المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 6 فهرس المحتويات 1- أمر يستدعي الانتباه (مترجم من بعض نشرات - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 6 فهرس المحتويات 1- أمر يستدعي الانتباه (مترجم من بعض نشرات

‌العدد 6

فهرس المحتويات

1-

أمر يستدعي الانتباه (مترجم من بعض نشرات أحرار الإسلام الباكستانية)

ترجمة: عاصم حداد

2-

إنا لله وإنا إليه راجعون: المجلة

3-

أين القمر؟ : للشيخ حماد بن محمد الأنصاري

4-

أيها الشاعر مهلا: بقلم الشيخ رمضان أبو العز

5-

إحرص على ما ينفعك: لعبد الله بن أحمد قادري

6-

الإسلام وعمل المرأة: للشيخ إبراهيم السلقيني

7-

التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي (2) : بقلم الشيخ عطية محمد سالم

8-

التقدم والرجعية (2) : بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي

9-

الدعوة إلى الله وأثرها في المجتمع: نائب رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز

10-

الشباب: بقلم الدكتور محمود بابللي

11-

أضواء على المذاهب الهدامة - الماسونية: بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد

12-

حقائق عن نيجيريا: بقلم الطالب: عبد الرشيد هدية الله الاووى النيجيري

13-

ندوة الطلبة - (دراسات في الديانات الهندية) - الديانة الهندوسية (1)

بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي

14-

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (3) : لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

15-

رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: بقلم الشيخ عبد المحسن العباد

16-

رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

17-

عتاب وتحذير: للشيخ محمد المجذوب

18-

في مناسبات الآيات والسور: للشيخ أحمد حسن

19-

لمحات تاريخية من حياة شيخ الإسلام ابن تيميّة: بقلم: الطالب صالح بن سعيد بن هلابي

20-

مع الصحافة - ظهر الآن سر التآمر على الخلافة الإسلامية: نقلا عن جريدة الميثاق المغربية

21-

من تاريخ المذاهب الهدامة - كتاب أسرار الباطنية لمحمد بن مالك (3)

بقلم: محمد بن مالك اليماني

22-

يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 32

أمر يستدعي الانتباه

مترجم من بعض نشرات أحرار الإسلام الباكستانية

ترجمة: عاصم حداد

لقد كانت سنة ألف وثمانمائة وسبعة وخمسين الميلادية عهدا مليئا بالاضطراب الدامي الداخلي في تاريخ القارة الهندية حيث كان الحكم الإنكليزي يبذل أقصى جهوده ليحل نفسه محل الحكم الإسلامي فيها فرفع المسلمون علم الجهاد ضده وقد ساهم في هذا الجهاد المقدس وأدى واجبه الديني كل مسلم في الهند من المرحوم الملك بهادر شاه ظفر إلى كل صغير عامي تحت قيادة علماء الإسلام، ولو لم يتزعم المسلمين الخونة من أنفسهم مثل مرزا غلام مرتضي في بنجاب لما كان وجه خريطة العالم الإسلامي كما نراه اليوم.

مرزا غلام مرتضي هذا هو المتنبي القادياني، ولما كان المسلمون في طليعة العناصر المقاومة للاستعمار البريطاني فإن حكومة بريطانيا بعد أن تم لها الاستيلاء والسيطرة على الهند بوسائل المكر والخديعة والظلم والعدوان.

وبمساعدة بعض الخونة من المنتسبين إلى الإسلام كما أشرنا بعثت بعثة رسمية في سنة 1896 من لندن إلى الهند برئاسة السير وليم هنتر لتقصي الحقائق ومعرفة طبيعة المسلمين ومزاجهم واتجاهاتهم نحو الحكم البريطاني وتقديم المقترحات بشأن جعل المسلمين يوالون للإنكليز، ومكثت البعثة سنة كاملة في الهند للتعرف عن أحوال المسلمين وتنفيذ ما أنيط بها.

وفي عام 1870 انعقد مؤتمر لهذه البعثة في القاعة البيضاء بلندن اشتركت فيه علاوة على مندوبي البعثة المذكورة عدد من قساوسة البعثة التبشيرية في الهند بدعوة خاصة فقدم في هذا المؤتمر كل من هاتين البعثتين تقريرها على حدة وقد نشر ذلك في السنة نفسها باسم مقدم الأمبراطورية البريطانية في الهند.

وهانحن نقدم لقرائنا الكرام بعض المقتبسات: تقري رئيس البعثة السير وليم هنتر:

ص: 33

من عقيدة المسلمين الدينية أنهم لا يمكن أن يعيشوا تحت حكم أجنبي ويرون من واجبهم الديني القيام بالجهاد ضد الحكم الأجنبي، وبفكرة الجهاد هذه فإن المسلمين فيهم جأش كبير وحماسة شديدة وهم مستعدون للجهاد في كل وقت وباختصار فإنه من الممكن أن تثيرهم فكرتهم هذه ضد الحكومة في كل لحظة.

تقرير القساوسة:

إن أغلبية ساحقة من سكان الهند ميالة بطبيعتها إلى الاعتقاد في مشايخ الطرق وعلى هذا إذا نجحنا في الحصول على خائن من المسلمين أنفسهم يستعد للقيام بدعوى النبوة الظلية فإنه لابد أن يلتف حوله وينضم إلى حلقته آلاف من الناس بكل سهولة، والأمر الذي له الأهمية الأساسية في هذا الشأن هو جعل أحد المسلمين مستعدا للقيام بهذه الدعوة.

وهذه المشكلة إذا توصلنا إلى حلها فإننا نستطيع أن نربي نبوة هذا الشخص ونتخذ الوسائل اللازمة لترقيتها تحت ظل الحكومة.

وقد سبق أن هزمنا كل حكومة محلية في القارة بحكمتنا العلمية، لقد كنا في مرحلة غير التي نحن الآن فيها وقد تم لنا اليوم السيطرة على كل شبر من أرض الهند، وقد استتب الأمن واستقر السلام في ربوعها؛ فعلينا أن نتبع في الظروف الراهنة مخططا يسبب الفوضى والتفرق بين سكان هذه القارة.

قراؤنا الكرام:

الإنكليز عدو الإسلام فقد خطب كليد ستون رئيس وزراء بريطانيا في البرلمان وقال والمصحف الكريم في يده: لا يمكننا أن نحكم بهدوء وطمأنينة ما زال هذا الكتاب في العالم، ورمى المصحف على الأرض عليه لعائن الله.

لقد كان الجهاد حسب تعاليم القرآن الكريم فريضة مقدسة لدى المسلمين ملأت سكان القرى والبوادي من جزيرة العرب شجاعة وإيمانا حتى احتلوا عروش قيصر وكسرى.

فلذا أعداء الإسلام بيتوا الخطط وحاكوا الدسائس والمكائد ليبحثوا عن خائن من بين المسلمين يدعي النبوة يلغي فريضة الجهاد ويجعل طاعة سيده الإنكليز فريضة مقدسة في أعناق المسلمين.

ص: 34

فمن واجبكم أيها القراء أن تفكروا قليلا لتعرفوا من هو هذا الخائن الذي قام من بيننا بدعوى النبوة فألغى فريضة الجهاد وحرم على المسلمين الخروج على الإنكليز؟.

ألا وهو المتنبي غلام أحمد القادياني فاعتبروا يا أولي الأبصار.

ص: 35

الشباب

بقلم الدكتور محمود بابللي

رحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي لقوله:

شباب قنع لا خير فيهم

وبورك في الشباب الطامحينا

1-

عنصر الشباب:

عنصر الشباب هو عنصر الحياة المتدفقة، عنصر الفعالية الوثابة، عنصر الأمل الباسم والغد المشرق، العنصر الذي تبنى عليه الأمة مستقبلها، العنصر الذي يسجل في التاريخ أنقى وأنصع صفحاته، هذا العنصر هو الذي نهيب به أن يعيد لهذه الأمة ماضيها الزاهر، وأن يحقق في حاضره ما نعتز به في مستقبلنا القريب، وما يعتز به أحفادنا في أجيالهم المتلاحقة.

إن هذا العنصر هو معقد الرجاء ومحط الآمال وموضع الامتحان والابتلاء، إنه عنصر التضحية والفداء، عنصر الإقدام والعمل، عنصر التجديد والبناء.

وهذه الكلمات ليست كلمات حماسية عاطفية، وإنما هي حقائق نلمسها في شبابنا وننتظر منه أن يحققها في أمته بتحقيقها في نفسه.

فما هي حقيقة الشباب وما هو واجب الشباب؟

2ـ حقيقة الشباب:

إن الشباب هو في مراحل العمر أنضرها وأباها وأقواها عزيمة، وهو في جسم الأمة إكسير الحياة المتدفق الذي ترجو منه الجديد في كيانها والإعداد لمستقبلها.

وليس هناك أقدر من الشباب على تحمل التبعات والمسؤوليات، وليس هناك أقدر من الشباب على صنع العجائب.

وقد قال عنه أبو العتاهية في أرجوزته ذات الأمثال: "روائح الجنة في الشباب".

فالشباب هو الشعلة التي تحمل الضياء للأمة، وهو السواعد المفتولة والزنود العامرة، والصدور الواسعة والقامات المرتفعة الفارهة، هو عنصر الجمال وعنصر القوة وعنصر الإرادة والتصميم، وهو خلاصة الدم النقي الفوار.

وقيل في الأمثال العربية تذكرة لما هو عليه حال الشباب وتبصرة لما سيؤول إليه:

"أواه لو عرف الشاب، وآه لو قدر المشيب".

ص: 36

ولابد يوما أن يزول هذا الشباب، وأن يندم صاحبه على ما فرط في أيامه، وعندئذ يتمثل قول أبي العتاهية:

بكيت على الشاب بدمع عيني

فلم يغن البكاء ولا النحيب

فيا أسفا أسفت على شباب

نعاه الشيب والرأس الخضيب

عريت من الشباب وكان غضا

كما يعرى من الورق القضيب

فياليت الشباب يعود يوما

لأخبره بما فعل المشيب

هذه هي حقيقة الشباب، فما هو واجبه؟

3ـ واجب الشباب:

إن من أولى واجبات الشباب أن يحافظوا على هذا الشباب وأن يستفيدوا من هذا الشباب لقوله صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك

" [1] .

وأن يعرفوا ما هي قيمة الشباب وما هو أثره في كيان الأمة وليس للشباب أن يلهو في وقت الجد وليس له أن يتقاعس عن العظائم في كل الأمور وليس له أن يتواكل أو يتردد أو يسوف وإنما هي العزيمة والإقدام والعمل، لأنها من طبيعة الشباب إن للشباب مثلا أعلى تتوق إلى تحقيقه نفوسهم فيجب أن لا تقصر هممهم عن السعي إليه، ونفوس الشباب تواقة إلى المجد، وإلى إحراز البطولات وتحقيق العظائم العلمية في شتى الميادين الاجتماعية والثقافية والعسكرية والفنية والاقتصادية.

إن المثل الأعلى للشباب أن يكونوا رواد هذه الأمة في شتى العلوم والمعارف وأن لا يرضوا لأنفسهم ولأمتهم دون الثريا مقعدا وهذا لا يتحقق لهم إلا إذا تخلقوا بالأخلاق الحميدة والعزيمة الصادقة والإرادة الفولاذية، والصبر الطويل والعمل الدائب.

وإن الأمور الحسنة لا تخفى على ذي عين بصيرة، لذلك فإن من واجب الشباب أن يقبلوا من أنفسهم أو من غيرهم أو من محيطهم إلا ما هو صالح ونافع وجميل.

إن التعاون على تأييد الحق ونصرته والأخذ على يد الظالم هو من طبيعة الشباب لأن الشباب لم تتركز فيه الرذائل والمفاسد فهو لا يزال في طهره ونقائه وكل ما لا يتفق وفطرته السليمة أمر منكر ومكروه.

ص: 37

إن واجب الشباب أن تتفتح بصيرته على الهدى والأخلاق الحسنة، وأن يبتعد عن سفاسف الأمور، وأن يتخذ لنفسه مثلا أعلى يعمل جاهدا على تحقيقه.

والمثل الأعلى له مجالات واسعة ففي كل حقل لابد أن يكون فيه من يستحق أن يكون مثلا أعلى.

وخير الأمثلة العليا للشباب المسلم الصحابة الكرام الذين قال عنهم الرسول - صلى اللهعليه وسلم -: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".

وسير الصحابة نماذج عالية من علو الهمة ومن البذل ومن التضحية ومن محاسبة النفس ومن التمثل والتحلي بمحاسن الأخلاق ومن الاستهانة بزخرف الحياة الدنيا ومن الحرص على كل ما يرضي الله سبحانه ما إن تمسك به الشباب لاستقام توجيههم، ولتطبعت نفوسهم على هذه الصفات والمزايا ولحسن مردودهم وصلحت عاقبتهم.

وبعد ذلك يحق لهذا الشباب أن ينطلق في ميادين الحياة جميعها متسلحا بهذه الأخلاق الحسنة والصفات الممتازة، وأن يكون مثلا فيها لمن يعاشره أو يعمل معه أو يتصل به.

ذلك لأننا مفتقرون إلى هذه العناصر المثالية، ولا يستطيع تأمينها إلا الشباب فيما إذا وعوا هذه الحقيقة.

والشيء الذي يساعد الشباب على تأدية رسالته في كل ميدان يقتحمه هو محاسبته لنفسه وتحققه من صحة المنطلق الذي باشر السير فيه.

وهذه المحاسبة لها أهميتها، لأن الشباب لا يعدم من نفسه أو من أصدقائه أو من معارفه أو من محيطه من يجعله موضع موازنته وقياسه، وسبل النجاح مفتحة لكل من يريد سلوكها، ولكنها تحتاج إلى همم عالية وإلى إرادة وعزم وإلى تصميم ومباشرة وإلى صبر ودأب.

ص: 38

ومتى خطط الشباب لنفسه منطلقه في هذه الحياة عليه أن ينظر إلى أعظم شخصية سبقته في هذا المنطلق، وأن يتخذ منها مثالا على إمكانية بلوغ هذه المنزلة والتفوق عليها، وأن يتعاون مع من يساعده على سلوك هذا المنطلق ويتجنب من لا يفيده في ذلك، وأن يحرص كل الحرص على أن لا يفوت على نفسه الفرصة، لأن ما ضاع منه لا يعود، وإنما قد يتداركه بعض الشيء، والمثل العربي يقول:"ما ضاع من مالك أو من وقته ما علمك"

وليستفيد الشباب من تجارب من سبقهم في هذا المنطلق، وليتعرفوا ما ارتكبه البعض منهم من أخطاء، وليعملوا على تجنبها، لأن تجارب من سبقنا في مضمار الحياة هي دروس نافعة لنا، إن استفدنا منها تجنبنا كثيرا من الزلل ووفرنا على أنفسنا كثيرا من الجهد، ولم نضيع من الوقت ما نحن بحاجة إلى الاستفادة منه.

والشباب المتعلم المثقف هو أقدر على تحمل المسؤولية وتقدير التبعات، وهو أولى من غيره بأن يقدر هذه المعاني ويوليها حقها، لأن له من ثقافته ما يدفع به إلى سلوك سبل المجد في كل منطلق، وهو موضع أمل الأمة ومحط أنظارها؛ فإذا ما جعل التفوق هدفه وصل في النتيجة إلى تحقيق هذا الهدف، وكان أسوة لغيره فيه، لأن طبيعة النفوس تواقة إلى تقليد غيرها (ولو بالظاهر) ، وغالبا ما يكون التقليد في المظاهر.

والذي يؤكد لنا هذه الظاهرة تسابق الناس إلى تقليد بعضهم بعضا في كثير من المظاهر الاجتماعية انسياقا وراء عدوى التقليد، دون أن يحكموا في ذلك دينهم أو أن يأخذوا الأمر عن بصيرة ويتقن من جدواه.

فللمظاهر تأثيرها الفعال على النفوس، ولها عدواها الخاصة بها، حتى أنها لتسري في المجتمع سريان النار في الهشيم (تلتهم الأخضر واليابس) إلا من رحم ربك، فيختلط الأمر على الرجل الحكيم، حتى يظن أن مجاراة الناس في هذه المظاهر خير من مخالفتهم.

ص: 39

ولهذا تكون المظاهر في الأمور المحمودة أجدى على الأمة من غيرها، لأن الأغلبية ستندفع في تقليدها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كان قادة الأمة في طليعة المتمسكين بهذه المظاهر المحمودة، لأن غالبية الناس تبع لهم.

ولنأخذ مثلا على هذه المظاهر المحمودة حرص الناس على التعلم وشدة إقبالهم عليه في الآونة الأخيرة، فلو لم يكن منشأ هذه الظاهرة من علية القوم لما رأينا هذا الإقبال الشديد عليه من عامة الناس.

والتزود من العلم شيء محمود لذاته ولا حدود له إطلاقا، فهو أوسع منطلق وأعوده بالنفع، ورب العالمين يوجه رسوله الكريم لأن يتزود من العلم بقوله جل شأنه:{وقل رب زدني علما} .

والعلم لا يقتصر على تعلم القراءة والكتابة، لأن تعلم القراءة والكتابة هو مفتاح العلم ووسيلته، ومن يتوقف عند هذه الحدود أخرى به أن يعد من الأميين.

وميدان العلم فسيح وفسيح جدا، ولا يستطيع أن يلم به فرد أو مجموعة أو أمة أو جيل، ولابد له من جهود جبارة ومن تعاون شامل، ومن دأب واستمرار، لأنما توصلت إليه المدنية الحاضرة من علوم وفنون وهو حصيلة الأزمان السابقة وجهود العلماء المتلاحقة منذ تفتح الإنسان على العلم حتى الآن.

وكل شيء يحتاج إليه الإنسان في حياته نجد للعلم أثرا فيه، وكلما ازدادت ثقافة الأمة ازدادت أحوالها تحسنا.

والعلم لا يأتي إلا بالتعلم، والتعلم لا يأتي طفرة، وإنما لابد له من سنين طويلة ومن جهد ومن دأب واستمرار لأن طالب العلم نهم لا يشبع منه أبدا، فهو لذلك عندما يذوق لذته يندفع إليه دون تردد، ويستمر فيه دون انقطاع، وأقدر من يعي هذه الحقائق هم شباب الجامعات وطلاب المعاهد العليا على اختلاف أنواعها.

وإنني أخص بهذه الكلمة هؤلاء الشباب الذين هم رواد هذه الأمة وطليعة نهضتها، وموضع ثقتها ومقصد رجائها في تحقيق كل ما تهدف إليه في مستقبلها القريب والبعيد.

ص: 40

والعلوم النظرية لا تغني عن التزود من العلوم العملية، ولكل منهما ضرورة، وقد يفرض واقع الأمة على الشباب أن يتداركوا ما تحتاج إليه الأمة من أحد هذين النوعين أكثر من النوع الآخر.

وعلى هذا يكون التخطيط في مثل هذه الشؤون أمرا ضروريا مفروضا على ولاة أمر الأمة.

ولابد من تضافر الجهود في هذه السبيل، لأن دفع الآباء لأبنائهم في منطلق واحد أمر لا تحمد نتيجته، ولابد من تنويع المنطلقات وتوفير الأسباب لبيان ضرورتها وفائدتها.

واقتحام منطلقات جديدة قد يحقق فرصا ومنافع لكثير من الشباب جميعهم أو أغلبهم في منطلق واحد أو ما كانت لتتحقق لو أنهم اندفعوا في منطلقات مسبوقة.

وللأمة أمجاد ومفاخر، ولا يحافظ عليها إلا تلاحق الأمجاد والمفاخر، فإذا انطفأت الشعلة في الشباب بانصرافهم عن هذا الواجب العظيم، عاشت الأمة ذليلة في حاضرها، ودب اليأس إلى باقي عناصر الأمة، وتغلب الشك على صدق نسبة هذه الأمجاد إلى أصول هؤلاء الشباب، وطمع الغير في السيطرة والتغلب على هذه الأمة، ويكون السبب في هذا كله تقريبا تفريط الشباب في واجبهم، وكم لهذا التفريط من نتائج سيئة وعواقب وخيمة.

ولذلك أهيب بهؤلاء الشباب وأخص بقولي المثقفين منهم، أن لا يفتحوا ثغرة في صفوف هذه الأمة، وأن يكونوا مفاتيح خير لها في كل منطلق وميدان ومغاليق شر لكل ضلالة وفساد وانحلال.

وأن يكونوا على يقين من حسن النتيجة فيما لو صدقوا أنفسهم ولم يخدعوها بالأماني، وبذلوا في سبيل ذلك من الجهد والدأب والسهر ما يهون أمام الهدف الذي ينشدونه، وهو إحلال هذه الأمة في مكانها الذي أعده الله لها في قوله جل وعلا:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} .

ص: 41

والله سبحانه وتعالى يدعونا إلى العمل ويحضنا عليه ويجعل بعضنا رقيبا على بعض ويجعل الرسول شهيدا علينا وهو شهيد على الجميع يوم تسأل كل نفس عما أسلفت: {وقل اعملوا فسير الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

من حديث رواه الترمذي مرسلا.

ص: 42

أضواء على المذاهب الهدامة (الماسونية)

بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد

المدرس بكلية الشريعة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وحزبه.

أما بعد:

فهذه أضواء على المذاهب الهدامة التي استشرى خطرها على الإنسانية وعظم ضررها على جميع المجتمعات.

وهذه المذاهب الهدامة تتمثل الآن في الماسونية وفروعها من الشيوعية والاشتراكية والصهيونية، كما تتمثل كذلك في القوميات وعلى الأخص في بلادنا تتمثل العربية التي أسسها دعاة النصرانية وعقدوا لها أول مؤتمر في باريس سنة 1910م.

وسنتكلم إن شاء الله على كل مذهب من هذه المذاهب لنلقي الضوء عليه ليهلك من هلك عن بينة ويحي من يحي عن بينة، وأملا أن يعرف أبناؤنا مواقع الشر حتى لا يقعوا فيه على حدّ قول القائل:

عرفت الشر لا للشـ

ر لكن لتوقيه

ومن لا يعرف الشـ

رمن الناس يقع فيه

الماسونية جمعية سرية يهودية الأصل، ومعنى ماسون أو فرمسون:(البناؤون الأحرار) .

وقد أسس المحفل الأعظم لهذه الجمعية لأول مرة في بريطانيا عام 1717م، وقد زعم دعاتها أنهم يهدفون إلى مبادئ ثلاثة هي: الحرية، والإخاء، والمساواة.

ومقصودهم من الحرية في الواقع أن يتحرر الناس من أديانهم وأن يرتكب الإنسان ما شاء له هواه دون رادع أوزاجر، وأن يخالف جميع ما تأمر به الشرائع، وأن تفعل المرأة ما شاءت من الزيغ والرجس والفساد والتهتك والانحلال تحت ستار الحرية

كما أن مقصودهم من الإخاء هو محاربة روح التمسك بالدين وأنه لا فرق بين يهودي ونصراني ومسلم ومجوسي وبوذي وشيوعي فالناس كلهم إخوان وعليهم أن يحاربوا أي استمساك بأي دين ويسمون من يلتزم مبادئ دينه بأنه متعصب مذموم.

ص: 43

كما أن مقصودهم من المساواة كذلك هو ملء قلوب الفقراء بالحقد والضغينة ضد الأغنياء، وملء قلوب الأغنياء بالحقد والضغينة على الفقراء.

وبعد مائتي سنة تقريبا من وجود المحفل الأعظم الماسوني في بريطانيا انتشرت المحافل الماسونية في العالم ولا سيما في فرنسا وروسيا وأمريكا والهند.

حتى صار في أمريكا وحدها عام 1907م أكثر من خمسين محفلا ماسونيا رئيسيا تتبعها آلاف المحافل.

ثم نشرت المخابرات الإيطالية عام 1927م في عهد موسوليني أنها اكتشفت 36 ألف جمعية ماسونية في العالم يتبعها ملايين الناس.

وقد عمد الماسون إلى اصطياد رجال ونساء إلى فخاخهم من جميع الديانات ممن يأملون فيهم أن يخدموا أهدافهم في بلادهم، فإذ تمت تجاربهم على العضو وأيقنوا أنه يستطيع أن يكون عبدا مطيعا لمبادئهم وأغراضهم بذلوا حوله كل ما يستطيعون من وسائل الدعاية لتركيزه.

وصار له عندهم وصف كسكرتير أعظم أو أستاذ أو قطب أو قطب المحفل الماسوني الذي ينتمي إليه، ولا يصل العضو إلى هذه المراتب إلا بعد اختبار شاق، فهم في بادئ دعوة العضو وبعد أن يدرسوه نفسيا يدخل العضو في سرداب طويل مليء بالجماجم الإنسانية المعلقة بالسيوف والخناجر التي تكاد تمس رأسه وهو مار من تحتها ويقال له: هذه رؤوس من باحوا بالسر.

ثم تعصب عيناه ويتسلمه رجلان قويان نشيطان ويضعان حبلا على عنقه كأنهما يريدان شنقه وهو مستسلم لهما ثم يدفعانه إلى غرفة سوداء فيرفعان غطاء عينه ليرى صندوقا ثم يدخلانه في الصندوق وحبل المشنقة في عنقه إذا وجدوا منه استسلاما كاملا فعلوا به كقوم لوط، فإذا لم يجدوا منه اية مقاومة اعتبر ناجحا واعطي الدرجة التي يستحق

وقد بدأ الماسون في تشكيل هيئات أخرى لتظهر في صورة غير ماسونية كان من بينها الشيوعية الحديثة والاشتراكية والصهيونية.

ص: 44

فهذه المذاهب الثلاثة تلتقي مع الماسونية في أغراضها وأهدافها، وإن تشكلت بأشكال مختلفة، ولذلك رأينا شعار الشيوعية من (المنجل) شبيها بشعار الماسونية من المطرقة والسدان وآلات الهدم والبناء.

ولذلك رأينا دعاة الاشتراكية في البلاد العربية مع اختلافهم يرددون نفس شعار الماسونية فهتافهم: الحرية والوحدة والاشتراكية، وهي في الحقيقة عين ما يردده الماسون: الحرية والإخاء والمساواة.

فالهدف الأول لم يختلف حتى في الاسم، والهدف الثاني معناه عندهما واحد، وكذلك الهدف الثالث.

والماسون يتفقون مع الصهيونية في أنهما يعملان حقيقة لإعادة بناء هيكل سليمان، كما أن الأفعى رمز للماسونية والصهيونية جميعا، وقد تمثل ذنبها في القدس ورأسها يدور ليبتلع العالم ويرجع ليلتقي بالذنب بعد أن تقضي هذه الأفعى على مقدرات جميع الأمميين.

وقد قسمت الماسونية جمعياتها حسب مخططاتها وأغراضها فبعض هذه الجمعيات لإثارة الطلاب وبعضها للاستيلاء على أفكار الصحفيين والكتاب والمؤلفين، وبعضها لإثارة العمال والفلاحين وبعضها مختصة بالعسكريين، وبعضها لإحداث الانقلابات والفتن والقلاقل في الدول إلى غير ذلك.

فالماسون وراء الثورة الفرنسية وهم وراء مذبحة استنبول التي ذبح فيها 68ألف مسلم عام 1908م وهم كذلك وراء حرب البلقان عام 1912م، والتي أثارت كذلك الحرب العالمية الأولى، وهم كذلك مدبروا الانقلاب ضد السلطان عبد الحميد، وهم كذلك مزيلوا الخلافة الإسلامية.

كما أن الماسون قد يؤيدون دعوات ليسوا في الأصل منشئيها إذا وجدوا أن هذه الدعوات تخدم بعض أغراضهم ولو إلى حين.

ص: 45

ولذلك أيدوا داروين في نظرية التطور والارتقاء وبذلوا كل دعاية ممكنة لترويج مذهبه الفاسد، لأنه يحدث بلبلة ضد الأديان؛ كذلك أيدوا دعاة القومية العربية مع أنها في الواقع مؤسسة نصرانية كما سيجيء، ومع أنها كذلك تخالف بعض مبادئهم ضد الأمميين، لكنها لما كان ترويجها يحطم روح الدين في نفوس أهلها ويؤدي إلى محاربة الأديان قام الماسون بالترويج والدعاية لها.

وكان من أعظم وسائل الماسون هو الاستيلاء على وسائل الدعاية في العالم من الصحافة والإذاعة والكتابة وغيرها من شؤون الإعلام.

كما أن من أعظم وسائلهم الاستيلاء على المناصب الحساسة في إدارة الدول بوضع خبراء من اليهود أو مؤيديهم في تلك المناصب، وإليكم بينا بأسماء ووظائف بعض هؤلاء كما جاء في كتاب أسرار الماسونية للجنرال جواد رفعت آتلخان:

(مكتب السكرتارية لهيئة الأمم المتحدة وهو أهم شعبة فيها)

يهودي الدكتور أج اس بلوك رئيس قسم التسليح 1

يهودي أنتوني كولات رئيس الأمور الاقتصادية 2

يهودي أنش كار روزنبرغ المشاور الخاص للشؤون الاقتصادية 3

يهودي دافيد ونتراوب رئيس قسم الميزانية 4

يهودي كارل لا جمتي رئيس قسم الخزائن والواردات 5

يهودي هنري لانكير معاون سكرتير الشؤون الاجتماعية 6

يهودي الدكتور ليون استيننك رئيس قسم المواد المتبادلة 7

يهودي الدكتور شيكويل رئيس قسم حقوق الإنسان 8

يهودي أج أي ويكوف رئيس دائر مراقبة البلاد غير المستقلة 9

يهودي بنيامين كوهين مساعد السكرتير العام لقسم الاستعلامات العامة 10

يهودي جيء بنيوت ليفي رئيس قسم الأفلام 11

يهودي الدكتور إيفان كرنو مساعد السكرتير العام لشعبة القوانين 12

يهودي أبراهام أج فيللر رئيس الشعبة القانونية 13

يهودي جي سآنذ برك مشاور شعبة القانون الدولي 14

ص: 46

يهودي دافيد زايلو دويسكي رئيس قسم المطبوعات 15

يهودي جرجورا بنوفيح رئيس قسم المترجمين 16

يهودي ماركس ارامو فيج رئيس قسم التصاميم 17

يهودي مارك شولبر رئيس قسم 18

يهودي بي سي جي كن مدير المحاسبة العامة 19

يهودي مرسيدس بركمن مدير الذاتية 20

يهودي الدكتور أي سنجر رئيس قسم المراجعات 21

يهودي باول رادزياتكو رئيس أطباء قسم الصحة العالمية 22

(مركز الاستعلامات في هيئة الأمم المتحدة)

يهودي جرري شبيرو رئيس قسم الاستخبارات لمركز جنيف 1

يهودي بي. ليتفكر رئيس قسم الاستخبارات لمركز الهند 2

يهودي هنري فاست رئيس قسم الاستخبارات لمركز الصين 3

يهودي الدكتور جالوس رئيس قسم الاستخبارات ستاوسكي لمركز وارسو 4

(شعبة الأقسام الداخلية لهيئة الأمم المتحدة)

يهودي دافيد آي. مريس رئيس الأقسام الداخلية الدولية 1

(الحقيقي موسكوفيج)

يهودي في. كبريل كارسز رئيس الأقسام الداخلية لمنطقة خط الاستواء 2

يهودي جان روزنر مخابر بولونيا لشعبة الأقسام الداخلية (مؤسسة التغذية والزراعة)

3

يهودي أندري ماير رئيس شعبة التغذية والزراعة 4

يهودي أي بي جاكسون الممثل الدانماركي في شعبة التغذية والزراعة 5

يهودي آي فريس الممثل الهولندي في شعبة التغذية والزراعة 6

يهودي آم ام لييمين رئيس شعبة التعمير 7

يهودي كير واكاردوس رئيس شعبة التعايش 8

يهودي بي كاردوس رئيس شعبة المتفرقات 9

يهودي أم أزاكل (حسقيل) رئيس شعبة الاقتصاد التحليلي 10

يهودي جي بي كاكان المشاور الفني لشعبة الغابات 11

يهودي أم أي هارير من رئيس شعبة صيانة الغابات 12

يهودي جي ماير رئيس قسم التغذية 13

يهودي أف ويسل رئيس قسم الإدارة 14

(اليونسكو مؤسسة التعليم والثقافة والفن)

ص: 47

لقد ثبت أن شعبة التعليم والثقافة والفن تدار من قبل شخصيتين يهوديتين، وهما:

يهودي آلف سومر فيلد رئيس لجنة التبادل الخارجي 1

يهودي جي ايزنهارد رئيس لجنة تنظيم الثقافة العالمية 2

وهناك آخرون في هذه الشعبة وهم:

يهودي ام لافهن رئيس شعبة الثقافة العالمية 1

يهودي اج كابلن رئيس قسم الاستعلامات العام 2

يهودي س اج ويتز رئيس قسم الميزانية والإدارة 3

يهودي اس سامول سيليكي رئيس شعبة الذاتية 4

يهودي بي ابراميسكي رئيس شعبة الإيواء والسياحة 5

يهودي بي ويرمل رئيس مكتب هيئة التعيين 6

يهودي الدكتور أي ويلسكي رئيس المصلحة الفنية لشعبة صحارى آسيا 7

(بنك الإعمار الدولي)

يهودي ليونارد بي رست المدير الاقتصادي للبنك 1

يهودي لو يولد جميلة الممثل الجيكوسلفاكي في مجلس شورى الإدارة 2

يهودي أي يولاك عضو الشورى لمجلس الإدارة 3

يهودي أي ام جونك الممثل الهولندي في مجلس شورى الإدارة 4

يهودي بي منديس الممثل الفرنسي في مجلس شورى الإدارة 5

يهودي جي ام برنلبس ممثل بيرو في مجلس شورى الإدارة 6

يهودي ام ام مندلس سكرتير بنك الإعمار الدولي 7

يهودي وي ابراموفيج ممثل يوغسلافيا في مجلس شورى الإدارة 8

(صندوق النقد الدولي)

وهذه المؤسسة تشكل العمود الفقري لهيئة الأمم المتحدة:

يهودي جوزيف كولدمن العضو الجيكوسلفاكي في هيئة الإدارة 1

يهودي بي منديس الممثل الفرنسي في هيئة الإدارة 2

يهودي كميل كات المدير العام لمؤسسة صندوق النقد الدولي 3

يهودي لويس رامينسكي مدير إدارة قسم كندا في المؤسسة 4

يهودي دبل يـ كاستر مدير إدارة قسم هولندا في المؤسسة 5

يهودي لويس ألتمن معاون مدير العام 6

يهودي أي أم برنستن مدير قسم التدقيق 7

ص: 48

يهودي ليو ليفانفال المشاور الأقدم للمؤسسة 8

يهودي جوزيف كولد المشاور الأقدم للمؤسسة 9

(مؤسسة اللاجئين الدولية)

يهودي ماير كوهن المدير العام لقسم الصحة والمداواة العالمية 1

يهودي بيير جا كو يسن المدير العام لإعادة واستيطان اللاجئين 2

(مؤسسة الصحة العالمية)

يهودي زت دوستجمن رئيس الشعبة الفنية 1

يهودي جي ماير رئيس قسم الطب 2

يهودي دكتور ام كودمن المدير العام لقسم الجراحة 3

يهودي أي زارب المدير العام للمؤسسة 4

(مؤسسة التجارة العالمية)

يهودي ماكس لوتنز رئيس اللجنة الداخلية 1

يهودي أف سي وولف رئيس قسم الاستعلامات الدولية 2

هذه أضواء على المذهب الأول من المذاهب الهدامة وإلى اللقاء إن شاء الله في العدد القادم للحديث عن الشيوعية المذهب البكر للماسونية.

ص: 49

حقائق عن نيجيريا

بقلم الطالب: عبد الرشيد هدية الله الاووى النيجيري

نيجيريا اسم مأخوذ من نهر (نيجر) الممتد من بلاد النيجر، ويصب هذا النهر من جبال (فوتا جالون) في أراضي غينيا الشقيقة.

ولما كان نيجر مستمدا من (نيغرو) بمعنى الزنجي الأسود، أطلق هذا الاسم على النهر المنسوب إليه فأصبح نهر (نيغرو) أي نهر (نيجر) .

وكان لهذا النهر الكبير شهرة عظيمة كما كان من أكبر الأنهار بنجيريا؛ وهو نهر استفاد منه كثير من المكتشفين القدماء ليصلوا إلى بعض بلدان إفريقيا حيث لا وسائل أخرى للتنقلات، ومن أولئك المكتشفين (منغو بارك) وقد سافر منه مرتين يستكشف منبع هذا النهر: المرة الأولى 1796م، والأخرى 1805م، فخسر نفسه قبل بلوغ المرام.

ونظراؤه في ذلك الميدان (كلابارتن) و (لا ندر) و (بارث) وغيرهم فتتبعوا نيجر إلى ان وصلوا إلى مصبه.

وبالاستقراء والاطلاع على كتب تاريخ نيجيريا نرى أن الأسبان ثم الإفرنج هم الذين أطلقوا على نيجيريا هذا الاسم.

ولا يزال الفرق بين اسمي الأرضين المتجاورتين: (نيجر) و (نيجيريا) دقيقا جدا ولا سيما عند النسبة إليهما؛ والسبب في هذا هو اشتقاق الاسمين من اسم النهر.

موقعها جغرافيا:

تقع نيجيريا ما بين 4و41 شمالا من درجة30 من خطوط العرض أسفل خط الاستواء، تحدها من شمالا بلاد (نيجر) ، وشرقا بلاد (الجمهورية الكامرونية) ، وغربا بلاد (الداهومي) ، وجنوبا المحيط الأطلسي.

وهي من أشهر الأقطار التي تنتج قسطا كبيرا من المنتجات العالمية، فريدة في نظامها وتقدمها المتواصل في قارة إفريقيا خصوصا وفي هذا المعمور أجمع.

ص: 50

ومدينة (أبادن) عاصمتها الغربية تعتبر أكبر وأوسع المدن الرئيسية في إفريقيا الاستوائية، وعاصمتها الرئيسية (جزيرة لاجوس) الجميلة بمينائها الكبير وبقصورها الشاهقة وبناياتها العالية، وهي آخر ما انتهت إليه هذه المدنية الحديثة وتلك الحضارة العصرية، وفيها مجلس للنواب ومجلس للشيوخ، كما فيها محكمة عليا، ويسكنها رجال السلطة التشريعية والسفراء من جميع أنحاء العالم، والمتعمقون في شتى العلوم الثقافية والتجار الأثرياء من الأجانب والمدنيين ورجال الدين والجماعات الإسلامية، مثل جمعية "أحمدية"، و "أنصار الدين"، و"جماعة إسلامية"، و"نور الدين"، وغيرها من الجمعيات.

وهي بلاد مطيرة تنعم بأمطار غزيرة طوال السنة.

مساحتها:

356،669 ميلا مربعا، وتعادل أربع مرات حجم مساحة المملكة البريطانية المتحدة بالتقريب.

سكانها:

56 مليون نسمة، وهذا العدد المذكور يوافق تعداد عام 1963م وهو الأخير.

