله السابقة، فهو جامع لما توزع فيها من حق وعدل، وفضل ونبل، وزائد على هذه الكتب ما يناسب عصره، وما بعد عصره إلى يوم الدين.
وإلى بعض هذه الحكم يشير الدكتور محمد عبد الله دراز –رحمه الله بعد أن بين أن من حق القرآن أن يعنى بحفظه في الصدور والسطور –فيقول: (وبهذه العناية المزدوجة، التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية إقتداءً بنبيها بقي القرآن محفوظا في حرز حريز، إنجازا لوعد الله الذي تكفل بحفظه ولم يصبه ما أصاب الكتب السابقة من التحريف والتبديل، وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس فقال:{وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه} أي بما طلب إليهم حفظه..
والسر في هذه التفرقة، أن هذه الكتب السماوية السابقة للقرآن جيء بها على التوقيت، لا التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدقا لما بين يديه، من الكتب، ومهيمنا عليها، فكان جامعا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدا عليها بما شاء الله زيادته، وكان ساداً مسدها، ولم يكن شيئا منها ليسد مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى يوم قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرا يسر له أسبابه، وهو الحكيم العليم [8] .
فما هي هذه الأسباب التي يسرها الله لحفظ كتابه وصونه عن التحريف والتبديل؟ ذلك ما سنعرض لبيانه في مقال تال إن شاء الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الحجر: 9.
[2]
فصلت: 42 وانظر كتاب (مقدمتان في علوم القرآن) : آرثر جفر: 5.
[3]
انظر كتاب (الفارق بين المخلوق والخالق) : عبد الرحمن باجه جي زاده (275-277) .
[4]
سبأ: 28.
[5]
مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ الزرقاني ج 2/232.
[6]
البخاري –باب فضائل القرآن ج 6 ص 424 ط الشعب.
[7]
الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج 2/116-2117.
[8]
النبأ العظيم د/ محمد عبد الله دراز (8-9) .
عالمية الرسالة بين النظرية والتطبيق
لفضيلة الشيخ محمد الغزالي
رئيس قسم الدعوة بكلية الشريعة بمكة
كان الوحي الإلهي قديما يتخير بقاعاً من الأرض لينزل بها كما ينزل الغيث في مكان دون مكان. لكن بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانت نقلة جديدة بالعالم كله وتحولا في حركة الوحي الإلهي على ظهر الأرض. إذ جاءت الرسالة الأخيرة لكل بشر يعقل ما يسمع.. ثم هي قد صحبت الزمان في ميسرته، فإذا انتهى جيل من الناس فإن الجيل الذي يليه مخاطب بها مكلف أن يمشي في سناها.
والإجماع معقود بين المسلمين على عموم الرسالة وخلودها، ونريد أن نلقي نظرة على الآيات التي دلت على عالمية الرسالة لنستخلص منها حكما محددا..
قال تعالى في سورة التكوير: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} وقال في سورة القلم: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .
وقال في سورة سبأ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وقال في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} وقال في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .
وقال في سورة يوسف: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وقال في سورة الأنعام: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} . وقال أيضا في السورة نفسها {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} وهذه الآيات كلها مكية، أي أن عالمية الرسالة تقررت منذ بدء الوحي وفي الأيام التي كانت الدعوة فيها تعاني الأمرين.
كان القرآن إذن يقرر أنه رسالة للعالم كله في الوقت إذن كان فيه أهل مكة يستكثرون أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا لهم وحده!!
ولم تنزل بالمدينة آية تتحدث عن هذه العالمية اكتفاء بما تمهد في صدر الدعوة إلا آية واحدة من سورة الأحزاب هي قوله جل شأنه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وختم النبوة تقرير لهذه العالمية فإن القارات الخمس إلى قيام الساعة لن يطرقها من السماء طارق، ولن يجيئها من عند الله رسول، وسيبقى كتاب محمد صلى الله عليه وسلم وحده صوت السماء بين الناس إلى أن يحشروا للحساب فيقال لهم:{َقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وآية ختم النبوة صدقتها الأيام المتتابعة فها قد مضت أربعة عشر قرنا وما نزل من السماء وحي. وقد حاول الاستعمار الأوربي أن يضع يده على مخبول في الهند وآخر في إيران ليصنع منهما أنبياء يكابر بهما نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهيهات هيهات فإن الأوربيين أنفسهم احتقروا الرجل الذي صنعوه فما تبع أحدهم متنبئ الهند ولا متنبئ العجم، وبدأت اللعبة تنكشف ويفر عنها المستغفلون!! إن الصباح العريض الذي بزغ مع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم سوف يظل وحده النور الذي يغمر العالم ويملأ الأفق إلى أن يأذن الله بانتهاء الحياة والأحياء.
وإنما لفتنا النظر إلى أن الآيات الناطقة بعالمية الرسالة مكية كي ندحض فرية لبعض المستشرقين الذين زعموا أن محمد صلى الله عليه وسلم بدأ عربي الرسالة معنيا بقومه وحدهم فلما نجح في إخضاعهم أغراه النجاح بتوسيع دائرة الدعوة فزعم أنه للخلق كلهم. وهذا تفكير سقيم المأخذ بين السخفـ فقد رأيت بالاستقراء أن عالمية الرسالة تم التصريح بها في أوائل ما نزل من الوحي!!.
ثم نسأل: متى تم خضوع العرب لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يغريه النجاح بمزيد من التوسع؟ إن مكة التي طاردته لم تفتح له إلا قبل الممات بسنتين اثنتين، فأين استقرار النصر والتطلع إلى إخضاع الدنيا وهو لما ينته من الجزيرة العربية نفسها؟؟
إن هذا الفكر الاستشراقي لم يلق حفاوة من عاقل، ولذلك نخلص منه لنقرر حقائق أخرى نابعة من هذه الحقيقة المؤكدة حقيقة أن محمدا رسول إلى العالمين من رب العالمين. وأول ما نقرره أن هذه الصفة انفرد بها محمد عليه الصلاة والسلام، فكل الأنبياء من قبله محليون، رسالتهم محدودة الزمان والمكان. ابتدأ من آدم إلى عيسى.
والنصارى يرون أن رسالة عيسى عالمية وينطلقون بها في كل مكان ليبلغوها وينشروها، ونحب نبي الله عيسى ونعتقد أنه رسول حق إلى بني إسرائيل خاصة {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..} .
على أن النصرانية التي تشيع بين الناس اليوم وتساندها قوى كثيرة تخالف رسالات السماء كلها إذ هي فلسفة تجعل من عيسى إلها أو شبه إله يرسل الرسل وينزل الكتب ويغفر الذنوب ويحاسب الخلائق..
والنصرانية بهذا المفهوم المستغرب لا يعنينا أن تكون عالمية أو محلية لأنها شيء آخر غير ما ينزل الوحي به على سائر الرسل، قال تعالى لنبيه محمد:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} إن هذه النصرانية الجديدة لا تتصل بعيسى الذي مهد لمحمد صلى الله عليه وسلم كما لا تتصل بعيسى الذي بلغ تعاليم إبراهيم وبنيه، ومن ثم فهي في نظرنا منهج بشري مستقل بأفكاره عما قبله وعما بعده.. ورسل الله يصدق بعضهم بعضا ويمهد السابق منهم للاحق ما استطاع.
ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم أقامت مفهوم العالمية فيها على أن الدين واحد من الأزل إلى الأبد وأن الأنبياء إخوة في التعريف بالله والدلالة عليه واقتياد البشرية إليه.. وأن القرآن الكريم جمع في سياقه الباقي كل ما تناثر على ألسنة النبيين من عقائد وفضائل ولذلك فإن الإيمان بهم جميعا مطلوب والكفر بأحدهم انسلاخ من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم نفسه. ومن الطبيعي أن تبدأ الرسالة عملها في بقعة ما من أرض الله. وقد شرع النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم يعلم الأميين من عبدة الأوثان، ويرشد الحائرين والجاحدين من أهل الكتاب. وبعد تسعة عشر عاما من الدعوة الدائبة استطاع أن يظفر من الوثنية الحاكمة بحقه في الحياة وحق من يتبعونه في العيش بدينهم والتجمع عليه.
عندما نال هذا الحق من معاهدة الحديبية وأصبح له موضع قدم يستقر فيه ويدعو منه أخذ يرسل إلى أهل الأرض يبلغهم الحق ويفتح عيونهم على سناه.
ومن أهل الأرض يومئذ؟ الروم غربي الجزيرة وشمالها. والفرس في الناحية المقابلة، وحكام آخرون يعيشون في جوارهم أو يدورون في فلكهم.
هل كان وراء الرومان من يفهمون الخطاب شمالي أوريا أو وسطها؟ أو وسط إفريقيا وجنوبها؟ كانت هناك قبائل السكسون والجرمان والغالة والوندال وقبائل أخرى مشابهة لها في إفريقية وكانت هناك وراء الفرس شعوب جاء وصفها في قصة ذي القرنين في القرآن الكريم بأنهم لا يكادون يفقهون قولا..
على أية حال فإن النبي المبعوث للعالم أرسل إلى إمبراطور الروم وملك الفرس وحاكم مصر ونجاشي الحبشة، وإلى الأمراء المنتشرين حول الجزيرة العربية يدعوهم إلى توحيد الله واعتناق الإسلام لعله بدأ بالجيران الذين يلونه فبلغ أمر ربه حتى إذا أتم هدايتهم تجاوزهم إلى من يلونهم من أجناس البشر.
أو لعل الفكر البشري في هذه الآونة لم يبلغ درجة الوعي وأهلية الخطاب إلا في هذه البقاع المحتضرة والتي ظهرت فيها جمهرة الرسالات السماوية من قديم.
على أية حال فإن اليقظة الإنسانية التي بدأت في جزيرة العرب ما كانت نهضة جنس متفوق ولا طماح زعيم متطلع، بل كانت حركة قبيل من الناس اختارهم العناية العليا ليربطوا جماهير البشر بالله الواحد، وليسيروا في هذه الدنيا وفق هداه لا وفق هواهم) {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} .
وأكذب الناس على الله وعلى عباده من يزعم الإسلام طورا من أطوار البعث العربي، إن هذا الكلام لا يساويه في الرخص والغثاثة إلا ما تضمنه من إفك وتظليل فإن محمدا عليه الصلاة والسلام رفض رفضا باتا أن يكون للعرق، أو اللون أو القوة أو الثروة أي رجحان من موازين الكرامة الإنسانية، والمحور الذي دار عليه الإسلام هو التوحيد والعبادة والتشريع والوجهة والولاء، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه} وقد قلنا، ولا نزال نقول: إن الله ربى محمدا عليه الصلاة والسلام ليربي به العرب وربى العرب بمحمد عليه الصلاة والسلام ليربي بهم الناس فرسالة العرب أن يكونوا جسورا لهدايات السماء، وأن يعلموا الخلق ما تعلموه من الخالق.
وإذا كانوا تلامذة لخاتم الرسل فهم بما درسوا أساتذة للشعوب الأخرى تتلقى عنهم وتستضئ بهم..
وهذه المكانة للأمة العربية مكانة عالية حقا، بيد أنها لا تقوم على الدعوى بل على البلاغ، ولا تقوم على البطالة بل على التضحية، وذلك معنى قول الله تبارك اسمه.
وقد قامت دولة الإسلام بدورها العالمي، هذا على عهد النبوة وأيام الخلافة الراشدة وتدافع التيار إلى مداه أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وإن كان هذا التيار قد شابه من الكدر والدخن ما أزرى به وحط قدره حتى توقف آخر الأمر.
والمسلمون في هذا العصر يكادون يجهلون أن لهم رسالة عالمية بل أن حياتهم وفق شرائع دينهم وشعائرهم موضع ريبة وقد تكون موضع مساومة.
وأذكر أن حوارا دار بيني وبين الأستاذ علي أمين بعد ما كتب يستنكر أذان الفجر ويزعم أنه يزعج النيام المستريحين (!) قلت له: إن إيقاظ الناس للصلاة مقصود قصدا وفي أذان الفجر كلمة تقول: الصلاة خير من النوم! قال: من أراد الصلاة فليشتر منبها يوقظه ليصلي: قلت له إن جمهور المسلمين وهم كثرة هذا البلد يريدون الصلاة علانية ويردون أن يصبغوا الحياة الاجتماعية بها وأن ينظموا نومهم وانتباههم على أوقاتها فإذا شاء الكسالى غير ذلك فليتواروا بإثمهم لا أن يفرضوه على المجتمع ويطلبوا من المؤمنين التواري بدينهم.
وأشهد أن الرجل لان وتأثر واستكان وأرجوا أن قد تاب ومات مغفورا له وإنما ذكرت هذا الحوار ليعرف من جهل مبلغ ما انحدرت إليه أمتنا.
إن الشيوعية تريد أن تكون نظاما عالميا، وكذلك المادية والإباحية، وكذلك الصهيونية والصليبية أما الإسلام فإن طبيعته العالمية يراد إنكارها، وإذا تم ذلك فإن وجوده المحلي ينبغي الخلاص منه والإجهاز عليه..
وأريد أن نعرف: من نحن؟ وما ديننا؟ وما هدفنا؟ وما طبيعة جهادنا؟ إننا ورثة الإسلام وحملته وأصحاب الحضارة الوحيدة التي تعترف بالدنيا والآخرة والروح والجسد والعقل والعاطفة.
وفي قرآننا وسنة نبينا صلاحنا وصلاح العالم من حولنا، وقد هنا على أنفسنا فكان طبيعيا أن نهو على غيرنا، وزهدنا في ديننا فكان طبيعيا أن يزهد العالم فيه.
وقد بدأت في الأفق تباشير عودة ناجحة إلى هذا الدين العظيم، فلنصور بدقة طبيعة النور الذي خصنا الله به، طبيعة الرسالة التي شاء الله أن تحق الحق وتبطل الباطل، وتهدي الحيارى في المشارق والمغارب. ويفرض علينا هذا المعنى أمورا ذات بال..
أولها: مادام محمد عليه الصلاة والسلام للعالم كله وليس للعرب خاصة فيجب على العرب –وهم الذين تحدث محمد صلى الله عليه وسلم بلغتهم وكلفوا بنقل رسالته إلى غيرهم- يجب عليهم أن يوصلوا هذا القول إلى كل قبيل من الناس وبكل لغة يتم التفاهم بها..
أي أنهم يجب عليهم أن يتقنوا كل اللغات العالمية، وما استطاعوا من اللغات المحلية وأن يودعوها خلاصة كافية هادية من تعاليم الإسلام في مجال العقيدة والخلق والعبادة وشتى أنواع المعاملات وأن يذكروا بدقة ولطف الفروق الكبيرة بين أصول الإيمان عندنا وعند أهل الأديان الأخرى سماوية كانت أو أرضية..
إن هذا الواجب لم يكن منه بد حتى لو كان الميدان خاليا لنا وحدنا، فكيف وهناك أجهزة عالمية مخوفة تخصصت في تحقير الإسلام وإهانة نبيه؟ عليه الصلاة والسلام. فكيف وقد تآمرت على الإسلام شتى القوى، وتألب خصوم خبثاء يصطادون الشبه ويتلمسون للأبرياء العيوب؟
إن الاستعمار سخر أجهزة إلحادية وصليبية سبقتنا إلى أجيال كثيفة من الزنوج والجنس الأصفر، وتركت في نفسه سموما ضد محمد عليه الصلاة والسلام ودينه وانتهزت الصمت الذي خيم على أجهزة الدعاية الإسلامية والسلبية المشينة التي لذنا بها وراحت تكذب وتكذب حتى نجحت في تلويث سمعتنا وقدرت على غرس تدين مختل الأصول مضطرب السلوك، وأمكنها بسهولة أن تصد عن سبيل الله وتردم معالم الصراط المستقيم. إن ذلك يوجب علينا الإحساس المضاعف بخطئنا وتخلفنا ويحملنا عبء المسارعة إلى تعليم الجاهل ومراجعة المخدوع وتعريف الناس بربهم الواحد الأحد الفرد الصمد، وربطهم بالدين الذي حمل رايته جميع الأنبياء ثم نقاه وشد دعائمه وثبت أهدافه النبي الخاتم محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
والأمر الثاني: المتصل بعالمية الرسالة يرجع إلى اللغة العربية. فلغة الرسالة الخالدة يجب أن تتبوأ مكانة رفيعة لدى أصحابها ولدى الناس أجمعين، فإن الله –باختياره هذه اللغة وعاء لوحيه الباقي على الزمان- قد أعلى قدرها وميزها على سواها والواقع أن اللغة العربية مهاد القرآن وسياجه فإذا تضعضعت وأقصيت عن أن تكون لغة التخاطب والأداء ولغة العلم والحضارة أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف ولهذه الغاية الخاسرة تعمل فئات غفيرة من المستعمرين وأذنابهم. وما أكثر تلك الأذناب في الجامعات والمجامع ودور الإذاعات والصحف وغيرها؟
إن آبائنا عليهم الرضوان نشروا اللغة العربية بكل الوسائل المتاحة لهم، وما تأسست مدرسة لخدمة الدين إلا انقسمت علومها بين مناهج الشريعة ومناهج اللغة والآداب.. ويلاحظ الآن انكماش مفزع في هذا الميدان ورواج سمج للهجات العامية والمصطلحات الأجنبية والترجمات الركيكة والكلمات الدخيلة..
واللغة العربية لا تخدم بالحماس السلبي، بل لابد من إعادة النظر في شئون شتى تتصل بكيتنها وتعاليمها.
