المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 81-82 فهرس المحتويات 1- حديث المُصَرَّاة.. رواية ودراية: الدكتور: ذيب بن - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٣٥

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 81-82 فهرس المحتويات 1- حديث المُصَرَّاة.. رواية ودراية: الدكتور: ذيب بن

‌العدد 81-82

فهرس المحتويات

1-

حديث المُصَرَّاة.. رواية ودراية: الدكتور: ذيب بن مصري بن ناصر القحطاني

2-

إعراب لا إله إلا الله: د/ حسن موسى الشاعر

3-

انتشار الإسلام بالفتوحات الإسلامية زمن الراشدين: بقلم الدكتور جميل عبد الله محمد المصري

4-

المماليك البحرية وقضاؤهم على الصليبين في الشام: الدكتور شفيق جاسر أحمد محمود

5-

الإمام أبو العباس ابن سريج المتوفي سنة 306 هـ وآراؤه الأصولية: د/ حسين بن خلف الجبوري

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 32

حديث المُصَرَّاة.. رواية ودراية

تصنيف

الدكتور: ذيب بن مصري بن ناصر القحطاني

المقدمة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3) .

أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وبعد

فإن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والتزام سنته والسير على نهجه وتحكيم شرعه واجب على كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الله تعالى يقول: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً"(4) .

(1) سورة آل عمران آية: 102.

(2)

سورة النساء آية: 1.

(3)

سورهَ الأحزاب آية: 70، 71.

(4)

سورة النساء آية: 65.

ص: 33

فتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم لازم في العبادات والمعاملات ولا يجوز الخروج عن حكمه لأن الله قد نفى الإيمان عمن يجد في نفسه ضيقاً من حكم رسوله صلى الله عليه وسلم وهو أرحم بنا من أنفسنا ويشق عليه عنتنا. قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (1) وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (2) فمن شفقته على أمته إيضاحه كل ما تحتاج إليه حب معاشها ومعادها سواء أكان في العبادات أو المعاملات فحل المشكلات وبين حلولها بما يشفي ويكفي رأفة بأمته ورحمة بها وكيف لا يحل مشاكل أمته وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما بقي شيء يقرب من لجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم"(3)(3) فهذا البيان وهذا التوضيح لحل كل مشكلة مما جعل العالم يقف حائرا مندهشا مفكرا في هذا الشرع العالمي (4) العجيب الذيَ وسمعت تعاليمه كل لا يحتاج إليه البشر حتى أبسط المسائل التي قد يراها بعض الناس نقصان عقله وتفكيره من التوافه وحاشى الإسلام أن يكون فيه توافه أو سواقط وإنما اشتمل هذا الدين السماوي على ما يتصل بالمسلم في نفسه أو أسرته أو مجتمعه بنظام عجيب بلغ ذروة الكمال والتمام {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (4)(5) .

(1) سورة الأحزاب آية: 6.

(2)

سورة التوبة آية: 8 12.

(3)

أخرجه أحمد، والطبراني وقال في مجمع الزوائد ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة. مجمع الزوائد8/264.

(4)

سورة المائدة آية: 3.

ص: 34

فالحمد لله على هذه النعمة التي هي أعظم النعم وأجلها نعمة الإسلام الكامل الشامل الذي وسعت تعاليمه كل حوائج البشر في أحسن حللها وأبهى صورها سواء ما كان منها في العبادات التي فصلها تفصيلا كاملا أو في المعاملات التي شملها هذا البيان الوافي بكل متطلبات البشر فمن هذه المعاملات التي بينها بيانا شافيا ما كان شائعا ومحببا للنفوس من التجارة والحصول على أغلى الأثمان في بيعهم وشرائهم. لهذا ترى بعض أصحاب السلع يحبون أن تظهر سلعهم بأجمل صورة لعلها تلفت نظر المشتري إليها فيحصلون منها على ربح كثير وقيمة كبيرة مقابل هذا المنظر ولو بالمخادعة لحب المال وزيادته ولما كان الغش محرما في الشريعة الإسلامية منع الشارع الحكيم من كل أنول الغش سواء كان في الحيوان أو في الطعام أو في المكيال أو الميزان أولا غير ذلك من جميع أنواع المعاملات ولهذا قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: "منْ غشنا فليس منا"(1) وذلك لما في الغش من الضرر على المجتمع ومن أنواع الغش الذي كان شائعا "التصرية"فقد يترك صاحب الإبل أو الغنم أو البقر إبله أو غيرها اليوم واليومين بدون حلب حتى يكثر لبنها ويراها المشتري وقد امتلأ ضرعها باللبن فيظن أن هذا من عادتها فيزيد في ثمنها رغبة في لبنها فإذا حلبها وجدها على خلاف ما ظهر له منها فهنا جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشتري حلا، وخلاصا من هذا الغش الذي وقم فيه وهو أنه إذا حلبها مخير بين إمساكها أو ردها ومعها صاعا من تمر بدل ذلك اللبن الذي استهلكه من هذه الناقة أو البقرة أو الشاة وقد يقول قائل لماذا لا يكون اللبن للمشتري ويرد الشاة بدون عوض صاع تمر مقابل اللبن لأنه وجد فيها عيبا فكان الأولى أن ترد بدون مقابل لذلك اللبن المحلوب لوجود العيب والغش كسائر العيوب.

(1) مسلم 1 /99،ِ الترمذي مع تحفة الأحوذي. 4 /544وغيرهما.

ص: 35

الجواب عن هذا وإن كنت لم أر من قال به من العلماء أنه قد يوجد بعض الخداعين والمكارين وضعاف النفوس يشتري الناقة أو الشاة أو البقرة وهو يريد لبنها الموجود في ضرعها حال البيع ولا رغبة له في اقتنائها فإذا استهلك ما في ضرعها من لبن أدعى بأن فيها عيبا وهو التصرية فيفوت على صاحبها لبنها ويسترد ما دفع فيها كاملا فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا القيد إن كان صادقا بأنها مصراة والتصرية عيب فليدفع بدل اللبن الذي استهلكه صاعا من طعام حتى يرتدع أهل الفسق والتلاعب عن فسقهم وتلاعبهم بالسلع وأهلها وهذا فصلا لهذه القضية حتى لا يكون هناك خلاف بين المتبايعين يؤدي إلى الخصام والنزل فحكم النبي الذي لا ينطق عن الهوى بحكمه العدل حتى لا يدع مجالا للأخذ والإعطاء والخصام والنزاع لأنه لو ترك ذلك للاجتهاد والأخذ والإعطاء لأدى ذلك إلى الخصام الطويل والنزاع المستمر لتفاوت ألبان اِلإبل والغنم والبقر فقد يقول البائع أن اللبن الذي حلب أكثر من صاعين وقد يقول المشتري بأنه أقل من نصف صاع فيحصل من أجل ذلك الشجار والدعاوي الزيادة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بهذا القضاء قطعا للخصام والشجار بقضاء لا يوجد أعدل منه ولا أحسن منه ولم يترك ذلك لقول فلان أو علان فالحمد لله على هذه النعمة نعمة الإسلام التي بينت وكفت وشفت هذا ولما كان حديث المصراة قد ورد بألفاظ مختلفة وفي بعضها زيادة على بعض وبني من أجل هذه الزيادة حكم جمعت كل نوع منها على حدة فقد ورد الحديث بلفظ التمر وبلفظ الطعام وبلفظ خيار ثلاثة أيام فجعلت مباحثه كالآتي:

1-

مبحث ألفاظه بالتمر.

2-

مبحث ألفاظه بالطعام.

3-

مبحث مدة الخيار.

4-

مبحث خلاف العلماء في المسألة.

5-

مبحث هل يتعدى حكم المصراة إلى غير الإبل والغنم.

6-

مبحث هل يلزم التمر أو يجوز غيره.

ص: 36

علما بأنني قد ذكرت طرق الحديث ومن روي عنه من الصحابة وخرجتها من مصادرها وذكرت ما قيل فيها من تصحيح أو تضعيف. والله أسأل أن ينفع به كاتبه وقارئه

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

حديث المصراة رواية من رواه بلفظ التمر

قال الإمام البخاري- رحمه الله تعالى-:

1_

حدثنا ابن بكير، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، قال أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي فصلى الله عليه وسلم:"لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر"، وبذكر عن أبي صالح

ومجاهد، والوليد بن رباح وموسى بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"وصاع تمر". وقال بعضهم عن ابن سيرين "وصاعا من طعام وهو بالخيار ثلاثا"، وقال بعضهم عن ابن سيرين "وصاعا من تمر "ولم يذكر ثلاثا "والتمر" أكثر.

2-

وقال البخاري أيضاً حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن "أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الركبان ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا ولا يبيع حاضرة لباد، ولا تصروا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" (1) .

(1) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب 64جـ3 ص62، ومسلم، كتاب البيوع، باب4جـ3 ص 1155 وزاد ولا تصروا الإبل، ومالك في الموطأ كتاب البيوع، باب ما ينهى عنه من المساومة والمبايعة2 /683، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

ص: 37

3-

وقال أيضاً حدثنا محمد بن عمرو حدثنا المكي أخبرنا ابن جريج أخبرني زياد أن ثابتا مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى غنما مصراة فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر"(1) .

4-

وقال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ما أحدكم اشترى لقحة مصراة أو شاة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إما هي وإلا فليردها وصاعا من تمر"(2) .

5-

وقال أيضاً حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شاة مصراة فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء"(3) .

رواية أنس بن مالك لحديث المصراة

(1) صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب: 65جـ3ص 62، وأخرجه أيضا أبو داود، كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة وكرهها. جـ3ص722.

(2)

الصحيح كتاب البيوع، باب7،3/1159.

(3)

الصحيح كتاب البيوع، باب حكم بيع المصراة 3 / 1159، والنسائي كتاب البيوع، باب النهي عن المصراة 7/254.

ص: 38

6-

قال أبو يعلي حدثنا حميد بن مسعدة السامي حدثنا عرعرة بن البرند حدثنا إسماعيل المكي، عن الحسن عن أنس قال صلى الله عليه وسلم:"لا تلامسوا ولا تناجشوا ولا تبايعوا الغرر، ولا يبيعنَّ حاضر لباد، ومن اشترى محفلة فليحلبها ثلاثة أيام فإن ردها فليردها بصاع من تمر"(1) .

رواية ابن عمر

(1) مسند أبي يعلي 5/154،حديث 2767تحقيق حسين سليم وقال الهيثمي فيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف وقد أورد الحافظ ابن حجر هذه الرواية في المطالب العالية وقال لأبي يعلى وزاد رواية أخرى عن أنس ولفظها "من اشترى محفلة فله أن يمسكها ثلاثاً فإن رضيها أمسكها وإن رد رد معها صاعاً من تمر "وقال للحارث"1 /399. وأخرجه غير من تقدم البيهقي بلفظ:"من اشترى شاة محفلة فإن لصاحبها أن يحتلبها فإن رضيها فليمسكها وإلا فليردها وصاعا من تمر". السنن الكبرى5/319، ولم يشر الحافظ إلى هذه الرواية، وفيها أيضا إسماعيل بن مسلم وأخرجه البزار بلفظ"أنه نهى عن بيع المحفلات وقال من ابتاعهن فهو بالخيار إذا حلبهن"كشف الأستار عن زوائد البزار2/89 ولم يذكر الحافظ هذه الرواية. وفيها إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف.

وقد رواه البيهقي عن الحسن مرسلا بلفظ من اشترى شاة مصراة أو لقحة مصراة فهو بأحد النظرين إما أن يردها وإناء من طعام أو يأخذها ثم قال: هذا هو المحفوظ مرسل. السنن الكبرى5/319.

ص: 39

7-

قال الدارقطني: ثنا يحي بن صاعد نا سوار بن عبد الله العنبري، نا معتمر بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر وأبي هريرة رفعا الحديث قال:"لا يبيع حاضر لباد، ولا تلقوا السلع بأفواه الطرق ولا تناجشوا، ولا يسم الرجل على سوم أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يرد، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفيء ما في صحفتها فإنما لها ما كتب لها ولا تبيعوا المصراة من الإبل والغنم فمن اشتراها فهو بالخيار إن شاء ردها وصاعا من تمر، والرهن مركوب ومحلوب"(1) .

رواية عمر بن عوف المزني لحديث المصراة

8-

وقال أيضاً حدثنا أبو طالب علي بن محمد بن أحمد بن الجهم، نا علي بن يزيد الفرائضي، نا الحنيني إسحاق بن إبراهيم، نا كثير بن عبد الله على أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا جلب ولا جنب ولا اعتراض ولا يبيع حاضر لباد، ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو إذا حلبها بخير النظرين، إن رضيها أمسكها وإن سخط ردها وصاعا من تمر"

تابعه عاصم بن عبيد الله عن سالم عن ابن عمر في المصراة

حدث عنه داود بن عيسى وقال الحسن بن عمارة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو شيبة عن أبي هريرة وقال شعبة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) السنن: 3/74، وأخرجه الطبراني عن ابن عمر وحده. المعجم الكبير 12/419 وقال الهيثمي: فيه ليث بن أبي سليم وهو ثقة ولكنه مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد: 4/82.

ملاحظة على العيني في عمدة القارئ وهو أنه لم يذكر هذه الرواية عن ابن عمر وإنما ذكر رواية أبي داود التي فيها جمع بين عمير ثم ذكر ما قيل فيه من طعن حتى يرد قول من قال إن أبا هريرة لم يتفرد بهذا الحديث ولعله يقصد الحافظ ابن حجر. انظر: عمدة القارئ شرح صحيح البخاري: 11/273، تصوير أمين دمبح.

ص: 40

9-

وقال البخاري حدثنا مسدد حدثنا معتمر قال: سمعت أبي يقول حدثنا أبو عثمان عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من اشترى في شاة محفلة فردها فليرد معها صاعا من تمر".

رواية حديث المصراة بلفظ الطعام

1-

قال مسلم: حدثنا محمد بن عمر بن جبلة ابن أبي روّاد حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا قرد عن محمد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء"(1) .

2-

وقال أحمد: حدثنا عبد الواحد عن عوف عن خلاس بن عمرو ومحمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى لقحة أو شاة مصراة فحلبها فهو بأحد النظرين بالخيار إلى أن يحوزها أو يردها وإناء من طعام"(2) .

(1) الصحيح، كتاب البيوع باب حكم بيع المصراة 3/1158 والترمذي في البيوع، باب ما جاء في المصراة 4/457 مع تحفة الأحوذي والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب البيوع، باب مدة الخيار في المصراة 5/320 كلهم رووه عن طريق قرة بن خالد عن ابن سيرين عن أبي هريرة، ورواه أبو داود عن طريق بن حماد بن سلمة عن أيوب وهشام وحبيب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه. السنن كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة 3/727، وكذلك الدارقطني. انظر السنن 3/74، وكذلك الطبراني في الأوسط: 3/202، وأيضا البيهقي في السنن الكبرى، كتاب البيوع باب الحكم فيمن اشترى مصراة 5/318.

(2)

المسند 2/259، وأخرجه أيضا البيهقي في السنن الكبرى:5/318 عن محمد بن سيرين دون ذكر خلاس.

ص: 41

3-

وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن طلحة قال سمعت ابن أبي ليلى يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتلقى جلب ولا بيع حاضر لباد ومن اشترى شاة مصراة أو ناقة فهو بآخر النظرين إذا هو حلب إن ردها رد معها صاعا من طعام قال الحكم أو صاعا من تمر"(1) .

(1) انظر: ترتيب المسند للساعاتي 15/61، وأخرجه ابن أبي شيبة واقتصر على قوله:"من اشترى "إلى آخره المصنف 6/596، والبيهقي، السنن الكبرى كتاب البيوع، باب حكم فيمن اشترى مصراة:5/319.

وقال البيهقي: "وصاعا من طعام أو صاعا من تمر"ثم قال: قال الشيخ يحتمل أن يكون هذا شكا من بعض الرواة فقال صاعا من هذا أومن ذاك لا أنه من وجه التخيير ليكون موافقا للأحاديث الثابتة في هذا الباب والله تعالى أعلم.

ملاحظة: ذكر ابن الإمام ابن حجر رواية أحمد ولم يشر إلى رواية ابن أبي شيبة ولا رواية البيهقي وتبعه الساعاتي في الفتح الرباني فقال لم أقف عليه لغير الإمام أحمد. وسند هذا الحديث صحيح لأن ابن أبي شيبة رواه عن وكيع عن شعبة

الخ ورواه البيهقي عن يزيد بن هارون عن شعبة

الخ، وسند أحمد كما تقدم.

ص: 42

4-

وقال أبو داود: حدثنا أبو كامل، حدثنا عبد الواحد حدثنا صدقة ابن سعيد عن جميع بن عمير التيمي، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسوِل الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلى لبنها قمحاَ"(1) .

أما روايات الخيار بثلاثة أيام

1-

ففي صحيح مسلم من رواية أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر"(2) .

2-

وعنده أيضاً عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها صاعا من طعام لا سمراء"(3) .

(1) السنن تحقيق الدعاس، باب من اشترى مصراة وكرهها 3/727، وابن ماجة: 2/753، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وفي سنده جميع بن عمير التيمي قال الذهبي أتهم بالكذب ديوان الضعفاء والمتروكين ص46، وقال المنذري: قال الخطابي: ليس إسناده بذلك والأمر كما قال فإن جميع بن عمير قال ابن نمير هو من أكذب الناس وقال ابن حبان كان رافضيا يضع الحديث. مختصر السنن:5/89، وقال في هذا الحديث ابن قدامة "إنه مطرح الظاهر بالاتفاق إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها قمحا ثم قد شك فيه الراوي وخالفته الأحاديث الصحاح فلا يعول عليه". المغني:4/152، تحقيق محمد سالم محيسن، وشعبان محمد إسماعيل.

(2)

صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب 7جـ3ص1158، وتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

(3)

المرجع السابق وقد تقدم من أخرجه غير مسلم.

ص: 43

3-

وأخرج أبو داود وابن ماجة عن جميع بن عمير التيمي قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلى لبنها قمحاً"(1) .

4-

وأخرت البخاري في التاريخ الكبير عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى شاة لدرتها حلبها ثلاثة أيام فهو بالخيار إن شاء أمسك وإلا رد صاعا من تمر"(2) .

5-

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلامسوا ولا تناجشوا ولا تبايعوا الغرر ولا يبيعن حاضر لباد ومن اشترى محفلة فليحلبها ثلاثة أيام فإن ردها فليردها بصاع من تمر"(3) .

هذه روايات الخيار في الحديث

وقال الخطابي وقد أخذ كل واحد من مالك، وأبي حنيفة بطرف من الحديث وترك الطرف الآخر، فقال أبو حنيفة لا خيار أكثر من ثلاث واحتج بهذا الحديث ولم يقل برد الصاع وقال مالك برد الصاع ولم يأخذ بالتوقيف في خيار الثلاث وصار إلى أن يرد متى وقف على العيب كان ذلك بعد الثلاث أو قبلها فكان أصح المذاهب قول من استعمل الحديث على وجهه وقال بجملة ما فيه.

ثم قال: وقاد اختلف الناس في مدة الخيار المشروط في البيعَ فقال أبو حنيفة لا يجوز أكثر من ثلاث وهو قول الشافعي.

وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد قليله وكثيره جائز.

وقال مالك: هو على قدر الحاجة إليه فخيار الثوب يوم ويومان. وفي الحيوان أسبوع ونحوه، وفي الدور شهر وشهران وفي الضيعة سنة ونحوها.

(1) سنن أبي داود تحقيق الدعاس، كتاب البيوع، باب من اشترى مصراة وكرهها 3/727 وسنن ابن ماجة 2/753، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وتقدم ما قيل فيه. في ص17.

(2)

التاريخ الكبير: 3/242 وتقدم الكلام عليه ص16 هامش (1) .

(3)

مسند أبي يعلي جـ2767، 5/154، تحقيق حسين سليم وتقدم ما قيل فيه.

ص: 44

قال الباجي في الخيار وقوله صلى الله عليه وسلم:"فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها "قال محمد له الرد بعد أن يحلب مرتين فإن حلب ثلاثا لزمته وقال ابن القاسم لما سئل أيردها بعد الثالثة إذا رأىَ من ذلك ما يعلم أنه قد اختبرها قبل ذلك فما حلب بعد ذلك منع الرد، قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه والأظهر عندي إنه يكون الخيار بعد الثلاثة.

وعند الحنابلة في الخيار قولان:

أحدهما: للقاضي وهو أن مدة الخيار مقيدة بثلاثة أيام ليس له الرد قبل مضيها ولا إمساكها بعدها وهذا القول لأحمد وأصحاب الشافعي.

القول الثاني: لأبي الخطاب وهو أنه متى ثبتت التصرية جاز له الرد قبل الثلاثة أو بعدها لأنه تدليس يثبت الخيار فملك الرد به إذا تبينه كسائر التدليس ثم قال وهذا قول ابن المنذر، وأبي حامد من أصحاب الشافعي وحكاه عَن الشافعي نصا لظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة كلها وعلى قول القاضي:"لا يثبت الخيار في شيء منها وإنما يثبت عقبها وقول أبي الخطاب يسوي بين الأيام الثلاثة وبين غيرها والعمل بالخبر أولى، والقياس ما قال أبو الخطاب لأن الحكم كذلك في العيوب وسائر التدليس".

وقال النووي في الروضة ويثبت به- أي تدليس التصرية- الخيار للمشتري وفي خياره وجهان أصحهما: أنه على الفور، والثاني: يمتد إلى ثلاثة أيام.

ولعل الأرجح ما ذهب إليه القاضي والقول الثاني الذي ذكره النووي لأن صاحب الشاة أو الناقة قد ينكر أنها مصراة ولا يتضح أنها مصراة إلا بعد حلبها ثلاثة أيام كما هو نص الحديث والله تعالى أعلم.

"موقف العلماء من حديث المصراة"

اختلف العلماء من هذا الحديث في مسائل:

ص: 45

الأولى: حكم المصراة، الثانية: مده الخيار، وتقدمت في رواية الخيار بثلاثة أيام، الثالثة: هل يتعدى حكم المصراة إلى غير الإبل والغنم، الرابعة: هل يتعين الصاع من التمر أو تجوز قيمته وهل يجزئ غير التمر من أنواع الأطعمة الأخرى.

** المسألة الأولى: الأقوال في حكم المصراة **

القول الأول: أخذ بظاهر هذا الحديث:

جمهور أهل العلم وهو قول: "مالك، والشافعي، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وأبي عبيد، وأبي ثور".

وأفتى به ابن مسعود، وأبو هريرة، ولا مخالف لهما من الصحابة رضي الله عنهم وقال به من التابعين ومن بعدهم من لا يحصى عدده ولم يفرقوا بين أن يكون اللبن الذي احتلب قليلا أو كثيرا ولا بين أن يكون التمر قوت تلك البلد أم لا.

القول الثاني: عدم الأخذ بالحديث وهو رأي الإمام أبي حنيفة وروى عن مالك، وقد اعتذروا عن عدم الأخذ به بأمور منها:

1-

ما يرجع إلى راوي الحديث الذي هو أبو هريرة لأنه ليس بفقيه.

2-

ما يعود إلى الحديث لأنه مضطرب.

3-

معارضته للقرآن الكريم.

...

4-

القول بنسخ الحديث.

5-

أنه حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة، وما كان كذلك لا يلزم العمل به- ثم قسمه ابن دقيق العيد إلى مقامين:

أما الأول: وهو أنه مخالف لقياس الأصول فمن وجوه:

أحدها: أن المعلوم من الأصول أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المقومات بالقيم من النقدين وهاهنا إن كان اللبن مثليا كان ينبغي ضمانه بمثله لبنا وإن كان متقوما ضمن بمثله من النقدين وقد وقع هاهنا مضمونا بالتمر فهو خارج عن الأصلين جميعا.

الثاني: أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف فقدر الضمان لكنه قدر هاهنا بمقدار واحد وهو الصاع مطلقا فخرج عن القياس الكلي في اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها ووصفها.

ص: 46

الثالث: أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد كما لو ذهب بعض أعضاء المبيع، ثم ظهر على عيب فإنه يمنع الرد وإن كان هذا اللبن حادثا بعد الشراء فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه وإن كان مختلطا فما كان موجودا منه عند العقد منع الرد وما كان حادثا لم يجب ضمانه.

الرابع: إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط نحالف للأصول فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط لا تتقدر بالثلاث كخيار العيب وخيار الرؤية عند من يثبته وخيار المجلس عند من يقول به.

الخامسة: يلزم من القول بظاهره الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور وهو إذا ما كانت قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها.

السادس: أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإذا استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع صاعا وشاة بصاع وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم فإنكم تمنعون مثل ذلك.

السابع: إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم فإذا أمسكه فالحكم كما لو تلف فيرد الصاع وفي ذلك ضمان الأعيان مع بقائها والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالمغصوب وسائر المضمونات.

الثامن: قال بعضهم أنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط لأن نقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية ولا يثبت الرد في الشرع إلا بعيب أو شرط.

وأما المقام الثاني:

وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفا لقياس الأصول المعلومة لم يجب العمل به فلأن الأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع وخبر الواحد مظنون والظنون لا يعارض المعلوم.

الإجابة

وقد أجاب الأئمة عن هذه الاعتراضات بما يأتي:

ص: 47

1-

أما الاعتراض بأنه من رواية أبي هريرة وهو ليس بفقيه فلا يؤخذ بما رواه مخالفا للقياس الجلي، فقال الحافظ ابن حجر وهو كلام آذى قائله به نفسه وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر ومن نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة وهما خبران ضعيفان عند أهل المعرفة بالحديث، ثم إن ابن مسعود رضي الله عنه

قد أفتى بذلك كما هو ثابت في صحيح البخاري كما تقدم فلو لم يكن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك وقال: قال ابن السمعاني: التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة وقد أختص أبو هريرة رضي الله عنه بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له- يعني المتقدم في كتاب العلم وفي أول البيوع- وفيه قوله: "إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا الحديث".

ثم مع ذلك لم ينفرد أبو هريرة بهذا الأصل فقد أخرجه أبو داود من حديث ابن عمر وأخرجه الطبراني من وجه آخر عنه، وأبو يعلى من حديث أنس، وأخرجه البيهقي في الخلافيات عن عمرو ابن عوف المزني وأخرجه أحمد من رواية رجل من الصحابة لم يسم ثم قال: قال ابن عبد الله:هذا الحديث مجمع على صحته وثبوته من جهة النقل واعتل من لم يأخذ به بأشياء لا حقيقة لها.

2-

وأما قولهم بأنه مضطرب لذكر التمر فيه تارة والقمح أخرى واللبن أخرى واعتباره بالصاع تارة وبالمثل أو المثلين تارة وبالإناء أخرىَ.

فالجواب أن الطرق الصحيحة لا اختلاف فيها كما تقدم والضعيف لا يعل به الصحيح.

ص: 48

3-

وأما قولهم بأنه معارض لعموم القرآن كقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (1) فأجيب بأنه من ضمان المتلفات لا العقوبات والمتلفات تضمن بالمثل وغير المثل.

4-

وأما قولهم بأن الحديث منسوخ وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا دلالة على النسخ مع مدعيه لأنهم اختلفوا في الناسخ:

(أ) فقد قال الطحاويَ قال محمد بن شجاع فيما أخبرني عنه ابن أبي عمران، نسخه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فلما قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرقة الخيار ثبت بذلك أنه لا خيار بعدها إلا لمن استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلا بيع الخيار ثم قال وهذا التأويل عندي فاسد لأن الخيار المجعول في المصراة إنما هو خيار عيب وخيار العيب لا يقطعه الفرقة.

ألا ترى أن رجلا لو اشترى عبدا فقبضه، وتفرقا، ثم رأى به عيبا بعد ذلك أن له رده على بائعه باتفاق المسلمين لا يقطع ذلك التفرق الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

فكذلك المبتاع للشاة المصراة فإذا قبضها فاحتلبها، فعلم أنها على غير ما كان ظهر له منها وكان ذلك لا يعلمه في احتلابه مرة ولا مرتين جعلت له في ذلك هذه المدة وهي ثلاثة أيام. حتى يقف على حقيقة ما هي عليه فإن كان باطنها كظاهرها، فقد لزمته واستوفى ما اشترى وإن كان ظاهرها بخلاف باطنها فقد ثبت العيب ووجب له ردها به.

(ب) ثم قال: وقال عيسى بن أبان: كان ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم في المصراة، بما في الآثار الأول في وقت ما كانت العقوبات في الذنوب يؤخذ بها المال فمن ذلك ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة أنه من أداها طائعا، فله أجرها وإلا أخذناها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل.

(1) سورة النحل آية: 126.

ص: 49

ومن ذلك ما روي عنه في حديث عمرو بن شعيب في سارق التمرة التي لم تحرز فإنه يضرب جلدات ويغرم مثليها.

قال فلما كان الحكم في أول الإسلام كذلك حتى نسخ الله الربا أفردت الأشياء المأخوذة إلى أمثالها إن كانت لها أمثال وإلى قيمتها إن كانت لا أمثال لها رد هذا بأن التصرية من فعل البائع فلو كان من ذلك الباب للزمه التغريم والفرض أن حديث المصراة يقتضي تغريم المشتري فافترقا.

(ج) وقال الطحاوي بعد ما ذكر قول عيسى بن أبان وأني رأيت في ذلك وجها هو أشبه عندي بنسخ هذا من ذلك الوجه الذي ذهب إليه عيسى وذلك أن لبن المصراة الذي احتلبه المشتريَ منها في الثلاثة الأيام التي احتلبها فيها قد كان بعضه في ملك البائع قبل الشراء وحدث بعضه في ملك المشتريَ بعد الشراء إلا أنه احتلبها مرة بعد مرة فكان ما كان في يد البائع من ذلك مبيعا إذا أوجب نقض البيع في الشاة وجب نقض البيع فيه وما حدث في يد المشتري من ذلك فإنما كان ملكه بسبب البيع أيضا وحكمه حكم الشاة لأنه من بدنها هذا على مذهبنا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لمشتري المصراة بعد ردها جميع لبنها الذي حلبه منها بالصاع من التمر الذي أوجب عليه رده مع الشاة وذلك اللبن حينئذ قد تلف أو تلف بعضه فكان المشتري قد ملك لبنا دينا بصاع تمر دين فدخل ذلك في بيع الدين بالدين ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين فنسخ ذلك ما كان تقدم منه مما روى عنه في المصراة مما حكمه حكم الدين.

أجاب الحافظ ابن حجر عن هذا بقوله بأن الحديث ضعيف باتفاق المحدثين وعلى التنزل فالتمر إنما شرع في مقابل الحلب سواء أكان اللبن موجودا أو غير موجود فلم يتعين في كونه من الدين بالدين (3) .

ص: 50

(د) وقيل ناسخه حديث الخراج بالضمان قال الطحاوي قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخراج بالضمان" وعملت بذلك العلماء ثم سرد روايات الحديث ثم قال وزعمت أنت أن رجلا لو اشترى شاة فحلبها ثم أصاب بها عيبا غير التحفيل أنه يردها ويكون اللبن له وكذلك لو كان مكان اللبن ولد ولدته ردها على البائع وكان الولد له وكان ذلك عندك، من الخراج بالضمان الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم للمشتري بالضمان (4) وقال الحافظ ابن حجر في

الجواب عن هذا وتعقب بأن حديث المصراة أصح منه باتفاق (1) فكيف يقدم المرجوح على الراجح. ودعوى كونه بعده لا دليل عليه. وعلى التنزل فالمشتري لم يؤمر بغرامة ما حدث في ملكه بل بغرامة اللبن الذي ورد عليه العقد ولم يدخل في العقد فليس بين الحديثين تعارض.

5-

قال ابن دقيق العيد:وقولهم أنه مخالف للأصول فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول ومخالفة قياس الأصول وخص الرد لخبر الواحد بالمخالفة في الأصول لا بمخالفة قياس الأصول وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول وفيه نظر ثم قال وسلك آخرون تجريح جميع هذه الاعتراضات والجواب عنها:

أما الاعتراض الأول: فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما ذكرتموه- يعني أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المقومات بالقيم من النقدين- فإن الحر يضمنِ بالإبل وليست بمثل له ولا قيمة: والجنين يضمن بالغرة وليست بمثل له ولا قيمة، وأيضاً فقد يضمن المثل بالقيمة إذا تعذرت المماثلة وهاهنا تعذرت: أما الأول: فمن أتلف شاة لبنونا كان عليه قيمتها مع اللبن ولا يجعل بازاء لبنها لبن آخر لتعذر المماثلة. وأما الثاني: وهو أنه تعذرت المماثلة هاهنا فلأن ما يرده من اللبن عوضاً عن اللبن التالف لا يتحقق مماثلته له في المقدار ويجوز أن يكون أكثر من اللبن الموجود حالة العقد أو أقل.

ص: 51

أما الاعتراض الثاني: وهو قولهم أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف فقدر الضمان مختلف لكنه قدر هاهنا بمقدار واحد وهو الصاع مطلقا- قيل في جوابه:إن بعض الأصول لا يتقدر بما ذكرتموه كالموضحة فإن أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر: والجنين مقدر أرشه ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات والحر ديته مقدرة وإن اختلف بالصغر والكبر وسائر الصفات والحكمة فيه أن ما يقع فيه من التنازع والتشاجر يقصد قطع النزاع فيه بتقديره بشيء معين وتقدم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة.

وقال ابن حجر رحمه الله تعالى معللا لما تقدم: "فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط باللبن الموجود وقت العقد فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري ولو عرف مقداره فوكل إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لأفضى إلى النزاع والخصام فقطع الشارع النزاع والخصام وقدره بحد لا يتعديانه فصلا للخصومة وكان تقديره بالتمر أقرب الأشياء إلى اللبن فإنه كان قوتهم إذ ذلك كاللبن وهو مكيل كاللبن ومقتات، فاشتركا في كون كل واحد مطعوما مقتاتا مكيلا واشتركا أيضاً في أن كلا منهما يقتات به بغير صنعة ولا علاج".

أما الاعتراض الثالث: وهو أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد-.. الخ فجوابه أن يقال متى يمتنع الرد بالنقص إذا كان النقص لاستعلام العيب أو إذا لم يكن الأول ممنوعاً والثاني مسلماً وهذا النقص لاستعلام العيب فلا يمتنع الرد.

ص: 52

أما الاعتراض الرابع: وهو إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط مخالف للأصول.. الخ الجواب عنه: "إنما يكون الشيء مخالفا لغيره إذا كان مماثلا له وخولف في حكمه وهاهنا هذه الصورة انفردت عن غيرها فإن الغالب أن هذه المدة حسي التي يتبين بها لبن الجبلة المجتمع بأصل الخلقة واللبن المجتمع بالتدليس فهي مدة يتوقف علم الغيب عليها غالبا بخلاف خيار الرؤية والعيب فإنه يحصل المقصود من غير هذه المدة فيهما وخيار المجلس ليس لاستعلام عيب"، وقال الحافظ ابن حجر موضحا لهذا القول: إن حكم المصراة انفرد بأصله عن مماثلة غيره فلا يستغرب أن ينفرد بوصف زائد على غيره".

أما الاعتراض الخامس: وهو قولهم يلزم من القول بظاهر الحديث الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور

الخ.

والجواب عنه: قيل فيه أن الخبر وارد على العادة والعادة أن لا تباع شاة بصاع وفي هذا ضعف: وقيل أن صاع التمر بدل عن اللبن لا عن الشاة فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض.

أما الاعتراض السادس: وهو أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإذا استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن

الخ.

والجواب عنه: أن الربا إنما يعتبر في العقود لا في الفسوخ بدليل أنهما لو تبايعا ذهبا بفضة لم يجز أن يفترقا قبل القبض ولو تقابلا في هذا العقد لجاز أن يفترقا قبل القبض.

أما الاعتراض السابع: وهو قوهم إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم

الخ.

الجواب عنه: إن اللبن الذي كان في الضرع حال العقد يتعذر رده لاختلاطه باللبن الحادث بعد العقد وأحدهما للباب والآخر للمشتري وتعذر الرد لا يمنع من الضمان مع بقاء العين كما لو غصب عبدا فأبق فإنه يضمن قيمته مع بقاء عينه لتعذر الرد.

أما الاعتراض الثامن: وهو قولهم أنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط

الخ.

ص: 53

قال الحافظ ابن حجر: "الجواب أن الخيار يثبت بالتدليس كمنِ باع رحى دائرة بما جمعه له بغير علم المشتري فإذا اطلع عليه المشتري كان له الرد، وأيضاً فالمشتري لما رأى ضرعا مملوءا لبنا ظن أنه عادة لها فكأن الباب شرط له ذلك فتبين الأمر بخلافه فثبت له الرد لفقد الشرط المعنوي لأن البائع يظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله فإذا أظهر المشتري على صفة فبان الأمر بخلافها كان قد دلس عليه فشرع له الخيار وهذا هو مخص القياس ومقتضى العدل فإن المشتري إنما بذل ماله بناء على الصفة التي أظهرها له البائع، وقد أثبت الشارع الخيار للركبان إذا تلقوا واشترىَ منهم قبل أن يهبطوا إلى السوق ويعلموا السعر وليس هناك عيب ولا خلف في شرط ولكن لما فيه من الغش والتدليس".

قال ابن دقيق العيد: "وأما المقام الثاني وهو النزاع في تقديم قياس الأصول على خبر الواحد فقيل فيه أن خبر الواحد أصل بنفسه يجب اعتباره لأن الذي أوجب اعتبار الأصول نص صاحب الشرع عليها وهو موجود في خبر الواحد فيجب اعتباره وأما تقديم القياس على الأصول باعتبار القطع وكون خبر الواحد مظنونا فتناول الأصل لمحا خبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محل الخبر عن ذلك الأصل وعندي إن التمسك بهذا الكلام أقوى من التمسك بالاعتذارات عن المقام الأول".

وقال الخطابي: "والأصل أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب القول به وصار أصلا في نفسه وعلينا قبول الشريعة المبهمة كما علينا قبول الشريعة المفسرة والأصول إنما صارت أصولا لمجيء الشريعة بها وخبر المصراة قد جاء به الشرع من طرق جياد أشهرها هذا الطريق فالقول به واجب وليس تركه لسائر الأصول بأولى من تركها له".

ص: 54

وقال الحافظ: "ابن حجر والأصول الكتاب والسنة والإجماع والقياس والكتاب والسنة في الحقيقة هما الأصل والآخران مردودان إليهما فالسنة أصل والقياس فرع فكيف يرد الأصل بالفرع بل الحديث الصحيح أصل بنفسه فكيف يقال أن الأصل يخالف نفسه وعلى تقدير التسليم يكون قياس الأصول يفيد القطع وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن فتناول الأصل لا يخالف هذا الخبر الواحد غير مقطوع به لجواز استثناء محله عن ذلك الأصل".

ثم قال: "قال ابن السمعاني: متى ثبت الخبر صار أصلا من الأصول ولا يحتاج إلى عرضه على أصلَ آخر لأنه إن وافقه فذاك وإن خالفه فلا يجوز رد أحدهما لأنه رد للخبر بالقياس وهو مردود باتفاق فإن السنة مقدمة على القياس بلا خلاف إلى أن قال والأولى عندي في هذه المسألة تسليم الأقيسة لكنها ليست لازمة لأن السنة الثابتة مقدمة عليها والله تعالى أعلم".

وقال ابن القيم:"والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها ولو خالفها لكان أصلا بنفسه كما أن غيره أصل بنفسه وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب كتاب الله بعضه ببعض بل يجب اتباعها كلها ويقر كل منها على أصله وموضعه فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح".

قلت: ولا يخفى ما في هذه الاعتراضات التي اعترض بها على حديث المصراة من التكلف وعسف الأدلة فالواجب على كل منصف أن يقف مع النص ولا يتعداه إلى غديره لأنه جاء عن من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وهو الذي أصل الأصول وبن الحلال من الحرام وقد أمر الله تعالى باتباعه وحذر عن مخالفة أمره عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1)

(1) سورة آل عمران آية: 31.

ص: 55

وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1)

فالخير في الاتباع والشر في مخالفة النصوص وضرب بعضها ببعض.

أما ما ذكر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه لم يقل بالحديث فقد ذكر الباجي عن ابن القاسم قال: "قلت لمالك أتأخذ بحديث المصراة قال: نعم ثم قال: وقد روى أن مالكا قال لما سئل عن ذلك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ".

وقال: "قال ابن المواز ولم يأخذ به أشهب وقال جاء ما يضعفه أن الغلة بالضمان" فكأن نسبة عدم الأخذ به إلى مالك غير صحيحة لأن المعروف عن مالك رحمه الله العمل به ولعل الذي نسبه إلى مالك ظن أن قول أشهب عن مالك فأخطأ والله تعالى أعلم.

ولعل من حكمة رد الصاع مع المصراة أنه قد يكون من بعض ضعاف النفوس الطمع في لبن المصراة حتى يحلبها ثم يردها بدعوى أنها مصراة فجعل الشارع الحكيم ردعا لمن تسول له نفسه ذلك حتى لا يتلاعب أهل الأهواء بأهل السلع ويفوتون عليهم ألبان المواشي فإذا كان صادقا دفع بدل اللبن صاع تمر ولا يتقدم إلا وهو صادق في دعواه مع أنني لم أجد من قال بهذه العلة. والله تعالى أعلم.

هل حكم التصرية يتعدى إلى غير الإبل والغنم

قال ابن قدامة:جمهور أهل العلم على أنه لا فرق في التصرية بين الشاة والناقة والبقرة وشذ داود فقال: لا يثبت الخيار بتصرية البقرة لأن الحديث: "لا تصروا الإبل والغنم" فدل على إنما عداهما بخلافهما ولأن الحكم ثبت فيهما بالنص والقياس لا تثبت به الأحكام.

(1) سورة النور آية: 63.

ص: 56

ثم قال ولنا عموم قوله: "من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام" وفي حديث ابن عمر: "من ابتاع محفلة"(1) ولم يفصل ولأنه تصرية بلبن من بهيمة الأنعام أشبه الإبل والغنم والخبر فيه تنبيه على تصرية البقر لأن لبنها أغزر وأكثر نفعا وقولهم أن الأحكام لا تثبت بالقياس ممنوع ثم هو هاهنا ثبت بالتنبيه وهو حجة عند الجميع أما حكم غير بهيمة الأنعام من الآدميات وغيرها فقد اختلفوا في ذلك فقال الخطابي: "أنه يدخل في حكم المصراة من الإبل والغنم والبقر والآدميات فلو اشترى رجل جارية ذات لبن لترضع ولده فوجدها مصراة كان هذا حكمها سواء لا فرق بينها وبين غيرها من الحيوانات في هذا المعنى"

فكأن الخطابي رحمه الله اقتصر على هذا القول ولم يذكر ما قال غيره من علماء الشافعية علما بأن النووي قد ذكر في ذلك ثلاثة أوجه فقال: "لو اشترى أتانا فوجدها مصراة فأوجه الصحيح أنه يردها ولا يرد للبن شيئا لأنه نجس.

والثاني: يردها ويرد بدله، قاله الاصطخري لذهابه إلى أنه طاهر مشروب.

والثالث: لا يردها لحقارة لبنها.

ولو اشترى جارية فوجدها مصراة فأوجه أصحها يردها ولا يرد بدل اللبن لأنه لا يعتاظ عنه غالبا، والثاني يرد ويرد بدله. والثالث لا يرد بل يأخذ الأرش".

وعند الحنابلة وجهان: أحدهما: يثبت الخيار اختاره ابن عقيل لعموم قوله: "من اشترى مصراة ومن أشترى محفلة" ولأنه تصرية بما يختلف الثمن به فأثبت الخيار كخيار تصرية بهيمة الأنعام وذلك أن لبن الآدمية يراد للرضاع ويرغب فيها ظئرا ويحسن ثديها ولذلك لو اشترط كثرة لبنها فبان بخلافه ملك الفسخ ولو لم يكن مقصودا لما ثبت باشتراطه وملك الفسخ بعدمه ولأن الأتان والفرس يرادان لولدهما.

(1) تقدم تخريجه وما قيل فيه ص.

ص: 57

الوجه الثاني: لا يثبت به الخيار لأن لبنها لا يعتاض عنه في العادة ولا يقصد قصد لبن بهيمة الأنعام والخبر ورد في بهيمة الأنعام ولا يصح القياس عليه لأن قصد لبن بهيمة الأنعام أكثر واللفظ العام أريد به الخاص، بدليل أنه أحمر في ردها بصاع من تمر ولا يجب في لبن غيرها ولأنه ورد عاما وخاصا في قضية واحدة فيحمل العام على الخاص ويكون المراد بالعام في أحد الحديثين الخاص في الحديث الآخر وعلى الوجه الأول: إذا ردها لم يلزم بدل لبنها ولا يرد معها شيئا لأن هذا اللبن لا يباح عادة ولا يعاوض

عنه.