المسلمون منهم75%، والباقي يضم المسيحيين وعبدة الأوثان وغيرهم من البدائيين، بمعنى الذين ما دانوا بأي دين من الأديان، بل لا يعرفون سوى التناسل والعمل، وفيهم ينجح تبشير المبشرين المسيحيين الذين يدخلون المنازل لغرس فكرتهم الخادعة في قلوب ساكنيها.

انقسام نيجيريا باعتبار القبائل والمناطق:

انقسمت نيجيريا إلى أقاليم ثلاثة سابقا، إقليم الشمال والغرب والشرق، وفي خلال سبع سنين خلت تفرعت من الغرب منطقة تدعى "الغرب الأوسط"، وسكانها أقل من سكان الأقاليم الثلاثة الأصلية، وهذه المناطق تتألف من حوالي مائتي قبيلة تتكلم بعدة لغات ولهجات مختلفة.

والإقليم الشمالي يبلغ سكانه: 39،777،986 ومساحته: 381،783.

والإقليم الغربي يبلغ سكانه: 10،378،500 ومساحته: 45،376.

والإقليم الشرقي يبلغ سكانه: 13،388،646 ومساحته 46،065.

ص: 51

ويبلغ سكان العاصمة الفدرالية (لاجوس) : 675،353 وسكان منطقة الغرب المتوسط:3 ،533 ،337.

أهم القبائل وسكانها:

1ـ قبيلة هوسا (7540000) وموطنهم الإقليم الشمالي.

2ـ قبيلة أيبو في الشرق وعددها (7536000) .

3ـ قبيلة يوربا في الغرب والجنوب وعددها (5849000) .

4ـ قبيلة أيجو على مقربة من الغرب ويبلغ عددها (3،000،000) .

5ـ قبيلة فلاتة في الشمال وهي (3،030،000) .

6ـ قبيلة الكانوري (310،000) .

عادات هذه القبائل:

اشتهر أهل الشمال بالكرم والوفاء وتحمل المكاره التي تحدثها النوازل المفجعة والتنقلات، وهم أهل نسك وعبادة، ومعاملاتهم لغيرهم حسنة جدا، وبالشمال قبائل كثيرة، أشهرها هوسا وفلاتة وبرنو ونوفى، وهم مولعون بتجارة الطنبول أي "غورو"، مع أن أشجاره لا توجد لديهم بل في الغرب، والفول السوداني وبتربية المواشي من الإبل والبقر والغنم، وبزراعة الدخن والذرة والأرز والبقول والخضار وبحياكة الثياب والخياطة والحدادة والجزارة وصنعة القلانيس، وتكثر فيهم السياحة والتجول حتى إنه لا تخلو بلدة من قبيلة هوسا والفلاة في غرب إفريقيا وفي بعض البلدان العالمية، ولغتهم الهوساوية وأصبحت من اللغات الحية تدرس في بعض الجامعات والمدارس العالمية.

وقد غلب على كثير من أبناء الشمال تلك الحضارة الحديثة إذ نبغوا في علوم وفنون شتى، وحصلوا بذلك على مناصب رفيعة وتقديرات فائقة.

وقبائل يوربا مشتهرة في قديم الأزمان بقلة الصبر وعدم تحمل المصائب وسرعة الانتقام من خصمهم إن مد إليهم يد الإيذاء والخيانة.

والسبب تأخر الإسلام في الدخول إلى مملكتهم، وبعد نعمة الإسلام تخلقوا بفضائل الأخلاق وقويت فيهم تعاليم الإسلام كما تشهد صفحات التاريخ القديمة بشجاعتهم ومثابرتهم وثباتهم أمام الأعداء أيام الحروب.

وهم قوم يرأسهم أمير منهم ويبالغون في إكرامه بأنواع الحفاوة والتكريم.

ص: 52

وكل قبيلة تخضع لسيطرة رئيسها الذي كثيرا ما يفرط في الاستعلاء عليها خوفا من أن تخرج عن سبيل آبائها الأوليين.

وهذه العادات والتقاليد وأمثالها تعم البلاد كما لا يزال أثرها موجودا إلى الآن.

وأما الصغار ولاسيما الطلاب منهم فقد بلغ خوفهم من مشايخهم أو كبارهم إلى درجة لا يستحسنها الإسلام، حيث لا يسلمون عليهم ونعالهم بأرجلهم، بل بعد أن يخلعوها مهابة وتكريما ثم يبركون وهم ناكسون رؤوسهم حفاوة وإجلالا.

وهذا مما أخذ عليهم لأنهم علموا ببطلانه إلا أنه من صعب عليهم فراقه.

ولا يخلو إقليم من نوع من هذا التسليم والتبجيل، ماعدا الذين رحمهم ربي مثل أهل "سوكوتو"، إحدى مدن الشمال الرئيسية، فقد اشتهر بين علمائها عدم البروك وخلع النعال منذ عهد بعيد، والآن ولله الحمد والمنة قد نشطت حركات تقاوم هذه العادات التي لا يقرها كتاب الله الكريم ولا سنة ولا إجماع.

حرفتهم:

أهمها الزراعة ولكثرة الغابات والأراضي الرخوة الخصبة كان أكثرهم فلاحين، يكثرون من زراعة المأكولات والمطعومات ويعنون بها أكثر من غيرها.

ويزرعون كذلك بعض المنتجات النيجيرية الرئيسية ومن الثانية "كاكاو"، التي تصنع منها أصناف من القهوة والشاي مثل (فيتاكوب) و (ميلو) و (أوفالتين) وغيرها.

وهؤلاء المزارعون يجيدون زرع النخيل وعصر زيتها وزرع البقول التي تنتج منها كميات متعددة في كل عام.

ومن مزروعاتهم (كاسافا) باللغة الإنجليزية، أو أيغى باليوربا.

الشرق: - عاداته وحرفه -:

لقد شابهت مهنه التي للغرب وغيره من الأقاليم إلا أن الثروات البترولية والمعدنية يستخرج معظمها من حقوله، وله معامل أخرى يمتاز بها عن غيره.

ص: 53

وأما عاداتهم فننقل فيما يلي إلى أذهانكم نص مقالة العلامة النيجيري الجليل الشيخ آدم الألوري صاحب "موجز تاريخ نيجيريا"عن أخلاق وعادات قبائل أيبو الشرقية، قال:"وأما قبائل أيبو، فهي فطرية إلى عهد غير بعيد، وإنما استيقظت منذ قرن، ومن طباعها سرعة الغضب والاستبسال والتمرد وحب الاستقلال..وكانت قبائل متفرقة لا تجمعها أية رابطة ولا تتكون القرية إلا من أسرة واحدة لا تخضع لرئيس ولا سلطان".

كيف دخل الإسلام في نيجيريا:

إن الإسلام لم يزل في نيجيريا منذ أوائل القرن الأول الهجري كلمع تلوح في سواد عظيم، وبورود الغرباء وهم في طريقهم إلى الحج من الديار المغربية يزداد اتضاحا وكذلك بورود التجار.

إلى أن ظهر "الشيخ المغيلي"الذي فتح مدرستين عظيمتين في (كشنة) و (كونو) ولم يزل أثرهما رغم طغيان المادة واشتداد أعاصير الظلام بالحروب التوسعية العادية ورغم البدع الفاشية إلى أن ظهر "الشيخ عثمان بن فود"مع أخيه عبد الله مجددا للدين ومعيدا له أنواره الآفلة، فحارب في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وأظهره الله على معظم بلاد نيجيريا شمالا وغلابا، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، وهو جد الزعيم الشهيد "أحمدو بللو"، سردونا سوكوتو رحمه الله، وذلك في القرن الثالث الهجري.

وفيما يلي مقالة العلامة المذكور آنفا عن كيفية دخول الإسلام في نيجيريا وهي التي تزيد الموضوع وضوحا:

"لقد انبثق فجر الإسلام على سماء نيجيريا في أوائل القرن الأول الهجري الذي فتح فيه المسلمون العرب شمال إفريقيا وجزء من غربها، وقد اندفع تيار الإسلام إلى نيجيريا من منبعين؛

أولهما: من مصر عبر السودان العربي وبلاد فور وباغرمي وبرنو.

وثانيهما: من شمال إفريقيا إلى جنوب الصحراء حتى وصل إلى المناطق الغابية الساحلية".

ص: 54

ثم أضاف قائلا: "لم يكتسح الإسلام القبائل والشعوب اكتساحا ولا أدرجها إدراجا في أول دخوله، ولكنه تسلل فيها تسللا قد يتسرب إلى ناحية دون الأخرى، فتكون بجوار قبيلة مسلمة قبيلة أخرى كافرة، أو تكون في قبيلة واحدة مدينة مسلمة وبجانبها مدينة وثنية "[1] .

بعض من آثار تمسكهم بالدين الإسلامي [2] :

تعلم المسلمون الدين وما يتعلق به من أركان وقواعد، ثم تمسكوا به حق التمسك كما أنهم لم يزالوا يقيمون الشعائر الدينية.

بنوا مساجد ومدارس كثيرة، وبنوا كذلك مساجد جامعة، وفي (كنو) مسجد جامع مشهور، وفي سكوتو اثنان وفي كادونا اثنان، وفي لاجوس كذلك مساجد جامعة عدة، وكذا في أبادن التي يبلغ سكانها 600،000 مما يدل على اهتمامهم البالغ بالدين وشعورهم الحي وإيمانهم الراسخ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

أيام العيد في نيجيريا:

بهذا المشعر العظيم والذكرى الجليلة يستبين للقراء اهتمام مسلمي نيجيريا بدينهم وشعورهم المشكور نحو إحياء ذكرى ذلك اليوم الكبير الذي فرج الله تعالى فيه عن سيدنا وأبينا إبراهيم بكبش عظيم.

وإن أتيحت الفرصة للقراء فنيجيريا ترحب بهم وبشهودهم عيد الفطر أو الأضحى فيها.

يستقبل المسلمون عيدهم وهم في غمرة من الفرحة والبشر، وقبل حلوله بأسبوعين تقريبا تزين المدن كلها بأنواع من أدوات التجميل، مثل إنارتها بأنواع من مصابيح ملونة، وتعليق أعلام نيجيريا التي تتمثل في قطع صغيرة من الثياب في أكثر هذه المدن، ثم تصلح الشوارع وتمهد من جديد، وتوضع وسط كل مفترق من الطرق لوحات تحمل هذه الكلمات وأشباهها:"كل عام وأنتم بخير"، "مع تمنيات طيبة بالعام الجديد"، "عدت ياعيد مرة ثانية"، "عيد أولاد وأموال وسلامة"، وهلم جر.

يخيط المسلمون لأنفسهم وأزواجهم وأولادهم أفخر الملابس، ويشترون الأحذية وغير ذلك من حلى فاخرة جميلة وخمر أنيقة زيادة على زينة العيال.

ص: 55

ولا ينفرد أهل المدن بهذا كله، بل يشاركهم أهل الريف فيه كذلك، بحيث يرجع كبيرهم وصغيرهم ويئوب قويهم وعجوزهم إلى المدينة لمشاركة بعضهم بعضا في أفراحه وابتهاجاته، حتى ليكاد يحمل مريضهم إليها لشدة كراهتهم البقاء في القرية، لذا تمتلئ المدينة بالناس والزوار والمهنئين من كل جانب، ويتطلعون جميعا إلى مجيء ذلك اليوم الكبير، يوم تخلو البيوت من سكانها صباحه، وتتضايق الطريق بالعائدين من المصلى ضحاه، وبجم غفير من الزائرين المهنئين أمسيته وعشيته.

ذلك اليوم الذي يخرج المسلمون فيه إلى ميدان الصلاة متتابعين كالجراد المنتشر، تتوحد صفوفهم كما تتساوى أصواتهم في ذكر الله تعالى الذي أنعم بالبقاء إلى ذلك اليوم، منهم ركاب الخيل والدراجات والسيارات، ومنهم رجالة لا يسأمون المشي ولا يتعبون من التهليل والتسبيح..يجتمعون في المصلى وهم أجناس عديدة وقبائل شتى، وحدهم فيه الإسلام وجمعهم في الصفوف أداء لصلاة العيد المبارك واقتداء بسنة نبينا محمد عليه أطيب الصلاة والسلام.

وفي هذا اليوم السعيد والناس كلهم يتركون أعمالهم وحرفهم ويغلقون مصانعهم، ويعطلون المدارس والإدارات الحكومية وغيرها حرصا على إحياء هذا المشعر العظيم.

صلة المسلمين بالمسيحيين:

يعيش المسلمون في نيجيريا في جو من المحبة والأخوة الإسلامية، وأحوالهم مع المسيحيين أو الوثنيين سيئة جدا، لا يسالمونهم ولا يوادونهم فضلا عن الجلوس معهم.

ويضطر لأجل ذلك من يقاربهم من المسيحيين إلى الانفراد بالسكن مع ما له وما عليه.

ويبتعدون عن عبدة الأوثان أشد ابتعاد لقبح حالتهم وعاداتهم التي منها وضع بعض الأطعمة عند مفترق الطرق في صحون مزينة بزيت أحمر مع مبلغ من النقود، وإن مر بالصحون من المسلمين كسرها ووضع على الزيت التراب مبغضا هذه الحالة الكريهة المنتنة وهذا الشرك الأكبر.

ص: 56

وإذا عاد واضع الطعام وجاعل النقود ولم يعثر على شيء ورأى ما حل بالصحون من كسر طار فرحا وضحكا مغتبطا قائلا: إن الأوثان أكلته بل قبلته!، ولولا حسن تصرفاته وحركاته ما رحبن بتضحياته وقربانه، ولا يبالي بالصحون المكسورة الملوثة بالتراب مع أنه يرى ذلك.

والمسلمون (أعانهم الله) لو شعروا بإفساد المسيحيين وفحشهم بجوارهم لنهوهم عن ذلك ولا جروا عليهم كل ما نص عليه الدين من هجران وإعراض وعدم السلوك في مسالكهم.

والغريب أنهم يشاركوننا في كثير من أفعالنا دون الصلاة ولا يعتنقون الإسلام إلا نادرا، بل يعملون ليلا نهارا على أن يتحول المسلم إلى المسيحية.

وأبناء الوقت مع شديد الأسف لا يتخذون من ذلك عبرة بل يصبحون ضعفاء أمام حيلهم ومكايدهم، فينضمون إليهم لسهولة دينهم وخلوه من التكاليف على زعمهم؛ وغالبا يحدث هذا لأبنائنا الذين يتلقون دروسهم في أوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وغيرها.

هذا وكثير ما يجالس المسلم أضداده في الدين في المدارس والإدارات الحكومية مع مراعاة حقوق بعضهم بعضا بحيث لا تحصل مشاغبة ولا مشاجرة.

وقد جالست المدرسين والمدرسات المسيحيين إذ كنت مدرسا معهم أدرس اللغة العربية في مدرسة ثانوية تدعى: "المدرسة العالية الإسلامية"، وأخرى مدرسة:"عصابة الدين العالية للبنات"، وأكثر الدروس تتلقى بالإنجليزية.

قل المسيحي من الطلاب والطالبات وقل المسلم من المدرسين والمدرسات إذ كنت الوحيد المسلم ضمنهم، العميد والعميدة مسيحيان والمدرستان كما استبان من اسميهما لجمعيات مسلمة.

ص: 57

ندخل صباحا على دعاء أقرأه للطلاب وجميع الأساتذة يعرفون هذا الدعاء كما علموا كثيرا من أناشيدنا العربية، ودائما يستطيبون قيامنا بديننا، وقد كلفتهم إدارة المدرستين مرافقتنا إلى المسجد الجامع مع بعده عن مقر الدراسة ليحافظوا على الأولاد ويمنعونهم من التخلف عن أداء الصلاة، وذلك في كل يوم جمعة، فتراهم ينفذون هذا الأمر طوعا وكرها.

دراسة اللغة العربية في نيجيريا:

لقد فر الكثير من أبناء نيجيريا من تعلم اللغة العربية..ذلك لأن إخوانهم الذين يتعلمون اللغة الإنجليزية يرتقون إلى درجة المجد والعلا وتسهل لهم قضاء حاجاتهم، وهم الفريق المنغمس في رغد العيش؛ فلا يبلغ قاصد اللغة العربية إلى هذه الدرجة الرفيعة مهما حمل من شهادات عليا ومهما تفوق وتخصص في كثير من المواد الدراسية، مع أن اللغة العربية تعتبر أشرف لغات العالم وهي لغة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولغة القرآن الكريم.

إن اللغة الإنجليزية هي التي تستعمل في الإدارات وتعترف الحكومة بها أكثر من غيرها إذ أنها اللغة الرسمية، والمستثنى من هذه المحن والمشاكل هو الشمال لأنه يقضي فيه بكتاب الله، ويرتقي طلاب العلم إلى أسمى الدرجات.

والواقع في الغرب والجنوب يخالف ذلك، فلذا يسارع أبناؤهما إلى دراسة اللغة الإنجليزية، ولكن وإن كان هذا هو الحاصل، لابد من إصلاح نياتنا وإحسان ظننا بالله فما دامت اللغة العربية هي الوسيلة الموصلة إلى معرفة الله تعالى حق المعرفة فلن يذهب تعبنا سدى إن شاء الله؛ فإنه من ينصر الله ناصره، كما أنه ليس ببعيد أن ترتفع العربية التي يفرون منها إلى درجة لا تدرك ولا تمارى في بلادنا إن شاء الله.

ص: 58

هذا ونشاهد الآن في كثير من المدن الرئيسية النيجيرية مدارس عربية مستقلة (أي خاصة بتدريس اللغة العربية) وغيرها (تدرس فيها اللغة العربية والإنجليزية) وكذلك في بعض المساجد، وبذلك تنحل المشاكل شيئا فشيئا إذ أنتجت هذه المدارس أساتذة يجيدون العربية ويستفيدون بها، ولو لم ترق مراتبهم، وبالتدرج ستصبح لغة معترفا بها رسمية إن شاء الله.

وإذ ذاك ينال الخريجون بالشهادة العليا حقوقهم كاملة، وإن خلت من اللغة الأجنبية، ولكن إذا فقدناها وما كان معنا من اللغة العربية إلا الشيء القليل، والبلاد بحاجة إلى من يجيدها ويتقنها، فكيف يكون مصيرنا؟

وقد قيل بأن فاقد الشيء لا يعطيه، فهبوا يا شباب نيجيريا خاصة ويا شعوب العالم الإسلامي عامة لتعلم هذه اللغة المقدسة ولا تتوانوا في تحصيل فنونها، ولا تقنطوا من روح الله، واصبروا لأنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون.

إذا الأمر أعيا اليوم فانظر به غدا لعل عسيرا في غد يتيسر

والجدير بالذكر أن هذه المدارس العربية المتنوعة تهتم بتعليم طلابها التفسير والفقه والحديث والنحو والمطالعة والتجويد والخط والحساب والأدب العربي مع تلخيص النصوص، والتاريخ والجغرافيا وعلم الطبيعة والإملاء والصرف والأخلاق والتوحيد والبلاغة المنطق وغيرها من المواد الثقافية.

وتنقسم هذه المدارس إلى مراحل ابتدائية وإعدادية وثانوية ثم عالية جامعية.

ويتلقى في بعض الجامعات دراسات أخرى إسلامية بشكل لا بأس به مثل جامعة (أحمدو بللو) بزاريا، وجامعة (أبادن) التي تأسست سنة 1368هـ وقد أنشئ فيها قسم خاص بالعربية ويسمى كلية الآداب، وقسم الباكلوريوس في العربية والإنجليزية.

ص: 59

وهناك جامعة (لاجوس) وجامعة (أنسكا) وجامعة (إيفي) ومعاهد دينية كالمعهد النيجيري بأبادن ومركز التعليم العربي (بأغيغي) ومعهد (شاغامو) ومدرسة النهضة العربية (بأبادن) والمدرسة المباركة (بأبادن) والمدرسة الأموية (باوو) ومعهد التعليم العربي (بأوو) ودار العلوم (بالورن) والمعهد العربي (باوو) ومركز التعليم (بأوو) وغياث الدين (بلاجوس) وغيرها.

تجتمع فيهن عدة جنسيات لتلقى علومها ولأحراز الفوائد والتجارب الجسام لتتمكن من بناء مستقبلها وخدمة أوطانها.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

ـ من موجز تاريخ نيجيريا، والكتاب يكفي مرجعا لمن أراد التوسع في معرفة الكثير عن نيجيريا كعاداتها الاجتماعية وصلتها بالعرب والأدب العربي النيجيري وأهم المدن النيجيرية.

[2]

ـ نفس المصدر.

ص: 60

ندوة الطلبة دراسات في الديانات الهندية (الديانة الهندوسية)

(1)

بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي

مما لاشك فيه أن لكل أمة من الأمم الماضية والحاضرة عقيدة رئيسية تؤمن بها وتسير على وفقها في معالجة مشاكلها وإصلاح أحوالها في أفرادها وجماعتها تستعين بسنتها وتقضي القضايا بمقتضاها وأن الباحث يدرك حقيقة الأنظمة بمطالعة عقيدتها، فإذا تخلت الأنظمة والأديان عن العقيدة المركزية كانت كجسم متحرك دون روح، فأهم ما يؤخذ على الديانة الهندوسية أنها خالية من العقيدة الأساسية التي تبني عليها أمورها وترجع إليها الأمة لدى اختلافها، وعلماء الهندوس يشعرون بخلوها من هذه العقيدة بل يفتخرون بذلك.

يقول الزعيم الهندي (غاندي) : "ومن حظ الديانة الهندوسية أنها ليست لها عقيدة رئيسية فإذا سئلت عنها أقول: أن عقيدتها هي عدم التعصب والبحث عن الحق بالطريقة الحسنة، أم الاعتقاد بوجود الخالق وعدمه فكلاهما سواء، ولا يلزم لأي رجل من رجال الهندوس أن يؤمن بالخالق فهو هندوكي سواء آمن أو لم يؤمن (هندو هرم) ".

يقول في موضع آخر من هذا الكتاب: "من حسن حظ الديانة الهندوسية أنها تخلت عن كل عقيدة ولكنها محيطة بجميع العقائد الرئيسية والجواهر الأساسية للأديان الأخرى".

يقول الدكتور: رادها كرشنا رئيس الجمهورية الهندية سابقا: "إن الديانة الهندوسية لا تنتمي إلى قوم من الأقوام بل هي ثمرات لتجارب الأمم التي أدت دورها في تكوين الفكر الهندوكي كما يدل عليه وجود تمثال "شيو" [1] ، في الآثار القديمة من "موهن جودرا " [2] ، فكان أهل الهند يعبدون الأصنام قبل الدور الأول وفبل ورود قوم "آريا "، ولذلك تأثر كتابهم المقدس "ويدا "، الذي جاء به قوم آريا من "منكوليا"وشرق آسيا بالحياة الدرورية القديمة. فالحضارة التي تكونت من هذه المصادر المختلفة هي الآن تسمى بالديانة الهندوسية.

ص: 61

فسبب خلوها من العقيدة المركزية والأسس الرئيسية تغيرت الديانة الهندوسية وتبدلت إلى حد لا يتصور حتى فقدت اسمها الحقيقي (ويدرك دهرم) وسميت باسم الهندوكية التي ليس لها أصل في اللغة السنسكرتية.

فإما أن نقول إن اسمها مأخوذ من كلمة اندس (اسم الهند القديم) أو من كلمة (سندهو) يعني السكان الذين شرق نهر سند، أو نقول إنه مأخوذ من كلمة هندو بمعنى اللصوص في اللغة الفارسية.

الكتب المقدسة

بسبب فقدان العقيدة لم يتفق علماء الهندوس على أمر ما حتى على الكتب المقدسة التي يعتبرونها مصدرا أساسيا للديانة الهندوسية وللحضارة الهندية، ولكن ادعى بعض المحققين الجدد أن الإيمان بالكتب المقدسة أمر متفق عليه عند جميع الفرق الهندوسية وهذه دعوى بلا دليل، فإن الفرق الكثيرة لا تؤمن "بويدا"، ولا تحترمه كالديانة البوذية والجينية والسيخية.

فإن قيل: إن هذه الفرق ليست من الديانة الهندوسية؛ فنقول: عندنا شهادات من علماء الهندوس الكبار الذين لا يعتقدون بخروج هذه الفرق عن الديانة الهندوسية مثل الزعيم الهندي غاندي الذي يقول: "نحن لا نعتقد أن الديانة البوذية والجينية خارجة عن الديانة الهندية (هندو دهرما) (HINDU DHARMA) ، وإليه ذهب المحقق الكبير "وويكانند"، هذه من الناحية التاريخية.

أما من حيث الواقع فلم نجد أحدا من هذه الفرق يعمل بتعليمات ويدا كلها حتى الجماعة الجديدة آربا سماج [3] التي قامت بتبليغ ويدا ونشره وأهم أهدافها تجديد العمل على أصول ويدا، ولكن شتان بين ما بينهم وبين ويدا، فإنه يحرم عبادة الأصنام وبناء المنادر [4] ، وعقيدة الأوتار [5] ، كما نبه عليهم الدكتور رادها كرشنا رئيس الجمهور الهندية سابقا.

ص: 62

إن آريا ويدك كانوا لا يعرفون بناء المعابد وعبادة الأوثان بل هذا كله من حضارة دروار لكن نرى أن عقيدة الأوتار وبناء المنادر (المعابد) وعبادة الأصنام هي أصل أساسي للديانة الهندوسية ويعتقد كثير من المحققين الهندوس بصحتها مثل وويكانند، وآربند، وكوسن، والدكتور رادها كرشنا، وغاندي، وغيرهم فأين عملهم بويدا وبما جاء به.

ومن المعلوم عند المتخصصين في الديانة الهندوسية أن ويدا ينادي بأعلى صوته بأضحية الحيوان فإليكم أيها القارئ بعضها.

تقول الملائكة: "يا اندر (إله المطر) إن وشنو إله الرزق يطبخ لك مائة جاموس "(رك ويد 6-11-17) .

وفي موضع آخر: "هم يطبخون الثور وأنت تأكله"(رك ويد 10-28-3) .

وفي موضع آخر: "إن اندرا مع العباد يطبخ الثور السمين"(رك ويد 10-27-3) .

وفي موضع آخر يقول اندرا: "هي تطبخ لي خمسة عشر ثورا وأنا آكلهم فأكون سمينا"(رك ويد 10-86-14) .

هذه الاقتباسات جئنا بها من رك ويد والآن نتوجه إلى "ياجورويد"[6] لترى أن هذه الأبواب من الباب الثاني والعشرين إلى الخامس والعشرين كلها مملوءة بأضحية الحيوان ولكن القانون الهندوسي تأثر بالديانة الجينية فحرم ذبح الحيوان كليا.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

هذه الآثار تدل على عبادة الأصنام قبل قوم: "دراود"وكان قوم دراود هم أصل سكان القارة الهندية قبل ورود قوم "آريا"،سنة 1500ق م. والمؤرخون يؤرخون تاريخ الهند منذ بداية قوم "دراود"لأنهم كانوا يعيشون في الدور الأول المسمى بالعهد الحجري النحاسي والأدوار ثلاثة: الأول: حينما كان الإنسان يعيش في الجبال والغابات ولم تكن عنده حضارة ولا تمدن، بل كانت حياته حياة وحشية هذه هي حياة دراود.

ص: 63

الثاني: يبدأ منذ ما سكن الإنسان البوادي والقرى وكون الجماعة والمجتمع وملك على نفسه أميرا أو رئيسا واستعمل المصنوعات مثل البنادق والمجانيق.

الثالث: هو الدور الحاضر المسمى بدور القنابل الذرية.

[2]

بلدة معروفة في باكستان في وادي سند فيها آثار يرجع تاريخها إلى حوالي 3300ق م.

[3]

مؤسسها ديانتد (1824ـ1883م) وهي أكبر جماعة هندوسية قامت لنشر الدعوة الهندوسية والكتاب الأساسي عندها: ستيارتها بركاش، لمؤسسها واهتم المصنف في هذا الكتاب بالرد على جميع الأديان المعروفة وجعل أربعة عشر بابا فالباب الثالث عشر فيه رد على دين النصارى ويحتوي الباب الرابع عشر ردا على الإسلام، وقد اعترض على القرآن الكريم باعتراضات عددها حوالي159 اعتراضا وتحت كل اعتراض انتقادات عدة، فقام بالرد عليه الشيخ ثناء الله الأمر لشري رحمه الله من كبار علماء أهل الحديث وكتب كتابا سماه: حق بركاش وأجاب عن كل اعتراض، وأفحمهم فجزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين، ثم قام الشيخ إمام الدين رام تكري حفظه الله وهو لايزال مكبا على رده فكتب كتابا سماه دلائل القرآن في جواب افتراء ديانند.

وقد ترجم ستيارته بركاش إلى لغات متعددة منها: الأردية والبنجالية والكجراتية والكنارية والمليالمية والتلكوية والأريسة والسندية.. هذه من اللغات الهندية، ومن الغات الأجنبية مثلا: النيبالية والإنكليزية والروسية والإيطالية والصينية، فبلغ عدد نسخه حوالي 8 ملايين، فليتأمل المسلم العاقل كم أفسد هذا الكتاب شعوبا مختلفة وأمما كثيرة من الشرق والغرب.

[4]

اسم معابد الهندوس كالنيسة والمسجد.

[5]

مجيء الإله بصورة الإنسان في اعتقادهم وسيأتي تفصيله إن شاء الله.

[6]

سيأتي تفصيله قريبا في باب المصادر الأساسية.

ص: 64

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب [3]

لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

المدرس بالجامعة

سورة النساء

قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} الآية.

هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن وهي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} الآية.

والجواب عن هذا:

أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية، والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر، والمقصود من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية كما يدل عليه قوله:{فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} الآية.

وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك ابن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} الآية.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} نزلت في عائشة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها.

وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تملني فيما تملك ولا أملك، يعني القلب، انتهى من ابن كثير.

ص: 65

ـ قوله تعالى: {وَاللَاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} الآية، هذه الآية تدل على أن الزانية لا تجلد بل تحبس إلى الموت أو إلى جعل الله لها سبيل.

وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنها لا تحبس بل تجلد مائة جلدة إن كانت بكرا وجاء في آية منسوخة التلاوة باقية الحكم أنها إن كانت محصنة ترجم.

والجواب ظاهر وهو أن حبس الزواني في البيوت منسوخ بالجلد والرجم [1] أو أنه كانت له غاية ينتهي إليها هي جعل الله لهن السبيل فجعل الله السبيل بالحد كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا"الحديث.

ـ قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} الآية، هذه الآية تدل بعمومها على منع الجمع بين كل أختين سواء كانتا بعقد أم بملك يمين، وقد جاءت آية تدل بعمومها على جواز جمع الأختين بملك اليمين وهي قوله تعالى في سورة قد أفلح وسورة سأل سائل:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، فقوله:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ، اسم مثنى محلى بأل والمحلى بها من صيغ العموم كما تقرر في علم الأصول، وقوله:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، اسم موصول وهو أيضا من صيغ العموم كما تقرر في علم الأصول أيضا، فبين هاتين الآيتين عموم وخصوص من وجه يتعارضان بحسب ما يظهر في صورة هي جمع الأختين بملك اليمين فيدل عموم:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} على التحريم، وعموم:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، على الإباحة كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه:"أحلتهما آية وحرمتهما أخرى".

ص: 66

وحاصل تحرير الجواب عن هاتين الآيتين أنهما لابد أن يخصص عموم إحداهما بعموم الأخرى، فليزم الترجيح بين العمومين، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر، لوجوب العمل بالراجح إجماعا؛ وعليه فعموم:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} أرجح من عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من خمسة أوجه:

ـ الأول: أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} نص في محل المدرك المقصود بالذات لأنّ السورة سورة النساء وهي التي بين الله فيها من تحل منهن ومن تحرم وآية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، لم تذكر من أجل تحريم النساء ولا تحليلهن بل ذكر الله صفات المتقين فذكر من جملتها حفظ الفرج فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها.

ـ الثاني: أن آية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصصه عموم:{وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} ، وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، يخصصه عموم:{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ، الآية، والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص والعام الذي لم يدخله تخصيص هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص ووجهه ظاهر.

ص: 67

الثالث: أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} غير وارد في معرض مدح ولا ذم، وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وارد في معرض مدح المتقين والعام الوارد في معرض المدح أو الذم اختلف أكثر العلماء في اعتبار عمومه؛ فأكثر العلماء على أن عمومه معتبر كقوله تعالى:{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} ، فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح، وكل فاجر مع أنه للذم وخالف في ذلك الإمام الشافعي رحمه الله قائلا إن العام الوارد في معرض المدح أو الذم لا عموم له لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم.

ولذا لم يأخذ الشافعي بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في الحلي المباح لأن الآية سيقت للذم فلا تعم عنده الحلي المباح؛ فإذا حققت ذلك فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه عند بعض العلماء.

ـ الرابع: إنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين فالأصل في الفروج التحريم حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة.

ـ الخامس: إن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله في سورة المائدة والعلم عند الله.

فهذه الأوجه الخمسة التي بينا يرد بها استدلال داود الظاهري بهذه الآية الكريمة على جمع الأختين في الوطء بملك اليمين، ولكنه يحتج بآية أخرى وهي قوله تعالى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فإنه يقول الاستثناء راجع أيضا إلى قوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} ، فيكون المعنى على قوله وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما ملكت أيمانكم فإنه لا يحرم فيه الجمع بين الأختين.

ص: 68

ورجوع الاستثناء لكل ما قبله من المتعاطفات جملا كانت أو مفردات هو الجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:

من قبل الاستثناء فكلا يقف

وكل ما يكون فيه العطف

دون دليل العقل أو ذي السمع

خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ولذلك لا يرى قبول شهادة القاذف ولو تاب وأصلح، لأن قوله تعالى:{إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا} ، يرجع عنده لقوله تعالى:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فقط أي إلا الذين تابوا فقد زال عنهم فسقهم بالتوبة، ولا يقول برجوعه لقوله: ولا تقبلوا لهم شهادة إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، بل يقول: لا تقبلوها لهم مطلقا لاختصاص الاستثناء بالأخيرة عنده.

ولم يخالف أبو حنيفة أصله في قوله برجوع الاستثناء في قوله: {إِلَاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} ، لجميع الجمل قبله أعني قوله:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} ، لأن جميع هذه الجمل جمع معناه في الجملة الأخيرة وهي قوله:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} ، لأن الإشارة في قوله ذلك شاملة لكل من الشرك والقتل والزنى فبرجوعه للأخيرة رجع للكل فظهر أن أبا حنيفة لم يخالف فيها أصله، ولأجل هذا الأصل المقرر في الأصول لو قال رجل: هذه الدار حبس على الفقراء والمساكين وبنى زهرة وبني تميم إلا الفاسق منهم فإنه يخرج فاسق الكل عند المالكية والشافعية والحنابلة.

ص: 69

قال مقيده عفا الله عنه: التحقيق في هذه المسألة هو ما حققه بعض المتأخرين كابن الحاجب من المالكية والغزالي من الشافعية والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف وأن لا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة، وإنما قلنا أن هذا هو التحقيق لأن الله تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية، وإذا رددنا هذا النزاع إلى الله وجدنا القرآن دالا على قول هؤلاء الذي ذكرنا أنه هو التحقيق في آيات كثيرة منها قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} ، فالاستثناء راجع للدية فهي تسقط بتصدق مستحقها بها ولا يرجع لتحرير الرقبة قولا واحدا لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ.

ومنها قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا} ، فالاستثناء لا يرجع لقوله:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ، لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف.

ص: 70

ومنها أيضا قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً، إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} ، فالاستثناء في قوله:{إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} لا يرجع قولا واحدا إلى الجملة الأخيرة التي أقرب الجمل إليه أعني قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} ، إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله:{فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} ، والمعنى فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذه الآية نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة ابن عامر.

وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها.

ومنها أيضا قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَاّ قَلِيلاً} ، فالاستثناء ليس راجعا للجملة الأخيرة التي يليها أعني:{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} ، لأنه لولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان كلا ولم ينجح من ذلك قليل ولا كثير حتى يخرج بالاستثناء.

واختلف العلماء في مرجع هذا الاستثناء؛ فقيل: راجع لقوله: {أَذَاعُوا بِهِ} .

ص: 71

وقيل: راجع لقوله: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، وإذا لم يرجع للجملة التي يليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها.

وقيل: إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها وعليه فالمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم لاتبعتم الشيطان في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأوثان إلا قليلا كمن كان على ملة إبراهيم كورقة بن نوفل وقس بن ساعدة وأضرابهم وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله: {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَاّ قَلِيلاً} ، أن معناه: لاتبعتم الشيطان كلا، قال: والعرب تطلق القلة وتريد بها العدم، واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب:

قليل المثالب والقادحة

أشم ندى كثير النوادي

يعني لا مثلبة ولا قادحة.

قال مقيده عفا الله عنه: إطلاق القلة وإرادة العدم كثير في كلام العرب ومنه قول الشاعر:

قليل بها الأصوات إلا بغامها

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

يعني أنه لا صوت في تلك الفلاة غير بغام راحلته.

وقول الآخر:

قليلا لدى من يعرف الحق عابها

فما بأس لو ردت علينا تحية

يعني لا عاب فيها عند من يعرف الحق.

وعلى هذين القولين الأخيرين فلا شاهد في الآية وبهذا التحقيق الذي حررنا يرد استدلال داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة أيضا والعلم عند الله.

ـ قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ، هذه الآية تدل على أن الإماء إذا زنين جلدن خمسين جلدة، وقد جاءت آية أخرى تدل بعمومها على أن، كل زانية تجلد مائة جلدة، وهي قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} .

والجواب ظاهر: وهو أن هذه الآية مخصصة لآية النور لأنه لا يتعارض عام وخاص.

ص: 72

ـ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، هذه الآية تدل بظاهرها على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ونظيرها قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك هي قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الآية.

ووجه الجمع بين ذلك مختلف فيه اختلافا مبنيا على الاختلاف في حكم هذه المسألة:

فجمهور العلماء على أن شرع من قبلنا إن ثبت بشرعنا فهو شرع لنا ما لم يدل دليل من شرعنا على نسخه لأنه ما ذكره لنا في شرعنا إلا لأجل الاعتبار والعمل، وعلى هذا القول فوجه الجمع بين الآيتين أن معنى قوله:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ، أن شرائع الرسل ربما ينسخ في بعضها حكم كان في غيرها أو يزاد في بعضها حكم لم يكن في غيرها، فالشرعة إذن إما بزيادة أحكام لم تكن مشروعة قبل وإما بنسخ شيء كان مشروعا قبل فتكون الآية لا دليل فيها على أن ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ولم ينسخ أنه ليس من شرعنا لأن زيادة ما لم يكن قبل أو نسخ ما كان قبل كلاهما ليس من محل النزاع.

وأما على قول الشافعي ومن وافقه أن شرع من قبلنا شرع ليس شرعا لنا إلا بنص من شرعنا أنه مشروع لنا، فوجه الجمع أن المراد بسنن من قبلنا وبالهدى في قوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} ، أصول الدين التي هي التوحيد لا الفروع العلمية بدليل قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الآية.