ولنفرق من الآن بين طرق تعليمها للتلامذة العرب وللتلامذة الأجانب، ولنبتكر أساليب ميسورة لتدريس المصادر وتصريف الأفعال وجموع التكسير وأنواع المترادفات وغير ذلك مما يعانيه طلاب العربية..
إن هناك لغات لم يشرفها الله بوحي، ولم تصحب حضارة إنسانية مشرقة يخدمها أبنائها بذكاء نادر فما دهى العرب حتى تركوا لغتهم توشك أن تكون من اللغات الميتة أو الثانوية في هذه الدنيا؟
إننا عجزنا عن جعل اللغة العربية لغة أولى بين الألف مليون مسلم الذين يعتنقون الإسلام وهذا وحده فشل ذريع نؤاخذ به يوم الحساب، ويرجع هذا الفسل إلى أن العرب أنفسهم لا يجلون لغتهم. بل لقد استطاع الاستعمار الثقافي أن يكرهها لهم أو يحقرها لديهم فأي بلاء هذا؟ والمطلوب الآن للفور إقصاء اللهجات العامية والرطانات الأعجمية عن جميع منابر الصحافة والإعلام وإعادة الحياة إلى اللغة الفصحى في كل محفل..
وأكرر مطلبا آخر ذكرته في أحد المؤتمرات وهو إنشاء مدارس وإرسال بعثات لنشر اللغة العربية وحدها أي دون ربط اللغة بالدين، فإن هذا التعليم المجرد سيوسع القاعدة الثقافية للغة القرآن وسيكون يوما ما رافدا من روافد الحق والإيمان.
والأمر الثالث والأخير في عملية الدعوة يتصل بالوضع الأدبي والمادي داخل الأمة الإسلامية نفسها إن الخلق الزاكي لغة إنسانية عالمية تعجب وتقنع، وبهذه اللغة تفاهم الصحابة والتابعون مع الشعوب التي عرفوها وعرفتهم فدخل الناس في دين الله أفواجا.
أي أن القدوة الحسنة فردية كانت أو جماعية تفرض احترام العقيدة والحفاوة بها وهذه القدوة ليس دورا تمثيليا يؤدى بالخداع واجتذاب المشاهدين كلا كلا فحبل الكذب قصير إن هذه القدوة هي الحلاوة في الثمرة الناضجة أو الرائحة في الزهرة العاطرة، أي هي نضج الكمال الذاتي وقد شاء الله أن يؤتي السلف الصالح أنصبة جزلة من هذا الحسن الذاتي ففتحت لهم المدن العظام أبوابها وألقت إليهم الجماهير بقيادها..
وإنني أشعر اليوم بغضاضة شديدة حين أرى السائحين والسائحات يجوبون بلادنا ويدرسون أحوالنا، ثم يجاوزوننا بقلة أكثرت أو باستهانة بالغة.
إنهم لا يرون - فيما يشهدون - الإسلام الحق في نظافته وسموه. بل يرون شعوبا أقل منهم كثيرا في المستوى الحضاري ولا أقول في المستوى الخلقي المعتاد.
وتلك أحوال تصد عن الإسلام ولا تغرى باعتناقه، وعالمية الإسلام تفرض على أتباعه أن يقدموا من سلوكهم الخاص والعام نماذج جديرة بالإكبار.
أو على القليل جديرة بالسؤال عن حقيقة الإسلام لمن لم يعرفوا هذه الحقيقة، وما أكثرهم في أرض الله.
الدين الحق
لفضيلة الدكتور عبد المنعم حسنين
الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية
إن الدين الحق اتباع يظهر في السلوك والعمل، وليس قولا وادعاء لا يطابقهما الفعل، قال الحسن البصري رحمه الله ((ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال)) .
الدين الحق أساسه الإيمان، والإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث متفق عليه:"الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"
وقال صلوات الله وسلامه عليه في حديث صحيح رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وأحمد وغيرهما "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا"
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث رواه مسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه فذلك أضعف الإيمان".
وقد كثر الآن المتحدثون باسم الدين والمتجرون به في الأقطار الإسلامية المختلفة، وارتفعت أصوات هؤلاء ارتفاعا غطى على أصوات المؤمنين الصادقين الذين يدينون دين الحق، وأصبح الأتجار بالدين الحق حرفة رائجة في البلاد الإسلامية، والعجيب أن أكثر الناس في أنحاء مختلفة في العالم الإسلامي يظهرون الحرص على التمسك بأحكام الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتظاهرون بأنهم يحملون أمانة الدعوة إلى دين الله، ويتشدَّدون في نقد من يخالف الكتاب والسنة في أمر من الأمور، ولكن أعمالهم تخالف أقوالهم وباطنهم يختلف مع ظاهرهم وأنهم يقولون ما لا يفعلون.
والذين يتكلمون ولا يعملون كلامهم كالطبل الأجوف يقلق ولا يرشد، لأن الدين الحق يرى في سلوك المتدينين به، والداعية يكسب لدعوته بسلوكه أكثر مما يكسب لها بموعظه، فسلوكه هو التطبيق العملي الحي لما يؤمن به، ويدعو إليه.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول المطبقين لأوامر الله في سلوكه ومعاملاته، فكان عمله هديا وإرشاد وتطبيقا لما أنزل عليه وما أمر به، وينبغي أن يكون للمسلمين في رسولهم أسوة حسنة يقول الله جل جلاله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)
إن القدوة العملية تصيب من القلوب أكثر مما تصيب الكلمة مهما كانت طيبة ومؤثرة. ونستطيع أن نأخذ الدروس النافعة الهادية من سيرة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ولقد حدث بعد صلح الحديبية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن ينحروا هديهم ويحلقوا رءوسهم فلم يقم منهم أحد، فدخل على أم سلمة فأشارت عليه أن يخرج ثم لا يكلم أحد كلمة حتى ينحر بدنه ويدعو حالقه فيحلقه، فلما فعل صلوات الله وسلامه عليه قام الناس ينحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا.
هذه حادثة معبرة أصدق تعبير وأوضحه على أن تطبيق الداعية لما يدعو إليه له تأثير قوى فعال في المدعوين، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من هو لما أمر الناس بالنحر ثم الحلق فلم يستجب له أحد، وأخبر أم سلمة فأشارت له بالعمل بدل القول، فلم يكد الرسول صلوات الله وسلامه عليه يخرج إلى القوم ويفعل ما يجب أن يفعل حتى بادر الصحابة رضوان الله عليهم بفعل ما امتنعوا عن فعله حين كلمهم.
أجل إن القدوة العملية تؤثر في الناس أكثر مما تؤثر الأقوال مهما كانت بليغة، فعلى الدعاة أن يكونوا عمليين أكثر منهم قوالين حتى تثمر دعوتهم، وينبغي أن تظهر هذه الثمار في بيوتهم وفي دوائر أعمالهم، فيظهر الدين الحق في سلوك الزوجة والأولاد، والخدم والأحفاد والمتصلين بالدعاة والمشتركين في عمل من الأعمال.
إن الذي يدعو إلى اتباع الكتاب والسنة والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهدية ينبغي أن يتبع هذا بالتطبيق العملي لما يدعو إليه، فيظهر هذا التطبيق في سلوكه وجميع أعماله، وأن يلزم المتصلين به والعاملين معه بتطبيق ما يدعو إليه وما يطبقه هو، وكل تقصير في التطبيق مدعاة للسخرية والاستهزاء، وسبب في أن تصير الدعوة غير مجدية، وغير مؤثرة في القلوب، لأن الدعاة إذا لم توافق أعمالهم أقوالهم كانوا دعاية سيئة لما يدعون الناس إليه
إن دعوة الناس إلى الخير، تقتضي أن يكون الدعاة سباقين إلى الخير، ومطالبة الناس باتباع الكتاب والسنة تستوجب أن يكون الدعاة متبعين للكتاب والسنة في جميع أعمالهم، ونهي الناس عن منكر يحتم أن يكون الناهون ملتزمين لذلك النهي مبتعدين عن المنكر في أفعالهم.
ولهذا أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذي سأله أن يقول له في الإسلام قولا فصلاً بقوله: "قل آمنت بالله ثم استقم".
ووصية الرسول هذه وصية جامعة لأن إعلان المسلم الإيمان بالله إثبات لولائه لله رب العالمين، واستقامة المؤمن دليل على صدقه في إعلانه الإيمان بالله، وذلك بالتطبيق العملي الدال على صدق القول والإعلان. وقد بشر الله جل جلاله الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا بالجنة في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت: 30) .
فالدين الحق تطبيق وعمل، واتباع لما أمر الله به، واجتناب لما نهى الله عنه واهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يقولون ما لا يفعلون فهم أخطر على الإسلام من أعدائه، لأنهم يلبسون زي الدعاة، ويتظاهرون بأنهم يحملون أمانة الدعوة إلى دين الله، ويطالبون الناس بالاستقامة ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ثم تكون أعمالهم منافية لأقوالهم، فبينما تراهم ينتقدون الناس إذا خالفوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور إذا هم في سلوكهم ومعاملاتهم يخالفون الله ورسوله، فلا يعدلون إذا حكموا بين الناس بل يميلون مع الهوى، ويستبيحون لأنفسهم الظلم وأكل حقوق الغير، ويساندون العاملين تحت إمرتهم إذا ظلموا واغتالوا حقوق الناس وحكموا بغير ما أنزل الله، ولا يلزمون أهليهم بما يدعون الناس إليه، ولا ينتقدون أولادهم إذا ارتكبوا أمراً منكراً من الأمور التي يتشددون في انتقادها إذا ارتكبها غيرهم.
هذا في الواقع ما ابتلي به المسلمون في كثير من أقطارهم، إن هؤلاء المتجرين بالدين يشبهون علماء بني إسرائيل الذين خاطبهم الله جل جلاله بقوله:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44) .
إن الذين يتجرون بالدين أينما وجدوا ينطبق عليهم قول ربنا سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 103-104) .
إن مخالفة الداعية في سلوكه لما يدعو غيره إليه أمر يتنافى مع العقل والمنطق السليم مما يجعل دعوته تفقد قيمتها وتأثيرها، بل قد تحدث نتيجة عكسية وهذا هو الخطر الذي يتهدد شباب المسلمين من جهة هؤلاء المتجرين بالدين، الذين يقولون ما لا يفعلون.
إن الدين الحق أن يصدق العمل القول، وأن يطبق المسلم في سلوكه وفي كل ما يصدر عنه من أفعال ما جاء في كتاب الله وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
إن الإيمان الصادق هو الدافع المحرك للقوى الكامنة في نفس الإنسان، وهو الذي يجعل المؤمن في شوق دائم للعمل بما يرضي الله تعالى، فيدفعه إلى تفضيل أعمال البر ليثقل ميزانه يوم القيامة.
فينبغي على المؤمنين الصادقين الذين يدينون دين الحق أن يقفوا في وجه المتجرين بالدين، وأن يكشفوا زيفهم وضلالهم، وأن يحملوا أمانة الدعوة إلى دين الله الحق الذي يزيغ أمامه كل باطل، وأن يعملوا بقول الله جل وعلا:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
وليعلم المؤمنون الصادقون الذين يدينون دين الحق أن أهل الباطل كالزبد يذهب جفاء، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض.
ولكن على المؤمنين الصادقين أن يعملوا {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:105) .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
المصلحة المرسلة [1]
محاولة لبسطها ونظرة فيها
لفضيلة الدكتور علي محمد جريشة
أولا: تقديم وتعريف:
1-
إن الله بالناس لرؤف رحيم، لم يخلقهم عبثا بل جعل لهم غاية، ولم يتركهم سدا بل هداهم السبيل وحدد معالمه.. كل ذلك بما شرع لهم من أحكام في دينه، وكانت أحكامه محققة لمصالحهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.. وقد ثبت لدى العلماء من تتبع أحكام الشرع واستقرائها أنها تحقق مصالح خمسا وتحافظ عليها هي الدين والنفس والعقل والنسل والمال وهي في تحقيقها لهذه المصالح تتدرج بين مراتب ثلاثة:
هي الضرورات: وهو لابد منها لإقامة هذه الخمسة وحفظها، والحاجيات وهي وإن لم تلزم لقيام الخمسة فإنها تلزم لرفع الضيق والحرج عند الأخذ بها، والتحسينات وهي ليست بلازمة لقيام هذه المصالح ولا لدفع الضيق والحرج عند الأخذ بها ولكنها استكمال لحسن الأمر وتحقيق لصالح الخلق [2] .
وتقف كل مصلحة من المصالح الخمسة مكملة للتي تسبقها وخادمة لها، كذلك تقف كل مرتبة من المراتب الثلاثة مكملة للتي تسبقها وخادمة لها.
ففي المصلحة الأولى وهي الدين تقف في المرتبة الأولى الضرورات، وفي مقدمتها شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلابد من إقامتها لإقامة الدين، ولو أدى ذلك إلى التضحية بالمصلحة التي تليها وهي النفس، وذلك عن طريق الجهاد إعلاء لكلمة الله، وتمكينا لدينه..
ومن الحاجيات المكملة لإقامة الدين ما شرعه الله من تيسير في بعض أحكامه، رفعا للعنت والحرج [3] ومنعا من الضيق والملل، كأداء الصلاة قعودا لمن كان ذا عذر، وقصرها للمسافر وما شرع الله من عقود وأحكام للمعاملات.
ومن التحسينات المكملة لإقامة الدين ما ينبغي أن يتحلى به المسلم من خلق العفو والصفح الجميل ودرء السيئة بالحسنة.
ووقوف المصلحة وراء كل حكم أنزله الله أمر يراه كل ذي بصيرة فإن خفيت فإيمان المسلم ويقينه بأن الله لا يريد به إلا اليسر، ولا يشرع له إلا الحق والخير.. كل ذلك كاف لأن ندرك ما قرره علماء الشريعة من أن وراء كل حكم شرعي مصلحة.
والقول بأن وراء كل مصلحة حكم شرعي [4] ينبغي أن يتقيد بالشروط والقيود التي سنشير إليها، وإلا فليست كل مصلحة يتصورها إنسان يمكن أن يبنى عليها حكم شرعي.
2-
والمصلحة التي يورد الشارع حكما يحققها تسمى مصلحة معتبرة [5] وتلك التي يأتي النص بعدم اعتبارها تسمى مصلحة ملغاة [6] .
والتي لم يعتبرها الشارع ولم يلغها هي المصلحة المرسلة [7]- وهي موضوع هذا البحث.
ثانيا: حجية المصلحة المرسلة:
3-
الوحي –قرآنا وسنة- ليس فقط هو المصدر الأول للأحكام، بل هو المصدر الوحيد للأحكام..
فكيف يتفق ذلك مع ما يعدده الأصوليون من مصادر تقارب العشرة أو تجازوها؟ ووظيفة الإجماع أنه يقوي من هذا الدليل.. والقياس تعرية للحكم الشرعي –الوارد في الكتاب أو السنة- إلى واقعة أخرى لم يرد فيها نص، لاتحاد العلة في الواقعتين.
أما المصلحة.. فهي –كما سيبين بإذن الله- لون من القياس على النصوص في مقاصدها ومعناها، وليس في عبارتها ومبناها، أو هي بعبارة أخرى. حكم بروح النصوص ومقاصدها وليس حكم بعبارتها وألفاظها.
4-
بيد أن الأمر ليس بهذه السهولة التي أشرنا إليها.. فإن دليلا من الأدلة لم يثر جدلا عنيفا ولا غموضا شديدا، ولا تطرفا ذات اليمين وذات اليسار.. كما أثارت المصلحة المرسلة..
فالبعض أفرط فقدمها على النصوص. والبعض فرط فرفضها رفضا مطلقا. وبين هذا الفرث والدم.. كان رأي الجمهور وسطا سائغا للفاقهين..
5-
وقبل أن نشير إلى هذه الثلاثة نقول إن المصلحة لا عمل لها في دائرة العقيدة لأنها مبنية على اليقين، والمصلحة لا تفيد إلا الظن، كذلك لا عمل لها في ميدان العبادات.
(الشعائر والنسك) لأن نصوص القرآن والسنة جاءت مفصلة لها ومبنية، فضلا عن أن أغلب أحكامها ليس له ظاهرة أو مصلحة واضحة لأنها أساسا جاءت اختبارا لمدى طاعة العبد، ويأخذ حكم العبادات ما جرى مجراها من حدود ومقدرات وسائر ما استأثر الله بعلم تفصيلات المصلحة فيه [8] .
أ- المصلحة بين الإفراط والتفريط:
6-
تنازع التطرف المصلحة فالبعض قال بتقديمها على النصوص، والبعض قال برفضها.. ولكل وجهة هو موليها وتشير إلى الطرفين وحججها.
7-
أما الإفراط فيحمل لواءه نجم الدين الطوفي –الذي قيل إنه حنبلي لكن التحقيق أنه يميل إلى التشيع [9]- وقد عرض لرأيه في معرض شرحه لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"[10] ، وقال إنه يرى الأدلة الشرعية تسعة عشر دليلا جعل في مقدمتها النص والإجماع واعتبرها أقواها، ولكنه عاد فقال إن المصلحة تتقدم النص والإجماع إذا تعارضت معه [11] .
ولم يشأ نجم الدين الطوفي خلال عرضه الطويل أن يقدم مثلا واحدا لتعارض النص مع مصلحة حقيقية!