هذه الخلافات التي ذكروا فيها ولا شك والله تعالى أعلم أن البقر يلحق بالإبل والغنم لأنه يراد منها ما يراد من الإبل والغنم في اللبن ولذلك قال ابن السبكي: "واتفقوا على إثبات الحكم في البقر إما بالنص وإما بالقياس فإن القياس فيها ظاهر جلي وهي في معنى الإِبل والغنم فلذلك اتفقوا على ثبوت الحكم فيها أما ما عدى ذلك من الحيوانات كالجارية والأتان فلا يظهر فيهما أنهما في معنى الأصل المنصوص عليه

"ثم قال: "والذي تجري أحكام المصراة عليهما فطريقه: إما القياس وإن كان ليس في الجلاء والظهور كالأول- يعني البقر- وإما إدراجها في عموم قول: "من اشترى مصراة"والذي لا تجري عليهما أحكام المصراة طريقة قطع القياس ويتبين أنهما غير داخلين في عموم قوله مصراة إما بأن الاسم غير صادق عليهما عند الإطلاق وإما بإخراجهما من اللفظ بدليل وقد يقال: إن من جملة ما يدل على إخراج الجارية قوله في الحديث: "بعد أن يحلبها "فإن ذلك يقتضي قصر الحكم على ما يصدق عليه اسم الحلب وفي إطلاق الحلب على الجارية نظر"

هل يلزم كون المردود صاعا من تمر أو يجور غيره من أقوات البلد

ص: 58

اختلف القائلون بالحديث في حكم ذلك فعند الحنابلة وطائفة من الشافعية يلزم صاعا من تمر أخذا بظاهر أكثر روايات الحديث وحملوا لفظ الطعام على التمر لأنه يطلق في بعض الروايات مقيد في الأخرى حب قضية واحدة والمطلق فيما هذا سبيله يحمل على المقيد

وعند مالك وبعض الشافعية أنه لا يلزم التمر وإنما الواجب غالب قوت البلد لورود الحديث بصاع من طعام جمعا بين ألفاظ الحديث وإنما أطلق التمر لكونه غالب قوت المدينة.

وقد ذكره البهوتي قولا لبعض الحنابلة.

وقال زفر: "يتخير بين صاع من تمر ونصف صاع من بر"

وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف بمثل قول زفر إلا أنهما قالا: "لا يتعين صاع التمر بل قيمته"

قال الطحاوي: "وقد كان أبو يوسف قال بهذا في بعض أماليه غير أنه ليس بالمشهور عنه".

وقال الذين أوجبوا التمر: لو كان في بلد لا يوجد فيها التمر أنه لا يلزم المشتري قيمته بالبلد الذي وقع فيه البيع وذلك لأنه بمنزلة ما لو أتلفه.

ثم قالوا: "ولو كان اللبن باقيا بحاله بعد الحلب لم يتغير بحموضة ولا غيرها رده المشتري ولزم البائع قبوله ولا شيء عليه لأن اللبن هو الأصل والتمر إنما وجب بدلا عنه فإذا رد الأصل أجزأ كسائر الأصول مع مبدلاتها كرد المصراة قبل الحلب إذا علم بالتصرية بإقرار البائع أو شهادة من تقبل شهادته".

وقال ابن حزم: "فإن كان اللبن الذي في ضرعها يوم اشتراها حاضرا رده كما هو حليبا أو حامضاً" وقد خالف المالكية في رد اللبن وقالوا: "لأن ذلك يدخله بيع الطعام قبل استيفائه".

وقال ابن قدامه ولنا أنه قدر على رد المبدل فلم يلزمه المبدل كسائر المبدلات مع أبدالها. والحديث المراد به رد التمر حالة عدم اللبن لقوله ففي حلبتها صاع من تمر.

ص: 59

ولعل الصواب والله تعالى أعلم مع من قال برد اللبن إذا كان موجودا ولم يتغير وسبب هذا الاختلاف اختلاف ألفاظ الحديث حيث ورد بذكر التمر وحده كما في رواية الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه وكذلك رواية ابن سيرين ومجاهد والوليد بن رباح وموسى بن يسار وثابت مولى عبد الرحمن بن زيد وهمام بن منبه.

2-

وكذلك ورد بلفظ الطعام كما في رواية ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه وخلاس ابن عمرو ورواية ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

3-

كما ورد بلفظ التمر والخيار ثلاثة أيام كما في رواية أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواية الحسن عن أنس بن مالك، ورواية سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب.

4-

كذلك ورد بلفظ "الطعام" و"الخيار ثلاثة أيام" كما في رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد تقدمت هذه الروايات ومن خرجها قال الحافظ فالجمع بين هذه الروايات والذي يظهر في الجمع بينها أن من زاد الثلاث معه زيادة علم وهو حافظ ويحمل الأمر فيمن لم يذكرها على أنة لم يحفظها أو اختصرها وتحمل الرواية التي فيها الطعام على التمر وقد روى الطحاوي من طريق أيوب عن ابن سيرين أن المراد بالسمراء الحنطة الشامية.

وروى ابن أبي شيبة وأبو عوانة من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين "لا سمراء"- يعنى الحنطة-.

وروى ابن المنذر من طريق ابن عون عن ابن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول: "لا سمراء ليس ببر"فهذه الروايات تبين أن المراد بالطعام التمر ولما كان المتبادر إلى الذهن أن المراد بالطعام القمح نفاه بقوله: "لا سمراء"لكن يعكر على هذا الجمع ما رواه البزار من طريق أشعث بن عبد الملك عن ابن

ص: 60

سيرين بلفظ "إن ردها رد ومعها صاع من بر لا سمراء"وهذا يقتضي أن المنفي في قوله "لا سمراء "حنطة مخصوصة وهي الحنطة الشامية فيكون المثبت بقوله:"من طعام"أي من قمح ويحتمل أن يكون راويه رواه بالمعنى الذي ظنه مساويا وذلك أن المتبادر من الطعام البر فظن الراوي أنه البر فعبر به وإنما أطلق لفظ الطعام على التمر لأنه كان غالب قوت أهل المدينة فهذا طريق الجمع بين مختلف الروايات عن ابن سيرين في ذلك لكن يعكر على هذا ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من الصحابة نحو حديث الباب وفيه "فإن ردها رد معها صاعا من طعام أو صاعا من تمر"فإن ظاهره يقتضي التخيير بين التمر والطعام وأن الطعام غير التمر ويحتمل أن تكون "أو" شكا من الراوي لا تخييرا وإذا وقع الاحتمال في هذه الروايات لم ينصح الاستدلال بشيء منها فيرجع إلى الروايات التي لم يختلف فيها وهي التمر فهي الراجحة كما أشار إليه البخاري.

هكذا جمع الحافظ رحمه الله والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه يحمل على غالب قوت البلد كما هو مذهب الإمام مالك وبعض الشافعية لثبوت لفظ الطعام كما تقدم عن أبي هِريرة وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما وهذا أيضاَ فيه تيسير للأمة والشريعة وردت بذلك. أما قوله: "لا سمراء" فلعل المقصود منها نوع من الحنطة الخاصة كما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: "كنا نعطيها- يعني زكاة الفطر- في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدا من هذا يعدل مدين".

وقد وردت الروايات بلفظ الطعام وصحت فالأولى حمله على الأصل وهوِ البر وليس النوع الفاخر من الحنطة ولا الرديء بل المتوسط.

ص: 61

ولفظ الطعام عام في كان ما يقتات من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك ولهذا رجحت قوت كل بلد كما في زكاة الفطر لأنها تعطى من قوت كل بلد. والله أعلم.

وبهذا تم البحث وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

قائمة المراجع

ا- القرآن الكريم.

2-

الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان للأمير علاء الدين بلبان الفارسي/ الطبعة الأولى عام 1407 هـ.

3-

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: لابن دقيق العيد/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

4-

إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل: للألباني/ المكتب الإسلامي.

5-

إعلام الموقعين: لابن القيم الجوزي/ الناشر مكتبة الكليات الأزهرية.

6-

بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني للساعاتي/ ط/ الأولى 1355 هـ.

7-

التاريخ الكَبير: للإمام البخاري محمد بن إسماعيل/ ط/ دار الكَتب العلمية بيروت.

8-

تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي: للمباركفوري/ المكتبة السلفية بالمدينة.

9-

تفسير القرآن العظيم: لابن كثير/ طبع عيسى البابي الحلبي/ مصر.

10-

تقريب التهذيب: لابن حجر العسقلاني/ دار المعرفة/ بيروت.

11-

التخليص الحبير: لابن حجر العسقلاني/ طبع السيد هاشم اليماني.

12-

التمهيد: لابن عبد البر/ طبع وزارة الأوقاف المغربية.

13-

تهذيب السنن: لابن القيم مع مختصر السنن للمنذري/ تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي.

14-

تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني/ دار صادر- بيروت.

15-

الثقات: لابن حبان البستي/ دار الفكر- بيروت.

16-

الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم/ دار الفكر- بيروت.

17-

ديوان الضعفاء والمتروكين: للذهبي تحقيق الشيخ حماد الأنصاري.

18-

روضة الطالبين: للنووي المكَتب الإسلامي.

19-

سلسلة الأحاديث الصحيحة: للألباني/ طبع المكتب الإسلامي.

20-

سلسلة الأحاديث الضعيفة: للألباني/ طبع المكتب الإسلامي.

21-

سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي/ طبع المكتبة السلفية بالمدينة.

22-

سنن أبي داود/ تحقيق الدعاس.

ص: 62

23-

سنن الدارقطني: عن بن عمر الدارقطني/ طبع عبد الله هاشم اليماني 1386هـ.

24-

سنن سعيد بن منصور/ دار الكتب العلمية.

25-

السنن الكبى للبيهقي/ دار الفكر/ بيروت.

26-

سنن ابن ماجة/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

27-

سنن النسائي/ إحياء التراث العربي.

28-

شرح مسلم: للنووي/ المطبعة المصرية ومكتبتها/ القاهرة.

29-

شرح معاني الآثار: للطحاوي/ مطبعة الأنوار المحمدية/ القاهرة.

30-

صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل/ مكتبة النهضة الحديثة بمكة.

31-

صحيح مسلم: لمسلم بن الحجاج/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

32-

صحيح الجامع الصغير: للألباني/ المكَتب الإسلامي.

33-

ضعيف الجامع الصغير: للألباني/ المكتب الإسلامي.

34-

علل الحديث/ لابن أبي حاتم عبد الرحمن الرازي/ دار المعرفة.

5 3- عمدة القارئ شرح صحيح البخاري: للعيني/ تصوير أمين دمج.

36-

عون المعبود شرح سنن أبي داود: لشمس الحق العظيم أبادي/ طبع المكتبة السلفية بالمدينة.

37-

فتح الباري شرح صحيح البخاري: للحافظ ابن حجر/ طبع المطبعة السلفية.

38-

الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد: للساعاتي/ ط/ االأولى 55 13 هـ.

39-

الفردوس: للديلمي/ دار الكتب العلمية.

40-

القاموس المحيط: للفيروزبادي/ دار الجيل/ بيروت.

41-

قوانين الأحكام: لابن جزي المالكي/ دار العلم للملايين/ بيروت.

42-

الكاشف: للذهبي/ تحقيق عزت علي عطية وموسى محمد علي.

43-

الكافي لابن عبد البر/ الناشر مكتبة الرياض الحديثة.

44-

كشاف القناع: للبهوتي/ مطبعة الحكومة بمكَة.

45-

كشف الأستار عن زوائد البزار: للهيثمي/ مؤسسة الرسالة.

46-

لسان العرب: لابن منظور/ ط/ دار المعارف.

47-

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للهيثمي/ ط/ دار الكتاب العربي/ بيروت.

48_

المجموع التكملة لابن السبكي/ دار الفكر.

49_

المحلي: لابن حزم/ دار الكتب العلمية/ بيروت.

50_

مختصر سنن أبي داود: للمنذري/ ط/ دار المعرفة/ بيروت.

ص: 63

51_

المستدرك: للحاكم/ دار الكتاب العربي.

52_

مسند الإمام أحمد/ المكتب الإسلامي.

53_

مسند أبي يعلي أحمد بن علي/ دار المأمون للتراث/ دمشق.

54_

مصنف ابن أبي شيبة: أبو بكر بن أبي شيبة/ دار القرآن الإسلامية.

55_

مصنف عبد الرزاق/ المكتب الإسلامي.

56_

المطالب العالية بزوائد الثمانية: لابن حجر/ تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي.

57_

معالم السنن: للخطابي مع مختصر المنذري/ دار المعرفة.

58_

معجم الطبراني الأوسط: تحقيق الدكتور محمود الطحان.

59_

معجم الطبراني الصغير: دار الكتب العلمية/ بيروت.

60_

معجم الطبراني الكبير: ط/ الأمة/ بغداد.

61_

معجم مقاييس اللغة: لابن فارس/ ط/ مصطفى البابي الحلبي 1391 هـ.

62_

المغني: لابن قدامة/ تحقيق التركي والحلو.

63_

المنتقى شرح الموطأ: للباجي مصور عن الأولى 1332 هـ.

64_

مورد الظمآن بزوائد ابن حبان: للهيثمي/ دار الكتب العربية.

65_

الموطأ: للإمام مالك/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

66_

نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: للشوكاني مكتبة الكليات الأزهرية.

67_

النهاية في غريب الحديث: لابن الأثير تحقيق الطناحي.

ص: 64

إعراب

لا إله إلا الله

تأليف

ابن هشام الأنصاري

تحقيق

د/ حسن موسى الشاعر

أستاذ مشارك بكلية اللغة العربية

مقدمة

لقد صنف علماؤنا القدامى كثيرا من الرسائل في بيان معنى لا إله إلا الله وفي إعرابها. وقد اطلعت في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة على عدد من الرسائل المخطوطة في ذلك، وهي:

- رسالة في إعراب لا إله إلا الله. لابن هشام الأنصاري. المتوفى سنة 761 هـ.

- رسالة في إعراب لا إله إلا الله. للزركشي المتوفى سنة 794هـ.

- رسالة في إعراب لا إله إلا الله. وتسمى التجريد في إعراب كلمة التوحيد لمصنفها علي بن سلطان القاري. المتوفى سنة 1014هـ.

- إنباه الأنباه على تحقيق إعراب لا إله إلا الله، لمصنفها إبراهيم بن حسن الكوراني، المتوفى سنة 1101هـ.

ولم يطبع من هذه الرسائل- فيما أعلم- سوى رسالة واحدة بعنوان "معنى لا إله إلا الله"للإمام الزركشي.

وهذه رسالة أخرى أقوم بتحقيقها في إعراب لا إله إلا الله، منسوبة إلى ابن هشام الأنصاري، اطلعت عليها في قسم المخطوطات بمكتبة عارف حكمت، فرأيتها تشتمل على فوائد قيّمة وتوجيهات عديدة لم أجدها في غيرها من المصنفات. وهذا ما دعاني إلى الاهتمام بها وتحقيقها، على الرغم من أنها نسخة فريدة.

وقد عانيت كثيراً في إقامة النص، وتقويم العبارات المضطربة، وشرح الوجوه المختلفة، ونسبة الآراء إلى أصحابها. ولا أدّعي الكمال في ذلك، وحسبي أنني بذلت جهدي.

والله أسأل أن يوفقنا ويسدد خطانا، ويهدينا سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.

ابن هشام الأنصاري

هو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري جمال الدين المشهور بابن هشام.

ولد في القاهرة خامس ذي القعدة سنة 708 هـ، وتلقّى على عدد من علماء عصره، حتى فاق أقرانه، وتخرج به جماعة من أهل مصر وغيرهم.

قالت ابن خلدون: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه".

ص: 65

وقد ترك ابن هشام عددا من المصنفات ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود، ومن أشهر مصنفاته: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، شرح شذور الذهب، شرح قطر الندى، شرح اللمحة البدرية، التذكرة.

وقد توفي ابن هشام ليلة الجمعة خامس ذي القعدة سنة 1 6 7 هـ. رحمه الله.

نسبة هذه الرسالة إلى ابن هشام:

اطلعت على هذه الرسالة، منسوبة إلى ابن هشام، في مخطوطة فريدة، بمكتبة عارف حكمت، برقم (88) مجاميع. وقد ورد في هذه المخطوطة نسبتها إلى ابن هشام مرتين، مرة في العنوان، ومرة في مقدمة الرسالة.

ولم أجد أحدا ممن ترجم لابن هشام ذكر له هذه الرسالة، ولم أعثر على نسخة أخرى تؤكد نسبتها إليه.

ولكّن الدكتور علي فودة نيل يؤكد نسبتها إلى ابن هشام للأسباب التالية: (ملخصة) :

1-

أن ما جاء في مقدمتها من قول المؤلف "أما بعد حمد الله

"هو المألوف في تقديم معظم مصنفاته.

2-

أن منهج التأليف في هذه الرسالة من العرض الشامل للآراء المختلفة ومناقشتها لبيان الراجح والمرجوح شبيه بمنهج ابن هشام.

3-

أن بعض ما ذكر في هذه الرسالة من آراء مذكور في كتاب المغني.

4-

أن الاعتداد في هذه الرسالة بآراء بعض العلماء السابقين، كابن عمرون، ملحوظ في بعض رسائل أُخر لابن هشام.

ومما يقوي نسبتها إلى ابن هشام أنها ضمن مجموعة من الرسائل مكتوبة بخط عالم مشهور، هو العلامة محمد بن أحمد بن علي البهوتي الشهير بالخلوتي، وهو فقيه حنبلي مصري توفي سنة 1088 هـ.

وعلى الرغم من قوة الأسباب التي تنسب هذه الرسالة إلى ابن هشام، فإنّي لست على ثقة من نسبتها إليه، ومما رابني في ذلك أمور، منها:

1-

أن هذه الرسالة لم ترد في مصنفات ابن هشام، ولم يذكرها أحد ممّن ترجم له.

2-

أن هذه الرسالة تشير إلى علاقة طيبة بين مصنفها وأبي حيان النحوي الأندلسي المشهور. فقد قال فيها المصنف: "وكنت عرضت هذا النظر على شيخنا أبي حيان، فقال

".

ص: 66

ومن المعروف أن ابن هشام لم يكن على وفاق مع أبي حيان، بل كان كثير المخالفة له، شديد الانحراف عنه.

ومهما يكن من أمر فستبقى هذه الرسالة تذكر لابن هشام حتى يثبت خلاف ذلك بأدّلة قاطعة. والله أعلم.

موضوع الرسالة

هذه رسالة قيّمة تكتسب قيمتها من أهمية الموضوع الذي تعالجه، وهو إعراب الاسم الواقع بعد إلا من كلمة التوحيد، في قولنا:"لا إله إلا الله".

وقد ذكر المصنّف في هذه الرسالة جواز الرفع والنصب في الاسم الواقع بعد "إلا"من كلمة التوحيد، فقال: يجوز الرفع فيما بعد إلا والنصب. والأول أكثر، نص على ذلك جماعة منهم العلامة ابن عمرون في شرحه على المفصّل. وظاهر كلام ابن عصفور والأبذيَ يقتضي أن النصب على الاستثناء أفصح، أو مساو للرفع على بعض الوجوه

وقد فصّل المصنّف كثيرا في بيان أوجه الرفع والنصب، مع المناقشة والاستدلال والترجيح، فذكر للرفع ستة أوجه وللنصب وجهين. وهذا موجز للأوجه المختلفة:

فأما الرفع فمن ستة أوجه، وهي:

1-

أن خبر "لا"محذوف، و"إلا الله"بدل من موضع لامع اسمها، أو من موضع اسمها قبل دخولها. وهذا هو الإعراب المشهور لدى المتقدمين وأكثر المتأخرين.

2-

أن خبر لا محذوف، كما سبق، والإبدال من الضمير المستكن فيه. وهذا الإعراب اختاره بعض.

3-

أن الخبر محذوف أيضا، و"إلا الله "صفة لـ "إله"على الموضع، أي موضع لا مع اسمها، أو موضع اسمها قبل دخول "لا".

4-

أن يكون الاستثناء مفزعا، و"إله"اسم "لا"بني معها، و"إلا الله"الخبر. وهذا الإعراب منقول عن الشلوبين، ونقله ابن عمرون عن الزمخشري.

5-

أن "لا إله"في موضع الخبر، و"إلا الله"في موضع المبتدأ. وهذا الإعراب منسوب للزمخشري.

6-

أن تكون "لا"مبنية مع اسمها، و"إلا الله"مرفوع بـ "إله"ارتفاع الاسم بالصفة، واستغني بالمرفوع عن الخبر، كما في مسألة: ما مضروبٌ الزّيدان، وما قائِمٌ العَمْران.

وأما نصب ما بعد "إلا"فمن وجهين:

ص: 67

1-

أن يكون على الاستثناء، إذا قدر الخبر محذوفا، أي لا إله في الوجود إلا الله عز وجل.

2-

أن يكون الخبر محذوفا، كما سبق، و"إلا الله" صفة لاسم "لا"على اللفظ، أو على الموضع بعد دخول "لا"لأن موضعه النصب.

ثم ختم المصنف الرسالة بقوله: وقد تلخّص في "لا إله إلا الله"عشرة أوجه، غير أن في البدل من الموضع إما من موضع اسم لا قبل الدخول، وإما من لا مع اسمها، فيتقدر سبعة. والنصب من وجهين إلا أن في وجه الصفة إما أنه صفة للفظ اسم لا إجراء لحركة البناء مجرى حركة الإِعراب، وإما أن يكون صفة لموضعه بعد دخول لا، فيتقدر ثلاثة مع السبعة، فتلك عشرة كاملة. والذي في كلام ابن عصفور من ذلك أربعة أوجه، وهو أكثر من وسع في إلا من الأوجه

دراسة للاسم الواقع بعد إلاّ في الشواهد اللغوية

بعد الفراغ من تحقيق هذه الرسالة، قمت بدراسة وصفية، تتبعت فيها ما أمكن من الشواهد اللغوية لحالات الاسم الواقع بعد إلا، في نصوص القرآن الكَريم والحديث النبوي والشعر العربي التي جاءت على نمط "لا إله إلا الله"، للمقارنة بين الواقع اللغوي لهذه النصوص، وما ورد في هذه الرسالة من جواز الرفع والنصب، فكانت النتيجة أن رفع الاسم الواقع بعد إلا هو الفصيح الغالب في اللغة، بل لم يرد في القرآن الكَريم والحديث النبوي غيره، وأما النصب فقد ورد في بعض الأبيات الشعرية على قلّة.

وقد جاءت الدراسة على النحو التالي:

(1)

في القرآن الكريم: تتبعت الآيات القرآنية التي وردت فيها "لا إله إلا الله"أو ما كان على وفق هذا الأسلوب، فوجدتها كلها جاءت برفع الاسم الواقع بعد "إلا"، ولم تأت قراءة واحدة، ولو شاذة؟ بالنصب.

وهذه هي الآيات مع السور التي وردت فيها في القرآن الكريم:

أ- {لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّه} : الصافات (35) ، محمد (19) .

ص: 68

ب- {لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} : البقرة (163، 255) ، آل عمران (2، 6، 8 1) ، النساء (87) والأنعام (102، 106) ، الأعراف (158) ، التوبة (31، 129) ، هود (14) ، الرعد (30) ، طه (8، 98) ، المؤمنون (116) ، النمل (26) ، القصص (0 7، 88) ، فاطر (3) ، الزمر (6) ، غافر (3، 62، 65) ، الدخان (8) ، الحشر (22، 23) ، التغابن (13) ، المزمل (9) .

جـ_ {لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا} : النحل (2) ، طه (14) ، الأنبياء (25) .

د- {لا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ} : الأنبياء (87) .

هـ _ {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ} : الأنعام (17) ، يونس (107) .

ق قال أبو جعفر النحاس في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} (1) : ويجوز في غير القرآن: لا إله إلا إياه، نصب على الاستثناء.

وكرر هذه العبارة بعينها القرطبي عند حديثه عن هذه الآية.

وقال الزجاج: ولو قيل: لا رجل عندك إلا زيداً جاز. ولا إله إلا اللهَ جاز. ولكن الأجود ما في القرآن، وهو أجود أيضا في الكلام. قال الله عز وجل:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (2) . فإذا نصبت بعد إلا فإنما نصبت على الاستثناء.

(2)

في الحديث النبوي:

وردت كلمة الشهادة (لا إله إلا الله) في مواضع كثيرة من الحديث، وجاءت كلها بالرفع، ومن ذلك:

أ- في صحيح البخاري، ومعه فتح الباري (1/103) ، (129) .

ب- في صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 183) ، (188) ، (197) ، (206) .

جـ- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد الإِقامة إلا المكتوبة".

قال أبو البقاء العكبري: الوجه هو الرفع على البدل من موضع لا، والنصب ضعيف، وقد بين ذلك في مسائل النحو، ومثل ذلك: لا إله إلا الله.

د- وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا شفاءَ إلا شفاؤك".

قال العكبري: "شفاؤك"مرفوع بدلا من موضع "لا شفاء"ومثله لا إله إلا الله.

(3)

في الشعر:

أ- قال الشنفري في لا ميّته:

(1) البقرة 255.

(2)

الصافات 35.

ص: 69

نصبت له وجهي ولا كِنّ دُونَهُ

ولا سترَ إلا الأتْحَمِيُّ المُرَعْبَلُ

قال الزمخشري: "كّن"مبنية مع لا لتضمنها معنى من المقدرة بعد لا. ودونه: في موضع رفع، أي لا كنّ استقر دونه، وهو خبر لا

والأتحمي: بدل من موضع لا واسمها، لأن موضعهما رفع على أنه مبتدأ. وهو مثل قولنا (لا إله إلا الله)، كأنه قال: الله الإله.

وقال أبو البقاء: الأتحمي: بدل من موضع لا واسمها. لأن موضعها رفع، ومثله قولنا (لا إله إلا الله) .

ب- وقال الشاعرِ:

إلاّ الضَّوابِحَ والأصْداءَ والبُوما

مَهامِهاً وخروقاَ لا أَنيسَ بها

جـ- وقال آخر:

أمرتكمُ أمري بمُنعَرجِ اللّوي

ولا أَمْرَ لِلْمَعصيِّ إلاّ مُضَيَّعاَ (1)

هذان البيتان استشهِد بهما الرضي على أن النصب بعد إلا فيهما قليل، كما في قولك: لا أحد فيها إلا زيداَ.

واستشهد سيبويه بالبيت الثاني منهما على أن "مضيعا"نصب على الحال. قال سيبويه كأنه قال: للمعصي أمرٌ مُضَيَّعاَ. كما جاء: فيها رجلٌ قائماً. وهذا قول الخليل رحمه الله. وقد يكون أيضاً على قوله: لا أحد فيها إلا زيداً.

قال ابن السيرافي: يريد أن "مضيَّعا"قد ينتصب أيضا على غير وجه الحال، على أن يكون مستثنى من "أمر"في قوله "ولا أمر"، كما استثني زيد من رجل، في قوله: لا رجل فيها إلا زيدا. وكأنه قال: ولا أثر للمعصي إلا أمراً مُضيعا، فحذف المنعوت وقام النعت مقامه.

ووقوال الأعلم (1) : ونصف "مضيعا"على وجهين: أجودهما الحال، وحرف الاستثناء قد يدخل بسم الحال وصاحبها

والوجه الآخر أنه نصب على الاستثناء بعد النفي، والوجه البدل من موضع لا، كما أن الرفع على البدل من موضع لا في (لا إله إلا اللَّهُ) أقوى من النصب بالاستثناء.

نسخة الرسالة الخطية

(1) من أبيات للكحلبة العرني، الخزانة 3/ 385.

ص: 70

لهذه الرسالة نسخة خطية فريدة تقع في اثنتي عشرة صفحة، ضمن مجموع يضم 15 رسالة بمكتبة عارف حكمت برقم 88 مجاميع. وهي الرسالة التاسعة في المجموع، وتقع من ورقة 29- 34. وقد كتبت بخط نسخي عادي، بخط العلامة محمد بن أحمد بن علي البهوتي الحنبلي الشهير بالخلوتي. وفي الصفحة نحو 27 سطرا وفي السطر 10 كلمات تقريبا.

وقد ورد في آخر الرسالة الأولى ورقة 3: وعلقه لنفسه أفقر العباد، وأحوجهم إلى عفو ربه العلي محمد بن أحمد البهوتي الحنبلي، في يوم الجمعة المبارك ثاني عشر ذي القعدة من شهور سنة 1038 من الهجرة النبوية.

والنسخة كاملة واضحة، ولكنها لا تخلو من التحريف والاضطراب والغموض في بعض المواضيع.

وقد عملت على خدمة النصر وضبطه وتوثيق محا شيه، والتعليق عليه، ما أمكن، لتوضيح الجوانب الدقيقة لكل مسألة.

وبالله التوفيق، والحمد لله أولا وآخرا.

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

قال الشيخ العلامة جمال الدين [عبد الله بن] يوسف بن هشام الأنصاري، رحمه الله تعالى، ونفعنا بتحقيقاته:

أما بعد حمد الله، والصلاة على رسوله محمّد، صلى الله عليه وسلم، فهذه رسالة كتبتها في إعراب لا إله إلا الله سألني في وضعها بعض الأصحاب، فأجبته مستمداً من الكريم الوهاب.

[جواز الرفع والنصب في الاسم الواقع بعد إلاّ] :

يجوز الرفع فيما بعد إلا، والنصب. والأوّل أكثر.

نص على ذلك جماعة منهم العلاّمة محمد بن [محمد] بن عمرون في شرحه على المفصّل. وظاهر كلام ابن عصفور والأبذي يقتضي أن النصب على الاستثناء أفصح، أو مساو للرفع على بعض الوجوه، كما سيأتي تقريره.

[أوجه الرفع] :

فأما الرفع فمن ستة أوجه:

أولها: أن خبر "لا"محذوف، و"إلاّ الله"بدل من موضع لا مع اسمها، أو من موضع اسمها قبل دخولها. وقع للنحويين الحَمْلان.

وهذا الإِعراب مشهور في كلام جماعة من أكابر هذه الصناعة، قيل أطبق عليه المعربون من المتقدمين وأكثر المتأخرين.

ص: 71

قلت: وقد استشكل من قاعدة أن البدل لا بد أن يصحّ إحلاله في محل المبدل منه، وهو على نيِّة تكرار العامل. ولا يصحّ تكرار "لا"لو قلت: إلا عبد الله في قولك: لا أحد فيها إلا عبد الله. لم يجزْ.

وأجاب الشلوبين بأن هذا في معنى، ما فيها من أحدٍ إلاّ عبدُ الله، ويمكنك في هذا الإحلال.

قال ابن عصفور، رحمه الله تعالى: وهذا الإشكال لا يتقرر، لأنه لا يلزم أن يحلّ "أحد"الواقع بعد إلاّ، إنما يلزم تقدير العامل في المبدل منه، والعامل في المبدل منه الابتداء، فإذا أبدلت منه كان

مبتدأ، وخبره محذوف. والتقدير في "لا أحد فيها إلاّ عبد الله: لا فيها [أحدٌ] إلا عبدُ الله.

وهذا فيه تأمل يظهر بما ذكره النحويون، في مسألة (ما زيدٌ بشيءٍ إلا شيءٌ لا يعبأ به) من أن "إلاّ شيء"بالرفع لا غير على اللغتين.

أما عند بني تميم فلأنّ (بشيء) في محل رفع، وتعذّر حمله على اللفظ لأن الباء لا تزاد في الإيجاب.

وأما عند أهل الحجاز فلأنهم وإن أعملوا ما، و"بشيء"في محل نصب عندهم، فإعمالها مشروط بعدم انتقاض النفي. فما بعد "إلا"لا يمكن تقدير عملها فيه، والبدل على نية التكرار، ولذلك قال سيبويه: وتستوي اللغتان.

وقد زعم ابن خروف أن مراده بالاستواء فيما قبل إلاّ وفيما بعدها من المستثنى والمستثنى منه.

قال ابن الضائع: "وغلط الأستاذ أبو علي في النقل عنه، فنقل الاستواء فيما بعد إلاّ، لا فيما بعد المجرور، حتى يرد عليه بأنه لا يجوز بدلا مرفوع من منصوب".

ص: 72

قال ابن الضائع: وعِندي أن القياس أن يبقوا على لغتهم في المجرور، وإلا كان يلزم الرفع في قولنا: ما زيدٌ قائماَ بل قاعدٌ، وكذا في لكنْ. ولم ينقل عن الحجازيين رجوعهم إلى اللغة التميمية في ذلك. وإنما نقل عنهم الرفع فيما بعد بل ولكن على جهة الابتداء. (1) فهاهنا ينبغي أن يرجع فيما بعد "إلا"على النصب على الاستثناء. فقول سيبويه: استوت اللغتان في الرفع، ينبغي أن يحمل على ما بعد إلاّ. ولا حجة لهم في قول سيبويه: وصارت "ما"على أقيس اللغتين، فإنه يمكن حمله على ما بعد إلاّ، كما قالوا في: ما زيد إلا منطلق، رجعوا إلى اللغة التميمية.

ويقوّى أنه يريد ما بعد إلاّ، تقديره وقوله: كأنك قلت: ما زيد إلا شيء لا يعبأ به.

وقول الأستاذ "لا يبدل مرفوع من منصوب"، جوابه أن البدل هنا بالحمل على المعنى. فإن الشرط في البدل تقدير تكرار العامل، فإن العامل يتكرر على أن البدل مرفوع. ويظهر البدل هنا في أنه لا يعمل فيه اللفظ المتقدم العامل في المبدل منه، بل الابتداء قولهم "لا إله إلا الله"، ألا ترى أنه بدل على تقدير مالنا أو ما في الوجود. ولا يجوز تقدير لا في الوجود إلا الله، لأن "لا"لا تلغى إلا مكررة. وكذا البدل هنا على تقدير: ما زيد إلا شيء. وكأن "ما"لها عملان، عمل فيما بعد إلا وهو الرفع، وعمل فيما قبلها وهو النصب، فترك الأول على أحد العملين، وحمل الثاني، وهو ما بعد إلا، على العمل الآخر. انتهى.

وفي كلامه نظران:

(1) قال الأشموني: 1/250: وإنما وجب الرفع لكونه خبر مبتدأ مقدّر، ولا يجوز نصبه عطفا على خبر ما، لأنه موجب وهي لا تعمل في الموجب، تقول: ما زيد قائماً بل قاعد، وما عمرو شجاعاً لكن كريم، أي بل هو قاعد، ولكن هو كريم

ص: 73

الأول: قوله "ولا يجوز تقدير لا في الوجود إلا الله "ليس معنا في اللفظ إلاّ "لا" واحدة وهي عاملة. نعم إذا أعربناه على ما سبق بدلا نوينا تكرار لا، وانتفى عمل تلك المقدرة بالدخول على المعرفة. ومن أين لزوم التكرار لتلك المقدّرة. ولو قيل إنها تكررت في الجملة كان كافيا في جوابه.

الثاني: جعله باب "لا إله إلا الله "وباب "ما زيدٌ بشيءٍ إلا شيء"سواء. ولقائل أن يقول بينهما فرق، بأن "الله "مرفوع بدلا من منصوب.

وقد يعتذر له عن الثاني بأن "إلا الله "بدل من موضع اسم لا، لا من "لا"مع اسمها. بل لا يفتقر إلى ذلك جميعه، فإن العامل المقدر مع البدل هو الابتداء، وهو صالح للعمل في البدل والمبدل منه، كما تقدم في كلام ابن عصفور.

وقد رأيت في المجد المؤثل مما كتبته على المفصّل أن الرفع في "ما زيد بشيء إلا شيء"يحتمل ثلاثة أوجه: إما البدل من جهة المعنى كما سبق، وإما على موضع "بشيء" قبل دخول "ما"، وإما على أن الرفع في الثاني هو الرفع في الأول، لو اتصف الأول بصفته من الإِثبات. وشبهت ذلك بمسألة التنزيل في توريث ذوي الأرحام في الفرائض، أي إعطاء الذكر ما للأنثى التي أدلى بها، وبالعكس، مع مراعاة العدد منه نفسه، فليتأمل.

ثانيها: أن خبر "لا"محذوف، كما سبق، والإبدال من الضمير المستكن فيه. وهذا لا كلفة فيه، واختاره بعض المتأخرين.

ثالثها: أن الخبر محذوف كما سبق، و"إلا الله "صفة لإله على الموضع، أي موضع لا مع اسمها، أو موضع اسمها قبل دخول "لا".

ولا يستنكرون وقوع "إلا" صفة، فقد جاء {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1)

(1) سورة الأنبياءْ آية:22.

قال ابن هشام في المغني 74: "إلاّ"تكون صفة بمزلة غير فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه. فمثال جمع المنكر (لو كان فيهما آلهةُ إلا اللهُ لفسدتا)

وقال العكبري في التبيان في إعراب القرآن 2/914: "إلا الله"الرفع على أنّ " إلا"صفة بمعنى غير.

(وانظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/388. معنى لا إله إلا الله للزركشي 82) .

ص: 74

ويصير المعنى: لا إلهَ غير الله في الوجود. وقد جاء {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) بالوصف، لكنّ الخبر المحذوف قدّره بعضهم "في الوجود"، وقدّره بعضهم "كائن"، وبعضهم "لنا".

قيل والتقديران الأولان أولى من حيث كونه أدل على التوحيد المطلق من غير تقييد. ولذلك جاء {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وأعقب بقوله {لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} (2) .

وقد يقال إذا قدِّر "لنا"فالمراد لنا أيها العالَم الذي هو كل موجود سوى الله عز وجل، فاتحدت التقادير.

وقد ردّ الإمام فخر الدين على من قدر الخبر "في الوجود"لأن هذا النفي عام

مستغرق، فتقييده بالوجود مخصص، فلا يبقى النفي على عمومه المراد منه، فلا يكون هذا إقرارا بالوحدانية على الإطلاق.

قال الأندلسي: "لا إله حقيقة إلا من له الخلق والأمر، لابد أن يكون موجودا فينعكس بعكس النقيض فما ليس موجودا ليس بإله. والمراد بقوله "في الوجود"مسمى الوجود الصادق على العيني والذهني، فنفي الإله عن الوجود نفي لحقيقته".

وفي ريّ الظمآن: "لا يتصور نفي الماهية عندنا إلا مع الوجود. هذا مذهب أهل السنة، خلافا للمعتزلة فإنهم يثبتون الماهية عارية عن الوجود، والدليل يأبى ذلك".

رابعها: أن يكون الاستثناء مفرغا، و"إله "اسم "لا"بني معها، و"إلاّ الله "الخبر.

وهذا منقول عن الشلوبين فيما علّقه على المفصل، ونقله عن الزمخشري في حواشيه ابن عمرون، وإن كان في المفصل قال غيره، وذهب إلى أن الخبر محذوف.

ومقتضى كلام ابن خروف، على ما نقله عنه ابن الضائع قول الشاعر:

ألا طعان ألا فُرسانَ عاديةً

ألا تجشّؤُكم حوَلْ التنَّانير

من أنه أعرب (إلاّ تجشؤكم) خبر لا، لكن ردّه عليه بوجهين، أحدهما: أن "لا"لا تعمل في الموجب. الثاني: أنها لا تعمل في الموجب مع المعرفة، وهما لازمان لإعراب "إلاّ الله "خبرا.

(1) سورة الأعراف آية: 59 وغيرها.

(2)

سورة البقرة آية: 163.

ص: 75

وفي الوجهين نظر، لأنّ "لا "عند سيبويه وجمهور البصريين لا عمل لها في الخبر إذا بني الاسم معها. وقولك لا رَجُلَ حاضرٌ، بمثابة: هل مِنْ رجلٍ حاضر؟ الجواب كالسؤال.

واستدل لذلك ابن عصفور في شرحه للإيضاح بجواز حمل جميع التوابع لاسمها على الموضع قبل الخبر.

والقائل إن "لا"ترفع الخبر الأخفش وتابعوه.

وبنى ابن عصفور على الاختلاف جواز: لا رجلَ ولا امرأة قائمان. على القول

الأول، وامتناعه علىَ الثاني. مع أن كلام أبي البقاء في اللباب، وابن يعيش في شرح المفصل ما يوهم أن خلاف سيبويه والأخفش في "لا"مطلقا المبني معها الاسم والمعرب، حيث عللا مذهب سيبويه بضعف عمل لا.

ولكن ابن مالك في التسهيل نقل الاتفاق على عمل "لا"في الخبر إذا كان اسمها معربا، واختار قوله الأخفش فيما إذا بني الاسم معها.

ورتب أبو البقاء على الخلاف أن قوله الشاعر:

فلا لَغْوٌ ولا تأثيم فيها

وما فاهوا به أبداً مُقيم

لا يحتاج إلى تقدير "فيها"عند سيبويه، بل الثابت "فيها"خبر الاثنين، ويحتاج لتقدير "فيها"أخرى عند سيبويه في أحد قوليه، وعند الأخفش.

وكنت عرضت هذا النظر على شيخنا أبي حيان فقال: كلام ابن الضائع محمول على مذهب من يرى أنها عاملة في الخبر مطلقا. ثم اعترض عليه من وجه آخر، وهو أنه يلزم أن تعمل "لا" في المعرفة. وهذا إن تم به الاعتراض على الأخفش فسيبويه سالم منه، حيث يقول إن "لا"لا عمل لها في الخبر.

على أن ابن عمرون حين نقل هذا الإِعراب عن الزمخشري في الحواشي، ردّه بأن المعرفة لا تكون خبراً عن النكرة. فيقال له هذا لا يضر سيبويه إذا كان مع النكرة ما يسوغ الإخبار عنها، وهي متقدمة على المعرفة حفظا للأصول، وقد أعرب: كم جربيا أرضك؟ مبتدأ مقدما وخبرا مؤخرا.

ص: 76

على أن ما ذكره ابن الضائع من أن "لا"لا تعمل في الموجب، قد يقال فيه إن تلك "لا"العاملة عمل ليس، من حيث إنها إنما عملت للشبه بليس من جهة النفي، فإذا زال النفي زال الشبه فزال العمل. أما لا النافية للجنس فعملها إنما هو بالحمل على إن، وهي للإثبات.

وقد قال العطار في شرح الكراسة: إذا قلت "لا فيها رجل"رفعت على الابتداء لا غير، لأنه لا يتقدم خبر "ما"الحجازية، يعني "لا"العاملة عمل ليس. وإلا فالعاملة عمل إنّ امتناع التقديم فيها لأجل تركبها مع لا. وإن حملت كلامه على الإِطلاق، فالكلام معه كالكلام مع ابن الضائع.

وقد ردّ ابن الحاجب على من جعل "إلا الله "خبرا. وسبق إلى ذلك الأندلسي، قال: لأنه مستثنى من الاسم، ولا يجوز أن يكون المستثنى خبرا عن المستثنى منه، لأنه مبين له. ويمكن أن يقال لا نسلّم أن الاستثناء إخراج من المحكوم عليه بل من الحكم. سلّمنا أنه إخراج من المحكوم عليه، لكن المستثنى منه المحكوم عليه ليس اسم "لا"الذي أخبر عنه بـ "إلا الله"، إلا أنه حذف لقصد التفريغ وأقيم المستثنى مقامه، وأعرب بإعرابه.

وهذا فرق ما بين الأقوال السابقة. وهذا حيث جعلنا الاستثناء فيها تاما، وهنا مفرغا، مع أن الخبر وهو "موجود"فيهما محذوف. إلا أن ذلك حذف لمحذوف محكوم له بحكم الثابت، وهذا فيه حذف لمحذوف معرض عنه في الإعراب.

وقد ردّ أبو البقاء العكبري هذا الإعراب أيضا في شرح الخطب النباتية، بأنه يلزم منه الإخبار بالخاص عن العام، وهذا مع الإخبار بالمعرفة عن النكرة.

ويمكن أن يقال إنما يمنع ذلك في الإثبات، كقولنا: الحيوان إنسان. أما في النفي

فلا. وقد ردّ ابن عمرون قول من جعل "إلا الله"خبرا بجواز نصب "إلا الله"على الاستثناء، ومحال نصب خبر لا المشبهة بأن، وإن كان الرفع المشهور. انتهى.

ص: 77

ولقائل أن يقول إذا نصبنا لم نعتقد الخبر إلا محذوفا. ولا يحسن الرد بهذا على من جعل "إلا"خبرا، مع تجويزه الوجوه السابقة. والله أعلم.

خامسها: أن "لا إله"في موضع الخبر، و"إلا الله"في موضع المبتدأ. ذكر ذلك الزمخشري في كلام تلقفه عنه بعض تلامذته، وكتب ما ملخصه: اعلم أن متقدمي الشيوخ ذهبوا إلى أن قولنا: لا إله إلا الله، كلام غير مستقل بنفسه، بل بتقدير خبر، أي في الوجود، أو موجود، أو لنا. تقدير قولنا: لا رجلَ في الدار إلا زيدٌ. فجعلوا الكلام جملتين. وليس كذلك، ولا يحتاج إلى تقدير، لأن الكلام لا يخلو من وجهين: أحدهما أصل الكلام. الثاني: تفريع يزيد الكلام تحقيقا، وفائدة زائدة.