ص: 73

ولكن هذا الجمع الذي ذهبت إليه الشافعية يرد عليه ما رواه البخاري في صحيحه في تفسير سورة (ص) عن مجاهد أنه سأل ابن عباس من أين أخذت السجدة في (ص) فقال ابن عباس: " {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، فسجدها داود فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومعلوم أن سجود التلاوة من الفروع لا من الأصول، وقد بين ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجدها اقتداء بداود وقد بينت هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتي فلذلك اختصرتها هنا.

ـ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} الآية، هذه الآية تدل على أن إرث الحلفاء من حلفائهم، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى:{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} .

والجواب أن هذه الآية ناسخة لقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية ونسخها لها هو الحق خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في القول بإرث الحلفاء اليوم إن لم يكن له وارث.

وقد أجاب بعضهم بأن معنى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أن من الموالاة والنصرة وعليه فلا تعارض بينهما والعلم عند الله.

ـ قوله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} ، هذه الآية تدل على أن الكفار لا يكتمون الله من خبرهم شيئا يوم القيامة، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، وقوله تعالى:{فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} ، وقوله:{بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} .

ص: 74

ووجه الجمع في ذلك هو ما بينه ابن عباس رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، مع قوله:{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} ، وهو أن ألسنتهم تقول والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فكتم الحق باعتبار اللسان وعدمه باعتبار الأيدي والأرجل، وهذا الجمع يشير إليه قوله تعالى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وأجاب بعض العلماء بتعدد الأماكن فيكتمون في وقت ولا يكتمون في وقت آخر والعلم عند الله.

قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، لا تعارض بينه وبين قوله تعالى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} .

والجواب ظاهر وهو أن معنى قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} أي مطر وخصب وأرزاق وعافية يقولوا هذا ما أكرمنا الله به: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} ، أي جدب وقحط وفقر وأمراض يقولوا هذه من عندك أي من شؤمك يا محمد وشؤم ما جئت به، قل لهم كل ذلك من الله، ومعلوم أن الله هو الذي يأتي بالمطر والرزق والعافية كما أنه يأتي بالجدب والقحط والفقر والأمراض والبلايا، ونظير هذه الآية قول الله في فرعون وقومه مع موسى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} ، وقوله تعالى في قوم صالح مع صالح:{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} الآية، وقول أصحاب القرية للرسل الذين أرسلوا إليهم:{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} الآية.

ص: 75

وأما قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي لأنه المتفضل بكل نعمة، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أي من قبلك ومن عملك أنت إذ لا تصيب الإنسان سيئة إلا بما كسبت يداه كما قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وسيأتي إن شاء الله تحرير المقام في قضية أفعال العباد بما يرفع الإشكال في سورة الشمس في الكلام على قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ، والعلم عند الله تعالى.

ـ قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} قيد في هذه الآية الرقبة المعتقة في كفارة القتل خطأ بالإيمان، وأطلق الرقبة التي في كفارة الظهار واليمين عن قيد الإيمان حيث قال في كل منهما:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولم يقل مؤمنة؛ وهذه المسألة من مسائل تعارض العارض المطلق والمقيد وحاصل تحرير المقام فيها: أن المطلق والمقيد لهما أربع حالات:

الأولى: أن يتفق حكمهما وسببهما كآية الدم التي تقدم الكلام عليها؛ فجمهور العلماء يحملون المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا، وهو أسلوب من أساليب اللغة العربية لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت كقول الشاعر، وهو قيس بن الخطيم:

ـدك راض والرأي مختلف

نحن بما عندنا وأنت بما عنـ

فحذف راضون لدلالة راض عليها، ونظيره أيضا قول ضابئ بن الحارث البرجمي:

فإني وقيارا بها لغريب

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

وقول عمرو بن أحمر الباهلي:

بريئا ومن أجل الطوى رماني

رماني بأمر كنت ووالدي

وقال بعض العلماء: إن حمل المطلق على المقيد بالقياس، وقيل: بالعقل وهو أضعفها، والله تعالى أعلم.

ص: 76

والحالة الثانية: أن يتحد الحكم ويختلف السبب كما في هذه الآية، فإن الحكم متحد وهو عتق رقبة، والسبب مختلف وهو قتل خطأ وظهار مثلا؛ ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية، ولذا أوجبوا الإيمان في كفارة الظهار حملا للمطلق على المقيد خلافا لأبي حنيفة.

ويدل لحمل هذا المطلق على المقيد، قوله صلى الله عليه وسلم في قصة معاوية بن الحكم السلمي:"اعتقها فإنها مؤمنة" ولم يستفصله عنها هل هي كفارة أو لا، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال، قال في مراقي السعود:

منزلة العموم في الأقوال

ونزلن ترك الاستفصال

الحالة الثالثة: عكس هذه، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم؛ فقيل: يحمل فيها المطلق على المقيد، وقيل: لا، وهو قول أكثر العلماء ومثاله: صوم الظهار وإطعامه، فسببهما واحد وهو الظهار وحكمهما مختلف لأن هذا صوم وهذا إطعام، وأحدهما مقيد بالتتابع وهو الصوم والثاني مطلق عن قيد التتابع وهو الإطعام، فلا يحمل هذا المطلق على المقيد.

والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة مثلوا له بإطعام الظهار، فإنه مقيد بكونه قبل أن يتماسا، مع أن عتقه وصومه قيدا بقوله:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ، فيحمل هذا المطلق على المقيد فيجب كون الإطعام قبل المسيس.

ومثّل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، وأطلق الكسوة عن القيد بذلك حيث قال:{أَوْ كِسْوَتُهُمْ} ، فيحمل المطلق على المقيد فيشترط في الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم.

ص: 77

الحالة الرابعة: أن يختلفا في الحكم والسبب معا ولا حمل فيها إجماعا، وهو واضح، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا؛ أما إذا ورد مقيدين بقيدين مختلفين فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما، ولكنه ينظر فيهما فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء فيقيد بقيده وإن لم يكن أحدهما أقرب له فلا يقيد بقيد واحد منهما ويبقى على إطلاقه لاستحالة الترجيح بلا مرجح.

مثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر: صوم كفارة اليمين فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع، وصوم التمتع مقيد بالتفريق، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع لأن كلا من اليمين والظهار صوم كفارة بخلاف صوم التمتع فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع، وقراءة ابن مسعود:{فصيام ثلاثة أيام متتابعات} لم تثبت لإجماع الصحابة على عدم كتب (متتابعات) في المصحف.

ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم قضاء رمضان فإن الله قال فيه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق مع أنه قيد صوم الظهار بالتتابع وصوم التمتع بالتفريق، وليس أحدهما أقرب إلى قضاء رمضان من الآخر فلا يقيد بقيد واحد منهما بل يبقى على الاختيار إن شاء تابعه وإن شاء فرقه، والعلم عند الله تعالى.

ص: 78

قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} ، الآية، هذه الآية تدل على أن القاتل عمدا لا توبة له وأنه مخلد في النار، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقّ} - إلى قوله -: {إِلَاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات} ، الآية. وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} ، وقوله:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية.

وللجمع بين ذلك أوجه:

ـ أن قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} ، أي إذا كان مستحلا لقتل المؤمن عمدا، لأن مستحل ذلك كافر قاله عكرمة وغيره، ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جبير وابن جرير عن ابن جريج من أنها نزلت في مقيس بن صبابة فإنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه قتيلا في بني النجار ولم يعرف قاتله فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بالدية فأعطتها له الأنصار مائة من الإبل وقد أرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من قريش من بني فهر فعمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله وارتد عن الإسلام وركب جملا من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة مرتدا وهو يقول في شعر له:

سراة بني النجار أرباب فارع

قتلت به فهرا وحملت عقله

وكنت إلى الأوثان أول راجع

وأدركت ثأري وأضجعت موسدا

ص: 79

ومقيس هذا هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أؤمنه في حل ولا في حرم"، وقتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح فالقاتل الذي هو كمقيس بن صبابة المستحل للقتل المرتد عن الإسلام لا إشكال في خلوده في النار، وعلى هذا فالآية مختصة بما يماثل سبب نزولها بدليل النصوص المصرحة بأن جميع المؤمنين لا يخلد أحد منهم في النار.

ـ الوجه الثاني: أن المعنى فجزاؤه أن جوزي مع إمكان ألا يجازى إذا تاب أو كان له عمل صالح يرجح بعمله السيء

وهذا قول أبي هريرة وأبي مجلز وأبي صالح وجماعة من السلف.

ـ الوجه الثالث: أن الآية للتغليظ في الزجر، ذكر هذا الوجه الخطيب والآلوسي في تفسيريهما وعزاه الآلوسي لبعض المحققين واستدلا عليه بقوله تعالى:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، على القول بأن معناه: ومن لم يحج، وبقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين للمقداد حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب:"لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن يقول الكلمة التي قال"، وهذا الوجه من قبيل كفر دون كفر، وخلود دون خلود، فالظاهر أن المراد به عند القائل به أن معنى الخلود المكث الطويل، والعرب ربما تطلق اسم الخلود على المكث الطويل ومنه وقول لبيد:

صما خوالد ما يبين كلامها

فوقفت أسألها وكيف سؤالنا

إلا أن الصحيح في معنى الآية الوجه الثاني والأول، وعلى التغليظ في الزجر حمل بعض العلماء كلام ابن عباس أن هذه الآية ناسخة لكل ما سواها، والعلم عند الله تعالى.

ص: 80

قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر أن القاتل عمدا مؤمن عاص له توبة كما عليه جمهور علماء الأمة وهو صريح قوله تعالى: {إِلَاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية، وادعاء تخصيصها بالكفار لا دليل عليه، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} ، وقد توافرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، وقد قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ، فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضا، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس لان هذه الأمة بالتخفيف من بني إسرائيل لأن الله رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

أي كل واحد منهما في محله، الجلد للبكر والرجم للثيب.

ص: 81

رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله

بقلم الشيخ عبد المحسن العباد

المدرس بكلية الشريعة

في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك من هذا العام فقدت المملكة العربية السعودية علمها الشامخ وكوكبها الأغر ونجمها اللامع ومشعلها الوضاء سماحة المفتي ورئيس القضاة ورئيس الجامعة الإسلامية والكليات والمعاهد العلمية: الشيخ الجليل العالم العامل الذي طال عمره وحسن عمله محمد بن إبراهيم آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب غفر الله له ورحمه.

وكان لوفاته الأثر البالغ في النفوس لما للفقيد رحمه الله من مكانة مرموقة وأعمال جليلة، وهذه لمحة قصيرة عن سماحته رأيت إثباتها في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي هي إحدى المؤسسات العلمية التي يرأسها سماحته في أول عدد يصدر بعد وفاته.

وموضوع الحديث عن سماحته مشاع لا يخفى على الكثير من الناس، لكنها الرغبة في أداء بعض ما يجب لهذا الرجل الفذ، الذي جمع بين العلم والعمل، وإن هي إلاّ حاجة في نفس يعقوب قضاها، رحم الله الفقيد، ولا فتننا بعده، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

نسبه:

ص: 82

هو صاحب السماحة الشيخ الجليل أبو عبد العزيز محمد بن الشيخ إبراهيم المتوفى سنة 1329هـ رحمه الله ابن الشيخ عبد اللطيف المتوفى سنة 1293هـ رحمه الله ابن الشيخ عبد الرحمن بن حسن المتوفى سنة 1285هـ رحمه الله ابن شيخ الإسلام الإمام مجدد القرن الثاني عشر محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1206هـ رحمه الله، ينتهي نسبه إلى ذلك الإمام المبارك الذي أظهر الله به السنة المحمدية في وقت اشتدت فيه غربة الدين وكثر فيه تعلق الخلق بغير رب العالمين؛ فأرشد النّاس إلى الصراط المستقيم صراط المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحذرهم من طرق الجحيم الطرق التي سلكها أعداء الله من المغضوب عليهم والضالين، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.

ولادته وأبرز شيوخه وتلامذته:

ولد رحمه الله وغفر له في اليوم السابع من شهر محرم سنة إحدى وعشرة بعد الثلاثمائة والألف 1311هـ، في مدينة الرياض.

ونشأ في بيت العلم والفضل والتقى والصلاح، فتغذى بلبان العلم والإيمان، وتسلح بسلاح المعرفة والعقيدة السليمة منذ نعومة أظفاره حتى آل أمره إلى أن صار مرجع العلماء وأبرز الفقهاء ونادرة الأذكياء.

أخذ العلم عن والده الشيخ إبراهيم وعن عمه الشيخ عبد اللطيف وعن الشيخ سعد بن عتيق وعن الشيخ حمد بن فارس وغيرهم ممن فقهه الله في دينه ونور بصيرته.

ثم أخذ ينشر العلم ويرشد إلى الخير ويحذر من الشر صابرا محتسبا حتى تخرج على يديه الأعداد الكبيرة من العلماء الذين قاموا بمهام القضاء والتدريس وغيرها في المملكة العربية السعودية، ومن أبرزهم: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نائبه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد الرئيس العام للإشراف الديني بالمسجد الحرام.

أعماله رحمه الله:

ص: 83

بعد وفاة عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف سنة 1339هـ، أسند إليه عمله، وقام مقامه في الإفتاء ومشيخة علماء نجد وملحقاتها، ثم تولى رئاسة القضاء في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، وعند تأسيس الكليات والمعاهد العلمية باقتراحه ومشورته أسندت إليه رئاستها ثم رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ورئاسة رابطة العالم الإسلامي وغيرها من الأعمال العظيمة التي أنيطت بسماحته والتي كان الناس يزاولها بقوة وحزم إلى نهاية أمره.

وما كان تقليد ولاة أمور المسلمين لسماحته هذه الأعمال إلاّ لكونه موضع الثقة التامة، وما كان تقلده إياها إلاّ حرصا منه على أن تسير الأمور فيها على أكمل وجه وأحسن حال.

هذا وإنّ المدة التي بين وفاة عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف سنة 1339هـ وبين وفاته رحمه الله سنة 1389هـ خمسون سنة قضاها في الدعوة إلى الحق، والجهاد في سبيل الله، والذب عن شريعته، والعمل بجد وحزم فيما ينفع المسلمين، أجزل الله له الثواب، وأسكنه فسيح الجنان.

مؤلفاته:

ورغم كثرة هذه الأعمال التي نهض بها، والتي يشق القيام بها على الجماعة من الرجال خلف وراءه من الفتاوى ما يبلغ المجلدات الكثيرة، وقد جمع بعضها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وأكثرها في ملفات دار الإفتاء، ونرجو الله أن يوفق المسؤولين لنشرها ليعم الانتفاع بها، كما أنّ له نصائح توجيهية عامة وخاصة ورسائل قيمة كبيرة الفائدة قد طبع كثير منها.

صفاته رحمه الله:

وكان سماحته غفر الله له من الرجال القلائل الذين يعدون من نوادر الزمان لما منحه الله من الصفات الجمة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ص: 84

فقد كان رحمه الله إلى جانب غزارة علمه وسعة اطلاعه وقوة ذاكرته أرجح العقل ثاقب الرأي، صبورا حليما، ذا أناة وروية، وذا شخصية فذة، تذوب أمامها الشخصيات الكبيرة، مهيب الجانب، مع تواضعه وبعده عن الترفع، عالي الهمة، رجل علم وعمل، حافظا لوقته معنيا بعمارته في خدمة الإسلام والمسلمين بعزيمة لا تعرف الكسل وهمة لا يشوبها فتور داعيا إلى الله على بصيرة لا يخشى في الله لومة لائم إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي وفقه الله للاتصاف بها.

وقد فقد بصره في السابعة عشر من عمره، ولكن الله عوضه قوة في البصيرة ونورا في القلب وإشراقا في حياته المباركة المعمورة بتقوى الله والجهاد في سبيله.

وفاته رحمه الله:

انتقل إلى رحمة الله تعالى ضحى في أول الساعة الخامسة من يوم الأربعاء الموافق الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1389هـ، وصلى عليه في المسجد الجامع الكبير في الرياض عقب صلاة الظهر أم الناس في الصلاة عليه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، واكتظ المسجد بالمصلين عليه من خاصة الناس وعامتهم على الرغم من قصر المدة التي بين وفاته ووقت صلاة الظهر.

وكان على رأس الذين حضروا الصلاة عليه جلالة الملك فيصل حفظه الله حيث أدى الصلاة عليه مع الناس في الجامع الكبير ثم ذهب إلى المقبرة ولم يزل على حافة القبر حتى دفن رحمه الله.

وقد نقل من المسجد إلى المقبرة على أكتاف الرجال في مسافة تقرب من اثنين كيلومترا، واكتظت الشوارع بالمشاة وبالسيارات التي تحمل المشيعين لجنازته، ولم تكن المصيبة فيه مصيبة أسرة بل كانت المصيبة عامة لا تكاد تلقى أحدا إلاّ وهو يتمثل بقول الشاعر:

وما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدما

ص: 85

وكانت وفاته رحمه الله على أثر مرض أصابه في كبده في أواخر شهر شعبان حيث دخل المستشفى في الرياض، وفي أوائل شهر رمضان سافر إلى لندن ثم عاد منها إلى الرياض في مساء يوم الخميس الثامن عشر من شهر رمضان، ومنذ عودته وهو في غيبوبة يفيق أحيان فيذكر الله ويستغفره حتى توفاه الله تعالى.

ومدة عمره ثمان وسبعون سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام رحمه الله وغفر له، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يفتح له أبواب الجنة الثمانية ليدخل من أيها شاء إنّه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلاّ به.

وقد أرخت سنة وفاته بهذه الأبيات:

سماحة الشيخ العظيم المنزله

الثاقب الرأي بحل المشكلة

مفتي الديار رأس كل قضاتها

مع درر علم الشرع كل أنّ له

وفاته بأحرف أرختها

فقلت (جد جواد واغفر لي وله)

ص: 86

رسائل لم يحملها البريد

بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

شقيقي القمر:

وهكذا جاءت الأنباء تقول: لقد عاد أول القادمين إليك من أبنائي سالمين، فقد أشفقت عليه النوائب، وأمهله الموت.

لقد هزت هذه العودة أبنائي المبثوثين على ظهري هزا عنيفا، ورجتهم رجا، وتركتهم في أمر مريج، فمصدق ومكذب، وحائر تجحظ عيناه، ولا تنبس شفتاه.

تركت أبنائي وشأنهم، يتحاورون ويعجبون، ورحت أرقص فرحا، واهتز مرحا، وأملأ الفضاء حبورا، ولم لا أفعل هذا يا شقيقي القمر؟!، وأنا التي تكابد الشوق إليك منذ آماد بعيدة، وتعاني حرقة الصبابة من حبك كر الغداة ومر العشي، وتخشى أن يصيبك السوء على تطاول العصور والأحقاب.

لقد كتب الله لي النجاح، وبلغني ما كنت أؤمل، وجاءتني البشرى بما تتمتع به من حياة طيبة، ومنعة، وشباب، كعهدي بك أيام الطفولة، أفلا يحق لي أن أفرح وأمرح، وأتيه تيه الفائزين، وأزهو زهو الظافرين؟!.

الله يعلم كم بذلت في سبيل لقياك من جهد ومال ورجال، وكم تحملت من سهر ودأب ونصب، فحري بي اليوم أن أطيب نفسا، وأن أقر عينا، وأن تبتل جوانحي، وأن يسكت عني القلق والخوف.

ولكن.... ولكن أخشى ما أخشاه - الأخ الكريم - أن تكون قد أصابتك حمى الحسد والغيرة، حين هبط على سطحك أول رائد؛ فأخذت تقول لنفسك: وأنى لهذه الأخت أبناء يجبون الفضاء، ويطيرون من كوكب إلى كوكب، وقد عهدتها جرداء بلقاء، لا تعرف الأنس ولا الجان، ولا النبات ولا الحيوان؟!.

ص: 87

شيء مؤسف ـ أيها الأخ الكريم ـ أن يطوف بي طائف من هذه الظنون، وأن أفصح عنه في أول رسالة أبعث بها إليك، ولكني خشيت أن يتصيدك الشيطان فيمن تصيد، وأن يوقع بيننا العداوة والبغضاء؛ فقد علمتني تجارب أبنائي ما لا تعلمه أنت، فكم من صديقين حميمين، أو أخوين شقيقين، غنى أحدهما ولم يغن الآخر، أو طار أحدهما في الآفاق، وبقي الآخر فوق ثراى، فأغرى بينهما الشيطان؛ فإذا هما عدوان لدودان.

لهذا أحببت أن أصارحك بدأة ذي بدء، إبقاء على ما بيننا من ود، وصلة أرحام بيننا ونسب.

الحق - أيها الأخ الكريم - أن حالتي في كثير من أمرها ليست بالحالة التي تبعث على الحسد، أو تثير الغيرة في نفس أخ كريم مثلك، فمذ هبط آدم على ظهري، وأنا أعاني من أبنائه شرا مستطيرا، وأسأل الله مخلصا أن يعجل بيوم القيامة، لأتخلص من هؤلاء على ظهري، ومن أولئك الذين هم في بطني، فيلقى كل منهم ما يستحق من نعيم الجنة، أو عذاب السعير.

لست ممن يجحدون نعم الله عليهم، أو يستخفون بها، ولا يشكرون حق على أن أعترف أن في بني آدم رجالا ونساء هم مناط عزتي وفخاري، إذا ما تنافست الكواكب، وتاه بعضها على بعض، إنهم لجديرون حقا أن تغبطني فيهم، وأن تتمنى على الله أن لو كنت حملت على ظهرك أناسا أمثالهم.

لست الآن بسبيل أن أعدهم لك، أو أقص أخبارهم عليك، ولكن رجلا على رأسهم لن أنساه ما حييت، ولا يستطيع قلمي أن يمسك عن الكتابة دون أن يذكر اسمه، ذلك هو محمد، وما أظنك إلا قد سمعت هذا الاسم، وما أظنك إلا قد عرفت خبره، فذكره قد طار في كل سماء، وحط في كل كوكب.

لا تتسع هذه الرسالة لأن أذكر غيره من المرسلين والنبيين، ومن علماء الدنيا والدين، ومن الشهداء الأبرار، وأبطال الحروب الأخيار، ومن المصلحين الذين أخلصوا في العمل، والأدباء الذين صدقوا في القول.

ص: 88

لا تتسع هذه الرسالة لأن أذكر غيره، ولا يتسع له الوقت، فمذ قتل قابيل هابيل وأنا أتمنى على الله أن ييسر سبيل لقياك، وأن يتح فرصة الاتصال بك، لأشكو إليك همومي، وأسمعك نحيبي وأنيني، وأشكرك في أفراحي ومراحي، وأستشيرك في كثير من أمري، فاليوم، وقد يسر الله الفرصة وأتاح، أجدني غير ذات قدرة، ولست بذات وقت، لأن أكتب إليك كثيرا.

لقد كان من نعم الله عليك ـ أيها الأخ الكريم ـ أن لم يذلل سطحك لأبناء آدم مهادا ومعاشا، عليهم إذا ما ألموا بك أن يتزودوا بالأنفاس التي يتنفسون، وبالطعام الذي يطعمون، وبالشراب الذي يشربون، ليس من البخل في شيء، ولا من العار، ألا يسمعوا منك أهلا ولا مرحبا، نعم، إنهم أبنائي، مني خلقوا، وإليّ يعودون، أطيب نفسا إذا طابوا، وأسوء حالا إذا ساءوا، ولكن هذه الدماء التي رويت منها بقاعي حتى شرقت، وهذه الجثث التي طعمت منها أرجائي حتى تخمت، وهذا الظلم الذي يأخذ به الأقوياء الضعفاء، وهذا الكيد الذي يكيده ذوو المعارف والتجارب والقوة لذوي الجهالة والفطرة والضعف، هذا كله نزع ما في قلبي من حنان الأمهات، وعطف الوالدات.

الخير في كثير، والرزق على وجهي واسع، وعطاء الله ماله من نفاد، ولكن كثيرا من أبنائي يستأثرون بالخير على غير حاجة، ويحرمون الآخرين على ما بهم من مغبة وضر، وتود طوائف شتى أن تكون ذات الأمر والنهي، إن حقا وإن باطلا، ليس لأحد معها سلطان.

ما أوغر صدري، وحرق حشاي، إلاّ أولئك الذين يشعلون الفتن في كل مكان، ثم يقولون: ما أقبح دخانها، ويثيرون الحرب والخصام بين الشعوب ثم يبكون الأمن والسلام، ويسلبون الناس خيراتهم، ويسيمون فيهم الأمراض، ثم يمنون عليهم قليلا من عطاء، وشيئا من دواء، أي بنوة هذه؟! وأي أبناء هؤلاء؟! أي أم تطيب لها الحياة، وهي لا تنام على غير أنين، ولا تستيقظ على غير جراح!!

ص: 89

هنيئا لك أيها الأخ الكريم ليلك ونهارك! هنيئا لك ليلك الذي تنامه ريان الجفون، مطمئن الأنفاس، مثلوج الفؤاد!

هنيئا لك نهارك الذي تستمتع به رخى البال، هادئ النفس، ساكن البلابل!

أما أنا - واحسرتاه - فلا أعرف الهناءة ليلا أو نهارا.

حيوان البر والبحر يتنازع، ويقضي بعضه على بعض، يدفعه الجوع وحب البقاء، أما أبناء آدم فلا أدري علام يتنازعون، ولم يتدافعون، وفيم يقتل بعضهم بعضا؟!

لقد كنت أدري، ولكني أصبحت لا أدري، لطول ما رأيت، وكثرة ما سمعت، فلكل معتد دعوى، ولكل ظالم نداء، ولكل مغتصب راية، ولكل منتصر حجة وبيان.

سل أيها القمر الساري أشعتك الناعمة اللينة الجميلة التي تغمر بها وجهي، وتطوف بأرجائي، وتقبل وجوه الناس جميعا دون محاباة.

سلها أيها القمر المنير، فقد صحبتني منذ الطفولة، وعرفت كل جيل، وابتسمت لكل قبيل، ورأيت السيوف التي تقطر الدماء، والقنابل التي تطمس المدن، رأت قبور الأحياء للأحياء، وعذاب الظالمين للأبرياء، وكيف تكون المنايا أعذب الأماني.

سلها، هل هناك من حافز غير جموح الغرائز، وحب السلطة، وهل هناك غايات سوى مغانم طمع، ومكاسب جشع، وهل هناك آراء وعقائد غير ترهات وأباطيل، ودعاوى وأضاليل، زينها خيال جامح، وموهها حقد دفين.

والآن دعني أحدثك حديثا آخر لعله يسرك، ويستهويك.

إنني جميلة، جميلة حقا، وعلى قسمات وجهي سحر وفتون، حتى هذا الإنسان الذي أفسد حياته، وأفسد الحياة من حوله، لقد خلقه الله في أحسن تقويم، وأبدع صورة.

ص: 90

جبالي متطاولة في الفضاء، وقد ضيفت الثلوج فوق القمم، فحينا تبرح وترحل، وحينا تقيم ولا تريم، ترتدي السحب تارة فلا يبدو لك منها شيء، وتتعرى حينا فتبدي كثيرا من الزينة، أشجار على السفوح يتهادى فيها النسيم فتميس أغصانها عجبا ودلالا، وتعصف فيها الرياح فتخر ركعا وسجودا، وصخور رقدت في مضاجعها مطمئنة، نائمة، حالمة؛ وصخور نتأت غاضبة، متحدية، ترى فيها الخصام والشر والتحفز.

وأودية وشعاب بين هذه الجبال، عميقة، سحيقة، يضل فيها النهار، ويضيع فيها البصر.

وعلى السفوح عيون ومياه تنحدر عجلى، تغني وتنشد فرحا بلقاء أمها بعد فراق طويل.

وعلى وجهي مروج فسيحة، مطمئنة، مخضرة، ضاحكة، بهيجة، تلقاك بلطف، وتنساب إلى نفسك برفق، وتجذب عينيك برقة، فلا تبغيان عنها حولا ولا تملان إليها نظرا، وتودان لو بقيت طويلا تمتعهما، وتستمتع.

وعلى مسافات تطول وتقصر، تشق ثراي أنهار على موعد مع البحر، تارة تخشى أن يفوتها، فتعدو غاضبة، معربدة الدفق، لها زمجرة وزبد، وتارة تعروها الثقة، فتسير الهوينى، هادئة الأنفاس، قد سكت عنها الغضب.

وعلى شواطئ بحاري جمال، وجلال، وخيال، وأناشيد، وقصائد شعر تروى دون نهاية، وقصائد حب وسلام وغزل، ترويها الأمواج إلى الرمل، وقصائد سخط وخصام وملل، تلقيها الأمواج على الصخر.

ولا أخلو من صحارى مسفرة لا تتبرج ولكنها جميلة، تعشقها الأنفس، وتهواها الأفئدة، حين تسيل على وجهها أشعتك، وتغشاها سكينة الليل، فتسمو بمن فيها إلى آفاق واسعة عميقة من الجمال والجلال والمهابة، وتقربهم فيها إلى الله.

هكذا خلقت وهكذا أعيش أيها الأخ الحبيب، أما أنت

!!

أختك المشتاقة: الأرض

ص: 91

عتاب وتحذير

للشيخ محمد المجذوب

دعوني أنفثُ بعض الألمْ عتابًا لكمْ يا أهيْل الحَرَمْ

أتدرونَ فيمَ غدت أرضُكم ولا زرعَ فيها مزار الأممْ!

وما بالُ حبكُم قد عرى

إلى منتهى الدهر في كل دَمْ؟

ف باتَ التغني بذكراكمُ

ن شيدَ الحياة على كل فمْ

كأنكم أكبدُ المسلمين

فصحتُها من أجلّ النعمْ

.. أذاك لفضل لكم في الأنام؟

وفي حلبة السيف أم بالقلم!

وقد أوشك العلمَ أن يستحيل

لديكمْ، ويا أسفا، للعدمْ!

وقد طالما أتحفَ الحَرَمانِ

الوجود بكل إمام علم

وكم فاتح أخرجا للورى ليخرجهم من سحيق الظلم

فمروا على الأرض مرّ الغُيوث تبثُ الجَمَالَ وتُحيي الرمم

فشقوا العيونَ لعمي القلوب وذادوا عن الآخرين الصمم

وبالعزم والدم والمكرمات أقاموا صوى فوق القمم

أولاك الأُلى قد غدوتم بهم أحبّ إلى الخلق من ذي الرحم

ولولاهم، وهمُ نعمة السـ ماء، لكنا كبعض النّعم

ولولا الرسول ووحي الكتاب لكانوا وكنا غثاء الخِصَم

تراث النبوة.. أي الفخارِ يدانيه يوم تُعدُ القيم

لو العالمون حووا بعضه لعزبه عُربُهم والعجم

هجرتم معالمه الهاديات إلى كل منزلق متهم

وكان الأحق بأن تجعلوه منار حياتكم الملتزم

ألم تلمحوا أدمع المسجدين تكاد عليكم أسى تضطرم

تركتم نواحيها تشتكي عقوق الجوار لباري النسم

وقد رحتم تملئون الدروب ولا يعتريكم شعور الندم

تمر الجموع بكم للصلاة وصدر الطريق بكم مزدحم

فلا تنزون عن الناظرين ولا تحذرون حلول النقم

وكم ذي سفهٍ يستهين

بأقدس ما تقتضيه الحرم

فيُصْلِي المصلين مذياعه هراءً له مثل وقع الحمم

فلا هو يعرف قدر الصلاة

ولا من يُعرِّفه من أَمَم

وكم ثم ذات سقام رأت

فراغ المجال لأهل السقم

فراحت تحدى بأغوائها

ص: 92

هدى الله لا تتقي أي ذم

تجوب المدينة في حلة

تكاد تُصرّح بالمكتتم

وتقتحم الحرم المستغيث

برب البرية مما ألم

وليس لذي غيرة جرأة

يقول بها للخليع احتشم

وكيف!..ولو جاءها منكرا

لأنكر إنكاره أو شتم

كأن الحياة غدت عندكم

سباقا إلى اللهو لا ينسجم

تؤججه سورة الجائعين لجمع الحطام ورفع الأطم

وللركض خلف طيوف السراب

بباريس أو في ظلال الهرم

ومن ثم كان اصطياد النقود

لدى جلكم مبتغاه الأهم

فذوا العجز لا يستحق البقاء

لديكم، ورب الغنى محترم

وفي أرضكم يستحيل الشحيح

من الوافدين أليف الكرم

وهذا الذي قد رزقتم به

كنوز الشعوب التي لم ترم

وهذا الذي قد أثار السعار

إلى كل سحت وهاج القرم

فشوه معنى الوجود الصحيح

لدى الأكثرين وأبلى الذمم

فباتت قوى الحق معزولة

وراء القلوب بحكم العدم

فياليت شعري أين المصير

إذا ما استمرت زحوفُ الضرَمَ!

وأين الفرار، وأين النجاء

وربكم الطالب المنتقم!

كأني بكم في حبال القضاء

وقد حان وقت العقاب الأصم

تصيحون يا ربنا رحمة

ولا رحمة يوم جَزِّ اللمم

وتبغون معتصمًا من يديه

وهيهات..ما منهما معتصم

..فهل عودة يا غواة الحرم

إلى الله قبل البلاء العمم!

فإني لأخشى غدا أن تلاقوا

كما لقيت سبأ في إرم

ولستم بأعظم منهم وإن فا

ق ذنبهم ذنبكم في العظم

وقد جرفتهم سيول العذاب

ولم يجدهم حَوْلُهم حين طم

ولن يعجز الله أمر العصاة

وفي قول (كن) ألف سيل العرم

وهل يتخلى عن الحرمين

ولم يبق غيرهما للأمم!

ص: 93

في مناسبة الآيات والسور

للشيخ أحمد حسن

المدرس بالمعهد الثانوي

تعريف المناسبة:

في اللغة: المشاكلة والقرابة.

في الاصطلاح: عرفه البقاعي بقوله: "علم تعرف منه علل الترتيب".

وموضوعه: أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الترتيب.

وثمرته: الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له وما وراءه وما أمامه، من الارتباط والتعلق الذي هو كلحمة النسب، هذا بالنسبة لعلم المناسبة بشكل عام؛ أما:

علم مناسبات القرآن:

فهو علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة، لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال، وتوقف الإجازة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب من ذلك فيها، ويفيد ذلك المقصود من جميع جمله.

ونسبته من علم التفسير، نسبة البيان من علم النحو [1] .

وعلم المناسبة على نوعين:

1-

مناسبة الآي بعضها لبعض؛ وهي بيان ارتباطها وتناسقها كأنها جملة واحدة، ومرجعها إلى معنى رابط بينها عام أو خاص، عقلي أو حسي، أو غير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم الذهني كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين ونحوه [2] .

2-

مناسبة السور بعضها لبعض، وهو ثلاثة أنواع:

- أحدها: تناسب بين السورتين في موضوعهما، وهو الأصل والأساس.

- ثانيهما: تناسب بين فاتحة السورة والتي قبلها كالحواميم.

- ثالثها: مناسبة فاتحة السورة لخاتمة ما قبلها، مثل (وإدبار النجوم

والنجم إذا هوى) .

ويوجد نوع رابع من المناسبة، وهو مناسبة فاتحة السورة لخاتمتها، أفرده السيوطي بالتأليف كتب فيه جزءا صغيرا سماه (مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع)[3] .

شرف هذا العلم وفائدته:

المناسبة علم شريف، متحرر نبه العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول.

ص: 94

وفائدته: جعل أجزاء الكلام بعضها آخذ بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء [4] .

قال الإمام فخر الدين الرازي: "أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"، وقال بعض الأئمة:"من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض لئلا يكون منقطعا، وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم وفوائده غزيرة".

قال أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم".

وقال الشيخ العز بن عبد السلام: "المناسبة علم حسن، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر".

وقال البقاعي: "

وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب، ويتمكن من اللب، وذلك لأنّ يكشف أن للإعجاز طريقين:

أحدهما: نظم كل جملة على حيالها.، بحسب التركيب.

والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب.

والأول أقرب تناولا وأسهل ذوقا؛ فإن كل من سمع القرآن من ذكي وغبي يهتز لمعانيه، ويحصل له عند سماعه روعة بنشاط، ورهبة مع انبساط، لا تحصل عند سماع غيره، ولكلما دقق النظر في المعنى عظم عنده موقع الإعجاز، ثم إذا عبر الفطن من ذلك إلى تأمل ربط كل جملة بما تلته وما تلاها خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متباينة المقاصد؛ فظن أنّها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما كان حصل له بالسماع من الهز والبسط، فربما شككه ذلك، وتزلزل إيمانه، وزحزح إيقانه.

ص: 95

وربما وقف كثير من أذكياء المخالفين عن الدخول في هذا الدين، بعدما وضحت إليه دلائله، وبرزت له من جمالها دقائقه وجلائله لحكمة أرادها منزله، وأحكمها بجمله ومفصله، فإذا استعان الله، وأدام الطرق لباب الفرج بإنعام التأمل وإظهار العجز، والوثوق بأنّه في الذروة من إحكام الربط، كما في الأوج من حسن المعنى واللفظ، لكونه من جلّ عن شوائب النقص، وحاز صفات الكمال إيمانا بالغيب، وتصديقا بالرب، قائلا ما قال الراسخون في العلم:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، فانفتح له ذلك الباب ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار، رقص الفكر فيه طربا، وسكر والله استغرابا وعجبا، وطاش لعظمة ذلك جنانه، فرسخ من غير ريبة إيمانه، ورأى أن المقصود بالترتيب معان جليلة الوصف بديعة الرصف، عليَّة الأمر، عظيمة القدر، مباعدة لمعاني الكلام على أنّها منها أخذت، فسبحان من أنزله وأحكمه وفصله، وغطّاه وجلاّه، وبينه غاية البيان وأخفاه، وبذلك أيضا يوقف على الحق من معاني آيات حار فيها المفسرون لتضييع هذا الباب من غير ارتياب

وبه تتبين لك أسرار القصص المكررات، وأنّ كل سورة أعيدت فيها قصة فلمعنى أدعى في تلك السورة استدل عليه بتلك القصة غير المعنى الذي سيقت له في السورة الثانية السابقة، ومن هنا اختلفت الألفاظ بحسب تلك الأغراض، وتغيرت النظوم بالتأخير والتقديم، والإيجاز والتطويل، مع أنّه لا يخالف شيء من ذلك أصل المعنى الذي تكونت به القصة، وعلى قدر غموض تلك المناسبات يكون وضوحها بعد انكشافها".

أول من تكلم بالمناسبة:

ص: 96

قال الشيخ أبو الحسن الشهراباني: "أول من أظهر علم المناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري [5] ، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه الآية؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة".