وبغض النظر عما ثار حول عقيدته، فإن رأيه يناقض بعضه بعضا، ويتهاتر أوله مع آخره حتى يسقط عن مستوى الاستدلال.. فإنه بعد أن صرح بتقدم النص والإجماع عاد فصرح بتقدم المصلحة على النص والإجماع، وهو وإن أجعل التعارض شرطا.. فإنه لم يستطع أن يقدم مثلا واحدا للتعارض!
فضلا عن أنه إذا تعارضت المصلحة مع النص.. فإنه يسقط الاستدلال بها إذ تغدو مصلحة ملغاة.. لا مرسلة ولا معتبرة!
8-
وقد نسب إلى الإمام مالك أنه قال إن المصلحة تخصص عام القرآن وتقيد مطلقه [12] ، وليس في أصول الإمام مالك ولا فقهه ما يؤيد ذلك.
كذلك نقل عن الإمام مالك أنه قال بتعذيب المتهم لإجباره على الإقرار –استنادا للمصلحة المرسلة- وقد ثبت بالتحقيق أنه ليس رأيا للإمام مالك، وأن هناك رأيا لسحنون في هذا الموضوع لكنه حرف ونقل على هذا النحو، ثم حرف ونسب إلى الإمام مالك [13] .
هذا بعض عن جانب الإفراط.
9-
أما جانب التفريط: فقد ذهب إليه أولئك الذين رفضوا المصلحة نهائيا [14] ولأهمية هذا الحكم، ولسقوط كثير من حكام المسلمين في هذا الإثم نذكر شيئا من التفصيل، فنقول بعون الله:
. إن الرجوع إلى كتب المذهب تكشف خطأ نسبة هذا الرأي إلى مالك، بل تثبت عكس ذلك تماما فهو يقول ((لا أقيم الحد إلا أن يقر بذلك آمنا لا يخاف شيئا)) (المدونة –ج 6. ص 93 طبعة السعادة) .
. والذي يبدوا أن الرأي حرف عن سحنون! إذ قال: ((إن إقرار المتهم في حبس سلطان عادل إقرار صحيح)) لكن تفحص العبارة يفيد عكس التحريف الذي فهمت به، فهو يقيد صحة الإقرار بعدالة السلطان إن كان المتهم محبوسا.. مما يفاد منه أنه إذا كان ثمة إقرار لسجين في سجن سلطان غير عادل فلا قيمة له.. لأن السجن في مثل هذه الحالة يمثل لونا من الإكراه يشوب الإقرار ومن ثم يغدو مرفوضا، وإذا كان السجن يشكل وحده لونا من الإكراه. أفلا يشكله التعذيب؟!
. ويشير الإمام الشاطبي في الاعتصام (ج 2 ص 293، 294- مطبعة المنار بمصر) إلى نفس الرأي السابق وينسبه إلى الإمام مالك ويشير إلى أن العذاب المقصود هو السجن، ونحسب أن الشاطبي بذلك نقل رأي سحنون على أنه رأي مالك فهو الذي رأى أن إقرار المتهم في حبس سلطان عادل يعتد به، وهو ما أشرنا إلى أنه يفيد عكس ما يقررون، ومع ذلك فقد أضاف الشاطبي إلى أن أصحاب مالك مضوا على الضرب لإمكان استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب وأشار نقلا عن الغزالي إلى أن الإمام الشافعي لا يقول بذلك. (ص 295 نفس المرجع) .
ولقد نعلم أن البعض قد يحاجج بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر إذ أمر الزبير أن يمس عم حيي بن أخطب بعذاب ليعترف على ما خبأه ابن أخيه، وبيان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل في غزوة خيبر فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء، واشترط عليهم أن لا يكتموا شيئا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد: ومع ذلك فقد غيبوا مسكا فيه مال، وحلي لحيي بن أخطب كان قد حمله إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب:"ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير"، فقال أذهبته النفقات والحروب، فقال:"العهد قريب والمال أكثر من ذلك"، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىالزبير فمسه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل قرية، فقال قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أخ الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أبي أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا (عن زاد المعاد لابن القيم الطبعة الأولى 1353هـ ج 2) .
. ونحن نلاحظ على هذه الرواية التي قد يحاجج بها البعض ليجعل للتعذيب شرعية:
1-
أن الأمر كان في حالة حرب بين مسلمين وغير مسلمين.
2-
أن العذاب لم يقع على أحد من المسلمين، وإنما وقع على يهودي محارب.
3-
أن النصوص كثيرة متواترة على حفظ دم المسلم وعرضه وماله، بل إن بعضها يجعل حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمة بيته المحرم.
4-
أنه قد بدر من الفريق الآخر بعد الصلح نكث للعهد ولذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقتل والسبي.
5-
أنه ليس هناك ما يفيد في هذه الرواية أن ما وقع على عم حيي بن الأخطب كان لحملة على الاعتراف، بل الأرجح أنه كان عقابا على كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، وعلى نكثه العهد حين اشترط عليهم الرسول ألا يكتموا وألا يغيبوا! وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بالقتل والسبي جزاء على ذلك فإن الضرب جزاء دون ذلك الجزاء!
وقد يكون هذا التفريط رد فعل لذلك الإفراط، لكنهم يبررون ذلك بما يلي:
1-
أن الله سبحانه إذا قرر {أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} قد كفل له من الأحكام ما يكفل له تنظيم حياته دون حاجة إلى جديد {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} .
2-
أن المصالح الحقيقية هي التي وردت بها الأحكام، وما لم يرد به حكم فليس بمصلحة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
3-
أنها مظنة الحكم بالهوى ما دامت ليست معتبرة من الشارع، بل هي مترددة بين الاعتبار والإلغاء وفي هذا يقولون إنها ما دامت مترددة بين الاعتبار والإلغاء فإن انحيازها إلى جانب الاعتبار ليس أولى من انحيازها إلى جانب الإلغاء [15] .
ب. المصلحة المرسلة عند الجمهور:
10-
شاع لدى البعض أن الإمام مالك وحده هو الآخذ بالمصالح المرسلة كدليل من أدلة الأحكام الشرعية [16] وأضاف البعض إليه الإمام أحمد.
لكن النظر الدقيق يثبت أن الأئمة الأربعة أخذوا بها وإن كان ذلك تحت مسميات أخرى فالعبرة بالمعنى قبل المبنى.
فالإمام الشافعي عالجها تحت باب القياس وهذا في رأيي نظر ثاقب من الإمام الشافعي لأن المصلحة قياس معنى وإن لم تكن قياس لفظ كما سيبين إن شاء الله والإمام أبو حنيفة عالجها تحت باب الاستحسان والعرف [17] .. والمصلحة قريبة من الاستحسان..
وعلى ذلك يمكن أن نقول أن المصلحة كدليل شرعي مسلم بها من جمهور الفقهاء.
11-
ودليلهم في ذلك:
(1)
أن الشارع دلً عليها على سبيل الإشارة، حين بين لنا الأحكام وكشف في بعضها عن المصالح التي تتحقق من ورائها.. فكأنه سبحانه. بذلك يدل على أن وراء كل حكمة مصلحة، وكأنه بذلك سبحانه يدلنا على أن نقيس على المصالح، فبعد أحكام الصيام نجد قول الله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
وبعد أحكام الوضوء نجد قول الله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم} وعن الصلاة يقول سبحانه {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} .
وفي تحويل القبلة يقول سبحانه {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . وفي القصاص قول الله سبحانه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَاب} .
فماذا على الناس بعد ذلك أن يرعوا المصالح التي أرشد إليها رب الناس؟
(2)
إن المصالح تدور في فلك مقاصد الشارع التي استقرئت من أحكامه وهي:
الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
وبالنظرة الفاحصة فإن الأخذ بالمصلحة على هذا النحو يمثل لونا من القياس على النصوص ليس في عبارتها ومبناها ولكن في مقاصدها ومعناها [18] ..
فهي ليست كما ظن البعض انفلاتا من النصوص أو خروجا عليها أو حكما بالرغبة والهوى والتشهي وإنما هي حكم بالنصوص بروحها ومقاصدها إلى جوار ألفاظها وعبارتها.
وهي بذلك تحقق شمولا واتساعا ومرونة هي سر من أسرار خلود هذه الشريعة.
(3)
سلك الصحابة سبيل الاجتهاد بناء على المصلحة، فجمع أبو بكر المصحف ودوًن عمر الدواوين وسك العملة، وعلى ضمن الصناع وقال ((لا يصلح الناس إلا ذاك)) .
والصحابة في ذلك لا يصدرون عن رأي مجرد أو هوى متبع، وإنما يصدرون عن القرآن الذي تلقوه، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي تعلموا على يديه، ومسلكهم في هذا السبيل نقتدي به ونقتفي أثره عملا بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
ولقد وقع البعض في خطأ كبير إذ ظنوا أن الصحابة كانوا يعملون المصلحة ولو صادمت النصوص.
(4)
أن النصوص كألفاظ وعبارات قد تتناهى، وحاجات الناس لا تتناهى والمصلحة كقياس –معنوي- إلى جوار القياس اللفظي تحقق الاتساع والشمول الذي يكفل مواجهة الحاجات المتجددة.
12-
وهذه الحجج نفسها تتضمن الرد في نفس الوقت على حجج من رفضوا المصلحة، إذ قامت أغلب حججهم على افتراض خروج المصلحة عن دائرة النصوص والأحكام الشرعية، ومن ثم ظنوها حكما بالهوى، أو اعتبروها خروجا على الدين بعد إذ اكتمل، وهو ما رأيناه داحضا بعد أن بلغنا إلى اعتبار المصلحة لونا من القياس على روح النص ومبناه، فليس ثمة خروج فيها على النصوص..
أما قول الأولين إن انحياز المصلحة المرسلة إلى جانب الاعتبار ليس بأولى من انحيازها إلى جانب الإلغاء.. فمردود بأن هذا الانحياز راجع إلى أن ما تحققه المصلحة المرسلة يضاهي ما تحققه المصلحة المعتبرة، وأن المصلحة المرسلة تدور في فلك نفس المقاصد التي تدور فيها المصلحة المعتبرة.
ج- شروط المصلحة:
13-
المصلحة عند الجمهور قائمة على أسس يصح أن تعد شرطا فهي:
(1)
لا تصادم نصوصا ولا إجماعا.
وإلا كانت مصلحة ملغاة، لأن معنى إرسالها أن الشارع لم يلغها ولم يعتبرها.
(2)
أن تحقق أحد المصالح الخمس: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، أي أن تكون المصلحة من جنس هذه المصالح.
(3)
أن تكون حقيقية وعامة.
لأنها إن لم تكن حقيقية كانت وهما، والوهم لا ينبني عليه حكم شرعي.
وإن لم تكن عامة كانت خاصة، والأحكام في الشريعة لا توضع لفرد ولا لبعض وإنما هي للناس كافة بغير تفرقة.
وهذه الشروط في حقيقتها مستمدة من طبيعة المصلحة، ومن كونها دليلا شرعيا.
14-
ولقد أضاف البعض إلى ذلك شروطا أخرى:
فقد نقل عن الشافعي أنه يشترط فيها أن تكون ((شبيهة بالمعتبرة)) .
ونقل عن الغزالي اشتراطه كونها ((ضرورية)) .
أما شرط الشافعي فهو في حقيقته الشرط الثاني الذي أشرنا إليه أن تكون من جنس المصالح التي جاء بها الشارع.. وبهذا تكون شبيهة بالمعتبرة.
وأما شرط الغزالي أن تكون المصلحة ضرورية [19] فإنه قد يشعر بحصر نطاق العمل بالمصلحة المرسلة على مرتبة الضروريات دون سائر المراتب الأخرى (الحاجيات والتحسينات) وذلك قد يصح إذا اقتصرنا على أحد مؤلفاته ((المستصفى)) لكن هذا الظن قد يتبدد إذا رجعنا إلى سائر مؤلفاته [20] .
ولعل ما جاء بالمستصفى كان بيانا لما هو موضع اتفاق بين الجميع، إذ يعمل بالمصلحة الضرورية عند جميع الفقهاء بلا استثناء، وذلك في ظننا راجع إلى القاعدة الأصلية ((الضرورات تبيح المحظورات)) [21] .
كذلك قد يكون الغزالي في معرض بيان الترجيح بين مصلحة ضرورية وأخرى أوفى منها فهو يخص الضرورية بالعمل والتقديم..
ولقد يكون ما ضربه الغزالي مثلا دليلا على ذلك، فهو يضرب مثلا بحالة تترس الكفار ببعض المسلمين، فنحن إزاء مصلحتين: الحفاظ على حياة المسلمين الذين تترس بهم الكفار، ثم الحفاظ على الدين بهزيمة هؤلاء الكفار وفي مراتب المصالح تتقدم المصلحة الأخيرة على المصلحة الأولى لأنها ضرورية وقطعية (أي حقيقية) وكلية (أي عامة)[22] .
ثالثا: ما نسب إلى الصحابة خطأ حول المصلحة:
15-
تولى نجم الدين الطوفي كبر تقديم المصلحة على النصوص.
وقد قدمنا أن لا مصلحة خارج النصوص وأن المصلحة الحقيقية لا تكون إلا داخل دائرة النصوص في فحواها ومبتناها وأنها إن خرجت.. كانت مصلحة ملغاة لا يعتد بها في مجال الأحكام الشرعية.
لكن الذين اقتفوا أثر نجم الدين الطوفي وساروا في دربه استدلوا على صحة القضية بعمل الصحابة، وعلى وجه التغليب استدلوا بعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقالوا عنه أنه كان يقدم المصلحة على النصوص [23] .
وجاوزوا في ذلك الحق والحقيقة.. فما كان لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تربوا في مدرسة الوحي وقدروه حق قدره أن يخرجوا على الوحي عملا بما يسمى المصلحة!!
ولسان حال هؤلاء الصحابة ما قاله أبو بكر الصديق أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا أنا قلت في كتاب الله برأيي.. فمجرد التأويل بالرأي في كتاب الله وليس خارجه يعده أبو بكر كبيرة لا يتصور معها أن تقله أرض الله أو تظله سماؤه أما عمر فهو وإن اجتهد فقد كان يجتهد داخل دائرة النصوص بحثا عن حكم الله أما أن يخرج على النصوص تفضيلا للمصلحة عليها.. فهذا لا يتصور من عمر.. لأن معنى ذلك أن يتقدم برأيه على الوحي وهو الذي يتلوا قول الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، وهو الذي ضرب رأس منافق راح يحتكم إليه بعد أن احتكم إلى رسول الله، فقال له عمر بعد أن خرج بسيفه وهوى عليه: هذا حكم عمر فيمن لا يرضى حكم الله ورسوله.
ولو دقق أولئك الباحثون فيما احتجوا به من أمثلة لوجدوا لها تفسيرا آخر غير أن يقولوا إن الصحابة قدموا المصلحة على النصوص.
ونورد فيما يلي الأمثلة لنناقشها ونتبين قصد عمر منها:
1 -
إبطال سهم المؤلفة قلوبهم:
16-
قيل إن عمر رضي الله عنه أبطل سهم المؤلفة قلوبهم الوارد في مصارف الزكاة في الآية الكريمة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} ..
وذلك إعمالا للمصلحة في مواجهة النص.
17-
لكن النظرة الفاحصة تكشف غير ذلك.
إن لكل حكم مناطا للتطبيق، ومنط تطبيق هذا النص هو تأليف القلب، وقد نظر عمر فإذا الإسلام قد عز، ودانت له أكبر إمبراطوريتين في العالم. ولم يعد الإسلام بحاجة إلى تأليف القلب أو إلى المؤلفة قلوبهم، وإذا كان النص يدور حول علته وجودا وعدما، فإن إعمال النص نفسه يقتضي الكف عن إعطاء هذا الفريق من الناس بعد أن عز الإسلام وعزت دولته!
أفليس هذا اجتهاد داخل النص..؟! أم يفتات على عمر ويقال إنه قدم المصلحة على النص؟!
2-
في قتل الجماعة بالواحد:
18-
قيل إن عمر إذ قرر قتل الجماعة بالواحد قد فعل ذلك بناء على المصلحة مصادمة للنص الكريم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وقوله {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..} .
19-
ولم يكن عمل عمر تشريعا كما تصور البعض.
إنما كان تطبيقا للنص بفهم عميق:
إن التعريف في النفس يعني ((الجنس)) ولا يعني ((المفرد)) والباء في النفس التالية هي باء السببية.. وعلى ذلك فإن النص يعني أن كل نفس شاركت في القتل تقتل بالنفس التي قتلت أي بسبب هذه النفس المقتولة.
وقد فهم ذلك الوضعيون أخيرا حين جعلوا جزاء القتل لكل من ساهم فيه وجعلوا مجرد الوقوف في الطريق العام لملاحظته دون اشتراك مادي في الجريمة تجعل صاحبها فاعلا أصليا يستحق نفس العقوبة.. وما دون ذلك جعلوه شريكا له نفس عقوبة الفاعل الأصلي ولئن تنكب الوضعيون السبيل فلم يجعلوا العقوبة هي القتل إلا في ظروف معينة قلما تثبت، ومن ثم فلم يعد الناس يجدون شفاء لصدورهم في تلك العقوبات الهزيلة.
ولئن تنكبوا السبيل كذلك فلم يجعلوا لولي الدم العفو أو القصاص أو الدية بما يكفل شفاء الصدر لهم.
فإن عقوبة الإسلام لا تحتاج إلى سبق إصرار ولا ترصد ولا اقتران بجريمة أخرى.
كما أن ولي الدم له الحق بين القصاص أو الدية أو العفو.