نحو: ما جاءني رجل. يفيد نفي واحد غير معين، فيجوّز السامع مجيء اثنين. [فلذلك يصحّ أن يقول: ما جاءني رجل بل رجلان] . فإذا قيل: ما جاءني من رجل، [فيعلم السامع أنه لم يجئه أحد من جنس الرجال]، فلم يصحّ: ما جاءني من رجل بل رجلان.

وكذا {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (1) و {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} (2) ، لو لم يأت بـ "ما"جوّزنا أن اللين واللعن كانا للسببين المذكورين ولغيرهما، وحين دخلت "ما"قطعنا بأن اللين لم يكن إلا للرحمة، وأن اللعن لم يكن إلاّ لأجل نقض الميثاق.

والاستثناء من تفريعات الكلام يزيده تأكيداً، فأصل الكلام: جاءني زيد.

(1) سورة آل عمران آية: 159.

قال الزجاج: "ما بإجماع النحويين هاهنا صلة لا تمنع الباء من عملها فيما عملت، المعنى فبرحمة من الله لنت لهم. إلا أن ما قد أحدثت بدخولها توكيد المعنى.. (انظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 1/482) .

وقال الزمخشري في الكشاف 1/226: "ما"مزيدة للتوكيد، والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله، ونحوه (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) . (وانظر: الدر المصون للسمين 3/460، 4/142) .

(2)

سورة المائدة آية: 13.

ص: 78

وهذا لا يقتضي قطع السامع بأن غير زيد لم يجيء، فإذا أريد جمع المعنيين، مجيء زيد ونفي مجيء، غيره قيل: ما جاءني إلا زيد.

وكذا في مسألتنا: الله إله، يوازن: زيد منطلق. فلما فرّع عليه وقيل "لا إله إلا الله"أفاد الفائدتين: إثبات الإلهية لله تعالى، ونفيها عمّا سواه.

فإذن "لا إله"في موضع الخبر، و"إلا الله"في موضع المبتدأ. يوضح هذا أن "لا"تطلب النكرة أبدا، لا تقول: لا زيد منطلق. والمبتدأ يجب أن يكون معرفة والخبر نكرة.

ثم تكلم بكلم آخر. [انتهى ملخص كلام الزمخشري] .

وهذا الإعراب ارتضاه جماعة منهم ابن الحاجب وبعض مشايخنا، وذكره في ابتداء تدريسه قاضي القضاة جلال الدين القزويني، رحمه الله، بالقاهرة، وأنكره بعض العلماء، ولم يبين لفساده معنى، وقد رُدّ بمخالفته الإجماع من وجهين: أحدهما أن "لا"إنما يبنى معها المبتدأ لا الخبر. الثاني: جوار النصب بعد إلاّ.

وفي بقية الكلام المنسوب للزمخشري، رحمة الله عليه، تعقّب.

سادسها: أن تكون "لا"مبنية مع اسمها، و"إلا الله"مرفوع بإله، ارتفاع الاسم بالصفة، واستغني بالمرفوع عن الخبر، كما في مسألة: ما مضروب الزيدان، وما قائم العمران.

وشجعني على ذلك قول الزمخشري رحمه الله تعالى: إله بمعنى مألوه، من أُلِه إذا عُبِد. ولو قلت: لا معبود إلا الله، لم يمتنع فيه ما ذكرت.

وعلى ذلك اعتراضان: الأول أن هذا الوصف الرافع لمكتفى به ينظر في دخول النواسخ عليه، فقد منع سيبويه: إنّ قائماً أخواك.

الثاني: أنه على تقدير عمل "إله"يكون ذلك مطوّلا فيقتضي ذلك تنوينه. والتطويل كما يكون بالعمل نصبا، كذلك يكون بالعمل رفعا.

ففي مسائل ابن جني رحمه الله تعالى، لشيخه ت إذا قلت: يا منطلق وزيد، وعطفت على المرفوع في منطلق، وقلت إنّ العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه، أتنصب "منطلق"أم ترفعه؟ فاستقر أمرهما بعد محاورة طويلة على أن ينصب، وأنه مطوّل.

ص: 79

والجواب عن الأول: أن الأخفش قد أجاز: إنّ قائما أخواك. ومنع سيبويه لها إنما هو لعدم مسوغ الابتداء بالنكرة.

قال بعض الفضلاء من أهل العصر، وقد عرضت ذلك عليه وارتضاه: قد خطر لي أن نحو "ليس قائم أخواك"يتفق الإمامان على إجازته.

وعن الثاني: أن ابن كيسان اختار حذف التنوين من نحو ذلك، وجعل منه {لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} (1) و {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} (2) . وإن كان جمهور البصريين يؤولون ذلك.

قال بعض مشايخنا: وأرى أن مذهب ابن كيسان أولى لعدم التكلف.

[وجها النصب] :

وأما النصب في "إلا الله"فمن وجهين:

أولهما: أن يكون على الاستثناء إذا قدر الخبر محذوفا، أي لا إله في الوجود إلا الله عز وجل. ولا يرجح عليه الرفع على البدل، كما هو مقدر في الاستثناء التام غير الموجب، من جهة أن الترجيح هناك لحصول المشاكلة في الإتباعِ دون الاستثناء. حتى لو حصلت المشاكلة فيهما استويا، نحو: ما ضربت أحداً إلا زيدا.

نص على ذلك جماعة منهم الأُبذي رحمه الله تعالى. بل إذا حصلت المشاكلة في النصب على الاستثناء وفاتت في الإتباع ترجح النصب على الاستثناء. وهذا كذلك يترجح النصب في القياس، لكن السماع والأكثر الرفع. ولا يستنكر مثل ذلك، فقد يكون الشيء شاذا في القياس وهو واجب الاستعمال. وليس هذا موضع بسط ذلك.

وقاك أبو الحسن الأبذي في شرح الكراسة: إنك إذا قلت: لا رجل في الدار إلا عمرو، كان نصب "إلا عمرو" على الاستثناء أحسن من رفعه على البدل، لما في ذلك من المشاكلة.

(1) سورة الأنفال آية:48.

(2)

سورة يوسف آية: 92.

ص: 80

على أن أبا القاسم الكرماني رحمه الله تعالى، قال في كتاب الغرائب، في قوله تعالى:{لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} (1) : ولا يجوز النصب هنا، لأن الرفع يدل على أن الاعتماد على الثاني، والنصب يدل على أن الاعتماد على الأول. يعني إنك إذا أبدلت فما بعد إلا مسند إليه كالذي قبلها، إلا أن الاعتماد في الحكم على البدل، وإذا نصبت فما بعد إلا ليست مسندا إليه، إنما هو مخرج.

وقد اعترض عليه بأنه لا فرق في المعنى بين قولنا: ما قام القوم إلا زيدٌ وإلا زيداً، إلا من حيث ان الرفع أولى من جهة المشاكلة.

وكلام الكرماني لا يقتضي منع النصب مطلقا، بل في الآية من جهة الأرجحية التي يجب حمل أفصح الكلام عليها.

وقي كلام بعضهم أرجحية الرفع لأن فيه إعراضا عن غير الله تعالى وإقبالا عليه بالكلية. وأما الاستثناء فيقتضي الاشتغال بنفي السابق وإثبات اللاحق، ففيه اشتغال بهما جميعاً. وهذا قد يرجح به النصب.... (2)

ثانيهما: أن يكون الخبر محذوفا كما سبق، و"إلا الله "صفة لاسم "لا"على اللفظ. وفي عبارة بعضهم أو على الموضع بعد دخول "لا"، وهما متقاربان كما سبق مثلهما في اللفظ.

قال الأبذيَ: ولا يجوز البدل من اسم "لا"عام اللفظ، يعني في: لا رجلَ في الدار إلا، زيداً، لأن البدل في نية تكرار العامل، ولو قدر فسد المعنى، وعملت "لا"في المعرفة. انتهى.

وقال ابن الحاجب، رحمه الله تعالى: لأن "لا"إنما عملت للنفي. وفيه ما سبق.

وقال النيلي: "وإن شئت قلت إنَّ "مِنْ "مقدرة في النفي إذا كان مفردا، وجاء بعد إلا موجب لا يصح تقدير "من "فيه. وقيل لأن تقدير "لا" يقتضي النفي، ووقوعه بعد إلا يقتضي الإثبات، فيفضي إلى التناقض".

وقد تلخص في "لا إله إلا الله"عشرة أوجه: الرفع من ستة أوجه، غير أن البدل من الموضع إما من موضع اسم لا قبل الدخول، وإما من لا مع اسمها، فيتقدر سبعة.

(1) سورة البقرة آية: 163 وغيرها.

(2)

في المخطوطة نحو سطر غير واضح.

ص: 81

والنصب من وجهين إلا أن في وجه الصفة، إما أنه صفة للفظ اسم لا إجراء لحركة البناء مجرى حركة الإعراب، وإما أن يكون صفة لموضعه بعد دخول لا، فيتقدر ثلاثة مع السبعة، فتلك عشرة كاملة.

والذي في كلام ابن عصفور من ذلك أربعة أوجه، وهو أكثر من وسّع في "إلاّ"من الأوجه.

انتهى ما خطر لي في هذه المسألة من الأوجه الواضحة، والله يرزقنا منه المسامحة.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحابته أجمعين.

تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه

فهرس المصادر

1_

ابن هشام الأنصاري/ آثاره ومذهبه النحوي/ د. علي فودة نيل. منشورات جامعة الملك سعود- الرياض 1406 هـ/ 1985.

2_

أحكام الميراث في الشريعة الإِسلامية: د. جمعة برّاج. دار الفكر للنشر والتوزيع. عمان، الطبعة الأولى1401 هـ/ 1981م.

3_

أخبار النحويين البصريين: السيرافي، تحقيق د. محمد البنا، دار الاعتصام الطبعة الأولى 1405 هـ/1985م.

4_

ارتشاف الضرب: أبو حيان الأندلسي، تحقيق د. مصطفى النماس.

5_

الاستغناء في أحكام الاستثناء: شهاب الدين القرافي، تحقيق د. طه محسن.

6_

أسرار العربية: الأنباري، تحقيق محمد بهجة البيطار، دمشق 1377هـ/ 1957م.

7_

إشارة التعين: عبد الباقي اليماني، تحقيق د. عبد المجيد دياب، الطبعة الأولى 1406 هـ.

8_

اشتقاق أسماء الله: الزجاجي، تحقيق د. عبد الحسين المبارك، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1406 هـ/ 1986م.

9_

الأشباه والنظائر: السيوطي، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة.

10_

الأصول في النحو: ابن السرّاج، تحقيق د. عبد الحسين الفتلي.

11_

أعجب العجب في شرح لامية العرب: الزمخشري، الطبعة الأولى بالجوائب 1300 هـ.

12_

إعراب الحديث النبوي: العكبري، تحقيق د. حسن موسى الشاعر، الطبعة الثانية 1408 هـ/1987 م.

13_

إعراب القرآن الكريم: النحاس، تحقيق د. زهير غازي زاهد، الطبعة الثانية 1405 هـ/ 985 1م.

ص: 82

14_

إعراب لامية الشنفري: العكبري، تحقيق محمد أديب جمران، المكتب الإِسلامي، الطبعة الأولى 1404 هـ/ 1984م.

15_

الأعلام: الزركلي، دار العلم للملايين.

16_

إنباه الرواة: القفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى.

17_

الإنصاف في مسائل الخلاف: الأنباري، تحقيقَ المرحوم الشيخ محي الدين عبد الحميد.

18_

أوضح المسالك: ابن هشام الأنصاري، تحقيق المرحوم الشيخ محي الدين عبد الحميد، الطبعة الخامسة- بيروت.

19_

إيضاح المكنون: إسماعيل باشا البغدادي.

20_

الإيضاح في شرح المفصَّل: ابن الحاجب، تحقيق د. موسى بناي العليلي، مطبعة العاني- بغداد 1982 م.

21_

البحر المحيط: أبو حيان الأندلسي.

22_

البدر الطالع: الشوكاني، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى 1348 هـ.

23_

البلغة في تاريخ أئمة اللغة: الفيروز أبادي، تحقيق محمد المصري، دمشق 1392هـ/1972 م.

24_

بغية الوعاة: السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة الحلبي، الطبعة الأولى 1384 هـ/1964 م.

25_

تاريخ الأدب العربي: بروكلمان، جـ5 نقله إلى العربية د. رمضان عبد التواب، الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر.

26_

تاريخ العلماء النحويين: التنوخي، تحقيق د. عبد الفتاح الحلو، الرياض،1401 هـ/1981 م.

27_

التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية: الشيخ صالح الفوزان، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الثالثة 1407 هـ/ 1986 م.

28_

تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد: ابن هشام الأنصاري، تحقيق د. عباس الصالحي، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1406 هـ/ 1986 م.

29_

تسهيل الفوائد: ابن مالك، تحقيق محمد كامل بركات، القاهرة 1968ام.

30_

التصريح على التوضيح: الشيخ خالد الأزهري.

31_

التفسير الكبير: فخر الدين الرازي، الطبعة الأولى 1354 هـ/ 1935.

32_

الجامع لأحكام القرآن: القرطبي، دار إحياء التراث العربي عن طبعة دار الكتب المصرية.

ص: 83

33_

الجني الداني في حروف المعاني: المرادي، تحقيق طه محسن 1396 هـ/ 1976 م.

34_

حاشية الصبان على شرح الأشموني: دار إحياء الكتب العربية.

35_

حاشية يس العليمي على التصريح: دار إحياء الكتب العربية.

36_

خزانة الأدب: البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي.

37_

الخصائص: ابن جني، تحقيق محمد علي النجار، مطبعة دار الكتب المصرية، الطبعة الثانية 1371 هـ/1952م.

38_

الدرر الكامنة: ابن حجر، تحقيق محمد سيد جاد الحق.

39_

الدرّ المصون: السمين الحلبي، تحقيق د. أحمد الخراط، دار القلم، دمشق.

40_

شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.

41_

شرح أبيات سيبويه: ابن السيرافي، تحقيق د. محمد علي سلطاني، دار المأمون للتراث، دمشق 1979 م.

42_

شرح الأشموني مع الصبان، دار إحياء الكتب العربية.

43_

شرح جمل الزجاجي: ابن عصفور، تحقيق د. صاحب أبو جناح، 1400 هـ/ 1980 م. 44_ شرح الكافية: الرضي، بيروت.

45_

شرح الكافية الشافية: ابن مالك، تحقيق د. عبد المنعم هريدي، الطبعة الأولى 1402هـ/1982م.

46_

شرح اللمحة البدرية: ابن هشام. تحقيق د. هادي نهر.

47_

شرح المفصل: ابن يعيش، إدارة الطباعة المنيرية.

48_

فتح القدير: الشوكاني، دار الفكر- بيروت.

49_

الكتاب: سيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

50_

الكشاف: الزمخشري، مطبعة الحلبي.

51_

كشف الظنون: حاجي خليفة- بيروت.

52_

مجلة البحوث الإسلامية، تصدرها الرئاسة العامة لإدارات البحوث، في الرياض العدد 25 لسنة 1409 هـ.

53_

مسألة في كلمة الشهادة: الزمخشري، مخطوطة برلين.

54_

المسائل المنثورة: أبو علي الفارسيّ، تحقيق مصطفى الحدري، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق.

55_

المساعد على تسهيل الفوائد: ابن عقيل، تحقيق د. محمد كامل بركات، الطبعة الأولى، منشورات جامعة أم القرى.

ص: 84

56_

معاني القرآن وإعرابه: الزجاج، تحقيق د. عبد الجليل شلبي، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 08 14 هـ/1988م.

57_

معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة- بيروت.

58_

معنى لا إله إلا الله: الزركشي، تحقيق علي محي الدين القرة داغي، دار الإصلاح، القاهرة.

59_

مغني اللبيب: ابن هشام. تحقيق د. مازن المبارك وزميله، دمشق، الطبعة الأولى 1384 هـ/1964م.

60_

المقتصد في شرح الإيضاح: عبد القاهر الجرجاني، تحقيق د. كاظم بحر المرجان، 1982 م.

61-

النكت في تفسير كتاب سيبويه: الأعلم الشنتمري، تحقيق زهير سلطان، الكويت 1407هـ/ 1987م.

62-

همع الهوامع: السيوطي، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، دار البحوث العلمية- الكويت.

ص: 85

انتشار الإسلام

بالفتوحات الإسلامية زمن الراشدين

بقلم الدكتور جميل عبد الله محمد المصري

أستاذ مشارك بكلية الدعوة وأصول الدين

الحمد لله على نعمه التي لا تُحصى، وعطائه الذي لا يستقصى، الحمد له سبحانه وتعالى أولاً وأخراً الذي أتم نعمه على البشرية بالإِسلام، وجعله هو الدين. وهو القائل جل وعلا:

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) .

وصلى الله على سيدنا محمد الأمين الذي قام بعبء الدعوة، وعلمها المسلمين منهجاً، قولاً وعملاً وأسلوباً، صلى الله عليه وعلى آله، ورضي الله عن أصحابه البررة وعن تابعيهم وتابعي تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

فإني أسأل الله سبحانه أن يجعل من بحثي هذا لبنة في بناء توضيح دعوة الإسلام وانتشارها بين الأمم التي أظلتها راية الإسلام في الفتوحات الإسلامية زمن الراشدين، وتوضيح الصلة الوثيقة بين الدعوة والتاريخ الإسلامي، حيث أن تاريخ الإسلام هو تاريخ هذه الدعوة بالدرجة الأولى.

وعهد الخلفاء الراشدين (11-40 هـ) هو أفضل عهود الدعوة الإسلامية بعد عهد النبوة، فقد نهلوا من مدرسة القرآن الكريم، مدرسة النبوة، فاتضحت لهم مهمتهم في تبليغ الدعوة، فكانوا الأسوة الحسنة للدعاة إلى الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريقتهم حجة. قال صلى الله عليه وسلم:

"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "(2)(2) .

وجاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال:

"كيف ترون القوم صنعوا حين فقدوا نبيهم، وأرهقتهم صلاتهم".

قلنا: الله ورسوله أعلم.

(1) سورة فصلت الآية: 33.

(2)

رواه أبو داود رقم 4607، والترمذي رقم 2678 وقال عنه حديث حسن صحيح. وابن ماجة رقم 42، وأخرجه الإمام أحمد.

ص: 86

قال: "أليس فيهم أبو بكر وعمر، إن يًطيعوهما فقد رشدوا، ورشدت أمتهم، وإن يعصوهما، فقد غووا، وغوت أمتهم". قالها ثلاثاً (1) .

وقد برزت في عهد هؤلاء الخلفاء ذاتية الأمة الإسلامية بوضوح، على أسس متينة قويمة من العقيدة والشريعة التي جاء بها الإسلام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. واتضحت فيه مهمة الأمة المسلمة في تبليغ الدعوة، وإخراج الناس من ظلم العباد إلى عدل الإسلام، ومن ظلام الشرك إلى عبادة الله وحده.

عالمية الدعوة الإسلامية:

اتّسمَ الإسلام بالطابع العلمي منذ نزول أول آية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء {اقْرَأ} فهي دعوة آمرة إلى الثقافة، إلى العلم، إلى التفكير، إلى البحث المستفيض في ملكوت الله، في السماء والأرض، في الجبال، في كل ما خلق الله تعالى من كائنات صغرت أم كبرت. دعوة ذات نظرة كلية شاملة إلى الكون، والإنسان، والحياة، وما قبل الحياة وما بعدها.

وتتابعت بعدها الآيات المحكمات، يلقيها جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، يتنزل بها من لدن حكيم خبير، من خالق السماوات والأرض، فيعيها محمد صلى الله عليه وسلم وعياً كاملا، ويبلغها بأمانة وقوة، وإخلاص. والآيات تبين- والدعوة لم تزل في مكة لم تخرج عن نطاقها- أن الدعوة عالمية، ليست محدودة بشعب من الشعوب، ولا مكان دون مكان، ولا بزمان دون زمان، دعوة للبشر عامة، ولعموم الأزمنة والأمكنة، حيث أن محمداً- هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وبه تم الإسلام، وتأكد ذلك حين صلى بالأنبياء إماماً في صلاة جامعة ببيت المقدس ليلة إسرائه، وتأكدت بذلك وحدة الرسالات، وببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم تم بناء الإسلام.

ومن الآيات المكية التي أكدت على عالمية الدعوة:

قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (2) .

(1) ابن تيميه_ منهاج السنة_ 3/160.

(2)

سورة ص الآية: 87.

ص: 87

وقوله: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (1) .

وقوله سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (2) .

وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (3) .

وقوله جلّ وعلا: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (4) .

وكانت المدينة المنورة هي أول فتح إسلامي مجيد، فتحت قلبها بالدعوة، وشرفت بهذا الاسم- المدينة. واختصت به. فاستقبله المهاجرين، ونصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتضنت الدعوة، وأضحت نقطة ارتكاز، انطلقت منها الدعوة بعد أن تكونت فيها أول حكومة إسلامية، برئاسة محمد صلى الله عليه وسلم، وأسلمت له قيادها، فطبق أحكام الإسلام في الداخل، وقامت فيها حياة إسلامية كاملة، وحملت الدعوة إلى خارجها بالجهاد في سبيل الله.

وقد بُنِيَت الدولة الإسلامية على أساس العقيدة الإسلامية، وعلى أساس الآيات التي استمرت تتنزل منجمة عام الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، إلى أن تم هذا الدين في السنة العاشرة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (5) .

وتخطت دولة الإسلام منذ قيامها الحدود الأرضية، والحواجز الجنسية، والعرقية، واللونية، وترفعت على جميع الروابط الأرضية، وجعلت أساس التفاضل التقوى، استجابة لقوله سبحانه وتعالى:

(1) سورة يس الآيتان: 69،70.

(2)

سورة الفرقان الآية: 1.

(3)

سورة سبأ الآية: 28.

(4)

سورة الأعراف الآية: 158.

(5)

سورة المائدة الآية: 3. انظر: ابن كثير_ البداية والنهاية 5/177.

ص: 88

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) .

وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ الرائع في حجة الوداع حتى تهتديَ أمته بهديه

فقال:

"

إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليسر لعربي فضل على عجمي، ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى" (2) .

الجهاد من وسائل تبليغ الدعوة ونشرها:

وفرض الله سبحانه وتعالى الجهاد على المسلمين من أجل تبليغ الدعوة، وتم هذا الفرض على مراحل بدأت قبل وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في هجرته، وبالجهاد تمت الفتوحات الإسلامية.

وقد جاءت أدلة الجهاد عامة ومطلقة، تشمل الحرب الدفاعية، ومبادأة العدو بالقتال، والحرب المحدودة، وغير المحدودة. وهدفه إزالة الحواجز وتخطّي العقبات التي تعترض طريق تبليغ الدعوة:

إلى دفع الظلم ورد كيد الظالمين في قوله تعالى:

{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ

} (3) .

وإلى رد الاعتداء في قوله سبحانه:

{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (4) .

وإلى نجدة المستضعفين في الأرض، في قوله سبحانه:

(1) سورة الحجرات الآية: 13.

(2)

انظر: جميل المصري_ تاريخ الدعوة 229.

(3)

سورة الحج الآية: 39.

(4)

سورة البقرة الآية: 190.

ص: 89

{وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (1) .

وإلى حماية الدين والتمكين من التوحيد في قوله جلّ وعلا:

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} (2) .

فالجهاد في سبيل الله ليست غايته حمل الناس على الإِسلام، وإكراههم على اعتناقه، وليس لاستعمار الشعوب ونهبها، واستغلال خيراتها واستعباد أفرادها وإذلالهم، إنما هو فرض لمصلحة البشر، ولفائدة المجتمعات لا فساح المجالس لتوحيد الله سبحانه وعبادته، وتكوين مجتمع الخير والعدل، بإزالة العقبات والحواجز التي تحول بين الناس وإبلاغهم دعوة الإسلام.

قال تعالى:

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (3) .

والقتال في سبيل الله هو جهاد ليكون الدين كله لله وحده، ولتكون كلمة الله هي العليا. وقد ورد تعبير "في سبيل الله"مرتبطاً بالجهاد والقتال اثنتين وثلاثين مرة في القرآن الكريم، ولا يكاد أمر بالقتال يخلو من هذا التعبير في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.

الرسول صلى الله عليه وسلم وضع خطة الفتوحات لنشر الإسلام:

(1) سورة النساء الآية: 75.

(2)

سورة البقرة الآية: 193.

(3)

سورة الحج الآية: 41

ص: 90

قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة بتبليغ الدعوة بالطرق والوسائل المتاحة له، وكان يتصل بالقبائل، ويحضر الأسواق، ويدعو الزعماء لنصرته، إلى أن كانت بيعة العقبة الأولى في السنة الثانية عشرة من البعثة النبوية، وبيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية مع أهل المدينة، وتكونت دولة الإسلام في المدينة، فقام بعبء الجهاد قي سبيل الله، لتبليغ الدعوة، إلى جانب إرسال الكتب والرسل إلى من كان يعاصره من الملوك، والأمراء، والقادة، والزعماء.. واتضحت معالم هذه الوسيلة الأخيرة بعد هدنة الحديبية عام 6 هـ (1) . وهذه الكتب واضحة الدلالة على تطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم عملياً لما تردد في القرآن الكريم من دعوة الناس جميعاً لاعتناق الإسلام.

وقد حاول كثير من المستشرقين إنكار بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، متجاوزين ما ورد من آيات بينات تلك التي وردت في القرآن الكريم في الفترة المكية، والفترة المدنية، ومتجاوزين إجماع المسلمين على هذا الأمر، وجعلوا من أنفسهم حكماً على تاريخ الإسلام وتاريخ الدعوة، فقاموا بدراسات متجنّية على الإسلام والمسلمين، وعلى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، بل وساخرة أحياناً (2) . في حين لم ينكر بعضهم ذلك.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم قام فعلاً بتبليغ الدعوة ونشرها عن طريق الجهاد، وغزواته وسراياه كثيرة. وتظهر في بعضها خطته في نشر الدين خارج شبه الجزيرة العربية. وهذه الخطة حاول معظم المستشرقين التشكيك فيها كعادتهم حتى الذين لم ينكروا بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة. رغم وضوح هذه الخطة، ورغم استمرارها في عهد خلفائه الراشدين بعد التحاقه بالرفيق الأعلى.

(1) انظر: ابن هشام_ السيرة 1/650، الطبري_ تاريخ 2/644_655.

(2)

مثل "برنارد لويس"في كتابه: السياسة والحرب في الإسلام.

ص: 91

فقد بعث صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا إلى ذات أتلاح على مشارف بلاد الشام، يدعون إلى الإسلام، فاستشهدوا جميعاً، لم ينجُ إلا رئيسهم كعب الذي عاد جريحاً.

ووجه صلى الله عليه وسلم سرية مؤتة لتأديب القبائل الغادرة، ولتكون طليعة حملة أكبر لفتح الشام عام 8 هـ قبل فتح مكة وقد تصدى لهذه السرية الروم البيزنطيون بقبائل العرب المتنصرة، وعادت دون أن تحقق نجاحاً عسكرياً، ولكنها أدت دوراً في تبليغ الدعوة، فوصلت الدعوة حدود الشام، وبدأت تمتد بين القبائل الخاضعة للروم، قبل أن تعمّ شبه الجزيرة العربية.

ووجه صلى الله عليه وسلم حملة بقيادة عمرو بن العاص في المهاجرين الأولين إلى الشمال، وفيهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، قبل أن يتوجه لفتح مكة عام 8 هـ. فوطيء عمرو أرض طيء، وبلي، وعذرة، وبلقين في غزوة ذات السلاسل (1) . وكلها قبائل كانت تخضع للروم البيزنطيين بشكل أو بآخر.

وبعد غزوة حنين ورجوعه من حصار الطائف قاد صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك بنفسه عَام 9 هـ. وكانت تظاهرة إسلامية كبيرة، وصل عدد الجيش الإسلامي فيها ثلاثين ألفاً، وهو أكبر جيش شهدته الجزيرة العربية حتى ذلك التاريخ، وقد تنافس المسلمون في تجهيزه، في النفقة، وتنافسوا في النفير، في زمن عسرة، وشدّة الحرّ، فسمي الجيش بـ "جيش العسرة". وكانت اختبارا وفقاً لأمة الجهاد بالفعل، كشفت بوضوح خطة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمل على تبليغ الدعوة ونشرها بطريق الجهاد والفتح، ووضعت الأسس التي ستسير عليها الفتوحات الإسلامية زمن الراشدين والأمويين، وما يجب أن تسير عليه الأمة المسلمة في جميع عصورها.

(1) الواقدي- المغاري2/ 771، المقريزي - إمتاع الأسماع 1/3 5 3.

ص: 92

ومع أن المسلمين لم يصطدموا بالروم البيزنطيين في غزوة تبوك، فإنها كرّست هيبة المسلمين في الجهات المحاذية للروم أولاّ، واخترقت الدعوة بلاد الشام ثانياً، فأسلم بعض عربها كفرْوة بن عمرو الجذامي، الذي صلبه الروم بسبب ذلك. وقدمت بعض وفودهم كوفد الداريين، وعلى رأسهم تميم الداري رضي الله عنه.

واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يبن للأمة المسلمة خطة الفتح، وطرق تبليغ الدعوة خارج شبه الجزيرة، فأمر بتجهيز جيش أسامة وأمر بإنفاذه (أثناء مرضه) إلى الشام.

وبهذا يتضح أن الفتوحات الإسلامية لم تأت وليدة الصدف، ولم تكن خطة الفتح ارتجالية، وإنما كانت وفق خطة واضحة، راشدة، واضحة أسسها النبي صلى الله عليه وسلم وسار الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم من بعده على منهجها. فأنفذ أبو بكر بعث أسامة إلى الشام رغم ظروف المدينة الحرجة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بسبب ردة العرب ردة عامة أو خاصة، وتطلع القوى المعادية للدعوة الإسلامية إلى القضاء على الإسلام ودولته، فكانت معارضة بعض الصحابة في إنفاذ جيش أَسامة.

وقام أبو بكر رضي الله عنه بتوجيه عبادة بن الصامت رضي الله عنه إلى "هرقل"إمبراطور الروم يدعوه إلى الإسلام، أو الجزية، أو يؤذنه بحرب، فقام عبادة رضي الله عنه بمهمته.

كل ذلك ليؤكد أبو بكر للمسلمين خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتوحات عملياً.

ولما تم القضاء على حركة الردة قاما أبو بكر رضي الله عنه مباشرة بتوجيه الجيوش الإسلامية إلى العراق والشام، وفي وقت واحد، أن قام بمواجهة الدولتين الكبيرتين في العالم آنذاك- دولة فارس الكسروية ودولة الروم البيزنطيين القيصرية- دون أن يحسب حسابا للقوى المادية، من حيث العَدد والعُدد، وذلك قياماً لما يطلبه الإسلام من تبليغ الدعوة، واتباعاً لأساليب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنفيذا لخطته. فتوجهت قوات الإسلام، للفتح، تحقيقاً لأهداف فرضية الجهاد في سبيل الله.

ص: 93

المبشرات من عوامل القوة النفسية التي سهلت الفتح:

وكانت هذه القوات الإسلامية تتحرك وهي على ثقة تامة بالنصر، فقد بشرهم الله سبحانه وتعالى بالنصر في كثير من الآيات الكريمة، في مثل قوله تعالى:

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1) .

وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح اليمن، والشام، والمشرق، والمغرب، حين كانوا في أشد حالات الضيق في غزوة الأحزاب (يوم الخندق) عام5 هـ.

وعندما وَفدَ تميم الداري إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه حبرى، وبيت عينون ومسجد إبراهيم علية السلام (حبرون) ، وكتب له بذلك كتاباً. وهذه من أرض الشام التي كانت تخضع لحكم الدولة البيزنطية، فهي بشارة بفتح الشام.

وقد حرم الله سبحانه وتعالى على الروم أن يملكوا بلاد الشام برمتها إلى أخر الدهر، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل"(2) .

وهذه بشارة بفتح الشام في العراق وبلاد فارس.

ٍوعندما وفد عدي بن حاتم رضي الله عنه بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح العملاق والمشرق قائلا (عن عدي بن حاتم) :

"

إني أعلم الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة لهم، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ " قلت:"لم أرها، وقد سمعت بها".

(1) سورة التوبة الآية:33.

(2)

ابن كثير_ البداية والنهاية 7/59 ويعلق قائلا: (وقد وقع ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه، وسيكون ما أخبر به جزمًا، لا يعود ملك القياصرة إلى الشام أبداً، لأن قيصر علم جنس عند العرب، يُطلق على كل من ملك الشام مع بلاد الروم، فهذا لا يعود لهم أبداً) .

ص: 94

قال: "فالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر، حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز".

قال: قلت: "كنور ابن هرمز؟! "

قال: "نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد

".

وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بفتح مصر في قوله صلى الله عليه وسلم:

"إنكم ستفتحون مصرِ، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماًَ- أو قال: ذمة وصهراً"(1) .

يشير بذلك إلى هاجر أم إسماعيل عليه السلام، وإلى مارية القبطية أم إبراهيم ابنه.

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً؟ فقال:

"مدينة هرقل"(2) إشارة إلى القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، والمدينة الأخرى يقصد بها "روما"مركز البابوية في إيطاليا.

(1) صحيح مسلم _ في كتاب الفضائل _ باب وصية النبي بأهل مصر، فتح الباري 6/102، البلاذري_ فتوح البلدان 220.

(2)

رواه عن ابن عمر الدرامي، وأحمد وابن أبي شيبة، والحاكم، والمقدسي.

وهذه البشرى جعلت المسلمين يجدون لفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في عهد معاوية رضي الله عنه في حرب السنوات السبع مع الروم 51_58هـ. وحاصروها في زمن سليمان بن عبد الملك عام 98هـ. بقيادة مسلمة بن عبد الملك إلى أن أمر عمر بن عبد العزيز بالانسحاب عام 99هـ. لأسباب عديدة ليس هنا موضع تفاصيلها.

وقد وفق المسلمون في فتحها على يد محمد الفاتح العثماني عام 857هـ/1453م. واتخذها العثمانيون عاصمة لدولتهم باسم "استنبول"أو الآستانة.

أما المدينة الثانية "روما"مركز البابوية الكاتوليكية في إيطاليا فقد نجح المسلمون في حصارها في فترة من فترات التاريخ في القرن الثالث الهجري. حتى اضطر البابا أن يدفع مثاقيل كثيرة من الذهب لقاء انسحابهم منها. فرجعوا عنها. وبقيت البشرى_ بشرى رسول صلى الله عليه وسلم_ بفتحها بإذن الله.

ص: 95

وهذه المبشرات ليست تنبؤات بشرية تصيب مرة، وتخطيء مرات ولكنها مبشرات يقينية، صدرت من رسولِ الله الذيَ لا ينطق عن الهوى:{إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} (1) - وقد أضافت دليلاً صادقاً على وجود خطة منظمة للفتح، وعلى عدم ارتجالية الفتوحات، دفعت المسلمين لفتح الأمصار زمن الراشدين والأمويين، وهم على يقين من تحقيق ذلك.

وكان القادة يُرَغّبون جند الإسلام في الجهاد، ويعلمونهم ما وعد الله نبيه من النصر، وإظهار دينه.

وقد تجاهل المستشرقون هذه الأخبار الثابتة من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله، وصوروا الفتوحات الإسلامية على أنها حركة ارتجالية، هدفها القوي رغبة أبي بكر في إشغال العرب عن أنفسهم، وخصوماتهم، وإغرائهم بالغنائم، والمنافع المادية. وأقوالهم تلك تدحضها الحقائق الثابتة، كما وقعوا في التناقض كعادتهم عند تناولهم أحداث التاريخ الإسلامي، والحضارة الإسلامية.

وكمثال على ذلك يقول "بروكلمان"متلاعباً بالألفاظ:

"ما في مقدور أبي بكر أن ينفذ خطة النبي الأخيرة - تلك التي تفضي بنشر الإيمان في ما وراء حدود الوطن الأم، ذلك بأنه كان عليه أن يوجد فرصة من النشاط الخارجي لهذه القوى التي كانت في الماضي على استعداد دائم لأن تتفانى في منازعَات لا نهاية لها".

(1) سورة النجم الآية: 3.

ص: 96

وعلى العموم فقد كانت هناك خطة واضحة للفتوحات الإسلامية من أجل تبليغ الدعوة، وهي خطة راشدة مستنيرة حتى أن أبا بكر رضي الله عنه منع المرتدين من الاشتراك في الفتوحات الأولى. وهذه الخطة تُقدم إذا كان الإقدام حزماً ومناسباً، وتتأنى إذا كان التأني خيراً للمسلمين وللشعوب غير المسلمة من أهل البلاد. فتردّد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الانسياح- في بلاد فارس، وفي فتح مصر (إن صح) ، وفي فتح الهند، وفي فتح إفريقيا- لم يكن مبعثه عدم الرغبة في فتح هذه البلاد أمام دعوة الإسلام، ولكنه من ضمن خطة، لتثبيت المكاسب الإسلامية، والتمكن من إقامة الإسلام في الأراضي المفتوحة، واستنهاض طاقات الشعوب التي أظلتها رايته، وتجميعها، ثم توجيهها الوجهة الصالحة، ومن أجل الدعوة، حتى تصبح تلك الأقطار نقاط ارتكاز جديدة، تنطلق منها الدعوة وتمتد، إلى أقطار أخرى، تسهم فيها شعوب تلك الأقطار بدلاً من أن تكون شوكة في جنب المجاهدين، أو خنجراً يوجه إلى ظهورهم في خلفهم.

جند الإسلام وقادتهم دعاة:

الجيش الإسلامي داعية بسلوك قادته، وأفراده، وعلمائه، في أقوالهم وأعمالهم. تدفعهم العقيدة للجهاد، والرغبة في إنقاذ الأمم والأفراد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وقد تميزوا بالتمسك بالعقيدة، والتزموا بأحكام دينهم. فكان الخلفاء والقادة يوصون جندهم بالاستعانة بالله، والتقوى، وإيثار أمر الآخرة على الدنيا، والإخلاص في الجهاد، وإرادة الله في العمل، والابتعاد عن الذنوب. فكان عمل القادة والجند تبليغ الدعوة، وتميزت مواقفهم بأنها أنبل المواقف التي عرفها التاريخ العالمي.

ص: 97

فكان القادة على رأس جندهم، يتلقون الصدمات الأولى في معارك الجهاد، فاستشهد كثير منهم مثل: المثنى بن حارثة الشيباني، وأبو عبيد الثقفي الذي اندفع لنيل الشهادة مع أولاده الأربعة يوم الجسر مع سبعة من قادة المسلمين، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الأزور، والنعمان بن مقرن رضي الله عنهم جميعاً.

والقادة الذين ضربوا أروع أمثلة الجهاد في سبيل الله كثير عددهم مثل:

أبو عبيدة عامر بن الجراح- أمين الأمة- وشرحبيل بن حسنة، ومعاذ بن جبل، وحذيفة ابن اليمان، وعمرو بن العاص، والزبير بن العوام، والقعقاع بن عمرو التميمي، وعاصم بن عمرو التميمي، ويزيد بن أبي سفيان، وعياض بن غنم، وهاشم المرقال، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن عامر وغيرهم كثير رضي الله عنهم جميعاً من القادة الذين أنجبتهم مدرسة الإسلام، وربوا على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صحابته. فضربوا أعظم الأمثلة في النبل، والشجاعة، والوقار، والتقوى، فكان أثرهم كبيرًا في عوامل النصر، وفي تبليغ الدعوة في البلاد المفتوحة.

وكان من السنة التي سن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد معركة بدر الكبرى عام 2 هـ- أولى معارك الإسلام الحاسمة- أن تقرأ سوره الجهاد عند اللقاء، وهي سورة الأنفال ليبقى تعلق الجند بالله، والثقة بنصر الله.

ولما فتح خالد بن الوليد الحيرة عام 12 هـ صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيهن.

ص: 98

وبعد معركة الفراض عام 12 هـ مع الفرس والعرب المتنصرة في العراق- وكانت من أشد معارك الأيام- وعودة الجند الإسلامي إلى الحيرة أمر خالد بن الوليد عاصم بن عمرو التميمي أن يسير بالجيش، وأظهر أنه في الساقة، وأدى فريضة الحج، شاكراً أنعم الله سبحانه. وكانت غيبته عن الجيش يسيرة، فما توافى آخر الجيش إلى الحيرة، حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه، فقدما ولم يدرِ أحد بذلك، وكذلك لم يعلم أبو بكر رحمه الله إلا بعد، فغضب عليه، وأمره ألاّ يعود لما فعل.

ولما افتتح سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المدائن- عاصمة الفرس- دخل إيوان كسرى، وصلى صلاة الفتح ثماني ركعات بتسليمة واحدة. وقرأ:

{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} (1) .

ولما افتتح عبد الله بن عامر خراسان عام 31 هـ أحرم من نيسابور وأدى فريضة الحج شكراً لله سبحانه وتعالى وقد لامه عثمان رضي الله عنه على ذلك.

وكان هؤلاء القادة يسيرون خلف جندهم في وقت الأمن والعودة، يرفقون بهم، ويحملون الكلّ ويعينون الضعيف.

واقرأ ما قاله رسل "المقوقس"إلى عمرو بن العاص بعد أن لبثوا يومين في جيش المسلمين- بعد أن عادوا إليه:

"رأينا قوماً، الموت أحبّ إليهم من الحياة، والتواضع أحبّ إليهم من الرفعة ليس لأحد منهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، جلوسهم على التراب، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف كبيرهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم".

وقد وصفهم أعداؤهم بأنهم:

(1) سورة الدخان الآيات: 25 -28.

ص: 99

"رهبان في الليل، فرسان النهار، لو حدثك جليسك حديثاً ما فهمته، لما عَلَا من أصواتهم بالقرآن والذكر، يصومون النهار، ويقومون الليل، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصحون بينهم، يعفّون عن المغانم، ولا يستحلًونها إلاّ محلّها".

وهذه الصفات التي تمتع بها القادة والجند استهوت أهل البلاد المفتوحة، وكانت من أهم أسباب تسارع الناس إلى اعتناق الإسلام.

تطبيق مبادئ الحرب في الإسلام:

طبق المسلمون قواعد الإسلام في حربهم، فكانوا يعرضون على أعدائهم أحد أمرين قبل القتال: الإسلام، أو الجزية:

فمن أجاب للإسلام كان أخاً للمسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن أبى وأجاب للجزية قبل الحرب، فليس عليه ذل أو صغار، ويبقى في أرضه مكرّماَ في ذمة المسلمين، أماّ من حارب حتى رضخ للجزية فهو الصّغار، الذي هو الخضوع لأحكام الإسلام. قال الإمام الشافعي:

وسمعت عدداً من أهل العلم يقولون:

"إن الصّغار أن يجريَ عليهم حكم الإسلام ".

وهذا محتوىَ الآية الكريمة في قوله تعالى:

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) .

فكن أول ما يبتدئ به القادة المسلمون: الدعوة إلى الإسلام. والأمثلة على ذلك كثيرة أذكر منها:

- دعوة خالد بن الوليد لأهل الحيرة، عندما خرج إليه أشرافهم.

فقال لهم: "أدعوكم إلى الله، وإلى الإسلام

".

- وعندما واجه خالد بن الوليد "جرجة"أحد قادة الروم مبارزاً إياه يوم اليرموك، دعاه إلى الإسلام، وبدت له محاسنه، وأكد له:

"أن أجر من يدخل الدين، مثل السابقين، وأفضل".

فكان أن أسلم "جرجة"وقاتل قومه، واستشهد مع المسلمين يوم اليرموك.

(1) سورة التوبة الآية: 29.

ص: 100

_ وتظهر الدعوة إلى الإسلام بوضوح في المفاوضات التي كانت تسبق المعارك الحاسمة كالقادسية واليرموك، وأجنادين، ونهاوند، وجلولاء، وبابليون

- ففي القادسية: ترددت الرسل بين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، و"رستم"قائد الفرس. وكان "رستم"قد طلب من سعد أن يوجه إليه بعض أصحابه فأرسل إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فقصد سرير "رستم"وكان يجلس عليه، وهو من الذهب، وقد زيّن مجلسه بالفرش المنسوج بالذهب، ولبس على رأسه التاج وأقيمت الفيلة حول المكان- وأراد المغيرة أن يجلس على سريره معه، فمنعه الأساورة، وبعد مداولات قال المغيرة:

"إن الله بعث إلينا نبيه صلى الله عليه وسلم، فسعدنا بإجابته، واتباعه وأمرنا بجهاد من خالف ديننا، حتى يعطوا الجزية، ونحن ندعوك إلى عبادة الله وحده، والإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم، فإن فعلت، وإلا فالسيف بيننا وبينكم".

ولما قال "رستم":

"والشمس والقمر، لا يرتفع الضحى غداً حتى نقتلكم أجمعين"، قال المغيرة:"لا حول ولا قوة إلا بالله"وانصرف عنه.

