المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 9 فهرس المحتويات 1- من مسائل الربا: لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 9 فهرس المحتويات 1- من مسائل الربا: لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد

‌العدد 9

فهرس المحتويات

1-

من مسائل الربا: لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

2-

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي

3-

موسوعات الفقه الإسلامي أو معاجم القوانين الفقهية: لفضيلة السيد محمد المنتصر الكتاني

4-

مقابلة مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية: الشيخ محمد بن ناصر العبودي

5-

الإمام مسلم وصحيحه: بقلم الشيخ عبد المحسن العباد

6-

في مناسبات الآيات والسور - المناسبات.. وترتيب الآيات والسور: للشيخ أحمد حسن

7-

في ظلال سورة الأنفال (3) : بقلم الشيخ: أبي بكر جابر الجزائري

8-

التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي: بقلم الشيخ عطية محمد سالم

9-

دراسات أدبية - كتاب في أفريقية الخضراء: بقلم الأستاذ محمد المجذوب

10-

الإسلام والحياة - القرآن والمظاهر الطبيعية: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح

11-

ملاحظات وتعقيبات: للشيخ عبد الله القادري

1-

تعقيب على مقال: التضامن الإسلامي بين التأييد والتنديد.

2-

التعقيب على مقال ابن حزم

12-

قدس القداسات: بقلم الأستاذ عبد السلام حافظ

13-

ذبح الحمام الأهلي في الحرم المكي: لفضيلة الشيخ محمد شفيع

14-

التفكر في مخلوقات الله: للشيخ عبد الله بن صالح المحسن

15-

مع الصحافة - مع الإسلام ولكن؟ : نقلا عن مجلة البعث الإسلامي

16-

يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية

17-

ندوة الطلبة - الحركة الإسلامية في الهند: بقلم الطالب: عبد الرحمن تروائي المليباري

18-

الأدب العربي: بقلم الطالب عبد الرحمن محمد الأنصاري

19-

دراسات في الديانات الهندية - الديانة الهندوسية (1) : بقلم: الطالب محمد ضياء الرحمن الأعظمي

20-

أخبار الجامعة

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 111

من مسائل الربا

لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

أما بعد، فقد سألني غير واحد عن معاملة يتعاطاها كثير من الناس وهي أن بعضهم يدفع إلى البنك أو غيره مالاً معلوما على سبيل الأمانة أو ليتجر به القابض على أن يدفع القابض إلى الدافع ربحا معلوما كل شهر أو كل سنة مثال ذلك أن يدفع شخص إلى البنك أو غيره عشرة آلاف ريال أو أقل أو أكثر على أن يدفع إليه القابض مائة ريال أو أكثر أو أقل كل شهر أو كل سنة، وهذه المعاملة لا شك أنها من مسائل الربا المحرم بالنص والإجماع وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن أكل الربا من كبائر الذنوب ومن الجرائم المتوعد عليها بالنار واللعنة. قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

ص: 112

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} . ففي هذه الآيات الكريمات الدلالة الصريحة على غلظ تحريم الربا وأنه من الكبائر الموجبة للنار كما أن فيها الدلالة على أن الله سبحانه يمحق كسب المرابي ويربي الصدقات أي يربيها لأهلها وينميها حتى يكون القليل كثيرا إذا كان من كسب طيب. وفي الآية الأخيرة التصريح بأن المرابي محارب لله ورسوله وأن الواجب عليه التوبة إلى الله سبحانه وأخذ رأس ماله من غير زيادة. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء، فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله سبحانه ويراقبه في جميع الأمور وأن يحذر ما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال والمكاسب الخبيثة ومن أعظمها وأخطرها مكاسب الربا الذي أنزل الله فيه ما يوجب الحذر منه والتواصي بتركه، وقد نقل أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة رحمه الله في كتابه المغني عن الحافظ ابن المنذر إجماع العلماء على تحريم مثل هذه المعاملة وفي ذلك كفاية ومقنع لطالب الحق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 113

الإسلام والحياة

القرآن والمظاهر الطبيعية

بقلم أحمد عبد الرحيم السايح

من علماء الأزهر

القرآن الكريم يلفت نظر المؤمنين إلى المظاهر الطبيعية، لينمِّي في الإنسانية القوى العقلية، المفضية إلى النظر في البراهين، الداعية إلى التفكُّر والتأمل في هذا الكون العجيب، الذي يسير وفق نظام امتلأ دقة وروعة.

قال الله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

وقال تعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

ص: 114

وفي سورة يونس: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} .

وقال تعالى في سورة (ق) : {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ..} .

وفي سورة الأعراف: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} .

وفي سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

وفي سورة يونس: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} .

وفي سورة الغاشية: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} .

ص: 115

وقال تعالى في سورة الواقعة: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ؟ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ؟ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ؟ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ؟ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .

لقد طاف بنا القرآن الكريم في الآيات المذكورة، في أنحاء هذا الكون الكبير، الذي لا يعلم مداه إلا خالقه، وتتبع مظاهر الطبيعة على وجه هذه الأرض التي نعيش عليها، بما فيها من جبال، وبحار، وأنهار، وينابيع، ونبات، وأشجار، وحيوان، وفواكه، تسقى بماء واحد، وتفضل بعضها على بعض في الأكل.

ووضَّح القرآن في أسلوب أخَّاذ، كيفية تبدُّل الأرض وتغيُّرها عندما ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.

وفي الكون العلوي، تحدث القرآن عن ملكوت السموات، تحدث عن الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .

ص: 116

وتتسم الآيات التي تناولت مظاهر الطبيعة بلفت النظرة والاعتبار، بما فيها بداية أو نهاية، كثيرا ما تُصَدَّر الآية بقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا} ، {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} .

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} .

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} .

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} .

ولكي نعطي صورة تقريبية، لمدى اهتمام القرآن بمظاهر الطبيعة وتوجيه النظر، للتفكير والتأمل والبحث فيها. نورد إحصائية لبعض هذه الظواهر التي رددها القرآن في كثير من آياته.

ذكر القرآن الكريم (الأرض) في أكثر من ثمانين وأربعمائة آية، وذكر السماء مفردا وجمعا في مائتي آية، وذكر النهار في خمسين موضعا، وذكر البحر في أكثر من أربعين موضعا، وذكر الجبال في أكثر خمسة وثلاثين موضعا، وذكر الأنعام في ثلاثين موضعا، وذكر الريح والرياح في أكثر من خمسة وعشرين موضعا. وذكر الظلمات في عشرين آية والنجم في ثلاث عشرة آية، وذكر النخيل في عشرين آية، والنطفة في اثنتي عشرة آية.

لم يكن تكرار تلك الألفاظ عبثا، وإنما جاء في كل آية بإشارات خاصة وإيحاءات دافعة، ومناسبات تختلف كل واحدة فيها عن الأخرى.

وهذا مثال للجوانب التي تحدث فيها القرآن الكريم عن الأرض، في بعض الآيات التي وردت في القرآن:"أخذت الأرض زخرفها"، "أشرقت بنور ربها"، "ألقت ما فيها وتخلت"، "أخرجت أثقالها"، "وضعها للأنام"، "ألقى رواسي أن تميد بكم"، "تصبح مخضرَّة"، "فجرها عيونا"، "رجت رجا"، "زلزلت الأرض زلزالها"، "وجعلها الله فراشا، وذلولا، وبساطا، وكفاتا، وقرارا، وخاشعة، ودحاها، وجعل فيها خزائن، وجنات"إلخ.. [1] .

ص: 117

وهكذا لو حاولنا تقصِّي المناسبات التي ذكرت فيها هذه الظواهر والأسرار التي ذكرها الله بشأنها، لَمَا وسعنا الزمن، وصدق الله العظيم:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} .

وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} . وإلى اللقاء.

من حكم أبي بكر الصديق رضي الله عنه

1-

صنائع المعروف تقي مصارع السوء.

2-

ليست مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة.

3-

ثلاث من كُنَّ فيه كُنَّ عليه: البغي، والنكث، والمكر.

4-

كثير الكلام ينسي بعضه بعضا، وإنما لك ما وُعِيَ عنك.

5-

أصلح نفسك يصلح لك الناس.

(جواهر الأدب)

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

راجع مجلة الدراسات الإسلامية المجلد الثاني - باكستان - إسلام آباد.

ص: 118

ملاحظات وتعقيبات

تعقيب على مقال:

التضامن الإسلامي بين التأييد والتنديد

للشيخ عبد الله القادري

المشرف الاجتماعي في الجامعة الإسلامية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. وبعد، فقد نشرت جريدة (نداء الجنوب) في العدد 129 مقالا بعنوان:(التضامن الإسلامي بين التأييد والتنديد) يحمل توقيع (عقيل) وهو مقال جيِّد يدل على غِيرة الأخ الكاتب على دينه وعلى امتعاضه من المبادئ والشعارات المعادية للإسلام. ولكن عبارة لفتت نظري واستغربت أن تكون من صاحب المقال، لأن وجهته إسلامية وكتابته ضد المبادئ الهدامة، والعبارة - حسب اعتقادي - فيها ما هو مخالف للإسلام صراحة، وفيها ما هو في حاجة إلى البيان والإيضاح، وأنا أنقل العبارة أولا بلفظها ثم أذكر بعد ذلك ما رأيت ابدأه نصحا لله ولرسوله وللكاتب والقائمين على إصدار الجريدة والقراء بصفة عامَّة.

قال الكاتب:

"وما كان الإسلام ولن يكون عدو القومية والوحدة والتحرُّر والإنسانية والاشتراكية".

قلت: إن بعض ما في هذه العبارة مخالف للإسلام صراحة، وبعضها الآخر يحتاج إلى إيضاح وتفصيل:

1-

أما ما يخالف الإسلام صراحة فهو كون الإسلام ليس عدوا للاشتراكية، فإن الاشتراكية - كما هو معروف - مقدمة الشيوعية. ولا أريد أن أطيل الكلام في هذا الموضوع فقد كفانا الكتَّاب المسلمون عناء ذلك، ومن سقط من المنتسبين إلى الإسلام من أهل العلم أو أدعيائه في هوة أعداء الإسلام وادعى أن نصوص الإسلام تؤيد الاشتراكية لا يخلو من أحد أمرين: فهو إما مخطئ في فهم نصوص الشريعة مع حسن نيته، وهذا الاحتمال أحسن الاحتمالين وأمر صاحبه إلى الله تعالى إذ هو الذي يعلم حسن نيته - دون غيره -.

ص: 119

وإما عبد مادة وجاه طلب منه أعداء الإسلام أن يؤيد فكرتهم بالتلاعب بنصوص الشريعة والاستدلال بها على صحة مبادئ أسيادهم الهدَّامة، وهذا أسوء الاحتمالين، وصاحبه يعتبر مشابها للمحرفين من أهل الكتاب الذين ينسبون أحكاما إلى الله وليس من عنده وهذا العمل يعتبر كفرا وردة يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا فجزاؤه معروف في باب الردة من كل كتاب من كتب الأحكام.

ومن الرسائل التي تعرضت للرد على أولئك العلماء بِقِسْمَيْهِمْ رسالة للشيخ عبد العزيز البدري وكتاب للشيخ محمد الحامد رحمهما الله وغيرهما كثير.

وعلى أي حال فالإسلام كيان مستقل بنفسه ليس في حاجة إلى الشيوعية الشرقية ولا إلى الرأسمالية الغربية.. بل فيه الغناء التام عقيدة وسلوكا وشريعة ونظاما. ولو طبَّق حكَّام الشعوب الإسلامية قوانين إسلامهم تطبيقا كاملا لأروا كلتا الكتلتين أن الإسلام وحده هو الكفيل بإيجاد الأمن والاستقرار والسعادة لكل أبناء الإنسان في كل أنحاء الأرض، ولكن أولئك الحكام - إلا من شاء الله - هم الذين شوَّهوا الإسلام في نظر أعدائه وأبنائه على السواء. والله المستعان.

2-

وأما ما يحتاج إلى تفصيل وإيضاح فكون الأمور الأربعة التالية لا يعاديها الإسلام:

الأول: القومية.

الثاني: الوحدة.

الثالث: التحرر.

الرابع: الإنسانية.

1-

القومية:

إن كان المراد بالقومية مناصرة بعض القوم بعضا في الحق دون الباطل، والتفاف بعضهم حول بعض من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل فنقول: إن هذه القومية - إن صحت تسميتها بذلك - قومية محمودة وعدل مطلوب، ولعل هذا هو السر في تعبير كثير من الأنبياء عندما ينادي جماعته بلفظ:((يا قوم)) .

ولكنها تصبح قومية مخالفة للإسلام عندما تتخذ رباطا يجمع بين أمَّة من الأمم تشترك في النسب أو اللغة أو الوطن ونحوها، وينصر بعضهم بعضا على حق أو باطل كما قال الشاعر الجاهلي القديم:

ص: 120

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وكما هو المتعارف عليه في هذا العصر بالنسبة لجميع القوميات، ومن ذلك: القومية العربية التي حاول المستعمرون أن يحلوها محل العقيدة الإسلامية التي تربط بين المسلمين في أنحاء المعمورة من أي جنس مهما كانت أنسابهم ومهما اختلفت أوطانهم ولغاتهم، ليصلوا بذلك إلى هدفهم الأصيل، وهو تفريق كلمة المسلمين وتشتيت جمعهم بتعدد القوميات لكل أمة منهم، لأن العرب عندما يدعون إلى القومية العربية ويفتخرون بها، ويتخلون عن الدعوة إلى الإسلام يفتحون بذلك بابا لانفصال المسلمين من غير العرب عنهم، لأن لكل أمة قومية تخصها، فإذا كانت قومية العرب هي العربية فقومية الأتراك هي التركية، وهي أحق بالأتراك من القومية العربية التي نادى بها المستعمرون أولا وطبقها أذنابهم في بلادنا ثانيا، حتى أصبح المسلمون في أنحاء العالم ينظرون إلى العرب كأمة منفصلة عنهم لا تربطهم بهم رابطة. وأرجو أن لا يفهم القارئ من هذا أنني لا أحبذ اجتماع كلمة العرب، كلا!! ولكني أريد منهم أن يكون اجتماعهم على رابطة عامة شريفة تربطهم بإخوانهم المسلمين كلهم وهي رابطة العقيدة الصحيحة. ولذا نرى دول الشعوب الإسلامية تسارع إلى حضور الاجتماعات الإسلامية وتؤيِّدها باسم الإسلام الذين يشتركون فيه جميعا..

أجل إن القومية التي لها هذه المعاني فهي ما أذهبه الله عن المسلمين من عيشة الجاهلية، من دعا إليها فقد دعا إلى ما أذهبه الله عن المسلمين من أسباب الفرقة والعداء. ولصاحب السماحة الوالد رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة قيمة في هذا الموضوع تسمى: نقد القومية على ضوء الإسلام والواقع، فمن شاء فليرجع إليها.

2-

الوحدة:

ص: 121

إن أريد بها اتحاد جميع المسلمين وتضامنهم حول عقيدتهم الإسلامية عربهم وعجمهم تحقيقا لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وذلك بأن يطبقوا تعاليم الإسلام في عقيدتهم وشريعتهم ونظامهم وسلوكهم لا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولا بعضهم يؤمن بالإسلام وبعضهم يؤمن بما يخالفه، فهذه وحدة نادى بها الإسلام قبل أربعة عشر قرنا، ويجب على المسلمين تحقيقها وهي الجماعة التي يد الله معها، وبها تقوى شوكتهم ويحصل التعاون التام بينهم الذي يضمن لهم نصرهم على عدوهم.

وإن أريد بها وحدة الدول خاصة ذات هدف واحد مشترك يخالف الإسلام كوحدة الثوريين والاشتراكيين فهذه في الحقيقة ليست وحدة وإنما هي فرقة، وواقعها يكفي دليلا على فشلها، وكل وحدة على غير الإسلام فمصيرها الفرقة، وهذه الوحدة المزعومة هي التي ينادي بها من نصَّبوا أنفسهم أعداء للوحدة الإسلامية الشاملة، وتسميتها وحدة بمنزلة تسمية الخمر عسلا.

3-

التحرر:

والتحرر أيضا قسمان - حسب مفهوم الناس -:

الأول: التحرر من عبادة العباد وشهوات النفس إلى عبادة الله وحده. فهذا التحرر هو الذي نادى به الإسلام يوم بزوغ شمسه، كما قال بعض المجاهدين لرئيس من رؤساء الدول الأجنبية عندما سأل الرئيس المجاهد قائلا: لماذا جئتم إلى بلادنا؟ فقال المجاهد: جئنا لنحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور السلطان إلى عدل الإسلام.

ص: 122

الثاني: ما يطلقه أكثر الناس الآن على التفلُّت الكامل بحيث يفعل الإنسان ما ترغب نفسه وتستطيبه شهوته، لا يلَّتفت إلى ما يحب الله ولا إلى ما يبغضه بل يبقى طليقا يفعل ما يشاء يزني ويشرب الخمر ويغني ويرقص، ويأكل المحرمات إلى ما لا نهاية. وهذا - وإن سماه الدعاة إليه تحررا - ليس بتحرر وإنما هو رق كامل لا لجهة واحدة وإنما لجهات متعددة: رق للشيطان ورق للنفس وشهواتها ورق لمن يملك من الناس تمكين الشخص من مراده وعدم تمكينه.