كذلك فإن اجتهاد عمر بقتل الجماعة بالواحد يجعل في تطبيق النص على هذا النحو شفاء للصدر أيما شفاء.. أمر عجزت عنه كل الأنظمة الوضعية!
أفنلوم عمر بعد ذلك أن اجتهد في فهم النص وتطبيقه؟!
3-
تعطيل حد السرقة عام المجاعة:
20-
نسب إلى عمر أنه عطل حد السرقة عام الرمادة بناء على المصلحة وأنه بذلك يقدم المصلحة على النص.
21-
والحق أن الأمر ليس تقديما للمصلحة على النص ولا تعطيلا لحد من حدود الله.. ولكنه بولايته العامة وجد أن شروط النص غير منطبقة إذ يوجد شبهة قوية تحول دون تطبيق الحد أو تدرؤه، وهو الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" وسمعه كذلك يقول: "لئن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" وهو الذي ترجمه القانونيون المحدثون بقولهم ((إن العدالة تتأذى من إدانة برئ واحد لكنها لا تتأذى من تبرئة مائة متهم)) .
وهو الذي جاءه صاحب بستان يشكو سرقة خادمه لثمار البستان فلما حقق القضية وجد أن صاحب البستان لا يعطي خادمه ما يكفيه.. فقال له عمر لو سرقت بعد ذلك لقطعت يدك أنت..
هذا الفقه السليم لإقامة الحدود الإسلامية هو الذي فقهه عمر فوجد أن الرمادة شبهة كبيرة تدرأ الحد.. فوجد أن شروط النص لا تنطبق..
وليس معنى ذلك تقديم المصلحة على النص.. إنما هو اجتهاد داخل النص نفسه للبحث في توافر شروط الجريمة وشروط العقوبة..
وهكذا لم يفهم البعض عمر.. ولا فقه عمر..!
4-
إيقاع طلاق الثلاث بلفظ واحد طلاقا بائنا:
22-
قالوا إن عمر خالف صريح القرآن في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَان} أي دفعتان، وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية إذ كان يوقع طلاق الثلاث طلقة واحدة، فقد روى ابن عباس رضي الله عنه ((كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق ثلاث واحدة فقال عمر ابن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم)) [24] .
23-
ويرد على ذلك بالآتي:
أ- أن هذا الحديث ضعفه كثير من من رجال الحديث [25] .
ب- أنه وردت أحاديث أخرى تفيد العكس أن عمل عمر كان هو عمل الرسول عليه الصلاة والسلام.
جـ- أنه على فرض التسليم بصحة الحديث فإنه يعني أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقعون طلقة واحدة، لكنهم في عهد عمر صاروا يوقعون الثلاث دفعة واحدة، يدل على ذلك ما جاء في آخر الحديث ((إن الناس استعجلوا أمرا كانت لهم فيه أناة)) ، أي أن الحديث يحكي الحال الذي كانوا عليه والحال الذي صاروا إليه، فهو حديث عن تغير عادة الناس وليس عن تغير الحكم في المسألة [26] .
د- الآية الكريمة {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} لا تعني ((دفعتان)) فقد ورد كذلك قول الله {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْن} وقوله {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ولم يقل أحد إنها تعني أن الأجر والعذاب يكون على دفعات [27] .
رابعا: نظرة في المصلحة المرسلة:
24-
لعل وجه المصلحة بعد هذا العرض الطويل قد بان بغير غيش ولا تشويه، بعد أن قضت في كتب الأصول وقتا طويلا غير واضحة المعالم. ولعلها بانت تطبيقا لروح الشريعة ومقاصدها، وليس خروجا عليها أو انفلاتا منها، ولعل الشروط التي تقدمت من عدم مصادمتها للنصوص، ومن دورانها في فلك المقاصد الخمسة التي تدور حولها أحكام الشرع كلها، ومن كونها حقيقية وعامة، لعل هذه الشروط ضوابط تحرسها أن تكون مظنة الحكم بالهوى أو التشهي!
ثم لعلها بذلك تحقق المرونة داخل إطار الإسلام فنواجه بروح النصوص كل جديد لم يرد به نص ولم يمكن قياسه على نص، وتؤكد بذلك صلاحية هذه الشريعة وخلودها على مر الأيام وتجدد الحاجات والرغبات.
وهي تحقق المرونة في المجال الذي يحتاجها وهو مجال المعاملات.
أما مجال العقيدة والعبادات وما يجري مجراها فهو بعيد عن عمل المصلحة قائم على التطبيق المباشر للنصوص.
وهي بعد ذلك ليست مصدرا مستقلا للأحكام لكنها وسيلة أو أداة للاجتهاد أو الاستنباط ترد الأمر أخيرا إلى الله ورسوله.. فما تكشف عنه المصلحة هو حكم الله في الموضوع.. لأنه رد إلى نصوص الكتاب والسنة في معناها دون مبناها وفي غاياتها ومقاصدها دون عباراتها وألفاظها.
وإن أمثلة المصلحة الكثيرة [28] يمكن ردها بيسر إلى نصوص الكتاب والسنة، بدليل أن الأمثلة التي ضربوها على أنها مصادمة للنصوص وتقديم للمصلحة عليها تبين أنها تطبيق للنصوص ذاتها وليس ثمة خروج عنها!
وبعد
فهل آن للمخلصين من الفاقهين أن يعيدوا كتابة فقهنا الإسلامي وأصوله بعد أم طال عليه الأمد حتى أصاب وجهه المضيء الكثير من التشويه أو الغبار..؟
وهل آن لهم بعد ذلك أن يدخلوا مجال الاجتهاد ليقدموا للأمة الإسلامية الحلول الشرعية لمشاكلها بدلا من أن تستورد الحلول وتستورد معها الانحلال من الغرب ومن الشرق؟!
هل آن لهم أن يقفوا وقفة ((مضرية)) في وجه الراغبين عن شريعة الله، المنفذين أو الراضين بما لم يأذن به الله..؟!
والله لو فعلوا لتغير وجه الأرض، ولتغير وجه التاريخ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
يذكرها البعض في بحوث ((أدلة الأحكام الشرعية)) ويتناولها آخرون تحت عنوان مصادر الأحكام الشرعية. ويظنها كثيرون خروجا عن الكتاب والسنة.. وسوف نرى بمشيئة الله كيف يمكن بيسر ردها إلى الكتاب والسنة.
[2]
المستصفى للغزالي ج 1، ص 283، رسالة دكتوراه للأخ الدكتور محمد سعيد البوطي، 1385هـ-1965م صفحات 78 وما بعدها ص 181، 185-187.
[3]
دفع الحرج غالبا يكون تحقيقا لحاجة لكنه قد يكون ضروريا إذا تعارضت مصلحة شخصية مؤكدة مع محرم لغيره لا محرم لذاته، ذلك أن المحرم لذاته لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة ولحم الخنزير وأكل مال الغير أما المحرم لغيره فهو يباح للحاجة ولا يشترط الضرورة، فرؤية عورة المرأة محرم لغيره لا محرم لذاته إذا هو محرم لما قد يفضي إليه من زنى.. لذلك أجيز للطبيب رؤية عورة المرأة لحاجة المرض.
((موسوعة الفقه الإسلامي –جمعية الدراسات الإسلامية، إشراف الشيخ أبو زهرة ص 50، 51)) .
[4]
من العبارات الجارية ((إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله)) وهذه إن تركت بغير قيود كانت خطأ إذ ليس كل مصلحة –أيا كانت- تحقق شرع الله، ولكن إن فهمت مع قيودها وضابطها كانت صحيحة على النحو الذي سنشير إليه –راجع عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج 1 ص 4.
[5]
مثلها ما شرعه الله من إفطار المسافر والمريض فقد أردف ذلك بقوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وما شرعه الله من قصاص لتحقيق حياة رافهة بالحق والعدل فاكهة بالأمن والطمأنينة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} .
[6]
ومثلها ما قد يظنه البعض مصلحة، لكن الشارع الحكيم نهى عنه.. مثل الربا والزنى وشرب الخمر.
[7]
راجع أمثلة كثيرة للإمام الشاطبي في الاعتصام ج 2 ص 287-3040 وراجع قبلها حديثه عن المصلحة أو الاستدلال المرسل ص 283-287.
[8]
الاجتهاد بالرأي للمرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف ص 82، سلم الوصول لعلم الأصول للشيخ عمر عبد الله ص 311، 312.
[9]
انفرد نجم الدين الطوفي دون سائر الحنابلة بهذا الرأي، وقد نقل ابن رجب في طبقاته (ج 2 ص 366، 367) وابن عماد في شذرات الذهب (ج 6 ص 239) أن نجم الدين الطوفي انحرف إلى التشيع ثم الرفض، وقد حاول الدكتور مصطفى زيد في رسالته الدفاع عنه، وعلق على ذلك الإمام محمد أبو زهرة.. فإن النصوص التي نقلها مستشهدا بها لنفي التشيع تطوي في ثناياها دليل إثباته، وكل نص ساقه دليل للنفي هو في مغزاه ومرماه وباعثه دليل الإثبات (المصلحة ونجم الدين الطوفي ص 9) وينقل الدكتور معروف الدواليبي أن الشيعة نفسهم يتبرأون من نجم الدين الطوفي فقد قال عنه الشيخ عبد الحسين شرف الدين شيخ علماء جبل عامل وإمامهم:((وسليمان الطوفي من الغلاة الذين مازالت خصومنا تحملنا أوزارهم)) (علم أصول الفقه للدواليبي 215، 216) ولا يفوتنا بعد ذلك الإشارة إلى ما ذكره بعض المؤرخين من أنه تاب عن الرفض والتشيع (البوطي ص 143، ومع ذلك فإنه يتحمل أمام الله والتاريخ مسؤولية تلك الفتنة التي أثارها والتي مازال صداها يجلجل به أعداء الإسلام.
[10]
،3 الدكتور مصطفى زيد، ومن رأي الطوفي بعض المحدثين الذين سنشير إليهم فيما بعد إن شاء الله.
[11]
[12]
محمد أبو زهرة، أصول الفقه ص 274، المرحوم عبد الوهاب خلاف في علم أصول الفقه ص 233، 234، الدواليبي ص 215.
[13]
البوطي ص 133، 134، 247.
[14]
وهم القاضي أبو بكر الباقلاني والأمدي من الشافعية وبعض الظاهرية، وليس صحيح أن الغزالي منهم (البوطي 295، 203، الاعتصام للشاطبي ج 2، ص 282) .
[15]
الشيخ محمد زكريا –أصول الفقه ص 239، الدكتور عبد الحميد متولي- مبادئ نظام الحكم في الإسلام ص 122 ومن نقلوا عنهم.
[16]
الرسالة للشافعي 515، عبد الوهاب خلاف –ص 83، 516، الاجتهاد في الرأي للمرحوم عبد الوهاب خلاف ص 83.. سلم الوصول إلى علم الأصول للشيخ عمر عبد الله ص 315- وراجع ذلك ابن حجر في فتح المبين لشرح الأربعين ص 94 ط، الزنجاني في تخريج الفروع على الأصول ص 169-171.
[17]
الغزالي في كتابه المنخول –مخطوط- ورقو 131-133 (تحت رقم 188 بدار الكتب المصرية) .
[18]
في هذا المعنى يقول الأستاذ أبو زهرة.. المصلحة من جنس المصالح التي أقرها الإسلام فهي رجوع إلى عموم المقاصد التي أخذت من النصوص (تاريخ المذاهب الفقهية –ج 2 ص 400) .
[19]
المستصفى للغزالي ج 1 ص 141 وشروطه أن تكون ضرورية، وقطعية، وكلية، والشرطان الأخران هما اللذان أشرنا إليهما من فبل ((أن تكون حقيقية وعامة)) أما الشرط الأول فقد أولناه في المتن.
[20]
جمع الجوامع وحاشية البناني عليه ج 2 ص 284، وشفاء الغليل ص 188 وفي هذا المرجع أشار الغزالي إلى الأخذ بالمصالح في دائرة الحاجيات، وفي المنخول –ورقة 135- أطلق الأمر دون شروط - راجع الدكتور البوطي المرجع السابق- الإمام الشاطبي في الاعتصام ج 2 ص 282، 283.
[21]
،2 -الدكتور البوطي- المرجع السابق والأستاذ أبو زهرة أصول الفقه ص 272، والأستاذ عبد الوهاب خلاف في الاجتهاد بالرأي ص 94.
[22]
[23]
راجع الدكتور مصطفى زيد في رسالته: المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي –الطبعة الثانية 1384هـ -1964م، ص 31 فقرة 21- الأستاذ علي حسب الله، أصول التشريع الإسلامي ص 156 الدكتور عبد الحميد متولي مبادئ نظام الحكم في الإسلام ص 126. ولقد كان البعض الآخر أكثر اعتدالا إذ قال أن الصحابة قدموا المصلحة على القياس (الدكتور محمد يوسف موسى: في التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي ص 25) ولئن كان من الصحابة هذا اللون من التقديم فهو صح استحسانا إذ الاستحسان عدول عن قياس جلي إلى قياس خفي، والمصلحة ضرب من القياس ((قياس المعنى)) وهي بالنسبة لقياس اللفظ تغدوا قياسا خفيا- والله أعلم.
[24]
رواه مسلم.
[25]
في مقدمتهم ابن عبد البر الذي أنكر رواية طاووس –وفي تفسير القرطبي ج 3 ص 128 حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما فيمن طلق زوجته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته.
[26]
الأستاذ محمد الرفزاف، دروس لقسم الدكتوراه بكلية الحقوق جامعة القاهرة، العام الدراسي 1960.
[27]
القرطبي ج 3 ص 128_130.
[28]
من الأمثلة على ذلك:
ما حدث على عهد أبي بكر الصديق من جمعه القرآن، وقتاله المرتدين، واستخلافه عمر بن الخطاب.
_ أما جمعه للقرآن فرد المصلحة فيه إلى النصوص أمر يسير
فهو تحقيق لوعد الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وهو قياس على عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمره بكتابة القرآن فهو لون من الحفظ والجمع لون آخر، والمصلحة بعد ذلك تحقق المقصد الأول من المقاصد الخمسة وهو حفظ الدين- أما قتال المرتدين.. ففيه نصوص من الكتاب والسنة {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقد جعل شرطين آخرين بعد التوبة للكف عن القتال وهما إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فإن تخلفت إحدهما وجب القتال ومن الحديث قول الرسول عليه الصلاة والسلام "من بدل دينه فاقتلوه" ومنع الزكاة جحودا تبديل للدين وقول الرسول عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" فقد جاء في نهايته إلا بحقه.. والزكاة من حقه –أما الاستخلاف.. فهو محض عمل سياسي شبيه بما يسمى هذه الأيام ((الترشيح)) وهو من قبيل الأعمال التنفيذية الداخلية فيما سكت عنه الشرع رحمة بنا غير نسيان.
الأدلة والبراهين على حرمة التدخين
فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
المدرس بكلية الحديث والدراسات الإسلامية
لقد أجمع من يعتد برأيهم من علماء الإسلام: أن التدخين وباء لا يقبل عليه العقلاء، واستندوا في تحريمه إلى عدد من النصوص الصريحة، التي تشير بأوضح بيان إلى حرمة التدخين وخطره على الإنسان، لما يسببه من الأضرار في النفس وفي المال، وهما من الجواهر الخمس التي تجب حمايتها على كل مسلم.
أليس التدخين من الخبائث التي يجب أن تتنزه عنها أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي خير أمة أخرجت للناس؟
إننا سنورد هنا من أقوال المختصين ما يوضح طبيعة التدخين الخبيثة، بحيث تنقطع كل شبهة في تحريمه على كل نفس مسلمة تخشى الله وترهب عقابه.
ولنمض الآن في توضيح الأصول الأولى –التي تنبني عليها الحرمة بالأدلة الشرعية، ليعلم كل مدخن أنه إنما يعصى الله تعالى بكل لفافة تبغ ينفث دخانها بالهواء، في نشوة وخيلاء.
أولا: إضاعة الصحة:
لا يماري أحد من العقلاء في أن الصحة نعمة الله تعالى على عباده وأن الواجب شرعا: المحافظة عليها من أي أذى. ولهذا شرع الله التداوي من الأمراض والأوبئة. قال صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواءً، غير داء واحد: الهرم"[1] .
ومن عجب: أن يرى الإنسان كيف تضيع صحته وعافيته –بينما هو مستمر في العكوف على هذا السم الزعاف: يحرق أصابعه، ويسل مدامعه ويبدد رحيق الحياة في جسمه، ويفسد عناصر الحيوية والوقاية في دمه، وقد حاء في الخبر:
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر"[2] . ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:
(فلما علم بالضرورة والتجربة والمشاهدة ما يترتب على شاربه غالبا من الضرر في صحته وعقله، وقد شوهد موت وإغماء وغش، وأمراض عسرة كالسعال المؤدي إلى مرض السل الرئوي ومرض القلب، والموت بالسكتة القلبية، وتقلص الأوعية الدموية بالأطراف، وغير ذلك مما يحصل به القطع العقلي: أن تعاطيه حرام.
فإن العقل الصريح –كما يقضي ولابد بتعاطي أسباب الصحة والحصول على المنافع- كذلك يقضي حتما بالامتناع عن أسباب المضار والمهالك والمبالغة في مباعدتها، لا لا يرتبا في ذلك ذو لب ألبتة) [3] 1هـ.
ولبيان أهمية هذا العامل في التحريم القاطع –سوف نعود إليه بشهادات من الأطباء المختصصين، ليعلم عشاق الموت البطيء: أننا لا نخيفهم بأكثر مما يخيفون به أنفسهم بالفعل- لا بالكلام!