وكان "رستم"قد استمع إلى عدد من رسل المسلمين، وبينوا له أهداف الجهاد، فأعجب بالمسلمين، وبإجاباتهم السديدة حتى قال لأصحابه:

"انظروا فإن هؤلاء لا يخلو أمرهم من أن يكون صدقاً، أو كذباً، فإن كانوا كاذبين، فإن قوماً يحفظون أسرارهم هذا الحفظ، ولايختلفون في شيء، وقد تعاهدوا على كتمان سرهم هذا التعاقد، بحيث لا يظهر أحد منهم سرهم، لقوم في غاية الشدّة والقوة، وإن كانوا صادقين، فهؤلاء لا يقف حذاءهم أحد".

_ وفي مفاوضات حصن بابليون عام 20 هـ، استقبل عمرو بن العاص، رسل المقوقس في محاولة للتوصل إلى الصلح، فأبقاهم عنده يومين- ليشاهدوا حياة المسلمين الإسلامية، وهي طريقة ناجحة لتبليغ الدعوة، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الوفود- وبعد ذلك قال لهم عمرو:

ص: 101

"ليس بيننا وبينكم إلا إحدى خصال ثلاث: الدخول في الإِسلام، فتكونون إخواننا، ولكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإما القتال، حتى يحكما الله بيننا وبينكم، وهو أحكم الحاكمين".

الغنائم نتيجة وليست سبباً في الفتوحات:

الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده جميعاً.

قال تعالى:

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (1) .

وقوله سبحانه وتعالى:

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .

ورابطة الإسلام تعلو وتسمو على الروابط القبلية، والإقليمية، والوطنية، والقومية. قال تعالى:

{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (3) .

واستنفر الإسلام المسلمين لتبليغ دعوته، وأمرهم أن ينفروا خفافاً وثقالاً. قال تعالى:

{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) .

فقام المسلمون بذلك، وقدموا أموالهم وأنفسهم، وسارعوا إلى الجهاد والفتح، وحملوا الدعوة وبلغوها.

عن صفوان بن عمرو قال:

"كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه، من أهل دمشق، على راحلته، يريد الغزو. قلت:

"يا عم، أنت معذور عند الله".

فرفع حاجبه وقال:

"يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا من أحبه الله ابتلاه".

وعن الزهري قال:

(1) سورة آل عمران الآية: 19.

(2)

سورة آل عمران الآية: 5 8.

(3)

سورة التوبة الآية: 24.

(4)

سورة التوبة الآية: 41.

ص: 102

"خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له: إنك عليل، صاحب عذر.

فقال: "استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن عجزت عن الجهاد، كثّرت السواد، وحفظت المتاع".

وكان ابن أم مكتوم رضي الله عنه أعمى وأنزلت فيه {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فكان بعدُ يغزُ ويقول:

"ادفعوا إليّ اللواء، فإني أعمى لا أستطيع أن أفرّ، وأقيموني بين الصفين"

وحضر القادسية ومعه راية سوداء وعليه درع. ويقال انه استشهد يوم القادسية.

فكان توجه الفاتحين إرضاء لله سبحانه وتعالى، وابتعدوا من المصالح الدنيوية، واصطدموا بالدولتين الكبريات فارس، والروم، دون أن يكون هناك نسبة بالمقاييس المادية بين الفاتحين والدولتين، لا في العدد ولا في العدة، فما من معركة خاضها المسلمون إلا وواجهوا قوات أكثر عدداً وعدة، وكانت كل من الدولتين تحشد عدداً كبيراً من الجند يدل على قوتها، لا على ضعفها. وإن من يقدم حياته من أجل عقيدته لا يفكر بالغنائم، فكانت الغنيمة نتيجة للفتوحات وليست سبباً فيها، فنال المسلمون خيري الدنيا والآخرة، وكانوا يؤثرون الشهادة على الغنيمة، وعلى الحياة. ولا يعني هذا أن جميع الجند كانوا يحملون هذه الروح، بل وُجد بين المسلمين من اندفع من أجل الغنيمة. وهؤلاء لا يعتَدّ بهما، وليسوا سبباً في الفتوحات، ولا يخلو من أمثالهم زمن، حتى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، وحصار الطائف، وغزوة تبوك وغيرها، ومن البديهي أن ذلك لا يمثل القيادة الفكرية التي كانت تدفع المسلمين للفتوحات، وتبنّاها الخلفاء والقادة والجند، ونفّذها الجند المسلم. كما أنه لا يمثل بحال من الأحوال وجهة نظر الأمة المسلمة، ورأيها العام. ولذلك فقد تعرض أمثال هؤلاء للسخرية اللاذعة، كقول الشاعر:

فلا جنة الفردوس أراك تبتغي

ولكن دعاك الخبز أحسب والتمر

وهذا تحقير لمن جعل همه المغانم، لا الجهاد في سبيل الله، الذي يفضي إلى الجنة.

ص: 103

ولهذا فقد تميز الجند الإسلامي بالحرص على نيل الشهادة، والعفّ عن المغانم، وعدم استحلالها إلا محلها، تشهد بذلك النصوص الصريحة الكثيرة، وشهد بذلك أعداؤهم.

فنجد أبا بكر رضي الله عنه يكتب إلى قادته باستنفار من قاتل أهل الردة، ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم ألا يسمحوا لأحد أرتد بالغزو معهم، فلم يشترك أن ارتد في الفتوحات إلا بعد أن قطعت شوطاً كبيراً زمن عمر رضي الله عنه، الذي سمح لهم بالمشاركة في الجهاد، ولم يسمح لهم بتولي قيادة. وبذلك تنهار فكرة اشغال أبي بكر رضي الله عنه للعرب في الفتوحات الإسلامية.

ولما افتتحت المدائن- طيسفون- عاصمة الفرس عام 16 هـ، لم يأخذ أحد من الجيش لنفسه شيئاً مما وقع في يده، وإنما أدّاها بتمامها إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ولما رأى سعد أمانة رجاله قال:

"والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر، لقلت أنها على فعيل أهل بدر".

ولما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقدار ما وصل إليه من أموال إلى المدينة، قال:

"إن جيشاً أدّى هذا لذو أمانة".

فأجابه علي رضي الله عنه:

"عففت فعفّت الرعية، ولو رتعت لرتعوا".

ولما انسحب المسلمون من حمص في خطة عسكرية محكمة لمواجهة القوات البيزنطية في اليرموك، أعادوا الجزية لأهل حمص، مخالفين كل ما يتوقعه الناس من جند ينسحب عن مدينة (إذ يعمل فيها الخراب والتدمير) ، فدهش أهلها، فقال لهم المسلمون:

"قد شغلنا عن نصرتكَم، والدفع عنكم، فأنتم على أمركم". فقالوا:

"لولايتكم وعَدلكم أحبّ إلينا مما كنا فيه أن من الظلم والغش".

ومنعوا الروم من دخول المدينة، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

ص: 104

ومما يلفت النظر ويذكر بفخر لحملة الإسلام الأول من القادة والجند، قلة أموالهم في العراق وخراسان والشام ومصر بالقياس إلى غيرهم. لأنهم كانوا لا يمدون يداً إلى أموال أهل البلاد المفتوحة، ولم ينصرفوا إلى شئون الكسب والمعاش انصرافاً تاماً، فقد جاهدوا في سبيل الله، ونصحوا ونصروا بأموالهم وأنفسهم، وهم في هذا حالة فِريدة في التاريخ العالمي. وأما الغنائم فكانت حلالاً لهم، فأخذوها وأكلوا منها، وكانت أوسمة من أوسمة الجهاد في سبيل الله، فليست غاية في ذاتها. فكانت عزتهم في إسلامهم.

اقرأ ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين غادر المدينة إلى بيت المقدس ليتسلمها من الروم:

"الحمد لله الذيَ أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، وحصّننا بالقرآن، ورحمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهدانا به من الضلالة وبصّرنا من الجهالة، ورفعنا به من الخمولة، وجمعنا به بعد الشتات والفرقة، وألف بين قلوبنا، ونصرنا على أعدائنا، ومكن لنا في البلاد، وجعلنا به إخواناً متحابين، فاحمدوا الله عباد الله! على هذه النعمة، وسلوه المزيد فيها والشكر عليها، فإن الله يزيد المستزيدين الراغبين ويتم نعمته على الشاكرين

".

ومن عوامل إقبال أهل البلاد المفتوحة على اعتناق الدعوة:

وتأتي على رأس هذه العوامل:

ص: 105

تمسك الفاتحين بعقيدتهم، وتطبيق أحكام الإسلام على أنفسهم، والتزِامهم بها، وحسن عرضهم لدعوتهم. فقد عرضوا الإسلام على أهل البلاد، سلوكا، وعملاً، وقولاً، فاعتنقه كثير من النصارى واليهود والمجوس وفي أعداد كثيرة، وحماسة كبيرة. وأقبلت عليه جميع العناصر التي أظلتها راية دولة الإسلام في الشام، والعراق، وفارس، ومصر، وبرقة، وتركستان، والمغرب. وفيهم العربي، والفارسي، والقبطي، والبربري، والتركي وغيرهم. وامتزجت هذه العناصر وكونت أمة واحدة هي أمة الإِسلام، وبلاداً هي دار الإسلام، ومملكة هي مملكة الإسلام، جمعتهم عقيدة تعالى على المصالح المادية الزائلة، والوطنية، والإقليمية، والقومية. فكان جند الإسلام دعاة يخرجون الناس من الظلمات إلى النور.

فلما فتح عمرو بن العاص الإسكندرية، خيّر الأسرى بأمر من الخليفة، فمن دخل الإسلام كان للمسلمين أخاً، وكانوا يكبّرون كلّما أسلم أسير مثل تكبيرة الفتح وأشدّ.

معاملة أهالي البلاد المفتوحة وفق أحكام الإِسلام:

وهذا من العوامل الهامة في إقبال الناس على اعتناق الإسلام، فاشتغل من بقي على دينه من أهل الذمة مطمئناً بالمهن، في ظل الحكم الإسلامي، فكادوا يحتكرون المهِن لانشغال المسلمين بالجهاد، وشئون الحكم، ورعاية شئون الناس. فاحترف اليهود مثلاً: الصياغة، ونسج الحرير، وصناعة الزجاج، وأدوات السفن. ونفذ النصارى إلى الوظائف الكتابية الإدارية في الدولة الإسلامية في الدواوين. وتركت لهم حرية تنظيم جماعاتهم.

وأقرّ المسلمون الناس في بلادهم، كما فعل خالد بن الوليد في العراق، إذ أقرّ الفلاحين، وأصبحت أرضهم لهم، بعد أن كانوا أقناناً عند الدهاقين (ملاك الأراضي من الفرس) ، وكما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بفلاحي "بهرسير" بعد أن دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فأقرهم على الجزية.

ص: 106

وألغى الإسلام الامتيازات الطبقية، تلك التي كانت تتمتعِ بها طوائف خاصة في البلاد المفتوحة، أيام الفرس والرومان، وأصبحت الأرض ملكاً عاما للأمة، ونظمت ضريبة الأرض الخراجية على أسس عادلة، مقدرة على كل وحدة مساحة.

وأصبحت جزية الرؤوس عينية على كل فرد.

وهذه الضرائب الخراج والجزية كانت بسيطة وتُجبى من أجل تحقيق المصالح العامة للأمة. مراعية مبدأ طاقة الناس ومقدار تحملهم.

وقد أعفى الناس من ضرائب المنازل، وأراضي المدن، والضرائب على المهن، والتجارة، وعلى الماشية. وأعفوا مما كان يؤخذ على الغلال لأغراض الكنائس، ومما كان يفرض على الأرض لمختلف الأغراض، كتطهير القنوات، والرسوم على النقل داخل البلاد، وغير ذلك. وأعفوا في بلاد فارس مما كان يطلبه رجال الدين المجوس من ضرائب أو تبرعات وما كان يُفرض عليهم في أوقات الحرب.

وبفضل الحكم الإسلامي ساد في الأقطار المفتوحة السلام، والأمن، فعمل الناس في النواحي التي كفلت لهم الرخاء، وحققوا تقدماً في مختلف النواحي العمرانية. واهتم ولاة المسلمين بالزراعة فحفروا الآبار، والأنهار بناحية البصرة، وكسكر، وأحيوا موات الأرض، وأكثروا سن تربية الماشية، واهتموا بإعمار البلاد.

وبالحكم الإسلامي تخلص أهل البلاد المفتوحة من أعظم بلاء كانوا يعانونه- وهو الاضطهاد الديني (1) ، الذي ساد في عهد دولتي فارس والروم، وتركت لهم حرية الاعتقاد. وأعفوا من الاشتراك في الحروب الداخلية والخارجية.

(1) انظر: أمثلة لهذا الاضطهاد: "بتلر"_ فتح العرب لمصر_ الفصل الثالث عشر 149، 162، 163، 166، و"أرنولد"_ الدعوة إلى الإسلام 53.

ص: 107

هذه المعاملة الحسنة كانت تنفيذاً لأمر الدين، واتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ففي الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهاجم عقائد اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا ًمن دون الله، يحرمون ويحلّون - كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بهما خيراً، ويزورهم، ويكرمهم، ويحسن إليهم، ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم، فاستقبل وفد نجران في مسجده وبحضرة المسلمين. وأجرى الصدقة على أهل بيت من اليهود، ورهن درعه عند أبي الشحن اليهودي، وكان بوسعه أن يقترض من أصحابه، ولكَنه أراد أن يعلم أمته، ووقف لجنازة يهودي مرت به. وكل هذه من وسائل الدعوة التي تستهوي القلوب.

وقد سار خلفاؤه صلى الله عليه وسلم على نهجه، وعلى هديه، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ويأمره بالترفق في جيش المسلمين، ولا ينس أثناء ذلك أن يوصي بأهل الذمة قائلا:

"ترفق بالمسلمين في سيرهم، ولا تجشّمهم عسيراً يتعبهم، ولا تقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم، والسفر لم ينقص من قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم، حامي الأنفس والكراع. وأقم بمن معك في كل جمعة يوما ًوليلة، حتى تكون لهم راحة، يحيون بها أنفسهم، ويربون أسلحتهم، وأمتعتهم، ونحّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق به، ولا يرزأ أحداً من أهلها شيء، فإن لهم حرمة وذمة، ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم، فتولوهم خيراً، ولا تنتصر على أهل الحرب بظلم أهل الصلح

".

ولما طعن أحد أهل الذمة (وهو فيروز الديلمي- أبو لؤلؤة المجوسي النصراني) عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالتآمر مع اليهود والنصارى، قال وهو في النزع الأخير:

"أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، أن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم".

ص: 108

وهذا كله طاعة لأمر الله سبحانه، فالذمي جار المسلم يواليه، ولا ينقص من حقه شيئاً، ولا يتدخل في شئونه التي له بها عهد، وله العدل، ظلمه حرام، واضطهاده حرام، وحرمانه من حقه حرام، له دينه، وللمسلم دينه، وعلى المسلم أن ينصره، ويمنعه، ويمنعه اضطهاده، بل وصل الإسلام إلى حدّ أنه أمر المسلم بأن يعمل على توفير الأمن للمشرك الخائف وحمايته، وإيصاله إلى مأمنه. قال تعالى:

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (1) .

وأوجب نصرة المعاهدين، ولم يوجب نصرة المسلم الذي ليس بينه وبين المسلمين ميثاق، قال تعالى:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاق} (2) .

وقد طبق المسلمون أحكام دينهم، فعاملوا أهل الذمة بما يوجبه الإسلام في معظم عهودهم، ولم يضيقوا عليهم حتى فيما يعتقده المسلمون حراماً، فسمحوا للنصارى بالخمر، والخنزير. قال الشافعي رحمه الله:

"وعلينا أن نمنع أهل الذمة، إذا كانوا معنا في الدار، وأموالهم، التي يحل لهم أن يتمولوها مما نمنع منه أنفسنا، وأموالنا، من عدوهم إن أرادوهم، أو ظلم ظالم لهم، وأن نستنقذهم من عدوهم لو أصابهم، وأموِالهم التي يحل لهم، فإذا قدرنا استنقذناهم، وما حل لهم ملكه، ولم نأخذ لهم خمراً ولا خنزيرا".

وقد ألَزم الإسلام أهل الذمة بواجبات مقابل هذه الحقوق، وتتلخص في: ترك ما فيه ضرر على المسلمين في مال أو نفس، وهي ثمانية أشياء.

(1) سورة التوبة الآية: 6.

(2)

سورة الأنفال الآية:72.

ص: 109

عدم الاجتماع على قتال المسلمين، وأن لا يزني أحدهم بمسلمة، ولا يصيبها باسم النكاح، ولا يفتن مسلم عن دينه، ولا يقطع عليه الطريق، ولا يؤوي للمشركين عيناً (أي جاسوساً) ، ولا يعاون على المسلمين بدلالة (أي يدل على عورة المسلمين بإخبارهم عدوهم بها) ، ولا يقتل مسلماً، ولا مسلمة.

ويلزم الذمي بترك ما فيه غضاضة، ونقض على الإسلام، وهي ثلاثة أشياء:

ذكر الله تعالى وكتابه، ودينه بما لا ينبغي. فهذه الأَشياء يُلزم الذمي بتركها.

ويلزم الذمي بأداء الجزية: وهي في أبسط مفاهيمها في الإِسلام ضريبة على الذمي من رعايا الدولة الإسلامية، مقابل حمايته، ومقابل فريضة الجهاد المفروضة على المسلم.

قال خالد بن الوليد عَندما صالح أهل الحيرة:

"إني عاهدت على الجزية والمنعة

فإن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا"

وتسقط الجزية إذا عجز المسلمون عن حماية أهل ذمتهم، كما حصل عندما أعاد المسلمون جزية أهل حمص بعد أن أخذوها، عند انسحابهم (كل سبق) .

وتسقط عن الذمي إذا قام بواجب الدفاع عن دار الإِسلام كالذي صنعه عتبة بن فرقد مع أهل أذربيجان فكان:

(عليهم أن يؤدوا الجزية قدر طاقتهم، إلا من حشر منهم في سنة، فيوضع عنه جزاء تلك السنة) .

ويُعفى منها من لا يستطيع القتال كالمرأة، والصبي، والشيخ الكبير، والرهبان، ومن يؤدي خدمة المسلمين.

وكانت أموال الجزية والخراج تُنفق محلياً في كل ولاية لأغراض المشروعات العامة، ولم تكن تسدّد للدولة أحياناً، بعلم المسئولين.

كل ذلك مكّن لدعوة الإسلام من أن تدخل قلوب أهل البلاد المفتوحة.

حرية التدين لأهل الذمة في ظل الحكم الإِسلامي:

تختلف دولة الإسلام عن الدولة الدينية في المفهوم الغربي. فالدولة الدينية (في عرف الغربين) : "تخوض الحروب الدينية لتجعل ولو بالإكراه كل رعيتها متدينة بدينها، بل بمذهبها الديني، لأنها توحّد بلاد الدين والدولة، والرعية مكون من مكونات الدولة".

ص: 110

ولذلك لم يميّز من كتب من وجهة النظر الغربية في تاريخ الإسلام بين مفهوم الجهاد- الذي يعمل على إزالة العقبات، وتحطيم الحواجز التي تعترض الدعوة، وتحول دون وصول الإسلام إلى الناسِ- وبن اعتناق الناس للإسلام الذي هو أجلّ نعمة للبشرية. والنعمة لا تُفرض فرضاً، ولكن النفوس الطيبة تسارع إليه عندما تتاح لها الفرصة للمعرفة والمشاهدة. والفتوحات وفرت هذه الفرصة، فلم تكن الفتوحات إذن لإجبار الناس على الدخول في الدين، قال تعالى:

{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (1) .

وقال سبحانه وتعالى:

{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (2) .

فأمر سبحانه وتعالى الرسول والمسلمين أن تكون الدعوة طيبة، تخاطب الناس في رفق لمحاولة إقناعهم، لا إكراه فيها ولا تهديد، وأن يكون حوارهم مع أهل الكتاب هادئاً لا يجادلونهم إلا بالتي هي أحسن، فإن آمنوا فقد اهتدوا، وإن تولوا فالآمر متروك لله سبحانه وتعالى. قال تعالى:

{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (3) .

ومن الغربيين من أكد على عدم إكراه المسلمين لغيرهم على اعتناق الإسلام مثل: "فون كريمر". وأجاد "غوستاف لوبون"في عرضه عدم إكراه المسلمين الناس على الإسلام، وبينّ أن الإسلام انتشر بالدعوة وحدها.

وقال "فرانز روزنتال"معبراً عن ذلك:

(1) سورة يونس الآية: 99.

(2)

سورة البقرة الآية: 256.

(3)

سورة العنكبوت الآية: 46.

ص: 111

"وقد نمت المدنية الإسلامية بالتوسع لا بالتعمق، داعية إلى العقيدة، مناقشة لتلك الحركات الفكرية الموجودة. وفوق كل ذلك، فبتقدم الإسلام تهاوت الحواجز القديمة من اللغة، والعادات، و. توفرت فرصة نادرة لجميع الشعوب، والمدنيات لتبدأ حياة فكريه جديدة، على أساس المساواة المطلقة، وبروح من المنافسة الحرة".

والواقع أن أعمال الفاتحين المسلمين لا تدع مجالاً للشك في أن المسلمين لم يُكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام، بل سارع الناس لاعتناقه لما لمسوه من نعمة الإسلام، ولما لمسوه في الفاتحين. ووصيّة محمد صلى الله عليه وسلم لجيش مؤتة معروفة، وعلى نمطها أوصى أبو بكر رضي الله عنه جند المسلمين، وبيّن لهم كيفية معاملة أهل البلاد المفتوحة. وأمر خالد بن الوليد أن يتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم. فترك المسلمون لأهل الذمة حريتهم الدينية، وخلّصوهم من اضطهاد بعضهم لبعض.

وأقرأ ما كتبه "ساويرس بن المقفع"النصراني الأرثوذكسي المعاصر للفتوحات الإسلامية، وهو يتكلم عن عدل المسلمين، ويذكر غبطة غير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي:

"وكانت أعمال الأرثوذكسية الصالحة تنمو، وكانت الشعوب فرحين، مثل العجول الصغار، إذا حُلّ رباطهم، وأطلقوا على ألبان أمهاتهم".

واقرأ رسالة البطريق النسطوري "يشوع ياف"إلى "سمعان"رئيس أساقفة فارس، وقد راعه تسارع الناس إلى الدخول في الإسلام:

"أين أبناؤك أيها الأب، الذي ثكل أبناءه، أين أهل مرو العظماء، الذين على الرغم من أنهم لم يشهدوا سيفاً، ولا ناراً، ولا تعذيباً

واحسرتاه، واحسرتاه على هذه الآلاف المؤلفة التي تحمل المسيحية، والتي لم يتقدم حتى واحد منها ليهب نشمه ضحية للرب، ويريق دماءه في سبيل الدين الحق

.

أين كذلك معابد كرمان، وبلاد فارس جميعاً

ص: 112

وإن العرب الذين منحهم الله السلطان يشاهدون ما أنتم عليه، وهم بينكم كما تعلمون ذلك حق العلم، ومع ذلك فهم لا يحاربون العقيدة المسيحية، بل على العكس يعطفون على ديننا، ويكرمون قسيسينا، وقديس الرب، ويجودون بالفضل على الكنائس والأديار، فلماذا هجر شعبك من أهل مرو عقيدتهم من أجل هؤلاء العرب؟ ولماذا حدث ذلك أيضاً في وقت لم يرغمهم فيه العرب

- كما يصرح بذلك أهل سرو أنفسهم- على ترك دينهم؟

".

إن الذي جذب الناس للإسلام، هو الإسلام ذاته، لأنه فطرة الإنسان، فتتجاوب مع الفطر السليمة. قال تعالى:

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (1) .

وهذا سر عظمة هذا الدين، وسر استجابة الناس لعقيدة التوحيد العقيدة التي لا لبس فيها ولا تعقيد، البعيدة عن الفلسفات الخيالية، وعن الغموض، والتناقض. فمن السهل إدراك عقيدته من جميع البشر على مختلف مستوياتهم، ويرتفع بالإنسان من هبوطه، ويسمو به، فيعز به من يعتنقه، ويحس بالكرامة، باعتدال وتوازن عام في مختلف جوانب الحياة، وفي كل البيئات البشرية، وفي كل زمان ومكان.،ولذلك لا نجد شعباً اعتنق الإسلام وتراجع عنه باختياره، وقلّ بل ندر أن نجد عالماً سقط علماء المسلمين ارتد عن الإسلام، في حين نجد كثيراً من عظماء الأديان الأخرى ومفكريها اعتنق الإسلام، وآمن بعقيدته، وعمل على نشرها وتبليغها.

(1) سورة الروم الآية: 30.

ص: 113

ورعية الدولة الإسلامية تشمل المسلم وغير المسلم، وكل له حقوق وعليه واجبات، وسمح الإسلام بتمايز العقائد في إطار هذه الحقوق، والواجبات، وأنقذ الناس من التعصب، والإرهاب الديني، وعاشوا في ظل دولة الإسلام بالأمن، فأقبلوا على اعتناقه، وجذبهم إليه القدوة عندما تمسك المسلمون بدينهم والعدل الذي نعموا به في ظل الدولة الإسلامية.

والعدل: أول قواعد الحكومة الإسلامية، وميزة النظام الإسلامي. ومفهومه في الدولة الإسلامية بصفة عامة: تنفيذ حكم الله، أي الحكم في الناس بما جاء به القرآن الكريم، وبسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

قال تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (1) .

وقال سبحانه وتعالى:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (2)

وقال جل وعلا:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (3) .

وقال تعالى:

{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (4) .

ولا نعلم حكومة في تاريخ العالم التزمت بالعدل بالقدر الذي ظهر في حكومة الإسلام، وخاصة في العهدين النبوي والراشدي، فنتج عن ذلك سرعة انتشار الإسلام وشيوعه بين الناس على مختلف أجناسهم وألوانهم وعاداتهم، ولغاتهم، وأوطانهم.

(1) سورة النساء الآية: 58

(2)

سورة النحل الآية: 90.

(3)

سوره المائدة الآية: 8.

(4)

سورة الأنعام الآيةَ: 152.

ص: 114

ولما دوّن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ديوان الجند والعطاء، شمل بالعطاء جميع رعايا الدولة الإسلامية من المسلمين (بدون تمييز في الجنس أو اللون) ومن احتاج من غير المسلمين. فكان لذلك أثر كبير في إقبال الناس على الإسلام.

وأجمل ما تميز به العدل في الدولة الإسلامية- العدل والقضاء. فكان الفصل في خصومات الناس يتم على أساس الأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة. ورسالة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريَ في القضاء معروفة، وقد اتخذها القضاة المسلمون أساساً لأنظمتهم القضائية.

وعينّ الخلفاء الراشدون قضاة للأمصار الإسلامية المفتوحة، مستقلين عن الأمراء وقادة الجند، ينوبون عنهم في الفصل بين الناس، على أساس من الكتاب والسنة والاجتهاد فيما لم يرد فيه نص.

وكان يراعي في اختيار القاضي، غزارة العلم، والتقوى، والورع، والعدل، فكان القضاة من خيار الناس، يخشون الله، ويحكمون بين الناس بالعدل، وكلمتهم نافذة على الولاة وعمال الخراج، بل على الخلفاء، واستمر ذلك في عهد الأمويين، وفي كثير من عهود دولة الإسلام. كما كان للقاضي رزق من بيت المال لما يلزمهم من الانقطاع لهذا العمل، وترك ما يرتزقون منه، ورزق القاضي كبير، ويُعطاه مقدماً حتى لا ينظر بعد ذلك إلى شيء، وكثير من قضاة الإسلام كانوا يرفضون الرزق محتسبين.

وحفظ لنا التاريخ نزاهة هؤلاء القضاة، فلم يُعرف عنهم ميل إلى الدنيا واغترار بها يعدل بهم عن قول الحق، والحكم به، وكان في نظرهم سواء: الشريف والوضيع، والخليفة وأفراد الرعية، ولم يتأثروا بالفتن، وبقي القضاء نظيفاً كما هو من الاستمرار في العدل فكان عامل جذب كبير لرعايا الدولة الإسلامية إلى اعتناق الإسلام.

ص: 115

وقد اهتم الخلفاء بجميع أفراد الأمة من مسلمين وغير مسلمين، وقصة القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص مشهورة. وقصة العاشر والتّغلبي النصراني مع عمر بن الخطاب، واليهودي المتسوّل الذي فرض له ولأمثاله من بيت مال المسلمين. وقصة جبلة بن الأيهم الغساني مع الأعرابي الفزاري، وقصص جلوس الخلفاء أنفسهم للقضاء أمام خصومهم، كل ذلك مكن للدعوة الإسلامية من التثبيت، والامتداد، والانتشار.

وجلس الخلفاء أنفسهم أمام رعاياهم من أهل الذمة للقضاء، وقضية الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع الرجل النصراني دليل على ذلك:

"وجد علي بن أبي طالب درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شريح قاضيه، وقال له:

"الدرع درعي، ولم أبع، ولم أهب".

فقال شريح للنصراني: "ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين"؟.

فقال النصراني: "ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب".

فالتفت شريح إلى علي. فقال:

"يا أمير المؤمنين هل من بينة "فضحك علي.

وقال: "أصاب شريح مالي بينة".

فقضى شريح للنصراني. فأخذ النصراني الدرع، ومشى خطوات، ثم رجع وقال:

"أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يقضي عليه. أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين".

فقال: "أما إذا أسلمت فهي لك"وحمله على فرسه

وهكذا كان القضاء عامل جذب كبير الإسلام.

كما كانت صلاة الجماعة في المسجد عامل جذب قوي أيضاً، تلك العبادة التي تتجلى فيها روعة المساواة بين البشر جميعاً بأعلى صورها في إلغاء الفوارق.

ص: 116

ففي الجمعة والجماعة تأخذ المساواة صورتها العملية، وتزول كل الفوارق التي تميّز بين الناس، فمن ذهب إلِى المسجد أولاً آخذ مكانه في مقدمة الصفوف، وإن كان أقل الناس مالاً، وأضعفهم جاهاً، ومن تأخر حضوره أخذ مكانه مهما يكن مركزه، وتجد الغني يجانب الفقير، والعالم يجانب الأمي، والشريف بجانب الوضيع، والحاكم بجوار الخادم، ولا فرق بين واحد وآخر، فكلهم سواسية أمام الله سبحانه، في قيامهم، وركوعهم، وسجودهم، قبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، وحركاتهم واحدة خلف إمام واحد، ترتبط قلوبهم بخالقهم، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى.

وهذه المساواة التي تظهر عملياً، وتتكرر في اليوم الواحد مرات، جذبت سكان البلاد المفتوحة للإسلام، فانتشر بينهم، وأصبح لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.

وهكذا كان المسجد وسيلة من وسائل الدعوة الهامة، فكان ركيزة هامة من ركائز بناء المجتمع الإسلامي، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل للمسلمين في بناء المساجد والاهتمام بها، فبنى مسجد قباء، ثم المسجد النبويَ، وبنى المساجد في الأسفار الطويلة في الطرقات والمنازل، وفي أثناء الغزو، وأثناء الحصار. واهتم الراشدون بذلك وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ولاة الأقاليم في العراق ومصر باتخاذ مسجداً للجماعة، وللقبائل مسجداً، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجمعة فشهدوا الجمعة. وأما في الشام فأمرهم أن يتخذوا في كل مدينة مسجداً واحداً، ولا يتخذوا للقبائل.

وفي تخطيط المدن الإسلامية حرص المسلمون على إنشاء المساجد في المدن التي مصرّها المسلمون الكوفة، والبصرة، والموصل، والفسطاط، وكانت تقام في هذه الأمصار حياة إسلامية تحس بها الشعوب التي أطلتها راية الإسلام، وتلمسها كنماذج كاملة للمجتمع المسلم يتوسطها المسجد. فكانت الأمصار والأجناد من عوامل بث الدعوة، وانتشارها وبهذا يتضح لنا أثر الفتوحات الإسلامية في انتشار الإسلام.

المراجع والمصادر

ص: 117

1 -

القرآن الكريم.

2 -

كتب السنة المطهرة- صحيح مسلم، صحيح البخاري- فتح الباري- مسند أحمد

3 -

ابن الأثير- الكامل في التاريخ- دار الكتاب العربي- بيروت- ط4/ 1403هـ 1983 م.

4 -

أرنولد- توماس- الدعوة إلى الإسلام- ترجمة حسن إبراهيم حسن وزميله- مكتبة النهضة المصرية 1970 م.

5 -

الفرد بل- الفرق الإِسلامية في الشمال الأفريقي- ترجمة عبد الرحمن بدوي- دار الغرب- بيروت ط 2/ 1981 م.

6 -

بتلر- فتح العرب لمصر- ترجمة فريد أبو حديد دار الكتب المصرية.

7 -

برنارد لويس! - تاريخ العرب- Arabs in history London 1966

8 -

بروكلمان- كارل- تاريخ الشعوب الإِسلامية- ترجمة نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي- دار العلم للملايين- بيروت ط5/ 1968م.

9 -

البلاذري- فتوح البلدان- دار الكتب العلمية- بيروت 1403 هـ/ 1983 م.

10-

ابن تيميه- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية- دار الكتاب العربي- مصر ط4/ 1969م.

11-

جب- هاملتون- التاريخ الإِسلامي في العصور الوسطى- دمشق- مهمل السنة.

12-

جب- هاملتون- دراسات في حضارة الإِسلام- ترجمة إحسان عباس وزملاؤه- دار العلم للملايين- بيروت ط 2/ 1979 م.

13-

جميل عبد الله المصري- أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية- مكتبة الدار بالمدينة ط 1/ 1410 هـ 1989م.

14-

جميل عبد الله المصري- الموالي- موقف الدولة الأموية منهم- دار أم القرى- عمان- الأردن ط 1/1408 هـ 1988 م.

15-

جميل عبد الله المصري- تاريخ الدعوة الإسلامية- مكتبة الدار بالمدينة ط1/7 140 هـ 1987 م.

16-

الجندي- أنور- الإسلام وحركة التاريخ- دار الكتاب المصري ط 1/ 1980 م.

17-

جولد تسيهر- أجناس- العقيدة والشريعة في الإسلام- ترجمة محمد يوسف موسى ورفاقه ط 2/ دار الكتب بمصر 1378 هـ 1959 م.

18_

حتي- فيليب- صانعو التاريخ العربي- ترجمة أنيس فريحه- دار الثقافة ط 1 /1969 م.

19_

حتي- فيليب- تاريخ العرب- مطول- دار الكشاف ط 3/ 1961 م.

ص: 118

20_

خوري- فيليب- تاريخ العرب- ترجمة محمد مبروك- القاهرة ط3/ 1953م.

21_

الدينوري- الأخبار الطوال- تحقيق عبد المنعم عامر القاهرة ط 1/ 1960.

22_

رورنتال- فرانز- علم التاريخ عند المسلمين- ترجمة صالح أحمد العلي- مؤسسة الرسالة ط 2/1403هـ 1983 م.

23-

الريس- محمد ضياء الدين- الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية- دار المعارف بمصر ط3/1969م.

24-

زيدان- جورجي- تاريخ التمدن الإسلامي-مكتبة الحياة- بيروت- مغفل السنة.

25_

ابن سعد- محمد بن سعد- الطبقات الكبرىَ- تحقيق ادواردسخاو، ويوسف هوروفيتش- دار التحرير- القاهرة 1388 هـ 1968م.

26-

سورديل- دومنيك- الإسلام في القرون الوسطى- ترجمة علي المقلد- بيروت ط1 /1983.

27-

سيديو- ل. م. تاريخ العرب العام- تعريب عادل زعيتر- عيسى البابي الحلبي- مصر ط /2 1389هـ 1969م.

28-

الشافعي- الإِمام محمد بن إدريس- الأم- الجزء الرابع ط1 الأميرية 1321 هـ.

29_

ابن طباطبا- ابن الطقطقي- الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية- بيروت 1385 هـ66 19م.

30-

الطبريَ- محمد بن جرير- أبو جعفر- تاريخ- تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف- مصر ط 2 / 1971م.

31-

الطماوي- سليمان- عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدارية الحديثة- بيروت 1396 هـ.

32-

ابن عبد الحكم- فتوح مصر وأخبارها- طبع ليدن- بريل- بغداد 1920 م.

33-

أبو عبيد- الأموال- القاهرة 1353 هـ.

34-

ابن عساكر- تاريخ دمشق- مخطوط- تصوير مكتبة الدار بالمدينة المنورة.

35-

فان فلوتن- السيادة العربية- ترجمة حسن إبراهيم حسن وزميله ط 2/ 1965 م.

36-

فلهورن- يوليوس- تاريخ الدولة العربية- ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة- القاهرة 1968 م.

37-

القلقشندي- صبح الأعشى في صناعة الإنشا- دار الثقافة والإرشاد المصرية- مطابع كونستانس 1383 هـ 1963 م.

38-

كلود كاهين- تاريخ العرب والشعوب الإسلامية- تعريب بدر الدين القاسم- دمشق ط 1/1972م.

ص: 119

39-

ابن كثير- البداية والنهاية- دار الفكر العربي- دار النيل- الجيزة بمصر، مهمل السنة.

40-

لاندو- روم- الإِسلام والعرب- تعريب منير البعلبكي- دار العلم للملايين- بيروت ط 1/1962م.

41-

لوبون- غوستاف- حضارة العرب- تعريب عادل زعيتر- دار إحياء التراث العربي- بيروت ط 3/ 1389 هـ 1979م.

42-

الماوردي- الأحكام السلطانية والولايات الدينية- المكَتبة التوفيقية- القاهرة- مغفل السنة.

43-

مجير الدين الحنبلي- الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل- النجف 1388هـ/1968م.

44-

المقريزي- إمتاع الأسماع- تحقيق محمود محمد شاكر- القاهرة 1941 م.

45 -

المقريزي- المواعظ والاعتبار- خطط- طبعة جديدة بالأوفست.

46-

نتنج- أنتوني- العرب- انتصاراتهم وأمجاد الإِسلام- ترجمة راشد البراوي- الانجلو المصرية- القاهرة 1974م.

47-

نورمان دانيال- الإسلام والغرب.

48-

ابن هشام- السيرة النبوية- تحقيق السقا وزملاؤه- مهمل مكان الطبع والسنة.

49-

الواقدي- المغازي- تحقيق مارسدن مونس- مطبعة جامعة اكسفورد 1966م.

50-

وكيع محمد بن خلف بن حيان- أخبار القضاة- عالم الكتب- بيروت مهمل السنة.

51-

ول ديورانت- قصة الحضارة- مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة.195م.

52-

يحي بن آدم- الخراج- تحقيق أحمد محمد شاكر- المطبعة السلفية 1347 هـ.

53-

اليعقوبي- تاريخ- دار صادر بيروت- بيروت 1960 م.

54-

أبو يوسف- الخراج- المطبعة السلفية بمصر 1346هـ.

ص: 120

المماليك البحرية

وقضاؤهم على الصليبين في الشام

الدكتور شفيق جاسر أحمد محمود

أستاذ مشارك بقسم التاريخ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:

فما من زمن تفرق فيه المسلمون، وضعفت شوكتهم، وتكالب عليهم أعداؤهم، إلا ووفى الله تعالى للمؤمنين بوعده في حفظ دينه، فيسر لهم من يجمع شملهم، وبقيل عثرتهم، ويقودهم إلى مجاهدة عدوهم.

والمماليك البحرية نموذج لمثل هؤلاء الذين وفقهم الله للدفاع عن الإسلام وبلاد المسلمين، فتمكنوا مِن رد الخطر المغولي الماحق، ومن تطهير البلاد من بقايا الصليبيين. فلله الحمد أولاً وآخراً.

المماليك:

يطلق اسم (المماليك) اصطلاحا، على أولئك الرقيق- الأبيض غالبا- الذين درج بعض الحكام المسلمين على استحضارهم من أقطار مختلفة وتربيتهم تربية خاصة، تجعل منهم محاربين أشداء، استطاعوا فيما بعد أن يسيطروا على الحكم في مصر وأحيانا الشام والحجاز وغيرها قرابة الثلاثة قرون من الزمان ما بين 648-922 هـ (1250-1517م) .

وكلمة (مماليك) : جمع مملوك، وهو الرقيق الذي يباع ويشترى، وهي اسم مفعول من الفعل (ملك) ، واسم الفاعل (مالك) والمملوك هو عبد مالكه، ولكنه يختلف عن العبد الذي بمعنى الخادم. كما أن كلمة (مماليك) تختلف في معناها عن كلمة (موالي) التي مفردها (مولى)، والتي تعني- اصطلاحا- عند المؤرخين المسلمين: كل من أسلم من غير العرب. فالموالي قد يكون أصل بعضهم من أسرى الحروب الذين استرقوا ثم أعتقوا، أو من أهل البلاد المفتوحة الذين انضموا إلى العرب فصاروا موالي بالحلف والموالاة.

ص: 121

والرق وأسباب الاسترقاق قديم قدم الإنسان، عرفته الأمم الغابرة من سكان ما بين النهرين، ووادي النيل، واليونان، والرومان، والعرب في الجزيرة العربية، وأقرته معظم الديانات كاليهودية والنصرانية، أما الإسلام فإنه لم ينص على إلغائه وتحريمه صراحة، ولكنه حض على تحرير الأرقاء، وعلى حسن معاملتهم، كما نظم العلاقة بينهم وبين سادتهم بما يجعلهم إخوانا في الإسلام والإنسانية متحابين، يعلم كل منهم حقوقه وواجباته، حتى صار الكثيرون من الموالي شديدي الوفاء والإخلاص لسادتهم.

والتاريخ الإسلامي ملئ بأمثلة تدل على أن المسلمين استجابوا لشرائع دينهم، فأكرموا هؤلاء الموالي والأرقاء، ووثقوا بهم، ورفعوهم إلى أعلى الدرجات، ولو أردنا أن نذكر جميع الأمثلة على ذلك لأطلنا، ولكنني أجتزئ بعض الأمثلة على ذلك، فقد تولى وردان مولى عمرو بن العاص خراج مصر، واستعمل مسلمة بن مخلد- والي مصر وأفريقيا في عهد معاوية بن أبي سفيان- استعمل مولاه أبا المهاجر دينار على أفريقية عام 50 هـ. كما ولى أفريقية عام 73 هـ تليد مولى عبد العزيز بن مروان. وكان موسى بن نصير القائد المشهور، وفاتح أفريقيا، مولى لامرأة لخمية، وقيل بل مولى لبني أمية.

كما كان طارق بن زياد

وهو بربري من قبيلة نفرة مولى لموسى بن نصير.

وكان العالم الجليل الحسن البصري مولى لزيد بن ثابت رضي الله عنه من سبي ميسان.

هذا وقد حذا العباسيون حذو سابقيهم من الأمويين والراشدين في الاستعانة بالموالي ومعظمهم من مماليكهم، حيث روى عن أبي جعفر المنصور أنه سأل أحد الأمويين عمن وجد الأمويون عندهم الوفاء بعدما أصابهم فقال: الموالي، فقرر المنصور أن يعتمد على مواليه ويستعين بهم.

ص: 122

وكان الخليفة المأمون العباسي (198- 8 1 2 هـ) - (813 - 833 م) أول من استكثر من المماليك، حيث ضم بلاطه عددا من هؤلاء المماليك المعتوقين، ثم تلاه أخوه المعتصم (218-227 هـ) - (833 هـ 843 م) الذي أراد أن يحد منِ نفوذ جنوده من الفرس والعرب فكون جيشا أغلبه من التركمان، كان يشتريهم صغاراً ويربيهم حتى وصل عددهم إلى عشرين ألفا.

أما أحمد بن طولون والي مصر، فقد اعتمد على المماليك اعتمادا يكاد يكون كليا، حيث كان والده طولون مملوكا تركيا أهدي للمأمون عام 200 هـ (815 م) ، فقد أحضر أحمد هذه المماليك من بلاد جنوب بحر قزوين وبلاد الديلم، حتى زادوا عن الأربعة عشر ألف تركي وأربعين ألف مملوك أسود، بالإضافة لسبعة آلاف من المرتزقة.

وقام الأخشيديون بالسير على نفس السياسة، حتى أن محمد بن طغج الأخشيد مؤسس دولتهم في مصر 323- 358 هـ (935-969م) ، جعل منهم جيشا يضم أربعمائة ألف من الديلم والترك، بالإضافة لحرسه الخاص الذيَ تجاوز الثمانية آلاف.

وأعتمد الفاطميون خلال حكمهم في أفريقيا على المغاربة المصامدة، وعندما استولوا على مصر عام 358هـ (969 م) استكثروا من الديلم والأتراك والغز والأكراد.

أما الأيوبيون، فإن استكثارهم من المماليك كان سببا في قيام الدولة المملوكية، حيث إنهم قاموا منذ وقت مبكرين دولتهم 597 هـ (1200م) ، بجلب أعداد كبيرة من المماليك الصغار عن طريق النخاسين الذين كانوا يحضرونهم من شبه جزيرة القرم، وبلاد القوقاز والقفجاق، وما وراء النهر، وآسيا الصغرى، وفارس، وتركستان، وحتى من البلاد الأوربية حيث ازدهرت حركة تجارة لنخاسة في أوربا قبل عصر المماليك، ومارسها البنادقة والجنويون فكانوا يشترون المماليك من سواحل البحر االأسود ويبيعونهم في مصر، فبلغ من كانوا يبيعونهم في العام الواحد ألفين من المغول والشراكسة والروم والألبانيين والصقالية والعرب.