من أفرده بالتصنيف:

لقد أفرده بالتصنيف الأستاذ أبو جعفر بن الزبير [6] شيخ الشيخ أبي حيان في كتاب سماه: (البرهان في مناسبة ترتيب القرآن)، والشيخ برهان الدين البقاعي في كتابه:(نظم الدرر في تناسب الآي والسور)[7]، والسيوطي في كتابه:(أسرار التنزيل) ، و (تناسق الدرر في تناسب السور) ، و (مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع)، وأبو الفضل عبد الله محمد الصديق الغماري في كتابه:(جواهر البيان في تناسب سور القرآن)، وللمولوي أشرف علي التهانوي كتاب أسماه:(سبق الغايات في نسق الآيات)، وللمعلم عبد الحميد الفراهي كتاب أسماه:(دلائل النظام) ، وإن كان النظام عنده أعم من المناسبة كما سيأتي.

من عرض له من المفسرين:

ممن اعتنى بالمناسبة من المفسرين الإمام الرباني ابو الحسن علي بن أحمد بن الحسن البخيبي اليمني الحرّالي، نزيل حماة من بلاد الشام في تفسيره الذي يقول فيه البقاعي:"

فرأيته عديم النظير، وقد ذكر فيه المناسبات، وقد ذكرت ما أعجبني منها وعزوته إليه".

وابن النقيب الحنفي في تفسيره، وهو في نحو ستين مجلدا، يذكر فيه المناسبات بالنسبة إلى الآيات لا جملها وإلى القصص لا جميع آياتها.

والفخر الرازي في كتابه: (التفسير الكبير) ، وأبو السعود في تفسيره، والمراغي في تفسيره، والزمخشري في الكشاف، والسيد رشيد رضا في تفسير المنار، والمخدوم المهايمي الهندي في تفسيره:(تبصير الرحمن وتيسير المنان)، وسيد قطب في كتابه:(في ظلال القرآن) .

ص: 97

وممن عرض له من الكتاب الدكتور محمد عبد دراز في كتابه: (النبأ العظيم)، والمعلم الفراهي [8] في كتابه:(فاتحة نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان) ، (ودلائل النظام) ، هذا بالإضافة إلى ما كتبه الزركشي في (البرهان) ، والسيوطي في (الإتقان) ، وإن كان ما قاله السيوطي لا يختلف كثيرا عما قاله الزركشي.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

راجع مقدمة تفسير البقاعي: نظم الدرر في تناسب الآي والسور.

[2]

انظر الإتقان للسيوطي ص108، من الجزء الثاني.

[3]

انظر الجواهر البيان في تناسب سور القرآن للغماري: ص14،16.

[4]

توهم عبارة الزركشي أن علم المناسبة هو الذي يجعل أجزاء الكلام بعضها آخذ بأعناق بعض، في حين أن الارتباط قائم وموجود في الأصل، ولكن علم المناسبة هو الذي يكشف هذا الارتباط ويميط عنه اللثام فيبدو بعد أن كان خافيا.

[5]

هو أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري الفقيه الشافعي الحافظ، رحل في طلب العلم إلى العراق والشام، ومصر وقرأ على المزني، ثم سكن بغداد، وصار إماما للشافعية بالعراق، وتوفي عام 324هـ، انظر: اللباب:2/252، طبقات القراء:1/449، شذرات الذهب:2/302.

[6]

هو أبو جعفر أحمد بن إبراهيم الزبير الأندلسي النحوي الحافظ صاحب كتاب: الذيل على الصلة، توفي عام807 هـ، انظر ترجمته في الدرر الكامنة:1/84ـ86.

[7]

مخطوط بدار الكتب المصرية ومنه نسخة مصورة بالمكتبة الأزهرية.

[8]

هو حميد الدين ابن أحمد عبد الحميد الأنصاري الفراهي ولد رحمه الله 1280هـ في قرية فريها من قرى مديرية أعظم كره في الهند، له مؤلفات كثيرة في علوم القرآن وهو صاحب التفسير: نظام القرآن، ودلائل النظام، والتكميل في أصول التأويل، ومفردات القرآن، وجمهرة البلاغة، وغيرها توفي عام 1349هـ.

ص: 98

لمحات تاريخية من حياة شيخ الإسلام ابن تيميّة

بقلم: الطالب صالح بن سعيد بن هلابي

لم يكن ابن تيمية العالم المجتهد في علوم الشريعة وفروعها أو الناقد اللاذع لخصومه من المخالفين له في العقيدة أو المحدث البارع في علوم الحديث ومعرفة طبقات الرجال، ولم يكن ذو عقلية جبارة عظيمة حتى وصل به الحد أن ينال من كبار الفلاسفة والمناطقة وبيان أخطائهم وهفواتهم في علومهم التي أدخلوها في علوم الشريعة، لم يكن كل هذا فحسب وإنما كان أيضا مع هذا كله قائدا عسكريا عظيما وسياسيا محنكا نابغا، فقد كتب الرسائل العديدة في السياسة الإسلامية من أهمها رسالة السياسة الشرعية بين الراعي والرعية ورسالة الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية وفتاوى أخرى لا تحصى مما حدا بالمستشرق الفرنسي هنري لا وست أن يجمع آراءه في السياسة الاجتماعية وأن يجعلها موضوعا لإحدى الرسالتين اللتين تحصل بهما على الدكتوراه من باريس كما أشرت إلى ذلك في الحلقة الأولى من هذه المجلة الغراء في العدد الرابع من السنة الأولى.

ابن تيمية وعهد التتار:

ص: 99

واجهت العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري هزة عنيفة وكارثة يندر نظيرها في تاريخ العالم كله منذ أن خلق الله الدنيا بكاملها - اللهم إلا ما كان من الحرب العالمية الأولى والثانية التي ذهب الملايين فيهما - ألا وهي هجوم التتار على العالم الإسلامي حيث كان بلاء عظيما ومحنة لا تقاس بأي محنة عادية تمر على المسلمين مر الكرام، فقد بدأ هؤلاء الوحوش في بخارى ودمروها ثم توجهوا إلى سمرقند وأبادوها ثم على قزوين ومرو ونيسابور حتى وصلت جيوشهم بغداد وهناك قامت المذابح ودمرت المدن بكاملها واستمر القتل بضعا وثلاثين يوما حتى تعفنت الشوارع من الجثث المرمية فيها ولا يستطيع القلم أن يصف في هذه العجالة ما جرى من محن وبلاء ويكفينا أن نقتطف كلمة المؤرخ الإسلامي الشهير ابن الأثير المتوفى 630هـ حيث كتب لنا عن تلك الحوادث المروعة وقلبه يتفطر ألما وحسرة ولا يجري القلم بما يكن في الصدر.

ص: 100

يقول ابن الأثير [1] : " لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك فياليت أمي لم تلدني وياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعا - إلى أن قال - وهذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها وعمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ أن خلق الله تعالى آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون"إلى آخر ما كتبه رحمه الله بكل حسرة وندامة [2] .

التتار على أبواب الشام:

ما أن وصلت أنباء التتار بأنهم زاحفون على بلاد الشام وأنهم يريدونها حتى بدا الخوف والذعر في البلاد وبدأ الناس يرحلون من الشام إلى مصر وإلى الحصون المنيعة خارج الشام يحملون أطفالهم ونساءهم ويبيعون أمتعتهم وملابسهم بأرخص الأثمان، وأخذوا يشترون الحمير والبغال لكي يرحلوا عليها حتى وصل قيمة البغل والجمل الواحد ألف درهم وانتشرت الفوضى والاضطرابات فكسرت الدكاكين ونهبت أموال الناس وهرب المساجين من السجون وخرج كبار أعيان البلد ونوابها وبعض من علمائها وأخذ كل ينجو بنفسه وبأهله من هذا البلاء المقبل على الأمة حتى أصبح لا يتكامل الصف الواحد في يوم الجمعة في المسجد الجامع الذي كان يغص بالمصلين، هذه بعض روايات الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية والذي عاصر هذه الحوادث بنفسه وهو عالم الشام وشيخها وتلميذ ابن تيمية.

ص: 101

وإذا أردنا أن نتعرف على هؤلاء الوحوش من هم؟ وما هي ديانتهم؟ حتى تعطى لنا صورة واضحة عن اتجاهاتهم.

إنهم من جهة الصين بلى الله بهم الأمة في فترة من الزمن، أما ديانتهم فهم وثنيون، يقول ابن الأثير:" وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها ولا يحرمون شيئا يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها ولا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال فإذا جاء الولد لا يعرف ".

ولعل الشيوعية ترجع إلى أصلهم إلا أن أولئك كانوا وثنيين والشيوعية لا تعترف بوجود الله مطلقا، ولكن نرى أن التتار أسلموا فيما بعد كما سيأتي.

موقف ابن تيمية من الاضطرابات:

رأى ابن تيمية تلك الاضطرابات والنهب والسلب في البلاد فوقف وقوف الجبال الراسيات فلم يفر أو يخرج من البلد كما فعل غيره لأن له قلبا يحول بينه وبين الفرار وله شعور يمنعه من أن يترك العامة من غير مواس وله دين يردعه من أن يترك أمور الناس فوضى لا حاكم لها، وهو هو في علمه ودينه وعظمته أحس ابن تيمية بهذه المحنة فجمع أعيان البلاد الذين لم يفروا بعد، ورد عليهم أمورهم وثبتهم وأخذ يتلو عليهم آيات القرآن الكريم الواردة في الجهاد وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واتفق معهم على ضبط الأمور وأن يذهب على راس وفد منهم يخاطبون ملك التتار في الامتناع عن الدخول إلى دمشق.

ابن تيمية في مقابلة ملك التتار:

ذهب الشيخ ابن تيمية مع الوفد الشامي وكان رئيسا للوفد إلى مقابلة (قازان) ملك التتار وقائدهم.

ص: 102

يقول ابن كثير: " وقد كسا الله الشيخ حلة من المهابة والإيمان والتقى ولقد قال أحد الذين شاهدوا اللقاء، كنت حاضرا مع الشيخ فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل ويرفع صوته ويقرب منه.. والسلطان مع ذلك مقبل عليه مصغ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه؛ وإن السلطان من شدة ما أوقع الله في قلبه من الهيبة والمحبة سأل من هذا الشيخ؟ إني لم أر مثله ولا أثبت قلبا منه ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه فأخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل ".

ومما خاطبه به في هذه المقابلة وعن طريق الترجمان: " قل لقازان أنت تزعم أنك مسلم [3] ، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وجرت ثم خرج بعد هذا القول من عنده معززا مكرما ".

ويقول صاحب كتاب: القول الجلي في ترجمة ابن تيمية الحنبلي عن هذه المقابلة: " إنهم لما حضروا مجلس قازان قدم لهم الطعام فأكل منه الجميع إلا ابن تيمية فقيل له لماذا لا تأكل؟ فقال: كيف آكل من طعامك وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس.. وطلب منه قازان الدعاء له فقال في دعائه: اللهم إن كنت تعلم أنه إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وجاهد في سبيلك فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فأن تفعل به وتصنع "، فكان يدعو وقازان يؤمن على دعائه.

يقول الراوي: حين أخذ ابن تيمية يدعو بدأنا نجمع ثيابنا خوفا من أن يقتل في المجلس ويطرطس دمه في ثيابنا؛ فخرجنا من عنده وقلنا له: كدت أن تهلكنا معك، ثم اختلفوا في ما بينهم فسلكوا طريقا وهو مع جماعة سلكوا طريقا آخر، فما أن وصل إلى الشام إلا وهو محفوف بنحو ثلاثمائة فارس استقبلوه في أثناء الطريق وشكروه على مساعيه الحميدة التي قام بها.

ص: 103

ليت شعري هل تعود هذه العظمة والصولة والجولة في العالم الإسلامي لعلماء الإسلام اليوم أم إلى اندثار ومسخ وتشويه، والجواب بسيط أقول: لو وجد معشار من يقوم بعمل ابن تيمية من الإخلاص في القول والعمل لصنع المعجزات في تاريخنا اليوم هذا الذي أبى أن يأكل على مائدة هذا الطاغية الجبار وأخذ يدعو عليه فكيف بمن يحيك الفتاوى للظلمة الفجرة بديك رومي وبضع دجاجات يأكلها على حساب الإسلام؛ فهل يستطيع أن يغير شيئا في مجرى التاريخ؟ كلا وألف كلا.

نتائج هذه المقابلة:

أنتجت هذه المقابلة خيرا لأهل الشام وإن كانت محدودة حيث أمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعلن الأمان بمنشور عام في البلد وسكنت النفوس واطمأنت الأحوال وبعد أيام من هذه المحنة بدأ العبث من الجند خارج المدينة وحاول بعض الذين مالؤا التتار تسليم القلعة إلى جيوش التتار فأرسل في الحال ابن تيمية إلى قواد القلعة قائل: " لا تسلموا القلعة وقاتلوا دونها ولو إلى آخر حجارة فيها وإلى آخر قطرة منكم "، وكان يدور على الجنود بنفسه خارج المدينة وربما بات معهم الليالي يتلو عليهم آيات الجهاد في سبيل الله، ومن هنا ندرك شخصية هذا الإمام الجليل وأنه لم تكن صلته بعوام الناس في دروس الوعظ والإرشاد وإثارة روح الجهاد في نفوسهم بل كانت صلته وثيقة بكبار القواد في الجيش كما كانت مع الأمراء والنواب كما ستعرف ذلك قريبا.

نظر ابن تيمية في واقع الجيوش الجرارة من جيوش التتار وأنه لا مفر لهم من القتال فوالى الاجتماعات وعقد المجالس المتتالية للعامة والخاصة وأخذ يحرض على القتال ويتلو آيات الجهاد والأحاديث الواردة في ذلك وكان يتأول قوله تعالى: {ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور} ، وكان يقسم بالله عزوجل:" إنكم لمنصورون على هؤلاء "، فيقول له بعض الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: أقولها تحقيقا لا تعليقا.

ص: 104

وأخذ يراسل الملوك والسلاطين والأمراء في كل ناحية، وخاصة السلطان الناصر بن قلاوون سلطان مصر ورغب الناس في الإنفاق في سبيل الله.

بعد هذه المجالس المتتالية أعلن إعلان عام أن لا يسافر ولا يخرج من البلد أحد إلا بمرسوم خاص.

ابن تيمية يسافر إلى مصر:

طلب الأمراء ونائب السلطنة بالشام من ابن تيمية أن يسافر إلى مصر بنفسه ليستحث السلطان على المجيء ليحضر بنفسه ويدرك ما عليه الناس من الخوف والذل والرعب، فوافق ابن تيمية على السفر إلى السلطان وما أن وصل إلى مصر حتى وجد السلطان قد دخل القاهرة وتفرقت جيوشه وعساكره بعد أن سمع الناس أنه خارج إلى الشام لملاقاة التتار فاجتمع به ابن تيمية وحثه على عودة الجيش وصرخ في وجهه قائلا:" إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن.. إلى أن قال: لو قدر أنكم لستم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم"[4] ، ثم حث الأمراء والسلطان بالخروج بالجيش إلى ملاقاة العدو.

رجع ابن تيمية إلى الشام، ويقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه ابن تيمية عند هذه النقطة في وصف محنة أهل الشام:" وأتاهم الأمن من ثلاث نواح فابن تيمية قد عاد إليهم وهو أمنهم وملاذهم وتأكدوا إقبال جند السلطان ثم تأكد لديهم أمر آخر وهو أن التتار قد عادوا من عامهم هذا لما أحسوا بأن خصومهم قد أعدوا العدة وأخذوا الأهبة ولا حظوا ضعفا في أنفسهم ولم يتقدموا وهو على هذا الضعف ".

ص: 105

فإذن لم يحصل قتال في هذه السنة وعاد ابن تيمية إلى دروسه ومجالسه العلمية وهو لم يفارقها إلا بالقدر الذي يضطر إليه في مقابلات الملوك والأمراء والسلاطين ومخاطبة القواد والاتصال بالجنود على جبهات القتال، ونرى ابن تيمية في هذه الفترة وقد صار مبسوط اليد والسلطان نراه يقيم الحدود ويحارب الرذائل ويقوم الأخلاق في الأمة؛ يقول الحافظ ابن كثير:" دار الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ففرح الناس بذلك فرحا شديدا "[5] .

ابن تيمة في الميدان:

جاء التتار بجمعهم وجموعهم إلى الشام سنة 702هـ وأحاطوا بدمشق من كل مكان وأرجف المرجفون وبلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالا شديدا، وتحالف العلماء والقضاة والأمراء في هذه المرة وابن تيمية على رأس الجميع يثبت القلوب ويعدهم بالنصر وكان يتأول قوله تعالى:{ومن بغى عليه لينصرنه الله} ، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنكم لمنصورون فيقول له بعض الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: أقولها تحقيقا لا تعليقا، وأفتى الناس بالفطر إذ كانت هذه وقعة "شقحب " في رمضان وتردد بعض الجند في قتال هؤلاء لأنهم يزعمون أنهم مسلون فأفتاهم ابن تيمية وبين حكم الإسلام فيهم وأنهم من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية حتى كان يقول هم:" إذا رأيتموني وأنا في ذلك الجانب - أي معهم - وعلى رأسي المصحف فاقتلوني"، وكان يدور على الجند والأمراء في الميدان فيأكل أمامهم ليبين لهم أنه مفطر ويروي لهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم في عام الفتح:" إنكم ملاقوا العدو غدا والفطر أقوى لكم "،.

وطلب منه السلطان قبيل المعركة أن يقف معه وتحت راية مصر فأبى قائلا: " السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم "[6] .

ص: 106

بدأت المعركة والتحم القتال بين الفريقين ودارت رحى الحرب ومضى يوم كامل وهم في معركة دائرة حتى غطاهم الليل بسواده وهربت جيوش التتار واعتصمت بالجبال وبعد أن ظلت سيوف المسلمين تنوشهم من كل مكان وحاصرهم حصارا شديدا فقتلوا منهم أمما لا يحصى عددهم إلا الله تعالى.

وهكذا رأت جيوش التتار الهزيمة المنكرة ولأول مرة في تاريخها الطويل وحروبها المدمرة، حين وقف في وجهها أمثال الإمام العظيم ابن تيمية؛ والواقع أن ابن تيمية لم ينقذ الشام أو مصر فحسب من شرور هؤلاء، ولكن أنقذ العرب والإنسانية بكاملها حيث كانوا مخاف الشرق والغرب.

وقد كانت غاراتهم أشبه بهزات عنيفة تغير وجه الأرض.

يقول جيبون المؤرخ الغربي في تصوير هول الغارات التي يشنونها: " إن بعض سكان السويد قد سمعوا عن طريق روسيا نبأ ذلك الطوفان المغولي فلم يستطيعوا أن يخرجوا كعادتهم إلى الصيد في سواحل أنجلترا خوفا من المغول"[7] .

هذه لمحات خاطفة عن هذا الإمام الجليل والقائد العظيم الذي أنقذ به العالم الإسلامي كله بل والغرب كله كما رأينا من نص جيبون ولا يسع المجال لسرد كل ما قيل في هذا الباب:

هذا هو ابن تيمية الذي آمن بوعد ربه والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} ، وهو القائل عز شأنه:{كان حقا علينا نصر المؤمنين} .

هذا هو ابن تيمية الذي لا زال في كثير من الأوساط العلمية مظلوما مبغوضا لا يعرف له قدره ولا جهاده العظيم المتواصل، وإني أسأل الله أن يهيء لهذه الأمة في فترتها العصيبة من أمثال ابن تيمية لينقذوا العالم الإسلامي الذي وقع تحت أيدي الصهيونية والشيوعية الملحدة والصليبية الحاقدة واليهودية المجرمة من بلاد الإسلام والمسلمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه تسليما كثيرا.

ص: 107

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

ـ في كتابه الكامل ج12.

[2]

ـ انظر تفاصيل هذه الحوادث في تاريخ الكامل لابن الأثير ج12 والبداية والنهاية لابن كثيرج13 ص300، ودائرة المعارف للبستاني6ص51 مادة (تتر)

[3]

ـ هو رابع ملك مسلم من ملوك التتار وقد توفي سنة703هـ.

[4]

ـ البداية والنهاية: ج14ص15.

[5]

ـ البداية والنهاية: ج14ص11

[6]

ـ البداية والنهاية: ج14ص26.

[7]

ـ ابن تيمية للشيخ عبد العزيز المراغي.

ص: 108

إنا لله وإنا إليه راجعون

في العشر الأواخر من رمضان سنة 1389 هـ انتقل إلى رحمته تعالى سماحة المفتي الأكبر للديار السعودية ورئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.

والمجلة إذ تقدم عزاءها إلى أبنائه وذويه وإلى نائب رئيس الجامعة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز وإلى جميع أعضاء الجامعة أساتذة وموظفين وطلابا وإلى العالم الإسلامي.. نسأل الله عزوجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ومغفرته ويجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

والجدير بالذكر أن سماحة الفقيد كان يشغل إلى جانب ما ذكر منصب رئاسة القضاة بالمملكة ورئاسة الرابطة للمعاهد والكليات ورئاسة الرابطة الإسلامية بمكة المكرمة.

المجلة

ص: 109

مع الصحافة

ظهر الآن سر التآمر على الخلافة الإسلامية

(نشرت جريدة الميثاق التي تصدرها رابطة علماء المغرب في العدد 94 من سنتها السابعة المقال التالي:

نعم ظهر السر في تآمر الدول الغربية بالأمس القريب على الخلافة الإسلامية حتى أطاحوا بها على يد ثلة من ربائبهم وصنائعهم ممن زعموا أنهم رواد البعث الإسلامي أو العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وشوهوا سمعتها وألحقوا بعدها كل وصمة من الرجعية والتأخر، وجعلوا الجالس على عرشها باستحقاق عبد الحميد الثاني مثال الرعونة والاستبداد، ثم خلعوه فلم يستقم لها أمر بعده.

فها هو البابا يصول ويجول، ويتدخل في القضايا السياسية الكبرى، لصالح المسيحية طبعا، ويسافر إلى إفريقيا متفقدا رعاياه، متقبلا فروض الطاعة من الرؤساء المسيحيين الذين فرض بعضهم فرضا على دول إسلامية مئة في المئة تقريبا مركزا عمله على الإقليم النيجيري المنفصل عن أم الوطن بمؤامرة مسيحية مكشوفة، وهذا يعني أن المسيحية ومستقبلها في القارة السمراء لها من يرعاها ويتعدها سواء من الناحية المادية أو المعنوية في حين أن الديانة الأخرى وهي الإسلام الذي يعتنقه أكثر من ثلثي سكان إفريقيا لا تجد من يهتم بها أو يحميها من مؤامرات الصليبيين الجدد وحلفائهم الاستعماريين.

إن هذا الفراغ في العالم الإسلامي هو ما سعى إليه من كانوا يسمون في مطلع هذا القرن بالشبان الترك ومن حذا حذوهم من المغفلين العرب المسلمين الذين فتلوا في الذروة والغرب من حيث لا يشعرون لتحقيق أمل الغرب المسيحي في القضاء على خلافة الإسلام وتفريق كلمة المسلمين وتقسيمهم إلى دويلات وشعوب متباينة متقاطعة حتى صاروا إلى ما نراهم عليه الآن من تشتت وتفتت وتمزق، وما يتبع ذلك من ضعف وذل وهوان.

ص: 110

ولقد قلنا مرارا أن القارة الوحيدة التي يجب أن تكون إسلامية هي قارتنا الإفريقية، نادينا بذلك في مؤتمر رابطة العالم الإسلامي وبينا الأخطار التي تتهدد الإسلام فيها بتولية قيادة منظمة الوحدة الإفريقية إلى رئيس غير مسلم، وكتبنا في ذلك المقالات المتعددة وتحدثنا به في غير ما مؤتمر، وهاهو ذلك الخطر يكشف عن وجهه، وهاهو ذا الإسلام غريب في داره، يتيم بين أهله وذويه، لا يجد من يهتم به ولا من يدافع عنه.

ولو كانت دولة الخلافة الإسلامية قائمة لساندت النيجيريين الاتحاديين ولارتفع صوت الإسلام باستنكار المؤامرات المسيحية ضد وحدة التراب النيجيري، تلك المؤامرات التي يشترك في تدبيرها حتى الصليب الأحمر الذي يعتبر منظمة إنسانية حيادية، ومن واجبه أن يبقى كذلك، ويبلغ الأمر إلى أن ينتقل الكرسي الرسولي - كما يسمونه - إلى عين المكان ليبارك المساعي التي تبذل من أجل تعزيز الانفصاليين البيافريين، وإن تظاهر بالدعوة إلى السلام ومحاولة التوفيق بين المسيحية والإسلام، لكن من غير أن يكون هناك طرف وزعامته الروحية المسيحية.

فهل تكون في هذا عبرة للرؤساء والقادة المسلمين الذين جعلوا قضية الإسلام دبر آذانهم، فليراجعوا موقفهم ويعلموا أن سياستهم هذه منبوذة من شعوبهم ولا يرضى عنها أيضا حتى الكمشة من المسيحيين غير المخلصين لأوطانهم من شعوبهم، لأن هذه الكمشة لا تريد أن يعود الحكم المسيحي الاستعماري لبلاد الإسلام والبلاد العربية خاصة.

إننا نهيب بالدول الإسلامية إلى أن تعلن تأييدها للقضايا الإسلامية والدين لا بأي اسم آخر وليتقدم إلى ذلك من عنده بقية من إيمان ولا عليه فيمن خالفه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .

ص: 111

من تاريخ المذاهب الهدامة

كتاب أسرار الباطنية لمحمد بن مالك (3)

بقلم محمد بن مالك اليماني

باب ذكر علي بن فضل الجدني لعنه الله:

من ذرية جدن و (الأجدون) من سبأ صهيب وأصله من جيشان [1] ، وكان في أوله ينتحل الإثني عشرية فخرج للحج ثم زار [2]، قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم مضى إلى الكوفة لزيادة قبر الحسين بن علي رضي الله عنه فلما وصل إلى الكوفة وزار قبر الحسين رضي الله عنه بكى على القبر بكاء شديدا وجعل ينوح ويقول بأبي أنت يا ابن الزهراء المضرح بالدماء الممنوع من شرب الماء وكان ميمون القداح على القبر وولده عبيد فلما بصرا به سرهما وطمعا به وعلما أنه ممن يميل إليهما ويدخل في ناموسهما فقال: ميمون أيها الشاب ما كنت تفعل لو رأيت صاحب هذا القبر؟ قال: إذا والله أضع له خدي وأجاهد بين يديه حتى أموت شهيدا، فقال ميمون: أتظن أن الله قطع هذا الأمر؟ قال له علي بن فضل: لا ولكن لا اعلم ذلك فهل عندك منه خبر أيها الشيخ؟ فقال أخبرك به إن شاء الله عند الإمكان ثم قام ميمون فتعلق به؛ قال ميمون: تقف بهذا المسجد إلى غد، فوقف أياما فلم ير له خبرا، فودع أصحابه وقال لهم: أما أنا فلا أبرح هاهنا حتى أتنجز وعدا قد وعدته، فأخذ له من المؤونة ما يكفيه فوق أربعين يوما وميمون وولده يرمقانه من حيث لا يعلم بهما، فلما رأى ميمون صبره أعجبه، وعلم أنه لا يخالفه في شيء من دعوته والميل إلى كفره وضلالته؛ فأتاه عبيد فوثب إليه فاعتنقه، وقال: سبحان الله يا سيدي وعدني الشيخ وعدا فأخلفني فقال: لم يخلفك، وإنما قال: أنا آتيك غدا إن شاء الله، وله في هذا مخرج على ضميره، ثم جلسا وجرى بينهما الكلام، وقال له: يا أخي اعلم أن ذلك الشيخ أبي وقد سره ما رأى من صبرك وعلو همتك وهو يبلغك محبوبك إن شاء الله، ثم أخذه بيده فأوصله إلى الشيخ؛ فلما رآه قال: الحمد لله الذي رزقني رجلا

ص: 112

نحريرا مثلك استعين به على أمري وأكشف له مكنون سري، ثم كشف له أمر مذهبه لعنهما الله؛ فأصغى إليه واشرأب قلبه وتلقى كلامه بالقبول، وقال له علي: والله إن الفرصة ممكنة في اليمن، وإن الذي تدعو إليه جائز هناك وناموسنا يمشي عليهم وذلك لما أعرف فيهم من ضعف الأحلام وتشتيت الرأي وقلة المعرفة بأحكام الشريعة المحمدية، فقال له ميمون: أنا موجهك إلى المنصور الحسن بن زاذان، وكان ينسب إلى ولد مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكان أبوه ممن ينتحل مذهب الشيعة الإثنى عشرية، وكان من أهل الضلالة، وكان من أهل الكوفة، فلما دخل ميمون الكوفة وظفر بالحسن بن زاذان علم أنه مسعود وأنه ينال ملكا وشرفا، وذلك من طريق معرفته بالنجوم والفلسفة، فجعل ميمون يلطف به ويرفق فيكشف له مذاهب الفلسفة ومقالهم، فلم يزل به حتى قبل منه وركن إلى قوله، وما زال به حتى مال إلى معتقده وصار من دعاته الذين يدعون إليه وإلى ولده.

فعند ذلك قال ميمون: يا أبا القاسم إن الدين يماني والحكمة يمانية وكل أمر يكون مبدأه من قبل اليمن فإنه يكون ثابتا ثبوت نجم النجم، وذلك أن إقليم اليمن أعلى أقاليم الدنيا، ولابد من خروجك إلى هنالك أنت وأخوك علي بن فضل اليماني فسيكون لكما شأن وملك وسلطان في اليمن، فكونا على أهبة.

فقال له: الأمر إليك يا سيدي، قال المنصور، فكنت أنا وعلي بن فضل وعبيد لا نزال نكثر المذاكرة في مجلس الشيخ، وكان يقول عند تمام الوقت ومضى ستة أدوار من الهجرة المحمدية أبعثكما إلى اليمن تدعوان إلى ولدي هذا فسيكون له ولذريته عز وسلطان.

ص: 113

وأخذ عليّ وعلى علي بن فضل العهود والمواثيق لولده، فلما كان أوان خروجنا، قال لنا ميمون: هذا هو الوقت الذي كنا ننتظره، فاخرجا في هذا الموسم ثم وجهنا بالحج وعهد إلينا، ثم خلا بي وأوصاني بالاستتار حتى أبلغ مرادي، وقال لي الله الله بصاحبك فاحفظه وأكرمه بجهدك، ومره بحسن السيرة في أمره فإنه شاب ولا آمن نبوته، وخلا بعلي بن فضل وقال: الله بصاحبك وقره واعرف له حقه ولا تخالفه فيما يراه لك إنه اعرف منك، وإنك إن خالفته لم ترشد.

قال المنصور فلما صرت في بعض الطريق لحقني كمد عظيم لحال الغربة وإذا بحاد يقول:

يا أيها الحادي المليح الزجر

نشر مطاياك بضوء الفجر

تدرك ما أملته من أمر

قال: فلما سمعت ذلك سررت به واستبشرت فوصلت مكة مع الحاج وذلك في أيام محمد بن يعفر الحوالي [3] ، ثم أقبلنا نسأل عن أخبار اليمن، فقيل لنا: إن الأمير محمد بن يعفر رد المظالم واعتزل عن الناس ورجع إلى التنسك والعبادة، فقلنا: ولم فعل ذلك؟

فقيل لنا: إنه قيل له أن في هذه السنة يخرج عليه خارجي فيكون زوال أمره على يديه، ويقال إنه رد في يوم واحد ألف دينار، وكان في بني حوال رجل يقال له إبراهيم فقال:

يا ذا حوال يا مصابيح الأفق

تداركوا عزكم لا ينفتق

فتطلبون رتق مالا يرتتق

فأيكم قام بها فقد سبق

فقام ولد محمد بن جعفر.

قال محمد بن مالك الحمادي رحمه الله:

فلما خرج علي بن فضل مع الحاج هو والمنصور وصارا في (غلافقة)[4]، افترقا وقال كل واحد منهما لصاحبه: أعلمني بأمرك وما يكون منك فوصل المنصور إلى (الجند)[5] ، وصاحب الأمر علي بن فضل إلى ناحية (جيشان) .

ص: 114

فأما يومئذ جعفر بن إبراهيم المناخي وخرج المنصور فإن ميمونا كان قال له: لا يظهر أمرك إلا من موضع يقال له: (عدن لاعة)[6] ، فإنه أقوى لأمرك وأمضى لناموسك، وإنما دله على ذلك الفلسفة وعرف ما سطره في كتبهم من تسمية الأقاليم والبلدان وتقويم الكواكب السبعة، فلما صار المنصور إلى الجند سأل عن (عدن لاعة) ؟ فقالوا: لانعرف إلا (عدن أبين)[7] ، بتجارة تصلح لعدن كما يفعل التجار، فأقام أياما فيها يسأل عن (عدن لاعة) مدة بقائه هنالك فبصر به شيخ من تجار عدن فأنكره فسأله عن حاله؟ فقال: أنا رجل من أهل العراق وكنت حاجا في هذه السنة، قال: فهل عندك خبر؟ فقال: لست صاحب أخبار وعما تريد أن أخبرك عنه؟ قال له العدني: هل حدثت في الشام أحداث؟ فقال: لا علم لي بشيء، فلم يزل به حتى أعلمه ما في ضميره، فعاهده المنصور على كتمان سره، وسأله عن (عدن لاعة) ؟ فقال: هي معروفة ولا يزال أهلها من التجار يصلون إلينا وأنا أعلمك بهم إذا وصلوا.

يقال: إن هذا العدني جد بني الوزان فاسدي المذهب، وبنوا الوزان إلى اليوم رفضة شيع.

ص: 115

فلما وصل التجار من (عدن لاعة) ، ومن عيان [8] ، فسألهم عن الموضع فأخبروه عنه وأنه في ناحية بلادهم، وهي قرية صغيرة، فمن أعلمك من الناس بها؟، قال: الناس يسمعون بذكر البلدان، فلما عزموا على الرحيل تأهب للخروج معهم وقال: أنا رجل من أهل العلم، وقد رغبت بالخروج معكم إلى بلدكم، ففرحوا به وأكرموه، وقالوا: مرحبا بك نحن أحوج إلى من يبصرنا في أمر ديننا، ونحن نكفيك المئونة، ونحملك؛ فأثنى عليهم وشكرهم وقال: لا حاجة لي فيما عندكم، وإنما أردت وجه الله تعالى، فارتحل معهم فكان يسامرهم ويروي لهم أحسن الأخبار، فأحبوه وأصغوا إليه وإلى قوله؛ فكانوا يحدقون به إكراما له وتبجيلا حتى قدموا (لاعة) ، فادعى الفقه في مذهب السنة والجماعة فتسامع به الناس وأقبلوا إليه من كل ناحية وهو مستعمل الورع وحسن السيرة حتى مالت إليه مخاليف المغرب (لاعة واردان [9] وحجة وعيان وبلدان بياض [10] ) ، فأمرهم بجمع الزكاة عن أموالهم فاستعمل عليهم منهم ثقات وعدولا يقبضون أعشار أموالهم على ما يوجبه الفقه.

ص: 116

فأقام سنتين بعد قتل (محمد بن يعفر) ، واختلاف بني حوال فيما بينهم، فقال لهم: قد رأيت أن تبنوا موضعا منيعا يكون لبيت مال المسلمين، فعزموا على ذلك ولم يخالفوه فيما أمرهم به فأجمعوا على بناء موضع يقال له:(عبر محرم) ، وهو جبل تحت مسور وهو موضع بني العرجي قوم من سلاطين المغرب همدان، فلما بنى الجبل وحصنه حمل إليه كل ما يحتاج إليه بعد أن ساعده إلى إرادته خمسمائة رجل، وأخذ عليهم العهود والمواثيق، ثم إنه بعد ذلك ارتكب الحصن هو وأصحابه ونقلوا حريمهم وأموالهم بعد أن أخرج الحوالي عسكرا في جنح الليل إلى موضع كانوا فيه يقال له:(الحيفة) في ناحية (لاعة) فقتل من أصحاب المنصور اثنى عشر وارتكب الجبل (عبر محرم) بمعاملة لبني العرجي، وأنكر الناس أمره وأضرموا النار لحربه؛ فكتب إليهم أني ما طلعت هذا الجبل إلا لأحصن به نفسي من السلطان، فلم يقبلوا منه وجاسوا إليه فقاتلوه فهزمهم وقتل منهم بشرا كثيرا، فعظم حينئذ شأنه وشاع إلى جميع العشائر ذكره، وبلغ الأمير ذلك فكتب إلى جميع العشائر حوله يحرضهم على قتاله فقاتلوه مرارا وهو ينتصر عليهم.

ص: 117

ثم استنجدوا عليه رجلا من سلاطين شارو يقال له: أبو إسماعيل، وبالحوالي صاحب صنعاء فأمدهم بالعساكر الكثيرة فهزمهم وقتل منهم قتلا كثيرا فازداد بذلك ذكره وعظم أمره ودخل في طاعته من كان حوله طوعا وكرها واستعمل الطبول والرايات وأظهر مذهبه ودعا إلى عبيد بن ميمون وكان يقول: والله ما أخذت هذا الأمر بمالي ولا بكثرة رجالي وإنما أنا داعي المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم فانهمك إليه عامة الناس ودخلوا في بيعته ثم سمت به همته إلى ارتكاب جبل مسور حصن يقال له: فاير [11] فيه خمسمائة رجل ومأمور للحوالي، فلم يزل الملعون يتلطف حتى عامل مع عشرين رجلا منهم فارتكب الجبل بالليل فأصبح في رأسه وقصد من كان في بيت (فاير) وفتحوا له العشرون الذين عاملوه وقالوا:(ادخلوها بسلام آمنين)، فقال: المنصور اخرجوا منها فإنا داخلون.

وسأل صاحب الحصن الأمان على نفسه ومن معه فأمنهم، فلما رأى المنصور صاحب الحصن مقبلا نزل عن دابته ومشى إليه واعتنقه فزال عنه الرعب، وقال له: إن معي مالا للسلطان فمن يقبضه، فقال المنصور لعنه الله: لسنا ممن يرغب في مال السلطان وما طلعت هذا الجبل لأخذ أموال الناس، وإنما طلعت لإصلاح الإسلام والمسلمين، خذ مال صاحبك فأده إليه.

فذكروا أنه لعنه الله طلع جبل مسور في ثلاثة آلاف رجل ومعه ثلاثون طبلا، فكانت طبوله إذا ضربت سمعت إلى المواضع البعيدة من المغرب.