4-

الإنسانية:

وللإنسانية أيضا مفهومان:

الأول: صحيح وهو: أن يعتقد أن البشر كلهم بنو الإنسان الأول الذي هو آدم عليه السلام ليس لأحدهم فضل على الآخر إلا بتقوى الله كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ومعنى هذا أنهم يتساوون في الحقوق والواجبات والتصرفات، لا يفيد أحدا منهم أحدا، ولا يحرم أحد شيئا على أحد، كما لا يحل شخص لآخر من عند نفسه، وإنما يصدر التحليل والتحريم والتقييد من مصدر واحد هو خالق الناس كلهم، وإذا كان التفاضل بين الناس لا يحصل إلا بالتقوى فلا منافاة بين كونهم يستوون في الانتساب إلى الإنسانية. وكثير من الأمور التي يطول ذكرها، وبين كون الذي اختص بالتقوى يفضل من لم يصبه منها نصيب فلا غرو أن يكون المسلم هو الحاكم المنفذ لشريعة الله على المؤمن والكافر معاً، وأن يكون الكافر صاغراً دافعاً للجزية لقاء أمنه على نفسه وماله وعرضه بين المسلمين.

أما المفهوم الثاني للإنسانية فهو ما تعارف عليه الناس في هذه الأيام، وهو المساواة المطلقة بين الناس مسلمهم ونصرانيهم ويهوديهم ووثنيهم، ذكرهم وأنثاهم، فليس لمسلم أن يجاهد كافراً ليدخل في الإسلام أو يدفع الجزية وهو صاغر لأنهم كلهم إخوة في الإنسانية.

ص: 123

ولا فرق بين الرجل والمرأة في كل شيء، فلها الحرية الكاملة في الذهاب والإياب والاختلاط والخلوة بالرجل في المكتب والمصنع وغيرهما، وتساويه في الإرث وغيره، وهذه في الحقيقة ليست إنسانية لأنها وضع للأمور في غير مواضعها ومخالفتها لنصوص القرآن والسنة والحكمة واضحة كل الوضوح.

والإنسانية هي التي تضم الجميع في ظل عدالة سماوية وحكم إلهي يجعل لكل فرد أو جماعة ما تستحق، ويوجب عليها لغيرها ما يستحق، فإن المساواة المطلقة بين المسلم والكافر يعتبر معاكسة لجميع الأديان السماوية كما قال تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .

وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . بل فرق بين المسلمين أنفسهم ببعض الصفات فقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وجعل للمرأة نصف حظ الرجل في الإرث وجعله قوَّاماً عليها، لعلمه تعالى أنه أهل لذلك بخلافها، والواقع أكبر شاهد لذلك.

ولا أريد الإطالة كما قلت بل أردت التنبيه فقط، وأرجو أن يكون الأخ الكاتب أراد في كل ما ذكر المفهومات الصحيحة كما هو المظنون به، وأرجو أن يعلم أني لم أرد التشهير به وإنما قصدت النصح كما ذكرت أولا، وإذا كان للكاتب أو غيره ملاحظة على شيء مما ذكرت فإني أرحب بتنبيهي على خطأ يصدر مني إذ "كل بني آدم خطاؤن وخير الخطائين التوابون" وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه.

-2-

تعقيب على مقال: " ابن حزم "

للشيخ محمد المجذوب

سيادة الأخ المكرم محرر (نداء الجنوب) سلَّمه الله:

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

ص: 124

في العدد (168) من النداء العزيز قرأت مقالة الأستاذ " ابن حزم "(صفحات من التاريخ) وعلى الرغم من إعجابي بقلمه وأفكاره العالية وجدتني مضطرا لإبداء بعض النقاط التي ما يحسن السكوت عليها لمخالفتها للصحيح الثابت من أخبار غزوة أحد.

1-

يقول الكاتب المحترم عن الذعر الذي عمَّ المسلمين عقب الانتكاسة: "فألقى بعضهم السلاح وأخذوا يفكرون في الاتصال بحليف المشركين عبد الله بن أبي - رأس المنافقين بالمدينة - ليعرض استسلامهم على قائد جيش القرشيين ويأخذ لهم الأمان منهم ظنا منهم أن النبي القائد صلى الله عليه وسلم قد قُتِلَ وألا جدوى في المقاومة..وبينما هم حائرون يفكرون في الاستسلام إذ أقبل إليهم انس بن النضر.."وقد تكرر هذا المعنى في المقال عدة مرات كقوله: "..يعني الصحابة الذين ألقوا السلاح وفكروا في الاستسلام.."وقوله عن تضحية أنس رضي الله عنه بأنها كانت "بمثابة العاصفة التي اقتلعت روح الاستسلام من نفوس الصحابة الذين كانوا قد قرروا إلقاء السلاح والاستسلام للمشركين..".

ثم يقول: ".. فعدلوا عن فكرة الاستسلام وأخذوا أسلحتهم واندفعوا..".

2-

فها هنا توكيد مُلِحٌّ على أن هؤلاء الصحابة قد ألقوا السلاح وأنهم أزمعوا الاستسلام للمنافقين والمشركين لم يردهم عن ذلك إلا مشاهد التضحية التي حققها أنس وبعض الثابتين على العهد.

وهذا قول يعوِزه التحقيق الذي سرعان ما يكشف زيفه، حتى ولو نسبت روايته إلى بعض المشهورين الذين أشار إليهم الطبري وابن كثير رحمهما الله.

ص: 125

3-

وأول ما يعرض من الشك في ادعاء كهذا هو ما ينطوي عليه من اتهام لهؤلاء الصحابة برقة الدين حتى أنهم ليلقون سلاحهم، ويفكرون بإعطاء الدنية التي تقربهم بل تعرضهم للارتداد. لأن أهل النفاق والشرك لن يرضوا عنهم بأقل من العودة إلى وثنيتهم.. وهو تصور مستحيل في حقهم، ولا سيما بعد استقرار الإيمان في قلوبهم ومشاهدتهم الآيات، وعيشهم في غمار الوحي، والتأثر العميق بالتربية النبوية، وبخاصة أن بينهم بعض كبار الصحابة والمبشرين وحسبنا أن نذكر منهم عمر الفاروق رضي الله عنه الذي يقول فيه ابن مسعود:"ما زلنا أذلة حتى أسلم عمر..".

4-

إذا أعدنا النظر في هذه الرواية كما جاءت في تاريخ ابن كثير نلاحظ أنه عقب عليها بما يدحضها ويرذلها، وذلك قوله:"وهذا غريب جدا وفيه نكارة"ومرد تلك إلى أمرين: متن القصة الذي لا يتفق مع إيمان أولئك الصحابة الذين أسهموا في تثبيت صرح الإسلام وإعلاء رايته قبلا وبعدا، ثم إسناد القصة الذي فيه مجهولان، وهما شيخ ابن جرير وشيخ شيخه، وأسباط عن السدي، والأول مجروح بكثرة الخطأ والإغراب، والثاني منبوذ بالتشيع.. ورائحة التشيع أبرز شيء في هذه القصة.. هذا فضلا عن الانقطاع الذي لا يخطئه النظر، إذ تقف الرواية عند السدي، ثم لا ندري عمن رواها.. وكفى بهذا مفنداً ومكذباً.

ص: 126

5-

ولدى التدقيق في خبر أنس بن النضر كما ورد في رواية ابن إسحاق - بصيغة التحديث - وكما أخرجه البخاري من حديث أنس، وأحمد عن يزيد عن حميد عن أنس رضي الله عنه، لا تجد أية إشارة إلى فكرة الاستسلام أو إلقاء السلاح بل كل ما هنالك أنهم - كما جاء في رواية ابن إسحاق - ألقوا بأيديهم - لا بأسلحتهم - وذلك كناية عن الوهن والحيرة من هول ما أصابهم حين سمعوا الخبر عن مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرعان ما عادوا إلى القتال بما سمعوا من تذكير أنس، وبما علموا من حياة قائدهم الحبيب صلى الله عليه وسلم كما هو واضح من مختلف المصادر الصحيحة.

6-

والخلاصة أن لا سند من الصحة لخبر الاستسلام أو إلقاء السلاح، ولا يعقل أن يكون في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يفكر بمفاوضة أعداء الله، والتخلي عن دينه ليمكِّن للوثنية وأهلها.. إلا إذا سمحنا لعقولنا بأن لا تفرق بين ذلك الرعيل المصفى من أحابيش اليوم.

وبعد، فهذا ما رأيت التذكير به شاكراً للأستاذ ابن حزم وإخوانه جهادهم وغيرتهم، والله أسأل أن يوفقنا وإياهم إلى طاعته واقتفاء آثار أولئك الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، والحمد لله رب العالمين.

ص: 127

قدس القداسات

بقلم الأستاذ عبد السلام حافظ

يا قدس يا جرحنا الدامي وشكوانا

يا قدس يا ليلنا المملوء أحزانا

يا قدس.. ماذا دهانا فيك واشتعلت

عشرون عاما وأرض النور تلحانا

يا قدس.. طيبة والبيت الحرام علا

صوتاهما يسألان الرب تحنانا

ويبكيان القداسات التي هدرت

في أرض عيسى وأمست من منايانا

مسرى الرسول ومعراج العظيم بها

كيف التأسي وقد عادت لبلوانا!

مثارهم.. وإسرائيل تنهبها

وأهلها يعلقون الذل ألوانا!

مشردون بلا مال ولا وطن

شعب الخيام غدوا.. فالشعب قد هانا!

عاشت بقبلتنا الأولى شراذمة

واستهجنوا ورموا بالنار أقصانا

رماهم الله بالخسران من قدم

لا يعرفون لغير الشر ميدانا

هم اليهود أضروا الأنبياء وفي

كل العصور أذاقوا الناس عدوانا

يا قدس آتون للتحرير يلهبنا

شوق الصلاة جماعات ووحدانا

نطهر المسجد الأقصى ونرفعها

الله أكبر.. توحيدا وبنيانا

أجل سنأتي فبعد اليوم لا طلعت

شمس علينا إذا ما خاب مسعانا

تصميمنا وإرادات الحياة بنا

هي التحفز.. والأمجاد تلقانا

اليوم نعلنها لله في ثقة

حربا مقدسة.. والنصر نجوانا

فيا بني العرب أبطال أمتنا

هبوا إلى نصرة الإسلام أعوانا

هناك في المقدس الوضاء ملحمة

كبرى.. هي الشرق الباقي وذكرانا

فمن تهاون في حق يضيعه

والفوز بالعزم والإصرار قد كانا

* * *

وأسوة بالفدائيين فابتدروا

درب الكفاح وأعلوا السيف إعلانا

قلوبهم بين أيديهم مزغردة

للموت، إذ يبذلون الروح قربانا

الله أكبر ما عشنا نرددها

ص: 128

نحيا بظلاتها صحبا وإخوانا

على العدو أشدَّاء أشاوسة

لم يبق فينا سوى من بات يقظانا

يأبى الهوان ولا يرضى بمظلمة

يفدي فلسطينا بالأرواح إيمانا

قدس القداسات نحميها وننقذها

حي ـ الجهاد بكأس الفخر أسقانا

* * *

يا قدس.. يا شعلة التحرير موعدنا

آت قريبا ليزهو فيك مأوانا

نفجر الحقد والثأر القديم بمن

عاثوا بأوطاننا سرا وإعلانا

حتماً سيكبو بإسرائيل مطمعها

وتنتهي.. فيبيد الله شيطاناً

وتستعيد فلسطين الحياة بها

نورا وعلما وتاريخا وإنسانا

ونحمد الله.. فالإسلام خافقة

أعلامه تشهد الدنيا بتقوانا

يا قدس آتون للتحرير غايتنا

أبقى من العصر.. الرحمن يرعانا

ما دام فينا نضاليون مشعلهم

دين الهدى، يبذلون النفس.. برهانا

ص: 129

ذبح الحمام الأهلي في الحرم المكي

لفضيلة الشيخ محمد شفيع

نحمد الله ونصلي ونسلم على رسوله الكريم، أما بعد.

فقد ورد علينا سؤال من سكان مكة المكرمة سيما الذين يقطنون في الأحياء البعيدة عن المسجد الحرام كالجرول، وقوس النكاسة، والدهلة الوسطى سألوا عن ذبح الحمام الأهلي الذي يقتنيه الناس في بيوتهم هل يجوز ذبحه في حدود حرم مكة أم لا؟ وهل حكم الحمام الأهلي كدجاجة جاز ذبحها في الحرم لمحرم وحلال أم هو كالطيور التي ذبحها محظور على المحرم.. وعلى من كان في الحرم حلالا كان أو حراما.

إنا فتشنا عن ذلك في كتب المذاهب الأربعة فاتضح لنا أن الحمام عند أصحاب المذاهب الأربعة لا يكون إلا صيداً سواء كان أهلياً يقتنى في البيوت أو متوحشاً يطير ويخاف من الإنس كحمام المسجد الحرام أو غير ذلك مما يوجد في الصحراء، والآجام وكون بعض صنوفه أهلياً مستأنسا بالرجال لكونه مقتنى في البيوت لا يخرجه عن كونه صيداً.

ففي المغني من فقه الحنابلة صفحة 502 - ج3 "وكذلك وجب الجزاء في الحمام أهلية ووحشية اعتباراً بأصله" اهـ. هذا ما ذكره في جنايات الإحرام.

وقال في ذكر محظورات الحرم: "وما يحرم ويضمن في الإحرام يحرم ويضمن في الحرم وما لا فلا إلا شيئين، أحدهما القمل مختلف في قتله في الإحرام وهو مباح في الحرم بلا اختلاف. الثاني: صيد البحر مباح في الإحرام من غير خلاف، ولا يحل صيده من آبار الحرم وعيونه"اهـ. وهذا صريح في أن الحمام لا يجوز ذبحه وقتله في حدود حرم مكة المكرمة أهلياً أو وحشياً وليس له حكم الدجاجة في ذلك.

ص: 130

وفي المهذب - من فقه الشافعية -: "وإن كان الصيد طائراً نظرت فإن كان حماماً وهو الذي يغب ويهدر كالذي يقتنيه الناس في البيوت كالدبسي والقمري والفاختة فإنه يجب فيه شاة". صفحة 318 ج1، وفيه أيضا صفحة 318 ج1:"ويحرم صيد الحرم على الحلال والمحرم، وحكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء"اهـ، فإذا كان حكم الحرم والإحرام واحداً في حرمة الصيد وجزائه، وكل حمام أهلياً كان أو وحشياً صيد عند الشافعية كان ذبح الحمام الأهلي في الحرم حراماً عندهم وفي غنية الناسك صفحة (151) من كتب الحنفية المعتمد في المناسك ومسائل الحرمين "والصيد المملوك لو كان معلماً كالبازي والشاهين والصقر والطوطي والحمام، الذي يجيء من المواضع البعيدة.

وغير ذلك من الأصناف التي تتخذ للترفه يلزمه قيمته للجناية غير معلم وقيمته لمالكه معلماً بالغة ما بلغت إلا أن يكون للهو ولا تعتبر زيادة قيمته بسبب التعليم أو تفاخر الملوك لحق الشرع، وأما زيادتها لحسن ذات في الصيد فمعتبرة كالحمام المطوقة والمصوتة، والصيد الحسن المليح"اهـ. وهذا صريح في الجزاء على المحرم يقتل الحمام المعلم، والمعلم هو الأهلي الداجن الذي يقتنى في البيوت، فلما كان هذا حكم المحرم كان حكم الحرم كذلك لما صرح قاضي خان في فتاواه - وهو من أكابر الفقهاء الحنفية – "صيد الحرم لا يحل قتله ولا تنفيره إلا ما يباح منه للمحرم"اهـ.

ولقد قال ابن نجيم الحنفي المصري في البحر الواثق شرح كنز الدقائق صفحة 39 ج3: "الحمام متوحش بأصل الخلقة ممتنع بطيرانه وإن كان بطيء النهوض، والاستيناس عارض"اهـ، فالحمام صيد عند الحنفية - أيَّ حمام كان - لكونه متوحشاً في أصل الخلقة وفي المدونة - من فقه المالكية - "وكان مالك يكره للمحرم أن يذبح الحمام إذا أحرم الوحشي وغير الوحشي لأن أصل الحمام طير يطير".

ص: 131

قال عبد الرحمن بن قاسم: "قيل لمالك إنا عندنا حماما يقال له ((الردمية)) لا يطير وإنما يتخذ للفراخ"، قال:"لا يعجبني ذبحه لأنها تطير، ولا يعجبني أن يذبح المحرم شيئا مما يطير"، قال:"فقلنا لمالك فيذبح في المحرم الإوز، والدجاج"، قال:"لا بأس بذلك"، قلت لابن القاسم:"أليس الإوز طيراً يطير فما فرق بينه وبين الحمام"، قال مالك:"ليس أصله مما يطير، وكذلك الدجاج ليس أصله مما يطير"، قال: فقلت لمالك: "فما أدخل مكة من الحمام الإنسي، والوحشي أترى للحلال إن أدخل به من الحل فكذا الحمام في ذلك"اهـ.