ص: 123

وكانت أشهر أسواق بيع هؤلاء المماليك، خان مسرور في القاهرة، وسوق الإسكندرية. والذي شجع الأيوبيين في مصر والشام على الاستكثار من هؤلاء المماليك هو ضعف شأنهم بعد وفاة صلاح الدين رحمه الله 589 هـ (1193م) ، وانقسام الدولة بين الأيوبيين الذين لقبوا أنفسهم بالملوك في كل من مصر، ودمشق، وحلب، والكرك، وبعلبك، وحمص، وحماه، حيث قامت بينهم منافسات وحروب كثيرة، كما قامت بينهم من جهة وبين أبناء البيوتات الأخرى مثل آل زنكي وأهل البلاد الآخرين حروب مشابهة، مما اضطر كل منهم للبحث عن عصبية تحميه وقت الشدة، وتساعده في صد أعدائه، فكان الإكثار من الرقيق الأبيض (المماليك) خير وسيلة لتحقيق ذلك وللوقوف في وجه الصليبيين في الشام، ولذلك بني لهم الملك الصالح- نجم الدين أيوب 637-647 هـ (1240-1250م) المعسكرات في جزيرة الروضة 638 هـ (1241م) وسماهم بالمماليك البحرية الصالحية، وسكن في القلعة عندهم ورتب جماعة منهم حول دهليز، واعتمد عليهم في صد غزوة لويس التاسع بمصر.

ومما زاد من دالتهم عليه كونهم قد دبروا مؤامرة لخلع العادل الثاني وأحلوا الملك الصالح محله 637 هـ (1239م) ، ثم زاد خطرهم حتى أنهم دبروا مؤامرة لقتله عندما غضب عليهم لإهمالهم في الدفاع عن دمياط أمام لويس التاسع عام 647 هـ، ولولا مرضه الذي توفى فيه لما نجا من شرهم.

أساليب تربية وتدريب هؤلاء المماليك:

عني سلاطين الأيوبيين ومن بعدهم سلاطين المماليك، بتربية مماليكهم تربية خاصة، وتثقيفهم وتعليمهم فنون الحرب والقتال، وخصصوا لذلك ثكنات عسكرية في قلعة الجبل عرفت بالطباق، كان عددها اثني عشرة طبقة واسعة تشبه كل منها حارة كبيرة تشتمل على مساكن عديدة، تتسع لحوالي ألف مملوك، ولم يكن يسمح لهؤلاء المماليك، وخصوصا الصغار منهم بمغادرة تلك الطباق إلا فيما ندر.

ص: 124

وقد وصف المقريزي الحياة والعادات ومواد التدريس ومراحله فقال: "كان للمماليك بهذه الطباق عادات جميلة، منها أنه إذا قدم بالمملوك تاجره، عرضه على السلطان، وأنزله في طبقة جنسه، وسلمه لطواشي برسم الكتابة، فأول ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كل طائفة لها فقيه يحضر إليها كل يوم، ويأخذ في تعليمها كتاب الله تعالى، ومعرفة الخط والتحدث بآداب الشريعة، وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الرسم إذ ذاك ألا يجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شب الواحد من المماليك، علمه الفقيه شيئا من الفقه، وأقرأه فيه مقدمة، فإذا صار إلى سن البلوغ، أخذ في تعليمه أساليب الحرب، من رمي السهام، ولعب الرمح، ونحو ذلك فيتسع في ذلك حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج".

وكان السلاطين يشرفون بأنفسهم على تربية مماليكهم ويتفقدون أحوالهم، ومنهم السلطان الناصر قلاوون 679-689 هـ (1280-1290م) الذي كان يهتم بطعامهم ومعيشتهم بنفسه، ويقول معتزا بهم:"كل الملوك عملوا شيئا يذكرون به ما بين مال ورجال وعقار، وأنا عمرت أسوارا وعملت حصونا لي ولأولادي وللمسلمين وهم المماليك".

وصدق ظنه بهم إذ قال أبو المحاسن عن مماليك قلاوون هذا: "فكان بهم- أي المماليك- منفعة للمسلمين ومضرة للمشركين، وقيامهم في الغزوات معروف، وشرهم عن الرعية معكوف".

وكان السلاطين ومقدمو المماليك يوصون القائمين على شؤونهم وخصوصا على شؤون الطباق المذكورة أن يأخذوهم بالحسنى وأن يعطفوا عليهم، حيث جاء في وصية أحد المقدمين إلى القائمين على شؤون تربيتهم:"ليحسن إليهم، وليعلم أنه واحد منهم، ولكنه مقدم عليهم، وليأخذ بقلوبهم، مع إقامة المهابة التي تخيل إليهم أنه معهم، وخلفهم، وبين أيديهم، وليلزم مقدم كل طبقة بما يلزمه عند تقسيم صدقاتنا الجارية عليهم، وليكن لأحوالهم متعهدا ولأمورهم متفقدا

".

ص: 125

هذا ولا يعني التهاون معهم إلى الحد الذي يفسد تربيتهم فقد كانوا يؤخذون أحيانا بالقسوة والشدة إذا ما ارتكبوا خطأ. وقد وصف المقريزي ذلك فقال:

"ولهم أزمة من النواب، وأكابر من رؤوس النوب، يفحصون عن حال الواحد منهم الفحص الشافي، ويؤاخذونه أشد المؤاخذة، ويناقشونه على حركاته وسكناته، فإذا عثر أحد مؤدبيه الذين يعلمونه القرآن، أو الطواشي الذي هو مسلم إليه، أو رأس النوب الذي هو حاكم عليه، على أنه اقترف ذنبا أو أخل برسم أو ترك أدبا من آداب الدين والدنيا، قابله على ذلك بعقوبة شديدة قدر جرمه

فلذلك كانوا سادة يديرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل، ويردعون من جار واعتدى".

ولكن هذه السياسة المتزنة في تربيتهم بين الشدة عليهم، والرحمة بهم، لم تدم طويلا، وحل محلها الدلال والتهاون، خصوصا في الأمور الدينية، مما سبب فساد أجيالهم فعم بذلك ضررهم على الخاصة والعامة، وأضعف شأنهم، وحط من قيمتهم.

قال المقريزي في وصف تلك التربية المتهاونة وما نتج عنها: "واستقر رأي الناصر على أن تسليم المماليك للفقيه يتلفهم، بل يتركون وشأنهم فبدلت الأرض غير الأرض، وصارت المماليك السلطانية أرذل الناس، وأدناهم قدرا، وأخسهم، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضا عن الدين، ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب، ولا جرم أن خربت أرض مصر والشام من حيث يصب إلى مجرى الفرات بسوء إيالة الحكام، وشدة عيب الولاة، وسوء تصرف أولي الأمر".

مميزات المماليك:

ص: 126

بسبب كونهم غرباء عن أهل البلاد، ولخضوعهم لتربية خاصة أعدتهم إعداداً ثقافيا وعسكريا، ليكونوا جنودا وحكاما وسياسيين، يتولون الوظائف العليا حسب الكفاية الشخصية في المجتمع دون اعتبار لنشأتهم الأولى، فقد عاشوا كطائفة منفصلة عمن حولهم، ولم يختلطوا إلا نادرا بالسكان المحليين من مسلمين ونصارى، ولم يتزاوجوا معهم إلا فيما ندر.

كما احتكروا الجندية عليهم، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوها وقفا على المماليك الصغار الذين يجلبون حديثا، ولم يسمحوا لأبناء المماليك الكبار من الانخراط فيها، بل قصروهم على الوظائف الإدارية والكتابية.

ورغم اختلاف أصول مولدهم، "انقسامهم حسب خشداشياتهم وسادتهم إلى أحزاب متطاحنة، فإنهم كانوا يجتمعون ويتماسكون لمواجهة االأخطار المشتركة التي يتعرضون لها من قبل أهل البلاد من مصريين وشاميين أو من المغول أو الصليبيين.

وكانوا يتعلمون القرآن الكريم والفقه الإسلامي وينشؤون- في الغالب- تنشئة إسلامية ويعلمون أن التحلي بالأخلاق الإسلامية يكسبهم ثقة العامة، فكان بعضهم يتظاهرون بالصلاح والتقوى، ويقدمون على بناء العمائر الدينية من مساجد وتكايا ومدارس، بينما يمارس بعضهم في خلواتهم أشد أنواع الفسق والفجور، ولم يكونوا يتحرجون من الانتساب إلى مشتريهم الأول أو أستاذهم مثل الصالحي، والمعزي، أو يلحقون بأسمائهم ما يدل على أثمانهم التي بيعوا بها مثل الألفي. وكان المملوك شديد الوفاء لسيده أو أستاذه أو رابطته مع زملائه الذين تربوا لدى سيد واحد (الخشداشية) .

قيام دولة المماليك البحرية

648_

658 هـ (1250- 1260م)

في قمة الهجمية الصليبية- التي تمثلت في الحملة السابعة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا ضد مصر عن طريق دمياط - وخلال انشغال الملك الصالح نجم الدين أيوب

ص: 127

بالدفاع على المنصورة- التي وصل الصليبيون إليها إلى بعض أنحائها بعد أن فر أمام هجمتهم بنو كنانة وبعض المماليك - وقع الملك الصالح مريضا ولم يلبث أن توفى بعد مرض عضال.

وهنا ظهرت شخصية وعبقرية زوجته شجر الدر، التي أدركت مدى الخطر المحدد بالمسلمين، إذا أنّ علم الجيش والعامة بخبر موت السلطان، محل شأنه أن يوقع الوهن في العزائم، ويثير الأحقاد والمطامع الكامنة في نفوسهم وأن يطمع الصليبيين فيهم، فقامت بإخفاء خبر موته، وأرسلت سرا وعلى عجل تستدعي ابنه تورانشاه من حصن كيفا بأطراف العراق ليتولى عرش والده.

وخلال هذا الوقت تبدت بطولة الأمراء المماليك، فتصدىَ بيبرس البندقداريَ ومعه فرقة من المماليك البحريين الصالحين للصليبيين، فشن عَليهم هجوما من خارج المنصورة، وطردهم من بعض نواحيها ثم لاحقهم الأمير أقطاي- القائد العام للجيش- مستعملا النار الإغريقية حتى قرروا الهروب إلى دمياط.

وعندما وصل تورانشاه بن السلطان الملك إلى صالح إلى مصر عام 647 هـ (.125م) ولي السلطة دون معارضة، فكان من أول أعماله أن حاصر الصليبيين وحاد بينهم وبين وصول المدد إليهم عن طريق دمياط، وقطع عليهم طريق العودة. وعندما اضطر الملك لويس التاسع بسبب حراجة موقفه إلى طلب الهدنة، ولكن المصريين رفضوا طلبه، وعندئذ حاول التسلل ليلا والانسحاب تحت جنح الظلم، فلم تفلح حيلته، حيث إن المسلمين قد علموا بالأمر فاستعدوا لإفشاله وطاردوا الصليبيين حتى فارسكور، وقتلوا منهم خلقا كثيراً بلغ أكثر من ثلاثين ألفا، وسقط الملك نفسه أسيرا، فسجنه المسلمون في دار ابن لقمان بالمنصورة، وكلفوا الطواشي صبيح بحراسته.

ص: 128

وظل الملك لويس التاسع في أسره حتى أخلى المسلمون سبيله مقابل انسحاب الصليبيين من دمياط ودفع مبلغ طائل من المال فدية لنفسه وتعويضا للمسلمين عما خسروه في هذه الحرب، ومقابل إطلاق أسرى المسلمين في مصر والشام وإطلاق سراح أسر ى الصليبين وغير ذلك مما سنذكره في حينه.

وبذلك تم فشل هذه الحملة المسعورة وذلك بفضل الله، ثم فرسان المماليك كاقطاي وبيبرس الذين سماهم ابن واصل (داوية الإسلام) إعجابا منه بشجاعتهم.

مقتل السلطان تورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب:

لم يكن تورانشاه بالشخص المناسب فكان سيئ التدبير غير مستقيم الأخلاق، مفتقرا للمعارف والأنصار من المماليك والمصريين على السواء، لأنه قضى معظم حياته في حصن كيفا، وقد وصفه ابن الجوزي بأنه "كان سيئ التدبير والسلوك ذا هوج وخفة".

وقد دفعه ندماؤه الذين كانوا لا ينفكون عن تذكيره بأنه ليس ملكا إلا بالاسم، وأن السلطة الفعلية بيد زوجة أبيه شجر الدر والمماليك، إلى الإساءة للمماليك الذين عليهم جل اعتماده، كبيبرس وأقطاي ورفاقهم، فأبغضوه وصاروا يخشون غدره ويتحينون فرصة القضاء عليه.

ولم يحفظ جميل شجر الدر التي أخذت له البيعة، واستدعته من مقره البعيد، وولته السلطة، فاتهمها بإخفاء أموال كانت لأبيه، حتى اضطرت لمعاداته ومغادرته إلى القدس هربا من مضايقاته، ثم لم تلبث أن عادت وجعلت تتصل بأنصارها من المماليك البرجية المعادين لتورانشاه، فقاموا بمهاجمته وهو في معسكره في فارسكور، وذلك في 29 محرم عام 648 هـ (1250م) مما اضطره لإلقاء نفسه في البحر من فوق برج خشبي كان قد التجأ إليه، فحرقوه عليه بعد أن قذفوه بالسهام، فمات جريحا غريقا حريقا، دون أن تنفعه استعطافاته وصياحه "ما أريد ملكا، دعوني أرجع، خذوا ملككم ودعوني أعود إلى حصن كيفا" ولكنهم لم يلاقوا بالا لأقواله وقالوا: "بعد جرح الحية لا ينبغي إلا قتلها".

ص: 129

وقيل إنه حاول الاستنجاد بأبي عز الدين رسول الخليفة العباسي، الذي كان معه في المعسكر فصاح:"يا أبا عز أدركني"ولكن أبا عز الدين لا يملك أن يفعل شيئا تجاه هؤلاء القادة الغاضبين.

وقيل: بقيت جثته على شاطئ النيل ثلاثة أيام، ثم دفنت مكانها وقيل: بل كشف عنها الماء بعد ثلاثة أيام، فنقلت إلى الجانب الآخر وذلك بجرها في الماء بصنارة من قبل شخص راكب في مركب كما يجر الحوت.

حكم شجر الدر:

كان هم القادة المماليك التخلص من السلطان تورانشاه قبل أن يتخلص منهم، ولذلك لم يفكروا فيمن سيولونه الملك من بعده، لهذا ففي اللحظة التي قتلوه فيها، وجدوا أنفسهم في حيرة من أمرهم، حيث إن المتطلعين لهذا المنصب، من قادة المماليك كثيرون، ولكن أهل مصر والملوك الأيوبيين في الشام لم يكن من السهل أن يتقبلوا جلوس مملوك علىَ عرش مصر، لهذا قرروا أن يولوا شجر الدر (أم خليل) فنصبوها سلطانة على مصر في الثالث من صفر عام 648 هـ السابع من مايو آيار 1250 هـ، في ذروة احتفال مصر بهزيمة لويس التاسع ملك فرنسا وحملته الصليبية السابعة، ومغادرتهم لدمياط، ولقبوها باسم "الملكة عصمة الدين شجر الدر والستر العالي والدة الملك خليل" ودعواها على المنابر، وكانت علامتها "والدة خليل"كما كان نص الدعاء لها على المنابر:"احفظ اللهم الجهة العالية الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة الملك الصالح"كما نقشوا على السكة "المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة خليل، أمير المؤمنين".

وعينوا عز الدين أيبك الجاشنكير الصالحي المعروف بالتركماني أحد أمراء البحرية من الصالحية أتابكا في ربيع الآخر سنة 648هـ، ويبدو آن هذا التعيين لم يكن لأن أيبك كان أقوى الأمراء وإنما لتجنب حلول أقطاي في هذا المركز لما كان الأمراء يخشونه من قوته وتسلطه.

ص: 130

لقد اشتهرت شجر الدر بالدهاء حتى وصفها ابن اياس بأنها "صعبة الخلق، قوية البأس، ذات شهامة زائدة، وحرمة وافرة، سكرانة من خمرة التيه والعجب"(7) وقد سبق وبينت مقدرتها الإدارية في إخفاء موت زوجها الملك الصالح بحجة مرضه، حتى لا ينخذل المسلمون أمام الصليبيين، وكيف قامت بنقله إلى القاهرة ودفنته سرا في قلعة الروضة، في حين أرسلت تستدعي أبنه تورانشاه من حصن كيفا، وحال حضوره سلمت إليه السلطة.

كان أول ما قامت به شجر الدر بعد تسلمها السلطة أن صفت الموقف مع الصليبيين، ففاوضت لويس التاسع ملك فرنسا، وقائد الحملة الفاشلة، واتفقت معه على رحيله من مصر وتسليم دمياط، وذلك في يوم الأحد الرابع من صفر 648 هـ الثامن من مايو 1250 م، ونص هذا الاتفاق على أن ينسحب لويس من دمياط ويردها إلى المصريين، وأن يطلق جميع أسرى المسلمين، وأن يتعهد بألا يعود لمهاجمة سواحل بلاد الإسلام مرة أخرى، كما يدفع لها ثمانمائة ألفا دينار فدية لنفسه وللأسرى الصليبيين، وعوضا عما أتلفه في دمياط، ومقابل ذلك يتعهد المسلمون برعاية الجرحى من أسرى الصليبيين، وقيل أيضاً مقابل أن يحافظوا على بعض معدات الصليبين التي سيضطرون لإبقائها بمصر إلى أن يتمكنوا من نقلها، وجعلت مدة الاتفاقية عشر سنوات.

ورغم كل ذلك فقد اضطربت الأمور في مصر عامة والقاهرة خاصة، وذلك احتجاجا وأنفة من حكم امرأة، وعمت الفوضى القاهرة، مما اضطر شجر الدر إلى الأمر بإغلاق أبوابها منعا لانتشار خبر هذه الاضطرابات.

وزاد من خطورة هذا الوضع انضمام علماء المسلمين إلى العامة في هذه المعارضة، وعلى رأسهم الشيخ عز الدين عبد السلام، الذي كتب كتابا حوله ما قد يبتلي به المسلمون بولاية امرأة. كما لم يوافق الخليفة العباسي على توليها السلطة، وعير أهل مصر بذلك قائلا في رده على رسالة من المماليك يطلبون فيه تأييده لحكمها "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسير لكم رجلا".

ص: 131

تولي الأتابك عز الدين أيبك السلطة:

وعند ذلك رأى المماليك البحرية الصالحية المؤيدين لشجر الدر أنه لابد لهم من حل لهذا الموقف وقالوا: "لا يمكننا حفظ البلاد والملك لامرأة، ولابد من إقامة رجل للمملكة تجتمع الكلمة عليه".

وزاد من اقتناعهم بهذا الرأي، خوفهم من خطر الناصر يوسف الأيوبي صاحب حلب، الذي استغل هذا الموضوع لصالحه ورأى فيه فرصة سانحة للاستيلاء على مصر، فقام بالاستيلاء على دمشق وبعض نواحي الشام، مما أخاف المماليك فسارعوا إلى تزويجها من الأتابك عز الدين أيبك التركماني أتابك العسكر، وتنازلت له شجر الدر عن السلطة بعد ثمانين يوما من حكمها. فأصبح معز الدين أيبك سلطانا - ولو بالاسم- حيث إن شجر الدر "كانت هي المسئولة عنه في كل أحواله ليس له معها كلام.

وقد سبق أن ذكرت أن اختيار المماليك له لهذا المنصب كان لاعتقادهم بضعفه مقارنة بأقطاي وبيرس، وأنه سيكون من السهل عليهم عزله متى شاءوا.

وقد خاب ظنهم فيه، حيث أثبت أيبك أنه ليس بالحاكم الألعوبة، فمنذ بداية عهده بادر إلى اغتيال أكبر منافسيه وهو خوشداشة أقطايى الجمدار عام 652 هـ (1254م) وساعده في ذلك كل من قطز وبهادر وسنجر وعدد من المماليك المعزية، واضطر خشداشية أقطاي من المماليك إلى الفرار، ومنهم بيبرس البندقداري وقلاوون الألفي، حيث لم يستطيّعوا مغادرة القاهرة التي كانت موصدة الأبواب، إلا بحرق إحدى الأبواب التي ظلت تسمى بالباب المحروق، وتابعوا هربهم نحو الشام وتفرقوا ما بين دمشق وحلب والكرك ودولة السلاجقة.

ص: 132

وعند ذلك قام أيبك بمصادرة أموال المماليك الفارين، وتجريد من بقي منهم في مصر من سلطاتهم، ولم يفلح الملك الناصر يوسف صاحب حلب ودمشق والمنافس السابق لشجر الدر في مساعدتهم، فاضطروا للتوجه إلى المغيث عمر في الكرك. ولإبطال حجة الملوك الأيوبيين في الشام، ومطالبتهم بعرش مصر، قام أيبك بتولية الطفل الأشرف، موسى الأيوبي السلطنة وهو في السادسة من عمره، وجعله شريكا له في الحكم، فخطب باسمهما على المنابر وسكت العملة باسمهما.

ولما لم تنطِل حيلته هذه على الناس، التجأ أيبك إلى الاستعانة بالخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد، ونصب نفسه نائبا له على مصر، ثم أخذ في الاستعداد للتصدي للملك الناصر يوسف، الذي كان قد كاتب الملك لويس التاسع في عكا، عارضا عليه التعاون ضد أيبك مقابل تسليمه القدس للصليبين- وكانت تحت حكم الأيوبيين-. ولما علم أيبك بهذه المفاوضات أرسل إلى لويس التاسع مهددا بقتل أسرىَ الصليبيين الذين لديه، وواعدا إياه إن رفض عرض الناصر أن يقوم بتعديل اتفاقية دمياط لإعفائه من نصف الفدية المتفق عليها، وطلب منه بدوره أن ينضم إلى جانبه، فرد عليه لويس بأنه قرر الوقوف على الحياد بينه وبن الناصر.

وتقدم الملك الناصر حتى العباسية بين مدينتي بلبيس والصالحية 649 هـ- 1251م فهزمه أيبك بسبب انحياز مماليكه العزيزية إلى المماليك، ولاحقه حتى الشام، واتفق أيبك مع لويس التاسع على أن يساعده ضد الناصر يوسف مقابل تسليمه القدس، ولكن هذا الاتفاق لم ينفذ، حيث تدخل الخليفة العباسي بين الناصر وأيبك 651 هـ (1253م) لمنع تسليم القدس للصليبيين حيث أرسل رسوله الشيخ نجم الدين البادورائي فأصلح بين صاحب مصر وصاحب الشام، وأيضا لإحساسه- أي الخليفة- ببداية الخطر المغولي الذي داهم الخلافة من الشرق. واتفق على أن تكون مصر وجنوب فلسطين بما فيها غزة والقدس للمماليك.

ص: 133

ثم دب الخلاف بين أيبك وزوجته شجر الدر، بسبب تسلطها وشدة غيرتها عليه، فحاول أن يتزوج من ابنة بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل، نكاية بها خصوصا وقد شعر بتآمرها مع أنصارها من المماليك البحرية عليه وعلى مماليكه المعزية.

وعندما علمت شجر الدر بخطة هذا الزواج، ازدادت معارضتها وتآمرها مع المماليك البحرية وضوحا وتحديا، مما دفعه لسجن من بقي من هؤلاء المماليك في القاهرة، متحديا بذلك شجر الدر، مما جعلها تقرر قتله، وتتصل سرا بالملك الناصر في دمشق تعرض عليه التعاون معها في ذلك، وأن يتزوجها ويشركها معه في السلطة مقابل تسليمه مصر، ولكن الناصر لم يتحمس لهذا العرض ظانا أنه خدعة منها. وعَلم بدر الدين لؤلؤ بأخبار هذا الاتصال بين شجر الدر والناصر يوسف، فقام بإعلام أيبك به، فاحتاط لنفسه من غدر شجر الدر، وقرر في طويته قتلها، ولم تلبث شجر الدر أن سبقته في تنفيذ عزمها بأن تحايلت عليه، فاستدعته إلى القلعة- بعد أن كان هجرها إلى مناظر اللوق- ودست إليه خمسة من غلمانها فقتلوه في الحمام، وذلك في 23 ربيع الأول 655هـ (1257م) .

استيلاء المظفر قطز على السلطنة:

ص: 134

عندما علم المماليك المعزية بوفاة سيدهم في القلعة، حامت شكوكهم حول زوجته شجر الدر، لما كانوا يعلمونه من خصام بينها وبينه، فصعدوا إلى القلعة ليحققوا في سبب وفاته، فعلموا بالحقيقة، لذلك حاولوا قتلها، وكادوا ينجحون في ذلك لولا تدخل بعض المماليك الصالحية، الذين نقلوها على عجل إلى البرج الأحمر في القلعة حماية لها، أما المماليك المعزية فقاموا بتعيين الطفل نور الدين علي ابن معز الدين أيبك مكان أبيه باسم الملك المنصور، وكان عمره خمس عشرة سنة، وعينوا قطز أتابكا له وذلك رغم معارضة المماليك الصالحية، ورغم تعيين الأمير علم الدين سنجر الحلبي نفسه نائبا للسلطنة، فقد رفض المعزية تأييد سنجر وقاموا باعتقاله وولوا قطز هذا المنصب، وقيل إن شجر الدر فور قتلها للسلطان معز الدين أيبك قد عرضت السلطنة على عدد من الأمراء، ولكنهم رفضوها خوفا من المماليك المعزية.

وكان أول عمل قام به السلطان علي وأتابكه قطز، هو الأمر بقتل السلطانة السابقة شجر الدر، وذلك بتحريض من والدته، بعد أن ضعف شأن حماتها من المماليك الصالحية، فأمر بحملها إلى أمه حيث أمرت بقتلها، بأن أمرت جواريها "فضربتها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت، وألقوها عن سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سوى سروال وقميص. فبقيت في الخندق أياما. أخذ بعض أراذل العامة تكة سراويلها، ثم دفنت بعد أيام وقد نتنت، فحملت في قفة إلى تربتها قريب المشهد النفيسي".

ص: 135

وكان أول خطر واجه قطز هو محاولة المغيث صاحب الكرك الاستيلاء على مصر في عامي 655_656 هـ (1257_1258م) بمعاونة المماليك البحرية الفارين من مصر. ولكن قطز قضى على هاتين المحاولتين ثم قام بعزل السلطان علي بن معز الدين أيبك، مستغلا في ذلك ما أصاب المصريين من ارتباك أثر سماعهم بما حل ببغداد، وبنوايا التتار تجاههم، ووصولهم إلى حلب. وتم له ذلك في عام 657 هـ (1258م) ، حيث عزله ونفاه مع أمه وإخوانه. وبدأ قطز في إعداد مصر للتصدي للخطر المغولي، وتمكن بفضل الله كما سنبين فيما بعد من التصدي للمغول وهزيمتهم في معركة عين جالوت الحاسمة في الخامس عشر من رمضان عام 658 هـ (. 126م) . وبعد أن رتب الأوضاع في الشام عاد إلى مصر التي استعدت لاستقباله استقبال الفاتحين، ولكن أعداءه الألداء من المماليك قتلوه غيلة في قرية القصير إحدى قرى مركز فاقوس، بمديرية الشرقية، وذلك في السابع عشر من ذي الحجة

عام 658 هـ (1260م) وكانوا بزعامة بيبرس، ثم دفن هناك بعد حكم دام سنة فقط.

تولي السلطان ظاهر بيبرس السلطنة:

وبمقتل السلطان قطز خرج أمراء المماليك الذين تآمروا عليه إلى الدهليز السلطاني بالصالحية وسلطنوا عليهم بيبرس سنة 658 هـ (1260م) لأنه هو الذي قتله وأجلسوه مكانه على مرتبة السلطان، فأخذ الملك بالقوة. وبعد أن حلف له القادة بمن فيهم فارس الدين أقطاي، والجند يومين الولاء، دخل القاهرة ظافرا.

ص: 136

ويعتبر بيبرس من أعظم سلاطين المماليك لما قام به من أعمال شملت تنظيمات وعمران وغير ذلك. وكان من أهم أعماله إحياؤه الخلافة العباسية في القاهرة سنة 659هـ (1260م) ، بعد أن قضي عليها التتار في بغداد. مما أكسبه سلطة شرعية مدعومة بموافقة الخليفة العباسي، كما استن نظام ولاية العهد في أسرته، بتعيين ابنيه السعيد بركه خان والعادل بدر الدين سلامش- الذي اغتصب قلاوون عرشه فيما بعد سنة 679 هـ - وحفر الترع، وأصلح الحصون، وأسسِ المعاهد، وبنى المساجد، وكان حاكما مستبدا مستنيرا، كما قوى الجيش واستحضر أعداداً كبيرة من المماليك، وكرس همته في محاربة الصليبيين. ولذلك يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة المملوكية في مصر. وتوفي في السابع والعشرين من محرم عام 676 هـ (1277م) في دمشق وهو عائد من وقعة قيسارية.

وتتابع سلاطين المماليك البحرية على الحكم حتى عام 783 هـ (1382م) ثم خلفهم على الحكم سلاطين دولة المماليك البرجية 784- 23 9 هـ (1382- 1517م) .

جهاد المماليك البحرية ضد الصليبيين:

لم يبق من الأراضي الإسلامية تحت حكم الصليبيين سوى شريط ساحلي يمتد على محاذاة البحر الأبيض المتوسط من ناحية الشرق، يضيق أو يتسع باختلاف الظروف والأزمنة، وذلك لأن الصليبيين حتى في عنفوان قوتهم، لم يتمكنوا من التوغل في داخل بلاد الشام، فبقيت حلب وحماه وحمص ودمشق بعيدة عن متناولهم. وبفقدهم المبكر لإمارة الرها ظلوا محاطين بالمسلمين من الشمال والشرق والجنوب، لا يربطهم بأوربا مصدر قوتهم وإمدادهم سوى البحر، واقتصرت أملاكهم في مطلع عهد الدولة المملوكية البحرية على إمارتي طرابلس وأنطاكيا، ومدينة عكا التي أضحت مقرا لمملكة بيت المقدس بعد أن استرد المسلمون القدس.

ص: 137

لهذا فبعد أن باءت بالفشل حملة لويس التاسع ملك فرنسا على مصر المسماة بالحملة السابعة، خرج هذا الملك مذموما مدحورا خاسرا، فاشلا في تحقيق أحلامه في استرداد بيت المقدس عن طريق مصر، وغادر دمياط متوجها نحو قبرص، بعد أن فك المماليك أسره، مقابل فدية كبيرة وشروط مذلة.

ولم يلبث أن غادر قبرص متوجها نحو عكا، التي كان حاكمها يوحنا، شقيق ماري، إمبراطورة القسطنطينية، وزوجة الإمبراطور يلدوين الثاني، ومنها أخذ يعمل على تحقيق حلمه الذي لم يفارقه رغم كل النكبات، بل عاش معه حتى مات قي تونس وهو يقود الحملة الصليبية الثامنة عام 669 هـ (270 1م) .

استغل هذا الملك فرصة النزاع الذي شب بين المماليك البحرية الذين استولوا على السلطة في مصر، بعد مقتل تورانشاه بن الملك الصالح أيوب وبن بقايا الأيوبيين في الشام، الذين رأوا في ذلك ضياعا لجزء هام من أملاك الأسرة الأيوبية، فعارضوا ذلك بشده وعلى رأسهم السلطان يوسف صاحب حلب ودمشق، فصار الملك لويس يساوم كلا الجانبين- الأيوبيين والمماليك- ويعدهما بالمساعدة حتى اتفق أخيرا مع السلطان معز الدين أيبك على أن يطلق المماليك عددا كبيرا من الأسرى الصليبين، وعلى إعادة رؤوس الفرنجة المعلقة حول أسوار القاهرة منذ وقعة غزة، وأن يتنازل المماليك عن النصف الثاني من الفدية المفروضة على لويس التاسع، وتعهدوا بإعادة بيت المقدس إلى الصليبيين، وذلك كله مقابل أن يقف الملك لويس، إلى جانبهم في حِربهم ضد الناصر يوسف صاحب الشام وأتفق على "أن تكون هذه الاتفاقية خمسة عشر عاماَ".

ص: 138

هذا ولم تشر المصادر الإسلامية إلى هذه الاتفاقية غير ما أورده العيني عندما قال: "ومال الجيش المصري بالفرنج، ووعدوهم أن يسلموا إليهم بيت المقدس- إن نصروهم على الشامين- وكانت قد اشتدت الحرب بينهم" ورغم شعور الإنسان بالأسى والأسف لهذه المعاهدة، إلا أن من يعرف المماليك يوقن أنهم لم يكونوا معنيون بتنفيذ بعض بنودها، وخصوصا ما يتعلق منها بإعادة القدس إلى الصليبيين، أو تسليمهم ما هو غرب نهر االأردن، وأنهم كانوا يرون فيها خدعة تكتيكية لكسب الصليبين إلى جانبهم أو إبقائهم على الحياد، فباشروا أولا في تنفيذ بعض البنود كدليل على مصداقيتهم، فأخلوا سبيل باقي أسرهما الافرنج، وتنازلوا عن بقية الفدية المتبقية والبالغة حوالي ربع مليون جنيه ذهبي مصري، وأعادوا رؤوس قتلى الفرنج التي كانت معلقة على أسوار القاهرة منذ واقعة غزة.

وعليه توجه لويس التاسع من جانبه بقواته من قيسارية إلى يافا، وانتظر وصول المماليك للانضمام إليه لمحاربة الناصر يوسف، ولكن الملك الناصر يوسف أرسل جيشا رابط في غزة ليحول دون اجتماع جيوش الصليبيين والمماليك، مما أفسد عليهم خطتهم، وأخيرا تدخل الخليفة العباسي المستعصم بالله فسارع إلى التوسط بين الأيوبيين والمماليك فجنب بذلك القدس من السقوط مرة أخرى بأيدي الصليبيين، كما جنب المسلمين سفك دماء بعضهم خصوصا وأن الخطر المغولي قد أصبح على الأبواب.

ومع ذلك فإن لويس التاسع لم يفقد الأمل، فاستغل فترة خلاف المسلمين هذه لإصلاح أحوال الصليبيين، وتحصين مدنهم وحصونهم، فبدأ بتحصين مدينة عكا، باعتبارها عاصمة الصليبيين، ومقر إقامته، ومركز مملكة بيت المقدس، وأتم تحصينها عام 649 هـ (1251م) حتى أصبحت بمنتهى المنعة.

ص: 139

وبعد ذلك توجه لويس إلى قيسارية التي كان يحكمها يوحنا اليمان، فأمضى عاما في بناء سورها، وأقام أبراجا عدة، كما حصن مدينة حيفا وبعدها سار إلى يافا وأقام حولها سورا له ثلاثة أبواب وأربعة وعشرين برجا وخندقين.

كما حصن صيدا وجدد بناء ما هدمته قوات الناصر يوسف عندما أغارت عليها أثناء مهاجمة لويس التاسع لدمياط، وأحاطها بالأسوار والأبراج والخنادق. وذلك في زمن أميرها جوليان دي باليان.

ومن جهة أخرى حاول الملك لويس التاسع جمع كلمة الصليبيين الذين فرقتهم الخلافات والحروب المحلية، سواء كانت أسبابها تجارية كالتي كانت تحدث بين البنادقة والبيازنة والجنوية الذين تعرضوا بالمضايقة للويس التاسع نفسه، لاعتقادهم بأن حملته على مصر أضرت بعلاقتهم معها، أو دينية كالتي وقعت بين الجماعات الرهبانية العسكرية من داوية واسبتارية، أو عرقية بين أجناس السكان المختلفة لأن سكان الإمارات الصليبية كانوا خليطا متنافرا من الأمم والأخلاق والأهداف والميول.

كما حاول توطيد علاقاته مع نصارى الشرق (السريان المسيحيين) خصوصا الأرمن والموارنة حيث كان للموارنة وضع خاص لدى الصليبيين منذ بداية الحروب الصليبية لأنهم لعبوا دور الحلفاء للصليبيين، مما جعل الصليبيين يأنسون إليهم، ويدخلونهم تحت حمايتهم ولم ينسوا أنهم شاركوهم مرات عديدة في محاربة المسلمين، أهمها مشاركتهم في حملة لويس التام على مصر حيث حاربوا إلى جانبهم في المنصورة.

ص: 140

وفي نفس الوقت حاول لويس التاسع إصلاح الفساد المستشري في الإمارات الصليبية حيث كانت مرتعا للشرور التي وصفها القاصد الرسولي في حديث له إلى جونفيل يبين فيه مقدار الفساد في عكا "لا يعلم أحد مثلي الآثام والمعاصي التي ارتكبت في عكا ولذا فإن المولى سينتقم من سكانها حتى تغسل المدينة بدمائهم، وحينئذ سوف يأتي شعب آخر للإقامة فيها" وقد ساعد على هذا الفساد الأخلاقي كون الصليبيين خليطا متنافرا من الناس! كما سبق وذكرنا.

كل هذه الأعمال التي قام بها لويس التاسع ساهمت بالإِضافة لعوامل أخرىَ في تأخير سقوط الإمارات الصليبية مدة ليست قليلة، وإن كانت لم تلبث الخلافات أن دبت بينهم خصوصا بين الجماعات اللاتينية وذلك عام 1258م ودارت عامين وتسببت في إضعاف الصليبيين وذلك بعيد مغادرة لويس للشام عائدا إلى بلاده التي دبت فيها الفوضى، وليقود بعد فترة طويلة الحملة الصليبية الثامنة إلى تونس حيث توفي في بدايتها عام 669 هـ (1270م) .

دور بيبرس في التصدي للصليبيين:

لم ينس بيبرس لحظة عداوة الصليبيين وخطرهم على الشام ومصر، وهو الذي شارك في صدهم عن المنصورة ودمياط، ورأى محاولات لويس التاسع في تأجيج الصراع بين دولة المماليك الحديثة النشأة والملك الناصر ملك الشام، ثم تعاونهم مع الخطر الجديد القادم من الشرق، حيث رأوا فيه حليفا طبيعيا ساقه الله لنصرتهم، ألا وهو خطر المغول، فاتصلوا بهم، وعملوا أدلاء لجيوشهم وجواسيس يطلعونهم على عورات المسلمين، بل سمح بعضهم لبعض الحاميات المغولية بالنزول في حصونهم، فوقعوا هم أنفسهم تحت سيطرة ورحمة تلك الجماعات، وكذلك تآمر الصليبيين الدائم مع الحشيشيين الذي كانوا خطرا دائما يهدد كل مجاهد مسلم من زعماء المسلمين.

لهذا قرر بيبرس كما قلده في ذلك خلفاؤه أمثال قلاوون والأشرف خليل، اجتثاث الخطر الصليبي نهائيا من بلاد الشام.

ص: 141

وكتمهيد لتحقيق هذا الهدف تحالف بيبرس مع الإمبراطور البيزنطي باليولوجس عدو الصليبين، حيث عقد معه معاهدة دفاعية عام 660 هـ (1262م) كما حالف مغول القفجاق المسلمين (القبيلة الذهبية) وهادن أعداء المسلمين مغول فارس الوثنيين.

بعد كل هذه الترتيبات توجه بيبرس نحو الشام عام 663 هـ (1265 م) قاصدا إعداد قواته وإعادة توزيعها، تمهيدا لتنفيذ غرضه، وعند ذلك أحس الصليبيون بالخطر الكائن في استعدادات بيبرس ونيته نحوهم، فأرسلوا إليه وفودهم تعرض عليه المسالمة، وتعبر عن حسن نيتها نحوه، ولكنه كان يردها قائلا:"ردوا ما أخذتموه من البلاد، وفكوا أسرى المسلمين جميعهم، فإني لا أقبل غير ذلك"ثم يطردهم من حضرته.

وكان من حماس بيبرس في جهاد الصليبين، أنه لم يخل عام من الأعوام العشرة ما بين 659-669 هـ (1261- 1271م) إلا وكان يشن فيه حربا، ويسترد أرضا من أرض إحدى الإمارات الباقية بأيديهم وهي: أنطاكية، وطرابلس، وبعض مملكة القدس.

فبادر عام 661 هـ (1263م) بمهاجمة مدينة الناصرة، ثم هاجم بنفسه مدينة عكا الحصينة، ولكنه لم يتمكن أن فتحها بسبب ما أقامه فيها لويس التاسع من تحصينات.

وفي عام 663 هـ (1265م) حاصر مدينة قيسارية وفتحها رغم حصانتها، ثم غادرها جنوبا إلى قلعة أرسوف البحرية التي كَانت تحت سيطرة شرسان الاسبتارية المشهورين ببسالتهم، فقاموا بالدفاع المستميت عنها، ولم يمكنوا بيبرس من فتحها فلجأ إلى الحيلة بأن اتفق معهم على أن يستسلموا مقابل تأملات حياتهم، ولكنه قام بنقلهم إلى القاهرة بعد أن أمرهم بهدم قلعتهم.

ص: 142

وبعد ذلك قام بفتح يافا وعتليت، ثم استولى في العام التالي على صفد وهونين وتبنبن، والرملة مما جعل الإمارات الصليبية في حالة احتضار يائسة دفعتها إلى معاودة استعطاف السلطان بيبرس طالبة مصالحته، أو على الأقل عقد هدنة معه، وفي هذه المرة رأى أس من المناسب إجابة طلبهم، فصالحهم عَلى أساس المناصفة أو المشاركة وذلك بأن تصبح له حصة في غلاتهم ومنتجاتهم. ومن أطرف هذه الاتفاقيات بين بيبرس والإمارات الصليبية تلك الاتفاقية التي عقدتها معه ازابيلا، ملكة بيروت عام 667 هـ (1268م) ومدتها عشر سنوات، فقد ذكر القلقشندي أن هذه الملكة قد وثقت ببيبرس إلى درجة أنها كانت عندما ترغب حب السفر إلى جهة ما، تذهب بنفسها إلى بيبرس وتستودعه بلادها، وعندما خطفها الملك هيو الثالث ملك جزيرة قبرص قام بيبرس بتخليصها عن طريق توجيه تهديدات لهيو. لهذا اتخذت لنفسها حرسا من المماليك حتى ماتت عام 672 هـ (1274م) ، وقلدتها في هذه السياسة أختها وخليفتها حتى استولى المسلمون على بيروت.

أما عن موقف السلطان الظاهر بيبرس تجاه العدو الآخر والحليف الدائم لكل من الصليبين والمغول، وأعني به مملكة أرمينيا الصغرى فقد وجه إليها في عام 665 هـ (1266 ا) القائد قلاوون. بقصد تأديب ملكها على تحالفه مع التتار زمن هولاكو وأبقاخان، وتشجيعه لهما على مهاجمة الشام ومصر، والمساهمة في دعمهما بفرض حصار اقتصادي على دولة المماليك، حيث منع عنها مادتي الخشب والحديد. وقامت قوات قلاوون بهزيمة الأرمن قرب دراساك، ودمرت مدن سيس وأضنه وطرسوس والمصيصة، وألحقت بها دمارا هائلا في هجومها الذي استغرق عشرون يوما فقط، وقتل قلاوون أحد أبناء ملك أرمينيا وأسر الابن الثاني، في حين كان الملك نفسه- هيثوم الأول- في زيارة للمغول في بلاد فارس. ولم يوافق بيبرس على إطلاق أسيره إلا مقابل تنازل والده عن عدة مواقع استراتيجية ودفع جزية سنوية.

ص: 143

ومنذ ذلك الحين أصبحت أرمينية الصغرى ضعيفة لم تسبب للمسلمين أي مشكلة، إلا مرة واحدة في عهد السلطان محمد قلاوون حيث أخضعها نهائيا. وفي عام 666 هـ قام بأخذ يافا عنة وأجلي أهلها إلى عكا ثم استولى على حصن الشقيف وأجلي أهله إلى صور، ثم هاجم صور فنهب وأرعب، ثم هاجم حصن الأكراد ثم سار عنوة إلى حمص ومنها إلى حماه ثم إلى فامية.

سقوط أنطاكية بيد السلطان بيبرس:

وجه بيبرس همه إلى أنطاكية أقوى الإمارات الصليبية المتبقية والمتحالفة مع التتار، فبدأ بمهاجمة البلاد المحيطة بها، حيث استولى على عدة قلاع تقع إلى الشمال منها ثم وجه همه نحوها بجيشه المؤلف من ثلاث فرق، استولت الفرقة الأولى منها على ميناء السويدية، لتقطع اتصال انطاكيا بالبحر، ورابطت الفرقة الثانية في ممرات قيليقيه لتمنع وصول الإمدادات من أرمينية الصغرى، ثم هاجم المدينة بالفرقة الثالثة، واستمرت الهجمات، ودام الحصار. ثم جرت مفاوضات لتسليمها صلحا، ولكنه رفض، واستطاع أن يفتحها عنوة، في رمضان عام 666 هـ (1268م) فأحرقها، وقتل من أهلها خلقا كثيرا، وأسر أعدادا هائلة منهم، وغنم مالا يحصى من الأموال بلغ من كثرتها (أن قسمت الأموال بالطاسات) وبلغ الأسرى من الكثرة حتى أنه لم يبق غلام إلا وله غلام، وبيع الصغير باثني عشر درهماً) . فكان سقوطها معلما خطيرا على طريق نهاية الصليبين بالشام لأنها كانت بحكم موقعها الجغرافي سندا لهم منذ بداية الحروب الصليبية، وسبب سقوطها ذعرا شديدا في صفوف الصليبين، حتى أرسل ملك أرمينية الصغرى يعرض على بيبرس أن يسلمه بلاده مقابل الاستمرار في مهادنته.