ص: 118

ثم إنه بعد ذلك حصن الحصن ودربه وبنى فيه دار الإمرة وهو بيت ريب وهو أول من أسسه وجعل فيه من يثق به من أهل مذهبه، ثم بنى بيت ريبة ودرب الجبل من كل ناحية وجعل له بابين، وبنى بيت الريبة قصرا وسماه دار التحية فعند ذلك أحل ما حرم الله وكان يجمع أصحابه في ذلك القصر ونسائهم ويرتكبون الفواحش، وأقام يحارب من حوله من القبائل ويبعث إليهم بالعساكر، فأبادهم وأخذ أموالهم وقتل رجالهم حتى دخلوا في طاعته كارهين ذلك، واستولى على جميع مخاليف المغرب قهرا، واستعمل عليهم رجلا من أهل مذهبه يقال له: أبو الملاحف، فأقام بناحية جبل (تيس) واليا للمنصور، وخرج بنفسه وعساكره إلى بلاد (شارو) فاستفتحها وحاصر صاحبها أبا إسماعيل الشاوري سبعة إلى مسور ثم خرج إلى ناحية (شبام) أشهر حتى استنزله من حصنه ورجع حمير [12] فأقام يحاربهم لمدة طويلة وخرجت عساكره إلى ناحية المصانع من بلدة حمير فاقام هناك في مراكز الحمير فتحموا عليه وقتلوا جماعة من عسكره فانهزموا إلى مسور، فغفل عنهم أياما يسيرة وعامل رجلا يقال له: الحسين بن جراح وكان في الضلع (ضلع شبام) واليا على أن يعضده على شبام ويكون أمرها إليه فعاقده على ذلك وخرج بنفسه وعساكره وقام معه الحسين بن جراح ففتح (شبام الأهجر) فأخرج منها بني حوال وحمل إلى مسور جميع ما غنمه من مسالك بني حوال وأموالهم.

وأقام شهرا، وندم ابن الجراح على ما كان منه في معاملته وخاف على نفسه وحالف رجلا يقال له: ابن كبالة من قواد بني حوال كان واليا على صنعاء؛ فجاش ابن كبالة بقبائل حمير وهمدان وخالف ابن جراح القرمطي فصاروا في وجهه وابن كبالة يقابله على درب شبام، فضاق حال الملعون القرمطي وخرج منهزما بالليل هو وأصحابه إلى مسور فذكرا أنّه ما خرج إلا بنفسه، وترك خيله وأقام في شبام حتى رجع لها القرمطي ثانية، وذلك عند دخول علي بن فضل صنعاء، وأنا أذكر ما كان منهما لعنهما الله.

ص: 119

وقد كان المنصور كتب قبل أن يختلف هو وعلي بن فضل إلى ميمون وولده يخبره بما فتح من البلاد، ووجه إليهما بهدايا وطرف من طرف اليمن، وكان ذلك سنة تسعين ومائتين، فلما وصلت هديته إلى القداح وولده سرهما ذلك، وقال لولده: هذه دولتك قد أقبلت.

ثم إن المنصور أقام في مسور إلى أن جرى بينه وبين علي بن فضل الجدني اختلاف ومحاربة، وأنا أشرح ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

وكان موت المنصور لعنه الله سنة اثنتين وثلاثمائة، وولي الأمر من بعده عبد الله ابن عباس الشاوري.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

جيشان، والأجدون، وسبأ وصهيب، بلدان في اليمن معروفة إلى اليوم.

[2]

لا عجب في قصده القبور للزيارة وهي مخالفة للشرع لأنه باطني زنديق.

[3]

بنو يعفر من حمير بقية الملوك التبابعية استبدوا بصنعاء، مقيمين للدعوة العباسية، وكان آخرهم أسعد بن يعفر ثم أخوه محمد، فدخلوا في طاعة بني زياد.

[4]

وهي تعرف اليوم بغليفقة بلدة بساحل اليمن كانت من أشهر موانيه.

[5]

الجند: مدينة باليمن تبعد عن صنعاء جنوبا بستة أيام، وهي أول موضع ظهرت فيه الدعوة الإسماعيلية باليمن منها قام منصور اليمن، ومنها قام محمد بن الفضل الداعي سنة 340هـ وممن وصل إليها من الدعاة أبو عبد الله الشيعي صاحب الدعوة بالمغرب، وفيها قرأ الصليحي في صباه كما ذكره عمارة.

[6]

عدن لاعة: بلدة في غرب صنعاء تبعد عنها مسيرة أيام.

[7]

عدن أبين: هي عدن لحج الثغر الطبيعي لليمن.

[8]

عيان: بلدة في اليمن بالقرب من عدن لاعة.

[9]

لعلها عزان.

[10]

بلدان باليمن معروفة إلى اليوم تابعة لقضاء حجة.

[11]

حصن من أمنع حصون اليمن إلى يومنا هذا.

[12]

شبام حمير: مدينة بأسفل جبل كوكبان وهي غير شبام حضرموت

.

ص: 120

يستفتونك

يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز

نائب رئيس الجامعة الإسلامية

ورد سؤال عن حكم استعمال الأسورة النحاسية، وقد ثبت لها بعض الخصائص لمكافحة مرض (الروماتيزم) .

الذي أرى في هذه المسألة ترك الأسورة المذكورة سداً لذريعة الشرك وحسماً لمادة الفتنة بها والميل إليها وتعلق النفوس بها رغبة في توجيه المسلم بقلبه إلى الله سبحانه ثقة به واعتمادا عليه واكتفاء بالأسباب المشروعة المعلومة إباحتها بلا شك وفيما أباح الله ويسر لعباده غنية عما حرم عليهم وعما اشتبه أمره وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"، وقال عليه الصلاة والسلام:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، ولا ريب أن تعليق الأسورة المذكورة يشبه ما تفعله الجاهلية في سابق الزمان فهو إما من الأمور المحرمة الشركية أو من وسائلها وأقل ما يقال فيه إنه من المشتبهات فالأولى بالمسلم والأحوط له أن يترفع بنفسه عن ذلك وأن يكتفي بالعلاج الواضح الإباحة البعيد عن الشبهة، هذا ما ظهر لي ولجماعة من المشايخ والمدرسين.

بيان أن الأشياء التي يتقى بها خطر السحر قبل وقوعه والأشياء التي يعالج بها بعد وقوعه من الأمور المباحة شرعا:

أما النوع الأول: وهو الذي يتقى به خطر السحر قبل وقوعه فأهم ذلك وأنفعه هو التحصن بالأذكار الشرعية والدعوات والتعوذات المأثورة.

ومن ذلك قراءة آية الكرسي خلف كل صلاة مكتوبة بعد الأذكار المشروعة بعد السلام.

ص: 121

ومن ذلك قراءتها عند النوم، وآية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم وهي قوله سبحانه:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .

ومن ذلك قراءة قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس خلف كل صلاة مكتوبة وقراءة السور الثلاث ثلاث مرات في أول النهار وأول الليل.

ومن ذلك قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل وهما قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إلى آخر السورة.

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح"، وصح عنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، والمعنى والله أعلم كفتاه من كل سوء.

ومن ذلك الإكثار من التعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق في الليل والنهار، وعند نزول أي منزل في البناء أو الصحراء أو الجو أو البحر لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من نزل منزلا فقال: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك".

ص: 122

ومن ذلك أنه يقول المسلم في أول النهار وأول الليل ثلاث مرات: "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم"، لصحة الترغيب في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه الأذكار والتعوذات من أعظم الأسباب في اتقاء شر السحر وغيره من الشرور لمن حافظ عليها بصدق وإيمان وثقة بالله واعتماد عليه وانشراح صدر لما دلت عليه، وهي أيضا من أعظم العلاج لإزالة السحر بعد وقوعه مع الإكثار من الضراعة إلى الله وسؤاله سبحانه أن يكشف الضر ويزيل البأس.

ومن الأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك في علاج الأمراض من السحر وغيره وكان صلى الله عليه وسلم يرقي بها أصحابه: "اللهم رب الناس اذهب البأس أشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما"، ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله:"بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك"، وليكرر ذلك ثلاث مرات.

ص: 123

ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضا وهو علاج نافع للرجل إذا حبس عن جماع أهله أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر أو نحوه ويجعلها في إناء يصب عليه من الماء ما يكفيه للغسل ويقرأ فيها: آية الكرسي، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس وآيات السحر التي في سورة الأعراف وهي قوله سبحانه:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} ، والآيات التي في سورة يونس وهي قوله سبحانه:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ، فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} ، والآيات التي في سورة طه:{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى، قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى، قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اْلأعْلَى، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ، وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب بعض الشيء ويغتسل بالباقي وبذلك يزول الداء إن شاء الله، وإن دعت الحاجة لاستعماله مرتين أو أكثر فلا بأس حتى يزول الداء.

ص: 124

ومن علاج السحر أيضا وهو من أنفع علاجه بذل الجهود في معرفة موضع السحر في أرض أو جبل أو غير ذلك فإذا عرف واستخرج وأتلف بطل السحر.

هذا ما تيسر بيانه من الأمور التي يتقى بها السحر ويعالج بها والله ولي التوفيق.

وأما علاجه بعمل السحر الذي هو التقرب إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات لا يجوز لأنه من عمل الشيطان بل من الشرك الأكبر فالواجب الحذر من ذلك وفق الله المسلمين للعافية من كل سوء وحفظ عليهم دينهم إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.

ص: 125

أين القمر؟

للشيخ حماد بن محمد الأنصاري

المدرس بكلية الشريعة

أقوال السلف تومئ إلى أن القمر وغيره من الكواكب في فلك دون السماء

الحمد لله وكفى، وصلى الله على المصطفى، وبعد:

فعلى إثر الحادثة التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية وبلغت أخبارها أنحاء العالم وهي ما أشيع عن وصول الإنسان إلى سطح القمر، تساءل كثير من الناس عن القمر هل هو مغروز في السماء المبنية أو هو دون السماء؟

وانقسم الناس في ذلك إلى مصدق بهذا النبأ تصديقا كاملا وإلى مكذب به وربما تجاوز في ذلك إلى تفسيق القائلين بالصعود أو تكفيرهم بينما وقف فريق ثالث من أخبار هذه الحادثة موقف التثبت والإستبانة حيث أنه لا يمكنه إعطاء معلومات يقينية على الرحلة إلى القمر ولم يظهر لهم مقتضى النصوص الشرعية في ذلك لوجود ظواهر ألفاظ آيات يحسبونها تقتضي استحالة النزول على القمر ولوجد ما ذكر توقف هؤلاء عن التصديق والتكذيب.

ص: 126

هذا وقد قام فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية في هذا المجال بجهد مشكور أبان فضيلته أنه لا يعلم نصا صريحا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يمنع من وصول الإنسان إلى القمر، وما أحب أن أضيف زيادة إلى ما ذكره فضيلته فقد وفى البحث حقه، غير أني سبق أن جمعت في هذا الموضوع بعض النقول عن أئمة الإسلام وعلماء التفسير بمعالجة الموضوع من زاوية غير التي تناولها بالبحث والتحقيق فضيلته، وذلك أن بحثي في خصوص ما قرره علماء التفسير على بعض الآيات القرآنية المتعلقة بالأفلاك مما يبين أن القمر والشمس وغيرهما من الكواكب كل يسبحون دون السماء المبنية، وقد تناوله علماء الإسلام بالبحث فأبدوا فيه وأعادوا مما يدل على اطلاعهم وعمق تفكيرهم، وبعد نظرهم، وأنهم حينما يدرسون النصوص القرآنية يدرسونها ككل، ويحاولون التوفيق بين نصوصها، وأنهم بذلك قد خلفوا لنا ثروة فكرية وعلمية لا يمكن تقديرها، وأن التقصير والإهمال وعدم متابعة البحث كان ممن جاء بعدهم، وهذا هو ما دفعني إلى نشر هذه النقول ليشاركني في العلم بها إخواني من القراء الذين يعتزون بتراثهم الإسلامي؛ فأقول مستعينا بالله فإنه خير مستعان به:

إن الآيات التي تعرضت للقمر وغيره من الكواكب كثيرة أذكر منها خمس آيات وأقرنها بما روي عن السلف في تفسيرها مع ملاحظة أن مثل هذا التفسير ليس للرأي فيه مجال.

فالآية الأولى - من سورة الأنبياء قال تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .

ص: 127

ذكر ابن جرير في تفسيره الجليل بسنده إلى ابن زيد أنه قال - في قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} -: "أي الفلك الذي بين السماء والأرض من مجاري النجوم والشمس والقمر"، وقرأ ابن زيد قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} ، وقال تلك البروج بين السماء والأرض وليست في الأرض {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال ابن زيد فيما بين السماء والأرض النجوم والشمس والقمر".

وقال القرطبي (ج 15- ص33) قال الحسن البصري: "الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة ولو كانت ملصقة ما جرت".

قال القرطبي أيضا: "والأصح أن السيارة تجري في الفلك وهي سبعة أفلاك دون السماوات المطبقة التي هي مجال الملائكة وأسباب الملكوت فالقمر في الفلك الأولى ثم عطارد ثم الزهرة ثم الشمس ثم المريخ ثم المشتري ثم زحل والثامن فلك البروج والتاسع الفلك الأعظم "(ج11ـ ص 286) .

وقال البغوي في تفسيره المعروف عند الآية المتقدمة الذكر آنفا {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} : "وقال آخرون - يعني من علماء التفسير - الفلك موج مكفوف دون السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم".

وقال السيوطي في الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور: "أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو الشيخ عن حسان بن عطية في قوله تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال: "الشمس والقمر والنجوم مسخرة في فلك بين السماء والأرض".

ص: 128

وأما آية سورة يس: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فقد ذكر ابن كثير في تفسيره المشهور أن عبد الرحمن بن زيد ين أسلم قال: "فيها يسبحون في فلك بين السماء والأرض"، وقال ابن كثير - بعد ذكره هذا الأثر - "ورواه بن أبي حاتم وهو غريب جدا بل منكر"، قلت: وليس بغريب ولا منكر لأنّ هذا الأثر روي عن عبد الرحمن بن زيد كما ذكره ابن كثير، وروي أيضا عن حسان بن عطية كما مرّ عند ابن أبي حاتم فانتفت الغرابة والنكرة، وأضف إلى هذا أن ابن جرير أسند هذا التفسير عن ابن زيد حيث قال: حدثني يونس قال أخبرني ابن وهب قال: قال زيد فذكره.

وأما آية سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} الآية، فقد تقدم قريبا عند آية سورة الأنبياء أن ابن زهير قرأها وقال:"تلك البروج بين السماء والأرض وليس في الأرض".

وأما آية سورة نوح: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} الآية

فقد قال الحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف للزمخشري: أخرج ابن مردويه في تفسيره من رواية حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنّه قال: "إنّ الشمس والقمر ووجوههما مما يلي السماء وظهورهما مما يلي الأرض"، قلت: أخرجه الحاكم في مستدركه قال: أخبرنا محمد بن صالح بن هانئ حدثنا الحسين بن الفضل حدثنا عفان بن مسلم حدثنا حماد بن سلمة عن يونس عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنه: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} ، قال ابن عباس:"وجهه إلى العرش وقفاه إلى الأرض"، وقال الحاكم:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ورمز له الذهبي في تلخيصه (م) يعني أنّه على شرط مسلم.

ص: 129

وقال السيوطي في الدر عند هذه الآية: أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} قال ابن عباس رضي الله عنه: "وجهه يضيء السماوات وظهره يضيء الأرض".

وقال السيوطي أيضا: "أخرج عبد بن حميد عن شهر بن حوشب أنّه قال: اجتمع عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وكان بينهما بعض العتب فتعاتبا فذهب ذلك فقال عبد الله بن عمرو لكعب الأحبار: "سلني عما شئت ولا تسألني عن شيء إلاّ أخبرتك بتصديق قولي من القرآن"، فقال له كعب الأحبار: "أرأيت ضوء الشمس والقمر أهو في السماوات السبع كما هو في الأرض؟ "، قال: "نعم، قال الله عز وجل:{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} الآية.

وأخرج ابن جرير وعبد الرزاق وعبد حميد وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة واللفظ لابن جرير قال: حدثنا ابن عبد الأعلى قال: ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "إنّ الشمس والقمر وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض وأنا أقرأ بذلك آية من كتاب الله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} ".

وقال ابن جرير أيضا: حدثني محمد بن بشار قال ثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة في قوله عز وجل: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} الآية، قال قتادة: ذكر لنا أن عبد الله ابن عمرو بن العاص كان يقول: "إن ضوء الشمس والقمر في السماء اقرؤا إن شئتم: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} الآية".

وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: عبد الله بن عمر في الآية المذكورة: "إن الشمس والقمر وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض".

ص: 130

وروى ابن جرير من طريق هشام الدستوائي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو بن العاص هذا التفسير كما مرّ - وهي أعني الواسطة - شهر بن حوشب فانتفى التدليس عن رواية قتادة فصار الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص متصل السند ولم يبق فيه إلاّ شهر بن حوشب، قال صاحب الخلاصة:"وثقه يحي بن معين والإمام أحمد"وقال يعقوب بن سفيان: "شهر وإن قال عنه ابن عون تركوه فهو ثقة"، وقال الحافظ في التقريب:"صدوق كثير الإرسال والأوهام"، قلت: قال الذهبي:"قد ذهب إلى الاحتجاج به جماعة"، قال حرب الكرماني عن أحمد:"ما أحسن حديثه ووثقه"، قال أبو عيسى الترمذي:"قال محمد - وهو الإمام البخاري - شهر حسن الحديث وقوى أمره"، وقال أحمد بن عبد الله العجلي:"ثقة شامي"وروى عباس الدوري عن ابن معين: "ثبت".

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وأبوالشيخ صاحب كتاب العظمة كما في الدر المنثور عن عطاء في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} قال عطاء: "إن القمر يضيء لأهل السماوات كما يضيء لأهل الأرض".

وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن الحسن البصري في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} قال: "وجوههما في السماء وظهورهما إليكم"، ويعني بقوله في السماء أي في العلو فالسماء تطلق على معاني كثيرة منها السحاب كقوله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} يعني من السحاب، ومنها مجرد العلو، كقوله تعالى:{وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي في العلو، ومنها السقف كقوله تعالى:{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء} الآية، أي إلى سقف البيت، ومنها المطر كقول الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

ص: 131

يعني إذا نزل المطر، وسمي المطر بالسماء لأنّه يأتي من علو، ومنها السماء المبنية كقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} .

وأخرج ابن المنذر كما في الدر المنثور عن عكرمة في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} قال عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما: "يضيء نور القمر فيهن كلهن كما لو كان سبع زجاجات أسفل منها شهاب أضاءت كلهن فكذلك نور القمر في السماوات كلهن لصفائهن".

وأما آية سورة يونس: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} ، فقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أنّه قال:"وجوههما إلى السماء وأقفيتهما إلى الأرض".

قال القرطبي في تفسيره: "إن وجه القمر إلى السماء وإذا كان كذلك فنوره في السماوات"، وقال:"معنى (نورا) أي لأهل الأرض ولأهل السماء"، وقال أيضا (ج11ص28) :"قال ابن زيد الأفلاك مجاري النجوم والشمس والقمر وهي بين السماء والأرض"، وقال القشيري:"إن الشمس وجهها في السماوات وقفاها في الأرض".

قال الآلوسي في روح المعاني (ج17ص37) عند آية سورة الأنبياء التي تقدمت في أول البحث قال: "قال أكثر المفسرين: الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر"، وكذلك قال أبو حيان في البحر المحيط (ج6ص310) .

وقال النسفي في تفسيره (ج3ص78) عند آية سورة الأنبياء ما نصه: "والجمهور على أن الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر".

فهؤلاء ثلاثة من أئمة الصحابة في مقدمتهم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم تومئ النقول المسند عنهم في تفسير الآيات المتقدمة إلى أنّ القمر والشمس وسائر الكواكب دون السماء المبنية في فلك يسبحون وليس مغروزة في السماء المبنية بل الذي في داخلها نورها لا جرمها.

ص: 132

كما أن سبعة من أئمة التابعين وتابعيهم: الحسن البصري، وأبو العالية والرياحي وعكرمة وقتادة وعطاء وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وحسان بن عطية ـ تصرح تفاسيرهم للآيات السابقة بأنّ جميع الكواكب بما فيها القمر والشمس كل في فلك دون السماء المبنية يجرون، وقد نقل عنهم هذه الروايات بأسانيدها العلماء من أئمة التفسير منهم: أبو جعفر بن جرير في تفسيره، وأبو القاسم البغوي، وابن كثير الدمشقي، والقرطبي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والسيوطي في الدر، وأبو حيان في البحر المحيط والنسفي والآلوسي وغيرهم ممن يطول البحث بذكرهم.

هذا وفي قول عكرمة وعطاء في قوله عز وجل: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} في قولهما: "يضيء نور القمر فيهن كلهن"، دليل صريح على أنّ (فيهن) متعلق بقوله عز وجل (نورا) لا بـ (جعل) كما ظنه بعض المعاصرين، على أن تقديم المجرور على عامله في اللغة العربية وفي القرآن الكريم والسنة النبوية، من أمثلته قوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} حيث تقدمت (فيها) على عاملها (خالدون) والتقدير والله أعلم بأسرار كتابه: هم خالدون فيها، هكذا (وجعل القمر فيهن نورا) أي وجعل القمر نورا فيهن، ولو استقصينا ما قيل في هذا الموضوع لطال بنا الكلام، ولكن نكتفي بهذا القدر وفيه الكفاية.

وننتقل إلى إمكان الصعود على القمر وغيره من الكواكب فنقول: هذه المسالة قد وفاها حقها من البحث فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية وبيّنها بيانا شافيا كافيا، إلاّ أنّه لا نصدق كل من ادعى الوصول إلى القمر حتى يثبت ذلك بخبر ثقات عدول، قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية.

هذا كل ما أستطيع أن أدلي به في مثل هذه الحادثة الغريبة في بابها وأقول كما قال الناظم:

وإذا لم تر الهلال فسلم

لأناس رأوه بالأبصار

ص: 133

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 134

أيها الشاعر مهلا

بقلم الشيخ رمضان أبو العز

كتب الأستاذ محمود غنيم كلمة رثاء عن أحمد حسن الزيات نشرتها له مجلة الوعي الإسلامي التي تصدر في الكويت وعنوان الكلمة ذكريات عن أحمد الزيات وذلك في عدد الوعي المؤرخ غرة صفر 1389.

والأستاذ محمود غنيم من شعرائنا النابهين، أجاد القول في كثير من أغراض الشعر وبوجه خاص في الإسلاميات فله فيها شعر جيد.

وقد ضمن الأستاذ الشاعر كلمته عن محاسن الزيات ومدائحه الشيء الكثير لا من حيث أسلوب الزيات فحسب بل وفي النواحي الأخلاقية وما إليها وذلك كقوله: "انقطعت بموت الزيات آخر حلقة من سلسة كتاب النثر الفني أمثال المويلحي والمنفلوطي والسيد وتوفيق البكري ومصطفى صادق الرافعي وصادق عنبر وغيرهم".

وكقوله: "وعندي أن أسلوب الزيات وأضرابه أجدر بأن يطلق عليه الشعر الحر".

وهذا الذي ذكره الأستاذ الشاعر مما لا ينازعه فيه أحد بل أعتقد أن الأستاذ الزيات سامي في الأسلوب فرسان مدرسة ابن العميد التي يطلق عليها طبقة (الشعر المنثور) .

ولكن الذي حز في النفس أن يتغاضى الشاعر عن الزلة الكبرى التي ختم بها صاحبه حياته تلك التي كادت أن تلحقه بالدرك الأسفل من النفاق والكفر البواح.

أعاذك الله أيها الصديق من سرف الهوى ومن جموح العاطفة ومن جور الميزان ومن الانحراف عن قصد السبيل.

لقد كنت أولى الناس ببيان الهاوية السحيقة التي تردى فيها الزيات بل بتجسيمها وتضخميها، وشدة حرصه عليها؛ فلو قد فعلت ما كان عليك أدنى ملام، بل كنت أحرى لأنه إنما وقع في أعز شخصية وفدت على الوجود أعز علينا من آبائنا وأبنائنا وأنفسنا التي بين جنبينا: شخصية خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم.

كيف تغاضيت أيها الصديق عن كلمة الزيات المجرمة في حق وحدة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ثم في حق وحدة صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه.

ص: 135

كيف تغاضيت عن قول الزيات: "كانت الوحدة المحمدية كلية عامة لأنها قائمة على العقيدة ولكن"، ثم انظر كيف استدرك على الوحدة المحمدية، استدرك بقوله:"ولكن العقيدة قد تضعف وقد تتحول"، قبح من استدراك وقبح من رضي به

ثم يقول عن وحدة صلاح الدين: "وكانت الوحدة الصلاحية قائمة على السلطان"هكذا ثم استدرك استدراكا آثما بقوله: "ولكن السلطان قد يضعف وقد يزول".

ثم جاء بالوحدة التي لا استدراك عليها في رأيه الخائب بقوله: "أما الوحدة الفلانية فلها ضمانات الاشتراكية في الرزق والحرية في الرأي والديمقراطية في الحكم".

وبذالك فاقت هذه الأخيرة الوحدتين السابقتين وكانت أمكن منهما لقوله بعد ذلك: "وهذه الضمانات لها البقاء والخلود".

لقد سخر القدر أيما سخرية من القزم الذي تطاول على أمثل وحدة بجعلها دون وحدة عبيد أو زيد بأن انفصمت ومزقت شر ممزق وحدة عبيد هذه بعد بضعة أيام من لوثة الزيات، ولكنه لم يرعو ولم يصحح خطأه بعد هذا الانفصام الشنيع.

إن هؤلاء الذين قرنت الزيات بهم كانوا من متانة الخلق والدين بمكان؛ فهذا الشيخ علي يوسف والمنفلوطي وغيرهم رغم ظروفهم القاسية لم تزل بهم قدم كما زلت بصاحبك، أما الرافعي فلو كان حيا ساعة لوثة الزيات لصنع له سفودا أذاب به شحمه وورمه وكان جديرا بأن ينسيه وساوس الشيطان رحم الله الرافعي رحمة واسعة.

أكانت تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم أقل حرية وديمقراطية من عبيد أو زيد، أيعقل هذا كبرت كلمة تخرج من فيه، ومع هذا وبعد هذا تجعله أيها الصديق من عباد الله المخلصين وتستمطر رحمة الله عليه بقولك:"رحم الزيات رحمة واسعة وجزاه على ما أسلفه من خير للعرب والأدب أحسن ما يجزي عباده المخلصين".

أي إخلاص يا صديقي، إن كان ثمة إخلاص فهو إخلاص للمردة والشياطين، ولن يكون بحال إخلاصا لرب العالمين.

ص: 136

أيها الشاعر: زن دعاءك كما تزن شعرك، ولا تخبط كما يفعل الذين لا يعلمون، فلقد هوى الزيات بسقطته إلى الدرك الأسفل من النفاق.

ولا يجمل بمثلك أن تمر على هذه الزلة الشنيعة مر المتستر على الجريمة، أو مر من آوى محدثا، لكأني بك إنما أردت الوفاء للزيات بعد غيبه الثرى، ولكن يا صديقي إن هذا الوفاء في غير محله، إذ كيف توفى لرجل لم يوف هو لنفسه بل خان حياته وماضيه، فخسر نفسه ثم انظر كيف حط من قيمة صلاح الدين رحمه الله، وذلك بقوله: "أما الوحدة الصلاحية فقد قامت على السلطان

الخ"، فكأنه يقول إنها قامت لمجرد السلطان وليس لله فيها شيء، ومن هذا الذي حط من شأنه، إنه قاهر أوربا الصليبية مجتمعة، ولكن هل يستغرب هذا من رجل حط من وحدة خير البشر جميعا.

أو كأنك - يا صديقي - إنما أردت تعمل بقول بعضهم: "اذكروا محاسن موتاكم"وما هو إلا كلام عامي لا يزن بميزان الحقيقة شروى نقير؛ بل الواجب التبيان حتى لا ينخدع قارئ بمديحك له فكان الواجب أن تذكر بدلا من هذا قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون َلا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، ولا شك أن اعتباره وحدة الرسول صلى الله عليه وسلم دون وحدة عبيد أو زيد تلك التي ولدت ميتة لهو أكبر استهزاء بالله ورسوله.

كان الأولى بك أن تقذفه بشعرك التهكمي حتى بعد موته حتى لا ينخدع قراؤك ويمرون المسألة كأن لم يكن هناك شيء من مثل هذا الشعر الذي أنشدتنيه يوم أن كنا معا بالزقازيق الذي قلته في كفيف مصر:

كفيف بمصر (طوى) المبصريـ

ن وأمسى يقود زمام العلوم

وسوف يعين عما قريب

بحلوان يرصد فيها النجوم

وسقطة الزيات طمت وزادت على زلة الكفيف.

والأدهى والأمر ألا يعتنق الزيات الزيغ والضلال إلا عندما شارف أجله على الانتهاء في اللحظة التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر ـ نعوذ بالله من سوء الخاتمة ـ

ص: 137

كان الواجب ياصديقي أن تحذو حذو شاعر آخر أصاب المحز بل أن تسبقه وتكون أنت قدوته، قال الشاعر الأديب للزيات:

رويدك قد جاوزت سبعين حجة

ودوم في عينيك - لو تبصر - القبر

أراك ركبت الصعب والصعب جامح

وعظمك وهن والمدى مهمه قفر

وصيدك ختال يلوح ليختفي

ويقصر عنه السيف والقوس والصقر

دع الغي للفتيان يرجى رشادهم

ويرجى لهم من خبط عشوائها عذر

لقد ذكرت أن الزيات ترجم (رفائيل) وهي لأكبر شعراء فرنسا (لامرتين) فكيف غاب عنه قول (لامرتين) في حق الوحدة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

قال لامرتين: "ضآلة الوسائل التي استخدمت مع عظم النتائج التي حصلت، إذا أردنا أن نحكم على هذا الرجل فمن في الوجود نستطيع أن نقرنه بمحمد؟ "، وهو لاشك استفهام إنكاري من أبرع ما يمكن.

إنه لا أسلوب الزيات ولا شهرته ينفعان في زحزحة هذا الكفر البواح الذي نطق به.

وكان لزاما عليك أيها الصديق حين مدحت خلقه وحياته أن تذكره بهذه الزلة {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}

وأخيرا كلمة عتاب إلى الأخ عبد المنعم النمر رئيس تحرير (الوعي) : كيف تغاضيت عن التعليق الواجب بعد الكلمة مباشرة "فإلى متى يا قوم إلى متى نجامل على حساب الدين"، وعلى حساب سمعة نبينا عليه الصلاة والسلام، والبيان الواضح الجلي في هذا المقام حتم لزام.

ص: 138

إحرص على ما ينفعك

عبد الله بن أحمد قادري

المدرس بالمعهد الثانوي

في حالة واحدة فقط تستطيع أن تكون شجاعا شجاعة نادرة لا توجد إلا في شخص اتصف بصفتك التي بسببها اكتسبت تلك الشجاعة النادرة تلك هي أن تكون مسلما حقا.

وإذا كان الأمر كذلك فيجب على المسلم ولا سيما الداعي إلى الله أن يتجلى بصفة عظيمة بها نجح الأنبياء والرسل وكل داع إلى الله. تلك الصفة التي تتلاشى أمام صاحبها كل الصعاب ويصغر في عينه كل جبار عنيد.. ويكون المتحلي بها دائما رابط الجأش هادئ البال لا يتزلل لحدوث مصيبة أو إرجاف مرجف، ولا يجبن عند لقاء عدو في معركة حرب مسلحة سافرة، ولا يتهيب من قول حق في أي مقام وفي أي مناسبة ولأي فرد أو جماعة، لأنه واثق من استعلائه واندحار عدوه..

لماذا! لأنه يتحصن بحصن منيع الجانب لا تهدده آلات الهدم عالي الأسوار، لا يتسلقها متسلق بسلمه، ولا يعلوها فضائي بقمره الصناعي، ولا تؤثر فيها قذائف مدفعي ماهر.

إنها تلك الصفة العظيمة التي وقف بها هود عليه السلام بمفرده أمام قومه عاد العتاة الأشداء الذين كانوا يتحدون عالم زمانهم ويقولون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة} وقف هود أمامهم يتحدى جموعهم ويقلل من شأنهم ويحتقر قوتهم المادية، كما يسخر من آلهتهم التي كانوا يظنون أنها تصيب من تشاء بمكروه، كما قال تعالى في سورة هود عن قومه المكذبين:{إِنْ نَقُولُ إِلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} أي أصابك بعض معبوداتنا بمكروه من جنون ونحوه.

فماذا كان جواب نبي الله هود عليه السلام؟

ص: 139

قال {إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} يا سبحان الله! شخص واحد من البشر ليس له نصير من البشر اشتد حقد قومه الطغاة مجتمعين عليه ثم يقول لهم: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ}

إن هذا الموقف في عرف الناس وطبيعتهم البشرية يعتبر لأول وهلة تهور أو إلقاء بالنفس إلى الهلاك، وتركا لما يجب من الاتزان والحكمة التي يحفظ الإنسان بها نفسه، وإذن فيحق للمرء عندما يرى هذا الموقف الذي وقفه هود أن يتساءل: لماذا وقف هذا الموقف الذي يظهر لأول مرة أنه في غير محله، لأن بعض القوم وليس كلهم في استطاعتهم أن يهجموا عليه فيقتلوه، أو يحبسوه، أو ينفوه من أرضه، فتنقطع بذلك دعوته التي يجب عليه أن يلتمس لها سبل النجاح!

نعم يتساءل المرء هذا التساؤل عندما يقيس الأمور بمقاييسها الأرضية، ولذا أجاب ربنا على هذا التساؤل جوابا شافيا كافيا يلفت النظر البشري الأرضي إلى أن الأمر أعلى وأعظم من ذلك التصور الذي نشأ عنه هذا التساؤل، أنه أمر سماوي عظيم بعيد عن مقاييس البشر القاصرة، إنها تلك الصفة العظيمة تفويض العبد كل أموره إلى ربه تعالى واعتماده عليه اعتمادا كاملا، موقنا أن كل المخلوقين لا يقدرون أن يصيبوه بمكروه لم يرد الله إصابته به، كما أن كل المخلوقين لا يقدرون أن يؤتوه خيرا لم يرد الله إيتاءه إياه..

إنها صفة التوكل؛ ولذا قال بعد ذلك التحدي: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم} أي خالقي وخالقكم المتصرف في وفيكم وفي العالم كله {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وهو سبحانه حكيم عادل يضع الأمور في مواضعها وينصر من يستحق النصر ويخذل من يستحق الخذلان لا يحيف ولا يجور {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

ص: 140

وكل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يلجئون إلى هذا الحصن المنيع عندما تحيط بهم المصائب والمحن وتتآمر عليهم قوى الشر والعدوان بالحديد والنار وأنواع التعذيب، ومنهم خاتمهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ضرب المثل الأعلى في الاعتماد على ربه أمام أعدائه سادة قريش العتاة الذين اشتد غيظهم عليه وتألبوا ضده وعملوا بكل جهد وبكل وسيلة يطيقونها على أن يقبروه ليقبروا معه دعوته، وآذوه بكل أنواع الأذية باللسان تارة وباليد أخرى في مكان سنحت لهم الفرصة فيه حتى بيت الله الحرام.

ومع ذلك كله وقف صلى الله عليه وسلم أمامهم صامدا صمود الجبال الراسية أمام الأعاصير، لا يزيده آذاهم إلا صلابة وبقاء على مبدئه وعقيدته، وشجاعته نادرة إذ كان يسب آلهتهم ويسفه أحلامهم وعقول آبائهم، غير مبال ولا مكترث بما حصل ويحصل من الأذى الذي لا يطيقه إلا من رزق الاعتماد على الله، وتبعه على ذلك أصحابه رضي الله عنهم القلة المستضعفون الذين يطول ذكر بلائهم في سبيل الله دون أن يتزلزلوا أو تخور قواهم ليتراجعوا قيد شبر عن مبدئهم الذي آمنوا به.

قل لي بربك: لماذا كل ذلك؟

إنه وربي الاعتماد الكامل على خالقهم الذي سلموا له أنفسهم بقولهم (لا إله إلا الله) عن إيمان صادق به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم اعتمدوا عليه واثقين من وفائه بوعده بنصرهم وخذلان أعدائهم، كما قال تعالى:{إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} .

ولنأخذ بعض الآيات القرآنية في هذا الباب لنرى تكيف رسل الله عليهم الصلاة والسلام ولا سيما خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام بها.

ص: 141

1ـ أخبر الله تعالى ورسوله وأصحابه بأنه وحده المالك المتصرف ينصر من يشاء ويخذل من يشاء، فإن أراد نصرهم لم يقدر أحد على خذلانهم وإن أراد خذلانهم لم يقدر أحد على نصرهم، ثم أمرهم بالاعتماد الكامل على ربهم دون من سواه لينالوا نصره إياهم على أعدائهم فقال:{وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .

2ـ جعل الاعتماد عليه وحده دليل الإيمان فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .

3ـ حصر المتصفين بالإيمان الكامل فيمن اتصف بخمس صفات هي: الخوف من الله عند ذكره، وزيادة الإيمان به عند سماع آياته، والاعتماد عليه، وإقام الصلاة، والإنفاق من رزق الله فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} الآية.

4ـ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين بالاكتفاء به أي الاعتماد عليه وحده فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .

5ـ أخبر سبحانه أن من اعتمد عليه كفاه فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} .

ص: 142

6ـ أخبر الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تكيفوا بتلك الصفة التي حثها عليها وأمرهم بها في أحرج المواقف التي بلغت فيها القلوب الحناجر، حتى لقد ازدادوا بها إيمانا وثقة بربهم، وإن الذي يفقد هذه الصفة عند نزول الشدائد هم المنافقون والذين لم يدخل الإيمان قلوبهم فقال عن المنافقين:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَاّ غُرُوراً} وقال عن المؤمنين: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} .

7ـ أخبر الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين أن إرجاف المرجفين وتجمع الأعداء ضدهم مهما كانت قوتهم وكثرتهم لا يزيدهم إلا إيمانا اعتمادا على ربهم، إذ جاء المرجفون يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بجموع الأعداء من قريش الذين يريدون القضاء عليهم وعلى عقيدتهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} .

وهذه الكلمة نفسها: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم أيضا حينما ألقي في النار كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.

8ـ أخبر الله عن مؤمن آل فرعون أنه عندما ألقى كلمته الأخيرة وأحس بالخطر منهم لجأ إلى ربه معتمدا عليه وحده ليخلصه من القوم، وقد خلصه الله من مكرهم وخذل أعداءه، وجازاهم بما يستحقون، حيث قال تعالى:{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} .

تصويب وتخطئة:

ص: 143

علم مما مضى من البحث أن التوكل على الله من الأسس الهامة التي قام عليها دين كل رسول، وأن الإيمان لا يصح بدون توكل، وأن المراد بالتوكل تفويض العبد كل أموره الدينية والدنيوية إلى ربه تعالى، مع الأخذ بالأسباب، وهو أمر واضح لا لبس فيه ولا خفاء على من فهم دين الإسلام فهما صحيحا لا انحراف فيه..

غير أن هناك بعض من جنى على الإسلام ممن لا يفهموه على وجه العموم، كما لم يفهموا التوكل على الله على وجه الخصوص، كما أراد الله تعالى، ففرط بعضهم وأفرط آخرون؛ ولهذا رأيت أن أبين تفريط المفرط وغلو الغالي وصواب المصيب معتمدا في التخطئة والتصويب على نصوص الشريعة التي يسلك سبيلها العقل الصحيح والفطرة السليمة.