وفي أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك تأليف محمد بن أحمد الدردير صفحة (53)"وليس الدجاج، والإوز بصيد بخلاف الحمام "اهـ.

ففي عبارة المدونة، وأقرب المسالك تصريح في أن الحمام صيد - أي حمام كان - فلا يجوز ذبح الحمام الأهلي، وغير الأهلي في الحرم عند المالكية أيضاً إلا أن مالكا - رحمة الله عليه - أجاز ذبح الحمام الذي أدخل في الحرم من خارج الحرم.

فالذي يعوَّل عليه، ويعتمد أن ذبح الحمام الأهلي المستأنس، والوحشي الذي يستأنس لا يجوز ذبحه في حدود حرم مكة في المذاهب الأربعة، إلا مالكاً - رحمة الله تعالى عليه - أجاز ذبح الحمام الذي أدخل في الحرم من خارج الحرم.

والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.

محمد شفيع

- عفى الله عنه -

ص: 132

التفكر في مخلوقات الله

للشيخ عبد الله بن صالح المحسن

المدرس بمعهد الجامعة

إن التفكر في مخلوقات الله ليفتح أبواباً مغلقة من نور البصيرة في العلوم والأفهام وتحرير الإنسان من الغفلة والجهل والعصيان وقد أثنى الله على المتفكرين في كتابه العزيز. قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} ، فعلى العبد أن ينظر في هذا الكون نظر تفكر وتدبر واعتبار ليزداد إيماناً ويقيناً. على أن كل ما في الوجود هو خلق الله وأن كل شيء خلق لحكمة قد تعلم أو لا تعلم أو يعلم بعض دون الآخر لأن في مخلوقات الله عجائب وغرائب لا تحيط بها العلوم والأفكار ولا تحصيها الأقلام.

قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} .

ص: 133

وأول شيء أذكره من هذا الموجز من عجائب بعض المخلوقات العظيمة هو نظر المرء إلى نفسه حيث أمره الله بذلك، قال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} وقال تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} وقال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وقال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على بيان مبدأ الإنسان ومنتهاه، ليتذكر أولو الألباب وليعلم كل إنسان أن ذكر النطفة وما ينتهي إليه ليس مجرد لفظ يسمع ويترك التفكر في معناه وما يترتب عليه من الثمرات والنتائج إنما هو مأمور بالنظر والتفكير والاعتبار حول هذه النطفة التي هي قطرة من ماء لو تركت ساعة من الوقت بعد خروجها لفسدت وأنتنت، فكيف خلقها الله وأخرجها ربُّ العزة والجلال من بين الصلب والترائب، وخلق الإنسان من بين ذلك، وكيف خلق الجنين منها وأمده بدم الحيض في الرحم ليكون له كالغذاء، والرحم كالوعاء ينمو ويكبر حتى حين خروجه..

ص: 134

ثم كيف نقلت هذه المضغة من حال إلى حال أخرى حتى تصورت إنسانا ونفخت فيه الروح متكاملا بعظام وأعصاب وعروق وأوتاد ولحم وتقاسيم عجيبة من رأس وسمع وبصر وأنف ويدين ورجلين وغير ذلك مما يعجز جميع البشر أن يخلقوا مثله، ثم بعد خروجه أنظر العجائب المركبة فيه من الإحساس وتحرك مفاصل العظام التي هي ثلاثة وستون مفصلا والعضلات التي تزيد على خمسمائة عضلة، وقد جعل لكل عضلة وعضو عملا يخصه، وانظر مع كثرة بني آدم لا يماثل واحد آخر فلا بد من مميز بينهما، وانظر معتبراً كل ذلك مما يتذكر به أولو الألباب إن هذا الخلق لهم ربٌّ واحد خلقهم أول مرة وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وإليه يرجعون فإذا عرفت أيها العبد هذه العجائب وغيرها في نفسك فتفكر في الأرض التي هي مقرك وما فيها من أنهار وبحار وجبال وأشجار ومعادن وغير ذلك، وجعلها الله لنا ذلولاً نسعى في مناكبها ونأكل من رزقه وجعلها لنا كفاتاً أحياء وأمواتاً، وانظر كيف تخرج لنا من النباتات والأشجار التي فيها معاشنا، وانظر إلى الحيوانات التي خلق أكثرها لمنافعنا كيف تنوعها وأشكالها وما فيها من العجائب التي لا نشك أن لها خالقاً عظيماً هو الله سبحانه وتعالى، وانظر إلى الهواء اللطيف الذي يدرك بالحس ولا يرى بالعين قد جعل لحايتنا ومنافعنا، وانظر إلى عجائب الجوِّ وما يطرأ عليه من الغيوم والرعد والبرق ونزول الأمطار والشهب والصواعق

ص: 135

كل ذلك لمنافع وحكم وأسرار لا يعلما إلا الله، وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} وانظر كيف عظَّم الله أمر السماوات والنجوم في كتابه العزيز، فما من سورة إلا وهي مشتملة على ذكرها وتعظيمها، وكم قسم في القرآن بها ومن ذلك قوله تعالى:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} ، {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} ، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} ، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} . {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} ، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ، {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} إلى غير ذلك مما ورد في القرآن العزيز، فإذا علمت أن عجائب النطفة التي خلقت منها لم يستطع أحد الإحاطة بمعرفة حقيقتها فكيف بشيء أقسم به رب العزة والجلال أن يحيط بعلمه أحد من خلقه.. وأمر عباده بالتفكر في خلق السماوات والأرض مما يدل على أن السماوات والأرض والكواكب فيها عجائب وأمور وشئون عظيمة لا نعلمها، وقد نعلم منها في المستقبل ما لا نعلمه الآن، وهل تظن أن النظر والتفكر مجرد نظر إلى زرقة السماء وضوء الكواكب أو النظر إلى الأرض مجرد نظر إلى سطحها؟

ص: 136

كلا لقد كانت البهائم تشارك بني آدم في ذلك إنما على الإنسان النظر إلى ذلك كله بتفكر واعتبار أولاً وبفعل الأسباب المؤدية إلى بعض العلوم التي لا نعلمها لنعلمها ونستفيد منها. وقد أخبرنا الله أنه يعلِّمنا ما لم نعلم، قال تعالى:{عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وإننا متفاوتون في العلم فنسأل عما جهلناه قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فأدر أيها العاقل فكرك في آيات الله في تلك الكواكب في دورانها وطلوعها وغروبها مستمرة مع اختلاف ألوانها وصفاتها وحركاتها، ومرتبة بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص مع عظم حجمها وصغر مرآها لبعدها عنا، فهي باقية على هذا الترتيب والنظام العجيب إلى أن يطويها الله سبحانه كطي السجل للكتب.

وأعظم من ذلك أن النجوم والسماء قد أمسكت من دون عمد نراها ولا معلقة بشيء يمسكها مع ما فيها من عظيم صنع الله وكل العالم لهم السماء كالسقف الواحد، وإن الأرض كروية وكلها في مرأى الأعين كأنها مبسوطة لعظمها وسعتها، وفيها من جنود الله الذين لا يحصيهم إلا هو، وما يعلم جنود ربك إلا هو، مع ذلك كله وغيره يقول الله عز وجل:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} فسبحان الله رب العالمين رب العرش العظيم.

ص: 137

وقصارى القول: إن التفكير السليم هو السُّلم إلى السعادة في الدنيا والآخرة وإن علم الله لا يحيط به أحد من خلقه وإنه لمن أجهل الجهل وأخطر الخطر أن يقول الإنسان في مخلوقات الله التي لا يعلمها إذا أخبر عنها بغير علم فيسارع إلى إنكارها لكونها خرجت عن محيط إدراكه وفهمه القاصر السيئ، لأنه لم يستدل على ما لا يعلمه بما يعلمه على أن الله على كل شيء قدير وإن كل ما يتوصل إليه من العلم فهو لا يخرج عن خلق الله وقدرته العظيمة الشأن، وإنما على المرء أن لا يتسرع إلى هذا القول الأحمق والاعتقاد الفاسد حتى يتيقن عدم ما أنبئ به أو يتحقق ثبوته، فيزداد العاقل إيماناً بربه وأنه خلق ويخلق ما لا نعلم ويعلم الإنسان ما لم يعلم.

هذا وكل ما ذكرته ما هو إلا نبذة من العلوم والتفكير في مخلوقات الله، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 138

مع الصحافة

مع الإسلام ولكن؟

نقلا عن مجلة البعث الإسلامي

نشرت مجلة البحث الإسلامي في عددها الأول من المجلد الخامس عشر الصادر في جمادى الآخرة عام 1390هـ مقالا بعنوان:

مع الإسلام ولكن..؟

نحن كلنا مع الإسلام، ما في ذلك شك، مع الإسلام في الهند، وباكستان، ومصر، وسوريا، والحجاز، والكويت، وفي كل بلد إسلامي وفي كل جهة إسلامية.

نحن مع الإسلام دائما، وبصفة عامة، والحمد لله على هذه النعمة العظيمة الباقية إن شاء الله.

ولكن..؟

إن (لكن) هو الفارق الوحيد الأساسي بين إسلام وإسلام، وبين إسلام لا يرى عليه ضررا من أي حركة سياسية، ولو خالفت أهم قواعده، وأولى مقوماته، وينسجم مع سائر الأوضاع والملابسات ولو عارضته من أول طريق، وبداية الخط.

بين إسلامٍ (مضمونٍ) عقد عليه في شركات التأمين، فلا تفسده خيانة، ولا يفسده نفاق، ولا يضره استهتار، ولا ينال منه إسراف، ولا تكدِّر بحره الزاخر فجور ثقافية، وخلافة أدبية وفضيحة فنية، وعري علني، وكفر منطقي، وإنكار قومي، وشذوذ سياسي، لأنه إسلام مضمون مسجل، وعد بسلامته ومتانته جودته، كبار تلاميذ الغرب ووكلائه الموزعين في الشرق.

إنه إسلام يسمى فيه المولود مسلما بحكم القانون والوراثة، ويبقى مسلما ليتمتع به بما شاء من منافع مادية وأدبية، ولا يحتاج إلى تجديد في إيمانه لأنه ولد من أبويين مسلمين وكفى.

إنه إسلام جامد، واقف، لا ينقص ولا يزيد، ولا يتحرك، ورحم الله البخاري فقد عقد بابا تحت هذا العنوان (الإيمان يزيد وينقص) وهو لا يعلم أن في بلده وفي البلاد الإسلامية العريقة قوما لا تضرهم اشتراكية ماركس الملحدة، وكفر لينين البواح، ولا ينقص إيمانهم بشيء من هذه الأشياء.

ص: 139

إنه إسلام سلبي، لا يتدخل في المجتمع والحياة، بل يترك الحبل على غاربه، ويدع جيله تحت رحمة الموجبات المادية الطاغية والأفكار السامة والأدب المائع، فيترك المجتمع فريسة سهلة ولقمة سائغة أمام ذئاب الإنسانية ووحوش الحضارة، وقراصنة السياسة، ولصوص الدين والأدب، ويظن أنه سينجو بنفسه ويقول كما قال ولد سيدنا نوح عليه السلام {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} ثم لم يلبث أن يجرفه التيار المارد العنيف، وتسوقه هذه ((السلبية البريئة)) إلى كل ما عافه قديما واستنكفه، ومقته، ومجه {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .

إن هذا الإسلام يعيش جنبا إلى جنب مع كل كاتب يبيع الهوى وينشر المنكر ويروج بضاعة الفحشاء مع كل أديب يحسن الكتابة، ويجيد الوصف ولو تطاول على ذات الله عز وجل، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستمع بكل أناة وصبر وشرح صدر إلى كل حوار لبق وكلام شيق، وحديث حلو، ولو كان حالقاً للدين، ماحقا للإيمان، هادما للأخلاق، وينظر إلى كل صورة على الشاشة ولو ذهبت بالحزم والحلم، واللب والعقل، وأطارت الرشد والصواب.

هذا الإسلام يمشي مع سائر التقلبات والموضات الفكرية والمذاهب الاجتماعية والسياسية، والحركات التقدمية الثورية، في الهند الصينية أو أمريكا اللاتينية، ومع كل فريق من المغنين والمصورين والهائمين والحالمين والشذاذ الأفاقين، لأن ((تمشي)) هذه ((الكلمة السحرية)) تضع في يد هؤلاء القوم ((ورقة مرور)) يتعدون بها كل حد، ويحطمون بها كل سياج، ويهيمون بها في كل واد وناد.

إنه إسلام ((السالمين)) لا المسلمين، في تعبير أصح وأفصح، لأنه يسالم جمع الألوان والأنواع الحضارية الموجودة في العالم المعاصر، ويتبع كل سبيل غير سبيل الرشد.

ص: 140

إن هذا الإسلام لا ينقص بالتهاون في حقوق الله، والاستهانة بشعائر الدين، فإذا وقع عنده صدام بين عبادات وأعمال سياسية واجتماعية طغت الأعمال السياسية على العبادات والصلوات، ولذة التقريب والمناجاة، وإذا حدث له شيء أو شغله أمر من تحرير في صحيفة أو خطاب في حفل أو قيادة لموكب أو رفع لاحتجاج أو قضية في برلمان أو حديث في مأدبة ومسامرة في عشاء أو نزهة في حديقة، وحتى فنجان شاي بين الأصدقاء نسي ما عليه من حق الله، وهو في الأشغال والنشاطات، وفي المشكلات والأزمات أولى بالطاعات وأحق بالدعاء والتضرع والمناجاة، وأحوج إلى العبادة والعبودية، دون الأوضاع الهادئة والظروف العادية، فلا اعتبار بطاعة لم تصطدم بما يهواه الطبع، وعبادة لم تشق على النفس، إنها درجات في إسلام ولكنه على كل حال إسلام المسالمين، أما إسلام المسلمين فهو لا يقبل ((على ما يرام)) ولا يؤمن بمبدأ ((الدين للديان والوطن للجميع)) ولا يجمع بين الخطب الدينية في المحافل، والترفيه بالبرامج العارية الراقصة، الفاسدة المفسدة بعد صلاة العشاء بين أولاده وأفلاذ أكباده.

إنه لا يؤمن بالجمع بين حضارة الغرب وعقيدة الإسلام، والزي الإسلامي والحياة الأوربية، والجمع بين لغة الحديث والقرآن وأفكار لينين وسارتر وماوتسي تونغ.

إنه لا يؤمن بالجمع بين عبد الباسط وأم كلثوم، والجمع بين المصاحف المرتلة والموسوعات الفقهية، وأغاني صباح، وفيروز وشادية، أو الجمع بين ((المجتمع)) و ((البلاغ)) و ((البعث الإسلامي)) وبين روز اليوسف و ((الموعد)) و ((الطليعة)) .

ص: 141

إنها صورة جزئية، وصور بسيطة وأمور ليست بذات أهمية عند البعض، ولكنها تصور ذلك الإسلام الذي أشرنا إليه كل التصوير، إسلام من ((ماركة ممتاز)) لا يؤثر فيه شيء، ولا يعتريه البلى والوهن، ولا ينقص بنقصان شرع ودين ومسالمة واستسلام أو انسياق مع تيارات المادة والمعدة، واتجاهات الغرب والشرق واليمين واليسار.

نحن مع الإسلام في كل مكان، ما في ذلك من شك، ولكن مع الإسلام المستقل الأصيل، لا الإسلام التابع، الفرعي، المتطفل.

نحن مع الإسلام القائد، السائد، المعلم، الموجه، لا الإسلام الذي يتلقى الأوامر والتعليمات من ((الباب العالي)) في موسكو، و ((البيت الأبيض)) في واشنطن.

مع إسلام لا ينكر العلم والسياسة، بل إن العلم والسياسة فيه عبادة، ولا يهمل الطاعة والعبادة فهي مفزع المؤمن ومأمنه، وحصنه ومعقله، وأكبر همه وغاية مناه.

مع إسلام مناضل مكافح متصل الحلقات بجميع أجزائه، وثيق العرى بجميع حركاته وتنظيماته، عميق الحب بجميع أبنائه، كثير الاعتراف بالفضل عظيم التقدير لذوي الكفاية والإخلاص، كثير الشكر على المساهمة والتعاون.

هذا الإسلام العميق الواسع، المشرق النير، الكامل الشامل، الأصيل المستقل، المكافح المناضل.

الإسلام الذي يتكلم ولو كره الصليبيون الجدد الحمر والبيض والصفر، ويرفع صوته لتنظيم المجتمع والحكم، والأسرة والعائلة، على أسس نقية واضحة من السيرة الطاهرة والشريعة الخالدة والكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

هذا الإسلام هو العنصر الأقوى في معركتنا الكبرى، وردنا الحاسم على هواة الفساد ودعاة الانحلال والمتآمرين على سلامة البلاد، ونعمة الأمن والهناء، باسم الحرية والعلم والتقدمية، والاشتراكية والثورية.