ص: 144

ولم يكتف بيبرس بهذا النصر العظيم، فوجه همه نحو جزيرة قبرص ليؤدب ملكها هيو الثالث، الذي كان دائم التهديد للسفن الإسلَامية في البحر الأبيض المتوسط، ودائم المساعدة للصليبين، فوجه نحوه حملة بحرية عام 668 هـ (1270م) ، ولكنها فشلت بسبب العواصف التي حطمت معظم سفنها فنجي بذلك ملكها من عقاب بيبرس.

لم يثن هذا الفشل في فتح قبرص، بيبرس عن مواصلة الجهاد ضد الصليبيين، فاستولى في عام 669 هـ (1270م) على صافيتا وحصن الأكراد، وحصن عكار، والقرين، ثم واصل مهاجمة إمارة طرابلس، فاستولى على ما حولها من حصون وممرات وكاد أن يفتحها، ولكنه عندما علم بخروج الحملة الصليبية الثامنة من فرنسا خشي أن تكون جهتها مصر، فسارع إليها للاستعداد لمواجهة هذا الخطر، وعندما تيقن من توجه تلك الحملة إلى تونس عاد عام 670 هـ (1271م) لمواصلة هجومه على طرابلس فطلب أميرها بوهيمند السادس الصلح، ووصلت الأخبار بوصول الأمير إدوارد الأول إلى عكا، فظن أنها مقدمة لحملة صليبية كبرى، فاستجاب بيبرس لطلب بوهيمند وعقد معه صلحا مدته عشر سنوات، وتبعتها مملكة بيت المقدس فعقدت صلحا مماثلا، مما مكن بيبرس من التفرغ لقتال المغول والإسماعيلية، فوجه همه نحو الإسماعيلية، "الحشاشين"الذين كانوا يعادون المسلمين ويتآمرون مع الصليبين ضدهم، ويغتالون كبار المجاهدين من قادتهم كما تعاونوا مع المغول، ودفعوا لهم الأتاوات، فعزل مقدمهم نجم الدين الشعراني، وهدم حصونهم وقضي عليهم، بعد أن سلموها له وأشهرها الكهف والقدموس والمنطقة، وعوضهم عنها بإقطاعات.

جهاد السلطان الناصر قلاوون ضد الصليبيين:

ص: 145

لم يكد السلطان قلاوون يعتلي عرش مصر، حتى تمرد عليه نائب الشام، الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، فأعلن نفسه ملكا باسم الملك الكامل، واستولى على عدة حصون من حصون الشام، منها قلعة صهيون، ثم اتصل بأعداء المسلمين من مغول وصليبيين محاولا الاستعانة بهم ضد قلاوون، مما جعل أهل الشام ينفرون منه، وينفضون من حوله، ويتخلون عن نصرته، واستغل المغول هذه الفرصة، فاحتلوا بعض حصون الشام 769 هـ (1280م) ، واستولوا بقيادة أبغا على مدينة حلب، التي أحرقوا مساجدها ومدارسها وقتلوا معظم أهلها، ولم يُضع الصليبيون هذه الفرصة، فقاموا بمحاولة لاسترداد حصن الأكراد، ولكنهم فشلوا. وعندما علم قلاوون بهذا التحالف وهذه الجرائم خرج من مصر متوجها إلى الشام للقضاء على هذا الخطر، ولكنه لم يكد يغادر أرض مصر، حتى تعرض لمؤامرة داخلية جاءت من قبل بعض المماليك الذين يدعون بالمماليك الظاهرية. حيث تآمروا عليه بالاتفاق سرا مع الصليبيين. فواجه الموقف بسرعة وقبض عليهم فأعدم بعضهم وسجن البعض الآخر وأعاد النظام إلى صفوف جيشه.

فر المغول عندما علموا بوصول جيش الناصر قلاوون إلى غزة في طريقه لمحاربتهم، فأخلوا مدينة حلب والحصون التي كانوا قد احتلوها وأسرعوا عائدين نحو العراق ولم يصمد الأمير سنقر بدوره أمام جيش قلاوون وفر هاربا إِلى المغول محاولا مرة أخرى حضهم على غزو مصر.

ص: 146

عندئذ رأى السلطان قلاوون أن أخطر هؤلاء الأطراف الثلاثة المتآمرين هم المغول، عقد صلحا مع الصليبيين من داوية واسبتاريه ومع بوهيمنند السابع أمير طرابلس، مدته عشر سنوات، وذلك عام 680 هـ (1281م) . وعفا عن الأمير سنقر الأشقر وعينه حاكما على أقليم أنطاكية، واتفق مع الصليبيين في عكا بأن يكونوا على الحياد. وبهذا تفرغ لمقارعة المغول الذين عادوا التوجه نحو الشام بقيادة أبغا، يؤازرهم حليفهم ليو الثالث ملك أرمينيا الصغرى، فالتقى بهم قلاوون عام 680 هـ (1281م) في حمص وهزمهم بعد أن (هلك منهم خلق كثير) .

وهنا قرر الناصر أن ينتقم من الصليبين مستغلا، نصره على المغول وغير عابئ بصلحه معهم عام 680 هـ الذي كانت مدته عشر سنوات ولما يمض عليه سوى أربع سنوات فهاجم عام 684 هـ (1285م) حصن المرقب، ففتح ذلك الحصن الهام الذي كان فتحه خسارة كبرى للصليبيين لأنه أن أهم حصونهم ثم أتبع ذلك بالاستيلاء على اللاذقية عام 686 هـ (1287م) التي كانت آخر أملاك إمارة أنطاكية المتبقية بين الصليبين. بعد ذلك جاء دور طرابلس، وكانت حصينة، وقد مات أميرها بوهيمند السابع دون وريث، فدب النزاع بث الطامعين في إمارتها، حتى استعان بعضهم بالسلطان قلاوون، فاستغل هذه الفرصة وهاجمها في جيش لجب يضم أربعين ألفا من الفرسان وأكثر من مائة ألف من الرجال، وفتحها سنة 686 هـ (1289م) . ثم استولى على بيروت وجبله وبهذا لم يبق بيد الصليبيين سوَى صور وصيدا وعتليت وعكا التي كانت مركز مملكة بيت المقدس بعد سقوط القدس.

ص: 147

ورأى قلاوون أن يؤجل إلى حين الاستيلاء على بقية البلاد من أيدي الصليبيين، فوافق على تجديد الهدنة معهم لمدة عشر سنوات وتوجه إلى دمشق ولكن جموعا صليبية متحمسة وصلت من إيطاليا 689 هـ (1290م) ونزلت في عكا، وأخذت في الاعتداء على المسلمين المتواجدين خارجها، مما أغضب السلطان قلاوون ودفعه لأن يقسم على الانتقام منهم، وأخذ في الاستعداد لهذا الغرض، ولكنه توفي فجأة وهو في الطريق لتحقيقه عام 689 هـ (1290م) .

وقد وصف ابن العمري قلاوون رحمه الله بقوله: "كان رجلا مهيبا شجاعا، فتح الفتوحات الجليلة، مثل المرقب وطرابلس، التي لم يجسر أحد من الملوك مثل صلاح الدين وغيره على التعرض لها لحصانتها، وكسر جيش التتار في حمص، وكانوا في ثمانين ألفا".

وقد خلف الأشرف خليل بن قلاوون أباه في السلطنة، لأن أخاه الملك الصالح على بن قلاوون الذي أقامه أبوه ملحَا في حياته قد مات في سنة 687 هـ (1288م) بعد أن بقي ثماني سنوات سلطانا في حياة أبيه.

ولم يكن الأشرف خليل محبوبا من الأمراء: لأنه كان قاسيا وغير متمسك بحسن الخلق، حتى اتهم بدس السم لأخيه علي، وقد استلم الحكم فور وفاة أبيه، وقضى على الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة الذي تآمر عليه، ثم استعد للخروج إلى الشام، ورغم محاولة الصليبيين ثنيه عن ذلك بأن أرسلوا إليه (يسألونه العفو) فإنه (لم يقبل منهم ما اعتذروا به) .

توجه نحو عكا، واجتمعت إليه جيوش مصر والشام سنة 690 هـ (1291م) فقام بمحاصرتها مدة أربعة وأربعين يوما، ورماها بالمنجنيق، حتى فتحها في جمادى الأول من عام 690 هـ (1291م) ، رغم المقاومة العنيدة التي أبدتها حاميتها، وإمدادات قبرص لها - حيت أن الصليبين كانوا يعلمون أنها آخر أمل لهم في البقاء في الشام- وقد فر بعض سكانها إلى عرض البحر المتوسط وتكدسوا في السفن التي غرق بعضها لكثرة من كانوا على ظهرها.

ص: 148

وبعد ذلك قام الأشرف خليل بالاستيلاء بسهولة على بقية ما تبقى بأيدي الصليبين مثل صور وحيفا اللتين قاومتا مقاومة كبيرة، ثم اضطرتا للتسليم فنجتا بذلك من التخريب، ثم استولى الأشرف خليل على عتليت وصيدا وانطرسوس، وبهذا تم القضاء نهائيا على الوجود الصليبي في الشام، وإن كان الصليبيون في جزيرة إرواد المقابلة للساحل الشرقي قد ظلوا يغيرون على السواحل بين الفينة والأخرى ويقطعون الطرق، مما أزعج نائب السلطنة المملوكية على الشام، وجعله يطلب معونة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فجهز أسطولا ووجهه نحو هذه الجزيرة بعد أن ضم إليه جيش طرابلس ففتحها وملكها وقتل من أهلها خمسمائة وذلك عام 702 هـ (1302م) .

وهكذا بالقضاء على الصليبين في عام 690 هـ (1291م) وبزوال الخطر المغولي عن الشام ومصر، أصبح لدولة المماليك شأن عظيم في السياسة الدولية خصوصاً في عهد سلطانها الناصر محمد ابن قلاوون في سلطنته الثالثة.

أدرك الصليبيون في أوربا فشل محاولاتهم المتلاحقة للعدوان على بلاد الإسلام في الشام ومصر، ورأوا زوال آخر إماراتهم بعد قرنين من تأسيسها، رغم ما بذل في سبيل إقامتها من جهود مادية ومعنوية، ومن سفك في سبيلها من دماء، كما لمسوا فتور الحماس الصليبي، بعد فشل حملتي لويس التاسع السابعة والثامنة على مصر وتونس، لذلك اضطروا إلى تقبيل اليد التي حاولوا قطعها فلجأوا إلى الدبلوماسية والمراسلات والسفراء والهدايا، علهم يحققون عن طريقها ما فشلوا في تحقيقه بالتعصب والسيف.

ص: 149

انهال سفراء الدول الأوربية على بلاط الملك الناصر محمد بن قلاوون في القاهرة، محملين بالهدايا والرسائل التي تلح في طلب الصداقة والموادعة، وتوثيق عرى الصداقة، في حين كان غرضها الأساسي هو استدرار عطف الناصر على النصارى في دولته، سواء من كان منهم من الأقباط في مصر أو من أهل الشام، فأرسل البابا يوحنا الثاني والعشرين في عام 727 هـ (1326م) رسالة إلى الناصر طالبا منه أن يعامل نصارى الشرق معاملة عادلة، مقابل معاملة مماثلة للمسلمين، فرد عليه الناصر مجيبا طلبه.

وفي نفس السنة أرسل شارل الرابع ملك فرنسا رسالة مماثلة لنفس الغرض فرد عليه الناصر أيضا مجيبا طلبه، كما أرسل إليه إمبراطور بيزنطة سفراء محملين بالهدايا راجيا إياه معاملة النصارى الملكانيين لديه بالرعاية والعدل، فقبل الناصر طلبه، وعقد معه حلفا لصد الأتراك العثمانيين.

وبلغت العلاقات بين الناصر ويعقوب ملك ارغونة شأوا كبيرا بسبب المراسلات بينهما ما بين سنتي 03 7- 728هـ (1303_1327م) ، التي كان هدفها إيجاد علاقة صداقة بينهما، والحصول على ميزات تجارية لأرغونة في مصر، وتسهيل الحج للأراضي المقدسة، وإطلاق سراح النصارى المسجونين في مصر، وضمان حسن معاملة الأقباط والنصارى عامة في الشرق.

وقد رأى الناصر محمد- الذي كان ملكا مستنيرا محنكا، يميل إلى المسالمة- رأى ذلك فرصة لتوثيق العلاقات بين دولته والآخرين في الشرق والغرب، يحقق بها مصالح مشتركة وخاصة حماية المسلمين في أسبانيا التي كانت خاضعة لحاكم أرغونة، بالإضافة إلى المصالح التجارية والعسكرية في الوقوف أمام الخطر التركي العثماني.

ص: 150

ولا أدل عام أهمية دولة المماليك الإسلامية في هذا العصر من أن يصبح سلاطينها محط أنظار السفراء والرسل من مغول ويمنيين وأرمن ونوبيين، حتى وصفهم المقريزي بقوله:"وفيه (25 محرم 5 72 هـ) اجتمع بمصر من رسل الملوك ما لم يجتمع منهم في الدولة التركية، وهم رسل اليمن ورسل صاحب اسطنبول! ورسل الأشكري ورسل متملك سيس، ورسل أبي سعيد (ملك التتار) ، ورسل ماردين ورسا ابن قرمان ورسل متملك النوبة وكلهم يبذلون الطاعة".

إلا أن هذه المكانة قد ضعفت بموت السلطان الناصر محمد فسبحان مغير الأحوال.

المصادر والمراجع العربية

1_

ابن الأثير، 630 هـ (1232م) عز الدين، علي بن محمد الجزري، الكَامل في التاريخ، (12 جزءا، بولاق) 1310 هـ.

2 _

أحمد مختار العباديَ، دكتور: قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام، دار النهضة العربية، بيروت، 1969م.

3 _

ابن إياس 930 هـ (1523 م) محمد بن أحمد الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور (كتاب تاريخ مصر) ، 3 أجزاء، بولاق، 1370 م.

4 _

بيبرس الدوادار 725 هـ (1325م) الأمير ركن الدين بيبرس المنصوري: زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، الجزء العاشر، مكتبة جامعة القاهرة، رقم 24028 تاريخ، تصوير شمسي.

5 _

جميل عبد الله المصري، دكتور: الموالي، موقف الدولة الأموية منهم، دار أم القرى للنشر والتوزيع، عمان، 1988م، الطبعة الأولى.

6 _

جوزيف نسيم جوريف:

1- العدوان الصليبي على مصر، دار النهضة، بيروت، 1981م.

2- العدوان الصليبي على الشام، دار النهضة، بيروت، 1981م.

7 _

الخزرجي، علي بن حسن (القرن الثامن الهجري) : العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، جزءان.

8 _

ابن خلدون، 808 هـ (1405م)، عبد الرحمن بن أحمد:

1- مقدمة ابن خلدون، بيروت، 1900م.

2-

العبر وديوان المبتدأ والخبر، 8 أجزاء، القاهرة، 1984 م.

9 _

الذهبي، 748هـ (1347م) شمس الدين محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء.

ص: 151

10_

رشيد الدين، فضل الله الهمداني، جامع التواريخ، تاريخ المغول، نقله إلى العربية محمد صادق نشأت وفؤاد عبد المعطي الصياد، القاهرة،.196م.

11_

السيوطي 917 هـ (1605م) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر:

1-

تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين القائمين بأمر الله، المطبعة الأميرية، 1351هـ.

2-

حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، جزءان، 1327هـ.

12_

ابن شاكر 873 هـ (1469م)، فخر الدين محمد: فوات الوفيات، بولاق، 1299م.

13-

أبو شامة 665 هـ (1268 م) عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الدمشقي، الذيل على الروضتين، تحقيق: عزت العطار بعنوان تراجم رجال القرنين السادس والسابع، القاهرة، 1947م.

14_

ابن شاهين 873 هـ (1468م)، غرس الدين خليل الظاهري: زبدة كشف الممالك وبيان طرق المسالك، تحقيق بول رافيس، باريس، 1895 م.

15-

ابن شداد، بهاء الدين: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، القاهرة، 1317هـ.

16-

الطبرِي 130هـ (923م)، أبو جعفر محمد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك، 13 جزءاً ليدن، 1890 م.

17-

أبو الفداء732 هـ (1331م) إسماعيل بن عاكف عماد الدين صاحب حماه: المختصر في أخبار البشر، 4 أجزاء، 1286 هـ.

18-

ابن الفرات المصري 807 هـ (1405 م)، ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم: تاريخ ابن الفرات المعروف باسم: الطريق الواضح المسلوك إلى معرفة تراجم الخلفاء والملوك، تحقيق: قسطنطين زريق والمستشرق ليفي دلافيدا.

19-

ابن أبي الفضائل 672 هـ (1273م) مفضل: النهج السديد والدر المفيد فيما بعد تاريخ ابن العميدة جزءان، حققت بلوشيه، باريس، 1912م.

20-

القلقشندي 821 هـ (1471م)، أبو العباس أحمد: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، 14 جزءا، القاهرة، 1913 _ 9119م.

21-

ابن كثير 774 هـ (1387م) عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر: البداية والنهاية في التاريخ، 14 جزءا، القاهرة، 1351_ 1358هـ.

22-

عاشور، سعيد عبد الفتاح:

ص: 152

1-

الحركة الصليبية، جزءان، مكتبة الأنجلو المصرية، 1963 م.

2-

قبرص والحروب الصليبية، القاهرة، مكتبة النهضة، 1957م.

3-

مصر في عهد دولة المماليك البحرية، القاهرة، 1969م.

23-

ابن عبد الحكم 257 هـ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم: فتوح مصر والمغرب، طبعة 1924م.

24-

عبد الله بن أيبك، القرن الثامن أبو بكر: كنز الدر وجامع الغرر أو الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية، تسعة أجزاء في 27 مجلدا، مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم 2578.

25-

عبد المنعم ماجد: دولة سلاطين المماليك ورسومهم في مصر، مكتبة الأنجلو. (بدون تاريخ) .

26-

علي إبراهيم حسن: تاريخ المماليك البحرية، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية، 1967م.

27-

العمري 749 هـ ابن فضل الله شهاب الدين أبي العباس أحمد بن يحي:

1-

مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، 20 جزءا، مخطوطة بدار الكتب برقم (2368) .

2-

التعريف بالمصطلح الشريف، القاهرة، 1302 هـ.

28-

العيني 855 هـ (1452م) بدر الديات أبو محمد بن أحمد: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، 23 جزءا في 69 مجلدا، الجزء الخاص بحوادث 656-673 هـ (مخطوطة بمكتبة دار الكتب المصرية برقم 1584) .

29-

أبو المحاسن 874 هـ (1496م)، جمال الدين بن يوسف بن تَغري بردي:

1-

النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 9 أجزاء، دار الكتب، 1939م.

2-

المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، 3 أجزاء، مخطوطة بدار الكتب برقم 1113.

30-

المقدسي 383 هـ (977م)، شمس الدين أبو عبد الله محمد: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، طبعة دي غويه 1893م.

31-

المقريزي 845 هـ (1441م) تقي الدين أحمد بن علي: المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، جزءان، بولاق، 1270 هـ، والقاهرة 1930م، تحقيق: مصطفى زيادة.

2_

السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق محمد مصطفى زيادة، القاهرة، 1939م.

ص: 153

32-

المقري 1 104هـ (1631م)، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد: نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968م.

33-

ابن واصل 697 هـ (1297م)، جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليم الشافعي: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب ط صورة شمسية بمكتبة جامعة الإسكندرية تحقيق: جمال الشيال.

34-

يوسف دريان:

1-

لباب البراهين الجلية عن حقيقة أمر الطائفة المارونية منذ أوائل القرن الخامس

إلى أوائل القرن الثالث عشر من القرون المسيحية. (تاريخ الطبع غير معلوم) .

2-

نبذة تاريخية في أصل الطائفة المارونية واستقلالها بجبل لبنان من قديم الدهر حتى الآن، القاهرة، مطبعة الأخبار، 1916 م.

المراجع الأجنبية

Atiya: Egypt and Aragon

The crusades in the later middle ages. (London 1938) .

Davis ،E.J: invasion of Egypt in A.D 1249 (London 1897) .

Encyclopedia of Islam.

Encyclopedia of religion.

Haut Coeur et wiet: les mosques de caire.

Heyel. W: histoire du commerce du Levant and au Moyer age. 4 vols، (Leipzig 1899) .

Hitti. P.k. the history of the Arabs. (London 1940) .

Join Ville. Jean. sire. de history of st.louis.tr.joan Evans.

King: the knights of hospitellers.

Lane- poole: history of Egypt in the middle ages- (London 1925) .

ص: 154

الإمام أبو العباس ابن سريج

المتوفي سنة 306 ص

وآراؤه الأصولية

تأليف

د/ حسين بن خلف الجبوري

كلية الشريعة والدراسات الإسلامية

جامعة أم القرى- مكة المَكرمة

مقدمة

الحمد لله وحده، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال مدبر الكائنات في أزل الآزال، ومقدر الأرزاق والآجال نحمده على فضله الدائم المتكرر، ونشكره على أفضاله التي عمنا بها.

وأصلي وأسلم على البشير النذير سيدنا محمد الهادي إلى نور الإيمان من ظلمات الكفر والضلال، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

وبعدْ: إنهَ لمن فضول القول ونافلة الكلمة أن أشير هنا وأبين ما للأصول من مكانة بين العلوم الشرعية، ثم أن أشيد بمكانة علماء الأصول، لأن مكَانتهم من مكانة أصوله الفقه بين العلوم ولما كانت مكانة الأصول معروفة جلية بين العلوم فكذلك تكون مكَانة علماء الأصول جلية ظاهرة بين العلماء.

وانطلاقا من هذه الأهمية ومن هذه المكانة العلمية لأصول الفقه وعلمائه فقد أقدمت على دراسة الآراء الأصولية لعالم جليل من علماء أصول الفقه وهو الإمام أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج الشافعي البغدادي المتوفي سنة 306 هـ.

ودراسة آراء ابن سريج الأصولية لها أهمية كبيرة وفائدة جليلة وذلك لمكانة ابن سريج العلمية بين علماء الشافعية خصوصا وبين علماء عصره عموما.

وهذا ما أثبته في دراسة حياته ومكانته العلمية ومن خلال مصنفاته ومكانة تلاميذه من بعده.

وهناك أسباب كثيرة دفعتني لأن أقوم بجمع ودراسة آراء ابن سريج الأصولية وإظهارها في مؤلف مستقل جمعتها من بطون كتب أصول الفقه التي حوت في ثناياها الأقوال الأصولية لابن سريج ومن هذه الأسباب ما يلي:

أولاً: المكانة العلمية التي يتمتع بها ابن سريج بين علماء الشافعية خصوصا وعلماء عصره عموما حتى قيل عنه بأنه الشافعي الصغير.

ص: 155

ثانياً: لقد اعتبر ابن سريج من المجتهدين وقد انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي بل اعتبر مجدد المائة الثالثة من الهجرة.

ثالثاً: كثرة ما ورد له من أقوال أصولية ولما لهذه الأقوال من أهمية من الناحية العلمية الاستدلالية.

رابعاً: لم يظهر كتاب في أصول الفقه للشافعية يتناول الأقوال الأصولية عند الشافعية في الفترة الزمنية التي عاش فيها ابن سريج. بل الذي ظهر هو كتاب الرسالة للإمام الشافعي ومعلوم أن الرسالة لم تتناول في ثنايا ما ورد فيها جميع أبواب الأصول وقواعده هذا مما يحتم جمع أقوال ابن سريج لأنه عاصر هذه الفترة الزمنية التي لا يوجد فيها للشافعية أصول مدونة غير الرسالة.

خامساً: كثرة تلاميذ ابن سريج ومكانتهم العلمية بعد وفاته حيث إنهم قد أثروا وأثروا في المذهب الشافعي في الفترة التي عاشوا فيها. ويظهر ذلك من خلال ما أقدمه من دراسة عنهم.

لعل هذه أهم الأسباب التي دفعتني وشجعتني على الكتابة عن هذا العالم الجليل في تلك الفترة الزمنية لما لها من أهمية في تاريخ الأمة الإسلامية. وقبل أن أبين عملي في هذا البحث أقول قد يقول قائل لماذا لم تقارن هذه الأقوال بآراء الآخرين من الأصوليين وتناظر بين أقوال ابن سريج وأدلته؟ أقول لو عمدت إلى أن يكون البحث بهذه الصورة لأدى إلى عدم تحقيق الهدف وهو إبراز الآراء الأصولية لابن سريج لأن ذكر بقية الأقوال سواء كانت للجمهور أم أقوال منفردة لبعض علماء الأصول سيؤدي إلى عدم إظهار آراء ابن سريج.

كما أن هيئة المقارنة هذه موجودة في كتب الأصول عند كل مسألة من المسائل ولو ذكرت هنا لأدى إلى فوات الهدف من بيان آراء ابن سريج. لذا اخترت أن أذكرها منفردة وهذا ما أدى إلى عدم الرد على أقواله ومناقشتها لأن الرد والمناقشة يقتضي ذكر أقوال الآخرين وأدلتهم ومناقشتها ثم الترجيح بينها.

ويمكن أن أبين عملي في إظهار هذه الأقوال والآراء بما هي عليه في هذا المؤلف فأقول:

ص: 156

أولاً: عملت دراسة أظنها كافية وافية عن ابن سريج أظهرت من خلالها مكانته العلمية بين علماء عصره.

ثانياً: قمت بجمع وإخراج للآراء الأصولية لابن سريج من بطون الكتب الأصولية سواء كانت للشافعية أم لغيرهم واقتصرت على ذكر هذه الكتب ولم أذكر أي مرجع لم يتعرض بالذكر لآراء ابن سريج الأصولية.

ثالثاً: رتبت هذه الأقوال على حسب ترتيب أبواب أصول الفقه التي جرف ترتيبها عند علماء أصول الشافعية.

رابعاً: أثبت هذه الأقوال على شكل مسائل منفردة كل منها عن الأخرىَ حسب ورودها في كتب الأصول.

خامساً: قمت بترتيب الأدلة وترقيمها تسلسليا حيث إنها في كثير من المسائل التي لم تكن مرتبة ولا متسلسلة، كما أني أظهرت وأبرزت أوجه الاستدلال من كل دليل من أدلته.

سادساً: ذكرت أرقام الآيات والسور التي استدار بها ابن سريج.

سابعاً: خرجت الأحاديث والآثار التي استدل بها ابن سريج في أقواله الأصولية.

هذا وأدعو الله عز وجل مخلصا صادقا في أن يجعل عملي هذا في ميزان حسناتي يوم تنقطع الأعمال والأقوال ولا يبقى إلا ما قدم الإنسان من الإحسان وما خلف من علم نافع ينتفع به من بعده.

اللهم حقق لي هذا يا رب ونجني بهذا العمل وغيره من عذابك الذي لا نقوى عليه ولا على ما هو دونه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الصراط والحساب.

د. حسن بن خلف الجبوري

الدراسة عن الإمام أبي العباس ابن سريج

المتوفي سنة 306 هـ

الدراسة عن الإمام أبي العباس ابن سريج الشافعي البغدادي تتناول جوانب متعددة ونواح متفرعة من حياته الشخصية والعلمية لذا أرى بيانها في المباحث الآتية:

المبحث الأول

في اسمه ونسبه ووفاته

هو أحمد بن عمر بن سريج، أبو العباس، الشافعي البغدادي. وسريج بضم السين وفتح الراء وسكون الياء بعدها الجيم.

ص: 157

وسريج جده كان تقياً ورعا، ومشهور بالصلاح الوافر. ولد ابن سريج سنة 248هـ ببغداد وتوفي فيها في جماد الأولى سنة 306هـ عن سبع وخمسين سنة وستة أشهر، ودفن بحجرة سويقة غالب. وقيل يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول.

المبحث الثاني

في مكانته العلمية (1)

لابن سريج مكانته العلمية الكبيرة المشهورة إذ أنه إمام الشافعية في عصره.

لذا أرى من أجل إعطاء هذه المكانة حقها في البحث، ولإنصاف الرجل كما ينبغي في مكانته العلمية التي كان يتمتع بها بين علماء زمانه. أرى أن يكون الكلام متناولاً لجميع النواحي التي تبرز هذه المكانة، ويظهر بها المقام الائق بابن سريج. ويمكن تحقيق ذلك بالجوانب الآتية:

أولاً: ما قاله العلماء في حقه:

كان أبو العباس ابن سريج يلقب بالباز الأشهب، وهو من الطبقة الثالثة من طبقات الفقهاء الشافعية. كان إماماً مشهوراً وقاضياً عادلاً، وهو الذي نشر المذهب الشافعي وبسطه.

قال عنه البعض: "بأنه يفضل على جميع الأصحاب حتى على المزني، وقد أخذ عنه خلق كثير".

وقال البعض في حقه: "بأنه شيخ الأصحاب وسالك سبيل الإنصاف، وصاحب الأصول والفروع، والحساب، وناقض قوانين المعترضين على الشافعي، ومعارض جوا بات الخصوم".

وقال عنه الشيخ أبو حامد الاسفراييني: "نحن نجري مع ابن سيرين في ظواهر الفقه دون دقائقه".

وقال أبو علي بن خيران. سمعت أبا العباس بن سريج يقول: "رأيت كأنما مطرنا كبريتا أحمر فملأت اكماجي وحجري فعبرت لي أن أرزق علما عزيزاً كعزة الكبريت الأحمر".

(1) انظر: تاريخ بغداد 4/287، وطبقات الفقهاء 108، وتذكرة الحفاظ 3/811، والعبر 1/450، وطبقات الفقهاء الشافعية 62، وطبقات الشافعية 41، وشذرات الذهب 2/247، وسير أعلام النبلاء 14/202، والمنتظم 6/149.

ص: 158

وقال الحاكم وغيره: سمعت حسان بن محمد يقول: "كنا في مجلس ابن سريج سنة ثلاث وثلاثمائة فقام إليه شيخ من أهل العلم فقال: أبشر أيها القاضي فإن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد- يعنى للأمة- أمر دينها وأن الله بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأظهر كل سنّة وأمات كل بدعة. وبعث على رأس المائتين محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه حتى أظهر السنّة وأخفى البدعة. وبعثك على رأس الثلاثمائة حتى قويت كل سنة وضعفت كل بدعة ثم أنشأ يقول:

عمر الخليفة ثم خلف السودد

اثنان قد مضيا فبورك فيهما

خير البرية وابن عم محمد

الشافعي الألمعي محمد

من بعدهم سقيا لتربة أحمد

أرجو أبا العباس أنك ثالث

قال: "فصاح أبو العباس بن سريج: وبكى فقال: لقد نعى إليّ نفسي". قال حسان: "فمات القاضي أبو العباس في تلك السنة".

وجاء في تذكرة الحفاظ. كذا في النسخة سنة ثلاث وكأنها سنة ست تصحفت.

كان أبو العباس: صاحب سنة واتباع، إذ أنه سئل عن صفات الله تعالى فقال: "حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تجده، وعلى الألباب أن تصف إلا ما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

واشتهر النقل عن ابن سريج أنه قال: "ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح، يفوته الفقه، ولا يصل إلى معرفة الكلام".

ثانيا: تقديم العلماء له عليهم تقديرا لمكانته العلمية:

ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أن العلماء باتفاق يحترمون مكانة ابن سريج العلمية ويقدمونه عليهم نظرا لهذه المكانة لذا ذكر هذه الرواية مشيرا لهذا المعنى إذ قال: أخبرني أحمد بن محمد بن أحمد الهروي في كتابه، حدثنا الحسن بن إبراهيم بن الحسين الليثي بمصر، حدثني الحسين بن الفتح. قال:"كان ببغداد جمع للقضاة والمعدلين والفقهاء وقاموا ليمضوا إلى موضع فاتفقوا على أن يتقدمهم أبو العباس بن سريج، ومنهم من هو في سن أبيه".

ص: 159

ثالثا: مناظراته العلمية للعلماء وانتصاره فيها عليهم:

ويمكن التمثيل لهذه المناظرات بالصور الآتية:

(1)

اجتمع أبو العباس بن سريج وأبو بكر محمد بن داود الظاهري فاحتج أبو بكر على أن أم الولد تباع إذ قال: "أجمعنا إنها كانت أمة تباع، فمن ادعى أن هذا الحكم يزول بولادتها فعليه الدليل". فقال له أبو العباس بن سريج: "وأجمعنا على أنها لما كانت حاملا لا تباع فمن ادعى أنها تباع إذا انفصل الحمل فعليه الدليل". فبهت أبو بكر الظاهري.

(2)

كان العباس بن سريج وأبو بكر محمد بن داود الظاهري إذا حضرا مجلس القاضي أبي عمر محمد بن يوسف لم يجر بين اثنين فيما يتفاوضانه أحسن مما يجرى بينهما. وكان ابن سريج كثيرا ما يتقدم أبا بكر في الحضور في المجلس. فتقدمه أبو بكر فسأله: "حدث من الشافعيين عن العَود الموجب في الظهار ما هو؟ ".

فقال: "إنه إعادة القول ثانيا": وهو مذهبه، ومذهب داود فطالبه بالدليل: فشرع فيه، ودخل ابن سريج، فاستشرحهم ما جرى فشرحوه فقال ابن سريج لابن داود:"يا أبا بكر أعزك الله هذا قول مَن مِن المسلمين تقدمكم فيه". فاستشاط أبو بكر من ذلك. وقال: "أتقدر أن من اعتقدت أن قولهم إجماع في هذه المسألة. إجماع عندي. أحسن أحوالهم أن أعدهم خلافا وهيهات أن يكونوا كذلك". فغضب ابن سريج وقال: "إئت يا أبا بكر بكتاب "الزهرة "أمهر منك في هذه الطريقة". فقال أبو بكر: "وبكتاب "الزهرة تعيرني؟ والله ما تحسن تستتم قراءته قراءة من يفهم، وإنه لمن أحد المناقب إلا كنت أقول فيه:

وأمنع نفسي أن تنال محرما

أكرر في روض المحاسن مقلتي

فلولا اختلاس رده لتكلما

وينطق سرى عن مترجم خاطري

فما أن أرى حبا صحيحا مسلما"

رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم

فقال له ابن سريج: "أو علي تفخر بهذا أم القول وأنا الذي أقول:

قد بت أمنعه لذيذ سنائه

وماهر بالفتح من لحظاته

وأكرر اللحظات في وجناته

ضنا بحسن حديثه وعتابه

ولى بخاتم ربه وبداته"

ص: 160

حتى إذا ما الصبح لاح عموده

فقال أبو بكر لأبي عمر: "أن الله القاضي قد أقر بالميت على الحال التي ذكرها وأدعى البراءة بما يوجبه، فعليه إقامة البينة".

فقال ابن سريج: "من مذهبي أن المقر إذا أقر قرارا وناطه بصفة كان إقراره موكولا إلى صفته".

فقال ابن داود: "للشافعي في هذه المسئلة قولان". فقال ابن سريج: "فهذا القول الذي قلته اختياري الساعة".

(3)

كان علي بن عيسى الوزير منحرفا عن أبي العباس بن سريج لفضل ترفعه، وتقاعده عن زيارته منصبا بالميل إلى أبي عمر المالكي القاضي لمواظبته على خدمته، ولذلك كان ما قلده من القضاء. وكانت في أبي عمر نخوة على أكفائه من فقهاء بغداد لعلو مرتبته، فحمل ذلك جماعة من الفقهاء على تتبع فتاويه حتى ظفروا له بفتوى خالف فيها الجماعة وخرق الإجماع. وأنهى ذلك إلى الخليفة والوزير فعقدوا مجلسا لذلك. وكان فيمن حضر أبو العباس بن سريج. فلم يرد على السكوت. فقال له الوزير:"ما تقول في ذلك". فقال: "ما أكاد أقول فيهم، وقد ادعوا عليه خرق الإجماع، وأعياه الانفصال عما اعترضوا به عليه، تم أن ما أفتى به قول عدة من العلماء وأعجب ما في الباب أنه قول صاحبه مالك رضي الله عنه، وهو مسطور في كتابه الفلاني"فأمر الوزير بإحضار ذلك الكتاب. فكان الأمر على ما قاله. فأعجب به غاية الإعجاب، وتعجب من حفظه لخلاف مذهبه، وغفلة أبي عمر عن مذهب صاحبه، وصار هذا من أوكد أسباب الصداقة بينه وبين الوزير. ومازالت عَناية الوزير به حتى رشحه للقضاء فامتنع أشد الامتناع. فقال:"إن امتثلت ما مثلته لك وإلا أجبرتك عليه". قال: "افعل ما بدا لك". فأمر الوزير حتى سمر عليه بابه، وعاتبه الناس على ذلك. فقال:"أردت أن يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب الشافعي عومل على تقلد القضاء بهذه المعاملة وهو مصر على إبائه زاهد في الدنيا".

وهذا الأمر يمكن أن يكون في أخر حياته إذ أنه ذكرت كثير من المصادر أنه تولى القضاء بشيراز.

ص: 161

(4)

ناظر أبو العباس بن سريج أبا بكر محمد بن داود يوما فقال له: "أنت تقول بالظاهر، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقل درة شرا يره. فمن يعمل نصف مثقال؟ "فسكت ابن داود طويلا. فقال له ابن سريج: "لم لا تجيب؟ "فقال: "أبلعني ريقي". فقال له أبو العباس: "أبلعتك دجلة". وقال أبو بكر بن سريج يوما: "أمهلني ساعة". فقال له: "أمهلتك من الساعة إلى قيام الساعة".

وقال أبو بكر لابن سريج يوما: "أكلمك من الرجل فتجيبني من الرأس". فقال له: "هكذا البقر إذا جفت أظلافها دهنت قرونها".

رابعا. استدراكه على بعض العلماء فيما صدر عنهم من أحكام:

لقد استدرك أبو العباس ابن سريج على الإمام محمد به الحسن الشيباني مسألة في الحساب وهي.

إذا خلف ابنين وأوصى لرجل بمثل نصيب أحد ابنيه إلا ثلث جميع المال فإن محمد بن الحسن قال: "المسئلة محال، لأنه أستثنى ثلث المال فقط".

وقال أبو العباس ابن سريج: "المسئلة من تسعة لأحد ابنيه أربعة، والثاني مثله، وواحد للموصى له وهو نصيب أحد ابنيه إلا ثلث جميع المال وإذا ضم إلى نصيب الموصي له، صار أربعة". ووجه جواب ابن سريج أنه يجعل إلا ثلث جميع المال قيدا في مثل النصيب، يعني مثل النصيب خارجا منه ثلث الأصل.

خامسا: بعض المسائل التي اهتم العلماء بنقل أحكامها عنه:

لقد نقل كثير من العلماء آراءه الفقهية والأصولية في كتبهم ومجالسهم العلمية حتى شاعت في الآفاق ومنها ما يلي:

(1)

قال الشيخ أبو حامد الاسفراييني كما نقل عنه ذلك الإمام النووي رحمه الله.

في تعليقه في مسئلة صفة الجلوس في التشهد الأول، قال ابن سريج:"متى عرف من أصول الشافعي شيء ذكره في كتبه عمل به. فمتى وجد في كتبه غير ذلك يؤول، ولم ينزل على ظاهره لئلا يعد قولا آخر له".

(2)

نقل عنه أنه قال: "قل ما رأيت أن المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح، يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام".

ص: 162

(3)

جاء عن السبكي في طبقاته: أن ابن سريج قال: "يؤتى يوم القيامة بالشافعي وقد تعلق المزني يقول: رب هذا قد أفسد علومي. فأقول أنا: مهلا، بأبي إبراهيم فإني لم أزل في إصلاح ما أفسد".

(4)

جاء في الطبقات الكبرى فيما قاله الحاكم: أنه سمع الأستاذ أبا الوليد النيسابوري يقول: "سألت ابن سريج. ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" فقال: "إن القرآن أنزل ثلثا منه أحكام، وثلثا منه وعد ووعيد، وثلثا أسماء وصفات. وقد جمع في (قل هو الله أحد) الأسماء وصفات".

(5)

وجاء عن العبادي في طبقاته: أن ابن سريج أفتى في قول من قال: "يا زانية أنت طالق إن شاء الله""بأنها لم تطلق، وهو قاذف، لأن قوله يا زانية اسم لها، وخبر عن محتمل، والاستثناء لا يرجع للاسم"، وإذا قال:"يا زانية إن شاء الله". "لا يصح الاستثناء، لأنه خبر عن فعل ماض، وهو واقع، ويستحيل تعلق وقوعه بمشيئته من بعد". وإذا قال: "أنت زانية إن شاء الله""اختلفوا فيه، وقيل لا يصح الاستثناء". قال أبو حامد المروزي: "وقطع به أنه يصح رجوعه، لأنه يجري مجرى التشبيك في الخبر. كما لو قال أنت زانية إن شاء الله".

(6)

جاء في طبقات السبكي: أن قال: "كان ابن سريج يذهب كما حكاه الماوردي في الحاوي في باب "ما على القاضي في الخصوم والشهود"إلى رأَي أهل الكوفة: أن الأولى للحاكم إذا ثبت الحق ألا يسمى في سجله الشهود"، باب يقول:"ثبت عندي بشهادة من رأيت قبول قولهما احتياطا للمحكَوم له. فإنه متى سماهما فتح باب الطعن والقدح عليه". والمعروف عن الشافعية قاطبة عكسه احتياطا للمحكوم عليه. وإنه يقول ثبت عنده لشهادة فلان وفلان.

ص: 163

(7)

ما ذكره تلميذه ابن القاص في كتابه أدب القاضي إذ أنه قال: "سمعت أحمد ابن عمر بن سريج ينزع الحكم بشاهد ويمين من كتاب الله عز وجل من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأََوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّه} ".

وسأحكي معاني ما انتزع به وإن لم أجد ألفاظه: قال رحمه الله تعالى لما قال تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ} يعني تبين {عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} يعنى بذلك الوصيين {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأََوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ} فيحلفان بالله، يعني وارثي الميت اللذين كان الوصيان حلفا إن ما في أيديهما من الوصية غير ما زاد عليهما.

قال ابن سريج قال: "فالبيان الذي عثر على أنهما استحقا إثما به لا يخلو من أحد أربعة معان:

أما أن يكون إقرارا منهما بعد إنكارهما، أو أن يكون شاهدي عدل، أو شاهداً وامرأتين أو شاهداً واحدا، وقد أجمعنا على أن الإقرار بعد الإنكار لا يوجب يمينا على الطالبين، وكذلك لو قام شاهدان أو شاهد وامرأتان، فلم يبقى إلا شاهد واحد، وكذلك استحلاف الطالبين".

(8)

المسألة السريجية:

ينسب إلى ابن سريج ما يسمى بالمسألة السريجية أو مسألة الدور في الطلاق ومفادها أن يقول: الزوج لزوجته: "كلما أو إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاث". ثم يقول: "أنه طالق". قال ابن سريج: "لا يقع شيء للدور".

ص: 164

وجاء عن ابن العماد الحنبلي في الشذرات: أن البلقيني قال: "يجوز تقليد مصحح الدور في السريجية، ومقلده لا يأثم وأنا لا أفتي بصحته، لأن الفروع الاجتهادية لا يعاقب عليها وإن ذلك ينفع عند الله تعالى".

وجاء في هامش النجوم الزاهرة نقلا عن أبي شجاع أن ابن الصباغ قال: "وددت لو محيت هذه وابن سريج برئ مما ينسب إليه فيها".

المبحث الثالث

في مصنفاته العلمية

لأبي العباس بن سريج مصنفات علمية كثيرة حتى قيل أنها بلغت أربعمائة مصنف. إلا أن المشهور من هذه المصنفات ومما ذكرته المصادر بالاسم ما يلي:

(1)

الرد على ابن داود في إبطال القياس.

(2)

التقريب بين المزني والشافعي.

(3)

الرد على محمد بن الحسن الشيباني.

(4)

مختصر في الفقه.

(5)

الرد على عيسى بن أبان.

(6)

جواب القاشاني.

(7)

الانتصار.

(8)

الغنية في فروع الشافعية.

(9)

البيان عن أصول الأحكام.

(10)

الفروق في الفروع.

(11)

الودائع لمنصوص الشرائع.

(12)

كتاب العين والدين في الوصايا.

المبحث الرابع

في روايته للحديث

لقد ذكرت كثير من المصادر بأن لابن سريج سماعا في الحديث ورواية له لذا سأذكر أسماء من سمع عنهم الحديث وأسماء من روى عنه الحديث.

أولا: أسماء من سمع ابن سريج عنهم الحديث وهم كل من:

(1)

الحسن بن محمد الزعفراني.

(2)

علي بن اشكاب.

(3)

عباس محمد الدوري.

(4)

أحمد بن منصور الرمادي.