فأقول وبالله تعالى توفيقي وعليه توكيلي واعتمادي:

إن الناس في فهم التوكل ثلاثة أقسام:

القسم الأول:

أفرط وبالغ فرأى أن التوكل على الله المراد منه ترك الأسباب التي جعل الله مسبباتها مربوطة بها، فعمل هذا القسم بهذا الفهم الخاطئ حتى رأى بعضهم أن من التوكل على الله الإلقاء بالنفس في المفازات الخالية بدون حمل زاد ولا ماء، وأن من التوكل ترك التداوي مهما بلغ المرض من الخطر، ومعنى هذا أن التوكل أن يلقي الإنسان بنفسه في المهالك التي يترجح فيها عادة ضرر الموت فما دونه، دون أن يتخذ وقاية مباحة، وهو أمر عجيب يبرأ منه الدين وحاملوه الفاهمون لحكمه وأسراره كما يأتي بيان ذلك في القسم الثالث إن شاء الله تعالى.

القسم الثاني:

فرط وأساس تفريطه أنه فهم معنى التوكل ما فهمه القسم الأول، وقارن بين ذلك الفهم وبين السنن الكونية والأسباب المباحة الطبيعية فتعارض عنده الأمران، وصعب عليه التوفيق بينهما بمقتضى هذا الفهم، فرجح جانب الأسباب مستقلة بمسبباتها توجدها إذا شاءت وتعدمها إذا أرادت، وكلا الفهمين خطأ، وكلا الفريقين ضال والصواب الذي لاشك فيه هو:

القسم الثالث:

ص: 144

فهو التوكل على حقيقته وهو: تفويض الأمور الدينية إلى الله تعالى، وتفويضها إليه يستلزم كلا من الاعتماد عليه لأنه أمر به والأخذ بالأسباب لأنه هو الذي جعلها أسبابا، وطلب هذا هو مقتضى التفويض الكامل يعتقد صاحبه أن هناك أسبابا يجب أن تعمل لتوجد مسبباتها، كما يعتقد أن الأسباب والمسببات جميعا تحت تصرف القدرة الإلهية إذا شاء الله للأسباب أن تؤثر في مسبباتها أثرت، وإن شاء أن يبطل ذلك التأثير أبطله، ويعتقد أن عليه أن يأخذ بالسبب دون أن يتلكأ ما دام يعرف أنه غير محظور مع الاستعانة بالله والاعتماد عليه ولا يعتقد أن السبب - مجردا - كفيل بوجود المسبب، ويتضح المراد من البحث السابق بأمور كثيرة نذكر منها ما يلي:

1ـ أن الله جعل الأكل سببا في إذهاب الجوع، وهو أمر لا يستطيع أن يكابر فيه أحد، ومع ذلك قد يوجد من يأكل ولا يشبع إذا ما أراد الله ذلك، وقد أنبأ من أثق به أنه يعرف شخصا كان يأكل طوال الليل والنهار إذا استطاع وأنه لا يشبع، فكون الأكل مذهبا للجوع يوجب الأخذ بالسبب، وكونه قد لا يذهبه يوجب الاعتماد على الله في إذهابه.

2ـ وجعل الله الشرب سببا في إذهاب العطش، وهو أمر واضح كذلك، ومع ذلك قد يوجد من يشرب ولا يروى، كالإبل التي تصاب بداء الهيام، فكون الشرب مذهبا للعطش يوجب الأخذ بالسبب، وكونه قد يوجد من لا يذهب الشرب عطشه يوجب الاعتماد على الله.

3ـ وجربت كثير من الأدوية لشفاء كثير من الأمراض، ومع ذلك قد يوجد من يداوي بتلك الأدوية لتلك الأمراض ولا يشفى، فكون الدواء مذهبا للداء يوجب الأخذ بالسبب، وكونه قد يوجد من لا يفيده ذلك يوجب الاعتماد على الله.

ص: 145

4ـ والعادة في التفوق العسكري في العدد والعتاد والخبرة موجب لنصر من توفر ذلك له وهزيمة عدوه، ومع ذلك قد يوجد من هو متفوق عددا وعدة وخبرة ثم ينهزم أمام من هو أضعف منه في ذلك، فكون القوة موجبة للنصر موجب للأخذ بالسبب، وكونه قد ينهزم من توفر له ذلك يوجب الاعتماد على الله، والأمثلة لذلك لا تستطاع حصرا.

ولنلقي نظرة خاطفة على موقف الأديان السماوية من فهم التوكل على الله متمثلا في أئمة الهدى وقادة الخير رسل الله عليهم الصلاة والسلام.

1ـ فهذا نوح عليه السلام يأمره ربه الذي يقول للشيء كن فيكون أن يصنع سفينة لينجو فيها هو وأتباعه المؤمنون عندما يعم الطوفان الأرض فيهلك كل من لم يكن فيها، فأمره الله بصنع سبب طبيعي مع أنه قادر على أن ينجيه وقومه بدونها ولم ينس نوح ربه الاعتماد عليه حينما أراد الركوب في السفينة إذ قال لقومه:{ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} . وكذلك موسى حينما أراد الدخول ببني إسرائيل البحر بأمر ربه ليخلص بهم من فرعون وقومه الذين كتب هلاكهم، أمره ربه أن يضرب بعصاه البحر فضربه فانفلق، مع أن الله قادر على فلقه بدون العصا، وماذا كانت تفعل العصا لولا قدرة الله التي كانت وراءها.

2ـ وهذا إبراهيم عليه السلام يأخذ بالسبب الطبيعي لنجاته من قومه الذين ما كانوا ليدعوه لو بقي عندهم يدعوهم إلى دين الله الحق، فقرر الهجرة إلى أرض أمره الله بالهجرة إليها، وعندما ألقى في النار لم يتزلزل ولم يضعف لاعتماده على ربه الذي جعلها بردا وسلاما عليه.

ص: 146

3ـ وكذلك موسى عليه السلام عندما قتل القبطي وتآمر القوم ليقتلوه فجاء من نصحه بالخروج لم يتلكأ بل خرج من فوره آخذا بالأسباب الطبيعية، ولم ينس ربه بل أظهر اعتماده عليه، قال تعالى:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، فخروجه أخذ بالسبب، ونداؤه ربه ليسلمه من أعدائه اعتماد على الله.

4ـ وهذا خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام يختفي في الغار ثلاثة أيام مع صديقه رضي الله عنه ويقول له عندما يراه يخاف عثور القوم عليهم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما! ويقول الله عنهما: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} ، فاختفاؤه صلى الله عليه وسلم في الغار أخذ بالسبب الطبيعي وقوله: إن الله معنا، اعتماد على الله تعالى.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة"، حثاً على التوكل وعدم اعتقاد أن السبب مستقل بنفسه، ويقول:"فر من المجذوم"، حثا على الأخذ بالأسباب الطبيعية

ومن أجمع الأحاديث النبوية وأكملها في الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله تعالى حديث أبي هريرة عند مسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان".

ص: 147

فقد حث في هذا الحديث على الأخذ بالأسباب عموما دينية كان أو دنيوية بقول: "احرص على ما ينفعك"، وقوله:"ولا تعجز"، كما حث على التوكل والاعتماد على الله بقوله:"واستعن بالله"، وقوله:"وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل"؛ فما ينفعك شر أن تسعى في حصوله وما يضرك شر أن تسعى في دفعه؛ فإذا بذلت جهدك ثم لم يحصل لك المطلوب ولم يندفع عنك المكروه فعندئذ يجب عليك التسليم والصبر على قدر الله، فلا تقل قبل السعي في ذلك: قدر الله وتتقاعس عن مصالحك؛ فإن هذا عجز وقد نهاك الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ومن أين علمت أن ذلك قدر ولا دافع له، وما أدراك لعل النهاية تكون في صالحك، وأحب أن أضرب لك مثالين يوضحان المقصود:

الأول: لو فرضنا أن مقاتلا مسلما أصيب من قبل العدو بجروح خطيرة والإسعاف على أتم استعداد لمعالجته فامتنع من العلاج وقال: قدر الله علي الموت بهذه الجروح فهل يجوز له ذلك؟

أقول لا يجوز ذلك لأمور:

الأول: أن في ترك التداوي عندئذ تعريضا لتعذيب نفسه وازدياد آلامه وانبعاث الروائح الكريهة منه.

الثاني: أنه لا يدري عن تقدير الله فلعل أجله يكون طويلا أكثر مما يتصور فهو عجز منهي عنه.

الثالث: أن في معالجته عمل سبب قد يكون في صالح المسلمين في الوقت القريب ضد أعدائهم الكفار، ولو أخر التداوي طال وقت ضعفه الذي يمنعه من معاودة جهاد أعدائه.

المثال الثاني: لو فوجئ أهل بلدة ما بهجوم شديد من أعدائهم الكفار، فهل يجوز لهم: قدر الله ويستسلموا للعدو يستحل دماءهم ويستبيح أموالهم ونساءهم ويعيث في أرضهم الفساد؟

لاشك من له أدنى مسكة من عقل فضلا عن المسلم أن ذلك لا يجوز وأنه يجب أن يعمل أهل البلد بالأسباب المستطاعة ضد عدوهم فإن نصروا حمدوا الله وقد عملوا جهدهم، وإن هزموا فعند ذلك يقولوا: قدر الله وما شاء فعل.

ص: 148

وعند الترمذي وابن ماجة والحاكم عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا"، رمز له السيوطي في الجامع الصغير بالصحة، وقال شارحه المناوي:"قال الترمذي: حسن صحيح وقال الحاكم صحيح وأقره الذهبي ورواه النسائي عنه أيضا"(5-311) مناوي.

ولنقف قليلا متأملين في معنى هذا الحديث فالطير تعرف مصالحها ومضارها وتسعى لحصول الأولى ودفع الثانية، لكنها ليست كالآدميين تعرف الأشياء بالتفصيل، فهي تطير من أكنانها في أرض الله لا تدري ماذا تصيب في يومها، فيسهل الله أرزاقها وأرزاق أفراخها الصغار التي لا حول لها ولا قوة، فترجع وقد شبعت وتزودت، وكذلك الآدمي إذا سعى لحصول رزقه وتوكل على ربه سهل له رزقه؛ فالتوكل الحقيقي هو التفويض الكامل لجميع الشؤون الدينية والدنيوية إلى الله سبحانه مع فعل السبب والاعتماد على الله في حصول السبب بدليل ما في هذا الحديث.

فالطير التي هي المشبه به لم تبق في أكنانها حتى يأتيها رزقها، وإنما تخرج منها جياعا متنقلة من مكان إلى آخر حتى يرزقها الله فترجع شباعا.

ولنتأمل بعض آيات القرآن الكريم التي يحفظها العامي كالعالم، ويقرؤها كل منا مرارا في اليوم في كل ركعة من صلواتنا فرضا كانت أو نفلا لنجد أنه لابد من الجمع بين الأمرين: فعل السبب والاعتماد على الله والاستعانة به في حصول المسبب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} الخ، فكل مصل يقصد من صلاته - بعد امتثال ربه - ثوابه بدخول الجنة فالعبادة سبب ودخول الجنة ورضا الله مسبب، ولكنه لا يعتمد على مجرد المسبب بل يعتمد على الله مع ذلك ويستعين به في ذلك ويسأله الهداية ولهذا يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} .

ص: 149

ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كعادته في كل بحوثه - في هذا البحث بكلام قليل جامع بين فيه مواقف الناس من التوكل على الله والأخذ بالأسباب وثمرات تلك المواقف فقال:- يعني الله تعالى – "الذي خلق السبب والمسبب والدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى وإذا كان كذلك:

1-

فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد.

2-

ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل.

3-

والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع.

4-

بل العبد يجب أن يكون توكله وداؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغيره ما شاء". (1-13) مجموع الفتاوى.

وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله:

"وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها إن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا". (ص69 فتح المجيد) .

والخلاصة أن المتوكل الحقيقي من حرص على ما ينفعه فبذل الأسباب في حصوله واعتمد على ربه في ذلك، وعلى دفع ما يضر فبذل الأسباب لدفعه واعتمد على ربه في ذلك وصبر على قضاء الله الذي لا راد له، وعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه، وكان شجاعا لا يخاف إلا ربه سبحانه وتعالى.

ص: 150

هذا وأرجو أن أكون قد وفقت لبيان جانب كبير لهذا البحث الهام، وأن يغفر الله خطئي إن كنت أخطأت فإن:" كل بني آدم خطاءون وخير الخطاءين التوابون"، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ص: 151

الإسلام وعمل المرأة

للشيخ إبراهيم السلقيني

المدرس بكلية الشريعة

لقد عني الإسلام أتم العناية بإعداد المرأة الصالحة للمساهمة مع الرجل في بناء صرح المجتمع على أساس من الدين والفضيلة، والخلق القويم، وفي حدود خصائص كل من الجنسين الرجل والمرأة، فرفع شأنها، وكون شخصيتها، وقرر حريتها، ثم أناط بها من شؤون الحياة ما يتلاءم مع طبيعتها، فإذا نهضت بأعبائها أصبحت زوجة صالحة، وإما مربية ودعامة قوية في صرح المجتمع إذا صلح المجتمع كله.

لقد اعتبر الإسلام المرأة كائنا إنسانيا مكرما فحفظ عليها حريتها، وأجاز لها التصرف كما تشاء في أموالها ضمن الدائرة المشروعة، وجعل لها حقا في الميراث فقال تبارك وتعالى:{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [1] ، وجعل لها الحق في أن تملك وتبيع وتشتري، وتهب وتقبل الهبة، وترهن وتعقد باسمها العقود، دون حاجة إلى إذن زوجها أو ولي أمرها، ولا يوزن الإسلام في ذلك بأي تشريع حديث، فإن حالة المرأة في فرنسا إلى الآن أشبه بحالة الرق، فلا يجوز للمتزوجة مثلا بيع ولا شراء ولا هبة ولا عقد إلا بإذن زوجها، وفي أكثر النظم المبتدعة تقلب المرأة اسم أسرتها وتنسب إلى أسرة زوجها، وفقدان الاسم رمز وعنوان لفقدان الشخصية، ولو أردنا أن نعدد ما منحه الإسلام للمرأة وما خصها من مزايا لطال بنا المجال، وحسبنا أن نعلم أن المرأة قد تحررت في ظل الإسلام إلى درجة لم تبلغ ولن تصل إليها في ظل أي فلسفة أو نظام آخر، ويعرف كل إنسان ذلك، ولا ينكره إلا من ختم على قلبه، فحجب عن رؤية الحق والاعتراف به.

ص: 152

كما اعتبر الإسلام المجتمع جهازا تؤلف المرأة نصفه، أو قل الرجل هو إحدى رئتي المجتمع والمرأة هي الرئة الأخرى، بكلتيهما يتنفس المجتمع ويحي؛ فالرجل والمرأة في خضم هذه الحياة كمؤسسي شركة أو مصنع وزعت أعماله المتعددة على العاملين فيه،، وكل يقوم بنصيبه، ولكل فيما يعمل علم وحكمة وتدبير، فلا ينكر أحد أن دور المرأة في المجتمع غير دور الرجل، ولو كانت مهمتها تشبه الرجل مهمة الرجل لكان المجتمع صالح للبقاء سواء أكان مؤلفا من الرجال وحدهم، أو من النساء وحدهن، أما ولكل من هذين الكائنين عمله واختصاصه فلابد من توفرهما معا ليحصل للمجتمع كماله.

وهكذا فالمرأة نصف وجودنا الذي نزاحم به ونكاثر ونبني، وهي أيضا التي تصنع تاريخ النصف الآخر وتلهمه؛ فهل للمرأة رسالة أعظم من هذه الرسالة لو أديت على وجهها الصحيح لما وجدت المرأة متسعا من الوقت، ولا فراغا من الزمن.

وخروج المرأة من البيت إحدى المشكلات الهامة في العصر الحاضر، والحقيقة أن خروج المرأة من بيتها أو عدم خروجها منه مرتبط بمهمة المرأة وواجباتها في هذه الحياة، وما ألقي على عاتقها من أعباء، ثم نرى صلة ذلك بخروجها من البيت.

ما هي المهمة الرئيسة للمرأة في هذه الحياة؟ وما هي واجبات الرجل؟

لاشك أن الرجل والمرأة هما عماد البيت، ومما لا ريب فيه أيضا أن سعادة البيت وبالتالي المجتمع لا تتوفر إلا حينما يعرف كل منا لرجل والمرأة ماله وما عليه بغية تحقيق السعادة المنشودة، فالرجل بما وهبه الله من القوة الجسمية جعله قواما على المرأة يعتني بشؤونها وشؤون أطفالها، وينصرف إلى عمله ليكسب القوت له ولأفراد أسرته، ويؤمن لهم الحياة الكريمة، فمجال عمله إذن هو خارج البيت، وهذا لا يشك فيه أحد.

ص: 153

وهنا يأتي دور المرأة حيث يتاح لها أن تنصرف إلى شؤون البيت الداخلية، والإشراف على تربية أطفالها وإشاعة الحبور والسعادة في بيتها، وقد وضع عنها الإسلام جميع الواجبات التي تتعلق بخارج البيت، فلا تجب عليها صلاة الجمعة، ولا يجب عليها الجهاد إلا في حالة النفير العام، ولم تطلب منها صلاة الجماعة ولا حضور المساجد، وإن كان قد رخص لها في حضور المساجد.

صفوة القول: أن خروج المرأة من البيت لم يحمد، وخير الهدي في الإسلام أن تلازم المرأة بيتها كما تدل عليه الآية الكريمة:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ} [2] دلالة واضحة، ولكن الإسلام لم يشدد في هذا الباب لكون خروج المرأة من بيتها قد يكون من اللازم في بعض الحالات كخروجها لحج أو مداواة أو أداء شهادة؛ ولا يغير ذلك شيئا من القاعدة في نظام الاجتماع الإسلامي، وهي أنّ دائرة عمل المرأة هي البيت، وأن الدروس التي يتلقاها الطفل في حجر أمه سيكون لها أكبر الأثر في مستقبل حياته.

وعلى هذا فإذا تجاوزت المرأة الحد، وأسرفت في الخروج من البيت فمن للأطفال ليرعاهم؟ ومن للبيت يشرف عليه إشرافا دقيقا؟ هل يترك ذلك للخادمة! وهل يهمها من شؤون البيت ما يهم صاحبته؟ وهل كل بيت فيه خادمة؟ وهل كل خادمة متعلمة عاقلة؟ وهل هي جديرة بما يلقى إليها من مهام تربوية، وهي على كل حال إمرأة من جنسها، وصدق من قال:

ليس اليتيم من انتهى أبواه من

همّ الحياة وخلفاه ذليلا

إن اليتيم هو الذي تلقى له

أما تخلت أو أبا مشغولا

ص: 154

فسعادة البيت لا تتحقق إلا أن توجد زوجة، ولن يشيع الحنان إلا أن تتولاه أم، وفي سبيل الاستقرار البيتي، وقطعا لدابر الفوضى والنزاع جعل الإسلام القوامة للرجل تمشيا مع سياسة التنظيم التي يحرص عليها الإسلام حرصا شديدا، فتوحيد القيادة ضروري لأمن السفينة، وفي سفينة البيت لابد من قيادة تتحمل التبعة، ولكنها في الإسلام قيادة الرعاية والمسؤولية، وليست قيادة التحكم والاستعلاء؛ فمن هو أهل لهذه القيادة؟

المرأة المشبوبة العواطف، السريعة الانفعال، بحكم فطرتها التي تؤهلها لوظيفتها الأولى في رعاية الأطفال، وتعطير جو البيت بالجمال أم الرجل الذي كلفه الإسلام الإنفاق والقيام بأعباء التكاليف البيتية لتخلو المرأة إلى عبئها الضخم وتنفق فيه طاقتها ووسعها؟

ولهذا جعل الإسلام لكل من الرجل والمرأة وظيفة أساسية، فللمرأة اختصاصها ومواهبها وللرجل اختصاصه ومواهبه، ولابد أن يتوفر كل منهما على ما هيئ له، وهذا التباين الفطري في وضعهما ووظيفتهما هو سر تآلفهما وتعاطفهما، فإذا انحرفت أنوثة المرأة واتجهت إلى الرجولة، وانحرفت رجولة الرجل واتجهت إلى الأنوثة والتخنث كان في ذلك فساد المجتمع واضطرابه، وكلما اتجهت فطرة الرجل أو المرأة إلى كمالها الذي هيأه الله لها اتجه العالم إلى السعادة المنشودة والخير العميم، فإذا اكتملت رجولة الرجل اكتمل حلمه وجلادته، وشجاعته، وتساميه عن الريب، وتفانيه في سبيل الله.

وإذا اكتملت أنوثة المرأة اكتملت معها الأمومة السامية، والزوجية السعيدة، وتناهت معها معاني الرحمة والحب، والوفاء والحنان، ولذلك توخى الإسلام المصلحة العامة حين لم يطلق للمرأة الخروج من البيت وقصر ذلك على ما يعود بالفائدة على المرأة أولا، وعلى المجتمع ثانيا.

ص: 155

إن المرأة في البيت تصنع البطولات والفضائل، وهي بعد ذلك المصدر الروحي لإشعاع الرحمة والمودة كما ذكر القرآن الكريم:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [3] ، وليست إشاعة المودة والرحمة في البيت بالأمر الرخيص الهين الذي يتصوره المحرومون، فإن الدنيا بما فيها من ذهب أو متاع لا تساوي في ميزان الحق مثقال ذرة إذا خلت من المودة والرحمة والاستقرار.

ومن سر المرأة الصالحة في البيت أنها الجهاز الروحي الذي يلقي في روع الرجل اسرار القوة ومعاني الثقة، وأن كلمة واحدة منها وهو يشكو متاعب الزمان أو مكائد الرجال لكفيلة بأن تمده بطاقات عجيبة من الهمة والأمل والثقة، فإذا به إنسان جديد وبناء غير الذي يوشك أن ينهار.

إن المرأة بقيامها على المهد، ورعايتها لأطفالها حق الرعاية إنما تصنع مستقبل وطنها، ولسنا ندري عملا في الحياة يفوق في شرفه وسمو غايته هذا العمل، وإذا كنا نقلد غيرنا في عمل المرأة وخروجها من البيت فللنظر إلى واقع المرأة عند غيرنا من الأمم.

ص: 156

لقد كان من أفظع نتائج الحرب العالمية خطرا قتل ما يقدر على الأقل بعشرة ملايين شاب من أوروبا وأمريكا في ميدان القتال، فنتج عن ذلك مجموعة من النتائج الخطيرة، حيث ملايين من الأسر قد وجدت نفسها في نهاية الحرب بلا عائل، إما لأن عائلها قد قتل في الحرب، أو شوه بدرجة تعجزه عن العمل، أو فقد عقله وأعصابه بفعل الحياة الدائمة للخنادق والغازات السامة، والغازات المدمرة، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الذين خرجوا من الشباب القادرين على العمل لم يكونوا كلهم على استعداد لأن يتزوجوا ويكفلوا أسرة، فإن حياة الحرمان الشنيعة التي عاشوها أربع سنوات كاملة في أثناء الحرب لم تترك في نفوسهم فسحة لتحمل التبعات، والكدح في سبيل الآخرين، لقد خرجوا منهومين يريدون الاستمتاع في الحياة، يريدون أن يطفئوا السعار الملهوف، فلا بأس بالمرأة كصديقة تستجيب للرغبة اللاهفة، أو جسدا يشتري بالنقود، ولكن لا مرحبا بها زوجة وأما.

ومن ناحية ثانية فإن الدمار الذي أحدثته الحرب كان يستلزم طاقة إنتاجية هائلة للتعويض ولم يكن من تبقى من الرجال كافيا لحركة التعمير الشاملة المطلوبة في كل مكان.

والتقى الأمران على شيء واحد يجب على المرأة أن تعمل في السوق والمصنع والمنجم، وفي كل مكان يمكن أن تعمل فيه وإلا هلكت جوعا هي ومن تعول واضطرت المرأة كارهة أو راغبة أن تترك حياة المنزل المستقرة، وتنزل إلى المعترك الصاخب الذي لا يرحم ولا يجير، وانتهزت المصانع والشركات فرصة الحاجة الملحة التي تعانيها المرأة فشغلت النساء بأجور أقل من أجور الرجال، وإن كن يقمن بنفس العمل ونفس القدر من الساعات، وأصبحت للمرأة عندهم قضية؟ هي قضية المساواة في الأجور.

ص: 157

لقد استخدمت المرأة لقضيتها كل سلاح من الاحتجاج والإضراب والتهديد ومع ذلك لم تظفر بنتيجة، وبدا للمرأة أنها طالما بقيت بعيدة عن مصدر التشريع فلا فائدة ترجى من وراء الصياح، ولا بد أن يكون لها صوت في البرلمان وقامت المرأة والتي لم تكن تطالب سوى المساواة في الأجور في بادئ الأمر قامت تقول نحن سيان في الخليقة الرجل لا يفضلنا بشيء ولا مزية له علينا.

نتساءل بعد كل هذا هل عندنا أسباب موضوعية لحدوث ما حدث عند غيرنا؟ هل حدث في تاريخنا القديم أو الحديث أن أعطينا المدرسات مثلا راتبا أقل من راتب المدرسين كما تصنع انكلترا إلى هذه اللحظة وكما يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه معركة التقاليد بحجة أن المرأة تأخذ إجازة حمل وولادة ورضاع بينما الرجل لا يأخذ مثل هذه الإجازات؟.

هل حدث عندنا شيء غير الاستعمار الذي استعمر الأرض بجنوده واستعمر كذلك كثيرا من القلوب والأرواح والمشاعر والأفكار فنشأت طبقة تقلد المستعمر تقليد القرود.

ليست المرأة في الإسلام لمجرد الولادة والحضانة والإرضاع، كما أن الولادة في الإسلام ليست السب والشتم، إنما هي تكوين فكري ونفسي وخلقي للأطفال، إنها جهد ضخم شاق يحتاج إلى ثقة واختصاص، لذلك حرص الإسلام كل الحرص على تهذيب المرأة وتقوية الإيمان في ضميرها وتوفير الضمانات المعيشية لها.

إن الإسلام يبذل كل هذا لأنه يحسب دائما حساب الأجيال القادمة التي تقوم بتربيتها الأجيال الحاضرة، ويهذب الحاضر ليكون في الغد نتاج نظيف، وهو في هذا يعنى بالرجل والمرأة كليهما، ولكنه يعنى بالمرأة خاصة لأن الأم هي المنشئة لخلق الأجيال.

ص: 158

وتقوم بأخطر مهمة في حياة البشرية ومهمة رعاية الإنتاج البشري، وصيانته من الفساد، والتحلل والانهيار، وليس كما يقول الفارغون والفارغات إننا نعطل نصف المجتمع عن العمل، إنها لحماقة ما بعدها حماقة في عصر التخصص أن تنزع المرأة من اختصاصها الذي لا يحسنه غيرها لكي تشترك في الإنتاج المادي الذي يملك الرجل أن يقوم به، وتملك أن تقوم به العدد والآلات.

وإذا كنا في عصر الاختصاص والتخطيط فجدير بنا أن نعرف كيف خطط الإسلام ورسم لنا في هذا المجال إنه كما يفهم من نصوصه وقواعده يجيز للمرأة أن تعمل خارج البيت ضمن الشروط التالية:

1-

ألا يتعارض عملها خارج البيت مع وظيفتها الأساسية التي خلقت لها.

2-

أن يكون العمل ضمن الدائرة التي تختص ببنات جنسها وتتفق مع تكوينها الجسماني وفطرتها وذلك كالأعمال النسوية من تدريس للنساء وتمريض وتطبيب لهن.

3-

أن تلتزم حدود الآداب الإسلامية وما فرضه الله عليها من حجاب وما حرم من اختلاط.

أما العلم فهو فريضة، كل ما في الأمر أن تتعلم ما يناسب فطرتها ويعدها لمهمتها الكبرى ذلك لأن القدرة الإلهية حين فرقت هذا التفريق أرادت أن يكون للرجل اختصاص في الحياة غير اختصاص المرأة، وما اختلاف التكوين الجسماني إلا نتيجة ليتجه كل لما أعد له فأي المنهجين أصلح للمجتمع وأليق بفطرة الحياة أن تثقف المرأة في مهمتها وضمن دائرة وظيفتها أو تثقف فيما ليس لهذه المهمة بصلة.

فإذا كانت الظروف تدعونا إلى أن يكون من الفتيات طبيبات لبنات جنسهن أو معلمات فلا بأس، أما تعليم الكيمياء والهندسة مثلا وأمثالهما من العلوم فضرب من الترف لا يكون إلا على حساب المهمة الأصلية التي أعدت لها الفتاة وعلى حساب مزاحمة الرجل.

ص: 159

لقد أدخلت الفتاة كلية الزراعة والهندسة والعلوم في بعض البلدان، فما جنت؟ لم تجن إلا خروجها من مشاعر الأنوثة إلى السترجال الخشن والمرأة امرأة مهما بلغت لا تستغني عن أن تكون زوجة، وأما لهذا تهدف فطرتها وتهفو نفسها في حنان بالغ إلى تعيم البيت والأمومة.

إن المدارس التي تعلم الطبيب كيف يحارب العلل وينقذ المرضى، وتعلم التاجر كيف يروج بضاعته ويحسنها، والزارع كيف يجود حاصلاته وتسلم من الآفات، والصانع كيف يتقن صناعته يرقى بفنه، والأديب كيف يجني ثمار الأدب وينتفع بها.

إن المدارس التي تعد كلا من هؤلاء لوظيفته ومركزه الخاص جدير بها أن تعد الفتاة، ووظيفتها تختلف عن وظيفة الرجل للقيام بدورها الخطير.

فمما لا شك فيه أن الفتاة أحوج إلى دراسة نفسية الطفل في مراحل نموه، ومعرفة طرق العناية به خلقا وجسميا، وإلى دراسة قواعد حفظ الصحة والنظام منها إلى دروس في الميكانيك، وأحوج إلى علم التدبير المنزلي والتفصيل منها إلى الهندسة والفراغية وحساب المثلثات، وأحوج إلى دروس الدين الذي يهذب نفسها ويسمو بعواطفها، وينقي سريرتها ويطبعها طابع الأمومة الصحيحة والخلق القويم، ويعرفها بما لها وما عليها تجاه زوجها وأولادها.

وعلى أي حال فقد كان للغرب ظروفه، وقد أعفانا الله من هذه الظروف المدمرة، أفلا نحمد الله بالرجوع إليه والسير في الطريق الذي ارتضاه.

ص: 160

لقد نسيت المرأة أو تناست في كثير من بلدان العالم أن البيت هو المقر الأساسي لها، ونسيت مهمتها الرئيسة التي خلقت لها، نسيت أن استقرارها في بيتها وأدائها لواجبها لهو أكبر وأجل خدمة تؤديها لوطنها، ألا ليتها تدرك ما لوظيفتها من أهمية، وأثر حياة الشعوب والأمم، إنها أخطر من عمل المعامل الذرية والهيدروجينية ألا ليتها تعلم مقدار ما يعود على البلد من عظيم النفع والمجد إذا قامت المرأة بواجبها في إعداد الجيل القادم وتنشئته تنشئة طيبة صالحة، وإعداده إعدادا قويا سليما فالمرأة الناضجة هي القادرة في هذه الأيام على تحمل المسؤولية في إدارة شؤون البيت، وما يتبعه من التزامات وفي رعاية الأولاد والإشراف على تربيتهم وتهذيبهم فكيف توفق المرأة بين ما ذكرت وبين ما عليه حالتها الآن في كثير من البلدان من إهمال لبيتها وأولادها حتى أصبح الوقت الذي تمضيه خارج البيت أكثر منه داخله.

وإن هنالك من يظن أن في استطاعة المرأة الجمع بين أداء واجباتها العائلية والعمل الخارجي، ولست أدري كيف يمكن الجمع بين هذا وذاك مع وجود ما سبق إيضاحه وتحديده من المسؤوليات؟ كيف توفق بين هذه الواجبات التي تطلب استقرار في البيت وبين ما هو حادث الآن من قضائها أغلب وقتها خارجه؟ تاركة للخدم مسؤولية البيت والأولاد وهم طائفة يعلم الله أنهم لا يفهمون مسؤولية أنفسهم لما هم عليه من جهل مطبق وإهمال شنيع!؟ وحادثة المربية التي استعانت بمادة الأفيون في تخدير الطفل ليريحها من بكائه أثناء غياب والدته الموظفة ليست ببعيدة.

ص: 161

ثم لماذا تصر بعض النساء على فكرة الخروج من البيت والعمل في ميدان الرجل؟ ألا يمكن أن تتم المساواة كل في حيز الذي أعده الله له؟ وبدون أن يطغى أحدهما على اختصاص الآخر! وهل حينئذ تصبح دعوى المساواة أم دعوى تخريب حين يقال للجندي على الحدود: ما هذا الظلم؟ حيث تعيش بعيدا عن أهلك معرضا للخطر، والمرأة لا تخرج من البيت؟ إن المساواة تقضي أن تذهب إلى البيت وأن تخرج المرأة إلى خط النار؛ وأن يقال للعامل: ما هذا التخلف؟ حيث تقف وراء الآلة على قدميك ساعات بينما الموظف والمدير ورئيس الدائرة والوزير يقعد ست ساعات وراء الطاولة، إن المساواة تقضي أن يصبح العامل مديرا ورئيسا وأن يحشر الموظفون والرؤساء والقواد والمدراء إلى المعامل ليعملوا وراء الآلات، هل هذه دعوى مساواة أم دعوى تخريب؟

إن الدكتور محمد عوض يعلل هذه الظاهرة بقوله: "يقول علماء النفس إن هذه الظاهرة مردها إلى شيء يسمونه مركب نقص، وهو عبارة عن حالة نفسية تجعل صاحبها في سخط على عمله ووظيفته يرى أنه لم يعط العمل الذي يتفق مع كيانه وأنه لو قلد الأمر الذي يشتهيه لنبغ وأبدع".

وسواء ما يزعمه علماء النفس هو التعبير الصحيح أو لم يكن، فإن مهمة المرأة الحقيقة الرئيسية داخل بيتها وإذا تبقى للمرأة بعد ذلك شيء من الفراغ فتستطيع أن تستغله في الإصلاح لبنات جنسها، ولقد ثبت بالتجربة العلمية أن المشكلات الاجتماعية التي نشأت عن هدم المرأة لعرشها كثيرة أهمها:

1-

هدم التوازن الاقتصادي والانتهاء إلى أزمة اقتصادية ذلك لأن المرأة حينئذ تصبح منافسة للرجل والأصل في الرجل أن يكون مسؤولا عن عائلته وأولاده.

2-

انتشار العزوبة.

3-

هدم الحياة العائلية وإفساد العلاقات الزوجية وإهمال تربية الأولاد.

بهذه المناسبة أكرر العجب أيضا!

ص: 162

ولماذا تتطلع المرأة لكل ما هو من اختصاص الرجل ومن واجباته؟ ترى هل عقمت البلاد من الرجال؟ من يرشدني إلى ميدان من ميادين الرجل تنقصه الأيدي العاملة، ولا يوجد من الرجال من يملؤه ويسد الفراغ فيه؟

إن البلاد وخصوصا التي تزاحم المرأة فيها الرجل في حيرة شديدة كيف توجد أعمالا لهذا الجيش من العاطلين الذي يعول كل واحد منهم عائلة تتكون من زوجة وأولاد وأحيان أمهات وأخوات، يحدث هذا في الوقت الذي نجد فيه عددا ضخما من الفتيات والعاملات يشتغلن في الوظائف والمحلات وأغلبهن لهن من يقوم برعايتهن والصرف عليهن وبرغم ذلك يعملن وينافسن الرجل ولا دافع لهذا إلا التقليد والاستزادة ثم يصرفن الأجور في الترف وعلى ما تتطلبه منهن تلك المدنية الزائفة، من كماليات متعددة، وتبرج فاضح، وقد ثبت بما لايدع مجالا للشك أن توظيف المرأة في وظائف الدولة يزاحم الرجال في ميدان عملهم وفي الوقت الذي تزدحم فيه دوائر الدولة عندهم بالموظفات نرى العديد من المتعلمين حملة الشهادات يتسكعون في الطرقات لا يجدون عملا.

إن توظيف المرأة بدلا من الرجل عمل لا يبرره المنطق والمصلحة، حيث نخرج المرأة من بيتها ونأتي بها إلى دواوين الدولة والمعامل والمؤسسات، ثم نطرد الشباب من مكانه ونرده إلى البيت والشارع، فهذا قلب للأوضاع، وإفساد للمجتمع، وسير بقافلة البلاد إلى طريق الفوضى والأزمات.

لقد تولت الفطرة السليمة تقسيم العمل بين الرجل والمرأة على نحو عادل، فالزوجة تحمل الجنين تسعة أشهر في بطنها ثم ترضعه، وتقوم على مهده ومدارج طفولته، وجعلت القدرة الإلهية ذلك وقفا عليها وحدها وأعدتها إعدادا خلقيا له لا خيار لها في تقبله أو الفكاك منه، وهي في أثناء ذلك تتعرض لكثير من الضعف والألم والسقم وغيره مما يوهن عزمها ويضعف صحتها فلا تكون قادرة على اليسير من العمل.

ص: 163

أما الرجل فقد أعفى مما أعدت له المرأة، وأعفي تبعا لذلك من موجبات السقم والألم، فكان عليه أن يقوم بالعمل الخارجي ويسعى في جلب قوته وقوت عياله؛ فهو لا يقدر على حمل الجنين في بطنه وولادته وحضانته وإرضاعه وخدمته، والحنان عليه كما تحضنه الأم وتشفق عليه، وذلك هو حكم الفطرة، فليست المرأة إذن خادما ذلولا مسخرا لخدمة الرجل، وليس الرجل معفيا من التكاليف، ولكنهما في تعاون معا على أداء مسؤوليات الحياة لكل منهما نصيبه، وفي ذلك بعض معنى قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [4] ، ومن ثم ندرك حكمة إعفاء المرأة من النفقة على نفسها وجعل ذلك من واجبات الرجل، فإنه ما كان يسوغ في منطق العدالة أن يثقلها بالحمل والوضع والرضاعة دون أن يقوم من جانبه بما يقابل ذلك من توفير النفقة لها.

فنحن إزاء سياسة فاضلة تقوم بتوزيع العمل بين الزوجين على أساس من العدالة التامة والمساواة والشورى.