ثانيا: إتلاف المال:
وإتلاف المال بسبب التدخين عملية خطيرة ذات شقين: أولهما: خطر التدخين على المال الشخصي أو الفردي وثانيهما: خطر التدخين على الاقتصاد القومي.
وبالنسبة للخطر الأول يعتبر التدخين ثغرة مفتوحة تتسرب فيها أموال طائلة ينفقها المرء يوميا بغير حساب، وينفقها في المقام الأول لإضعاف بدنه وإفساد صحته، فيدخل في عداد السفهاء الذين يجب فرض الحجر عليهم ومنعهم من حرية التصرف الفاسد بأموالهم، ثم إنه يحظى بصحبة شريرة وصداقة سخيفة مع نوع من أرذل مخلوقات الله وهم الشياطين:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [4] وهذه الأخوة الشيطانية خليقة أن تجعل كل مدخن يستحي من ربه، ولا يستمرئ هذه الهواية التي هي عين الغواية، وأن يتوقف منذ اللحظة عن تعاطي هذه اللفائف التي هي أبوا ب الفساد والإتلاف. إذ لا شك أن المدخن يبتاع بماله ما يدخل الفتور والإضعاف على بدنه، فيجمع بين ضررين في وقت واحد! وإذا كان الإسراف في حد ذاته محرما، فكيف بمن يجعل الإسراف مدعاة للإتلاف والإضعاف؟
علم الله إنه للجنون بعينه: أن ينساق المدخنون إلى حتفهم بظلفهم، وأن يسعوا بأنفسهم لشراء المنية بأموالهم! ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات.. وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
فلو لم يكن التدخين محرما لما فيه من كثرة الإسراف، فإنه لمحرم أشد التحريم لما فيه من الانتحار البطيء الذي يستنزف طاقة المدخن وعافيته حتى لا يكف عن السعال والهزال.
خطر التدخين على الاقتصاد القومي
ورد في (أمور بديهية عن التدخين: common sense about smoking 1963) أن الباحثين توصلوا إلى أن الشخص الذي يبتدئ حياته التدخينية في حوالي السابعة عشر من عمره –ينفق في بريطانيا وحدها ما يقرب من (أربعة آلاف جنيه إسترليني) على التدخين. أي ما يعادل (ثلاثين ألف ريال تقريبا) على السيجارة وحدها. ومن المؤكد أن هذه المبالغ قد تضاعفت بسبب ارتفاع الأسعار.
ويؤخذ من تقرير لجنة المستشارين لوزارة الصحة الأمريكية: أن المدخنين كانوا سببا في إشعال نيران الحرائق بنسبة أكثر من غيرهم، لأن كثيرا من المدخنين تطيش عقولهم فيذهلون عن عقب السيجارة..وقد يدهمهم النوم وهو مازال بين أصابعهم فيتسببون في إشعال النار في فراشهم، وبيوتهم يكونون هم أول الضحايا..!
وكم من فنادق صارت أنقاضا، ومنشآت أصبحت رمادا، ومؤسسات انصهرت واحترقت فيها مئات الأجساد بسبب غفلة من مدخن، أوقعه سوء عمله في إهلاك نفسه وإهلاك من معه!!
وقد أعلنت إحدى شركات التأمين: أن ثلاثين بالمائة من الحرائق التي توصل التحقيق فيها إلى معرفة الفاعل الأصلي –ثبت أن مرتكبيها هم مدمنوا التدخين.. فبالله اسمع وتعجب!! ألم ترى إلى كثير من المدخنين وقد اخترقت شرارة النار أثوابهم، وأحرقت السيجارة جلودهم أوسودت أصابعهم؟ ما أغناهم لو أنصفوا- عن كل هذا الجحيم!!
ثالثا: الرائحة المنتنة:
أخبروني أيها السادة، من منكم يستطيع أن يقترب من فم أحد المدخنين لمدة تزيد عن دقيقة؟ من منكم يطيق أن يدنوا من مدخن برائحة فمه المنتنة، التي سببتها ألوان التبغ الكثيرة فأصبح أسود الأسنان كريه العثنون، قبيح النفس –بفتح الفاء- صعود وهبوطا، كثير الشهيق والزفير كأنما حط من عبء كبير؟ كم من صف في الصلاة اضطرب حبله بسبب رائحة خبيثة انطلقت من فم مدخن فأصابت الجميع بالتقزز والاشمئزاز، وكانت سببا في إلحاق الأذى والضر بعباد الله دون ذنب جنوه إلا مجاورة هذه المدخنة المحترقة!!
روى الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آذى مسلما فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله" إسناده حسن وقد ورد في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس". ومعلوم أن الإسلام يرعى حرمة المجتمعات الإسلامية ويوصى بحسن التأدب لها وضرورة الالتزام الخلقي وعدم إلحاق الضرر بأهلها لاسيما تجمعات العبادة وأماكن الصلاة ما دام الدافع إلى ارتيادها طاعة الله والرغبة في الخير والثواب وإبراز وحدة المسلمين. وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر مرفوعا "من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته".
ولا شك أن رائحة الثوم والبصل أخف وطأة من رائحة التدخين المنتنة –لأن رائحة الثوم والبصل مؤقتة وليست دائمة، فهي تزول بتطهير الفم منها، ثم هي رائحة طعامين مباحين من أطعمة الله، وفي السنن: أنه صلى الله عليه وسلم "أمر آكل البصل والثوم أن يميتهما طبخا". وقد أهدى إليه صلوات الله عليه طعام فيه ثوم، فأرسل به إلى أبي أيوب الأنصاري، فقال: يا رسول الله، تكرهه وترسل به إلي؟ فقال:"إني أناجي من لا تناجي"[5] وقد ذكر ابن القيم من فوائد البصل أنه يقوي المعدة، ويهيج الباءة، ويزيد في المني ويقطع البلغم، ويجلو المعدة- كما ذكر من فوائد الثوم: أنه هاضم للطعام، قاطع للعطش، مطلق للبطن، مدر للبول، يقوم في لسع الهوام وجميع الأورام مقام الترياق [6] . أما التدخين، فما فوائده {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .!
فالأفضل لكل مدخن أن يراقب الله في نفسه وفي معاشريه، وليعلم علم اليقين أنه يسبب غاية النفور لمن حوله من المرافقين والجلاس بما يحمل من قبح الرائحة ونتن الأنفاس، وحتى وإن أخفوا عنه حقيقة شعورهم نحوه، خوفا منه أو تأدبا معه. ولكن: هل يقلب التأدب الحق باطلا؟ أو الكراهية حبا؟ والسؤال بعبارة أخرى أكثر صراحة هو.. هل يعلم المدخن المفرط في التدخين حقيقة شعور زوجته نحوه؟ هل استطاع أن يدرك أهي قادرة على تحمل رائحة فمه أو هي تغالب نفسها في ذلك، وهل استطاع أن ينظف فمه قبل نومه أو تركه ينفث الخبائث والنتن في أرجاء المكان من حوله؟
تدبر ذلك يا أخي ثم تأمل كيف كان الصادق المصدوق صلوات الله عليه يدعو ربه فيقول "اللهم كما حسنت خلْقي فحسن خلُقي" ويقول "اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء، والأدواء". أخرجه الترمذي وصححه الحاكم واللفظ له. فصلوات الله وسلامه على من كان المثل الكامل للإنسانية الفاضلة.
رابعا: تخدير الجسم بمادة ((النيكوتين))
قبل كل شيء دعوني هنا أعلن معارضتي المطلقة لمن يدعون أن التدخين غير مفتر، وغير مخدر. لأن وقائع الأحوال كلها تؤكد أن الإدمان يبلغ بالمدخن حدا يفقد معه السيطرة على أعصابه تماما، ويبلغ هذا الحد أقصاه عندما يفقد المدخن علبة السجائر مثلا، فتراه هائجا كالمجنون يذرع الطرقات هائما على وجهه بحثا عن هذه المادة المخدرة.. التي تريح أعصابه بعد أن سرى السم إليها وأصبح عادة لها.
وفي الحقيقية فإن الحقائق العلمية المعروفة عن هذه المادة مخيفة تماما، ونحن بدورنا نقدمها هدية إلى المدخنين، ليعرفوا في أي طريق من طريق الشر يسيرون.
لم تكتشف هذه المادة إلا عام 1828م اكتشفها عالمان ألمانيان هما: بوسلت Bosslet ورايمان Reimau وأطلقا على هذه المادة اسم نيكوتين Nicotin نسبة إلى رجل يدعى ((جان نيكوت Jean Nicot)) – (وكان سفيرا لفرنسا في البرتغال، وقد زرع هذه المادة في حديقة منزله مستهدفا تزيينها بأوراق التبغ الجميلة وأزهاره الجذابة) . وفجأة طارت الشائعات ببعض الفوائد الطبية لهذا النبات وسرعان ما فشا وانتشر في أوربا كلها. وكانت تلك هي البداية الخطيرة.. بعدها أصبح التبغ مبسما في كل فم، وذخيرة حية في كل جيب.
النيكوتين هو المادة الفعالة المؤثرة في التبغ. وهو مادة سامة قاتلة، ويكفي منها خمسون ملليجراما للقضاء على أي إنسان في عدة ثوان. فإذا عرفت أن نسبة ما يوجد منها في السيجارة العادية حوالي خمسة ملليجرامات أدركت الموت البطيء الذي يتعرض له مدمن السيجارة والعياذ بالله.
وقد أورد بعض الباحثين دليلا على شدة امتصاص الجلد المخاطي لسم النيكوتين: ((أنه لو وضع عدد من نقط النيكوتين على لسان إنسان، لكان ذلك كافيا لقتله في عدة ثوان. فكيف بمن يصل النيكوتين إلى أمعائه، ويتوزع على سائر أجزاء جسمه الداخلية وأعضائه؟)) ..
ومع أن كل جرام من التبغ –يحتوي على عشرين ملليجراما من النيكوتين فإن كمية النيكوتين ترتفع في ثلث السيجارة الأخير إلى 40% وهي المنطقة المسماة (منطقة التكاثف: kondensation) أما في ((عقب السيجارة)) فتقفز هذه النسبة إلى 60%.
ويتزايد الأمر خطورة عند عملية التدخين نفسها، فإن جرام التبغ المتوهج يا عزيزي المدخن، يبعث إلى فمك ما يصل إلى 7 ميللجرامات من تلك المادة السامة ((النيكوتين)) . هذا بخلاف السموم الأخرى، التي تؤدي إلى الشعور بحرارة في المعدة، وجفاف في الحلق وإحساس بصعوبة النفس، وفقدان الوعي الناتج عن تسارع النبض وهياج الأعصاب وزيغ البصر والسمع.
ولا شك أن هذه المادة بما تحويه من عناصر مخدرة ومفترة- هي ما يحملنا على الجزم بأن التدخين مخدر، بل هو من أشد المخدرات فتكا بالإنسان، ولا يتطلب في ذلك سوى يد تمتد إلى صندوق لتخرج منه أنبوبة السم الفتاك، وتظل تتراقص بين شفتيه وهو هائم بها مفتون، حتى يؤول به الأمر إلى أن يسقط في النهاية مصروعا، وقد سرى في سائر جسده سم الأفعى.
يقول الشيخ محمد ابن إبراهيم رحمه الله (ولذلك يتركه كثيرا من الناس خوفا من ضرره وكراهية لرائحته، وقد يعلقون طلاق نسائهم على العودة إليه، يريدون بذلك تركه نهائيا، فإذا حمل إليهم وقت الحاجة لم يستطيعوا الإعراض عنه أبدا، بل يقبلون عليه بكلياتهم كل الإقبال ولو طلقت نساؤهم فله سلطان عظيم على عاشقيه وتأثير على العقل، وذلك أن شاربه يفزع إلى شربه إذا نزل به مكدر فيتسلى، ويذهل العقل بعض الذهول) ا. هـ.
ويقول الشيخ رحمه الله في شرح طريقة عمل النيكوتين في إفساد الجسم:
(وقد أثبت الأطباء له مضار عظيمة وقالوا إنها تكمن في الجسم أولا ثم تظهر فيه تدريجيا، وذكروا أن الدخان الذي يتصاعد عن أوراق التبغ المحترقة يحتوي على كمية وافرة من المادة السامة –هي النيكوتين- فإذا دخل الفم والرئتين أثر فيهما تأثيرا موضعيا وعموميا، لأنه عند دخوله الفم تأثر المادة الحريفة السامة التي هي فيه- في الغشاء المخاطي، فيهيجه تهييجا قويا، وتسيل منه كمية زائدة من اللعاب، وتغير تركيبه الكيماوي بعض التغيير بحيث يقل فعله في هضم الطعام، وكذلك تفعل في مفرز المعدة كما فعلت في مفرز الفم- فيحصل حينئذ عسر الهضم.
وعند وصول الدخان إلى الرئتين عن طريق الحنجرة تؤثر فيهما المادة الحريفة فتزيد مفرزهما، وتحدث فيهما التهابا قويا مزمنا.. فيتهيج السعال حينئذ لإخراج ذلك المفرز الغزير الذي هو البلغم- ويتسبب عن ذلك: تعطل الشرايين الصدرية، وعروض أمراض صدرية يتعذر البرء منها، وما يجتمع على باطن القصبة من آثار التدخين الكريهة الرائحة يجتمع مثله على القلب: فيضغط على فتحاته ويصد عنه الهواء فيحصل حينئذ عسر التنفس، وتضعف المعدة، ويقل هضم الطعام، ويحصل عند المباشر له الذي لم يعتد دوار وغثيان وقيء وصداع، وارتخاء للعضلات ووهي للأعصاب ثم سبات.. وهي كناية عن حالة التخدير الذي هو من لوازم التبغ المتفق عليه- وذلك لما يحويه من المادة السامة) ا. هـ.
إن الخطورة الكبرى لحالة التخدير التي يسببها التبغ –ليست في كونه مغيبا لعقل شاربه فقط، بل في كونه مهيئا له إتيان المنكر بشتى أنواعه. نعم، فإن من الحقائق المعروفة في علم النفس الجنائي: أن الجاني يتغلب على تردده في ارتكاب الجريمة بتعاطي بعض المخدرات، وحين يفقد وعيه ويضيع توازنه -يصبح قادرا بغير شعور على ارتكاب المحظور! وكم من وقائع وصل فيها المجرم إلى مرحلة الهياج- وكان التحكم في المخدر وسيلة ناجحة لإذلاله وتحطيم معنوياته.
ولعل القرآن الكريم يشير إلى ذلك –والله أعلم بمراده- في قوله سبحانه {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} وهو أحد الرأيين في تفسير جزء الآية. يقول الشوكاني رحمه الله: أي تناول الناقة بالعقر فعقرها أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقر. 1هـ وهذا الرأي الثاني أقرب والله أعلم إلى نظم الآية، لأن من المعلوم لدى البلاغيين: أنه قد يقصد تعلق الفعل بمفعول غير مذكور، ولابد من تقديره، إن عاما فعام وإن خاصا فخاص. ومثاله قوله تعالى {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} أي يدعو كل مكلف. وقوله سبحانه {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِه} أي أحدا- ولما كانت أسباب العقر ومقدماته والعوامل المساعدة عليه كثيرة، ناسب أن يحذف المفعول لقصد التعميم مع الاختصار، ويستأنس لهذا الاتجاه في معنى الآية بأن التعاطي هو تناول الشيء بتكلف، والتكلف للشيء هو الاستعداد له ولأخذ بأسبابه مع مجاهدة ومكابدة. وهذا أيضا تصوير لواقع وطبيعة المدمن الذي نفسه ضد طبيعتها الأصلية، ويروضها بوسائل الإفتار والإسكار لتقوم بما ليس من شيمتها أن تقوم به، ومن ثم يأتي المجرم في عاقبة أمره أن يتعرف بما صدر عنه في حالة فقدان الوعي. ولله في خلقه شئون.
خامسا: تعريض الجسم للتهلكة بسرطان الرئة:
لم يعد هناك أدنى شك في أن للتدخين سبب قوي من أسباب الإصابة بسرطان الرئة. هذه نتيجة علمية أسفرت عنها بحوث الهيئات الطبية المتخصصة في جميع أنحاء العالم. وكانت إشارة الخطر الأولى المنذرة بوجود علاقة أكيدة بين السرطان وبين الفحم ومشتقاته –هي شيوع ((سرطان الصفن)) بين كثير من منظفي المناجم، الأمر الذي لفت انتباه السير ((بير سفال بوث)) عام 1775م. وأعقبت ذلك ظاهرة مشابهة لدى عمال المناجم في ساكسونية: حيث فشت الإصابات فيهم نتيجة التأثير نفسه مما جعل الأطباء يهتمون بدراسة المرض ومعرفة أسبابه المباشرة.
وهناك حقيقة مؤسفة بهذا الصدد: وهي أن السرطان الرئوي داء خبيث، لا يتم اكتشافه في العادة إلا بعد أن تتضح آثاره خارج الرئة نفسها، مما يجعل أربعة من كل خمسة أشخاص يصابون به لا يمكن تداركهم في الوقت المناسب فيواجهون القضاء المحتوم ولهذا السبب أعلن مجلس الأبحاث الطبية في بريطانيا عام 1957م ((أن التفسير الوحيد المقبول لازدياد الوفيات بحوادث سرطان الرئة لدى الرجال في الخمس والعشرين سنة الأخيرة هو أن الازدياد ناتج في غالبيته عن التدخين، لاسيما التدخين الشديد؛ (أكثر من عشرين سيجارة يوميا) .