نعم، نحن مع الإسلام ولكن؟؟

محمد الحسني

ص: 142

يستفتونك

يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

رئيس الجامعة الإسلامية

ورد سؤال من الشيخ منظور أحمد رئيس الجامعة العربية (جنيوت الباكستان الغربية) وهذا نص السؤال:

ما قول السادة العلماء الكرام في حياة سيدنا عيسى عليه السلام ورفعه إلى السماء بجسده العنصري الشريف ثم نزوله من السماء إلى الأرض قرب يوم القيامة وأن ذلك النزول من أشراط الساعة وما حكم من أنكر نزوله قرب يوم القيامة، وادعى أنه صلب ولكنه لم يمت بذلك بل هاجر إلى كشمير (الهند) وعاش فيها طويلا ومات فيها بموت طبعي وأنه لا ينزل قبل الساعة بل يأتي مثيله. أفتونا مأجورين؟

والجواب:

وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله، قد تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أن عيسى بن مريم عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد رفع إلى السماء بجسده الشريف وروحه وأنه لم يمت ولم يقتل ولم يصلب وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام وثبت أن ذلك النزول من أشراط الساعة. وقد أجمع علماء الإسلام الذين يعتد بأقوالهم على ما ذكرناه وإنما اختلفوا في التوفي المذكور في قول الله عز وجل:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} على أقوال:

أحدها:

إن المراد بذلك وفاة الموت لأنه الظاهر من الآية بالنسبة إلى من لم يتأمل بقية الأدلة ولأن ذلك قد تكرر في القرآن الكريم بهذا المعنى مثل قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} وفي آيات أخرى قد ذكر فيها التوفي بمعنى الموت، وعلى هذا المعنى يكون في الآية تقديم وتأخير.

ص: 143

والقول الثاني: معناه القبض نقل ذلك أبن جرير في تفسيره عن جماعة من السلف واختاره ورجحه على ما سواه وعليه فيكون معنى الآية: إني قابضك من عالم الأرض إلى عالم السماء وأنت حيّ ورافعك إليّ. ومن هذا المعنى قول العرب: "توفيت مالي من فلان"أي قبضته كله وافيا.

والقول الثالث: أن المراد بذلك: وفاة النوم؛ لأن النوم يسمى وفاة، وقد دلت الأدلة على عدم موته عليه السلام فوجب حمل الآية على وفاة النوم جمعاً بين الأدلة كقوله سبحانه وتعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} ، وقوله عز وجل:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} . والقولان الأخيران أرجح من القول الأول، وبكل حال فالحق الذي دلت عليه الأدلة البينة وتظافرت عليه البراهين أنه عليه الصلاة والسلام رفع إلى السماء حيا وأنه لم يمت بل لم يزل عليه السلام حيا في السماء إلى أن ينزل في آخر الزمان ويقوم بأداء المهمة التي أسندت إليه المبينة في الأحاديث الصحيحة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يموت بعد ذلك الموتة التي كتبها الله عليه ومن هنا يعلم أن تفسير التوفي بالموت قول ضعيف مرجوح وعلى فرض صحته فالمراد بذلك التوفي الذي يكون بعد نزوله في آخر الزمان فيكون ذكره في الآية قبل الرفع من باب المقدم ومعناه التأخير لأن الواو لا تقتضي الترتيب كما نبه عليه أهل العلم والله الموفق. وأما من زعم أنه قد قتل أو صلب فصريح القرآن يرد قوله ويبطله. وهكذا قول من قال إنه لم يرفع إلى السماء وإنما هاجر إلى كشمير وعاش فيها طويلا ومات فيها بموت طبيعي وأنه لا ينزل قبل الساعة وإنما يأتي مثيله فقوله ظاهر البطلان بل هو من أعظم الفرية على الله تعالى والكذب عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 144

وهكذا قول من قال إنه أتى وأدى المهمة كالقادياني فقوله من أوضح الكذب فإن المسيح عليه السلام لم يزل في السماء ولم يزل إلى وقتنا هذا وسوف ينزل في مستقبل الزمان كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومما تقدم يعلم السائل وغيره أن من قال إن المسيح قتل أو صلب أو قال إنه هاجر إلى كشمير ومات بها موتا طبيعيا ولم يرفع إلى السماء أو قال إنه قد أتى أو سيأتي مثيله وإنه ليس هناك مسيح ينزل من السماء فقد أعظم على الله الفرية بل هو مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومن كذب الله ورسوله فقد كفر والواجب أن يستتاب من قال مثل هذه الأقوال وأن توضح له الأدلة من الكتاب والسنة فإن تاب ورجع إلى الحق وإلا قتل كافرا.

والأدلة على ذلك كثيرة معلومة منها قوله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام في سورة النساء {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} . ومنها ما توافرت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان حَكَماً مقسطاً فيقتل مسيح الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، وهي أحاديث متواترة مقطوع بصحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أجمع علماء الإسلام على تلاقيها بالقبول والإيمان بما دلت عليه وذكروا ذلك في كتب العقائد.

ص: 145

فمن أنكرها متعلقاً بأنها أخبار آحاد لا تفيد القطع وتأوَّلها على أن المراد بذلك تمسك الناس في آخر الزمان بأخلاق المسيح عليه السلام من الرحمة والعطف وأخذ الناس بروح الشريعة ومقاصدها ولبابها لا بظواهرها فقوله ظاهر البطلان مخالف لما عليه أئمة الإسلام بل هو صريح في رد النصوص الثابتة المتواترة وجناية على الشريعة الغراء وجرأة شنيعة على الإسلام وأخبار المعصوم عليه الصلاة والسلام وتحكيم للظن والهوى وخروج عن جادة الحق والهدى لا يقدم عليه من له قدم راسخة في علم الشريعة وإيمان صادق بمن جاء بها وتعظيم لأحكامها ونصوصها والقول بأن أحاديث المسيح أخبار آحاد لا تفيد القطع قول ظاهر الفساد لأنها أحاديث كثيرة مخرجة في الصحاح والسنن والمسانيد متنوعة الأسانيد والطرق متعددة المخارج قد توفرت فيها شروط التواتر فكيف يجوز لمن له أدنى بصيرة في الشريعة أن يقول باطّراحها وعدم الاعتماد عليها ولو سلمنا أنها أخبار آحاد فليس كل أخبار الآحاد لا يفيد القطع بل الصحيح الذي عليه أهل التحقيق من أهل العلم أن أخبار الآحاد إذا تعددت طرقها واستقامت أسانيدها وسلمت من المعارض المقاوم تفيد القطع والأحاديث في هذا الباب بهذا المعنى فإنها أحاديث مقطوع بصحتها متعددة الطرق والمخارج ليس في الباب ما يعارضها فهي مفيدة للقطع سواء قلنا أنها أخبار آحاد أو متواترة وبذلك يعلم السائل وغيره بطلان هذه الشبهة وانحراف قائلها عن جادة الحق والصواب وأشنع من ذلك وأعظم في البطلان والجرأة على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم قول من تأولها على غير ما دلت عليه فإنه قد جمع بين تكذيب النصوص وإبطالها وعدم الإيمان بما دلت عليه من نزول عيسى عليه السلام وحكمه بين الناس بالقسط وقتله الدجال وغير ذلك مما جاء في الأحاديث وبين نسبته الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أنصح الناس وأعلمهم بشريعة الله إلى التمويه والتلبيس وإرادة غير ما يظهر من

ص: 146

كلامه وتدل عليه ألفاظه وهذا غاية في الكذب والافتراء والغش للأمة الذي يجب أن يتنزه عنه مقام الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا القول يشبه قول الملاحدة الذين نسبوا الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى التخييل والتلبيس لمصلحة الجمهور وأنهم ما أرادوا مما قالوه الحقيقة وقد رد عليهم أهل العلم والإيمان وأبطلوا مقالتهم بواضح الحجة وساطع البرهان. فنعوذ بالله من زيغ القلوب والتباس الأمور ومضلات الفتن ونزغات الشيطان، ونسأله عز وجل أن يعصمنا والمسلمين من طاعة الهوى والشيطان إنه على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله ونرجو أن يكون فيما ذكرناه مقنع للسائل وإيضاح للحق.

ورد سؤال من بعض الإخوة بمدينة (كتان كدى) الواقعة بجنوب سيلان يذكرون فيه أن سكان هذه المدينة البالغ عددهم (20000) نسمة قد حدث بينهم خلاف حول جواز ترجمة خطبة الجمعة والعيدين بلغتهم الوطنية ورغبتهم في إبانة الصواب في هذه المسألة حسب ما تقتضيه قواعد الشرع المطهر والمصلحة العامة للمخاطبين بالخطبة؟

الجواب:

قد تنازع العلماء رحمة الله عليهم في جواز ترجمة الخطب المنبرية في يوم الجمعة والعيدين باللغات الأعجمية فمنع ذلك جمع من أهل العلم رغبة منهم رضي الله عنهم في بقاء اللغة العربية والمحافظة عليها والسير على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في إلقاء الخطب باللغة العربية في بلاد العجم وغيرها وتشجيعاً للناس على تعلم اللغة العربية والعناية بها.

ص: 147

وذهب آخرون من أهل العم إلى جواز ترجمة الخطب باللغة الأعجمية إذا كان المخاطبون أو أكثرهم لا يعرفون اللغة العربية نظراً للمعنى الذي من أجله شرع الله الخطبة وهو تفهيم الناس ما شرعه الله لهم من الأحكام وما نهاهم عنه من المعاصي والآثام وإرشادهم إلى الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة وتحذيرهم من خلافها. ولا شك أن مراعاة المعاني والمقاصد أولى وأوجب من مراعاة الألفاظ والرسوم ولا سيما إذا كان المخاطبون لا يهتمون باللغة العربية ولا يؤثر فيهم خطبة الخطيب بها تسابقا إلى تعلمها وحرصا عليها. فالمقصود حينئذ لم يحصل والمطلوب بالبقاء على اللغة العربية لم يتحقق. وبذلك يظهر للمتأمل أن القول بجواز ترجمة الخطب باللغات السائدة بين المخاطبين التي يعقلون بها الكلام ويفهمون بها المراد أولى وأحق بالاتباع ولا سيما إذا كان عدم الترجمة يفضي إلى النزاع والخصام، فلا شك أن الترجمة والحالة هذه متعينة لحصول المصلحة بها وزوال المفسدة. وإذا كان في المخاطبين من يعرف اللغة العربية فالمشروع للخطيب أن يجمع بين اللغتين فيخطب باللغة العربية ثم يعيدها باللغة الأخرى التي يفهمها الآخرون، وبذلك يجمع بين اللغتين، وبذلك يجمع بين المصلحتين وتنتفي المضرة كلها وينقطع النزاع بين المخاطبين.

ص: 148

ويدل على ذلك من الشرع المطهر أدلة كثيرة منها ما تقدم وهو أن المقصود من الخطبة نفع المخاطبين وتذكيرهم بحق الله ودعوتهم إليه وتحذيرهم مما نهى الله عنه ولا يحصل ذلك إلا بلغتهم ومنها أن الله سبحانه إنما أرسل الرسل عليهم السلام بألسنة قومهم ليفهموهم مراد الله سبحانه بلغاتهم كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وقال عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وكيف يمكن إخراجهم به من الظلمات إلى النور وهم لا يعرفون معناه ولا يفهمون مراد الله منه. فعلم أنه لا بد من ترجمة تبين المراد وتوضح لهم حق الله سبحانه إذا لم يتيسر لهم تعلم لغته والعناية بها. ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود ليكاتبهم بها ويقيم عليهم الحجة، كما يقرأ كتبهم إذا وردت ويوضح للنبي صلى الله عليه وسلم مرادهم. ومن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لما غزوا بلاد العجم من فارس والروم لم يقاتلوهم حتى دعوهم إلى الإسلام بواسطة المترجمين. ولما فتحوا البلاد الأعجمية دعوا الناس إلى الله سبحانه باللغة العربية وأمروا الناس بتعلمها ومن جهلها منهم دعوه بلغته وأفهموه المراد باللغة التي يفهمها فقامت بذلك الحجة وانقطعت المعذرة. ولا شك أن هذا السبيل لا بد منه ولا سيما في آخر الزمان وعند غربة الإسلام وتمسك كل قبيل بلغته. فإن الحاجة للترجمة ضرورية ولا يتم للداعي دعوة إلا بذلك. وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

رئيس الجامعة الإسلامية

نصيحة

(من رسالة لإمام علي كرم الله وجهه)

ص: 149

دع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وامسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبيرن؟ أو تطمع وأنت متمرغ في نعيم تمنعه الضعيف والأرملة، أن يوجب لك ثواب المتصدقين؟ وإنما المرء مجزي بما أسلف وقادم علة ما قدم، والسلام.

(جواهر الأدب)

ص: 150

ندوة الطلبة

الحركة الإسلامية في الهند

بقلم الطالب: عبد الرحمن تروائي المليباري

الإسلام دين إلهي ومنهج رباني يشمل جميع جوانب الحياة البشرية وليس مجرد تصور أو عقيدة أو طريق منعزل عن واقع حياة الأمة. وليس الإسلام مجرد اسم لعلاقة سرية بين العبد وربه وليس الإسلام مجرد نظام خاص وجد لإنهاء بعض الخصومات القبلية التي وجدت في فترة من الفترات كما يريد أن يظهره خصومه، ولكن الإسلام عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وجهاد ودولة، وهو الدين الوحيد الضامن لحامله السعادة في العاجلة والآجلة مهما تغيرت الأزمان وتطورت الآراء أما مسؤولية إقامة هذا الدين الحنيف على الوجه الأكمل فإنها ملقاة على كواهل هذه الأمة بعد وفاة رسولها وقائدها محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الذين تحملوا أعباء هذه المسؤولية بعده قد أدوا دورهم وأقاموا الخلافة الإسلامية الراشدة على أتم صورة، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بسنوات قلائل أزيلت وحطمت الإمبراطوريتان العظيمتان الرومية والفارسية المحيطتان بالجزيرة العربية الإسلامية من الوجود، فأصبحوا سادة العالم وقادة البشر أكثر من ألف سنة، وحطموا خلالها الصليبين وقضوا على التتار، وغزو شرق أوربا وجنوبها وغربها، وأقاموا فيها حكم الله عز وجل مئات السنين، حتى أن الخليفة العباسي هارون الرشيد رضي الله عنه يقول للسحابة:"أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك ".

ص: 151

ولا يعتبر الإنسان مسلما حقيقيا حتى يحكم الإسلام في شؤونه كلها دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها عظيمها وحقيرها وهذا مصداق قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} المائدة:49، {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} النساء:105، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} المائدة:45، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} المائدة:47، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} النساء:65.

وإن هذه الآيات القرآنية لتضع الإنسان أمام طريقين لا ثالث لهما أحدهما الاستجابة لله وللرسول واتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني اتباع الهوى والشيطان وهذا صريح قوله:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} القصص:50.

ص: 152

فهذه مصر الإسلامية في سنة 1884م تخلت عن الشريعة الإسلامية وصبغت نظامها طبقا للقوانين الفرنسية، وهكذا فعلت الدولة التركية، والألبانية المسلمة أزاحت القوانين الإسلامية حتى قانون الأحوال الشخصية الإسلامية وجعلت نظام إيطاليا وسويسرا نظاما لها. وتاريخ الإسلام في الهند ليس ببعيد عنا، فقد ضلت الدولة الإسلامية فيها مستمرة مدة ثمانية قرون إلى زمن الاستعمار البريطاني، ومنذ أن وطئت أقدام المستعمر أرضها بدؤوا يبطلون الشريعة الإسلامية القائمة آنذاك شيئا فشيئا، فكنا نحن المسلمين في الهند نرزح تحت نير الاستعمار المجرم ووطأته وضغطه مدة 190 عاما ثم أخذت الهند استقلالها بعد ذلك، ولكن لم تنتهي محاولة محو الإسلام من نفوس أتباعه، فما زالت تقوم محاولات سرية لإزالة ما بقي من شعائر الدين على يد الحكومة الحالية التي ركزها الاستعمار عندما خرج من الهند، فكأن الهند لم تأخذ استقلالها بعد.

وهذه الحالة المؤلمة ما ألمت بالمسلمين على نتيجة لتخليهم عن الشريعة الإسلامية وتحولهم عنها وإعراضهم عن القرآن الكريم وفهمهم الخاطئ للإسلام، حيث فصلوا بين الدين والدولة، فاصبح الدين عبارة عن مفهوم ضيق لا هيمنة له على واقع حياة الأمة، وأصبح المسلمون عبيدا وأذلاء في وجه الأعداء، ومن الواضح جدا أن المسلمين إذا طبَّقوا القرآن تطبيقا كاملا في جميع مرافق حياتهم فلن يقدر أي عدو محليا كان أو خارجيا أن يتغلب عليهم، ومنذ أن حدث هذا الفصام النكد بين الدين والدولة أصبح المسلمون قطيعا من الغنم في وجه الأسود المفترسة تكالبت عليهم الأمم من كل جانب، ولعل هذا ما قصد إليه الوزير الإنجليزي جلادستون حين وقف في مجلس العموم قبل سنين كثيرة يقول:" إن قدم الإمبراطورية الإنجليزية لن ترسخ في بلاد الإسلام ما دام القرآن موجودا ".