أهذه قيمة الإنسان في حضارة المادة ووثنية المال؟

ص: 164

إن كثيرين عندنا يغالطون حين يزعمون أن مساواة المرأة لا تتم إلا أن تقوم بعمل الرجل، وأن سر قوة الغربيين واختراعاتهم في أن المرأة تعمل عمل الرجل وأنّه لا يجوز للمرأة أن تكون عالة على أبيها أو زوجها أو أخيها؛ وإنني أقول: إن هذه الادعاءات ليست إلا مغالطة، ولا وزن لها في ميزان المنطق السليم، فليس الموظف الذي يقبض راتبه من خزينة الدولة يشعر أنّه عالة على الدولة بل يقبض راتبه بكل كرامة واعتزاز لأنّه يؤدي واجبا اجتماعيا نبيلا، والمرأة حين تكون في بيت أبيها قبل الزواج إنما تتمرس على شؤون البيت وأعماله وإداراته، فهي في عمل اجتماعي نبيل ثم إذا تزوجت بعد ذلك فهي في عمل يستغرق كل وقتها، فهل هي حينئذ تكون عالة على زوجها؟ أم أنها ستقوم بأعمال مرهقة قد تكون أكثر إرهاقا من عمل الزوج؟ وحينئذ هل تترك عملها في البيت لتعمل في خارجه؟ أم تقوم بالعملين معا؟!

إن ترك عملها في البيت لتعمل في الخارج إخلال بنواميس الحياة وخيانة للأمانة التي أوكلت بالمرأة، وفي قيامها بالعملين معا إرهاق لجسمها، وهو ظلم منها لنفسها ما بعده ظلم، وظلم من المجتمع لها، فالإسلام حين أراد منها أن تتفرغ لأعبائها وألزم زوجها أو وليها الإنفاق عليها إنما جعل هذا حقا لها؛ والإسلام بذلك صانها من الابتذال، وكفاها مشقة العمل فوق عملها المرهق، فهل انقلبت العناية بالمرأة في نظرها وفي نظر من عميت بصائرهم إلى احتقار وازدراء.

ص: 165

إن على المرأة أن تتحمل كل ما تحملته المرأة الغربية، في خروجها من البيت وعملها خارجه، وعليها أن تقبل بكل النتائج في هذا الأمر، فعليها أن تتكفل بنفقات حياتها ودراستها منذ تجاوز الخامسة عشرة، وعليها أن تعمل كثيرا لتدخر ما تقدمه لمن ترغب في الاقتران به من مال يرضيه، وعليها أن تشارك الزوج بعد ذلك في نفقات البيت والأولاد، وعليها أن تستمر في العمل لكسب قوتها، ولا يحق لها أن تطالب أبا أو أخا أو زوجا بأي معونة، وعليها أن تفتش عن عمل لها أينما كان في المكاتب التجارية، في المخازن الكبرى، في بيع الجرائد، في الأحذية، في جمع القمامة، في حراسة الأبنية الكبيرة، في حمل الأثقال لتنظيف المراحيض، في كل ما يشتغل فيه الرجل، وهذه أعمال نرى أو نسمع أن المرأة عند غيرنا أنها تقوم بها في جميع بلاد أوروبا، وفي بلاد الاتحاد السوفياتي حيث اقتحمت المرأة في تلك البلاد كل عمل لتعيش.

هذه هي حالة المرأة في البلاد التي يريد تقليدها بعض الذين فسدت ضمائرهم على حين أن المرأة عندنا تبقى في بيتها يكد الرجل ليرعاها، فإذا كانت المرأة عندنا اليوم ترغب في العمل خارج بيتها، ولا تتعرض إلا لأعمال السهلة لا مشقة فيها فيجب عليها أن تنتظر الأعمال الشاقة المرهقة كالمرأة الغربية، فمساواة المرأة بالرجال على ما يزعمون من شأنها أن تجعلها تقوم بكل ما يقوم به كما هو الأمر عند من تريد أن تقلده.

وأهم ما في الأمر من خطورة أن فسح المجال أمام المرأة للعمل خارج البيت ينشأ عنه تفكك الأسرة، وتشرد الأطفال، وهذا من أكبر العوامل في انحلال المجتمع وانهياره، وهو ما وقع فيه الغرب ودفع بالمفكرين منهم إلى الشكوى والإعلان عن قرب انهيار حضارتهم نتيجة لذلك.

ص: 166

يقول أوجست كونت مؤسس علم الاجتماع الحديث في كتابه النظام السياسي: "لو نال النساء يوما من الأيام هذه المساواة المادية التي يتطلبها لهن الذين يزعمون الدفاع عنهن فإن ضمانتهن الاجتماعية تفسد على قدر ما تفسد حالتهن الأدبية لأنهن في تلك الحالة سيكنّ خاضعات لمزاحمة قوية بحيث لا يمكنهن القيام بها".

ولما كتبت زوجة هيركور الشهيرة بالمدافعة عن حقوق النساء إلى الفيلسوف الاشتراكي برودون تسأله عن رأيه في مسألة النساء؟ أجابها كما يقول في كتابه ابتكار النظام: "بأن هذه الجهود المبذولة من النساء لا تدل إلا على علة أصابت جنسهن"، ثم يقول:"إن حالة المرأة إذا جرت على النسق الذي تريدينه كما هو حالة الرجل فيكون أمرها قد انتهى لأنها تصير مستعبدة مملوكة".

ويقول الفيلسوف الاقتصادي جول سيمون في مجلة المجلات المجلد/17/ كما ينقل الدكتور مصطفى السباعي في كتابه المرأة بين الفقه والقانون: "النساء قد صرن الآن نساجات طباعات وقد استخدمتهن الحكومة وبهذا فقد اكتسبن بضعة دريهمات ولكنهن في مقابل ذلك قد قوضن دعائم أسرهن تقويضا، نعم إن الرجل صار يستفيد من كسب امرأته ولكن بإزاء ذلك قل كسبه لمزاحمتها له في عمله".

ويقول: أوغست كونت أيضا: "يجب أن تكون الحياة النسوية منزلية على قدر الإمكان ويمكن تخليصها من كل عمل خارجي ليمكنها على ما يرام أن تحقق وظيفتها الحيوية".

ويقول جيوم فربرو الشهير في أحوال الإنسان وتطوراته في مجلة المجلات المجلد/18/ما يلي: "يوجد في أوروبا كثير من النساء اللواتي يتعاطين أشغال الرجال ويلجئون بذلك إلى ترك الزواج بالمرة وأولاء يصح تسميتهن بالجنس الثالث".

ويقول جول سيمون أيضا: "المرأة التي تشتغل خارج البيت تؤدي عمل عامل بسيط ولكنها لا تؤدي عمل امرأة".

ص: 167

هذه بعض أقوال الغربيين ولا يتسع المجال لأكثر من هذا، وأنا لنذكر أن هتلر في آخر أيامه قد بدأ بمنح الجوائز لكل امرأة تترك عملها خارج البيت وتعود إلى بيتها، وكذلك فعل موسوليني يومئذ.

إن أهم حجة يستند إليها المتحمسون لاشتغال المرأة خارج بيتها هو أن اشتغالها يزيد في الثروة القومية وأن البلاد تخسر كثيرا يقصر عمل المرأة على أعمال البيت عدا ما فيه من تعويد على الكسل وقتل وقتها بما لا يفيد وتقويض هذه الحجة سهل إذا تذكرنا الحقائق التالية:

1-

أن اشتغال المرأة يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيرا سيئا باعتبار أن اشتغالها فيه مزاحمة للرجل في ميدان نشاطه الطبيعي مما يؤدي إلى نشر البطالة في صفوف الرجال كما وقع في جميع البلاد التي أخذت المرأة فيها طريقها إلى العمل خارج البيت في السوق والمصنع ووظائف الدولة.

2-

إذا ثبت أن اشتغال المرأة يؤدي إلى بطالة الرجل كان من المحتمل أن يكون ذلك الرجل الذي زاحمته أباها أو أخاها فأي ربح اقتصادي للأسرة إذا كان اشتغال المرأة يؤدي إلى بطالة عميدها والمكلف بالإنفاق عليها.

3-

إن مصالح الشعوب لا تقاس دائما بالمقياس المادي فلو فرضنا أن اشتغال المرأة يزيد في الثروة القومية إلا أنّه من المؤكد أن الأمة تخسر بذلك خسارة معنوية واجتماعية ومادية لا تقدر فأي الخسارتين أبلغ ضررا؟ الخسارة المادية أم الخسارة المعنوية والاجتماعية.

إن النظر إلى كل فرد في المجتمع كآلة منتجة تهتم الدولة بزيادة إنتاجها هو رجوع بالإنسان إلى الوراء إلى عهود العبودية والسخرة وهذا ما لا ترضاه الإنسانية الكريمة.

ص: 168

على أن هذه النظرة المادية لا تنطبق على واقعنا وواقع المجتمعات الأخرى حتى الشيوعية نفسها، فهنالك في كل مجتمع فئات معطلة عن الإنتاج المادي للتفرغ لأمور هامة خطرة، فالجيوش والموظفون لا يزيدون في ثروة الأمة المادية، وقد رضيت كل الأمم أن يتفرغ الجيش لحماية البلاد، والموظفون لإدارة الشؤون دون أن تلزمهم الكسب، فهل يقال: إن هذا تعطيل للثروة القومية في البلاد؟

إن خوض الأمة معارك الدفاع عن حياتها وانتزاع حقها واستقلالها من أيدي الغاصبين ترحب به كل أمة، بل لا تستطيع أي أمة أن تفعل غيره، فكم تلحق الأمة من خسائر بشرية ومادية في سبيل الدفاع المشروع وهل يجرؤ أحد أن يدعو الأمة إلى تسريح جيشها، وعدم شراء الأسلحة والذخائر وصنعها وعدم مقاومة المغيرين بحجة أن في ذلك كله خسارة مادية وإضرار بالإنتاج القومي والثروة العامة.

لاشك بأن هؤلاء المنادين باشتغال المرأة خارج بيتها لا يوافقون على حرمان الأمة من جهود أفراد الجيش والموظفين من الناحية الاقتصادية في سبيل مصلحة أغلى وأثمن من المنفعة الاقتصادية، إذا كان ذلك كذلك فهل يكون التفرغ لشؤون الأسرة أقل فائدة من تفرغ الجيش لحماية البلاد!؟، أم يريدون أن ترهق المرأة بالعملين معا، ثم أي عاقل يعرف خطورة رسالة المرأة في البيت يعتبر تفرغها لأداء هذا الواجب سجنا، فلم لا نقول: إن الموظف في ديوانه والزارع في مزرعته بأنه في سجن، ثم أي معنى لقول من يقول: إن وجود المرأة في البيت يعودها الكسل، إن أمثال هؤلاء لا يعرفون متاعب البيت وأعماله، وكيف تشكو المرأة من عنائه، فما يمسي المساء إلا وهي منهوكة القوى هذا إذا قامت بواجبها كما يجب.

ص: 169

ومن هنا ندرك أن الخطر الذي يحدق اليوم بالحضارة الغربية كما أحدق من قبل بالحضارتين اليونانية والرومانية نتيجة عمل المرأة واختلاطها بالرجال سيحدق بنا نحن مع فارق واضح وهو أن هذه الحضارات جميعا التي كان تبرج المرأة وخروجها واختلاطها وعملها خارج البيت مرضا من أمراضها القاضية عليها، قد بلغ أصحابها ذروة الحضارة عندهم، بينما يحدق بنا الخطر ونحن في بداية طريق النهوض.

ومن العجيب أن يريد لنا البعض أن نبدأ من حيث انتهى غيرنا وأن نساير غيرنا في أمر أخذ يعلن أنه سيقضي على حضارته، وليس للأمة مصلحة في استجلاب هذا الخطر إلى بيوتها وأسرها هانئة تنعم بالاستقرار والتماسك والحب والثقة، الأمر الذي لا يعرفه غيرنا بعد أن تفشت فيهم تلك الأمراض بل بدأوا يحنون إليه ويعلنون عن أسفهم للحرمان منه وخلاصة القول في هذا الموضوع: إننا لا بد أن نختار أحد طريقين: طريق إسلامنا الذي يصون كرامة المرأة ويفرغها لأداء رسالتها كزوجة وأم، وفي سبيل ذلك يتكفل المجتمع ضمان حاجتها المعاشية، وليس في ذلك غضاضة عليها ما دامت تتفرغ لأهم عمل فالمرأة التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بشمالها.

ص: 170

أو بين طريقة الغرب التي ترهقها بمطالب الحياة وتجبرها على أن تكدح وتعمل لتأمين معيشتها مع وظيفتها كزوجة وأم، وبذلك تخسر نفسها، ويخسر المجتمع استقرار حياة الأسرة وتماسكها ولهذا علينا أن نختار، ونحن المسلمين ما رأينا خيرا من طريق الإسلام لأنه نظام الله:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [5] ، فجدير بنا أن نتمسك بإسلامنا لأننا لم نر نساء خيرا من نسائنا ما تمسكن بحجابهن وتقيدن بأحكام الإسلام وآداب ذلك المجتمع الفاضل الذي أخرج عائشة وأسماء وخولة ورابعة، وألافا من المربيات الفضليات، اللاتي ولدن أولئك الرجال الذين كانوا فرسان الميادين والمنابر، وكانوا سادة الدنيا وقادة العالم، وكانت النساء أمهات أولئك السادة والقادة.

ولنذكر جميعا قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [6] ، هذا هو الحق وما بعد الحق إلا الضلال.

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [7] .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

سورة النساء آية:7.

[2]

سورة الأحزاب آية 33.

[3]

سورة الروم آية21.

[4]

سورة البقرة آية228.

[5]

سورة المائدة آية50.

[6]

سورة الأحزاب آية36.

[7]

سورة فصلت آية53.

ص: 171

التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي

بقلم الشيخ عطية محمد سالم

القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة

الحلقة الثانية

عهد عثمان وعلي رضي الله عنهما

أما في عهد عثمان رضي الله عنه فإن عليا بنفسه كان يؤم الناس في التراويح أكثر ليالي الشهر، كما في سنن البيهقي رحمه الله عن قتادة عن الحسن قال:"أمّنا علي بن أبي طالب في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه عشرين ليلة، ثم احتبس، فقال بعضهم: قد تفرغ لنفسه، ثم أهم أبو حليمة معاذ القارئ، فكان يقنت".

ففي هذا العهد تولى علي رضي الله عنه بنفسه إمامة الناس عشرين ليلة، وفيه أيضا كان القنوت في العشر الأواخر.

أما مسألة القنوت فكان كذلك "أبيّ" يقنت في النصف الأخير من رمضان رواه البيهقي.

ولم نجد جديدا في عدد الركعات، وأغلب الظن أنها كانت على ما كانت عليه زمن عمر رضي الله عنه، لما سيأتي من عدد ركعاتها في عهد علي رضي الله عنه.

الدعاء في ختم القرآن:

غير أننا وجدنا هنا في عهد عثمان رضي الله عنه عملا يكاد يكون جديدا في التراويح وهو الدعاء بختم القرآن في نهاية الختمة، وذلك لما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني ج2 ص171 قال:"فصل في ختم القرآن، قال الفضل بن زياد سألت أبا عبد الله فقلت: أختم القرآن، أجعله في الوتر أو في التراويح؟، قال: اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت: كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع بنا ونحن في الصلاة وأطل القيام، قلت بما أدعو؟ قال: بما شئت، قال: ففعلت بما أمرني، وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه".

ص: 172

قال حنبل: "سمعت أحمد يقول: في ختم القرآن إذا فرغت من قراءة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة"، قال العباس بن عبد العظيم:"وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة، ويروي أهل المدينة في هذا شيئا وذكر عن عثمان بن عفان".

فقوله رأيت أهل مكة يفعلونه وفعل سفيان بن عيينة معهم، ثم قول العباس بن عبد العظيم أدركنا الناس بالبصرة وبمكة وبروي أهل المدينة في هذا شيئا وذكر عن عثمان بن عفان يدل أنّه كان عملا عاما في تلك الأمصار مكة والبصرة والمدينة، ويشير إلى أنّه لم يكن قبل زمن عثمان.

كما يدل على أنّه من عمل عثمان رضي الله عنه إن صحت عبارته، ويروي أهل المدينة في هذا شيئا

الخ.

وعلى كل فقد فعله أحمد رحمه الله مستدلا بفعل أهل الثلاثة المذكورة ومستأنسا بما يروي أهل المدينة في هذا عن عثمان رضي الله عنه، مما يدل على أنّه كان موجودا بالمدينة عمل دعاء الختم الذي يعمل اليوم في التراويح مع طول القيام، وسيأتي نصه في سياق مذهب أحمد رحمه الله تعالى إن شاء الله.

العباس بن عبد العظيم:

أما العباس بن عبد العظيم الذي أسند إليه القول سابقا: أدركنا الناس بالبصرة ومكة ويوي أهل المدينة في هذا شيئا وذكر عن عثمان بن عفان؛ فإنّ العباس هذا قد ترجم له في التهذيب ج5 ص122 مستهلا يقول: "عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل بن توبة العنبري أبو الفضل البصري الحافظ"، وعدّ من روى عنهم نحو العشرين، ثم قال:"وجماعة، وعند الجماعة ولكن البخاري تعليقا"، ثم عدّ عشرة أشخاص ممن أخذوا عنه ثم قال وغيرهم.

ثم قال: قال أبو حاتم: "صدوق"، وقال النسائي:"مأمون"، وذكر ثناء العلماء عليه، وأخيرا قال: قال البخاري والنسائي: "ومات سنة256"ثم قال: "قلت - أي صاحب التهذيب - وقال مسلمة: "بصري ثقة".

ص: 173

وقال عنه في التقريب: "عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل العنبري أبو الفضل البصري ثقة حافظ من كبار الحادية عشرة مات سنة40 - حث م عم".

ورمزه بحرف: (خت) أي للبخاري تعليقا، وحرف (م) أي لمسلم، وحرف (عم) أي للجماعة سوى الشيخين.

فتبين بذلك أن نقله عن أهل المدينة نقل ثقة حافظ، والله تعالى أعلم.

فيكون الجديد في التراويح في عهد عثمان رضي الله عنه أنّ عليا بنفسه كان يؤم الناس فيها عشرين ليلة، وأنّه وجد دعاء ختم القرآن.

عهد علي رضي الله عنه:

أما عهد علي رضي الله عنه فجاء في سنن البيهقي أنّه رضي الله عنه جعل للرجال إماما وللنساء إماما، ولكنه كان يؤمهم بنفسه في الوتر؛ فعن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال:"دعا القراء في رمضان فأمر منهم رجلا أن يصلي بالناس عشرين ركعة، قال وكان علي رضي الله عنه يوتر بهم"، قال البيهقي:"وروى هذا من وجه آخر عن علي".

فقد وجدنا هنا تجديدا في زمن علي حيث أنّه كان في عهد عثمان رضي الله عنه يصلي بهم التراويح وفي العشر الأخير يقتصر لنفسه، وهنا نجد عليا رضي الله عنه يصلي بهم الوتر.

أما إمام النساء في زمن علي رضي الله عنه فهو عرفجة الثقفي كما عند المروزي، قال عرفجة الثقفي:"أمرني علي رضي الله عنه فكنت إمام النساء في قيام رمضان".

ففي زمن علي رضي الله عنه كانت التراويح عشرين والوتر ثلاث، وهذا أغلب الظن كما كانت في عهد عثمان رضي الله عنه، وعهد عمر رضي الله عنه، وأن الزيادة إنما أحدثت بعد عهد علي رضي الله عنه أي الست والثلاثين المتقدمة.

وفي زمنه أيضا تولى هو الإمامة في صلاة الوتر على خلاف عثمان وعمر رضي الله عنهما.

ما بين عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

ص: 174

مما تقدم يظهر للمتأمل أن عدد ركعات التراويح كان مستقرا إلى ثلاث وعشرين، منها ثلاث ركعات وترا كما في رواية يزيد بن الرومان عند مالك كما تقدم، قال:"كان الناس يقومون زمن عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة؛ وهو كما قال عنه في التقريب: يزيد بن الرومان المدني مولى آل الزبير ثقة من الخامسة، مات سنة ثلاثين أي بعد المائة، فيكون قد عني بزمن عمر فقط، وإلا لقال: "وعثمان وعلي".

وعليه تكون الزيادة التي وردت في روايات كل من معاذ القارئ وصالح مولى التوأمة أنها وجدت بعد عمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، لأنها محددة بما قبل الحرة، ولم تعين أي وقت كان قبلها.

فإذا كانت النصوص تحدد بثلاث وعشرين زمن عمر، وتظل تنص على ثلاث وعشرين أيضا من فعل علي في عهد علي فيكون من البين أن هذا العدد كان مستقرا وثابتا إلى زمن علي رضي الله عنه، وأن الزيادة إنما جاءت بعده، وقد استمرت إلى عمر بن عبد العزيز فيما بعد.

تحديد الزيادة التي طرأت على عهد علي رضي الله عنه:

1-

أولا: جاءت رواية نافع مولى ابن عمر رضي الله عنه كما تقدم عند الباجي أنّه قال: "أدركت الناس يصلون بسبع وثلاثين ركعة يوترون منها بثلاث".

أي أن التراويح زادت من عشرين إلى ست وثلاثين ماعدا الوتر ثلاث؛ ونافع مات سنة 117 أي بعد وفاة عمر بن عبد العزيز رحمه الله بست عشرة سنة، لأنّ عمر مات سنة 101.

وقوله: أدركت الناس، يشير إلى أنّ ذلك من قبل خلافة عمر بن عبد العزيز، وقد صرح بهذا العدد في عهد عمر بن العزيز رحمه الله أبان بن عثمان أيضا، وداود بن قيس عند المروزي؛ قال:"أدركت المدينة في زمن أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز يصلون ستا وثلاثين ركعة يوترون بثلاث، وفي بعض الروايات ويوترون بخمس".

وبالنظر في رواية داود بن قيس وإحدى روايتي نافع يتبين أن التروايح كانت في عهد عمر بن عبد العزيز ستا وثلاثين ركعة.

ص: 175

وبالنظر في رواية معاذ القارئ وإحدى روايتي نافع الأخرى يتبين لنا أن تلك الزيادة وجدت قبل عمر بن عبد العزيز، لأنّ فيها أنّه كان يصلي إحدى وأربعين ركعة..

وإحدى روايتي نافع أنّه أدرك الناس يصلون ستا وثلاثين ويوترون بخمس ومجموعها إحدى وأربعون، فتتفق روايات كل من نافع وداود بن قيس وصالح مولى التوأمة على وجود إحدى وأربعين ركعة، منها الوتر بخمس، وأن ذلك من قبل عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وأنّه أقرها على ذلك.

وقد استمرت إلى ما بعده كما سيأتي من رواية وهب بن كيسان.

وقد قال الشافعي رحمه الله في كتابه الأم: ج1ص142 ما نصه: "ورأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين، وأحب إلى عشرين لأنّه روي عن عمر، وكذلك يقومون بمكة، ويوترون بثلاث".

عهد الأئمة الأربعة رحمهم الله

أولا: عهد مالك رحمه الله إمام دار الهجرة:

لقد أدرك مالك رحمه الله عمر بن عبد العزيز، وأدرك من حياته ثمان سنوات لأنّ عمر رحمه الله مات سنة101، ومالك ولد سنة93، فكانت وفاة عمر بعد ولادة مالك بثمان سنوات أي حين كان مالك في أوائل طلب العلم، وقد جاءت النصوص أنّ عدد ركعات التراويح ستا وثلاثين أثناء وجود مالك؛ بل كانت موجودة وعمره أربع وثلاثون سنة كما في رواية وهب بن كيسان، قال:"ما زال الناس يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث إلى اليوم في رمضان"وقد مات وهب سنة127.

وقد نص مالك رحمه الله بما هو أصرح من ذلك حيث جاء عن ابن أيمن عند المروزي قال مالك: "أستحب أن يقوم الناس في رمضان بثمان وثلاثين ركعة ثم يسلم الإمام والناس، ثم يوتر بهم بواحدة"، وهذا العمل بالمدينة قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة؛ فيفهم من قول مالك هنا:"وهذا العمل قبل الحرة منذ بضع ومائة سنة"، أنّ التسع والثلاثين بما فيها الوتر كانت قبل عمر بن عبد العزيز، وأنّه العدد الذي أقره واستحبه مالك وأخذ به.

ص: 176

ولذا كان يكره أن ينقص عن هذا العدد، كما روى ابن القاسم عنه قال: "سمعت مالكا يذكر أن جعفر بن سليمان أرسل عليه يسأله أننقص من قيام رمضان فنهاه عن ذلك، فقيل له: قد كره ذلك؟ أي قيل لابن القاسم قد كره مالك ذلك، قال: نعم

"راجع المدونةج1ص222.

وقد قام الناس هذا القيام قديما، قيل له: فكم القيام؟ فقال: تسع وثلاثون ركعة بالوتر، وسيأتي نص مذهب مالك مفصلا في ذلك على حدة إن شاء الله، مع نصوص المذاهب الأربعة بعد، والمراد هنا ذكر حالة التراويح في عصره في المسجد النبوي.

وقد أدرك الشافعي مالكا وأخذ عنه، وجاء عن الشافعي أيضا هذا العدد في المدينة المنورة، قال الزعفراني عن الشافعي:"رأيت الناس يقومون بالمدينة تسعا وثلاثين ركعة".

أما مذهبه فأشار عليه بقوله عقب ذلك "وأحب إلي عشرون"، قال:"وكذلك يقومون بمكة"أي بالعشرين، قال:"وليس في شيء من هذا ضيق، ولا حد ينتهي إليه لأنّه نافلة فإن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وهو أحب إلي، وإن أكثروا السجود فحسن".

وسيأتي تفصيل مذهبه إن شاء الله عند ذكر المذاهب الأربعة في المسألة، وعليه فلا جديد في عدد الركعات، ولكن قد وجد جديد في نواح أخرى منها:

1-

منها كيفية القراءة أي مقدارها، فقد كانت بعشر آيات في كل ركعة كما في رواية عبد الرحمن بن القاسم عند المروزي:"سئل مالك عن قيام رمضان بكم يقرأ القارئ؟ قال: بعشر عشر، فإذا جاء السور الخفيفة فليزد مثل الصافات، وطسم، فقل: له خمس، قال: بل عشر آيات".

ونص ابن وهب في المدونة الكبرىج1ص223: "أن عمر بن عبد العزيز أمر القراء يقومون بست وثلاثين ويوترون بثلاث، ويقرأ بعشر آيات في كل ركعة".

ص: 177

بينما نجد في زمنه من يقرأ القرآن كل ليلة، قال مالك:"كان عمر بن جعد من أهل الفقه والفضل، وكان عابدا، ولقد أخبرني رجل أنّه كان يسمعه في رمضان يبتدئ القرآن في كل يوم، قيل له: كأنه يختم! قال: نعم، وكان في رمضان إذا صلى العشاء انصرف، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين قامها مع الناس، ولم يكن معهم غيرها"، فقيل له:"يا أبا عبد الله فالرجل يختم القرآن كله في ليلة؟ قال: ما أجود ذلك إن القرآن إمام خير أو إمام كل خير".ا. هـ

الجهر بالبسملة:

2ـ ومنها أنّه وجد في زمنه هيئة افتتاح القراءة لم تكن من قبل، وهي الجهر بالبسملة والاستعاذة.

قال ابن وهب: "سألت مالكا قلت: أيتعوذ القارئ في النافلة؟ قال: نعم، في شهر رمضان يتعوذ في كل سورة يقرأ بها يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قيل له: ويجهر بذلك؟ قال: نعم؛ قيل له: ويجهر في رمضان بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: نعم".

وعن ابن القاسم: "سئل مالك عن القراءة إذا كبر الإمام افتتح بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم؟ قال: لا أعلمه يكون إلا في رمضان، فإن قراءنا يفعلون ذلك، وهو من الأمر القديم".

وقوله: هو من الأمر القديم يشهد له ما جاء عن أبي الزناد قال: "أدركت القراء إذا قرءوا في رمضان تعوذوا بالله السميع من الشيطان الرجيم ثم يقرؤون"، قال المروزي:"وكان إذا قام في رمضان يتعوذ حتى لقي الله لا يدع ذلك".

وأبو الزناد مات سنة 130هـ أي بعد عمر بن عبد العزيز وقبل مالك.

وجاء أنّ قراء عمر بن عبد العزيز كانوا لا يدعون التعوذ في رمضان، ولعل هذا هو مراد أبي الزناد بقوله أدركت القراء، يعني قراء عمر بن عبد العزيز، لأنّ بين وفاته ووفاة عمر بن عبد العزيز تسعة عشر سنة فقط.

ص: 178

وظل هذا الأمر بعد أبي الزناد إلى سعيد بن إياس قال: "رأيت أهل المدينة إذا فرغوا من أم القرآن ولا الضالين، وذلك في شهر رمضان يقولون: "ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم".

أما حكم المسألة عند ملك فكما قال الباجي في شرح الموطأ: "مسألة: ولا بأس بالاستعاذة للقارئ في رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة، وروى عنه أشهب في العتبية: "ترك ذلك أحب إليّ".

وقد وجه الباجي كلا الروايتين، والواقع أن البسملة كما قيل: إنها حرف أي جاءت رواية في القراءات السبع بإثباتها، وراية بإسقاطها، وهما عن نافع رحمه الله.

فرواية ورش ترك البسملة، وراية قالون عنه إثباتها وعليه البيت الآتي في القراءات:

قالون بين السورتين بسملا

وورش الوجهان عنه نقلا

ونافع هو قارئ المدينة، وعنه أخذ مالك، ومالك في ذلك رجح قراءة قالون، والرواية عن ورش التي فيها الإثبات.

أما ما يبدأ به القراءة في أول ليلة من رمضان فقد قال المروزي قال أبو حازم: "كان أهل المدينة إذا دخل رمضان يبدءون في أول ليلة بـ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} .

وأخبرني الشيخ حماد الأنصاري المدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة أنّ هذا هو عمل البلاد إلى اليوم وقد تركهم يفعلونه قبل أن يهاجر إلى المدينة، وقد باشر هذا بالفعل حينما كان إماما في بلاده في التراويح، وأهل تلك البلاد كلهم على مذهب مالك.

مقارنة بين قيام أهل المدينة وأهل مكة في ذلك الوقت:

مما تقدم من كلام مالك أنّه يستحب أن يقوم الناس بثمان وثلاثين ويوترن بواحدة أي تمام تسع وثلاثين، مع ما تقدم من كلام الشافعي أنّه أدرك الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين؛ فإنّ ذلك كله يبين ما كان عليه القيام بالمدينة زمن مالك والشافعي.

ولكن الشافعي قال فيما تقدم: "وأحب إليّ عشرون"، وقال:"وكذلك يقومون بمكة"، ثم قال:"إنّه نافلة وليس في ذلك حد ينتهي إليه".

ص: 179

ومن مجموع هذه الأقوال يثار سؤال وهو:

لم كان أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ويستحبه مالك، في الوقت الذي لا يقوم فيه أهل مكة إلاّ بعشرين وهو أحب إلى الشافعي؟

أما قول الشافعي رحمه الله: "وأحب إليّ عشرين، وأنّه قيام مكة"؛ فإنّ الظاهر والله تعالى أعلم أنّ الأصل أي ما كان عليه العمل زمن الخلفاء الثلاثة: عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعليه إجماع الصحابة أنهم قاموا بذلك العدد في المسجد، وقام به علي بنفسه في زمنه، أي أمر القارئ أن يصلي بعشرين وكان هو يوتر لهم، وقال أبو زرعة في طرح التثريب ج1ص198:"والسر في العشرين أن الراتبة في غير رمضان عشر ركعات فضوعفت فيه لأنّه وقت جد وتشمير".

وعلى كل فهو عمل يدخل في سنة الخلفاء الراشدين المهديين رضوان الله عليهم.

فكان أهل مكة عاملين بالأصل، وليس هناك موجب للزيادة على العشرين، وإن كانت كما قال الشافعي:"إنّه تطوع وليس في ذلك حد ينتهي إليه".

أما قيام أهل المدينة بست وثلاثين فهو زائد عن ذاك الأصل، وهو وإن كان تطوعا فلم يستحبه مالك؟ ثم ولم زاد أهل المدينة على ما كان الأصل مع أنّ المتوقع أن يكونوا هم أولى بالوقوف عند ما هو الأصل: عشرين ركعة.

والجواب عن ذلك ما حكاه النووي في المجموع شرح المهذب، وحكاه غيره من أن المسألة من باب الاجتهاد في الطاعة، والمنافسة في الخير، وأنّ الموجب الأساسي لذلك هو أن أهل مكة كانوا إذا تروحوا ترويحة قاموا إلى البيت فطافوا سبعا، وصلوا ركعتي الطواف، ثم عادوا إلى الترويحة الأخرى.

ومعلوم أنّ الترويحة أربع ركعات بتسليمتين وكانت الاستراحة تقع بين كل أربع ركعات فيكون لديهم فرصة للطواف أربع مرات بين التراويح، فأراد أهل المدينة أن يتعوضوا عن الطواف فجعلوا ترويحة مقابل كل طواف.

ص: 180

قال النووي في المجموع ما نصه: "وأما ما ذكروه من فعل أهل المدينة فقال أصحابنا سببه أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين طوافا ويصلون ركعتين، ولا يطوفون بعد الترويحة الخامسة، فأرد أهل المدينة مساواتهم فجعلوا مكان كل طواف أربع ركعات فزادت ست عشرة ركعة، وأوتروا بثلاث فصار المجموع تسعا وثلاثين والله أعلم".

قال الزركشي وهو من أعلام المائة الثامنة في كتابه: (إعلام الساجد بأحكام المساجد) ص260: ما نصه: "قال الماوردي والروياني: اختلفوا في السبب في ذلك على ثلاثة أقوال: أي سبب الزيادة على العشرين المذكورة:

أحدها: أن أهل مكة كانوا إذا صلوا ترويحة طافوا سبعا إلاّ الترويحة الخامسة فإنهم يوترون بعدها، ولا يطوفون فتحصل لهم خمس ترويحات وأربع طوافات فلما لم يكن لأهل المدينة مساواتهم في أمر الطواف الأربع، وقد ساووهم في الترويحات الخمس، جعلوا مكان كل أربع طوافات أربع ترويحات، زوائد فصارت تسع ترويحات، فتكون ستا وثلاثين ركعة لتكون صلاتهم مساوية لصلاة أهل مكة وطوافهم.

والثاني: السبب فيه أن عبد الملك بن مروان كان له تسعة أولاد فأراد أن يصلي جميعهم بالمدينة فقدم كل واحد منهم فصلى ترويحة فصارت ستا وثلاثين.

والثالث: أن تسع قبائل من العرب حول المدينة تنازعوا في الصلاة، واقتتلوا فقدم كل قبيلة منهم رجلا، فصلى بهم ترويحة فصارت سنة والأول أصح"، انتهى منه.

والظاهر أن السبب الحقيقي إنما هو الأول فقط لأنّ الثاني وإن كان يعطينا فكرة عن أبناء الأمراء والخلفاء ومنازل الشرف وميادين المنافسة بالتقدم إلى الصلاة بالناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلاّ أنه كان من الممكن حصول ذلك لهم بالتناوب لكل واحد ليلة، ويبقى العدد على ما هو عليه.

ص: 181

أما الثالث: فهو فضلا عن أنّ فيه صورة العصبية فإنّه أبعد أن يكون في الصدر الأول، ولا سيما للمسجد إمام مسؤول عنه، وقد صلوا جميعا بصلاته فريضة العشاء، فكيف يتنازعون عليه في النافلة.

إختصاص أهل المدينة بهذا العدد:

وهل هذا العمل خاص بأهل المدينة أم لغيرهم لمن أراد المنافسة في الخير؟.

فقد ناقش العلماء هذه المسألة: فأكثر الشافعية يقولون هو خاص بهم.

قال الزركشي الشافعي في كتابه إعلام الساجد: في خصائص المدينة في المسألة العشرين: قال ما نصه: "قال أصحابنا وليس لغير أهل المدينة أن يجاوروا أهل مكة ولا ينافسوهم"انتهى.

وقال ولي الدين العراقي في طرح التثريب ج1ص98 ما نصه: "وقال الحليمي من أصحابنا في منهاجه فمن اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين أيضا لأنهم إنما أرادوا بما صنعوا الاقتداء بأهل مكة في الاستكثار من الفضل لا المنافسة كما ظن بعض الناس".

والظاهر من مذهب المالكية أنفسهم أنها ثلاث وعشرون ركعة، أي في غير المدينة.

وجاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجموع ج22ص272 في كلامه على قيام رمضان ما نصه: قال: "ثم كان طائفة من السلف يقومون أربعين ركعة ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن".

وعلى هذا فلا يقوم دليل على خصوصية هذا العدد بأهل المدينة إلاّ بالعمل وبالنقل على مدى الزمن إلى القرن السابع ومن ثم إلى أواخر عهد الأشراف وقبل العهد السعودي.

وقد تقدم أن سبب زيادة أهل المدينة على أهل مكة أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين سبعا ويصلون ركعتين سنة الطواف فجعل أهل المدينة مكان كل طواف ترويحة زائدة حتى بلغ عدد تراويحهم ستا وثلاثين.

ص: 182

وهذا على إطلاقه يفيد أن هذا العمل أي الطواف كان لجميع أهل مكة، ولكن الواقع خلاف ذلك، وهو أنّ أهل مكة كانوا يصلون بأربعة أئمة للمذاهب الأربعة، ولم يكن يفعل ذلك أي الطواف بين التراويح إلا إمام الشافعية فقط، وهذا بناء على ما ذكره ابن جبير في رحلته وقد كان في مكة سنة579 قال:"والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهادا، وذلك أن يكمل التراويح المعتادة التي هي تسليمات ويدخل الطواف مع الجماعة، فإذا فرغ من السبع وركع عاد لإقامة تراويح آخر وضرب بالفرقعة الخطيبة ضربة يسمعها كل من في المسجد لعلو صوتها كأنها إيذان بالعودة إلى الصلاة فإذا فرغوا من تسليمتين ثم عادوا للطواف هكذا إلى أن يفرغوا من عشر تسليمات فيكمل لهم عشرون ركعة ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون، وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئا".

ومعلوم أن الشافعية في غير مكة لا يزيدون على ثلاث وعشرين ركعة، والعلم عند الله تعالى.

وبهذا العرض تنهي المائة الثانية ثم قد استهل عصر التأليف والتدوين والاجتهاد والاستنباط والأئمة الأربعة رحمهم الله، وفي أوائل المائة الثالثة بدأ تميز المذاهب الأربعة، وسنفرد لهم فصلا نورد فيه مذاهبهم رحمهم الله كل مذهب على حدة وذلك في نهاية البحث إن شاء الله بعد الفراغ من العرض المسلسل تاريخيا، ونعقد مقارنة بين أقوال المذاهب في حكم التراويح وعددها والقراءة فيها وعمل الختم، وختم أهل مكة وختم أهل المدينة.

ثم نعقبه بمتنوعات عن التراويح مما يتم به العرض وبالله التوفيق وإلى المائة الثالثة.