وفي الدراسة المشار إليها آنفا:
Common sense about smoking إحصائية تقول: إن عدد الموتى في سنة واحد -مصابين بسرطان الرئة- هم ثلاثة وعشرون ألفا عام 1962م.
وأنه قد مات في بريطانيا حتى عام 1963م أكثر من (ربع مليون شخص) بسبب التدخين. وكل شيء بقضاء الله وقدره.
وجدير بالذكر هنا: أن جمعيات السرطان التي تكافح هذا الوباء في كل مكان –تؤكد للعالم كله، أنها لا تنطلق في نشاطها المعادي للتدخين من دافع ديني أو اجتماعي أو أخلاقي، وأنها إنما تنبعث من دافع واحد فقط:
وهو خطر التدخين على الناحية الصحية
ذلك الخطر الذي يشتد ويتزايد مع بلع الدخان، أو الإصرار على إخراجه من الأنف، أو التدخين قبل تناول الطعام مطلقا، أو التدخين في الغرف المغلقة بصفة عامة وغرف النوم بصفة خاصة.
وحيث قد تأكدت علاقة التدخين بالسرطان الرئوي، فلم يعد ثمة مجال للقول بغير التحريم المطلق للتدخين بحكم كونه مفضيا إلى التهلكة المنهي عن الوقوع فيها بالنص القرآني {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .
وبقوله سبحانه {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} .وقد أجمع على ذلك الأطباء المهرة من العدول وغيرهم، الذين ثبت لهم من البحوث التجريبية والمعملية بما لا يدع مجالا للشك أن التدخين خطر على الحياة نفسها، مما يدخله مدخل الانتحار المحرم.
لماذا يشيع التدخين بين الشباب؟
لا أظن أن الآباء وكبار الأولياء قد جنوا على النشء البريء جناية أفدح ضررا ولا أعظم خطرا ولا أسوأ أثرا من تلقينهم الدروس الأولى في التدخين، وذلك منذ أرسلوهم ليبتاعوا لهم علب السجائر أول مرة، ثم استمرءوا بعد ذلك إشعالها وتدخينها على مرأى ومسمع أبنائهم الصغار، الذين تحتل غريزة المحاكاة مكانا أساسيا في طباعهم:
على ما كان عوده أبوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا
وقد نشرت مجلة النيوزويك الأمريكية تحقيقا بتاريخ 8/4/1968م أثبتت فيه أن أهم سبب يدعو الشبان إلى التدخين هو ((تقليدهم لأفراد الأسرة)) وخصوصا الأب، والأخ الأكبر. وأن نسبة هؤلاء الشبان هي ضعف نسبة الأولاد الآخرين.. من آباء غير مدخنين.
وجاء أيضا في تقرير موجز للكلية الملكية للأطباء في بريطانيا عن التدخين والصحة Smoking and health أنه قد ثبت علميا، من الدراسات التي أجريت، أن نسبة الوفيات بين من بدءوا التدخين قبل سن العشرين أكبر مما هي عليه بين الذين بدءوا التدخين بعد سن العشرين.
((أثر التدخين في التخلف الدراسي))
هناك إحصائية علمية قام بها عدد من الباحثين أبرزت نتيجتين هامتين:
أولاهما: وجود علاقة قوية بين التدخين، وبين حدوث التخلف الدراسي لدى الطلاب المدخنين ((والمقصود بالتخلف الدراسي: انخفاض نسبة التحصيل دون المتوسط العام بانحرافين معياريين سالبين، حيث نسبة التحصيل = العمر التحصيلي × 100 [7] .
العمر الزمني
وثانيتهما: امتياز غير المدخنين في الألعاب الرياضية والمجالات المهنية على المدخنين، نتيجة لانخفاض طاقة القوة في عضلات المدخنين بنسبة تتراوح ما بين 15% و32% عن زملائهم، مما يؤثر في قوة تحملهم وصلابة عضلاتهم أما في المواد العلمية فقد وجد الباحثون أن درجات غير المدخنين تعلوا بنسبة تصل إلى 21% عن درجات زملائهم المساكين من ضحايا التدخين. ولم يكن ذلك راجع إلى مزيد من الاجتهاد لدى الممتنعين عن التدخين، ولكنه راجع في الحقيقة إلى الهمود العقلي والتفكك الذهني لدى أولئك الضحايا، حيث يعيشون جل أوقاتهم في تشتت فكري، وضياع للأفكار، وعدم القدرة على التركيز، وضعف في الذاكرة، واضطراب في الفهم.
وفي كتيب نشرته ((الجمعية الأمريكية للسرطان)) -عرضت قصة طفل كانت أمه تدخن، ومنها تعلم تدخين السيجارة الأولى، فلما قام بزيارة لأحد معارض الجمعية وشاهد الأخطار المفزعة التي يتعرض لها المدخنون- تأكد لو أنه استمر المقطوع الحالي للسجائر في البلاد على ما هو عليه- فإن ((مليون شخص من اليافعين)) الذين مازالوا حتى اليوم على مقاعد الدرس، سوف يموتون من سرطان الرئة!
كيف توقف التدخين؟
1-
ليس ثمة ما يضمن نجاحك في إيقاف التدخين بعد اعتمادك على الله تعالى، واستمدادك العون منه وحده- سوى عزيمتك القوية، وإرادتك الصارمة، مثل الغريق الذي يجد من حوله أمواجا كالجبال، فيضرب البحر بذراعه المفتولة وصدره العريض حتى يجد نفسه على شاطئ النجاة: فقد خسر القليل من الجهد، وكسب أعظم الأشياء وأثمنها: وهو النجاة من الموت غرقا. وبدون هذه الإرادة الشخصية وحدها، لن تفيدك عشرات النصائح، ولا مئات الإحصائيات عن عدد الضحايا.
إنك لم تعد مجرد إنسان مدخن، بل صرت عبدا خاضعا لشر العادات، عادة التدخين التي تفتك بكل شيء، وأهم شيء: وهو قوة العزيمة. ونقطة البدء في صراعك مع التدخين، هي أن تستنقذ هذه الإرادة المسلوبة من براثن الداء، وبعدها يسهل عليك كل شيء بإرادة الله.
2-
لا تنس أبدا أن التدخين مجرد عادة يمكنك أن تستبدل بها غيرها، بتغيير المكان، أو الغياب عن العصبة المدخنة، أو تغيير المناخ والقيام ببعض الجولات والرحلات، والتسلي بهوايات جديدة مفيدة يغلب عليها الطابع الحركي الذي لا يترك للسيجارة مكانا بين إصبعيك، ولا فرجة بين شفتيك. وعندئذ تصبح السيجارة مجرد ذكرى كئيبة تطردها الأيام والأعمال عن مخيلتك.
3-
سوف تجد من شياطين الإنس من يقول لك: إن الإقلاع عن التدخين مسألة أعقد من ذنب الضب، بل هو من المستحيلات! فإن لقيت مثل هذا فاعلم أنه الصديق الجهول، الذي خير منه العدول العاقل. وضع نصب عينيك أن الكف عن التدخين إنما هو طاعة لله تعالى قبل أن يكون شيئا آخر.
وفي ذلك يقول الشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله (فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس إذا تبين له كلام الله وكلام رسوله في مسألة من المسائل، وذلك لأن الشهادة (بأنه رسول الله) تقتضي طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر) ا. هـ. وقد أفتى الشيخ خالد بن أحمد من فقهاء المالكية بأنه لا تجوز إمامة من يشرب التنباك، ولا يجوز الاتجار به، ولا بما يسكر ا. هـ.
وبذلك يستقر في الذهن أن التدخين محرم، والإصرار عليه كبيرة، حيث من المقرر لدى أهل العلم أن الصغيرة تعطى حكم الكبيرة بالإصرار عليها، أو التفاخر بها، أو بوقوعها من ذوي الولايات الدينية ومن يقتدى بهم ويحتج بفعلهم أو قولهم أو سكوتهم من العلماء والقضاة والأئمة وأهل الفتوى.
4-
إذا لم تقلع عن التدخين من الآن فلسوف يجبرك الأطباء غدا على إيقافه، وعلى إيقاف تناول مجموعة أخرى معه من أحب الأطعمة والأشربة إلى نفسك، بعد أن يكون الخطر قد زاد، والضرر قد استشرى:! فهل فكرت حين يتقدم بك العمر وقد تسارعت ضربات قلبك، وانسدت أوعية دمك، وارتفع معدل ضغطك، وأصابك الهزال والضعف والصداع والرعشة؟ هل فكرت وأنت تهرب من رائحة الأخشاب والأعشاب المحترقة- أنك تسمح لدخان هذه الأعشاب والأوشاب أن يسري في دمك، ويتسلل إلى رئتيك..؟
5-
قبل أن تمد يدك إلى السيجارة في الصباح وقبل الإفطار، تناول كأسا من الليمون المر، فهذا أكبر مساعد لك على إيقاف التدخين طوال فترة الصباح. ثم اجعل معك من التين أو التمر ما يغنيك عن تناول علبة اللفائف الكريهة، فكم لها من مزايا في طرد السموم. ويضيف ابن القيم إلى التين أنه أغذى من جميع الفواكه، وينفع خشونة الحلق والصدر وقصبة الرئة، ويغسل الكبد والطحال، وينقي الخلط البلغمي من المعدة، ويغذي البدن غذاء جيدا. كما يقول عن التمر: وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن بما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكله على الريق يقتل الدود، فإنه مع حرارته فيه قوة ترياقية، فإذا أديم استعماله على الريق جفف مادة الدود وأضعفه وقلله أو قتله، وهو فاكهة وغذاء ودواء وشراب وحلوى. وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من تصبح بسبع تمرات لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" وقال "بيت لا تمر فيه جياع أهله".
كما وأنصحك أيضا بالكف عن تناول اللحوم مؤقتا حتى تنجح محاولتك في قهر عدوك، فإن التدخين أكثر ما يكون استجابة لطعام غذي باللحوم.
6-
وإني لأناشد الهيئات الصحية المختصة أن تفكر في فتح عيادات لعلاج التدخين.. مثل العيادات التي فتحها في السويد ((دكتور بورجي أيروب Dr. Borje Eyrup)) وعالج بواسطتها ((ستة آلاف مدمن)) عن طريق الحقن المهدئة للأعصاب، وحقن النيكوتين اليومية، التي أعطت نتيجة حاسمة بعد عشرة أيام فقط من بدء العلاج، وأعطت دفعة قوية من الأمل في القضاء على هذا الوباء الملعون!
نداء إلى شباب الإسلام..!
أيها الشباب المسلم.. إني أخاطبكم بما للإسلام عليكم من حقوق، وبما عليكم نحوه من واجبات، وأولها أن تحفظوا عقولكم من الخلل، وأجسادكم من المرض، ونفوسكم من الأهواء والشهوات. افتحوا أعينكم جيدا على الخطر الداهم الذي يشتعل نارا بين أصابعكم. إنكم لم تولدوا والسيجارة في أفواهكم، بل اكتسبتم التدخين باعتباره عادة من أسوأ العادات في مجتمعكم:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
ألا وإن أقبح عادة فيكم هي أن تكونوا عبيدا لعادتكم..
فاستخدموا هذه الجوارح الطاهرة فيما خلقت لأجله، ولا تجعلوا أفواهكم النظيفة مداخن للشيطان ينفث منها سمومه لتفسد الهواء النقي، وتستذل الأنفى الحمى، وتصيب البلاد والعباد بالأوبئة الفتاكة، وتفسد بهاء الأسنان بالصدأ المثير للغثيان.
ألم تروا ما سببه التدخين لآبائكم وإخوانكم وذويكم من أمراض وعلل قليلها ظاهر، وكثيرها مستور؟ أليس من المخزي بالنسبة لكم أن تسلكوا نفس الطريق المفضي إلى الدمار وأنتم تشاهدون الضحايا على الجانبين؟.
واخيبة أمل الإسلام فيكم، إذا دعاكم للجهاد فلم يجد فيكم غير رئات مسلولة، وأياد مغلولة، وأجساد عليلة، وشيوخ يرتدون ثياب الشباب!
نريد أن تبقى أخطار التدخين حية في وجدانكم على الدوام. نريدكم أن تضعوا رقابة العلي الأعلى نصب أعينكم فهو الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ونريدكم أن تكونوا رقباء على أنفسكم قبل أن يكون أولياء أموركم رقباء عليكم، فتعسا للبشر إذا لم يرعوا حق رب البشر.. {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
رواه أحمد في مستنده، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح.
[2]
رواه الإمام أحمد وأبو داود، وقال الحافظ العراقي: إسناده صحيح، وصححه السيوطي في الجامع الصغير.
[3]
راجع فتوى الشيخ رحمه الله بتحريم شرب الدخان.
[4]
سورة الإسراء: 27.
[5]
الطب النبوي لابن القيم ص 227 ط بيروت.
[6]
المرجع نفسه ص 223، ص 227.
[7]
د. حامد زهران: الصحة النفسية والعلاج النفسي. ط أولى: ص 478.
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
الأستاذ المساعد- بكلية الشريعة
والدي العزيز:
لشد ما يحزن القلب ويحزب النفس أن أكتب إليك اليوم أني قد تزوجت، وأني قد تزوجت فتاة مسيحية ليس بينها وبين الإسلام نسب ولا سبب، وأنها أجنبية الدم وليس لها في ديار العرب جدود ولا أرحام..
لقد تزوجت منذ ثلاث سنوات خلت، ولكني كتمتك الخبر خشية أن ينقطع عني عونك المتواصل، ويتخلى عن جيبي مالك المتدفق، أما اليوم فقد أصبحت طبيبا أتدرب في أحد المستشفيات، وآخذ راتبا يكفيني ويزيد، وتخرجت زوجتي في كلية الآداب وأصبحت مدرسة في إحدى المدارس الثانوية، وفي مرتبها ما يزيد مالنا قوة على قوة، ووفرا على وفر.
والدي العزيز:
سوف تقرأ هذه الرسالة مرة بعد مرة، وفي كل مرة ترجع البصر كرتين تتعرف توقيعي الماثل في ذيل هذه الرسالة، وتتبين اسمك الكامل الذي أخطه على وجه الغلاف، وسوف ترجوا في كل مرة أن تكون هذه الرسالة قد كتبها كاتب غيري، أو أن تكون قد وقعت بين يديك عن خطأ وغفلة من موزع بريد.
رفقا بنفسك يا والدي العزيز، وأمسك عليك بقايا بصر كاد يؤدي به مرض السكر، فما بك من حاجة إلى أن تقرأ هذه الرسالة أكثر من مرة، كل ما فيها صدق لا يشوبه كذب، وحق لا يعتريه باطل، وهذا التوقيع الذي تحدق فيه وتحملق هو توقيع ابنك لا شك ولا زيف.
سوف تتهمني يا والدي العزيز أني قد عققتك ودلست عليك، وأني لم أك ذلك الولد البار الذي كنت تتوقع وتؤمل، سوف تتهمني بالخداع والمراوغة، أظهرت لك خلاف ما أبطن، وقلت لك قولا لم أكن به أومن، حتى إذا ما انتهت حاجتي إليك وأصبحت ذا غناء عنك، سقط النقاب عما كنت أخفيه، وأفصح اللسان عما كنت أطويه.
الحق يا والدي العزيز أني لم أك عاقا لك ولا مدلسا عليك ولا مخادعا مراوغا، لقد كان علي أن أسلك أحد سبيلين: سبيل الفاحشة التي حرم الله، وليس لها من عقبى سوى الخسران والضياع، أو سبيل هذا الزواج الذي تكره، ولقد اخترت ما فيه عصمت لديني ورعاية لخلقي وزلفاي إلى الله، وهذا الخيار على فيه من مشكلات قد تحدث في المستقبل البعيد هو –فيما أعلم- خير عند الله وخير عند الناس وأحسن عاجلة وأفضل عقبى.
أما خيارك الثالث في الانتظار الطويل حتى أتخرج فلم أستطع عليه صبرا، وكيف يستطيع شاب مثلي غرثان مرمل ناهز الثلاثين من العمر، تعرض عليه اللحوم البشرية عارية تفيض غضارة ونضارة، وتناديه من عن يمينه ويساره على مقاعد الدراسة، وتلقاه وجها لوجه في الحدائق العامة والشوارع المزدحمة، وتنتظره من خلفه حيث يسكن ويأكل وينام، كيف يستطيع شاب مثلي هذه حاله أن يظل سبع سنوات: صائما بلا طعام، حيا بلا حس ولا قلب.
ما أسهل الحرب على النظارة يا والدي العزيز! وما أصعب غمارها وأشد أوارها على أولئك الذين يصطلون بنارها ويفغم أنوفهم دخانها وغبارها!!
لقد طلبت إليك منذ أربع سنوات أن أتزوج فتاة من بلادي وجنسي، وعلى ديني وحسي، ولكنك أبيت كل الإباء، ورفضت بعنف وشراسة تهدد وترعد وتوعد، فلم أستطع إلا أن أسكت على خوف، وأظهر الرضا على مضض، وفي القلب لهيب حب تحت الرماد، وفي النفس حسرات هوى تكاد تقتل.
ما أكثر ما كنت تعزيني عن ذاك الزواج وأنا أجلس إلى جوارك حزينا مطرق الرأس فتقول: صبرا صبرا يا بني، غدا تصبح طبيبا، وسوف أفتح لك عيادة في أوسع شوارع عمان وأكثرها ازدحاما وحياة وحركة، وسوف أعلق فوق باب العيادة لافتة كبيرة كتب عليها بخط كبير جميل اسمك مقرونا باسمي واسم العائلة، وسوف أزوجك فتاة من إحدى العائلات المعروفة ذات الصيت البعيد والسمعة الطائرة والسلطان الواسع.