ص: 153

والقرن الرابع عشر طلع علينا بامتيازات غير معروفة من قبل من البلايا والرزايا والنكبات والنكسات التي تبلبل العقول وتهز الاتجاهات الإنسانية، ومن أكبرها خطرا استيراد الحضارة الغربية القتالة التي أثرت في حياة الأمة الإسلامية أيما تأثير، فصرفت الشباب المؤمن عن الجادة الصحيحة المستقيمة، فانطفأ النور وعم الظلام وكثر الناعقون خلال هذا الظلام الدامس، فقسمت الناس إلى معسكرين بارزين شرقي وغربي، بعدما قسمهم الإسلام إلى معسكرين الإيمان والكفر أو الهداية والظلال، وإن هؤلاء الناعقين الغاشمين لبسوا كل ثوب حتى يصلوا إلى مهمتهم، فكان منهم المستشرقون الذين عُنُوا بدراسة العلوم الشرقية والمعارف الإسلامية للكيد للإسلام، والدس والافتراء عليه وعلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، راغبين في إلباس الإسلام أثوابا مستوردة مشوهة، وكان منهم الكتاب في الداخل الذين اشتراهم المبشرون والاستعمار بثمن بخس يستخدمونهم في مهاجمة الدين لفصل الدين عن الدولة، مقلدين حملة الاستشراق البشع تقليد الأعمى، ولاشك أن الاستشراق متولد من أبوين غير شرعيين: التبشير الذي خططه والاستعمار الذي غذَّاه، وجميع هذه الأفكار والتنظيمات والمؤامرات المضادة للإسلام متفقة على نقطة واحدة وهي تقويض دعائم العقيدة الإسلامية الغراء ليغرسوا مكانها بعض التصورات والمفاهيم الجهنمية، ليصبح أبناء الإسلام حيارى لا يعرفون عنوان الإسلام فضلا عن مبادئه وتعاليمه.

ص: 154

والعلماء هم ورثة الأنبياء غفلوا أو تغافلوا عن هذا الاصطياد في الماء العكر فما أدوا ما عليهم من الواجبات الدينية الملقاة على كواهلهم، وقد صار جل همهم في تحقيق المطامع الدنيوية والتشاجر في مسائل لا مساس لها بجوهر الدين، فما أحوج الأمة الإسلامية في هذه الظروف الحرجة والأوضاع المضطربة إلى حركات إسلامية تقوم بالدعوة الإسلامية الخالصة من جديد، وتحمي تعاليم الإسلام وقوانينه من الطوفان الجديد المادي، وتعيد إلى حظيرة الإسلام جميع جوانب الحياة المشردة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وتحقيقا لهذا الغرض النبيل الجليل تأسست في الهند وغيرها حركات إسلامية عديدة منها حركة ((الجماعة الإسلامية في الهند وباكستان)) والإخوان المسلمون في لبلاد العربية و ((ماشومي)) (مجلس شورى مسلمي إندونيسيا) وغرضي من هذه الجولة السريعة أن أقدم إلى الإخوان نظرة خاطفة عن تاريخ الجماعة الإسلامية الهندية وعن نشاطها الكبير الفعال في الهند وذلك بعد إيجاز تاريخ وصول الإسلام إليها.

وصول الإسلام إلى الهند:

ص: 155

تعتبر الهند القطر الثالث في العالم بعد باكستان وإندونيسيا وذلك من ناحية كثرة المسلمين الذين يبلغ عددهم حوالي 60 مليون نسمة. توجد في الهند عدة أجناس وديانات ولغات وثقافات، وقد استمرت العلاقات التجارية والثقافية بينها وبين العرب ولا سيما ربوع مالابار قرونا عديدة والتجار العرب والبحارة من الحضارمة وغيرهم كانوا يتجولون في خليج بنغال وبلاد الملايو وجزر إندونيسيا ولما انبثق فجر الإسلام من أفق الجزيرة العربية وامتدت أشعتها إلى ما وراء بلاد الجزيرة العربية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا حمل التجار العرب هذا المشعل الجديد ألى الهند في حين كانت الهند تئن من التفرقة والشدائد المتكررة من أصحاب الديانات السائدة فيها، ورأوا أن تربة الهند صالحة لبذر هذا الدين الجديد ودعوا الناس إلى التوحيد والمساواة ومكارم الأخلاق، والكتب التاريخية القديمة والحديثة تنص أن الإسلام وصل إلى الهند في القرن الأول الهجري. ومالابار هي البقعة الأولى التي تشرفت بالإسلام أولا ثم انتشر الإسلام إلى البقاع الهندية الأخرى.

تأسيس الجماعة الإسلامية:

ص: 156

أسس هذه الحركة الإسلامية الأستاذ المودودي ومنذ أن بدأ يشتغل بالصحافة والتأليف مجردا قلمه السيال مكِبّاً على معالجة القضايا التربوية والاقتصادية والسياسية وكشف النقاب عن عورات الزنادقة والملحدين والمنحرفين والحكام الضالين في صفحات مجلته ((ترجمان القرآن)) بدأ الأستاذ يكتب فيها معلنا ومحاربا جميع ألوان الطواغيت وأشكال الانحراف وذلك بأساليب مختلفة مثبتا قدميه أمام التحديات العصرية بدون أي تزعزع أو هوادة كالجبل الأشم الراسخ وجعل يكتب سلسلة من المقالات والأبحاث الفكرية القيمة التي تتعلق بانحطاط المسلمين وتدهورهم واندحارهم وضياع سابق عزهم وكان يناقش فيها جميع المخططات العملية السيئة للأحزاب السياسية ومحاولاتها الشريرة لتظليل أبناء الأمة وذَوَبان بعض القلوب المسلمة فيها وموقف العلماء المنتمين إلى الإسلام المتقاعسين المتغافلين عن المهمات الدينية، وبعد أن ختم تلك المقالات بدأ يكتب مقالات جديدة مناشدا فيها ضرورة قيام جماعة صالحة خيرة لإنقاذ الأمة الإسلامية مما هم فيه من الانحراف والانحلال والتأخر، وقد رسم فيها الهدف الأسمى لتلك الحركة التجديدية والوسائل المطلوبة لتحقيق غايتها. وقد صرح فيها أن الإسلام عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وجهاد ودولة، وهو صالح لكل زمان ومكان وهو نظام إلهي للبشرية كافة وهو يعطي الاستقرار التام والسلام الكامل وأن الأنظمة الوضعية المستوردة كلها لا قيام لها ولا دوام وأنها لا تستحق البقاء أمام هذا النور الساطع فهو الذي لا يغيب ولا يأفل حتى يرث الله الأرض ومن عليها لأنه نور الله الذي لا يطفئه شيء {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .

ص: 157

ولا شك أن مقالاته الفكرية قد فتحت قلوب العلماء المفكرين النائمة وجعلتهم يفكرون في مستقبل الإسلام والمسلمين والأوضاع الخطيرة المحيطة بهم من كل جانب والنتيجة الوخيمة التي تأتي على الأمة المسلمة إذا تركت بلا قيادة دينية محكمة وفعلا إنها فتحت قلوب أمثال المجاهد البطل محمد إقبال الشاعر الإسلامي رحمه الله الذي أرسل خطابا إلى المودودي يقول فيه إن بيئة بنجاب وجوها أليق وأحسن من حيدر آباد لغرس فكرته ودعوته، ولابد من السفر إليها، وبُعَيْدَ وصول هذا الخطاب انتقل الأستاذ من حيدر آباد إلى بتان كوت ببنجاب سنة 1938م.

وبعد أن بذل جهوده المباركة طوال تسع سنوات ازداد عدد المؤيدين له من أرجاء الهند، وفي 26 آب سنة 1941م اجتمع 75 رجلا من رجال العلم والدعوة الذين تأثروا بدعوته وفكرته والذين وجد فيهم استعدادا كاملا للاضطلاع بأعباء هذه المهمة العظيمة، والجهاد في سبيلها بالنفس والنفيس، احتشدوا في دار السلام في بتان كوت ببنجاب الشرقية. وبعد طول البحث والنقاش والتشاور اتفقت كلمتهم على تكوين حركة ((الجماعة الإسلامية)) . وقد صرح الأستاذ المودودي في مناسبة انتخابه أميرا لهذه الحركة بكلمته الرائعة المشهورة وهي ((أحب أن أتولى وظيفة ساعي البريد تحت نظام إسلامي صحيح أكثر مما أحب أن أنتخب رئيسا أو وزيرا تحت نظام غير إسلامي)) .

وعقب استقلال الهند وانقسامها إلى قسمين: الهند وباكستان انقسمت الجماعة الإسلامية إلى قسمين: الجماعة الإسلامية الهندية، والجماعة الإسلامية الباكستانية، والأستاذ المودودي يحاول باذلا طاقاته أن يقيم في باكستان دولة إسلامية مثالية. وقد صرح قائلا أثناء محاضرته في كلية لاهور في شهر يناير سنة 1948م:" إن باكستان لابد أن تكون دولة إسلامية صحيحة ولابد أن تنفذ فيها القوانين الإسلامية بدل القوانين الأجنبية الوضعية ".

ص: 158

هدف الجماعة الإسلامية الهندية ومنهاجها كما ينص دستورها:

الهدف: الهدف الذي ترمي إليه الجماعة الإسلامية الهندية هو إقامة الدين الحنيف والدافع الحقيقي وراء ذلك إنما هو نيل مرضاة الله تعالى والفرز في الآخرة.

التوضيح:

إن المراد بالدين في قوله: ((إقامة الدين)) هو الدين الذي أرسل الله لأجله جميع أنبيائه في مختلف العصور والأمصار والذي أكمله بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين على أتم شكل وأكمله هدى للناس كافة وهذا الدين الذي بقي في الدنيا سائدا ومحفوظا ومقبولا عند الله هو الدين الوحيد المسمى بالإسلام وإن هذا الإسلام هو نظام سماوي يحيط الإنسان بظاهره وباطنه ويشمل كل جانب من جوانب الحياة البشرية الفردية والاجتماعية من العقيدة والعبادة والخلق والسلوك وما إلى ذلك من القوانين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولن توجد شعبة من شعب حياة الإنسانية خارجة عن دائرة هذا الدين، وهذا الدين هو أصلح نظام للبشر يحل جميع مشاكل حياته حلا سليما حكيما، كما أنه يكفل مرضاة الله والسعادة في الآخرة، ولا تستقيم حياة الفرد والمجتمع بطريق أمثل وأجود إلا بإقامة هذا الدين على الوجه الأكمل.

المراد بإقامة هذا الدين هو اتباعه بكليته دون أي تفريق وتعديل بكل إخلاص وتطبيقه بكامله في جميع مرافق الحياة البشرية الفردية والاجتماعية، حتى يصبح ارتقاء الفرد وبناء المجتمع وتنظيم الدولة طبقا لمقتضيات هذا الدين.

والمثال الرفيع لإقامة هذا الدين إنما هو ما رسمه محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون.

(البند الرابع من دستور الجماعة الإسلامية الهندية)

المنهج:

1-

القرآن والسنة هما الأساس الذي تعتمد عليه الجماعة في جميع أعمالها وأما سواهما فلا يعتبر إلا في المرتبة الثانية وإلى حد يسمح به الكتاب والسنة.

ص: 159

2-

إن الجماعة تهتم في جميع نشاطاتها اهتماما بالغا بالتزام حدود الإخلاص والقيم ولن تقبل أي وسيلة ولا مخطط يصادم الصدق والأمانة ويؤدي إلى انفجار أي اعتداء عنصري واشتباك طائفي وفساد وفوضى في الأرض.

3-

تعتمد الجماعة لتحقيق هدفها المرسوم على الوسائل العلمية السليمة أي أنها تقوم أولا بنشر العقيدة وتزكية القلوب وتهذيب الأخلاق والعادات ثم تكوين الرأي العام لإيجاد انقلاب صالح منشود في مجالات الحياة الاجتماعية.

(البند الخامس من دستور الجماعة الإسلامية الهندية)

لمحة سريعة من حياة الأستاذ المودودي:

ص: 160

ولد الأستاذ المودودي بتاريخ 15 أيلول سنة 1903م في مدينة أورنك آباد في مقاطعة حيدر آباد وكانت ولادته في أسرة علمية صوفية تعرف بالأسرة المودودية نسبة إلى الشيخ قطب الدين مودودي جشتي رحمه الله مؤسس الطريقة الجشتية في الهند المتوفى سنة 527هـ وكان والده عالما متدينا شديد الورع أحب أن يعلم ابنه في مسقط رأسه وفي منزله لكيلا تؤثر فيه الحضارة الغربية، بدأ نشاطه كصحفي إسلامي وهو في السابعة عشر من عمره وهو في سبيل الدعوة الإسلامية تولى منصب رئاسة تحرير جريدة ((تاج)) الصادرة في جبل بور وجريدة ((مسلم)) وجريدة ((الجمعية)) الصادرة في دلهي، ومجلته الخاصة ((ترجمان القرآن)) التي بدأ صدورها سنة 1923م لا تزال تصدر تحت رئاسته وهي تعد من أكبر المجلات الإسلامية في العالم والأستاذ المودودي غني عن التعريف وعن كل بيان لأنه لا يزال محترما بين المسلمين في الداخل والخارج. إن كان هناك شخصيات تتوفر فيهم أهلية القيادة للأمة المسلمة في هذه الظروف العصيبة، فهذا الرجل المسلم الواعي المفكر لا بد أن يكون في مقدمتهم وله عضوية مرموقة في عدة منظمات إسلامية عالمية، قام برحلات عديدة في البلاد العربية من المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا وفلسطين ولبنان والجمهورية العربية المتحدة وذلك لمشاهدة الأماكن التاريخية والآثار الإسلامية المعروفة بالقداسة والشهرة وهو أمير للجماعة الإسلامية منذ تأسيسها إلى وقتنا هذا اللهم إلا فترة بسيطة كان مسجونا فيها وهو لا يزال يمارس جهوده الجبارة ليلا ونهارا في الدعوة الإسلامية ولإيجاد وحدة بين صفوف العلماء والجمعيات الإسلامية.

مؤلفاته:

ص: 161

للأستاذ المودودي حوالي 100 كتاب ما بين رسائل وكتب في السياسة والقانون والدستور والتربية والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والتاريخ وما إلى ذلك من مشكلات اليوم والقضايا العصرية المعقدة، وعادته في التأليف أن يدرس الموضوع أولا مهما كان الموضوع دراسة وافية ثم يعرضه على القالب الإسلامي وبوتقته ثم يعالجه معالجة سديدة بشكل جذاب وأسلوب أخاذ على ضوء الكتاب والسنة والمنطق السليم.

ومن أشهر كتبه تفهيم القرآن تفسيره للقرآن الكريم صدرت منه أربعة مجلدات من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الفتح ومن المتوقع أنه سيصدر الباقي قريبا لأنه مكب على إنهائه رغم وجود الأعمال المتراكمة المتشعبة وقد كانت زيارته في البلاد العربية إنما هي لمشاهدة الأماكن التاريخية والآثار الإسلامية القديمة ولدارسة تاريخها كما ورد ذكرها في القرآن الكريم ولذا نجد في تفسيره صور الخرائط للأماكن التاريخية والمعارك الإسلامية قلما توجد في كتب التفسير الأخرى.

ومنها كتاب ((الجهاد في الإسلام)) الذي ألفه سنة 1927م وقد فصل فيه موضوع الجهاد بحيث لا يبقي لقارئه أي شبهة حول قضية الجهاد في الإسلام وهذا الكتاب يقع في أكثر من 500 صفحة ومما يذكر من أسباب تأليفه المباشرة قول الزعيم الهندي المعروف ((المهاتما غندي)) في تصريحاته العديدة بأن الإسلام لم ينتشر إلا بقوة السيف، ولا شك أن هذا الكتاب قد جعل له مكانة عظمى في صفوف العلماء وكان موقع تقدير نبيل من أقطاب العلماء والمثقفين والمفكرين.

ص: 162

ومنها كتاب ((المسألة القاديانية)) كتبه سنة 1953م ولما صدر هذا الكتاب ألقي القبض عليه في شهر آذار سنة 1953م وسجنته الحكومة الباكستانية وصدر من الحكومة الباكستانية العسكرية قرارها بإعدامه، والمسلمون لما سمعوا هذا الخبر تواردت برقياتهم من أنحاء العالم كله في الدوائر الحكومية فتركت أثرا كبيرا وهذا الأستاذ حسن الهضيبي من أعلام مصر يبعث ببرقية يبين فيها أن الحكم بإعدام الأستاذ أبي الأعلى المودودي هو أمر مؤسف جدا وعمل إجرامي بشع نحو الحركة الإسلامية، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ينظرون إلى هذا الحكم بالاستنكار الشديد والقلق الكبير ويطلبون من الحكومة الباكستانية استبدال هذا الحكم وعدم تنفيذه، وارتباط المسلمين ببكستان إنما هو ارتباط إسلامي فحسب ـ منبر المشرق القاهرة 22-5-1953م-

وخلاصة برقية مسلمي إندونيسيا: "الأستاذ أبو الأعلى المودودي أمانة للعالم الإسلامي، والعالم الإسلامي في حاجة إليه، إن لم تحتج إليه باكستان نحن (مسلمي إندونيسيا) معه، والعالم الإسلامي في أشد حاجة إلى أفكاره النيرة".