ص: 183

التقدم والرجعية (2)

بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي

المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين

الرجعية في نظر الدول التي لا تدين بدين:

عبرت بالدول ولم أعبر بالشعوب، لأنّ حرية الفرد في شعوبها أمر مستهجن لا قيمة له، فلا سبيل إلى معرفة مقدار تمسك شعوبها بالدين أو عدمه، فلا نستطيع أن نحكم على حكامه فهم يزعمون أنّ الدين (أفيون) الشعوب؛ قالوا:"لأنّ الدين شيء لا تفهمه العامة فهو منحصر في رؤساء الكنائس وهؤلاء الرؤساء يستحوذون على الشعب بالترغيب والترهيب، ويتصرفون فيه وفي رؤسائه وأمرائه وسوقته حسب أهوائهم ويوجهونه إلى أي وجهة شاءوا كما تسوق الرعاة الأغنام".

ولو أنّ هؤلاء الحكام طالبوا بالتحرير من سلطان رجال الكنيسة ليختار الشعب الوجهة التي يريدها في عقيدته ونظامه وحكمه وعلمه ومعيشته وتعليمه وشؤونه الاجتماعية كما فعل الخارجون على الكنيسة البابوية لربما كان قولهم مفهوما؛ ولكنهم يدعون إلى محو سلطان الكنيسة الذي يخوف الناس بعذاب الله ويبشرهم بالسعادة الروحية بعد الموت، ليقيموا بدله سلطاننا ماديا تحت لمعان السيوف والنفي والقتل والتعذيب وكتم الأنفاس وكبت الحريات ومضايقة الناس في أرزاقهم وأعمالهم وتعليمهم ومساكنهم وأطعمتهم وإقامتهم.

والطامة الكبرى أنّهم يفرضون عليهم دينا آخر وعقيدة أخرى لا يقولون لهم أنها جاءت من الله ولا من الرسل ولا من الأنبياء، ولكن من أشخاص مثلهم من أبناء جلدتهم ومن يتجرأ على رفض شيء من تلك العقائد فالويل له ماذا ينتظره من العذاب المهين أو الموت الزؤام فهم ينقلونهم من ضيق إلى أضيق ومن دين غير مفهوم بادعائهم إلى عقائد غير معقولة يجزمون ببطلانه ويكرهونها ولا يجدون عنها محيصا فهم كما قال الشاعر:

المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار

ص: 184

وإن كان القسيسون يبشرون أتباعهم بنعيم الفردوس فتمتلئ أرواحهم سعادة وغبطة، ولا يأخذون من أموالهم إلاّ ما تبرعوا به عن طيب نفس؛ فإنّ الحكام التقدميين يسلبونهم كل شيء، ولا يبيحون لهم أن يملكوا شيئا: لا مسكنا، ولا حيوانا، ولا شبر أرض يزرعونه، ولا تجارة، ولا صناعة يستغلونها، ولا يتعلم الطلبة من العلوم إلا ما يشتهون أعني الحكام، ولا يلقي مدرسا درسا في علم من العلوم الاجتماعية أو يكتب كلمة في كتاب أو صحيفة أو رسالة في البريد، بل لا يتكلم بكلمة أمام رفاقه بل أمام أهل بيته إلاّ إذا وزنها بميزان الذهب خوفا من أن تكون مخالفة للتعليم والقوانين والعقائد الاشتراكية فتخطفه الزبانية.

وإذا أراد الحكام تسلية عامتهم وتبشيرهم حدثوهم بمتخيلات لا يمكنهم تصديقها أبدا يقولن لهم:

نحن الآن في البداية، وكل بداية صعبة كما يقول المثل الألماني، فاصبروا على قلة الغذاء، وضيق المسكن، وخشونة الملبس، وكثرة ساعات العمل وقسوته وصعوبته، فسيأتي زمان هو المقصود بالذات إن لم ندركه نحن فستدركه الأجيال المقبلة، وحينئذ لا يشتغل العامل إلاّ خمس ساعات في اليوم والليلة، ولا توضع أقفال على مخازن الطعام والثياب، وتكون الأموال مشاعة بين أبناء الشعب كل واحد يأخذ لنفسه منها ما شاء ويشتغل إذا شاء، وينام إذا شاء، ويسافر أين شاء، ويلبس ما شاء، ويركب ما شاء.

وهذا التبشير من السادة الحاكمين وأذنابهم وأبواقهم يجب على المحكومين وهم عامة الشعب أن يتلقوه بالتصفيق والهتاف والتمجيد، وإلاّ توجه إليهم تهمة خطيرة وهي الرجعية والبرجوازية والميل إلى الرأسمالية وما أشبه ذلك، ولو كان أولئك العامة يستطيعون التعبير عما في ضمائرهم لأنشدوا قول ابن فراس:

معللتي بالوصل والموت دونه

إذا مت ظمآنا فلا نزل المطر

ص: 185

فالتقدم عند هؤلاء الحكام ينحصر في إمامين مقدسين معصومين من الخطأ، جميع آرائهما حق، وليس لأحد أن يفسر هذه الآراء إلا الحكام الحاضرون، ولو فرضنا أنّ هؤلاء الحكام استبدلوا بحكام آخرين لم يبق لهم صلاحية للتفسير، وما فسروه من قبل لا تلزمه العصمة من الخطأ، وقد ينسخ كله دفعة واحدة، والقول ما يقوله الحكام الحاضرون، وكل شيء يخالف آراء الإمامين حسب تفسير الحكام الحاضرين فهو رجعية تتنافى مع التقدم.

ولو فرضنا أنّ حاكما فسر شيئا من آراء الإمامين اليوم لوجب على الشعب كله بعلمائه وحكمائه وكتابه أن يتلقى تفسيره بالقبول والتقديس؛ وإلاّ كان رجعيا، وإن لم ينته يكون خائنا، فلو عزل ذلك الحاكم غدا لأصبح تفسيره عديم القيمة مرغوبا عنه، بل قد يكون منكرا وضلالا، وهذا كله شاهدناه بأعيننا وسمعناه بآذاننا، ولكننا لم نفهمه والله المستعان.

كنت في برلين الغربية أتيمم للصلاة، لأنّي كنت مريضا لا أقدر على استعمال الماء، فرآني شاب من برلين الشرقية، فقال لي:"ماذا تصنع؟ "فقلت: "هو ما ترى"، فقال:"وهل هذا من الدين؟ "، قلت:"نعم"؛ قال: "هذا شكلي لا معنى له ولا فائدة، أما الوضوء ففيه تنظيف للأعضاء المغسولة، وأما المسح بالتراب فليس فيه إلاّ التلويث".

فقلت: "سمعتك تذكر أن - ستالين - ألف كتابا في التربية وتثني على ذلك الكتاب مع أن ستالين رجل عسكري، قضى عمره كله في المراتب العسكرية، ولم نسمع أنّه كان يوما ما معلما ولا مدير مدرسة ولا مشتغلا بالتربية، فمن أين جاءه علم التربية حتى ألف فيه كتابا نفيسا!؟؛ فثناؤك عليه شكلي وتقليد، وإنما أثنيت على كتابه الذي ألفه في علم التربية لأنّه رئيس دولة وزعيم حزب، فشهادتك له تملق محض.

أما معنى التيمم فهو معنى الصلاة، فإنّ الله غني عن العالمين، فإذا عظموه بالصلاة والدعاء والتمسح بالتراب فإنّما ذلك لتزكية نفوسهم وتكملتها".

ص: 186

وبعد موت ستالين أسقطه خلفه من درجة التقديس، وظهرت له ذنوب، وأخطاء كثيرة، وهذا الخلف نفسه شرب بالكأس نفسها.

وحاصل ما تقدم أن الدول التي لا تدين بالنصرانية تقدس نحلتها وتعدها تقدما، وتعد كل ما خالفها رجعية أو برجوازية، وتذم كل مخالف، ونحن لا نستطيع أن نفهم أن سويسرا مثلا رجعية أو ناقصة التقدم.

الرجعية عند الشعوب العربية في العصور الأخيرة:

اعلم أنّ العرب في هذا الزمان أعني دولتهم منقسمون إلى قسمين:

قسم يسمون أنفسهم تقدميين واشتراكيين فإذا قيل لهم: هذا لفظ مبهم، فأي اشتراكية تعنون؟ يقولون: نعني الاشتراكية العربية.

فيقال لهم: إن العرب كانوا بعد جاهليتهم لا يعرفون إلا الإسلام، ولا يدعون إلاّ إليه ولا يتبعون إلاّ القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ الاشتراكية غير موجود في الكتاب والسنة، ولم نر لهم تعريفا جامعا لهذه النحلة، ولا حدا يحد بها.

أما الأعمال التي يقومون بها ويعلنون أنّها من مفاهيم الاشتراكية فإنهم يختلفون فيها، أما إن كانوا يعنون بالاشتراكية المستوردة من أوروبا ففي أوروبا نوعان من الاشتراكية:

الاشتراكية التي هي مقدمة الشيوعية، كما في شرق أوروبا وفي يوغوسلافية والصين ماعدا فرموزة وألبانيا والأحزاب الشيوعية في الشعوب الأوروبية.

والاشتراكية الديمقراطية: كاشتراكية حزب العمال في بريطانيا وألمانيا وبلجيك وفرنسا وغيرها.

ص: 187

وهناك اشتراكية انقرضت وهي الاشتراكية الوطنية التي كان عليها هتلر وموسوليني، وأظن أن هذه الاشتراكية هي التي تلهج بها بعض الدول العربية فهي إلى اشتراكية هتلر أقرب وأشبه، مع فارق عظيم وهو أن الشعب الألماني الذي كان من وراء هتلر شعب عظيم في مقدمة شعوب الحضارة والعلم والمدنية العصرية، بخلاف شعوب تلك الدول؛ فإنها لم تبلغ في ذلك نصيبا يذكر، فهي مما يسمى على سبيل التفاؤل بالشعوب النامية، كما يسمى اللديغ سليما، ولذلك كان لاشتراكية هتلر نجاح مؤقت في جميع الميادين بخلاف هذه الدول فإننا إلى الآن لم نشاهد لها شيئا من النجاح الذي كان للحزب الناتسي، أما الحرية والديمقراطية بمعناهما الصحيح فإنّ نصيب هذه الدول منهما أقل من نصيب الحزب الناتسي.

والقسم الثاني: ممالك وإمارات وهذه الممالك والإمارات سائرة على ما كانت عليه من قبل لم تتخذ لنفسها اسما جديدا، وكلها تأخذ بأسباب الحضارة على حسب ما تسمح لها أحوالها ومقدراتها، وكلها تدعو إلى التعاون والتآخي بين العرب، ولا تنكر الوحدة إذا سارت في طريقها الطبيعي مرحلة بعد مرحلة، وإنما تنكر العدوان والتدخل في الشؤون الداخلية أن يقع من دولة في شؤون دولة أخرى، وهذا هو المعقول الممكن، على أنني لا اهتم كثيرا بهذه الوحدة إلا إذا كانت مبنية على قواعد الإسلام، وكذلك لا أهتم بالعرب إلاّ إذا كانوا مسلمين قولا وفعلا.

وآية ذلك أن يتبعوا القرآن وما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويكونوا أمة واحدة كما كانوا في دولة النبي ودولة الخلفاء.

ص: 188

ولا فرق بين عربي وغير عربي عندما قال تعالى في سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، ولم يقل: وإن طائفتان من العرب اقتتلوا، ولا قال: إنّما العرب إخوة.

وليس مقصودي غمط حقوق الجماعات العربية التي تدين بالإسلام؛ فإنّ ذلك ظلم، والله لا يحب الظالمين، بل نعامل المواطنين من العرب غير المسلمين بالعدل والإحسان إلى أن يطمئنوا على حقوقهم ويثقوا بمواطنيهم المسلمين كل الثقة ويأمنوا بآرائهم؛ لأنّ الإسلام دين الرحمة والمحبة والعدل قال تعالى في سورة الأنبياء:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وبحكم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم يجب على أمته أن يكونوا رحمة للعالمين.

ثم إنّ للعرب غير المسلمين على العرب المسلمين حق القرابة وصلة الرحم، والمخالفة في الدين لا تسقط هذا الحق ولو طبق العرب المسلمين مع العرب غير المسلمين ما جاء به الإسلام لما احتاجوا إلى أن يوجسوا في أنفسهم خيفة أو يطلبوا حماية من الدول النصرانية الأجنبية، أو أن يؤلفوا أحزابا على أسس تنقض عرى الإسلام وتقضي على الإخوة الإسلامية ليشغلوا المسلمين بها ويشتتون شملهم ويفرقوا جمعهم كما هم الواقع في بعض الأقطار العربية، وهذه الدول التي تسمي نفسها تقدمية اشتراكية تظهر عداوة شديدة للمالك والإمارات لا لشيء إلاّ لأنها لم توافقها على مذهبها الجديد.

ص: 189

ومن عداوتها لها أنّها تسميها رجعية تريد أنها بمجرد تسميتها نفسها تقدمية واشتراكية وجدت طريق السعادة وسلكته، وهي تريد من تلك الممالك أن تجد هذا الطريق وتسلكه معها، فإن لم تفعل استحقت القطيعة والهجران والمكايد وتربص الدوائر زيادة على الشتائم التي تصب عليها ليل نهار.

وحجة هذه الممالك في رفضها لما عرض عليها من هذا المذهب الجديد أنّها ليست كاليتامى القاصرين أو الصبيان السفهاء حتى تطمع الدول الاشتراكية أن تضع نفسها في مقام الوصاية والتربية والتأديب والإشراف والنظر في مصالحها.

ثم إنّ هذه الممالك والإمارات لم تر شيئا من التقدم والتحسن على تلك الدول ولا على شعوبها بعد انتحالها للنحلة الجديدة، لا في العقائد، ولا في الأخلاق، ولا في الاقتصاد، ولا في السياسة، ولا في القوة الحربية، ولا في الروابط الاجتماعية، بل عكس ذلك هو الواقع، وهي مع ذلك تدعو إلى روابط الأخوة والصداقة، وتبادل المصالح والمنافع، وتنشد قول طرفة:

فمالي أراني وابن عمي مالكا

متى أدن منه ينأى عني ويبعد

ولما كان الاستطراد من طبعي الذي لا أنفك عنه، وأعلم أنّ أكثر المستمعين يصعب عليهم فهم هذه الأبيات التي هي من الأدب الجاهلي العالي، أردت أن أشرحها لهم ليتمكنوا من فهما ويلتذوا بإنشادها.

يقول في هذا البيت: ما بال ابن عمي مالكا كلما أردت أن أتقرب إليه وأتودد إليه يجفوني ويبعد عني؟

وآيسني من لك خير طلبته

كأنا وضعناه إلى رمس ملحد

يقول: قنطني ابن عمي هذا من كل خير طلبته حتى كأنّه ميت لا يرجى خيره.

على غير شيء قلته غير أنني

نشدت ولم أغفل حمولة معبد

يقول: ثم إنّ الجفاء هذا الذي وقع من ابن عمي لم يكن له سبب فإنني لم أسيء إليه لا بقول ولا بفعل، ولكني طلبت إبل أخي معبد وبحثت عنها حتى وجدتها ولم أهملها، ولا يعقل أن يكون هذا سببا للعداوة والجفاء.

وقربت بالقربى وجدك أنه

ص: 190

متى يك أمر للنكيثة أشهد

يقول: ولم أقصر في مراعاة واجبات، وأقسم بحظك وحقك أيها المخاطب أنّه لا يصيب ابن عمي أمر يجهده ويكربه إلاّ حضرت ونصرته ودافعت عنه.

وإن أدع للجلى أكن من حماتها

وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد

يقول: متى دعوتني إلى الأمر العظيم الذي ينزل بك أبادر إلى حمايتك من مكروه وإن جاءك الأعداء يبغون قتالك بجهدهم وقوتهم أبذل كل جهد في دفعهم عنك.

وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم

بشرب حياض الموت قبل التهدد

يقول: وإن طعن الأعداء في عرضك وأرادوا أن يخدشوا شرفك وأساءوا إليك بقول الفحش أذيقهم الموت وأباغتهم به قبل التهديد والوعيد، أو الإنذار والتحذير.

بلا حدث أحدثته وكمحدث

هجائي وقذفي بالشكاة ومطرد

يقول: إن ابن عمي مالكا يعاملني بهذه المعاملة القاسية بدون ذنب فعلته كأنني مذنب فيهجوني ويذمني ويشكوني ويصيرني طريدا بعيدا.

فلو كان مولاي امرءا هو غيره

لفرّج كربي أو لأنظرني غد

يقول: فلو كان ابن عمي رجلا آخر من أهل المروءة لكشف عني المكروه كما أكشفه عنه أو لأمهلني على الأقل إلى المستقبل حتى يتبين لي صدقي في مودتي ولم يقابل إحساني بالإساءة.

ولكن مولاي امرؤ هو خانقي

على الشكر والتسآل أو أنا مفتدى

يقول: ولكن ابن عمي رجل يضيق علي مع شكري له والسعي في إرضائه وابتغاء الإحسان منه يعاملني معاملة العدو الذي يعمد إلى خنق عدوه إلاّ أن يفتدي نفسه بمال أو نحوه.

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهند

والظلم وإن كان يؤلم من القريب والبعيد فإنّه من القريب أشد إيلاما وأكثر مرارة من الضرب من السيوف القواضب.

فذرني وخلقي أنني لك شاكر

ولو حل بيتي نائيا عند ضرغد

ص: 191

يقول: فاتركني يا ابن عمي على طبيعتي وحسن عشرتي فإني لا أقابل إساءتك بمثلها، وهذا هو الواجب عليك وسأشكرك عليه كأنه نعمة أسديتها إليّ، ولو كنت بعيد الديار أسكن في جبل ضرغد.

ألفاظ يتبجح بها كثير من الناس في هذا الزمان كالثورة والجمهورية والديمقراطية والحرية:

وقد شرحتها في مقال: (أيها العرب لا تتخذوا التفرقة وسيلة إلى الوحدة) .

وقد نشر في صحف كثيرة منها مجلة البعث، ومجلة الإيمان المغربية؛ ولذلك لا أطيل القول في شرح هذه الألفاظ.

فالثورة: هي خروج الشعب على حاكمه أو حكامه إذا أساءوا التصرف وجاروا وظلموا، أو لم يكونوا أهلا للأمانة التي جعلت في أيديهم كما وقع في الثورة الفرنسية وفي ثورة سكان الولايات المتحدة الأمريكية على حكامهم البريطانيين؛ فإذا توفرت أسباب الثورة، وكان القائم بها هو الشعب، وكان قادتها مخلصين مصلحين لا يريدون بثورتهم رئاسة ولا مالا، وإنما يريدون رفع الجور وإزالة الفساد وتحرير الشعب، فإن الثورة يكتب لها النجاح وتؤتي أكلها.

أما إذا كان القائمون بها عصبة لهم مآرب وأغراض قد أوغر صدورهم الحسد وتراءت لهم الأماني فأوقدوا نيران الثورة وأعملوا السلاح في شعبهم وسفكوا الدماء ليتوصلوا للمراتب التي لم يزالوا يمتنونها؛ فقد يتفطن لهم القابضون على زمام الحكم ويخمدون أنفاسهم ويصيرون مسخرة للساخر ويخسرون كل شيء، وقد لا يتفطنون لهم فتنجح الثورة نجاحا مؤقتا إلى أن تسنح الفرصة لعصبة أخرى فيقبضوا عليهم ويسقونهم بالكأس التي سقوا بها غيرهم، فيقال فيهم ما قيل في أبي مسلم الخرساني:

ظننت أن الدين لا يقتضي

فاستوف بالكيل أبا مجرم

أشرب بكأس كنت أنت تسقي بها

أمر في الحلق من العلقم

ص: 192

ويستمتع أصحاب الثورة الثانية بالحكم ما شاء الله أن يستمتعوا حتى تتمكن منهم عصابة أخرى فتثب عليهم وثبة الأسد الذي كان مريضا فجاءه الثعلب بالحمار للمرة الثانية فلم يفلته وهكذا دواليك.

فبشر الشعب الذي أصيب بمثل هذه الثورات بعذاب أليم، ومن يمدح مثلها أو يتمنى حدوثها في وطنه فهو غاش لقومه ساع في هلاكهم.

الجمهورية:

أما الذين يمدحون الجمهورية لذاتها، فليسوا أقل ضلالا من الذين يمدحون الثورة لذاتها بقطع النظر عن العواقب والنتائج، إذا كان الشعب جاهلا منحطا في أخلاقه ليس له رابطة متينة تربط بين أفراده وطوائفه، قد ساد فيه الغش وقل فيه الإخلاص وخربت الذمم؛ فإنّ لا يصلح للحياة السعيدة لا بالنظام الملكي ولا بالنظام الجمهوري لأنّ الرؤساء الذين كانوا يحكمونه في العهد الملكي هم أنفسهم الذين يحكمونه في العهد الجمهوري؛ ولا يعقل أن يكونوا في العهد الملكي ذئابا يعيثون فسادا ثم ينقلبوا في العهد الجمهوري ملائكة أبرارا.

وأنا أظن أن الملكية إذا كانت ثابتة الأساس قد أذعن لها الشعب وانخرط في سلكها منذ زمان طويل، وكان ذلك الشعب منحطا في أخلاقه جاهلا أنّ الملكية خير له من الجمهورية، لأنّ الملك يجمع كلمته ويوحد صفوفه، ويحفظ أهله من أن يصيروا فوضى كغنم بلا راع.

أما إذا كان الشعب رشيدا، وكان رؤساؤه ذوي علم وحكمة ونزاهة وإخلاص وأخلاق سامية، فإنهم ينجحون، سواء أصاروا على النظام الملكي أم على النظام الجمهوري؛ والواقع يشهد بهذا.

ص: 193

فبريطانيا بنظامها الملكي تتمتع بسعادة اجتماعية ورفاهية واستقرار، تحسدها عليه كثير من الجمهوريات، ولا يفكر أحد من حكمائها وقادتها باستبدال النظام الملكي، والانتقال إلى الجمهورية، وهذا الرضا والاطمئنان لا يختص بالبريطانيين فقط، بل هناك شعوب راقية سعيدة في حياتها، ديمقراطية في سلوكها حرة في تصرفاتها قد ربطت مصيرها بهذه الدولة الملكية شعوب (كمونويلث) ككندا واستراليا ونيوزيلندا وغيرها ممن يدور في فلكها، وهناك ممالك أخرى قد ذكرتها من قبل في غاية الاستقرار والرفاهية.

ومن زعم أنّ الجمهورية مرغوبة لذاتها أو ضرورية لكل شعب فإنّ زعمه باطل لا يثبت أمام النقد إلاّ كما يثبت الثلج في السهول إذا أشرقت عليه شمس الربيع؛ إذا فالشأن كل الشأن أن يكون رؤساء الشعب علماء حكاما، مخلصين صالحين فعلى أي نظام كانوا فإنّهم يقودون سفينة شعبهم إلى شاطئ السلامة.

ونحن نرى الشعوب المختلفة في نظام الحكم متعاونة متصافية بغاية الإخلاص كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فقد مضى على تعاونهما في السلم والحرب زمن طويل، ولم تحاول إحداهما أن تقلب الأخرى إلى نظامها.

إذا فهذه الحزازات التي توجد في نفوس الحكومات العربية والجمهورية وما يعتريها من الاشمئزاز والكراهية للنظام الملكي حتى ربما أنّها تسعى في إسقاطه وتبالغ في شتمه وتصفه بالرجعية كل ذلك خطأ فاحش لم يعالجه طبيب ولا راق، والاستمرار فيه يتنافى مع المصلحة العامة لتلك الشعوب ويفضي إلى عواقب وخيمة.

الديمقراطية:

الإسلام نظام كفيل بسعادة كل من تمسك به من جماعات وأفراد ودول، ولا يحتاج أن يستعير من غيره شيئا، وهو لا يتفق مع نظام رأس المال، ولا مع الشيوعية، ولا مع الاشتراكيات بأنواعها.

ص: 194

وقد سبق إلى كل خير يوجد في هذه النظم، وتجنب كل شبر فيها، فإذا وصفت الأمة بأنها ديمقراطية فقد جهلتها وجهلت عليها؛ فالإسلام مبني على العدل والإحسان وفيهما سعادة البشر أجمعين.

أما دعاة الديمقراطية في هذا الزمان فإنهم يصفونها بأن يحكم الشعب نفسه بنفسه بواسطة الانتخاب العام، فكل جماعة من الناس تختار نائبا يمثلها أو ينوب عنها في مجلس يسمى: البرلمان؛ وهذا المجلس هو الذي يختار رئيس الوزراء ويعينه، ورئيس الوزراء يختار نوابه من أولئك النواب أو من غيرهم بموافقة المجلس، وكل فرد من أفراد الشعب له الحق أن ينتقد النواب والوزراء ورئيسهم في حدود القانون الذي يمنع التعدي والظلم، وهذا القانون يضعه علماء إختصاصيون ويقره المجلس.

قالوا: وهذا أرقى ما وصل إليه العقل البشري في الحرية والمساواة فكل من وقع عليه الظلم يستطيع أن يدفعه عنه بواسطة نائبه، وكذلك من تعسر عليه الوصول إلى حق يستعين بنائبه على الوصول إليه.

وحرية الاعتقاد والانتقاد في ضمن القانون وإبداء الرأي وسائر الحريات مكفولة فلا يعاقب أحد بحبس أو غرامة إلاّ إذا خالف القانون المتفق عليه.

وتوزع الحقوق والواجبات بالتساوي، فلا يعفى من الواجبات أحد كيف ما كان مركزه، فيكون كل فرد آمنا مطمئنا على نيل حقوقه لا يحتاج إلى تملق ولا تعلق، فلا يخاف الإنسان إلا مما قدمت يداه.

ومع هذا التحري كله فقد يقع الغش في الانتخاب، فإن مالك المزرعة ومالك المعمل إذا رشح نفسه للنيابة يشعر الفلاحون والمزارعون بأنّ من اللياقة أن ينتخبوا مالك مزرعتهم ويشعر العمال كذلك أنّه ينبغي عليهم أو يجب عليهم أن ينتخبوا مالك معملهم فيختل ميزان المساواة.

ص: 195

وهناك سبب آخر لامتعاض الناس في البلدان (الديمقراطية) وهو وجود الأحزاب المختلفة كالمحافظين والعمال والأحرار؛ فالمحافظون يرون إعطاء الحرية أفراد الشعب كيف ما كانت كسكك الحديد والمعدن والمصانع الكبرى ويقولون: إن ذلك هو الأصلح لشعبهم ليتنافس أفراده وجماعاته، كالشركات مثلا في العمل لتكثير المنتوجات واستثمار البلاد واستخراج كنوزها، وبذلك يقع الازدهار والتقدم في جميع الميادين.

ويقول العمال الاشتراكيون: إن البلاد كلها بثمراتها ومعادنها وكنوزها ملك للشعب كله؛ فيجب أن تكون منابع الثروة الكبرى في يد الحكومة لئلا يستولي عليها أفراد قليلون يحتكرونها ويستحوذون على الأرزاق خصوصا مع إباحة الربا فتصير جماهير الشعب الكادحة التي بعرق جبينها استخرجت تلك الأموال والأرزاق خدما وعبيدا لفئة قليلة من ذوي رؤوس الأموال المحتكرين.

وتتهم الأحزاب بعضها بعضا بعدم النزاهة في الانتخاب، ولكن لما كانت الأحزاب متعددة يكون من السهل على كل حزب أن يكتشف ويفضح دسائس الحزب الآخر، فيزول الحيف ويقع التوازن.

فحزب العمال يبذل جهده في تأميم المنابع الكبرى، وحزب المحافظين يبذل جهده في ترك الناس أحرارا في المضاربة والاستثمار، وكل منهما يرى أن وجهته أفضل لشعبه؛ وقد ساروا على هذا منذ زمان طويل ورضوا به واعتقدوا أنّه أفضل ما يقدم البشر عليه من العدالة.

ص: 196

وهناك استعمال آخر للديمقراطية وهو استعمالها لفظا مرادفا لاشتراكية الشيوعية، وهذا الاستعمال دعاية مجردة غير معقولة، لأنّ كل شعب يحكم بنظام الحزب الواحد لا يمكن أن يكون ديمقراطيا، وحتى ذلك الحزب الواحد لم ينتخبه الشعب، وإنما طائفة تسلطت عليه بالقهر والغلبة وأسرته واستعبدته شر استعباد وصارت تتكلم باسمه، وتستخدمه بلا رحمة ولا شفقة، وقد سبته جميع الحريات: حرية الكلام، حرية الاعتقاد، وحرية العمل وحرية الإضراب عن العمل وحرية المطالبة بزيادة الأجور، أو بزيادة الطعام أوالكسوة أو التدفئة، وقد تقدمت الإشارة إلى بعض ما تقاسيه هذه الشعوب المخنوقة المستعمرة شر استعمار.

الحرية:

ومن العجب أنّ هؤلاء الجبابرة الذين يحكمون شعوبهم بالحديد والنار حكما كله دماء ودموع، وقهر وكبت، وإذلال وإهانة، ومع ذلك يتغنون بالديمقراطية والحرية وهم يعلمون أنهم أبعد الناس عن الحرية والديمقراطية، ولكن كما قيل في المثل وهو مأخوذ من الحديث الصحيح:"إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وعليه يقال: إذا لم تستح فقل ما شئت، ونظمه بعضهم فقال وأجاد:

إذا لم تخش عاقبة الليالي

ولم تستح فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير

ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

ومن أراد زيادة الاطلاع على ما كان عليه الأوروبيون إلى زمان قريب جدا من الانحطاط والهمجية، وما كان عليه المسلمون في الأندلس في زمن العلم والحضارة والرقي الحسي والمعنوي؛ فليقرأ كتاب:(مدنية العرب في الأندلس) ، الذي ترجمه كاتب هذه المحاضرة بالعربية لمؤلفه الذائع الصيت (جوزيف مكيب) ، ولا تزال عندي منه بعض مئات، وهذا ما بدا لي إيراده في بيان ما يسمى بالرجعية والتقدم، كتبته تبصرة لإخواننا المسلمين الذين لا يعرفون ما ينطوي تحت هاتين الكلمتين من الغش والتضليل؛ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

إستدراك:

ص: 197

لما فرغ القارئ من قراءة محاضرتي، قام صاحب الفضيلة الأستاذ المرشد العربي الموفق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله فأشار بتلطفه المعهود وأدبه السامي إلى أنّه قد يفهم مما قلته في عموم المسلمين الذين يعملون السيئات وغيرها كالحكم بغير ما أنزل الله، وقد عذبهم الله في الدنيا كما أوعدهم في كتابه وسيعذبهم في الآخرة أكثر مما عذبهم في الدنيا، ولم أستثن في ذلك شعبا من الشعوب ولا دولة من الدول حتى كأنهم متساوون في الجريمة.

وكان ينبغي لي أن استثني من قام منهم بشيء من الواجب على قدر استطاعته؛ وهذا حق فإن الشعب السعودي والمملكة السعودية بقيادة ملكها الإمام المصلح جلالة الملك فيصل والأئمة السابقين من أسلافه رحمهم الله لم يزالوا يحكمون شريعة الله، ويتخذون القرآن إماما والسنة سراجا، يضيئان لهم ظلمات الحياة الدنيا بانتشار الأمن على الأنفس والأموال والأعراض في بلادهم إلى حد لا يوجد له نظير في الدنيا، حتى إني لما كنت في ألمانيا قبل الحرب وقبل تقسيمها وهي في عنفوان قوتها، وحدثت الناس هناك بالأمن الذي يتمتع به سكان المملكة السعودية تفصيلا سألوني: أين يتخرج رجال شرطة هذه المملكة رؤساؤها؟ فقلت: يتخرجون في مدرسة القرآن في المسجد؛ فأبدوا شكهم في ما أخبرتهم به، وقالوا: لا يوجد في الدنيا أحسن من الشرطة الألمانية ومع ذلك لا يوجد عندنا مثل ما ذكرت من الأمن!

وهذا الثواب المعجل في الدنيا يدل دلالة قطعية على أنّ الله الذي لا يخلف الميعاد سيثيب إمام هذه الدولة وأسلافه ورجال دولته وأعوانه المخلصين في الدار الدنيا كما قال تعالى في سورة النحل30: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ} .

ص: 198

وأشهد بالله أني لما دعاني سمو الأمير مساعد بن عبد الرحمن إلى الحج سنة سبع وخمسين بتاريخ النصارى، وأظنه يوافق سنة ست وسبعين للهجرة، كنت راكبا في طائرة سويسرية من بغداد إلى الظهران، وكانت المضيفة من القسم المتكلم بالألمانية من سويسرا؛ فأخذت تدور على ركاب الطائرة، لما أرادت أن تدخل في سماء المملكة العربية السعودية وتقول لهم لا يطلب أحد منكم خمرا حتى نجتاز المملكة السعودية، ولا يجوز لأحد منكم أن يمسك زجاجة خمر ولو فارغة؛ فإنّ الحكومة السعودية تعاقبنا على ذلك، وتكلمت معي باللغة الألمانية لأنها عرفت من قبل أني أتكلم بها، وشرحت لي خوف قائد الطائرة وجميع الموظفين من رجال المملكة السعودية، وأنهم لا يتساهلون مع أي طائرة يجدون فيها شرابا مسكرا ظاهرا؛ قالت: فنحن نخبئ جميع الأشربة المسكرة حتى القوارير الفارغة إلى أن نخرج من هذه المملكة، فأخبرتها أني مسلم وأن عقيدتي والحمد لله مطابقة لهذا الحكم، وأنا أحمد الله على وجود مملكة في الدنيا تنفذ هذا الحكم.

ونحن نشاهد شريعة القرآن تنفذ على رؤوس الأشهاد، في هذه المملكة الفذة، فيقتل القاتل المتعمد، ويرجم من الزناة من يستحق الرجم، ويجلد من يستحق الجلد مع التغريب، وتقطع يد السارق، ويقام الحد على الشارب، ولا يحكم حاكم في جميع أرجائه إلاّ بشريعة القرآن، فكيف يستطيع مسلم أو منصف أن يسوي بينهما وبين من يحل ما حرم الله، ويحكم بغير ما أنزل الله.

ص: 199

نعم إنّ أشباه القردة من المقلدين لمن يسمونهم بالمستعمرين ويسلقونهم بألسن حداد ليل نهار في إذاعاتهم وصحفهم هؤلاء القردة يسمون شريعة الله ورسوله التي سار عليها المسلمون حين كانوا سادة العالم، يسمونها: رجعية، ويسمون المنفذين لها - أيده الله بروح منه -: رجعيين؛ وقد تقدم جوابهم أعلاه في هذه المحاضرة بما يلقمهم الأحجار، ولا يدع لهم مجالا للفرار؛ وإني لأشكر صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على هذا التنبيه الذي تفضل به، فلا زال مصدرا لكل خير وكمال.

ص: 200

الدعوة إلى الله وأثرها في المجتمع

نائب رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز

لقد رفع الله شأن الدعاة إليه، وأبلغ في الثناء عليهم حيث يقول سبحانه:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، ولا ريب أنّ هذا الثناء يحفز الهمم ويلهب الشعور ويخفف عبء الدعوة ويدعو إلى الانطلاق في سبيلها بكل نشاط وقوة.

وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري رحمه الله أنّه تلى هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} الآية؛ فقال: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا النّاس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله".انتهى.

ولا ريب أنّ الرسل عليهم الصلاة والسلام هم سادة الناس في الدعوة إلى الله، وهم أولى الناس بهذه الصفات الجليلة التي ذكرها الحسن رحمه الله وأولاهم بذلك، وأحقهم به على التمام والكمال إمامهم وسيّدهم وأفضلهم وخاتمهم نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وصبر على الدعوة إلى ربه أتم صبر وأكمله حتى أظهر الله به الدين وأتم به النعمة، ودخل الناس بسب دعوته في دين الله أفواجا.

ص: 201

ثم سار أصحابه الكرام بعده على هذا السبيل العظيم، والصراط المستقيم، فصدقوا في الدعوة، ونشروا لواء الإسلام في غالب المعمورة، لكمال صدقهم وعظيم جهادهم، وصبرهم على الدعوة صبرا لا يعتريه ضعف أو فتور، وتحقيقهم الدعوة والجهاد بالعمل في جميع الأحوال، فضربوا بذلك بعد الرسل أروع الأمثال وأصدقها في الدعوة والجهاد والعلم النافع والعمل الصالح، وبذلك انتصروا على أعدائهم، وبلغوا مرادهم، وحازوا قصب السبق في كل ميدان، وهم أولى الناس بعد الرسل بالثناء والصفات السالفة التي ذكرها الحسن.

وكل من سار على سبيلهم وصبر على الدعوة إلى الله، وبذل فيها وسعه، فله نصيبه من هذا الثناء الجزيل الذي دلت عليه الآية الكريمة والصفات الحميدة التي وصف بها الحسن الدعاة إلى الحق.

وصح عن النبي صلى الله غليه وسلم أنّه قال: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، وقال صلى الله عليه وسلم:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا"، وقال لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر:"فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم".

وفي هذه الأحاديث وما جاء في معناها تنبيه للدعاة إلى الله والمجاهدين في سبيله على أنّ المقصود من الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه: هو هداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وانتشالهم من وهدة الشرك وعبادة الخلق إلى عز الإيمان ورفعة الإسلام وعبادة الإله الحق الواحد الأحد، الذي تصلح العبادة لغيره ولايستحقها سواه سبحانه وتعالى.

ص: 202

وليس المقصود من الدعوة والجهاد هو سفك الدماء وأخذ المال واستراق النساء والذرية، وإنما يجيء ذلك بالعرض لا بالقصد الأول؛ وذلك عند امتناع الكفار من قبول الحق وإصرارهم على الكفر، وعدم إذعانهم للصغار وبذل الجزية حيث قبلت منهم، فعند ذلك شرع الله للمسلمين قتالهم، واغتنام أموالهم واسترقاق نسائهم وذرياتهم، ليستعينوا بهم على طاعة الله، ويعلموهم شرع الله، وينقذونهم من موجبات العذاب والشقاء، ويريحوا أهل الإسلام من كيد المقاتلة وعدوانهم، ووقوفهم حجر عثرة في طريق انتشار الإسلام، ووصوله إلى القلوب والشعوب.

ولا ريب أنّ هذا من أعظم محاسن الإسلام التي يشهد له بها أهل الإنصاف والبصيرة من أبنائه وأعدائه، وذلك من رحمة الله الحكيم العليم الذي جعل هذا الدين الإسلامي دين رحمة وإحسان وعدل ومساواة يصلح لكل زمان ومكان، ويفوق كل قانون نظام.

ولو جمعت عقول البشر كلهم وتعاضدوا على أن يأتوا بمثله أو أحسن منه لم يستطيعوا إلى ذلك من سبيل، فسبحان الذي شرعه ما أحكمه وأعدله، وما أعلمه بمصالح عباده، وما أبعد تعاليمه من العبث وما أقربها من العقول الصحيحة والفطر السليمة.

فيا أيها الأخ المسلم، ويا أيها العاقل الراغب في الحق تدبر كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وادرس ما دلا عليه من التعاليم القويمة والأحكام الرشيدة والأخلاق الفاضلة تجد ما يشفي قلبك ويشرح صدرك ويهديك سواء السبيل.

نائب رئيس الجامعة الإسلامية

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 203