لن يقفل في وجهك باب يا بني حين تكون طبيبا، ولن يرد الناس لك طلبا، كل فتاة في عصرنا الحاضر تود لو تصبح ذات يوم زوجا لطبيب، وكل أم تقول لجارتها وهي ترضع طفلها وتمسح يديها على رأسه إن ابني هذا سيكون طبيبا.
يا بني ستكون رجلا مشهورا حين تكون طبيبا، فكيف ترضى أن تكون زوجا لفتاة مغمورة لا يكاد يعرف أهلها أحد، سوف تعض على يديك ندما وحسرة يوم ترى ما بينكما في المستقبل، ولن ينفعك يومئذ حسرة ولا ندم.
ما أكثر ما كنت تقول يا والدي وما أكثر ما كنت تؤمل، ولقد كنت حريصا على أن أكون عند ظنك وألبي نداء نفسك وأجيب هتاف قلبك، ولكن البيئة التي أعيش فيها سدت الطريق أمام ما كنت تؤمل وأمام ما كنت أريد.
من الآباء يا والدي العزيز طائفة كانوا يودون لو يكونون في هذه الحياة شيئا مذكورا، فقصرت بهم العزائم أو حالت دون أمانيهم أحداث قاسية ومطالب عيش لا ترحم، فهم يريدون أن يعوضوا أنفسهم ويعزوها بأن يروا ما فقدوه حياً ماثلا في أبنائهم، فتراهم يرسمون لهم الخطط، ويضعون لهم معالم الطرق، ويصبون النصائح في آذنهم صبا، ويلقون عليهم الأوامر والنواهي كأنهم جنود يعيشون في ثكنات عسكرية.
ولكن كثيرا من أولئك الأبناء الذين يعيشون في بلاد أجنبية الدم والدين يكونون في شغل شاغل عما يريده آباؤهم:
وإني وإياها لمختلفان
هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى
على أنني سوف أسلك طريقا لعله يرضيك أو يخفف عنك ما بك، طريقا ما كان يخطر لي على بال من قبل وما كان ليخطر لك أنت أيضا على بال، ولكن هذا الزواج الذي نقمته هو الذي ساقه إلي وجعله سهلا لا حبا أمام عيني، سوف آخذ جنسية هذه البلاد التي تعلمت في جامعاتها وتزوجت إحدى فتياتها وهأنذا اليوم طبيب في إحدى مستشفياتها، وبهذه الجنسية أستطيع العودة إلى وطننا الذي أخرجنا منه وإلى المدينة التي ولدت فيها وإلى دارنا المهجورة المغلقة الأبواب، وسوف أتخذ شقة من شققها سكنا وأتخذ من أخرى عيادة، وسوف أضع على مدخل الدار لافتة كبيرة أكتب عليها اسمي مقرنا باسمك وباسم العائلة كما كنت تأمل وترجو، وسوف تكون هذه الأسماء كبيرة الحروف جميلة الشكل واضحة الرؤية إلى درجة أنها تقرأ بسهولة من الشارع المجاور، وسيأتي يوم –أسأل الله ألا يكون بعيدا- تسترد فيه بعون الله تعالى تلك الأرض المغصوبة وتلك المدينة المنكوبة، وحينئذ تستطيع أن تجلس في حديقة الدار صباح مساء كما كنت تجلس من قبل، وسوف يشير الوافدون على عيادتي للاستشفاء وهم يعبرون الحديقة جيئا وذهابا، سوف يشيرون إليك بأطراف البنان وهم يتهامسون: والد الطبيب.
قد تحسب هذا خيالا أسوقه إليك ابتغاء مرضاتك وتخفيف وقع هذا الزواج على نفسك، أحسب يا والدي الحسبان الذي تشاء، وظن الأمر كما تريد وتهوى، فهذه هي الحقيقة قد جلوتها عليك واضحة، وهذا ما آل إليه أمري قد صورته لك صادقا قد تقول وأين كانت هذه الحقيقة من قبل، ولم تصور لي ما آل إليه أمرك منذ البداية؟! ولم كلفتني نفقات زواجك ثلاث سنوات وأنت على يقين أني غير راضي عنه؟!
الناس يا والدي العزيز يحبون الحق ويحرصون على العدالة حين ينصبون أنفسهم حكاما وقضاة، أما حين يكونون غير ذلك فما أكثر ما تقف العدالة والصراحة وكلمة الصدق على أبوابهم طويلا تطرقها وتطرق وتطرق فلا يأذنون لها ولا يعتذرون.
لقد عشت أنت أيها الوالد العزيز أكثر من ثلاثين عاما موظف دولة، أما حدث ذات مرة أن أمسكت عن قولة الحق وإبداء رأي الصدق حين كنت ترى بعض رؤسائك يبغون الأمور عوجا ويعرضون الأمر مبتسرا فجا، ألم تك تنفذ بعض الأوامر وأنت تعلمها جائرة، وتمضي بعض المعاملات على ما فيها من باطل، ألم يحدث ذات مرة أن فعلت شيئا من ذلك حرصا على راتبك وإبقاء على وظيفتك؟! على أنك لست في هذا بدعا بين الموظفين ولا فردا بين الناس، فالموظفون كثيرا ما يقولون الكذب وهم يعرفون أين يكون الصدق، ويأتون الباطل وهم يبصرون طريق الحق، ويعتذرون عن ذلك بلقمة الخبز لأفراد الأسرة، وكسوة الصغار الذين يدرجون في البيت، وتعليم الكبار الذين يغدون على المدارس، ولا يذكرون حق الدين وحق الفضيلة إلا كما يذكر الموتى وأسقاط المتاع.
علم الله أني لم أقصد بهذا إساءة إليك، ولا كشف منقصة فيك، ولا إذاعة عيب عنك، وأنىً لي هذا؟! ولكن الشيء بالشيء يذكر، والحديث ذو شجون.
وفي ختام هذه الرسالة أقول:
من الخير يا والدي العزيز أن تسمح لابنك هذا بالعودة، وأن تفتح أبواب بيتك لاستقباله، وأن تمد جناح العطف والرحمة على هذا الزواج.
من الخير أن تسمح لهذا الولد الغريب أن يعود إلى بيت أبيه وأمه، ومن الخير أن تجد هذه الزوجة الأجنبية أبواب البيت لها مفتوحة، والقلوب التي في الصدور لها مشروحة.
وإذا كنت تبتغي رضا وثواب الآخرة حقا، وتحب ألا يضيع ما أنفقته سدى، فمد أجنحة الحنان والرحمة على هذا الزواج، وافتح الطريق أمام هذه الزوجة الحائرة كي تتعرف الإسلام من الواقع الذي تعيش فيه أسرتنا وأسر أخرى تهتدي بهدى الإسلام وتستضيء بنوره، غربها عن هذه البيئة التي تمسك بيدها كلما همت أن تمدها إلى الإسلام، غربها عن هذه البيئة التي تشد قدميها إلى الأرض كلما همت أن تسير على طريقه، أنقذ أولادنا من أن يصبحوا على غير دين أو على دين لا يعرفون من شريعته حكما ولا من قرآنه حرفا، أنقذني أنا من قبل أن أنسى مناسك ديني ومن قبل أن يصبح قلبي خاليا من الإيمان، تذكر قوله تعالى {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله تعالى {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} .
ابنك البار
الحضارة الإسلامية
لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
لفظ الحضارة في مفهومه الحديث، ومفهومه العالمي المعاصر، قد أصبح أكثر اتساعا، مما كان يدل عليه في مفهومه اللغوي التقليدي.. وإذا كان أصل الحضارة: الإقامة في الحضر. فإن المعاجم اللغوية الحديثة، ترى أن الحضارة هي: الرقي العلمي، والفني، والأدبي، والاجتماعي، والاقتصادي في الحضر.. وبعبارة أخرى أكثر شمولا، هي: الحصيلة الشاملة للمدنية، والثقافية، والفكر، ومجموع الحياة، في أنماطها المادية والمعنوية.. ولهذا كانت الحضارة هي: الخطة العريضة –كماً وكيفاً- التي يسير فيها تاريخ كل أمة من الأمم، ومنها الحضارات القديمة، والحضارات الحديثة والمعاصرة.. ومنها الأطوار الحضارية الكبرى، التي تصور انتقال الإنسان أو الجماعات، من مرحلة إلى مرحلة..
ولئن كان الإسلام قد امتاز بأنه دين الحضارة الإنسانية، فإن الواقع يبين للباحث والمفكر، والدارس، أن الحضارة الإسلامية استمدت كل مقوماتها، وعناصر وجودها، وأسباب نمائها وازدهارها، من الإسلام ذاته..
والإسلام كان ولا يزال دين الحضارة والإنسانية، بمعنى أنه كان منذ نزوله دين عبادة، ودين معاملة، وأنه أنشأ لونا من الحضارة، عرف باسمه، وهو الحضارة الإسلامية.. لهذا نجد أن المستشرقين مدفوعين بدوافع شتى، قد ظلموا الحضارة الإسلامية، حينما أطلقوا عليها في مؤلفاتهم وكتاباتهم: الحضارة العربية أو حضارة العرب، وهذا يدل على الجهل والتجاهل، لأن حضارة عربية بدون إسلام لم تقم..
وقد قامت الحضارة الإسلامية، على دعائم أساسية، جعلت منها حضارة عالمية متميزة، وفريدة من تاريخ البشرية.. ومن ذلك..
أولا: أن الإسلام قد انطوى على طاقة روحية، جعلت منه قوة فاعلة، والشيء المهم في هذه القوة الفاعلة. أنها كانت أصلا جذريا يمس كل الأوضاع في حياة الناس.
ثانيا: أن الإسلام كان دين دعوة.. وفكرة الدعوة في الإسلام، قد واتتها ظروف الانتشار في النطاق العالمي، وفي ظلال الدعوة المستمرة، تمكن الإسلام من نشر طابعه الحضاري، كعقيدة للحياة، وأن يصبح في أقل من ربع قرن، مقوما أساسيا من مقومات الحضارة الإنسانية..
ثالثا: كان الإسلام دينا سهلا غير معقد، ولا مركب في عقيدته، وكان في الوقت ذاته، دينا مباشرا، يتصل فيه الإنسان بخالقه دون وساطة:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} ، ولا نجد عقيدة تطلب من الإنسان شهادة أبسط من شهادة الإسلام، على عمقها وعظمتها:((لا إله إلا الله محمد رسول الله)) .. عبارة سهلة رائقة نظيفة، تقف بالعاقل على عتبة الدخول في الإسلام، موقفا سهلاً. والمقوم الأصيل في هذه البساطة، أن القرآن الكريم هو الوعاء الأساسي للعقيدة كلها.
رابعا: كان الإسلام دينا رحبا يدعو إلى سبيل العقل، في حدود أصول العقيدة، كما يدعو إلى سبيل الضمير، والحق.. ومن هنا كانت الدعوة إلى النظر، وإلى المعرفة، أساسا من أسس الدعوة الإسلامية، وكان التفتح البصير مفتاح الدعوة للحضارة..
والإسلام في رحابته الحضارية، استطاع أن يمتص ألوان الحضارات في البلاد التي أوقد فيها قناديل الضياء، وأن يسبغ عليها طابعاً إسلاميا شاملا..
خامسا: البيئة بعواملها المحلية، وموقعها الجغرافي، قد ساعدت على إعطاء الحضارة الإسلامية، ما كان لها من طابع، ومن مكانة.. ولقد كانت الجزيرة العربية ذاتها، منطقة وصل بين أطراف العالم، عند ملتقى القارات الثلاث في العالم القديم ((أسيا وأفريقيا وأوربا)) .. ومن شواطئ الجزيرة العربية، تمتد بحار الشمال، بادئة بالبحر الأبيض المتوسط. وبحار الجنوب بادئة بالبحر الأحمر، والخليج الإسلامي [1] .. وقد كان عدم اتصال المياه بين الشمال والجنوب، سببا في أن شبه الجزيرة العربية، كانت نقطة تغيير، في وسائل المواصلات، وفي ظهور الوساطة التي كتب للمسلمين أن يقوموا بها.. ولم يكن الأمر بالطبع مجرد التوسط الجغرافي على أهميته، وإنما كان الأمر أوسع وأعمق، فهو توسط من ناحية الطبيعة البشرية، ومن ناحية السلوك الإنساني، ومن ناحية الاعتدال في كل ما يصل بالمادة وهي أمور كلها اتصلت بطبيعة البيئة العربية. ومن هذه البيئة الوسط، انتشر الإسلام شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، بالبر والبحر على السواء.. وقد شاء الله سبحانه وتعالى، أن تستيقظ الجزيرة العربية في القرن الرابع عشر الهجري، الموافق القرن العشرين ميلادي، والقرن العشرون يعتبر أزهى قرون الحضارة في الغرب. شاء الله أن تقوم –في الجزيرة العربية
المملكة السعودية، على أساس القرآن الكريم، لا على أنه المادة الأولى أو الثانية من الدستور، كما تفعل كثير من الدول التي يقال عنها، عربية وإسلامية.
ولكن على أساس أنه هو كل شيء، في التعليم، وفي التوجيه، وفي الحكم، وفي السياسة، وفي الثقافة، وفي جميع نواحي الحياة.. وقد قامت في السعودية نهضة علمية وثقافية جبارة، جعلت الجامعات تعمل في إعداد كامل، لمؤتمرات إسلامية جامعة، مثل مؤتمر الفقه الإسلامي ومؤتمر العلم والتكنولوجيا، ومؤتمر الاقتصاد، ومؤتمر الشباب، ومؤتمر الدعاة ومؤتمر المساجد، ومؤتمر المذيعين، وصارت الجامعات والكليات ومعاهد العلم، تصدر صحفا، ومجلات ذات دراسة وعمق، معدة إعدادا يتفق مع ما وصلت إليه الطباعة من تقدم..
ولا شك أن هذا كله دعامة من دعامات الحضارة الإسلامية القائمة على الإسلام.. حتى لا يأتي إلينا مخرف من الشرق، أو من الغرب، فيقول إن حضارة الإسلام قد شاخت وهرمت.. شاء الله أن تظل تجربة الحكم بالقرآن الكريم، قائمة في أرض الجزيرة العربية، كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين..
سادسا: الوسطية التي جاء بها الإسلام، والوسطية التي جعلت فيها الأمة الإسلامية وشرفها الله بها.. ليست الوسطية المبتدعة في الفكر المستورد الحديث.
فالوسط المبتدع في الفكر العصري، وسط عفن، قام بين تراكمات عفنة من اليمين واليسار. ولا شك أن اندفاع بعض المجتمعات الإسلامية إلى هذا الوسط العفن، وما جاء حوله من يمين ويسار، يعد عند الدارسين لتطور الشعوب، كارثة فكرية خطيرة، وردة جاهلية وثنية.. والوسطية الإسلامية وسطية عامة شاملة، لا تعترف بتقسيم اليمين والوسط واليسار. بل إنها:
1-
في العقيدة تقوم على توحيد الله وإفراده بالعبادة، والتمسك بما شرع من آداب السلوك والمعاملة..
2-
وفي التشريع تقوم على أصول رئيسية، مصدرها الأساسي: القرآن الكريم، وسنة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
3-
وفي الأخلاق تقوم على خلوص النية، ونقاء الضمير، والتمسك بقيم الخير، والحق، والتزام الآداب الفردية والاجتماعية..
4-
وفي الاجتماع تقوم على الأسرة المتماسكة القائمة على ركائز المودة، والرحمة، والإخلاص، والاحترام والتعاون..
5-
وفي السياسة تقوم على الشورى، واحترام حقوق الإنسان، والتزود بكل أسباب القوة، والدفاع عن العقيدة..
6-
وفي الاقتصاد تقوم على تبادل المنافع، واتخاذ المال وسيلة لا غاية واحترام الملكية الفردية..
7-
وفي الثقافة تعتمد على طلب المعرفة، واستخدام العقل في كسب المعارف..
8-
وفي الفكر تقوم على استنهاض العقول، وحرية الفكر، واستقلال الإرادة..
فأي وسطية أسمى من هذه الوسطية التي ارتضاها الله، وجعلها سمة هذه الأمة الإسلامية، ذات الحقيقة الكبيرة، والوظيفة الضخمة في هذه الأرض، ويقول في ذلك شهيد الأمة الإسلامية سيد قطب: ((إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا، فتقيم فيهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها.. فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم، وتصوراتهم وتقاليدهم، وشعاراتهم. فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها، وهذا باطل.. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها، وقيمها، وموازينها وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها، فيقرر موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة.. وبهذا تتحقق حقيقة هذه الأمة، ووظيفتها، لتعرف وتشعر بضخامتها ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادا لائقا.. وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط. سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي.
{أُمَّةً وَسَطا} في التصور والاعتقاد. لا تغلو في التجرد الروحي، ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد. أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات، حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها، في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط على عالم الأشواق، وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط: في قصد، وتناسق، واعتدال..
{أُمَّةً وَسَطا} في التفكير والشعور، لا تجمد على ما علمت، وتغلق منافذ التجربة والمعرفة. ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج الفكر والتجريب.. وشعارها الدائم: الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها أخذها، في تثبت ويقين..
{أُمَّةً وَسَطا} في التنظيم، لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب وتزاوج بين هذه وتلك. فلا تكل الناس إلى وسط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان، ولكن مزاج من هذا وذاك.