وبناء على طلب المسلمين من أنحاء العالم الذين اعتنقوا فكرته والمواطنين القائمين بالجماعة الإسلامية أبدلت الحكومة بحكم الإعدام عقوبة السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة ثم رفعت القضية إلى المحكمة العليا في لاهور ثم أطلقت سراحه سنة 1955م، ويجدر بنا أن نذكر هنا أنه ألقي القبض عليه قبل هذا في شهر تشرين الأول سنة 1948م أي بعد تأسيس باكستان إلى أيار 1950م.

ص: 163

ومن الجدير بالذكر أن بعض مؤلفاته الشهيرة نقلت إلى اللغات العالمية العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية والألمانية وغيرها من اللغات المحلية مثل البنغالية والتاملية والمراتية والكندية والمليالمية والهندية والتلنكية، وأعجب من هذا أن بعض مؤلفاته نقلت إلى سبع عشرة لغة وقد نقلت من كتبه إلى اللغة العربية أكثر من 45 كتابا ومن أشهر مؤلفاته التي ظهرت في اللغة العربية ما يلي:

1-

المصطلحات الأربعة في القرآن.

2-

الحجاب.

3-

تفسير سورة النور.

4-

الإسلام والجاهلية.

5-

نظرية الإسلام وهديه في السياسة والدستور والقانون.

6-

القانون الإسلامي.

7-

نحن والحضارة الغربية.

8-

المسألة القاديانية.

9-

مبادئ أساسية لفهم القرآن.

10-

حركة تحديد النسل في ميزان النقد.

11-

مسألة ملكية الأرض في الإسلام.

12-

أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة.

13-

الربا.

14-

شهادة الحق.

15-

نظرية الإسلام السياسية.

16-

منهاج الانقلاب الإسلامي.

17-

معضلات الاقتصاد الإسلامي وحلها في الإسلام.

ومؤلفات الأستاذ المودودي كلها مفيدة تحتوي ذخائر وكنوزاً علمية فكرية فلسفية لا نريد بذلك القول بسلامتها من الخطأ؛ لأن أحداً لا يدعي العصمة ولا تدعى له.

بعض الوسائل المهمة التي تستخدمتها الجماعة الإسلامية الهندية:

1-

توزيع المنشورات الإسلامية.

2-

الطباعة.

3-

الحلقات العمومية.

4-

اجتماعات الاستقبال.

5-

حلقات التبليغ والدعوة والتعليم.

6-

دور المطالعات.

7-

مراكز الشباب.

8-

التنسيقات الدراسية.

9-

المنظمات التربوية.

10-

إنشاء المدارس والكليات.

ص: 164

11-

إنشاء المكتبات الإسلامية، ومكتبة الجماعة الإسلامية المركزية والمكتبات الفرعية التابعة لها قد نشرت خلال السنوات الماضية مئات من الكتب في عدة لغات رائجة في الهند، وقد ترجمت بعض الكتب الإسلامية لرجال الأقلام البارزة في العالم الإسلامي وفي مقدمتهم الشهيد سيد قطب رحمه الله.

والجماعة الإسلامية الهندية بفضل الله تعالى تتمشى إلى الأمام بكل جرأة ونشاط على قدم وساق وليس في الهند حركة إسلامية ترمي إلى هدف لأجله وجدت الجماعة الإسلامية، وقد أبلغت الجماعة دعوتها الإسلامية إلى آلاف المسلمين وعشرات من غير المسلمين ولمنشوراتها تأثير عميق ونفوذ كبير في أصحاب الفكر والاطلاع من المهندسين والدكاترة والأساتذة وغيرهم من المثقفين. والجماعة الإسلامية الهندية ليست حزبا سياسيا كما يزعم أعداؤها بل إنها حركة إسلامية خالصة تقوم بالإسلام ولأجل دعوة الإسلام.

وأمير الجماعة الإسلامية في الهند هو الأستاذ أبو الليث الندوي الإصلاحي وهو لا يزال يمارس جهوده المباركة الموكلة من قبل الجماعة الإسلامية والأستاذ أبو الليث يعد من فحول علماء الهند وله نظرة ثاقبة في علوم القرآن والحديث واطلاع واسع على مشاكل العصر. ومقر الجماعة الإسلامية في الهند هو مدينة دلهي العاصمة وجريدتها الرسمية هي "الدعوة"تصدر باللغة الأوردية وهي تعد من أكبر الجرائد الإسلامية في الهند وقد قامت الجماعة الإسلامية الهندية خلال السنوات الماضية بجمع مبلغ كبير من التبرعات والمساعدات من المسلمين وتوزيعها بين المصابين والمنكوبين وخاصة بين سكان بيهار وأحمد آباد عندما ألمت بهم العواصف والسيول والنكبات والنكسات.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله

ص: 165

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الناس؟ فقال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله تعالى، ثم مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره". [1]

وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا إلا وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة". [2]

--------------------------------------------------------------------------------

(1)

متفق عليه.

(2)

متفق عليه.

ص: 166

الأدب العربي

بقلم الطالب عبد الرحمن محمد الأنصاري

من بين الكتب التي أتيحت لي قراءتها هذه الأيام، وسعدت بلقائها كتيب صغير الحجم لا تربو صفحاته على (54) وهو مع ذلك قد وفق مؤلفه الفاضل في الوصول إلى الهدف الذي رمي إليه.

ذلك هو ((الأدب العربي في ظل القومية العربية)) لمؤلفه الدكتور محمد محمد حسين، وبما أن مقاييس الناس في ما ينتجون، وما يحسنون، لا في شخصياتهم المجردة فإنني لا أقول كلمة واحدة عن المؤلف الفاضل.. وإنما أكتفي بتسليط الضوء من كوة ضيقة جدا عل متعطشا إلى نمير المعرفة يهتدي ببصيصها إلى أدبنا الخالد، وما يقال عنه من أراجيف كان للأعداء اليد الطولى في ترويجها.

طبع الكتاب مرتين، أولاهما سنة 1379هـ وثانيهما في سنة 1389هـ، وقد شاء الله ألا ألقاه إلا بعد أن أكمل من سنيه عشرا رغم حرصي الشديد على الكتب التي تنحو منحاه..

تكلم المؤلف الفاضل في فاتحة بحثه عن القومية العربية بأسطر مقتضبة بلغت في مطابقتها لمقتضى الحال ما لا أجد معه إلا رسمها أمامك أيها القارئ الكريم.

إن أكثر الناعقين والمتشدقين بـ ((القومية العربية)) إنما هم: ما بين مأجور، وراءه أموال من خزائن العدو، وبين متعلق لسلطان يردد ما يذهب إليه ويرضاه..

وهذه لعمر الله حقيقة لا ينكرها إلا المبطلون المعاندون.

وأزيدك أن الويلات التي منيت بها أمتنا في أي حقبة، وبخاصة الحقبة الأخيرة، إنما مردها إلى مضغ هذه العلكة الجاهلية ((القومية العربية)) التي حرمتنا من مصافحة أيد هي لنا قوة ونحن لها تأييد.

وهذا ما شعر به رائد التضامن الإسلامي فيصل بن عبد العزيز فذهب إلى إخوانه في عقر ديارهم مشعرا إياهم أنكم منا ونحن منكم.. ولقد تبين للناعين عليه في ذلك أن الحق فيما ارتآه.. وهكذا يحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره الكافرون.

ص: 167

هذا ولا أريد أن ألخص لك الكتاب للحيلولة بينك وبين جماله الذي قد ينعدم أمامك بالتلخيص، إذ هو خير من يحدثك عن نفسه.. وإنما قصدي ذكر بعض النقاط الحساسة التي أشار إليها المؤلف وجعلها ركيزة للكتاب فكانت محوره.. بل كانت ضياءه.

ذكر المؤلف الفاضل: أن الإسلام هو الذي حدد الشخصية العربية على مر العصور.. وربط آخرها بأولها لغة وحضارة وخُلُقاً ((وليس للعروبة تاريخ يعتز به العرب ويجتمعون حوله قبل الإسلام))

ثم ينعي على الذين اعتبروا أن ذلك الطابع الخاص المميز للأدب العربي عما سواه لا يعني الجمود كما يزعمه الزاعمون ولا يقود إليه في أي حال.

ودليله على ذلك عدة أسباب:

أولاها: أن الجمود صفة لا وجود لها في الحياة.. لأن الحياة حركة، ولأن الكائن الحي لو أراد الجمود وقصد إليه لما استطاعه فكل شيء في الحياة متغير، والناس مضطرون إلى التعبير عن أنفسهم وعن الحياة في مختلف نواحيها: في أدبهم، وفي صحفهم، وفي اذاعاتهم، وفي قصصهم، وفي كتبهم العلمية، والحرص على استعمال لغتنا العربية في كل هذه الميادين ينتهي حتما إلى تصفيتها وتنقيتها فيسقط السخيف الثقيل، والحوشي المستهجن لأن الأدباء والعلماء والدارسين سوف ينفرون من استعماله، ومن ورائهم الذوق العربي الممثل في جمهور القراء، والرواة.

فأنت ترى المؤلف الفاضل يقرر مبدأ: إن البقاء للأصلح، وهو معنى يحلو لقليلي البضاعة - الفكرية - عزوه إلى ابن القرود داروين..!!

علما بأن الفضل فيه لمنزل الكتاب جل جلاله، قال تعالى:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}

ص: 168

ثم ذكر المؤلف الآية الكريمة: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .

مستدلا بها على تباين الكائنات الحية:

فالحيوان لا يأكل إلا النبات، وبعضه لا يأكل إلا اللحوم، فالله سبحانه وتعالى قد أعطى كل نوع من ذلك خلقه، وهداه إلى سبيل معين، ونهج خاص في سلوكه.. وقد يقحم الجاهل على حياة بعض النبات أو الحيوان مالا يلائمه مما يظن أنه أعود عليه بالنفع فيضنيه ويسقمه، وقد يقتله، والناس في ذلك - ككل خلق الله - طوائف وأمم يتمايزون في الطبائع والأمزجة، وفي غذاء الأبدان والأرواح والعقول، وقد يقتل بعض جماعاتهم ما تصح به جماعة أخرى.

وأقوال: إن هذه معايير لم يعرها نفر من هؤلاء الأفاضل الذين يدعون بحرارة عاطفة هوجاء إلى أنواع من الأدب اعتبرها تجديدا وحرروها من عبودية مزعومة، بينما هي في الحقيقة لا تلامس وجداننا إلا بقدر ما يصلح العشب الأخضر أن يكون غذاء للأسد استعاضة عن اللحم..!

وكنت ذات يوم عند أحد الأصدقاء المجددين فأدار مفتاح الراديو فإذا هو فجأة يلتقي بإذاعة من إذاعات الروم - الأفرنج - وبعد أن انتهى ((العلج)) من قراءة أخباره على ما يظهر سمعت صوتا شككت في بادئ الأمر أنه صوت إحدى ((الدركترات)) وهي تهد الصخور هدا.. بينما صديقي ظاهرة عليه إمارات الطرب والسرور، فلما أحس بما تعانيه طبلة أذني من وقع قضبان الدركترات على الصخر، قال مستنكرا: ألا تطرب للسمفونيات العالمية!.

على أنني أشاطر الدكتور الفاضل الرأي إذ يقول: ".. والمهم في ذلك كله أن يكون الاقتباس والتطور على كل حال بالقدر الذي لا ينقلنا عن جبلتنا، ولا يغير حقيقتنا، ولا يقطع صلتنا بالماضي".

ص: 169

وأما إذا ظللنا لا نعيش إلا على فتات موائد الغرب، والإشادة بكل هراء من ناعق، ونبذ تراثنا الخالد، ووصمه بما لا يفق مع سموه، فإننا مع الأسف نكون كما قال المؤلف:"أذنابا ينقادون ولا يقودون، ويقلدون، ولا يبتكرون".

ثم يقف المؤلف محاميا عن الأدب العربي القديم أمام محكمة التجديد ويبدأ مرافعته بقوله: "أما الذين ينتقصون الأدب العربي القديم ويعيبونه فهم يذكرون عيوبا ليس من بينها عيب واحد يثبت على التحقيق"، وأكثر هؤلاء من المفتونين بالأدب الأوروبي ويردون أن يحملوا الأدب العربي عليه، ويفنوه فيه، فيجعلوه باب من أبوابه، وأسلوبا من أساليبه، وشعبة من واديه، فهم لا يستحسنون من تراث العرب إلا ما وافق مذهبا من مذاهب الغرب، فعابوا على الشعر القديم نظام القافية، لأم الشعر الأوروبي خال منها، ووصفوا التأنق في التعبير، والاحتفال بجرس الألفاظ بالغثاثة، والتفاهة، لأن اللغات الأوروبية في فقرها وضيقها تعجز عن مجاراة اللغة العربية فيه.

هذا إلى آخر ما تعرض إليه المؤلف الفاضل من أمور بلغت من الأهمية في هذا الموضوع الغاية القصوى، ولو ذهبت إلى ذكرها فقرة فقرة لشذذت عما التزمت في فاتحة بحثي، فحسبي أن دللتك عليه بإشارة مقتضبة، والله من وراء القصد.

ص: 170

دراسات في الديانات الهندية

الديانة الهندوسية (1)

بقلم: الطالب محمد ضياء الرحمن الأعظمي

عقيدة التناسخ:

هذه العقيدة تقوم على اعتقادهم بأزلية الرب والروح والمادة، فالروح لا تفنى فناءا كاملا بل إذا خرجت من جسم حلت جسم آخر، وهكذا تنتقل الروح من هنا إلى هناك حتى تقوم الساعة.

مسألة القيامة:

أعمار الدنيا منقسمة أربعة أقسام:

1-

ست يك.

2-

ترتيا يك.

3-

دواير يك.

4-

كل يك.

وكل دور من هذه الأدوار له خصائص وأوصاف، فمثلا الذين يولدون في الدور الأول (ست يك) والذين يجمعون الدنيا والدين يولدون في الدور الثاني (ترتيا يك) والذين يجمعون الشهوات والرغبات والدين والدنيا يولدون في الدور الثالث (دواير يك) والذين يمشون وراء الرغبات والرهبات يولدون في الدور الرابع (كل يك) .

كل دور من هذه الأدوار الأربعة يستغرق ملايين من السنين فبعد انتهاء هذه الدوار الأربعة تعيد الدنيا عملها ودورانها مرة ثانية من (ست يك) إلى (كل يك) ملايين المرات ثم تقوم القيامة وتنجو الروح من جولاتها وتتصل بذات الإله.

السبب في هذا أن الروح لها ثلاث خصائص:

1-

ستوكن - من علامته أن تكون الروح راغبة في العلم والمعرفة.

2-

ثموكن - من علامته أن تكون الروح بعيدة عن العلم والمعرفة.

3-

رجوكن - من علامته أن تكون الروح راغبة في وقت ونافرة في وقت.

هذه الخصائص المجموعة هي سبب عيادة الروح مرة بعد مرة لحصول النجاة من أرذل صفاتها، فمن شرط النجاة تخليص النية من جميع الوسواس والأفكار الرديئة، والإنسان ما دام في قالب البشر لا يقدر على تخلية نفسه الوساوس خصوصا إذا ولد في ثموكن وكل يك، لأن ستوكن خاص بالملائكة المعصومين فلزم تنقل الروح من جسم إلى جسم جزاء بما كسبت في الحياة السابقة.

ص: 171

هذه عقيدة معروفة منتشرة لدى جمهور الهندوس وتسلطت على عقولهم وأفكارهم ومجملهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا منها.

والباحثون إنما يمشون مع الجمهور ويظنون أن العادات والتقاليد هي عقيدة الأمم والملل فيتخبطون خاصة في مثل هذه المسائل التي لا انفكاك لها عن الديانة الهندوسية والأمة الهندية القديمة، فلنرجع على أصل ويدك وهرم ولننظر فيه حتى نقف على حقيقة هذه المسألة:

1-

رك ويد - تذكر يوم الآخرة وعظم العلم والمعرفة ولا تتجاوز هذه الحدود (1-2-3-20) .

2-

رك ويد - ذل نفسك وقل للذين يعظمون الملائكة (ديوتا) إنكم لتردون إلى حياة أخرى (19-44-60) .

3-

رك ويد - اجتهدوا في تحصيل الشمس حتى تعرفوا قدر النار. إن رسلنا " بهرب " و " بكو" و "مات وشوا " كلهم يؤمنون بالحياتين (حياة الدنيا الآخرة)(1-11-70-10) .

4-

دك ويد " أنا أذنت لكم بتناول الطعام الأبدي فيا أكنى " اسم رسول، كن من الذين يجتهدون في تحصيل الحياة الأبدية السرمدية (1-9-44-5) .

هذه أربع آيات جئنا بها لنبين كذب الهندوس وافتراءهم على ويدك وهرم ومعاندتهم تعليم الإسلام، نعم! كبا بوذا يعتقد جولان الروح والتناسخ ولكن هذه العقيدة ما كانت منتشرة في جميع الهندوس إلا بعد نزول القرآن ومجيء آخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم. فالآيات الثلاث الأول تشير إلى ثبوت يوم الآخرة، والآية الرابعة تحث على تحصيل الحياة الأبدية التي لا حياة بعدها.