(5)

أبو داود السجستاني.

(6)

محمد بن سعيد العطار.

(7)

عباس بن عبد الله الترقفي.

(8)

عباس بن عبد الملك الدقيقي.

(9)

الحسن بن مكرم.

(10)

حمدان بن علي الوراق.

(11)

محمد بن عمران الصائع.

(12)

عبيد الله بن شريك البزار.

ثانيا: أسماء من حدث وروى عن ابن سريج وهم:

(1)

أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني.

(2)

أبو أحمد الغطريفي محمد بن أحمد بن الغطريف.

(3)

أبو الوليد حسان بن محمد.

كما روى عنه غيرهم.

وللتدليل على روايته للحديث يمكن أن نذكر بعض الروايات التي وردت عنه وهي:

ص: 165

أولا: أخبرنا أبو الفرج محمد بن عبد الله بن أحمد بن شهريار الأصبهاني، أخبرنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، حدثنا أحمد بن عمر بن سريج القاضي- أبو العباس- حدثنا العباس بن محمد بن حاتم، حدثنا سورة بن الحكم القاضي قال: حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت عن الشعبي عن أبي بردة بن أبي موسى عن ابنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به، ورجل كانت له أمة فاعتقها فتزوجها، وعبد اتقى الله، وأطاعَ مواليه"(1) .

ثانيا: أخبرنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، حدثنا محمد بن الغطريف- بجرحان- حدثنا الأمير أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج، حدثنا أبو يحي الضرير محمد ابن سعيد العطار، حدثنا عبيدة بن حميد، حدثنا الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عَن سعيد بن جبير عن ابن

عباس رضي الله عنه عن علي بن أبي طالب قال: كنت رجلاً مذاء، وكنت أكثر من الاغتسال، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"يكفيك منه الوضوء"(2) .

(1) انظر: جامع الأصول في أحاديث الرسول 8/60.

(2)

انظر: جامع الأصول في أحاديث الرسول 7/199 وصحيح مسلم بشرح النووي باب المذي 3/212.

ص: 166

ثالثا: أخبرنا أبو محمد بن أبي عمر، أخبرنا عمر بن محمد، أخبرنا أحمد بن محرر ومحمد ابن عبد الباقي قالا: أخبرنا طاهر بن عبد الله، أخبرنا أبو أحمد محمد بن أحمد، حدثنا أبو العباس ابن سريج، حدثنا علي بن اشكاب، حدثنا أبو بدر، حدثنا عمر بن ذر، حدثنا أبو الرصافة الباهلي من أهل الشام أن أبا أمامة حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما من امرىء تحضره صلاة مكتوبة فيتوضأ عندها فيحسن الوضوء ثم يصلي فيحسن الصلاة إلا غفر الله له بها ما كان بينها وبين الصلاة التي كانت قبلها من ذنوبه"(1) .

رابعا: حدثنا ابن سريج، حدثنا الزعفراني، حدثنا وكيع، حدثنا الثوري عن ربيعة الرأي عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال: "عرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فاستنفقها"(2) .

خامسا: جاء في تذكرة الحفاظ: أن حديثه في جزء الغطريفي يقع عالياً إذ قال: فأنبأنا عبد الرحمن بن أبي عمر الفقيه، أنبأنا عمر بن محمد، أنبأنا أحمد بن ملوك ومحمد بن عبد الباقي قالا: أنبأنا طاهر بن عبد الله القاضي، أنبأنا محمد بن أحمد – بجرجان - أنبأنا أبو العباس بن سريج، أنبأنا الرمادي، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي أيوب الأنصاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء"(3) هذا إسناد صحيح لكن نسخ بعد ذلك.

المبحث الخامس

في نظمه الشعر

(1) انظر: صحيح البخاري – كتاب الوضوء - 1/128، وصحيح مسلم بشرح النووي – كتاب الطهارة - 3/112.

(2)

انظر صحيح البخاري – كتاب اللقطة – 5/61، وصحيح مسلم بشرح النووي – كتاب اللقطة – 12/21 والموطأ – كتاب القضاء باللقطة – 2/126.

(3)

انظر صحيح مسلم بشرح النووي – باب بيان أن الغسل يجب بالجماع – 4/38 وسنده في مسلم إلى أبي سعيد الخدري بسند غير ما ذكره صاحب الطبقات.

ص: 167

نقلت بعض المصادر أن أبا العباس ابن سريج ينظم الشعر بل سريع البديهة في ذلك كما هو الحال في موقفه مع أبي بكر محمد بن داود كما سنرى قريباً.

وهذا بيان لبعض ما ذكر من شعره:

أولا: شعره في الرد على أبي بكر محمد بن داود الظاهري:

إذ أنشد قائلا:

فذبت أمنعه لذيذ سنانه

وساهر بالغنج من لحظاته

وأكرر اللحظات في وجناته

مننا بحسن حديثه وعتابه

ولى بخاتم ربه وبراته

حتى إذا ما الصبح لاح عموده

ثانيا: ما روي عنه أنه ركب شعرا في دخول "لو": تركيبا غير عربي فقال:

أجاوبه أن الكلاب كثير

ولو كلما كلب عوى ملت نحوه

قليل فإني بالكلاب بصير

ولكن مبالانى بمن صاح أو عوى

والذي عاب على أبي العباس ابن سريج هذا التركيب هو الشيخ أبو حيان رحمه الله وقد أجاب السبكي في طبقاته على أبي حيان بقوله:

"لم يبين الشيخ أبو حيان وجه خروج أبي العباس عن اللسان في هذا التركيب الشعري. فإن أراد تسليطه حرف "ولو"على الجملة الاسمية فهو مذهب كثير من النحاة منهم الشيخ جمال الدين بن مالك. جوزوا أن يليها اسم ويكون معمول فعل مضمر ففسر بظاهر بعد الاسم".

ثم أضاف قائلا: وقال في التسهيل: "وإن وليها اسم فهو معمول فعل مضمر مفسر بظاهر بعد الاسم، وربما وليها اسمان مرفوعان".

ومثال ما إذا وليها اسم: ما روي في المثل من قولهم "لو ذات سوار لطمئني"وقول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة".

وقال الشاعر:

عتبت ولكن ما على الدهر معتب

أخلان لو غير الحمام أصابكم

وقال شاعر آخر:

أدنى الجواز إلى بنى العوام

لو غيركم علق الزبير بحبله

وقال آخر:

جعلت لهم فوق العرانين ميسما

فلو غير أخوالي أرادوا نقيصتي

فالأسماء التي وليت "لو"في هذا كله معمولة لفعل مضمر يفسره ما بعده، كأنه قال:

ولو لطمتني ذات سوار لطمتني. وكذا نقول في قول ابن سريج: "ولو كلما كلب"المعنى ولو كان كلما كلبا عوى.

ص: 168

ويدل على ذلك قول الله عز وجل: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأََمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ} (1) .

ويلزم من رد أبي حيان لهذا المذهب ودعواه أنه غير مذهب البصريين أن يكون مردودا في نفسه.

وإن أراد حذف الجواب إذ التقدير: ولو كان كلما عوى كلب ملت نحوه، كي أجاوبه لسئمت أو تعبت، أو نحو ذلك لأن الكلاب كثير. فقد نص هو وغيره على جواز حذف جواب "لو"لدلالة المعنى عليه، وعليه قوله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّار ِ} (2) . وشواهده كثيرة.

ثالثا: من شعر أبي العباس ابن سريج في مختصر المزني:

وصقيل ذهني والمفرج عن همي

لصيق فؤادي منذ عشرين حجة

لما فيه من علم لطيف ومن نظم

عزيز على مثلي إعارة مثله

فأخلق به أن لا يفارقه كمي

جموع لأصناف العلوم بأسرها

المبحث السادس

في شيوخه

درس أبو العباس ابن سريج الفقه على أبي القاسم الأنماطي وهو الذي أثر فيه أكثر من غيره. كما درس على أبي الحسن المنذري.

وقد ذكرت بعض المصادر أنه تتلمذ على المزني. إلا أن هذا وهم وغير صحيح حيث أن الذي تتلمذ على المزني هو شيخه الأنماطي.

ويمكن أن نترجم لشيخه الأنماطي والمنذري بما يلي:

أولا: الأنماطي:

هو أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار الأنماطي - منسوبا إلى الأنماط وهي البسط التي تفرش _ كان فقيها ورعا أخذ العلم عن المزني والربيع وهو الذي نشر مذهب الشافعي ببغداد، وعليه تفقه ابن سريج، وأبو سعيد الأصطخري، وأبو علي بن خيران، ومنصور التميمي، وأبو حفص بن الوكيل البابشامي.

والأنماطي بالنسبة لأهل بغداد كأبي بكر بن إسحاق بالنسبة لأهل نيسابور، فإنه أول من حمل إليهم علم المزني. توفي سنة 289هـ.

ثانيا: المنذري:

هو أبو الحسن المنذري شيخ ابن سريج، وله مختصر في الفقه من كتب الشافعي رحمه الله من كتاب المزني.

المبحث السابع

في تلاميذه

(1) سورة الإسراء آية:100.

(2)

سورة الأَنعام آية: 27.

ص: 169

لقد درس على أبي العباس ابن سريج جمع كثير من طلبة العلم وقد استفادوا منه وأفادوا. إلا أن أبرز تلاميذه وأشهرهم هم الذين قاموا بنشر مذهبه من بعده في الآفاق وصنفوا في ذلك التصانيف الكثيرة وأظهروا براعة فائقة في حمل هذا العلم والدفاع عنه والرد على أعدائه.

لذا سأترجم لأشهرهم علما وأبرزهم مكانة وهم كما يلي:

أولا: أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم البغدادي المعروف بالصيرفي:

الإمام الجليل الأصولي، أحد الوجوه المسفرة عن فضله، والمقالات الدالة على جلالة قدره. وكان يقال:"إنه أعلم خلق الله تعالى بالأصول بعد الشافعي".

تفقه علي أبي العباس ابن سريج، وسمع الحديث من أحمد بن منصور الرمادي، وروي عنه علي ابن محمد الحلبي. له تصانيف كثيرة منها:

(1)

شرح الرسالة.

(2)

كتاب في الإجماع.

(3)

كتاب الشروط.

(4)

كتاب في الفتوى.

(5)

كتاب باسم "المستفاد في اللفظ المستجاد".

ثانيا: أبو العباس أحمد بن أبي أحمد المعروف بابن القاص (1) .

إمام عصره، تفقه على أبي العباس ابن سريج، وتفقه عليه أهل طبرستان، حدث عن أبي خليفة ومحمد بن عبد الله المطين الحضرمي، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، ويوسف بن يعقوب القاضي، وعبد الله بن ناجية، وغيرهم.

صاحب المصنفات الكثيرة منها:

(1)

المفتاح.

(2)

أدب القاضي.

(3)

المواقيت.

(4)

التلخيص.

توفي بطرسوس سنة 335 هـ.

ثالثا. أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي (2)(2) شيخ الشافعية:

(1) انظر: طبقات الشافعية 65، وطبقات الفقهاء 111، وطبقات الشافعية الكبرى 3/59، وأدب القاضي 1/27 تحقيق الدكتور حسين الجبوري.

(2)

انظر: طبقات الشافعية 66 وطبقات الفقهاء 112، وشذرات الذهب 2/355، وطبقات الفقهاء الشافعية 68.

ص: 170

كان إماما جليلا، غواصا على المعاني، أخذ العلم عن ابن سريج، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد، وانتشر العلم عن أصحابه إذ خرج من مجلسه إلى البلاد سبعون إماما. ثم انتقل في آخر عمره إلى مصر وشرح المختصر وصنف الأصول. وهو الذي قعد في مجلس الشافعي بمصر سنة القرامطة واجتمع الناس عليه.

توفي سنة 340هـ ودفن عند ضريح الشافعي رضي الله عنهما. وقد حكى عنه حكاية غريبة ولغرابتها أذكرها عنه في هذا الموطن وهي:

قال أبو إسحاق: "كان لي جار ببغداد، وكان له مال كثير وله ابن يضرب إلى السواد، ولون الرجل لا يشبهه، وكان يعترض أنه ليس منه. قال: فأتاني فقال: "عزمت على الحج، وأكثر قصدي أن استصحب ابني وأريه بعض أهل القيافة ثم فنهيته، وخرج فلما رجع قال لي: إني استحضرت مدلجيا، وأمرت بعرضه عليه في عدد من الرجال، وكان منهم الذي رأى أنه منه. وكان معنا في الرفقة. وغبت عن المجلس فنظر القائف فيهم فلم يلحقه بأحد منهم. فأخبرت بذلك وقيل لي احضر فلعله يلحقه بك. فأقبلت على ناقة يقودها عبد لنا أسود كبير السن. فلما وقع بصره علينا قال: الله أكبر الراكب أبو هذا الغلام والقائد الأسود أبو الراكب. فغشي علي من صعوبة ما سمعت. فلما رجعت من الحج، رجعت

على والدتي لتخبرني. فأخبرتني أن أبي طلقها ثلاثا. ثم ندم فأمر هذا الغلام بنكاحها للتحليل، ففعل، فعلقت منه. وكان ذا مال كثير وليس له ولد فاستحقه ونكحني مرة ثانية".

رابعا: أبو علي الحسن بن الحسين المعروف بابن أبي هريرة (1) :

أحد أئمة الشافعية، تفقه على ابن سريج، ثم على أبي إسحاق المروزي، وصحبه إلى مصر. ثم عاد إلى بغداد وشرح شرحين للمختصر، مختصرا ومبسوطا. درس ببغداد وتخرج عليه خلق كثير. وانتهت إليه إمامة العراقيين. توفي ببغداد سنة 345 هـ.

(1) انظر: طبقات الشافعية 72، وطبقات الفقهاء /112 وشذرات الذهب 2/370، وطبقات الشافعية الكبرى 3/256 وطبقات الفقهاء الشافعية 77.

ص: 171

خامسا: أبو الوليد حسان بن محمد بن أحمد القرشي الأموي النيسابوري (1) :

الفقيه، شيخ الشافعية بخراسان، وصاحب ابن سريج، كان زاهدا محتشما، قال عنه الحاكم:"بأنه إمام أهل الحديث بخراسان"، له كتاب المستخرج على صحيح مسلم. كما أنه شرح رسالة الإِمام الشافعي شرحا حسنا. عاش اثنتين وتسعين سنة. توفي بنيسابور سنة 349 هـ.

سادسا: أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي (2) :

كان إماما، إذ أنه أفصح الأصحاب قلما، وأمكنهم في دقائق العلوم قدما، وأسرعهم بيانا، وأتقنهم جنانا، وأعلمهم إسنادا، وأرفعهم عمادا، انتشر عنه مذهب الشافعي بما وراء النهر، له كتاب في أصول الفقه، وله شرح الرسالة. وهو أول من صنف في الجدل الحسن من الفقهاء. توفي سنة 335 هـ وقيل سنة 336 هـ.

سابعا: أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد البغدادي المعروف بابن القطان (3) :

وهو آخر أصحاب ابن سريج وفاة. أخذ عنه علماء بغداد. إذ درس بها. له مصنفات في أصول الفقه وفروعه. توفي سنة 359 هـ.

ثامنا: أبو جعفر أحمد بن محمد الاستراباذي (4) :

من أصحاب ابن سريج ومن كبار الفقهاء والمؤذنين، وأَجل العلماء المبرزين، وهو القائل:"لا وجود للسحر وإنما هو تخييل".

أبو بكر أحمد بن الحسن بن سهل الفارسي (5) :

وهو صاحب "عيون المسائل في نصوص الشافعي"تفقه على ابن سريج. مات بحدود سنة خمسين وثلاثمائة.

الآراء الأصولية للإمام أبي العباس ابن سريج الشافعي البغدادي المتوفي سنة 306 هـ

باب الأحكام

(1) انظر: طبقات الشافعية 73، وطبقات الفقهاء الشافعية 74، وشذرات الذهب 2/380، وطبقات الشافعية الكبرى 3/226.

(2)

انظر: طبقات الشافعية الكبرى 3/200، وطبقات الشافعية /88، وشذرات الذهب 3/28.

(3)

انظر: طبقات الشافعية /84 وطبقات الفقهاء الشافعية /85.

(4)

انظر: طبقات الشافعية /84، وطبقات الفقهاء الشافعية /85.

(5)

انظر: طبقات الشافعية 75.

ص: 172

(1)

مسألة: طلب العلم (1) :

قال ابن سريج: "إذا قيل لك ما الأصل في طلب العلم؟ تقول: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما اتفقت عليه الأمة. فالحجة من الكتاب قوله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (2) فأفادنا بذلك حكم طلب العلم.

وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا العلم ولو بالصين" فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم.

وقد أجمعت الأمة على أن علم ما لا يسع جهله فرض على الإنسان أن يعلمه، فإذا علمه كان طلب ما سوى ذلك فضلا لا فرضا. فعلى من علمَ أن الله قد فرض عليه فرائض وتواعده على تركها أن يعلمها، وأن يسارع إلى موافقة الله تعالى فيها رغبة في ثوابه، وخوفا من عقابه، وطلبا لمرضاته، والله نسأل التوفيق بمنه وهو حسبنا ونعم الوكيل".

(2)

مسألة: حكم الأشياء قبل ورود الشرع:

اختلف العلماء في حكم الأشياء قبل ورود الشرع على أقوال:

فقال أبو العباس ابن سريج: "إنها على الإباحة حتى يرد الشرع بحظرها".

وجاء في شرح الكوكب المنير إيراد المسألة باسم آخر وهو "الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع وبعده وخلا عن حكمها فما هو حكم هذه الأعيان"ومن العلماء من ذكرها قبل ورود الشرع. ومع ذلك فقد قال صاحب الكوكب بأن أبا العباس ابن سريج قال: "بأنها مباحة".

هذا وقرر استدل ابن سريج على قوله هذا بالأدلة الآتية وهي:

أولا: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق} (3) .

وجه الاستدلال: إن هذا استفهام إنكاري وهو يفيد الذم والتوبيخ. لذا كان مقتضى الآية أن الأصل في الأعيان المنتفع بها الإباحة.

(1) انظر: الودائع بمنصوص الشرائع /678.

(2)

سورة التوبة آية: 122.

(3)

سورة الأعراف آية: 32.

ص: 173

ثانيا: استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته"(1) وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما سكت عنه فهو عفو"(2) .

وجه الاستدلال: إن الحديثين يفيدان الإباحة.

ثالثا: استدل بأن هذه الأعيان ملك للَه تعالى والانتفاع بملك الغير على وجه لا يستضر به المالك جائز.

والدليل على ذلك أملاك الآدميين. فإنها يجور الانتفاع بها على وجه لا يستضر به المالك مثل الاستظلاِل بظله والمشي في ضوء سراجه، ولا ضرر على الله تعالى في انتفاعنا بهذه الأعيان. فوجب أن يكون الانتفاع بها جائزا على الإطلاق.

رابعا: قال: "إن الحكيم لا يخلق شيئا إلا لغرض ووجه من الحكمة يقتضي خلقه. وقد خلق الله تعالى هذه الأعيان فلا يخلو إما أن يكون خلقها للمنفعة أو المضرة. بطل أن يكون خلقها للمضرة، لأن هذا لا يليق بالحكيم. فبقي القسم الثاني وهو أنه خلقها للانتفاع بها. وإذا ثبت هذا فلا يخلو إما أن يكون خلقها لنفع نفسه أو لنفعنا، بطل أن يكون خلقها لنفع نفسه لأن الله تعالى مستغن عن ذلك. بقي أن يكون خلقها لنفع الناس، وإذا ثبت هذا ثبت

أن الانتفاع بها جائز، إذ لا يخرج خلقه إياها عن هذين القسمين. لأن القسم الثالث عبث ولعب، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا".

ويدل عليه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (3) .

خامسا: قال: بأن المباح ما لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه وعندكم أن من يفعل شيئا قبل الشرع لا ثواب له في فعله ولا عقاب في تركه، فقد أثبتم له حكم الإباحة.

(1) انظر: صحيح مسلم - كتاب الفضائل - 4/1831 وصحيح البخاري _ باب ما يكره من كثرة السؤال _ 8/142، ومختصر سنن أبي داود _ باب لزوم السنة _ 7/13.

(2)

انظر: سنن أبي داود 3/485، وسنن ابن ماجة 2/1117.

(3)

سورة البقرة آية: 29.

ص: 174

سادسا: بأن القول بالوقف يؤدي إلى ترك الوقف وذلك أن القول به لا يخلو إما أن يكون حقا يجب اعتقاده أو باطلا لا يجوز اعتقاده. فإن كان حقا وجب اعتقاده. بطل القول بالوقف. لأنه قد وجب الاعتقاد وإن كان باطلا لم يجز القول به.

(3)

مسألة: شكر المنعم:

اختلف أهل العلم في حكم هذه المسألة على أقوال فقال أبو العباس ابن سريج: "يجب شكر المنعم عقلا".

ونقل الزركشي عن تقاضى أبي بكر الباقلانيى والأستاذ أبي إسحاق الاسفرائينى في معرض الاعتذار عن ابن سريج هذا أنهما قالا: "أعلم أن هذه الطائفة من أصحابنا ابن سريج وغيره، برعوا في فن الفقه، ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام، وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عَباراتهم، وقولهم في شكر المنعم عقلا فذهبوا إلى ذلك غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة من قبح القول".

(4)

مسألة: صيغة أفعل ليست حقيقة:

صيغة أفعل تستعمل في معان متعددة قد تصاب إلى ستة عشر معنى. فهل استعملها في هذه المعاني على وجه الحقيقة أم على خلاف ذلك؟

قال البخاري في كشف الأسرار بأن العلماء اتفقوا على أن صيغة أفعل ليست حقيقة في جميع الوجوه لأن معنى التسخير والتعجيز والتسوية مثلا غير مستفاد من مجرد الصيغة. بل إنما يفهم ذلك من القرائن.

إنما الذي وقع الاختلاف فيه أربعة أمور هي الوجوب والندب والإباحة والتهديد.

فقال أبو العباس ابن سريج: "الأمر مشترك بين هذه الوجوه الأربعة بالاشتراك اللفظي كلفظ العين". وقد استدل على قوله هذا بما يلي:

وهو أن صيغة الأمر استعملت في معان مختلفة من غير أن يثبت هو ترجيح أحدها على الباقي والأصل في الاستعمال الحقيقة. فيثبت الاشتراك الذي هو من أقسام الإجمال. فلا يجب العمل به إلا بدليل زائد يرجح أحد المعاني على سائرها لاستحالة ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح.

(5)

مسألة: ما هي حقيقة الأشبه:

ص: 175

هذه المسألة موضعها عند كل الفقهاء في التخطئة والتصويب فالمجتهد إذا وقعت له واقعة يطلب النصوص من الكتاب والسنة ثم الإجماع، ثم إن أعوز المطلوب فيه فينظر في قواعد الشريعة يحاول إلحاقا ويريد جمعا ويطلب شبها فيخيل في نفسه وجود التشبه ثم يجتهد في طلب الأشبه فالمطلوب هو الأشبه. ومعنى هذا أن المسألة إذا ترددت بين أصلين في التحريم والتحليل ويجاذبها أصل التحريم وأصل التحليل فالمطلوب تقرير الأشبه، لذا اختلف العلماء في حقيقة الأشبه الذي هو المطلوب.

فقال أبو العباس ابن سريج: "الأشبه المطلوب هو الذي يغلب على الظن عند تقدير ورود الشرع بحكم في المحل. أنه كان ينص على ذلك الحكم".

باب العام والخاص

(1)

مسألة: إذا ورد لفظ عام هل يبحث عن المخصص قبل الشروع في العمل به أم لا؟:

هذه المسألة قد اختلفت ألفاظ العلماء في التعبير عن مقتضاها إذ أن من العلماء من عبر عنها بقوله: الألفاظ موضوعة للعموم.

ومنهم من قال: "هل يجب اعتقاد العموم من الصيغة والعمل بمقتضاها أو يتوقف عنها".

وقد اختلف العلماء في بيان حكمها على أقوال متعددة فقال أبو العباس ابن سريج: "لا يجوز التمسك بالعام ما لم يتقص في طلب المخصص، فإذا لم يوجد ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به في إثبات الحكم العام".

وقد استدل ابن سريج بالأدلة الآتية وهي:

أولا: أن المقتضي للعموم هو الصيغة المتجردة عن القرائن ولا يعلم تجردها عن القرائن إلا بعد النظر في الأصول والبحث عن الأدلة، لأن دليل التخصيص قد يكون متصلا بلفظ العموم بالشرط والاستثناء، وقد يكون متأخرا عنه فلم يجز اعتقاد عمومه ما لم يوجد شرط العموم فيه.

ص: 176

ثانيا: إن هذا الأمر يقاس على البينة في الحكم حيث يعتمد على ما يعلم إذا علم الحاكم عدالتها، لو كانت البينة لا تكون بينة حتى يعلم خبرها من الأسباب القادحة في العدالة، لم يجز العمل بها مع الجهل بحالها، بل يجب عليه أن يتوقف فيها حتى يكشف عن باطن حالها بسؤال أهل الخبرة والمعرفة بالشهود. كذلك في مسألتنا.

ثالثا: بأنه لا طريق إلى معرفة ذلك بغير البحث والسبر وهو غير يقيني. والقول بأنه لو كان ثم مخصص لاطلع عليه العلماء غير يقيني لجواز وجوده مع عدم اطلاع أحد من العلماء عليه. وبتقدير اطلاع بعضهم عليه فنقله له أيضا غير قاطع. بل غايته أن يكون ظنيا. كيف وأنه ليس كل ما ورد فيه العام مما كثر خوض العلماء فيه، وبحثهم عنه ليصح ما قيل.

رابعا: إنه بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة في صورة التخصيص فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة، وأن لا يكون، والأصل أن لا يكون حجة إبقاء للشيء على حكم الأصل.

خامسا: أن اللفظ الموضوع للاستغراق هو اللفظ المتجرد عن القرائن المخصصة، ولابد من طلب التجرد لنحمل على المعنى الموضوع له اللفظ، وعند الطلب نعرض الخطاب الوارد على دلائل الشرع ليعرف هل وجد هناك دليل يخص اللفظ أولا. ثم إذا لم نجد فقد أصاب اللفظ المجرد عن قرينة مخصصة

فيحمل عام الموضوع له، وهو الاستيعاب، ويعتقد ذلك.

(2)

مسألة: تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالقياس:

اختلف أهل العلم في جواز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالقياس. فقال أبو العباس ابن سريج: "إن كان القياس جليا جاز وإن كان خفيا فلا مثل قياس تحريم ضرب الوالدين على تحريم التأفيف".

وجاء في إرشاد الفحول عنه روايتان: الأولى: "أنه يقول بالتخصيص مطلقا".

ص: 177

والثانية: "أنه يقول بالتخصيص إن كان القياس جليا" وصحح عنه الرواية الأولى. إلا إني أقول لعل الراجح هي الرواية الثانية لأن أكثر المصادر ذكرت عنه هذه الرواية دون الثانية أي التخصيص بالقياس الجلي دون غيره.

(3)

مسألة: تخصيص العموم بدليل الخطاب:

معنى ذلك أنه إن ورد نص عام فهل لنا أن نخصصه بدليل الخطاب (مفهوم المخالفة) أم لا؟.

اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على أقوال. فقال أبو العباس ابن سريج: "لا يجور تخصيص العموم بدليل الخطاب".

(4)

مسألة: هل تحمل الألفاظ على كل ما تتناوله أم على البعض؟:

معنى ذلك أن اللفظ إذا كان متناولا لأفراد كثيرة فهل يحمل على جميع هذه الأفراد أم أنه يكتفي بحمله على أقل ما يتناوله؟.

قال أبو العباس ابن سريج: "يجب حمل الألفاظ على أقل ما يتناوله اللفظ". وقد استدل ابن سريج بالأدلة الآتية:

أولا: بأن أقل الجمع ثلاثة ولا يشك في أن ذلك المقدار مراد باللفظ وما زاد على ذلك مشكوك فيه. فلا يحمل اللفظ عليه إلا بدليل.

ثانيا: لفظ الجميع لو اقتضى العموم لوجب إذا قال: لفلان عندي دراهم ألا يقبل منه ثلاثة دراهم. ولما أجمعنا على أنه يقبل منه ثلاثة دراهم. علمنا أن اللفظ محمول على أقل ما يتناوله.

باب: الحقيقة والمجاز

(1)

مسألة: المجاز في القرآن:

اختلف العلماء في وقوع المجاز في القرآن الكريم.

فقال أبو بكر بن داود: "بأن المجاز في اللغة، وليس في القرآن مجاز". فرد عليه أبو العباس ابن سريج بوقوع المجاز في القرآن وقد استدل على رده بقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَات} (1) .

وجه الاستدلال: أن الصلوات لا تهدم وإنما أراد به مواضع الصلوات. وعبر بالصلوات عنها على سبيل المجاز. وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. فلم يكن لأبي بكر من جواب على ما استدل به ابن سريج.

(2)

مسألة: هل يحمل اللفظ على الحقيقة قبل البحث عن المجاز أم لا؟.

(1) سورة الحج آية: 40.

ص: 178

معنى ذلك هل يحمل اللفظ على معناه الحقيقي ابتداء أم لابد من البحث عن معناه المجازي قبل حمله على الحقيقي؟. اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

فقال أبو العباس بن سريج: "يجب طلب المجاز قبل استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي".

باب: المفهوم

(1)

مسألة: مفهوم الصفة:

هذه المسألة تسمى عند علماء الأصول بمسميات كثيرة منها: "مفهوم المخالفة"ومنها:

"دليل الخطاب". ومنها: "العمل بالوجوه الفاسدة". ومثلها قوله الرسول صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة"(1) .

وهل معنى هذا نفي الزكاة عن المعلوفة من الغنم أم لا؟. اختلف علماء الأصول في ذلك:

فقال أبو العباس ابن سريج: "تعليق الحكم على صفة لا يدل على انتفاء الحكم فيما لم توجد فيه تلك الصفة إلا إذا جاء بلفظ الشرط". وقد استدل على قوله هذا بالأدلة الآتية:

أولا: استدل بقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} (2) .

وجلا الاستدلال: أنه لو كان كما قلتم لكان في الآية دليل على جواز القتل عند انتفاء خشية إملاق وهو الفقر، وليس كذلك، بل هو حرام.

ثانيا: لو دل تخصيص الحكم بالصفة على نفيه عما عداه لدل تخصيصه بالاسم على نفيه عما عداه. لكن التخصيص بالأسماء لا يدل على نفيه عما عداه. فالتخصيص بالصفة وجب أن لا يدل على نفيه عما عداه.

ثالثا: ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه ثبوت الحكم في الصورة الأخرى والإِخبار عن ثبوت ذلك الحكم في إحدى الصورتين لا يلزمه الإِخبار عنه في الصورة الأخرى، فإذن الإخبار عن ثبوت الحكم في إحدى الصورتين لا يدل على حال الصورة الأخرى ثبوتا وعدما.

رابعا: ليس في كلام العرب كلمة تدل على شيئين متضادين وهذا اللفظ يدل على إثبات الحكم ونفيه، وهذا خلاف اللغة.

(1) انظر: فتح الباري _ باب الزكاة الغنم _ 3/317 وتلخيص الحبير 2/156 ومختصر سنن أبي داود _ باب في زكاة السائمة _ 2/182، والمعتبر/170.

(2)

سورة الإسراء آية: 31.

ص: 179

خامسا: لو كان تعليق الحكم على الصفة للشيء يدل على نفيه عما عداه لوجب أن لا يحسن فيه الاستفهام، كما لا يحسن في نفس النطق.

سادسا: بأن نفي الحكم عن غير المنصوص لا يفهم من مجرد الإثبات إلا بنقل متواتر من أهل اللغة، أو جار مجرى التواتر كعلمنا بأن قولهم ضروب وقتول وَأمثالهما للتكثير، وإن قولهم عليم وقدير وأقدر للمبالغة. ونقل الآحاد لا يكفي إذ الحكم على اللغة ينزل عليها كلام الله تعالى بقول الآحاد مع جواز الغلط، لا سبيل إليه، ولم يوجد.

سابعا: أهل اللغة فرقوا بين العطف وبين النقض. وقد قالوا أضرب الرجال الطوال والقصار عطف، وليس بنقض. ولو كان قوله أضرب الرجال الطوال يدل على نفي ضرب القصار لكان قوله والقصار نقضا لا عطفا.

ثامنا: الخبر عن ذي الصفة لا يبقي غير الموصوف، فإن الرجل إذا قال: قام أسود، أو خرج، لم يدل على نفيه عن الأبيض. بل هو مسكوت عن الأبيض فكذلك الأمر.

تاسعا: بمفهوم الاسم واللقب. فإن الأسماء موضوعة لتمييز الأجناس والأشخاص كإنسان وزيد. والصفات موضوعة لتمييز النعوت والأحوال كطويل وقصير، وقائم وقاعد. فإذا كان تقييد الخطاب بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه، فإنه إذا قيل في الإبل الزكاة لا يدل ذلك على نفيها عن البقر. وجب أن يكون التقييد بالصفات بمثابته.

عاشرا: كان دليل الخطاب يقتضي الحكم لكان ذلك مستنبطا من اللفظ، وما استنبط من اللفظ لا يجوز تخصيصه كالعلة.

ص: 180

حادي عشر: ما روي عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه قال: "قلت لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأنا يومئذ حديث السن. أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (1) فما أرى على أحد شيئا ألا يطوف بهما". قالت عائشة رضي الله عنها: "كلا يا ابن أخي لو كان كما قلت لكانت "فلا جناح عليه ألا يطوف بهما". فهذه عائشة وهي من أهل اللسان لم تحكم للمسكوت عنه ضد حكم المنطوق به، واعتذر عروة رضي الله عنه ما اعتقد ذلك بحداثة سنه، وأنه لم يكن فقه بعد. وإذا كان هذا طريقه اللغة. وجب أن يرجع إلى قول عائشة رضي الله عنها. والله أعلم وأحكم.

ثاني عشر: لو دل الخطاب المقيد بالصفة على نفي ما عداه لدل عليه إما بصريحه ولفظه، وإما بفائدته ومعناه. وليس يدل علية من كلا الوجهين. فإذا ليس يدل عليه. أما صريحه فلأنه ليس فيه ذكير لما عدا الصفة. ألا ترى أن قول القائل "أدوا عن الغنم السائمة الزكاة"ليس فيه ذكر للمعلومة أصلا.

وأما المعنى: فلو دل من جهة المعنى لكان من حيث أنه لو كانت الزكاة في غير السائمة كهي في السائمة لما تكلف الشارع ذكر السوم وتعلق الزكاة باسم الغنم لأن تكلف ذكر السوم مع تعلق الزكاة بمطلق اسم الغنم تكلف لما لا فائدة فيه.

(2)

مسألة: الحكم المعلق عن شيء بكلمة "إن"هل حكم على العدم عند عدم ذلك الشيء أم لا؟ نحو قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنّ} (2) ونحو قول القائل: إذا جاءكم كريم فأكرموه.

اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على أقوال كثيرة:

فقال أبو العباس ابن سريج: "إنه حكم على العدم مع عدم ذلك الشرط". وقد استدل بالأدلة الآتية:

(1) سورة البقرة آية: 158.

(2)

سورة الطلاق آية: 6.

ص: 181

أولا: بأن قوله إن دخل عبدي فأعتقه. يفهم منه لغة ولا تعتقه إن لم يدخل الدار. فكما أن الدخول يوجب جواز الإعتاق فعدمه يمنع عنه فكان العدم مضافا إليه.

ثانيا: أن النحويين قالوا: إن كلمة "إن"حرف شرط. ويلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط.

ثالثا: الشرط هو الذي يتوقف عليه الحكم فلو ثبت الحكم مع عدمه لكان كل شيء شرطا في كل شيء حتى يكون دخول زيد الدار شرطا في كون السماء فوق الأرض. وإن وجد ذلك مع عدم الدخول. والدليل عليه ما روي أن يعلي بن أمية رضي الله عنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} "(1) . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عجبت مما عجبا منه فسألت رسول الله عليه وسلم فقال: "إنما هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" (2) . فلو لم يعقل من التعليق نفي الحكم عند عدم الشرط لم يكن لتعجبها معنى، مع أنهما من فصحاء العرب.

رابعا: أن فائدة وصفنا له بأنه شرط أن ينتفي الحكم بانتفائه، وإن صح أن يوجد الشرط من عدم الحكم كالشروط العقلية.

(3)

مسألة: فحوى الخطاب (مفهوم الموافقة) :

(1) سورة النساء آية: 101.

(2)

انظر: صحيح مسلم بشرح النووي _ كتاب صلاة المسافرين وقصرها _ 5/196 وسنن النسائي _ كتاب تقصير الصلاة في السفر _ 3/116، وصحيح ابن خزيمة _ كتاب الفريضة في السفر _ 2/71، والمعتبر 199.

ص: 182

اختلف العلماء في حجية مفهوم الموافقة أو فحوى الخطاب فقال محمد بن داود وأهل الظاهر بأنه مفهوم من النطق فتصدي للرد عليه أبو العباس ابن سريج إذ جاء في شرح اللمع أنه قال: "حكي عن ابن سريج أنه ناظره محمد بن داود فألزمه الذرة فقال: "إذا قال: لا تمسك من المالك ذرة لا يجوز له أن يتناول المئين والألوف، لأن اللفظ غير موضوع له"فقال ابن داود:"لا أُسلم أن المئين والألوف ذرات مجموعة شكل ذرة منها يتناوله اللفظ"فألزمه ابن سريج نصف ذرة فقال "النصف لا يسمى ذرة"فلم يجب عنه ابن داود".

قد حكي الجويني في البرهان أن ابن سريج قد ناظر أبو بكر بن داود حيث قال له: "أنت تلتزم الظاهر وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} (1) فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين". فقال مجيبا: "الذرتان ذرة وذرة". فقال أبو العباس ابن سريج: "فلو عمل مثقال ذرة ونصف فتبلد وظهر خزيه".

باب المجمل والمبين

مسألة: تأخير البيان عن وقت الخطاب:

معنى ذلك إذا ورد الخطاب من الشارع وكان مجملاً فهل يمكن أن يتأخر البيان عن وقت وروده أم لا؟.

اختلف علماء الأصول في هذه المسألة علي أقوال متعددة. فقال أبو العباس ابن سريج: "يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب". وقد استدل ابن سريج بالأدلة الآتية وهي:

أولاً: قوله عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (2) . وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (3) .

وجه الاستدلال: أن ثم تقتضي المهلة والتراخي. فدل على أن التفصيل يجوز أن يتأخر عن الخطاب.

(1) سورة الزلزلة آية: 6.

(2)

سورة هود آية: 1.

(3)

سورة القيامة آية: 17.

ص: 183

ثانيا: أن الله تعالى أوجب الصلوات الخمس ولم يبين أوقاتها وأفعالها حتى نزل جبريل عليه السلام وبين للنبي صلى الله عليه وسلم كل صلاة في وقتها. وبين النبي صلى الله عليه وسلم أفعالها وأوقاتها للناس وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(1) وكذلك أمر الحج حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أفعاله للناس في العام الذي حج فيه وقال: "خذوا عني مناسككم"(2) ولو لم يجز التأخير لما أخر عن وقت الخطاب.

وكذا قوله عز وجل: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (3) وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} (4) ثم وقع البيان لهذه الأمور بعد ذلك بالسنة النبوية المطهرة.

ثالثا: أن البيان إنما يحتاج إليه للامتثال وفعل المأمور به، كما أن القدرة يحتاج إليها الفعل المأمور به. ثم يجوز تأخير القدرة عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، فكذلك تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة يجب أن يكون جائزا.

رابعا: أن النسخ تخصيص للأزمان، كما أن التخصيص تخصيص للأعيان. ثم تأخير بيان النسخ عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز فكذلك تأخير بيان التخصيص يجب أن يكون جائزا عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.

خامسا: استدل بقوله تعالى: {وَأَهْلَكَ} (5) وحكمه تناول ابنه.

وبقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (6) .

ثم لما سأل ابن الزبعري عن عيسى والملائكة نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} (7) . وهذا دليل البيان عن وقت الخطاب.

باب: السنة

(1)

مسألة أنواع السنن:

(1) انظر: صحيح البخاري- كتاب الأذان- 1/155، والمعتمر 48 وتحفة الطالب 129.

(2)

انظر: صحيح مسلم- كتاب الحج- 9/ 44، ومختصر سنن أبي داود- كتاب الحج-2/416، والمتبر 48، وتحفة الطالب 129.

(3)

سورة النور آية: 56.

(4)

سورة المائدة آية: 38.

(5)

سورة هود آية: 40.

(6)

سورة الأنبياء آية:98.

(7)

سورة الأنبياء آية: 101.

ص: 184

قال أبو العباس ابن سريج مشيرا إلى حكم هذه المسألة بقوله: "إذا قيل لك: السنن على كم ضرب؟ فقل على ضروب ثلاثة: فمنها ما يؤخذ من الأمر. والأمر أمران. أمر فرض وأمر ندب فالأوامر: إذا وردت فهي على الإيجاب حتى تقوم دلالة الندب.

وضرب ثان: وهو ما أخذ عن الفعل والأفعال على ضربين: فعل عام وفعل خاص. فأفعاله صلى الله عليه وسلم على العموم حتى تقوم دلالة الخصوص، وعمومها داخل في ضربي الأمر من الفرض والندب.

والضرب الثالث: ما أخذ عن العمل بحضرته صلى الله عليه وسلم يوجد منه نهي عنه. وهذا ضرب واحد وهو على الندب دون الفرض فهذه طرق السنن.

والسنن فيها مجمل ومفسر، والمذهب في ذلك القضاء بمفسرها على مجملها. وفيها ناسخ ومنسوخ. فيحكم بناسخها على منسوخها.

ومنها: مقدم ومؤخر فيستعمل حكم ذلك على ما يوجبه فيها.

وفيها خاص وعام. والعموم أولى بنا من الخصوص حتى تقوم الدلالة على الخصوص فيما مخرجه العموم.

وكذلك إذا كانت خاصة فهي على خصوصها حتى تقوم دلالة العموم".

(2)

مسألة: فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد عن القرائن وظهر فيه قصد القربى:

المراد من فعل النبي هنا هو فعله الذي يصدر منه ابتداء بحيث لم يكن امتثالا لأمر ولا بيانا لمجمل، ولم يقرن به ما يفيد بيان صفته إلا أنه اقترن به ما يفيد قصد القربى فقد اختلف العلماء في تحديد صفته على أقوال:

فقال أبو العباس ابن سريج: "يدل على الوجوب".

وقال الشيرازي في شرح اللمع مشيرا إلى قول ابن سريج بأنه قال: "يدل على الوجوب ولا يحمل على غيره إلا بدليل".

ب بينما قال عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار. إن ابن سريح قد قال: "بأنه يصح إطلاق الأمر عليه بطريق الحقيقة، ويجب علينا اتباعه".

وجاء عنه أنه قال: "إن لم تعلم صفته في حقه، وظهر فيه قصد القربى فإنه للوجوب".

ص: 185

وخلاصة ما ورد عنه أنه يقول بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد عن القرائن يحمل على الوجوب إن ظهر فيه قصد القربى والعبادة.

وقد استدل على قوله هذا بالأدلة الآتية:

أولا: قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) .

وجه الاستدلال: أن هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب، لذا يجب اتباعه في أقواله وأفعاله.

ثانيا: قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (2) .

وجه الاستدلال: أن الأمر هذا يستعمل في القول والفعل والدليل عليه قوله عز وجل {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْض} (3) وقوله عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (4) .

وقول الشاعر:

فقلت لها: أمري إلى الله كله

وإني إليه في الآياب لراغب

والمراد من الأمر بذلك كله هو الفعل. والتحذير عن مخالفته يقتضي وجوب موافقة فعله.

ثالثا: قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (5) .

وجه الاستدلال: أن هذه الآية وردت في حق من تخلف عن غزوة أحد، ولم يتأس بالرسول صلى الله عليه وسلم في حضورها فتوعد على ذلك بقوله:{لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} وهذا إنما يستعمل عند الوعيد كما نقول "لا يترك الصلاة من يؤمن بالله واليوم الآخر. يريد بذلك أن تركها من أفعال الكفر وأفعال من لا يؤمن بالله. وبهذا لا معنى للتأسي به إلا أن يفعل الإنسان مثل فعله.

رابعا ً: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (6) .

وجه الاستدلال: دلت الآية الكريمة على أن محبة الله عز وجل مستلزمة للمتابعة. لكن المحبة واجبة بالإجماع، ولازم الواجب واجب فمتابعته واجبة.

(1) سورة الأعراف آية: 158.

(2)

سورة النور آية: 63.

(3)

سورة السجدة آية: 5.

(4)

سورة الشورى آية: 38.

(5)

سورة الأحزاب آية: 21.

(6)

سورة آل عمران آية: 31.

ص: 186

خامسا ً: قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (1) .

وجه الاستدلال: أنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا فقد أتانا بالفعل، فوجب عَلينا أن نأخذه. والشاهد لذلك قوله عز وجل في تتمة الآية {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} والنهي إنما يقارنه على مضادة الأمر.