{أُمَّةً وَسَطا} في الارتباطات والعلاقات لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تتلاشى شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً، لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه، ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة، وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة، والجماعة كافلة للفرد، في تناسق، واتساق..
{أُمَّةً وَسَطا} في المكان، في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها، وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام، إلى هذه اللحظة.. هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا وتشهد على الناس جميعا، وتغطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة، وثمار الروح والفكر، من هنا إلى هناك، وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء..
{أُمَّةً وَسَطا} في الزمان، تنهي عهد الطفولة البشرية من قبلها، وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام، وخرافات، في عهد طفولتها، وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك)) . فالأمة الإسلامية ليست بحاجة إلى الأحزاب التي أوجدها ورعاها التبشير الصليبي.. وليست في حاجة إلى التقدمية، والثورية، واليمين والوسط واليسار.. وليست في حاجة إلى اشتراكية المنحرفين، من سماسرة الشيوعية، والدجل الفكري، وليست في حاجة إلى تعدد المنابر، واستيراد ما هب ودب.. وليست في حاجة إلى تجارب الأمم. إذن وبدون شك. الأمة الإسلامية في حاجة إلى إسلام، والإسلام فقط..
سابعا: القرآن الكريم ذاته. وذلك أن القرآن كان أعظم ما عرفته الإنسانية في تاريخها الممتد الطويل.. وقد تضمن القواعد الرصينة الكفيلة بقيام المجتمع الإنساني السليم. تشده الإنسانية فتجد فيه مبتغاها من التشريعات الفردية، والعلائق الأسرية، والمعاملات الاقتصادية والحربية، والقوانين المدنية، والأنظمة الدولية، وبعبارة أوجز.. تجد فيه الأمة كل ما تحتاج إليه في حياتها العامة والخاصة، الدين والدنيا..
ثامنا: اللغة العربية نفسها كانت دعامة من دعائم الحضارة الإسلامية، وذلك لأنها أعرق اللغات منبتا، وأعزها جانبا، وأقواها جلادة، وأغزرها مادة، وأدقها تصويرا لما يقع تحت الحس، وتعبيرا عما يجول في النفس..
وعندها من المرونة على الاشتقاق، والقبول للتهذيب، وسعة صدرها للتعريب. ما يمكنها من الاستمرار في عطائها، نزل القرآن بلسانها فجعلها أكثر رسوخا، وأشد بنيانا، وأقوى استقرار. وبفضل القرآن، صارت العربية، أبعد اللغات مدىً، وأوسعها أفقا، وأقدرها على النهوض بتبعاتها الحضارية، عبر التطور الدائم الذي تعيشه الإنسانية. واستطاعت العربية في ظل عالمية الإسلام، أن تتسع لتحيط بأبعد انطلاقات الفكر، وترتقي حتى تصل أرقى اختلاجات النفس، وليس هناك معنى من المعاني، ولا فكر من الأفكار، ولا عاطفة من العواطف، ولا نظرية علمية من النظريات، تعجز اللغة العربية عن تصويره بالأحرف والكلمات، وتجسيده داخل الكلمات.
تاسعا: وبجانب هذا وذاك، كانت هناك مقومات تاريخية وبشرية، تتصل بالعصر الذي ظهر فيه الإسلام، ثم بالعنصر البشري، والتكوين السكاني. فأما عن العصر، فقد كان الإسلام ختام الأديان السماوية، وكان الإسلام بذلك رباطا لها من الناحية التاريخية، كما كان في الوقت ذاته تصحيحا لها لما أصابها من تخريف الفلاسفة والوثنيين..
ولقد كان هذا كله، قوة دفع للفكر الإسلامي، وما تصل به من حضارة، ومن هنا انطوى التفاعل الإسلامي على قوة غلبت كل التحديات الجاهلية، فانتشر طابع الحضارة الإسلامية على فعالية، لم يعرف لها مثيل في تاريخ الإنسانية..
عاشرا: ومما يذكر أن ترسيخ معالم الحضارة الإسلامية، قد تضاعف بفعل مقوم إنساني آخر.. وهو تنوع السلالات التي دخلت في الإسلام، ثم هناك ظاهرة أخرى ترتب على كل هذه الجوانب والعوامل، وهي ظاهرة الاتصال والاستمرار الزمني في الحضارة الإسلامية.. ومن وراء كل ذلك هناك الإيمان بالله، فهو القوة الدافعة الموجهة التي تسند الضعيف من أن يسقط، وتمسك القوي من أن يجمح، وتعصم الغالب من أن يطغى، وتمنع المغلوب من أن ييأس..
وقد أثبت التاريخ أن الذين تربوا في مدارس القرآن، هم وحدهم الذين صلحت بهم الحياة، واعتدل في أيديهم ميزان الحق، والعدل..
ولقد كانت المملكة الإسلامية تزدهر بالعلم والحضارة شرقا وغربا، وتنتشر فيها أرقى الصناعات على اختلافها، وما تركه المسلمون من تراث علمي، لأكبر شاهد على ذلك..
ولقد تلمست أوربا الحضارة الإسلامية، فاستقت من روافدها العلوم والمعرفة من الفلك والجبر والهندسة والحساب والكيمياء والطب والزراعة، وسائر أنواع الفنون الحضارية. وبنى رجال أوربا بما تعلموه في معاهد المسلمين بالأندلس، وبما نقلوه من علوم.. بنوا أسس النهضة الحديثة التي ظهرت بوادرها في القرن الثامن عشر، وازدهرت في القرن العشرين..
والإسلام بدعوته إلى العلم هو الذي خرج جهابذة الفكر، ورجال الحضارة، أمثال ابن الهيثم، وابن البيطار، وابن سينا، وابن النفيس، وابن زهر، وابن بطوطة، والكندي، والفارابي، والبيروني، والطوسي، والدينوري، والبغدادي، والرازي، والقزويني، والأنطاكي، والخوارزمي، والإدريسي، والمسعودي، وجابر والحافظ، وغيرهم ممن أفادوا الإنسانية. وهذا ابن الهيثم يبحث في السهول والأودية، ويجول فيها طولا وعرضا، حتى يضع قواعد علم الضوء. وابن الدجيلي، يسهر على قمم الجبال العالية، يحدق في الكواكب والنجوم، ليحد أفلاكها، ويعرف أبعادها، ويقيس محيط الكرة الأرضية. وعبد الله الخوارزمي العالم المسلم الذي ولد في إقليم خوارزم [2] ، أول رجل في العالم يضع أصول علم الجبر، وفي كتابه ((الجبر والمقابلة)) يقسم العلماء إلى ثلاثة أقسام: فمنهم المخترع المبتكر الذي لم يسبق إليه، ومنهم الذي يتناول آراء العلماء قبله بالشرح والتفصيل والتوضيح، ومنهم الذي لم يكلف نفسه أكثر من جمع المتفرق..
وأبو الريحان محمد البيروني الذي ولد في بيرون، وهي مدينة صغيرة تتبع مدينة خوارزم. يساهم في الفلك والرياضيات، بمساهمات فعالة. وابن النفيس العالم الدمشقي، يجري التجارب والاختبارات، حتى يثبت أن الدم ليس سائلا مستقرا في الأوردة والشرايين. بل هو سائل متحرك، يدور في جميع أجزاء الجسم، وذلك قبل أن يكتشف العالم البرتغالي (هارفي) الدورة الدموية بثلاثة قرون..
وابن مسكويه ذلك المفكر الإسلامي الكبير الذي طرق الدراسات الأخلاقية والنفسية، فذلل متونها، وسبق علماء أوربا، فيما وصل إليه من النظريات النفسية والسلوكية.. هذا كله في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في ظلمات الجهل والهمجية، ولم ينقذ أوربا من ورطتها التي كانت واقعة فيها إلا نور الإسلام. وما زالت أسماء العلوم والمصطلحات التي أعطاها العلماء المسلمون لغرائب العلم، ما زالت حية في جميع اللغات رغم ما مر عليها من تحريف وتغيير.. ولقد سجل تاريخ الحضارة الإسلامية بإعزاز. وتقول الكاتبة الألمانية الدكتورة سيجريد هونكه، في كتابها ((شمس الله تشرق على الغرب)) تقول:((إن هذه الطفرة العلمية الجبارة التي نهض بها أبناء الصحراء من العدم، من أعجب النهضات العلمية الحقيقة في تاريخ العقل البشري، فسيادة أبناء الصحراء التي فرضوها على الشعوب ذات الثقافات القديمة، وحيدة في نوعها، وإن الإنسان ليقف حائرا أمام هذه المعجزة العقلية الجبارة)) ..
وإن من يمعن النظر في أعماق الحضارة الإسلامية، وما حققته للإنسانية من أسباب النمو، وعوامل الازدهار، ويلم بما جاء به الفكر الإسلامي، من مفاهيم تناولت أهم معضلات الحياة. إن من يتعمق في ذلك، يدهشه مدى عمق التفكير الواعي الذي بلغ ذروته علماء الإسلام، وقد يتضاعف إعجاب الباحث، بهذا الفيض الزاخر، من الجهود العلمية التي شرقت بالحضارة وغربت، وملأت الدنيا بإشراقها..
وربما تزداد دهشت الباحث العاقل، والمفكر الناصح، ويتعاظم تمجيده لحركة التحول الخطيرة التي أصابت المجتمع العربي في تلك الفترة القصيرة. ترى أي سر هذا الذي استطاع أن يحول عرب الصحراء، وهذه الشعوب المتفرقة.. إلى أساطين في العلم، ومشاعل في الحضارة، ومنارات في الثقافة؟ وأي قوة رفعت العرب من حال البداوة التي كانوا عليها إلى أبطال وقادة، يفتتحون أعظم الممالك وأوسعها، ويجولون في الأرض غير هيابين ولا وجلين..؟ .. وأي دعوة هذه التي حولت الناس من الجهل والجاهلية والمذاهب الوضعية، إلى النور الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور..؟
ليس من المعقول في نظر المفكر.. ولا من المقبول في نظر الباحث.. ولا من المعروف في نظر الدارس.. أن يطفر الفكر العربي الذي قيدته ظروف الحياة القبلية الآسنة اليبوس.. إلى مثل هذه المرتبة العالية، دون أن تكون هناك الأسباب القوية التي دفعت به إلى الحياة المتحركة دفعا.. فما هي تلك الأسباب التي استقى منها الفكر الإسلامي، مادة حيويته وحركته؟ وما هي الموارد التي نهل منها أسباب تكامله..
إن المنبع الأول والأصيل الذي استقى منه الفكر أسباب تقدمه ونمائه، هو القرآن الكريم، فهو السر الكامن، وهو القوة المحركة، وهو الدعوة القائمة المستمرة.. وذلك أن القرآن لم يكن كتاب دين يحث على العبادة وتوحيد الله فحسب، وإنما كان إلى جانب تأكيد وحدانية الله، وما يتبعها من عقائد وعبادات.. منبعا أصيلا من منابع الحضارة، ولقد كان أول أثر من آثار القرآن في الحضارة الإنسانية، الاهتمام الواسع بالعلم، وذلك أن العلم عنوان التقدم الحضاري.. ولقد كانت عناية القرآن بالعلم، تفوق حد الوصف واستطاعت توجيهات القرآن العلمية أن تكون منهجا علميا سليما، حدد به المسلمون موقفهم من مشاكل الكون والحياة.
ومن هنا كان التفكير العلمي في الإسلام، يقوم على الموضوعية، والصدق، ومن الحوادث البالغة الدالة على العقلية الموضوعية، لدى الفكر الإسلامي، ما حدث مصادفة، أن كسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال قوم إنها كسفت لموت إبراهيم.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته". وبهذا قرر الرسول الصادق، مبدأ علميا، يعتمد عليه المسلمون، فيما يتصل بالكون وما فيه)) .
وفي حادثة فيضان نهر النيل، بإقليم مصر الإسلامي، موضوعية علمية، تنبئ عن نظافة الفكر الإسلامي.. حيث كان الاعتقاد قبل الفتح الإسلامي، أن النيل لا يفيض بالماء، إلا إذا ألقيت فيه فتاة حسناء، لتموت فيه غرقا. فلما حان وقتذاك. كتب الحاكم عمرو بن العاص، والي أمر مصر، إلى خليفة المسلمون عمر بن الخطاب، في المدينة المنورة، عاصمة الخلافة الإسلامية، يخبره بما تعود عليه المصريون فأجابه عمر بإرسال رسالة، يلقيها في النيل، وكان في الرسالة:((من عمر أمير المؤمنين إلى النيل إن كنت تجري من عندك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بفضل الله، فاللهم بارك لنا)) .
وفي ميدان التطبيق العملي، نجد أن عمر بن الخطاب في خلافته، قد أمر بقطع شجرة الرضوان، لأن بعض الناس قد أسبغ عليها صفات غير موضوعية.. هذا وأمثاله مظهر للتفكير العلمي الموضوعي لدى المسلمين ينبئ لكل عاقل أن الإسلام هو الدين الحق والصراط المستقيم.
ولهذا كانت للمسلمين حضارة، وعلوم، ومخترعات.. كانت هناك تشريعات وفلسفة، وقوانين، وطب، وفلك، ورياضيات، وأدب، واجتماع وتاريخ وجغرافيا، وكيمياء، وآداب للسلوك.. وكان لكل هذه العلوم أساتذة عباقرة، كأئمة الفقه، وعلماء التفسير، ورجال الحديث، الذين خرجوا المسائل والأحكام الفقهية، وضبطوا أساليب النقد، وقعَّدوا قواعد التشريع.. ويذكر لنا التاريخ عشرات المئات من العلماء في كل فن.. أصبح هناك قادة وحكام لم يعرف التاريخ لهم مثيلا.. وهم لم يدخلوا الكليات الحربية، ولم يدرسوا في مدارس عسكرية.. ولكن دخلوا شيئا واحدا، هو كلية القرآن الكريم، ومدرسة الإسلام الحنيف.. وهناك مدن امتلأت بالعلم والعلماء، ومعاهد الحضارة، مثل: القاهرة، وبغداد، ودمشق، وقرطبة، وغرناطة، واشبيلية، وبخارى وغيرها من العواصم التي تزخر بكل ألوان الحضارة.. وكانت هناك دول وممالك، في الشرق والغرب، بسطت نفوذها الإسلامية وعقيدتها، وعبقريتها، وشرقت وغربت حتى نشرت الفكر الصحيح.. وكل هذا بفعل الاتجاهات القرآنية التي غرسها الإسلام، في قلوب الناس، والتي أدت إلى تنمية القوى العقلية في الإنسان المسلم، ففتحت أمامه آفاقا واسعة لا حدود لها)) .
واليوم على الغيورين أن يدرسوا حال المسلمين، الذين ابتلوا بالأفكار المستوردة، والأحزاب الحمراء المتنمرة. لنرى هل يمكن أن تعود حضارة المسلمين، وتشرق من جديد، فتنقذ الإنسانية من بلاء الإلحاد. وحضارة المادية العفنة.. وقبل أن نقرر إمكانية عودة الحضارة الإسلامية أضع أمام القارئ الحقائق التالية:
أولا: العالم الإسلامي حباه الله بأعظم النعم، إذ يتربع على كنوز ثمينة ويربض على ثروات معدنية هائلة، ويملك من حقول البترول أجداها نفعا، وأكثرها سخاء وثراء، وأقواها تدفقا وعطاء.
ثانيا: يملك العالم الإسلامي من شواطئ البحار والأنهار، والممرات، والطرق، البرية، والبحرية، والجوية، ما يجعله في مركز القيادة، ويمكنه من المساهمة والإشراف والتحرك الفعال.
ثالثا: مناطق الثقل في العالم الإسلامي بعيدة عن القطبين، ومصونة من الأعاصير، والطوفانات، والثلوج، والمد والجزر، والبراكين وهذا يتيح لها ما تستطيع به العمل والتقدم..
رابعا: العالم الإسلامي غني بالمحاصيل الزراعية، والإنتاج الحيواني، مما يمكن من قيام صناعات متقدمة ومتطورة.
خامسا: يعيش العالم الإسلامي اليوم في يقظة واعية، وصحوة صحية، إذا أحسن توجيهها، أثمرت..
تلك وغيرها أمور تجعل العالم الإسلامي، قوة إيجابية، مرهوبة الجانب مهيأة لإنقاذ الإنسانية من وهدة الضياع..
ولا شك أن الأمور الخمسة المذكورة مع ما سبق ذكره من مقومات الحضارة الإسلامية، هي أسباب قيام حضارة كاملة.. ومن هنا نقول في غير تردد، إن عودة المسلمين إلى إقامة حضارة إسلامية، أمر ممكن، ولا يحتاج منا إلى أن نخرب أنظمة الأمم، ولا أن نتمسك بأحزاب بعثها المخربون، ولا أن نقسم الأمة إلى أنظمة وجبهات، ولا أن نمزق المجتمع الواحد إلى يمين ووسط ويسار، واشتراكيين وأحرار.. وإنما يحتاج إلى أمر واحد فقط هو الإسلام. الإسلام سلوكا وعملا، والإسلام ثقافة وتربية، والإسلام نظاما وحياة، ولن يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها. والله الموفق..
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
التسمية بالخليج الإسلامي هي أفضل طريقة أمام تحديات العصر.
[2]
إقليم خوارزم هذا من الأقاليم الإسلامية التي كانت عامرة بالعلم والعلماء، وهو واقع الآن في قبضة الاستعمار الشيوعي الروسي..