هذه هي عقيدة ويد في مسألة التناسخ خلافا لما ذهب إليه " ديانتد " مؤسس آريا سماح وقلده جمهور الهندوس. أما الذين أنكروا عليه وعلى أتباعه وأثبتوا يوم الآخرة فكثيرون جدا منهم عالم كبير بسنسكرتيه " واهل سنسكرتايان "[1] يقول: " الذين قالوا بمسألة التناسخ كانوا في أزمنة [2] " أبا نشد " لعلهم ما عرفوا بأن هذه المسألة ستكون خطيرة فيما بعد.

ص: 172

وتقول الدكتورة " فريدة جوهان ": " نعم إن ويد يثبت جولان الروح ولكن مرة واحدة فقط لا آلاف المرات "(التناسخ وويد ص 93)

ويقول ستيا بركاش: " أنا أتحدى أن مسألة التناسخ لا توجد في ويد "(آواكون ص104) .

ويقول المفكر الجديد " دركاشنكر " الذي عرفته من مقالاته القيمة التي تصدر في مجلة " كانتي " يحاول هذا العالم إثبات تعاليم القرآن في ويدك دهرم لتقليل المنافرة بين الأمتين المسلمة والهندوسية، وقد نجح نجاحا بارزا فكم من الشباب الهندوكي أقبلوا على دراسات القرآن.

" إن من الأسئلة الغريبة التي وجهت إليَّ: هل توجد في ويدك دهرم مسألة اليوم الآخر؟ فهذا السؤال كسؤال من سأل هل في الجسم روح؟ فإن ويدك دهرم مملوءة بتوضيح مسألة اليوم الثاني "(مقالة مسألة التناسخ وويد) .

هذه هي تحقيقاتنا موجزة في مسألة التناسخ في ويدك دهرم فالذي يريد الزيادة فليرجع إلى ويد لعله يعرف حقيقة هذه العقيدة الفاسدة التي احتلت جزءا كبيرا من قلوب الهندوس، فلما جاء القرآن يثبت يوم الآخرة كذبوه وعاندوه بغير علم. وصدق الله العظيم:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ولا عجب، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ..} .

الكلام الأخير:

هذا هو ويدك دهرم الذي انتشر في جميع أنحاء الهند وفي بعض البلدان الأفريقية ذكرناه موجزا ما تيسر لنا، وما دخلنا في التفصيل والتنقيح، لأنه لا يكفي له مجلدات، والشيء الذي التزمناه هو إغماض العين عن العادات والتقاليد لأنها ليست من أساس الديانة، فكل ما ذكرناه وأوردناه من النصوص اقتبسناه من الكتب المقدسة، ثم فسرناه بما فسره به أهله وعلماؤه لئلا يطعن علينا طاعن بالتعصب والتحزب.

ص: 173

وليس قصدنا من ذكر ويدك دهرم الاستهزاء به.. وكيف وقد منعنا الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، بل أردنا به إحقاق الحق وإبطال الباطل، حتى لو سألنا أحد عن تركنا ويدك دهرم فنقدم إليه المذكرة الموجزة..

وأخيرا ندعو أصحاب ويدك دهرم إلى أن يوازنوا بينه وبين الإسلام وينظروا أيهما أحق بالاتباع والاقتداء لأن الله يحب المقسطين.

نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

من العلماء الموجودين ليس عندي شيء من مؤلفاته حتى أذكر ترجمته ولكن أورد بعض ما بقي في حفظي مما قرأته في الأيام الماضية، هذا العالم يتصل بمقاطعة الهند الشمالية وقد قضى حياته كلها باحثا في أديان العالم وسافر إلى الدول الغربية عدة مرات للبحث وكان في بعض فترات حياته مسلما فكتب كتابا سماه " الدين الإسلامي مخططاته " ثم دخل في البوذية ووقف على دراسته ثم بدا له فترك البوذية ودخل في ويدك واشتغل بالتصنيف والتأليف ثم ما أعرف هل هو حي أو ميت.

[2]

والمعروف أن أبا نشد لم يكتب في فترة واحدة بل كتبه العلماء في أزمنة عدة حتى بلغ عدده 108 (ويدانت ص 18 المطبوع في أبريل سنة 1967) .

ص: 174

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب

لفضيلة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي

المدرس بالجامعة

سورة الأنفال

قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية.. هذه الآية تدل على أن وجل القلوب عند سماع ذكر الله من علامات المؤمنين. وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . فالمنافاة بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهرة والجواب عن هذا أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .

وقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} .

ص: 175

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ونظيرها قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد كقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . الآية. وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . والظاهر أن وجه الجمع والله تعالى أعلم أن آيات الإطلاق مبينة أنه صلى الله عليه وسلم لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة فالشرط المذكور في قوله إذا دعاكم متوفر في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمكان عصمته كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} . والحاصل أن الآية إذا دعاكم لما يحييكم مبينة أنه لا طاعة إلا لما يدعو إلى ما يرضي الله وأن الآيات الأخر بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك صلوات الله عليه وسلامه.

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . هذه الآية الكريمة تدل على أن لكفار مكة أمانين يدفع الله عنهم العذاب بسببها: أحدهما كونه صلى الله عليه وسلم فيهم لأن الله لم يهلك أمة ونبيهم فيهم. والثاني استغفارهم الله وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يدل على خلاف ذلك.

والجواب من أربعة أوجه:

ص: 176

الأول: وهو اختيار ابن جرير ونقله عن قتادة والسدي وابن زيد أن الأمانين منتفيان فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين أظهرهم مهاجرا واستغفارهم معدوم لإصرارهم على الكفر فجملة الحال أريد بها أن العذاب لا ينزل في حاله استغفارهم لو يستغفروا ولا في حالة وجود نبيهم فيهم لكنه خرج من بين أظهرهم ولم يستغفروا لكفرهم ومعلوم أن الحال قيد لعاملها ووصف لصاحبها فالاستغفار مثلا قيد في نفي العذاب لكنهم لم يأتوا بالقيد فتقرير المعنى وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا.

وبعد انتفاء الأمرين عذبهم بالقتل والأسر يوم بدر كما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} .

ص: 177

الوجه الثاني: أن المراد بقوله: يستغفرون استغفار المؤمنين المستضعفين بمكة وعليه فالمعنى أنه بعد خروجه صلى الله عليه وسلم كان استغفار المؤمنين سببا لرفع العذاب الدنيوي عن الكفار المستعجلين للعذاب بقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} . الآية. وعلى هذا القول فقد أسند الاستغفار إلى مجموع أهل مكة الصادق بخصوص المؤمنين منهم ونظير الآية عليه قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} مع أن العاقر واحد منهم بدليل قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} : أي جعل القمر في مجموعهن الصادق بخصوص السماء التي فيها القمر لأنه لم يجعل في كل سماء قمراًًًًًً. وقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} أي من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس على الأصح إذا ليس من الجن رسل وأما تمثيل كثير من العلماء لإطلاق المجموع مرادا بعضه بقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} زاعمين أن معنى قوله منهما: أي من مجموعهما الصادق بخصوص البحر الملح لأن العذب لا يخرج منه لؤلؤ ولا مرجان فهو قول باطل بنص القرآن العظيم.

ص: 178

فقد صرح تعالى باستخراج اللؤلؤ والمرجان من البحرين كليهما حيث قال: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} فقوله تعالى: {وَمِنْ كُلّ} نص صريح في إرادة العذب والملح معا وقوله: {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} هي اللؤلؤ والمرجان، وعلى هذا القول فالعذاب الدنيوي يدفعه الله عنهم باستغفار المؤمنين الكائنين بين أظهرهم. وقوله تعالى:{وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} : أي بعد خروج المؤمنين الذين كان استغفارهم سببا لدفع العذاب الدنيوي فبعد خروجهم عذب الله أهل مكة في الدنيا بأن سلط عليهم رسول الله عليه وسلم حتى فتح مكة ويدل لكونه تعالى يدفع العذاب الدنيوي عن الكفار بسب وجود المسلمين بين أظهرهم ما وقع في صلح الحديبية كما بينه تعالى بقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . فقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي لو تزيل الكفار عن المسلمين لعذبنا الكفار بتسليط المسلمين عليهم ولكنا رفعنا عن الكفار هذا العذاب الدنيوي لعدم تميزهم من المؤمنين كما بينه بقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ..} الآية. ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس والضحاك وأبي مالك وابن أبزي وحاصل هذا القول أن كفار مكة لما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} . الآية. أنزل الله قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بقيت طائفة من

ص: 179

المسلمين بمكة يستغفرون الله ويعبدونه فأنزل الله قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي: أيُّ شيء ثبت لهم يدفع عنهم عذاب الله. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من بين أظهرهم. فالآية على هذا كقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} .

الوجه الثالث: أن المراد بقوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} كفار مكة وعليه فوجه الجمع أن الله تعالى يرد عنهم العذاب الدنيوي بسبب استغفارهم أما عذاب الآخرة فهو واقع بهم لا محالة فقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} أي في الدنيا في حالة استغفارهم وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي في الآخرة وقد كانوا كفارا في الدنيا. ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس وعلى هذا القول فعمل الكافر ينفعه في الدنيا كما فسر به جماعة قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} : أي أثابه من عمله الطيب في الدنيا وهو صريح قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} . الآية. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} . وقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} ونحو ذلك من الآيات يدل على بطلان عمل الكافر من أصله كما أوضحه الله تعالى بقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} فجعل كلتا الدارين ظرفا لبطلان أعمالهم واضمحلالها وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام في سورة هود.

ص: 180

الوجه الرابع: أن معنى قوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي يسلمون أي وما كان الله معذبهم وقد سبق في عمله أن منهم من يسلم ويستغفر الله من كفره وعلى هذا القول فقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} في الذين سبقت لهم الشقاوة كأبي جهل وأصحابه الذين عذبوا بالقتل يوم بدر ونقل ابن جرير معنى هذا القول عن عكرمة ومجاهد. وأما ما رواه ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري من أن قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} ناسخ لقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فبطلانه ظاهر لأن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} . الآية. خبر من الله بعدم تعذيبه لهم في حالة استغفارهم والخبر لا يجوز نسخه شرعا بإجماع المسلمين وأظهر هذه الأقوال الأولان منها: قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} . الآية. ظاهر هذه الآية أن الواحد من المسلمين يجب عليه مصابرة عشرة من الكفار وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك بقوله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} . الآية. والجواب عن هذا أن الأول منسوخ بالثاني كما دل عليه قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} . الآية. والعلم عند الله تعالى.

ص: 181

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} . هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يهاجر لا ولاية بينه وبين المؤمنين حتى يهاجر. وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فإنها تدل على ثبوت الولاية بين المؤمنين وظاهرها العموم. والجواب من وجهين: الأول: إن الولاية المنفية في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} هي ولاية الميراث أي ما لكم شيء من ميراثهم حتى يهاجروا لأن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فمن مات من المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري دون أخيه المؤمن الذي لم يهاجر حتى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} . الآية. وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة كما نقله عنهم أبو حيان وابن جرير والولاية في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ولاية النصر والمؤازرة والتعاون والتعاضد لأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا وكالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وهذه الولاية لم تقصد بالنفي في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} بدليل تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} . الآية. فأثبت ولاية النصر بينهم بعد قوله ما لكم من ولايتهم من شيء فدل على أن الولاية المنفية غير ولاية النصر فظهر أن الولاية المنفية غير المنثبتة فارتفع الإشكال. الثاني: هو ما اقتصر عليه ابن كثير مستدلا عليه بحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم أن معنى قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} يعني لا نصيب لكم من المغانم ولا في خمسها إلا فيما حضرتم

ص: 182

فيه القتال وعليه فلا إشكال في الآية ولا مانع من تناول الآية للجميع فيكون المراد بها نفي الميراث بينهم ونفي القسم لهم في الغنائم والخمس والعلم عند الله تعالى.

سورة براءة

قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . الآية. اعلم أولا أن المراد بهذه الأشهر الحرم أشهر المهلة المنصوص عليها بقوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر لا الأشهر الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب على الصحيح وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه.

وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد ابن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم واستظهر هذا القول ابن كثير لدلالة سياق القرآن الكريم عليه ولأقوال هؤلاء العلماء خلافا لابن جرير وعليه فالآية تدل بعمومها على قتال الكفار في الأشهر الحرم المعروفة بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم القتال فيها وهي قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} . الآية.

ص: 183

والجواب: أن تحريم الأشهر الحرم [1] منسوخ بعموم آيات السيف ومن يقول بعدم النسخ يقول: هو مخصص لها. والظاهر أن الصحيح كونها منسوخة كما يدل عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حصار ثقيف في الشهر الحرام الذي هو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شهر شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع إليهم لجأوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما وانصرف ولم يفتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام وهذا القول هو المشهور عند العلماء وعليه فقوله تعالى: {َاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ناسخ لقوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وقوله: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية. والمنسوخ من هذه ومن قوله أربعة حرم هو تحريم الشهر في الأولى والأشهر في الثانية فقط دون ما تضمنتاه من الخبر لأن الخبر لا يجوز نسخه شرعاً.

ص: 184

قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلى قوله سبحانه {عَمَّا يُشْرِكُونَ} . هذه الآية فيها التنصيص الصريح على أن كفار أهل الكتاب مشركون بدليل قوله فيهم: سبحانه عما يشركون بعد أن بين وجوه شركهم بجعلهم الأولاد لله واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} لإجماع العلماء أن كفار أهل الكتاب داخلون فيها. وقد جاءت آيات أخرى تدل بظاهرها على أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} . الآية. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} . الآية. وقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ} . الآية. والعطف يقتضي المغايرة.

ص: 185

والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه: أن وجه الجمع أن الشرك الأكبر المقتضي للخروج من الملة أنواع. وأهل الكتاب متصفون ببعضها وغير متصفين ببعض آخر منها. أما البعض الذي هم غير متصفين به فهو ما اتصف به كفار مكة من عبادة الأوثان صريحا ولذا عطفهم عليهم لاتصاف كفار مكة بما لم يتصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان وهذه المغايرة هي التي سوغت العطف فلا ينافي أن يكون أهل الكتاب مشركون بنوع آخر من أنواع الشرك الأكبر وهو طاعة الشيطان والأحبار والرهبان فإن مطيع الشيطان إذا كان يعتقد أن ذلك صواب عابد الشيطان مشرك بعبادة الشيطان الشرك الأكبر المخلد في النار كما بينته النصوص القرآنية كقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَرِيداً} فقوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً} . صح معناه وما يعبدون إلا شيطانا لأن عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما حرمه الله عليهم وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية. وقوله تعالى عن خليله إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} . وقوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنّ} . الآية. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} . الآية. فكل هذا الكفر بشرك الطاعة في معصية الله تعالى، ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ وأنه إذا قال صلى الله عليه وسلم الله قتلها أن يقولوا: ما قتلتموه بأيديكم حلال وما قتله الله حرام فأنتم إذا أحسن من الله. أنزل الله في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ

ص: 186

لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} . فأقسم تعالى في هذه الآية على أن من أطاع الشيطان في معصية الله أنه مشرك بالله ولما سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} ، كيف اتخذوهم أربابا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألم يحلوا لهم ما حرم الله ويحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم". قال: "بلى". قال: "بذلك اتخذوهم أربابا". فبان أن أهل الكتاب مشركون من هذا الوجه الشرك الأكبر وإن كانوا خالفوا كفار مكة في صريح عبادة الأوثان والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} . الآية. هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الخروج للجهاد في سبيل الله على كل حال وقد جاءت آيات أخرى تدل على خلاف ذلك كقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} . الآية. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} . الآية.

والجواب: أن آية انفروا خفافا وثقالا منسوخة بآيات العذر المذكورة وهذا الوضع من أمثلة ما نسخ فيه الناسخ لأن قوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً..} ناسخ لآيات الإعراض عن المشركين وهو منسوخ بآيات العذر كما ذكرنا آنفا. والعلم عند الله تعالى.

--------------------------------------------------------------------------------

ص: 187

[1]

- لو قيل بعدم النسخ والتعارض لأن أشهر السياحة خاصة بأهل العهود الذين نقضوا عهدهم أو ظهرت خيانتهم. الخ. فأرجئوا أربعة أشهر حتى يبلغوا مأمنهم. وأما الأشهر الحرم الأخرى الدوارة فهي على ما هي عليه لما ذكر من الأدلة ولأن المشركين لما عاتبوا المسلمين في وقعه سرية نخله وعظم الأمر على المسلمين لم يذكر الله نسخ تلك الأشهر، بل ذكر أن القتال فيها كبير أيضا إلا أن عمل الكفار للمسلمين أكبر وكأنهم بادؤون بالحرب فلا جرم على المسلمين إذا حاربوهم لذلك {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ َالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} . الآية.

ومن ناحية أخرى أن قوله تعالى: {َقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} من باب التهييج ولم يتعرض للزمن فلا دليل فيه على النسخ وحصار ثقيف أجاب عنه في فتح القدير للشوكاني بأنه كان امتداد لحرب بدأت في شوال ابتدأ بها هوازن ثم لجأوا إلى الطائف فامتد الحرب من شوال إلى الأشهر الحرم. ويقول: فرق بين البداءة وبين الامتداد، فالبداءة محرمة بخلاف الامتداد.