سادسا ً: قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) :

وجه الاستدلال: لم يفرق بين طلب طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وطاعة الله سبحانه وتعالى واجبة فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة.

سابعا ً: قوله عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} (3) .

وجد الاستدلال: دلت الآية على أنه تعالى إنما زوجه بها ليكون حكم أمته مساويا لحكمه في ذلك وهذا هو المطلوب.

ثامناً: الإجماع من الصحابة الكرام رضي الله عنهم في رجوعهم إلى قول السيدة عائشة رضي الله عنها لما اختلفوا في وجوب الغسل من التقاء الختانين. فقالت عائشة رضي الله عنها: "فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا" فأجمعوا على الأخذ به ووجوب فعله. وهذا إجماع منهم على أن مقتضاه الوجوب.

تاسعا ً: استدلوا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم فسألهم فقالوا: رأيناك خلعت نعلك فخلعنا نعالنا"(4) فدل على أن متابعته فيما يفعل واجبة.

عاشرا ً: روي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية "انحر هديك حيث وجدته، وأحلق فإنهم يحلقون ففعل فتبعوه". فدل على أن فعله يقتضي الوجوب.

(1) سورة الحشر آية: 7.

(2)

سورة المائدة آية: 92.

(3)

سورة الأحزاب آية: 37.

(4)

انظر: سنن الدارمي- باب الصلاة في النعلين- 1/260، وصحيح ابن خزيمة- باب الصلاة في النعلين- 2/107، والمعتبر 53.

ص: 187

حادي عشر: لا خلاف أنه يجوز أن يكون واجباً والاحتياط في فعله واجب لأنا لا نأمن أن يكون واجبا فنتركه. وهذا صحيح، لأنه نوى الوجوب، فإن كان واجبا فقد فعله، وإن كان ندبا سقط الوجوب، وبقي فعله نفلا، كرجل شك هل عليه فرض أم لا؟ فصلى صلاة، ونوى الفرض احتياطاً، ثم بان أنه لم يكن عليه فرض فإنها تكون نافلة.

ثاني عشر: أنه لا نزاع في وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في الجملة، وإيجاب الإتيان بمثل فعله تعظيماً له، وبدليل العرف، والتعظيمان يشتركان في قدر من المناسبة فيجمع بينهما بالقدر المشترك، فيكون ورود الشرع بإيجاب ذلك التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمة الإتيان بمثل فعله.

ثالث عشر: البيان تارة يكون بالقول، وتارة يكون بالفعل، ثم ثبت أن القول يقتضي الوجوب فكذلك الفعل.

(1)

مسألة: فعل النبي صلى الله عليه وسلم المجرد من القرائن والذي لا يظهر منه قصد القربة. اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

فقال أبو العباس ابن سريج: "إذا لم يظهر في الفعل قصد القربة بل كان مجردا مطلقاً فإنه واجب علينا" إلا أن إمام الحرمين الجويني قد رد نسبة هذا القول إلى ابن سريج بقوله: "بأن هذا زلل وقدر الرجل عن هذا أجل".

ومن قال بأن ابن سريج يقول بالوجوب فقد أحال استدلاله في هذه على ما استدل به في مسألة فعل الرسول صلى الله عليه وسلم المجرد مع ظهور قصد القربة. وقد سبق ذكر هذه الأدلة في المسألة السابقة.

(4)

مسألة: وجوب العمل بخبر الواحد:

اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال عديدة. فقال أبو العباس ابن سريج: "بوجوب العمل بخبر الواحد شرعا وعقلا"وقد استدل على هذا الوجوب بالنقل والإجماع والمعقول.

أما النقل فقد استدل بالكتاب والسنة. وأدلته من الكتاب هي:

أولاً: استدل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ

} الآية.

ص: 188

وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر بالتوقف عند خبر الفاسق. وفي ذلك دلالة على قبول خبر العدل، وترك التوقف عند خبره.

ثانياً: قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} (1) .

وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع من كل قائل واحدا كان أو اثنين. وهذا قبول الخبر الواحد.

ثالثاً: استدل بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (2) .

وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجب الحذر بإنذار طائفة من فرقة، لأن لعل للترجي، وهو على الله تعالى محال فيحمل على الوجوب لاشتراكهما في الطلب. وإنذار الطائفة إخبارهم المخوف فيلزم وجوب الحذر بإخبار الطائفة، والطائفة قوم لا يحصل من خبرهم إلا الظن، لأن كل فرقة ثلاثة. فالطائفة منهم إما واحد أو اثنان. وخبر الواحد أو الاثنين لا يفيد إلا الظن. فقد وجب الحذر بإخبار من لا يفيد قولهم إلا الظن. فيجب الحذر بإخبار واحد عدل. لأن خبره يفيد الظن. ويلزم منه وجوب العمل بخبر الواحد.

رابعاً: استدل بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} (3) .

وجه الاستدلال: أن الله تعالى تواعد على كتمان ما أنزل الله تعالى من البينات فيجب على الواحد إخبار ما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم فوجب العمل بخبره، وإلا لم يكن لإخباره فائدة.

أما أدلته من السنة فهي:

(1) سورة التوبة آية: 61.

(2)

سورة التوبة آية: 122.

(3)

سورة البقرة آية: 159.

ص: 189

أولاً: ما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خبر الأعرابي على رؤية هلال رمضان وذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال جاء أعرابي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال- يعني رمضان- فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: "نعم". قال: "أتشهد أن محمداً رسول الله". قال: "نعم". قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا" (1) .

وهذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خبر الواحد، وأخذ به.

ثانيا: بعثه صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة لتبليغ الأحكام ونشر الدعوة في أماكن متفرقة من المعمورة، ومن ذلك توجيهه لمعاذ رضي الله عنه إلى اليمن. إذ روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال:"أدعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمسة صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد عام فقرائهم"(2) .

أما استدلاله بالإجماع فكان كما يلي:

بأنه تكرر العمل بخبر الواحد كثيرا في زمان الصحابة والتابعين في وقائع كثير وكان هذا شائعا ذائعا ولم ينكر أحد على العمل به وذلك أن تكرر العمل به من غير نكير لأحد يقضي عادة بأنهم اتفقوا على وجوب العمل بخبر الواحد. كما أن قولهم بوجوب العمل يدل قطعا أنهم اتفقوا على وجوب العمل به.

وأما استدلاله بالمعقول فكان كما يلي:

(1) انظر: سنن الترمذي _ كتاب الصوم _ 3/74، وسنن النسائي _ كتاب الصوم _ 4/131، وسنن الدارمي _ باب الشهادة على رؤية هلال رمضان _ 1/377، وتلخيص الحبير 2/187.

(2)

انظر: صحيح مسلم بشرح النووي _ كتاب الإيمان _ 1/196، وفتح الباري _ كتاب الزكاة _ 3/261.

ص: 190

أولاً: بأنه إذا علم أصل كلي. كرفع المضار، وجلب المنافع، وجب عقلا العمل بالظن في تفاصيل ذلك الأصل المعلوم كما إذا أخبر واحد عدل من مضرة شيء مخصوصة وعن ضعف جدار، وجب عقلا الاحتراز بذلك الشيء المضر وعن ذلك الجدار. وهذا المعنى متحقق في خبر الواحد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى ليبين الأحكام الشرعية المشتملة على مصالح العباد. وخبر الواحد يفيد الظن في تفاصيل تلك الأحكام والمصالح، فوجب العمل به عقلا.

ثانيا. لاشك في أن خبر العدل الواحد يمكن صدقه فحينئذ يجب العمل به احتياطا قياسا على

المتواتر، وقول المفتي لأن كل واحد منهما لما أمكن صدقة وجب العمل به، فكذلك هاهنا.

ثالثا: لو لم يجب العمل بخبر الواحد لخلت أكثر الوقائع عن الحكم والتالي باطل بالإجماع. بيان الملازمة أنه إذا لم يوجد في الوقائع الحادثة دليل إلا خبر الواحد، ولا يجب العمل به لزم خلو تلك الوقائع عن الحكم.

باب: الإجماع (1)

مسألة: كيفية الإجماع:

قال أبو العباس ابن سريج: "إذا قيل لك ما الأصل في وجوب حكم الإجماع؟. فقل: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم". فالحجة من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس} (2) .

وجه الاستدلال: أن الوسط هو العدل، والشهادة هو القول بالحق. ألا تراه تعالى يقول:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (3) أي ناطقا بالحق.

والحجة من السنة: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"(4) .

(1) انظر: الودائع بمنصوص الشرائع 673.

(2)

سورة البقرة آية: 143.

(3)

سورة البقرة آية: 143.

(4)

انظر: تلخيص الحبير 3/141، والمعتبر 57، وتحفة الطالب 146.

ص: 191

وما قاله صلى الله عليه وسلم: "فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح"(1) .

وجه الاستدلال: أن الله تعالى أثبت الحجة بما هذه صفته علم بهذا النص أن المراد به الخواص من الناس لا العوام، وهم أهل العلم والقائلين بالحق.

فحقيقة الإجماع القول بالحق، فإذا حصل القول بالحق من واحد فهو إجماع، وإن حصل من اثنين أو ثلاثة فهو إجماع. وما حصل من ثلاثة إلى جملة لا تحصى فهو إجماع. والحجة على أن الواحد إجماع ما اتفق عليه الناس في أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما منعت بنو حنيفة الزكاة، فكانت مطالبة أبي بكر رضي الله عنه لها بالزكاة حقا عند الكل. وما انفرد بمطالبتها غيره، وكلهم مجمعون على أن مطالبته حق. فإذا ثبت أن واحد إجماع كان الاثنان فصاعدا بمعناه.

باب: القياس

قال أبو العباس ابن سريج: "إذا قيل لك ما الأصل في إثبات القياس؟. فقل كتاب الله وسنة نبيه".

فالحجة من الكتاب:

قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (2) فالقياس استنباط بحمل فرع على أصل لاشتباه بينهما في الأصل.

وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (3) فثبت حكم القياس. لأن القياس هو تمثيل الشيء بالشيء، وتشبيه الشيء بالشيء، فإذا جاز ذلك من فعل من لا تخفى عليه خافية ليريكم وجه ما تعلمون، فهو ممن لا يخلو من النقص والجهالة أجوز.

(1) انظر: المستدرك للحاكم 3/78، وكشف الخفاء 2/ 188، والمقاصد الحسنة 367، والمعتبر 234.

(2)

سورة النساء آية: 83.

(3)

سورة البقرة آية: 26

ص: 192

وما قاله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُم} (1) . وهذا لا سبيل إلى معرفة الحكم فيه إلا من جهة التحري والاحتياط. وهذا لا يمكن فعله إلا بتقدير العقول. وما قاله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم} (2) .

والحجة من السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين ما كنت فاعلة". قالت: "كنت أقضيه". فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق أن يقضى"(3) فقد ثبت القياس بالكتاب والسنة. فكل حادثة أو نازلة فهي مذكورة في الأصل بالمعنى، والفرق بينهما وبين أصلهما، أن الأصل مذكور بالاسم والمعنى، والفرع مذكور بالاسم. فإذا تفرق الأصل بالمعنى، والفرع بالاسم، فقد أمر الله تعالى عند ذلك برد الفروع إلى الأصول، ألا تراه تعالى يقول:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (4) والمنازع فيه الحادثة، والمردود إليه الأمر من الله تعالى في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

(2)

مسألة: إثبات الأسامي واللغات بالقياس:

اختلف العلماء في الحكم الذي يعلل أصله لتعديته إلى محل آخر هل يشترط فيه أن يكون شرعيا؟.

فقال أبو العباس ابن سريج: "لا يشترط فيه أن يكون شرعيا بل يجرى القياس في الأسامي واللغات".

(1) سورة المائدة آية:89.

(2)

سورة المائدة آية: 95.

(3)

انظر: فتح الباري- باب حج المرأة عن الرجل-4/ 67، وسنن الترمذي- كتاب الحج- 3/ 267، وصحيح مسلم بشرح النووي- كتاب الجج-9/ 97، والمعتبر 214، وتحفة الطالب 420.

(4)

سورة النساء آية: 59.

ص: 193

وقبل ذكر أدلة ابن سريج في المسألة لابد من تحديد محل الخلاف لذا قال العلماء ليس الخلاف في إطلاق اسم علم تعميمه للأفراد بالنقل على ما سكت عنه، أي لم يسمع إطلاقه عليه من أهل اللغة. مثل "رجل"فإنه وضع لواحد من ذكور بني آدم، وعلم تعميمه بالنقل. فإذا أطلق على واحد لم يسمع من العرب إطلاقه عليه، لا يقال إنه إثبات بالقياس. إذ تناول اللفظ لذلك الواحد علم بالنقل، وليس أيضا الخلاف في نحو رفع فاعل لم يسمع من العرب رفعه، فإنه لا نزاع في جواز رفعه.

ولا يقال أيضا أنه إثبات بالقياس إذ علم تعميم رفع الفاعل بالاستقراء. فإنا لما استقرأنا الكلام وجدنا كل ما أسند الفعل، أو شبهه إليه مقدما عليه مرفوعا، حصل عندنا قاعدة وهي: أن كل فاعل مرفوع. بحيث لم يبق شك، فإذا جعل فاعل لم يسمع رفعه من العرب مرفوعا لم يكن ذلك قياسا إذ علم بالاستقراء أن الرفع وضع لكل فاعل.

بل إنما الخلاف في أنه هل يسمى مسكوت عنه مثل النبيذ مثلا الحاقا بتسمية، أي باسم مثل اسم الخمر موضوع لمعين، مثل ماء العنب المخصوص لأجل معنى، مثل التخمير. يستلزم ذلك المعنى الاسم وجودا وعدما. أي متى وجد المعنى المذكور وجد الاسم ومتى عدم عدم أم لا؟ لأنه هو القياس في اللغة وبعبارة أخرى إذا وضع اسم لمعنى دار المعنى مع اللفظ وجودا وعدما كخمر النبيذ.

فبهذا وأمثاله: قال ابن سريج بأن اللغة تثبت بالقياس وقد استدل بالأدلة الآتية:

أولا ً: التمسك بعموم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} (1) فإنه يتناول كل الأقيسة واعتمادهم

في الفرق على أن المعاني لا تناسب الألفاظ فامتنع جعل المعنى علة للاسم، بخلاف الأحكام الشرعية فإن المعاني قد تناسبها، لكنا قد بينا سقوط هذا الفرق.

(1) سورة الحشر آية: 20.

ص: 194

ثانيا: قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالرجم في حق ماعز لا يتناول غيره لأنه خاص به. وقضاؤه بالكفارة على الأعرابي المجامع في نهار رمضان لا يدخل فيه غيره ممن جامع في رمضان. لأن لفظه مقصور عليه، وإنما يوجب الرجم على غير ماعز في الزنى بالقياس عليه. وتثبت الكفارة في حق غير الأعرابي المجامع بالقياس عليه.

ثالثا: إن العرب وضعت اسم الفرس للحيوان الذي كان في زمانهم موجودا ثم انقرض، وحدث حيوان آخر فسمي بذلك بطريق الإلحاق والقياس.

رابعا: إذا جاز إجراء القياس في الأحكام الشرعية عند فهم المعنى جاز إجراء القياس في الأسامي اللغوية عند فهم المعنى، لأن المقصود من تسمية النبيذ خمرا إثبات التحريم وإيجاب الحد.

خامسا: لما جاز إثبات أسماء الأعلام من غير رجوع إلى أهل اللغة فلا يمتنع مثله من الأسماء اللغوية.

سادسا: وجدنا بأن العصير إذا حصلت فيه الشدة سمي خمرا، وإذا زالت الشدة لم يسم خمرا. فعلمنا أن الأسماء تجري في بابها مجرى الأحكام التي تثبت بوجود معان وتزول بزوالها.

سابعا: قد ثبت بالتواتر عن أهل اللغة أنهم جوزوا القياس في اللغة. ألا ترى أن كتب النحو والتصريف والاشتقاق مملوءة من الأقيسة وأجمعت الأمة على وجوب الأخذ بتلك إذ لا يمكن تفسير القرآن والإخبار إلا بتلك القوانين فكان ذلك إجماعا بالتواتر.

(3)

مسألة: مراتب قياس الشبه:

وبعض الأصوليين يسمي ذلك بقياس الأشباه. ومعناه أن الفرع يتردد بين أصلين يشبه هذا الأصل في الحكم ويشبه هذا الأصل في الصورة. مثل قتل الحر للعبد فهل دية العبد تقدر بالقياس على دية الحر، لأن العبد يشبهه في الصورة أم أنها تقدر على ما له قيمة، لأنه يشبهه في الحكم. وعندئذ قد يكون مقدار الدية أكثر من مقدارها إذا قيست على دية الحر أو يكون أقل من ذلك المقدار.

ص: 195

لذا عبر الإمام الجويني عنها بقوله: "ومن أبواب الشبه: ما يتعارض فيه المعنى والشبه على التناقض فيقع لذلك الشبه ثانيا ونحو كالتردد في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة؟ فالذي يقتضيه

القياس المعنوي عدم الضرب اعتبارا بجملة المملوكات. والذي يقتضيه الشبه اعتباره بالحر. ومما يلتحق بهذا الفن القول في تقدير أروش أطراف العبد بالسبب الذي يقدر به أطراف الأحرار. فالذي يقتضيه القياس المعنوي نفي التقدير، واعتبار ما ينقص من القيمة نظرا إلى المملوكات. سيما على رأي من لا يرى تقدير قيمة العبد، وتنز يلهم منزلة البهائم التي تضمن بأقصى قيمتها". وهذا هو مذهب ابن سريج.

باب: الاستصحاب

مسألة في صورة من صور الاستصحاب:

المراد بهذه المسألة هو: أن الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع وهو راجع إلى الحكم الشرعي بأن يتفق على حكم في حالة، ثم تتغير صفة عليه فيختلفون فيه فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال. ومثاله: إذا استدل من يقول إن المتيمم إذ رأى أن الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته، لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك، فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة.

وكقول الظاهرية: يجوز بيع أم الولد. لأن الإِجماع انعقد على جوار بيع هذه الجارية قبل الاستيلاء. فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاء وهذا النوع هو محل الخلاف فذهب أبو العباس ابن سريج إلى القوال: بالاحتجاج به. وقال عنه الشوكاني بأنه الراجح وحجته في ذلك أن المتمسك بالاستصحاب باق على الأصل قائم في مقام المنع، فلا يجب علبه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذلك. فمن ادعاه جاء به.

وأورد عبد العزيز البخاري المسألة بقوله: "إذا كان الحكم الثابت ثابتا بدليل مطلق غير معترض للزوال وقد طلب المجتهد الدليل المزيل بقدر وسعه ولم يظهر، فقد اختلف العلماء فيه.

فقال أبو العباس ابن سريج: "إنه حجة ملزمة متبعة في الشرعيات". وقد استدل على قوله هذا بما يلي:

ص: 196

وهو أن الحكم متى ما ثبت شرعا فالظاهر دوامه لما تعلق به من المصالح الدينية والدنيوية، ولا بتغير المصلحة في زمان قريب وإنما تحتمل التغيير عند تقادم العهد، فمتى طلب المجتهد الدليل المزيل، ولم يظفر به، فالظاهر عدمه. وهذا نوع اجتهاد، وإذا كان البقاء ثابتا بالاجتهاد لا يترك باجتهاد مثله ترجيح، ويكون حجة على الخصم كمن تعلق بقياس صحيح، فأنكر خصمه، وعارضه بقياس لا رجحان له على الأول. يجب أن يكون المنكر محجوبا به لأن ذلك حكم قد ثبت بقاؤه بالاجتهاد، فلا يزول إلا بدليل بترجح على الأول، وإن كان أوجب شبهة في الأول. وهذا معنى قول الفقهاء ما أمضى بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله. ألا ترى أن الحكم المطلق في حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان محتملا للنسخ ثم هو ثابت في حق من كان بعيدا عنه في حق وجوب العمل به، والإلزام على الغير، ودعوة الناس في ذلك. فعرفنا أن الاستصحاب حجة ملزمة.

باب النسخ

(1)

مسألة: أنهل النسخ:

قال أبو العباس بن سريج: "إذا قيل لك النسخ على كم ضرب؟ فقل على ضروب ثلاثة".

نسخ للحكم وتبقية للخط. ونسخ للخط وتبقية للحكم، ونسخ للخط والحكم جميعا.

والحجة في ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرضاع عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس". فهذا ما نسخ حكمه وخطر.

وأما ما نسخ خطه وثبت حكمه، فالحجة فيه ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:"كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما البتة} ". فهذا مما نسخ خطه وثبت حكمه وهو الرجم.

وأما ما نسخ حكمه وثبت خطه فمثل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه} (1) .

(1) سورة آل عمران آية: 102.

ص: 197

ومثل قوله عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (1) . فهذا مما نسخ حكمه وثبت خطه.

(2)

مسألة: نسخ القرآن والسنة:

معنى ذلك هل يمكن أن يكون القرآن ناسخاً للسنة أم لا؟.

اختلف العلماء في حكم هذه المسألة على أقوال:

فقال أبو العباس ابن سريج: "بجواز ذلك، إلا أنه لم يرد ولم يقع".

وجاء في أحكام الفصول، أنه قال:"روي عن ابن سريج أنه كان يجيز ذلك إلا أنه زعم أن ذلك لم يقع في الشرع". ومعنى ذلك أن ابن سريج يقول بجوار ذلك عقلا إلا أنه لم يقع شرعا.

(3)

مسألة: نسخ الكتاب بالسنة المتواترة:

معنى ذلك هو أن السنة المتواترة يمكن أن تكون ناسخة للكتاب أم لا؟. اختلف العلماء في حكم هذه المسألة.

فقال أبو العباس ابن سريج: "بجواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، إلا أنه لم يقع شرعا". وجاء في كشف الأسرار أنه قال: "يجور عقلا، ولكن الشرع لم يرد به، ولو ورد به كان جائزا، وهو إحدى الروايتين عن ابن سريج".

وجاء في الإبهاج أنه قال: "وذهب ابن سريج إلى جواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة والسنة المتواترة بالكتاب إلا أنه لم يقع ولم يرد".

وجاء قوله في كتاب: الودائع بمنصوص الشرائع أنه قال: "ولا ينسخ القرآن بالسنة لأن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن".

وللتوفيق بين هذه النقول عنه نقول: إن ابن سريج يقول بجوار ذلك عقلا، وعدم تحققه ووقوعه شرعا. وقد استدل عام قوله هذا بالأدلة الآتية:

أولاً: استدل بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2)

وجه الاستدلال: أن النسخ بيان للمنزل، فيجب أن يكون ذلك بيانا له.

ثانيا: النسخ إنما يتناول الحكم. والكتاب والسنة المتواترة في إثبات الحكم واحد، وإن اختلفا في الإعجاز. فيجب أن يتساويا في النسخ، لذا جاز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة.

(1) سورة الأنبياء آية: 98.

(2)

سورة النحل آية: 44.

ص: 198

ثالثا: أن متواتر السنة قاطع، أن يحصل القطع بثبوته وذلك لأن المتواتر يفيد العلم الضروري، وبذلك يكون متواتر السنة من عند الله في الحقيقة، لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} (1) .

وقال صلى الله عليه وسلم: "أوتيت القرآن ومثله معه"(2) .

وإذا كان متواتر السنة قاطعا، وهو من عند الله تعالى صار كالقرآن في نسخ القران به.

رابعا: بأنه لو استحال لاستحال لذاته، أو الأمر خارج عن ذاته، لكنه لا يستحيل لذاته ولا لأمر خارج، فلا يكون مستحيلا مطلقا، فيكون جائزا مطلقا.

(4)

مسألة نسخ الكتاب بأخبار الآحاد:

اختلف أهل العلم في حكم هذه المسألة على أقوال متعددة فقال أبو العباس ابن سريج: "بعدم جواز نسخ القرآن بأخبار الآحاد". وقد استدل بالأدلة الآتية.

أولاً: الحكم الثابت بالقرآن آكد من الحكم الثابت بالسنة الآحادية، لأن سببه أقوى، وتأكد الحكم بتأكد سببه وقوته تدل على قوة موجبه، فلم يجز نسخه.

ثانيا: بالقياس على الإجماع حيث قال: وإن كان الحكم الثابث به كالحكم الثابت بالقرآن، وكذلك الحكم الثابت بالإِجماع، ولما لم يجز نسخ القرآن بالإجماع فكذا لم يجز نسخه بخبر الآحاد.

(5)

مسألة: النسخ بالقياس:

اختلف علماء الأصول في صلاحية القياس للنسخ فقال أبو العباس ابن سريج: "يجوز النسخ بالقياس" وحجته في ذلك أن النسخ بيان كالتخصيص، فما جاز التخصيص به، جاز النسخ به أيضا.

باب: التعاون والترجيح

مسألة: المعارضة (3) في الأصل والفرع:

(1) سورة النجم آية: 3 _ 4.

(2)

انظر: مختصر سنن أبي داود _ باب لزوم السنة _ 7/ 7، ومعالم السنن 7/ 7.

(3)

المعارضة لغة: عارضت فلانا في السير إذا سرت حياله وعارضته مثلما صنع إذا أتيت مثلما أتى إليك. انظر: معجم مقاييس اللغة 4/272.

والمعارضة اصطلاحا: هي إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم. انظر: التعريفات 235.

ص: 199

من العلماء من ذكرها بقوله: "إذا كان الفارق معنى من الفرع يضاد الجامع هل يشترط رده إلى أصل يشهد له بناء على قبول الفارق". وقد اختلف العلماء القائلون بقول الفرق على أقوال.

فقال أبو العباس ابن سريج: "أنه ليس بمعارضة العلة بعلة أخرى مستقلة، والمعارضة مقبولة، وهي أصحهما". ثم قال: "حيث أنه وإن اشتمل على المعارضة لكنها غير مقصودة. فإن قلنا إنها معارضة لم يمنع الزيادة، وإن قلنا أنه معنى يضاد الزيادة اكتفى بإثباته في الأصل، ونفيه في الفرع. وهذه الزيادة في الفرع ليس لها في جانب الأصل ثبوت، فلا حاجة إليها".

وجاء في كاشف الرموز أن ابن سريج قال: "أنه سؤالان جواز الجمع بينهما، لأنه أضبط للغرض وأحرى للمقصود وأجمع لشعب الكلام".

وجاء في البرهان أن ابن سريج قال: "أن الفرق ليس سؤالا على حياله واستقلاله، وإنما هو معارضة معنى الأصل بمعنى، ومعارضة العلة التي نصبها المسئول في الفرع بعلة مستقلة، ومعارضة العلة بعلة مقبولة، فإن تردد المترددون في معارضة الأصل، فالفرق عند هذا القائلَ أيل إلى ما ذكره، والمقبول منه المعارضة وقد مضى القول بالغا في قبول المعارضة".

أما جاء في الكافية بأنه ذكر المسألة هكذا: "وقد اختلف الذين قالوا: بالفرق في أنه هل يكفي في الفرق الاقتصار على ما ذكر معنى آخر في الأصل بحكمه من غير أن يصرف عكسه في خلاف حكمه إلى الفرع؟ ".

فذهب أبو العباس ابن سريج إلى أنه يكفيه ذلك ويصير بذلك مانعا له من علته في حكمه.

قال: "لأنا إذا سميناه: معارضة في الأصل اكتفى بمعنى واحد في المعارضة، ولا يكون من شرط المعارضة ذكر معنى آخر في موضع آخر على عكسه في حكمه، كما أن ابتداء المعارضة يكتفي فيها بذكر معنى آخر".

باب: الاجتهاد والتقليد

(1)

مسألة: هل للمجتهد أن يستفتي مجتهدا آخر؟:

ص: 200

معنى ذلك هل أن المجتهد يمكن أن يستفتي مجتهدا آخر في حكم مسألة من المسائل لم يجتهد بعد في معرفة حكمها أم لا؟. اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

فقال أبو العباس ابن سريج: "يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهدا آخر فيما يخصه إذا كان بحيث لو اشتغل بالاجتهاد لفاته الوقت". وقد استدل بالأدلة الآتية:

أولاً: قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون} (1) .

وجه الاستدلال: أن العالم قبل أن يجتهد لا يعلم فوجب أن يجوز له السؤال.

ثانيا: قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) .

وجه الاستدلال: العلماء من أولي الأمر، لأن أمرهم ينفذ على الأمراء والولاة.

ثالثا: قوله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين} (3) .

وجه الاستدلال: أوجب الشارع الحذر بإنذار من تفقه في الدين مطلقا. فوجب على العالم قبوله، كما وجب على العامي ذلك.

رابعا: إجماع الصحابة: إذ روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لعثمان رضي الله عنه: "أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله، وسيرة الشيخين" فقال: "نعم". وكان ذلك بمشهد من عظماء الصحابة، ولم ينكر عليه أحد فكان ذلك إجماعا.

خامسا: أجمعنا على أنه يجوز للمجتهد أن يقبل خبر الواحد عن مجتهد آخر. بل عن عاص، وإنما جاز ذلك اعتمادا على عقله، ودينه، فهنا إذا أخبر المجتهد عن منتهى اجتهاده بعد استفراغ الوسع والطاقة. فلأن يجوز العمل به كان أولى.

سادسا: أن المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى العمل بفتوى مجتهد آخر فقد حصل ظن أن حكم الله تعالى ذلك وذلك يقتضي أن يحصل له ظن أنه لو لم يعمل به لاستحق العقاب فوجب أن يجب العمل به، دفعا للضرر المظنون.

(1) سورة النحل آية: 43.

(2)

سورة النساء آية: 59.

(3)

سورة التوبة آية: 122.

ص: 201

سابعا: أن بعض الصحابة كان يرجع إلى قول بعض عند سماعه من غير أن يسأله عن دليله، لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجع إلى قول علي ومعاذ رضي الله عنهما ولم ينكر عليه أحد من السلف.

ثامنا: أن قول المجتهد صواب وكل صواب جائز اتباعه.

تاسعا: أن المجتهد العالم هنا مضطر إلى التقليد، لأنه إذا اشتغل بالاجتهاد فاتته العبادة، فوجب أن يجوز له التقليد.

عاشرا: أن المجتهد إذا عجز عن الاجتهاد، إما لتكافؤ الأدلة، وإما لضيق الوقت عن الاجتهاد، وإما لعدم ظهور دليل له. فإنه حيث عجز سقط عنه وجوب ما عجز عنه، وانتقل إلى بدله وهو التقليد، كما لو عجز عن الطهارة بالماء.

(2)

مسألة: تقليد العامي للعلماء:

من المعروف أن العامي لا قدرة له على معرفة الأحكام الشرعية بنفسه، لذا لابد من أن يقلد أهل العلم في ذلك. إلا أن أهل العلم اختلفوا في أن للعامي أن يقلد من يشاء من العلماء أم أنه لابد أن يبحث عن الأعلم الأدين من أجل أن يقلده؟.

فقال أبو العباس ابن سريج: "يلزم العامي الاجتهاد في أعيان المفتين ولا يجور له أن يترك تقليد الأعلم الأدين إلى تقليد من هو دونه". وقد استدل بالأدلة الآتية:

أولاً: أن هذا طريقه الظن، والظن في تقليد الأعلم أقوى، فوجب المصير إليه.

ثانيا: أن الثقة به أقوى.

(3)

مسألة: هل كل مجتهد مصيب:

معنى ذلك أن المجتهد إذا اجتهد هل يكون مصيبا في اجتهاده ولا يخطئ أم أنه محتمل للإصابة والخطأ. ومن أجل أن يتضح معنى هذه المسألة نقول بأنها مبنية على أمر آخر وهو أن لله عز وجل حكما في كل واقعة أم لا؟ فمن العلماء من قال: "بأن لله عز وجل حكما معينا لكل واقعة من الوقائع. إلا أنه لم يصلنا فإذا اجتهد المجتهد فأصابه فهو المصيب وإذا أخطأه فهو مخطئ".

ص: 202

ومنهم أن قال: "بأنه ليس لله عز وجل حكم معين في كل واقعة من الوقائع فالوقائع التي لم يصلنا حكمها من الله تعالى فالحكم فيها موكول لاجتهاد المجتهد". لذا كل مجتهد مصيب عندهم. فهذا الخلاف نشأ عنه الخلاف في مسألتنا وهو هل كل مجتهد مصيب في اجتهاده أم لا؟. اختلف أهل العلم في ذلك.

فقال أبو العباس ابن سريج: "أن الحق في واحد، ولكن الله تعالى يكلفنا إصابته، وإنما كلف الاجتهاد في طلبه فكل من اجتهد في طلبه فهو مصيب. وقد أدى ما كلف سواء كان مصيبا أو مخطئا".

وقد اختلف القائلون بأن الحق واحد في الاجتهاد.

فقال أبو العباس ابن سريج: "إنه وإن أخطأ في الحكم فهو مصيب في الاجتهاد".

وقد استدل ابن سريج بما يلي:

أولاً: إجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه ولا يجوز أن يكون إجماعهم على خطأ.

ثانيا: أن المجتهد قد أدى ما كلف به.

وبهذا انتهت الآراء والأقوال االأصولية لابن سريج رحمه الله تعالى.

وآخر دعوانا أن الحمد والمنة والفضل لله تعالى في أن أعانني على إكمال هذا العمل وإظهاره على الهيئة التي هو عليها الآن.

المصادر والمراجع

أولاً: (1) القرآن الكر يم.

(2)

المعجم الفهرس لألفاظ القرآن الكريم. وضعه محمد فؤاد عبد الباقي.

ثانيا: كتب الحديث:

(1)

صحيح البخاريَ لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 هـ. مكتبة الإسلامي. استانبول. تركيا.

(2)

صحيح مسلم بشرح النووي: للإمام النووي. نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض.

(3)

جامع الأصول في أحاديث الرسول لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري المتوفى سنة 606 هـ. نشرمكتبة الحلواني ومكتبة دار البيان.

(4)

الموطأ للإمام مالك بن أنس. مطبوع مع شرحه للزرقاني.

(5)

شرح الزرقاني على الموطأ للإمام محمد الزرقاني. دار الفكر.

ص: 203

(6)

مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري. تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي. دار المعرفة. بيروت.

(7)

المستدرك على الصحيحين في الحديث لأبي عبد الله محمد النيسابوري المعروف بالحاكم المتوفى سنة 405 هـ. مكتبة النصر. الرياض.

(8)

سنن الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة المتوفى سنة 279 هـ. تحقيق أحمد محمد شاكر. دار إحياء التراث العربي.

(9)

سنن الدارمي: لأبي محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى سنة 255هـ. تحقيق عبد الله هاشم المدني. الناشر حديث آحادي. باكستان.

(10)

فتح الباري شرح صحيح البخاري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة852 هـ. مكتبة الرياض الحديثة. الرياض.

(11)

نيل الأوطار: للشيخ الإِمام محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1255 هـ. دار القلم. بيروت.

(12)

كشف الخفاء لإسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة 162هـ. مؤسسة الرسالة. بيروت.

(13)

سنن ابن ماجة: لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجة المتوفى سنة 275 هـ. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار الفكر.

(14)

مصنف عَبد الرزاق: لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211 هـ. تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. منشورات المجلس العلمي.

(15)

الموضوعات لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي القرشي المتوفى سنة 597 هـ. تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. الناشر محمد عبد المحسن. المكتبة السلفية. المدينة المنورة.

(16)

المقاصد الحسنة لشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة 902هـ. تحقيق عبد الله الصديق وعبد الوهاب عبد اللطيف. دار الكَتب العلمية. بيروت

(17)

جامع بيان العلم لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي المتوفى سنة 463 هـ. دار الكتب العلمية. بيروت.

(18)

تلخيص الحبير في تاريخ أحاديث الرافعي الكبير لأبي الفضل شهاب الدين أحمد بن علي العسقلاني المتوفي سنة 852 هـ.

ص: 204

(19)

المعتبر في تاريخ أحاديث المنهاج والمختصر: بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي. تحقيق حمدي عبد المجيد. دار الأرقم.

(20)

سنن النسائي بشرح السيوطي. نشر دار الكتب العلمية. بيروت.

(21)

صحيح ابن خزيمة للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري المتوفى سنة 311 هـ. تحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي. المكتب الإسلامي.

(22)

تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب للإمام ابن كثير. تحقيق الدكتور عبد الغني الكبيسي. دار حراء للنشر والتوزيع. مكة المكرمة.

ثالثا. كتب أصول الفقه:

(1)

أصول السرخسي: لأبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي المتوفى سنة 490 هـ. نشر لجنة إحياء المعارف النعمانية. حيدر آباد. الدكن. الهند.

(2)

البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني المتوفى سنة 478هـ. تحقيق الدكتور عبد العظيم الذيب. قطر.

(3)

أحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد الباجي. تحقيق الدكتور عبد المجيد تركي. نشر دار الغرب الإسلامي. بيروت.

(4)

الأحكام في أصول الأحكام: لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي الآَمدي. مكتبة محمد علي صبيح. القاهرة.

(5)

المحصول في علم أصول الفقه: لفخر الإِسلام محمد بن عمر بن الحسن الرازي المتوفى سنة 606 هـ. تحقيق الدكتور طه جابر العلواني. نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الرياض.

(6)

إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول: لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 هـ. دار المعرفة. بيروت.

(7)

قواطع الأدلة: للسمعاني. مخطوط.

(8)

كشف الأسرار: لعبد العزيز البخاري. طبع المكتب الصنائع سنة 1307 هـ. القاهرة.

(9)

الإبهاج شرح المنهاج: لعلي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 756 هـ. وولده تاج الدين عبد الوهاب السبكي المتوفى سنة 771 هـ. دار الكتب العلمية. بيروت.

ص: 205

(10)

شرح الكوكب المنير: لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار المتوفى سنة 972 هـ. تحقيق الدكتور نزيه كمال حماد والدكتور محمد مصطفى الرحيلي. نشر مركز البحث العلمي. جامعة أم القرى. مكة المكرمة.

(11)

شرح اللمع: لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ. تحقيق عبد المجيد التركي. دار الغرب الإسلامي. بيروت.

(12)

سلاسل الذهب للإِمام بدر الدَين الزركشي المتوفى سنة 794 هـ. رسالة دكتوراه. الجامعة الإسلامية. المدينة المنورة. تحقيق الدكتور محمد المختار الشنقيطي.

(13)

الفقيه والَمتفقه: لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي المتوفى سنة 462 هـ. نشر دار إحياء السنة المحمدية.

(14)

التبصرة في أصول الفقه: لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ. تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو. نشر دار الفكر. دمشق.

(15)

نهاية السول: لجمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الأسنوي الشافعي المتوفى سنة 772 هـ. نشر عالم الكتب. بيروت.

(16)

كاشف الرموز ومظهر الكنوز للشيخ ضياء الدين التباذكاني الطوسي المتوفى سنة 706 هـ. رسالة ماجستير. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الرياض. تحقيق يحي عبد الله السعدي.

(17)

بيان المختصر لشمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني المتوفى سنة 749 هـ. تحقيق الدكتور محمد مظهر بقا. جامعة أم القرى. ومركز إحياء التراث الإسلامي.

(18)

الوصول إلى علم الأصول: لأبي الفتح أحمد بن علي بن برهان البغدادي المتوفى سنة 518 هـ. تحقيق الدكتور عبد الحميد عاب أبو زنيد. مكتبة المعارف. الرياض.

(19)

تنقيح محصول ابن الخطيب في أصول الفقه للشيخ أمين الدين مظفر بن أبي أمير التبريزي المتوفى سنة 621 هـ. رسالة دكتوراه. جامعة أم القرى. تحقيق الدكتوراه حمزة زهير حافظ.

ص: 206

(20)

شرح مختصر روضة الناظر في أصول الفقه: لسليمان بن عبد القوي الطوفي المتوفى 716 هـ. رسالة دكتوراه. جامعة أم القرى. تحقيق الدكتور بابا بن بابا بن آدو.

(21)

بيان معاني البديع: لشمس الدين محمود الأصفهاني المتوفى سنة 729 هـ. رسالة دكتوراه. جامعة أم القرى. تحقيق الدكتور حسام الدين موسى محمد عفانه.

(22)

المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين محمد بن علي الطيب البصري المتوفى سنة 436 هـ. تحقيق محمد عبد الله. نشر المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية. دمشق.

(23)

مسائل الخلاف في أصول الفقه: لأبي عبد الله الحسين بن علي الصيمري المتوفى سنة 436 هـ. رسالة دكتوراه. جامعة الإمام أمحمد بن سعود الإسلامية. الرياض. تحقيق الدكتور راشد بن علي الحاي.

(24)

منهاج الوصول إلى علم الأصول: للقاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر القاضي المتوفى سنة 685 هـ. مطبوع مع شرحه مع نهاية السول للأسنوي.

(25)

أصول البزدوي لأبي الحسن علي بن محمد البزدوي. مطبوع مع شرحه الأسرار للبخاري.

(26)

الكافية في الجدل: لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني المتوفى سنة 478 هـ. تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود. مطبعة عيسى البابي الحلبي. القاهرة.

(27)

الملخص في الجدل: في أصول الفقه لأبي إسحاق إبراهيم الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ. رسالة ماجستير. جامعة أم القرى. تحقيق الطالب محمد يوسف.

(28)

التمهيد في أصول الفقه: لمحفوظ بن أحمد به الحسن الكلوذاني الحنبلي المتوفى سنة 510هـ. رسالة دكتوراه. جامعة أم القرىَ. تحقيق الدكتور مفيد أبو عمشه والدكتور محمد علي إبراهيم. نشر مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى.

رابعا: كتب الفقه:

(1)

الودائع بمنصوص الشرائع لابن سريج المتوفى سنة 306 هـ. رسالة دكتوراه. الجامعة الإسلامية. المدينة المنورة.

ص: 207

(2)

أدب القاضي: للإمام أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاصر المتوفى سنة 335 هـ. تحقيق الدكتور حسين بن خلف الجبوري. مكتبة الصديق. الطائف.

(3)

مجموع الفتاوى: لشيخ الإِسلام أحمد بن تيميه. مكتبة المعارف. الرياض.

(4)

أدب القاضي: لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي المتوفى مسنة 450 هـ. تحقيق الدكتور محي هلال السرحان. رئاسة ديوان الأوقاف. العراق.

خامسا: كتب التراجم والرجال:

(1)

طبقات الفقهاء للشافعية: لأبي عاصم محمد بن أحمد العبادي المتوفى سنة 458 هـ.

(2)

طبقات الشافعية: لأبي بكر بن هداية الله الحسيني المتوفى سنة 1014هـ تحقيق عادل نويهض. دار الآفاق الجديدة. بيروت.

(3)

طبقات الفقهاء: لأبي إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 هـ. تحقيق الدكتور إحسان عباس. دار الرائد. بيروت.

(4)

تذكرة الحفاظ: لأبي عبد الله شمس الدين محمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ. دار إحياء التراث العربي.

(5)

العبر في أخبار من غبر: الحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 هـ. تحقيق محمد السعيد بسيوني. دار الكتب العلمية. بيروت.

(6)

تهذيب الأسماء واللغات: لأبي زكريا محي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676 هـ. إدارة الطباعة المنيرة بيروت.

(7)

شذرات الذهب: لأبي الفرج عبد الحي بن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ. منشورات دار الآفاق الجديدة. بيروت.

(8)

المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ. دائرة المعارف. حيدر آباد. الدكن. الهند.

(9)

سير أعلام النبلاء: لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 749 هـ. مؤسسة الرسالة. بيروت.

(10)

تاريخ بغداد: لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة 630 هـ. الناشر دار الكتاب العربي. بيروت.

(11)

البداية والنهاية: لأبي الفداء الحافظ بن كثير المتوفى سنة 774 هـ. دار الكتب العلمية. بيروت.

ص: 208

(12)

النجوم الزاهرة: لأبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الاتابكي المتوفى سنة 874 هـ. طبعة مصورة من طبعة دار الكتب المصرية. القاهرة.

(13)

طبقات الشافعية الكبرى: لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 771 هـ. تحقيق الدكتور محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو. مطبعة عيسى الحلبي. القاهرة.

(14)

وفيات الأعيان لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر قاضي شهبة المتوفى سنة 851هـ. تحقيق عبد العليم خان. مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية. الهند.

(15)

الفتح المبين في طبقات الأصوليين: للشيخ عبد الله مصطفى المراغي. الطبعة الثانية. بيروت.

(16)

هدية العارفين: لإسماعيل باشا البغدادي المتوفى سنة 1339 هـ. دار الفكر. بيروت.

(17)

تاريخ التراث العربي: لفؤاد سزكين. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الرياض.

(18)

الفهرست: لابن النديم. الناشر دار المعرفة. بيروت.

(19)

الكامل في التاريخ لأبي المحاسن علي بن أبي المكارم المعروف بابن الأثير. دار الكتاب العربي. بيروت.

(20)

تاريخ الملوك والأمم: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. دار القلم. بيروت.

ص: 209