ص: 188

أخبار الجامعة

انضم إلى هيئة الأطباء في مستوصف الجامعة الإسلامية الدكتور مصطفى إبراهيم مصطفى بكالوريوس في الطب والجراحة من الجامعة المصرية بعد أن تعاقدت معه إدارة الجامعة للعمل في المستوصف التابع لها. وقد باشر عمله فور وصوله حيث انضم إلى الهيئة الطبية العاملة لدى المستوصف.

تعاقدت إدارة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مع الأساتذة الآتية أسماؤهم وذلك للانضمام إلى هيئة التدريس التابعة لها للعام الدراسي 90-91هـ وهم:

اسم المتعاقد

جنسيته

مؤهلاته

1-

الأستاذ يوسف عبد الرحمن الضبع

مصري

درجة الأستاذية

2-

الشيخ محمد محمد الدهان

مصري

ماجستير

3-

الشيخ محمد محمد الليثي أبو فرحة

مصري

ماجستير

4-

الشيخ يوسف إبراهيم خليل

مصري

ماجستير

5-

الشيخ محمود عبد الحليم الرفاعي

مصري

ماجستير

6-

الشيخ محمد سيد أحمد الشال

مصري

ماجستير

7-

الشيخ سعد عبد الرحمن سليم ندا

مصري

شهادة كلية الحقوق

8-

الشيخ عبد القوي عبد المجيد فضل الرحمن

باكستاني

شهادة علمية

ص: 189

موسوعات الفقه الإسلامي أو معاجم القوانين الفقهية

لفضيلة السيد محمد المنتصر الكتاني

المستشار العام لرابطة العالم الإسلامي

والمدرس في الجامعة الإسلامية سابقا

تقنين الفقه بجميع مذاهبه منذ عصر الصحابة إلى عصر تجميد الاجتهاد، أي القرون الخمسة الأولى، قرون الخير والنور وإمامة العلوم وسيادة المسلمين للعالم، تقنين الفقه صناعة عربية إسلامية عنَّا أخذها الأجانب وكان الأندلسيون هم رواد المسلمين والعالم فيها.

فأبو محمد ابن حزم الأندلسي إمام فقه الحديث، وقد عاش ما بين عام (384) وعام (456) هو الرائد الأول لتقنين الفقه، فقد وضع كتابا يعتبر أول موسوعة فقهية جامعة وأول معجم شامل لجميع مذاهب الفقه وهو: كتاب الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام وسائر الأحكام على ما أوجبه القرآن والسنة والإجماع. قال عنه مؤلفه ابن حزم في المحلي: "قد جمعنا فيه كل ما روي من نصوص القرآن والسنة والإجماع، منذ أربعمائة عام ونيف وأربعين عاما من شرق الأرض إلى غربها".

وقال عنه تلميذه الحافظ الحميدي في جذوة المقتبس: "أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين في مسائل الفقه والحجة لكل طائفة وعليها والأحاديث الواردة في الصحيح والسقيم بالأسانيد وبيان ذلك كله وتحقيق القول فيه".

وذكر معاصر ابن حزم الحكيم صاعد الأندلسي في كتابه أخبار الحكماء أنه رأى كتاب الإيصال في أربعة وعشرين مجلدا بخط مؤلفه ابن حزم قال: "وكان خطه في غاية الإدماج". يريد بالإدماج الخط الدقيق المرصوص، الذي لو كتب بخط أوسع لأخذ مسافة أكبر ولبلغ مجلدات أكثر.

وقال الحافظ الذهبي في سير النبلاء: "كتاب الإيصال في خمسة وعشرين ورقة".

ويعتبر هذا الكتاب ضائعا بين ما ضاع من كنوز وتراث الفردوس المفقود: الأندلس.

ص: 190

ولكن إذا ضاع الإيصال فقد بقيت لنا صورة مصغرة عنه وهو مختصره لابن حزم المؤلف نفسه وأعني به: كتابه المحلي وقد طبع ثلاث مرات.

فالمحلي مختصر الإيصال في أحد عشر مجلدا مات ابن حزم وهو يؤلفه وقد وصل فيه إلى ثنايا المجلد العاشر فأتمه ولده الشهيد الفضل أبو رافع أمير ولاية مالقة الأندلسية أتم العاشر وكتب المجلد الحادي عشر والأخير منه، اختصر من الأصل الجامع كتاب أبيه الإيصال.

وبمعرفتنا للمحلي عرفنا الإيصال فالمحلي دون مواد قانونية باسم مسائل يبلغ عددها (2308) مسألة منها ما هو في عشر صفحات وفي عشرين، وفي ثلاثين، وفي أكثر من ثلاثين، وهي مواد مستقلة أشبه برسائل محررة مستقلة في بابها، وصفحاتها (4388) صفحة.

والإيصال في خمسة وعشرين ألف ورقة كما قال الحافظ الذهبي: أي خمسون ألف صفحة، ومعنى هذا أن المحلي اختصر فيه الإيصال إلى أقل من عشره، ومعنى هذا أيضا أن مسائل الإيصال تبلغ (23080) مسألة وإذا كان المحلي وهو المختصر للإيصال قد طبع في أحد عشر مجلدا فمعنى ذلك أن الإيصال إذا عثر عليه وطبع يخرج في أكثر من مائة مجلد بعدة مجلدات.

والرائد الثاني لتقنين الفقه الشهيد أبو القاسم بن جزي الأندلسي الإمام المالكي، وقد عاش بين عام (693) وعام (741) فقد وضع كتابا - طبع أكثر من مرة - في فقه أئمة المذاهب الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسماه:"القوانين الفقهية".

والعودة إلى تقنين الفقه مسألة مسألة كما دون في العصر الخامس، ومادة مادة كما دون في القرن الثامن، هي عودة ضرورية ملحة، توجبها العقيدة والتزام الثبات عليها ويوجبها العلم والتزم الدعوة إليه.

ص: 191

توجبها العقيدة والتزام الثبات عليها: نحن اليوم نعيش في غزو فكري، الغزاة فيه وحوش ضارية، هم أشد ضراوة من الغزاة العسكريين، فهؤلاء استهدفوا الأرض قرونا أو قرنا وبعض قرن وفي النهاية طردوا منها أشلاء صاغرين وقامت على تلك الأرض دول إسلامية تشهد بشهادة التوحيد وتستقبل كعبة المسلمين، أما غزاة الفكر فقد استهدفوا المسلم نفسه لا أرضه فقط، فغزوا مخه وقلبه وعشعشوا فيهما وعنكبوا، باض فيهما وفرخ سرطان تمكن من عقيدة الإسلام وفقه المسلمين، فحوَّلهما إلى عقيدة الكفر وفقه الشياطين.

حررت أرض المسلمين من الغزو العسكري، وقامت جيوش وحكومات إسلامية مكان ذلك الغزو، ولكنها بألسنة عربية وقلوب أعجمية كما أنذر نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

فقد تكهن شيطان من شياطين الغزو العسكري، وقد فشل في غزوه وهلك شريدا طريدا بأن فتوحاته ستعود ما انتشر قانونه ودام فقهه، وأعني به نابليون، فقد تكهن قائلا:"ستمتد فتوحاتي حيث يصل قانوني".

{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وهذا الفريق على قلَّته بين المسلمين، قد أخذ إبليس بقانونه النابليوني ينتقص من أطراف فقهه، في مؤسسات وشركات وأنظمة.

أما العالم الإسلامي في أكثره فقانون نابليون بكفره وظلمه وكثرة فسوقه قد غزاه وحكمه حكومات وشعوبا ولا تزال كليات الحقوق في جامعاتهم تجمع لإبليس طلابا وتخرِّج له أساتذة ودكاترة، يحلُّون قوانينه محلَّ فقه الإسلام، {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} .

وكثير من هؤلاء لو يقرب لهم الفقه بما اعتادوه من تقنين ووسائل لعادوا إليه عود الغريب لأهله والشارد إلى قومه.

ص: 192

والطريق لهذا التقريب هو تدوين موسوعة للفقه جامعة لكل قضاياه شاملة لكل مذاهبه وتكون هذه الموسوعة معجما، بمعنى أنها تدوِّن مواد ومسائل مرتبة على حروف المعجم: أب ت، ففقهنا المدون أبوابا وفصولا مع كثرة الاستطراد فيه وذكر الكثير من القضايا في غير مظانِّها حين يعاد تصنيعه على حروف المعجم: أب ت، وتستقصى في هذا المعجم جميع المذاهب في العصور الفاضلة نكون قد يسرنا الفقه على المختص، وقربناه لغير المختص، وأبرزنا كنوزه ومعادنه الثمينة لجميع الناس في العالم، مسلمين وغير مسلمين ونكون بذلك دعاة إلى الإسلام الدين الحق، ومعلمين للعلماء حقائق الحلال والحرام، وقضاة عادلين محاربين للظلم والظلمة وناشرين للحق والعدالة بين البشر في جميع ما شجر بينهم.

وبظهور معاجم الفقه الإسلامي، ندفع عنه ما قذفه به كفرة المستشرقين وجهلة المسلمين من أنه فقه بدائي وإنما انتشر واتسع في بغداد بقانون حمورابي والفرس والرومان باسم القياس.

وبظهور معاجم الفقه الإسلامي، وما اشتملت عليه من مجلدات في فقه الصحابة والتابعين قبل أن تكون بغداد وقبل أن يولد أئمتها نثبت للناس أن فقه الإسلام هو فقه الإسلام وكفى بهذا الوصف كشفا وسمة فهو مستنبط من القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين، وما زاد عليها فهو فروع عنها، ومستخرج منها خروج الجنين من بطن أمه.

المعاجم:

دونت أكثر العلوم الإسلامية على حروف المعاجم، فهرس القرآن الكريم وأنفع فهارسه وأدقها المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي ودونت السنة وأشهر مدوناتها المعجمة وأنفعها جامع الأصول لابن الأثير، وفي اللغة أجمعها لسان العرب لابن منظور وفي تراجم الرجال كتب الحافظ: الإصابة في الصحابة وتهذيب التهذيب في رجال كتب الحديث الستة.

معاجم الفقه:

ص: 193

وأول من فكَّر في إخراج معجم موسوعة للفقه كلية الشريعة بجامعة دمشق منذ ستة عشر عاما أسست لذلك لجنة بمرسوم جمهوري وبعد قيامها بسنتين حَضَرتُ من المغرب وضُمِمْت لها بمرسوم فكان التخطيط لتدوين الموسوعة أن يُسْتَكْتَبَ لها فقهاء من مختلف أقطار العالم الإسلامي فعارضت هذه الخطة لثلاث علل:

العلة الأولى: إن ما سيكتب لو كتب سيكون غير متناسق ولا منسجم وسيكون ابن جماعة هجينا.

العلة الثانية: من كيان الموسوعة الأساسي أن لا يكون للفقيه الكاتب فيما يكتبه رأي خاص لا بتقديم ولا بترجيح. لا برفض ولا بقبول وإنما هو مصوِّر للفقه كما هو عند أئمته دون تدخل بينهم وإلا كان من يفعل ذلك مدوِّنا فقهاً لنفسه ومذهباً له والموسوعة لم تجعل لفقه نفسه ولا لمذهبه.

العلة الثالثة: فقهاء الموسوعة وكتابها لبعدهم عن بعض وعدم اجتماعهم سيبقى فهم تدوينها وتحريرها بينهم ضائعا مما سيكون سببا لعدم استجابتهم للكتابة وهذا الذي حدث.

قال لي زملاؤنا من أعضاء الجنة: "وما الخطة التي تراها أنت؟ "قلت: "توضع لكل قضية عامة من قضايا الفقه كلمة أصلية تشمل كلمات فرعية ويحرص على أن ينتقي لذلك كلمات ذات دلالة ماسة بالقضية ودالة عليها بالتحديد مع المحافظة على النص الفقهي ما أمكن إلا إن كان غامضا فيوضَّح أو متشعبا فليخص ولا تترك مفردة فقهية يكون لها معنى خاص ومصطلح عليه إلا وتفرد بكلمة أصلية أو فرعية".

وكمثال لذلك أثبتهم بأوراق رسمت فيها هذه الخطة فوافقوا عليها مجمعين بكتابة قرار لا أزال أحتفظ به فاخترت كتاب المحلي لابن حزم لعدة أسباب منها: أن فقهه فقه لجميع المذاهب، فهو سيكون من أجل ذلك صورة مصغرة عن الموسوعة المكبرة وسميته معجم فقه ابن حزم الظاهري.

وهكذا بعد ستة أشهر تممته في مجلدين ضخمين وطبع بعد ذلك بسنوات بمطبعة جامعة دمشق عام 1385 هـ باسم لجنة موسوعة الفقه الإسلامي.

ص: 194

وقد قال عنه الأخ المحترم العلامة مصطفى الزرقاء رئيس اللجنة إذ ذاك في مقدمة للتعريف بالمعجم: فقام الأستاذ المنتصر بالعبء خير قيام. ثم لما بدأ الأستاذ المنتصر العمل جدَّت له فكرة جديدة هي أن يقوم بتسجيل خلاصة الحكم الفقهي الذي يستقر عليه ابن حزم في كل موضوع، وبذلك يصبح أشبه بموسوعة فقهية مصغَّرة. وقد استحسنتْ اللجنة هذه الفكرة لما تنطوي عليه من نفع كبير. ولكن عظم الفائدة المرجوَّة من هذا العمل الجليل غطَّى على اللجنة ما فيه من مشقة، فقررت أن يتابع الأستاذ الكتَّاني العمل على هذا الأساس ففعل مشكورا. وأمدته اللجنة بالأعوان في مراحل عديدة من العمل.. وظاهر للناظر أن هذا عمل مبتكر في حقل الفقه الإسلامي لم يسبق أن وجد له نموذج. فقد تبين عند الانتهاء منه أنه أصبح يمثل شبه موسوعة للفقه الإسلامي فهو يقدم للباحثين من أهل القانون والفقه الأحكام الفقهية التي يبحثون عنها.

وبعد وحدة دمشق والقاهرة انضم على لجنة دمشق أعضاء مصريون بانتقائنا، هم من كبار علماء مصر، وضعنا جزء نموذجيا طلب إلينا إنجازه بإلحاح ليظهر في مناسبة خطابية رسمية دورية، فكتبناه على الخطة الأولى التي لم أؤمن بها وهي الاستكتاب، فكان جزءا نموذجيا حقا في العلل الثلاث التي ذكرتها عن الخطة الاستكتابية: الهجنة في عدم انسجام مواده والتفاوت بين الفقهاء الكتاب في كل ما كتبوه وقلة من شارك فيه وكلهم من اللجنة الجديدة السورية والمصرية وليس من غيرهم سوى الفقير المحاضر فقد شارك بكتابة مادة: المعادن. وعن نفسي أتحدث قبل أن يتحدث عني غيري، ذهبت فيها إلى أن المعادن لا تملك ولو شئت أن أعيد عنها الكتابة الآن وأقول: إن المعادن تملك لما أعوزتني النصوص، وهكذا على كل من شارك في هذا الجزء النموذجي لهذه المعاني بحق من جميع زملائنا وإن كنا لم نقصد ذلك ولكن الخطة المكتوب بها هذا الجزء تفرض ذلك بطبيعتها.

ص: 195

وقد طبع هذا الجزء في القاهرة سنة 1381 هـ باسم: موسوعة جمال عبد الناصر في الفقه الإسلامي.

وخلال هذه السنوات تابعت موسوعة مصر الرسمية عملها فأصدرت ستة أجزاء أخرى بنفس العنوان ولكن زادت علة رابعة في فساد تلك الخطة، صدرت هذه الأجزاء الستة ولم يذكر فيها اسم لأحد من كتابها الفقهاء. ومتى قيل العلم رواية مجهول؟ لا يدري من هو؟ وما تقواه؟ وما علمه؟ الحديث النبوي على قدسيته إذا أداه لنا مجهول رفضناه، وأغفلنا قدسيته، فكيف يفهم فقيه واستنباط نكرة لا تعرف لها حقيقة؟ أنعتمد في العقائد والحلال والحرام واستباحة الدماء والفروج والأموال على مجاهيل؟ فلابد من معرفة العالم لنزنه بموازين العلماء، دينا وثقة وضبطا، ولم يكن ذلك كذلك، فستكون كل موسوعة كتبها مجهول أو مجاهيل موسوعة مهدورة وجهود أصحابها ضائعة.

وعلى خطة الموسوعة المصرية الرسمية الفقهية صدرت موسوعة شعبية مصرية أيضا بإشراف صديقنا عالم مصر الشيخ محمد أبو زهرة رأيت منها مجلدا.

وعلى خطة الموسوعتين المصريتين صدرت نشرتان في الأشربة والأطعمة لموسوعة فقهية في الكويت تحت إشراف صديقنا المحترم الشيخ مصطفى الزرقاء.

معاجم الفقه العامة:

وطريقتنا نحن في تدوين الموسوعة الفقهية قد أصبحت واضحة مجسمة بصدور معجم فقه ابن حزم والنسج على منواله في إخراجها.

معاجم مفردة لفقه الأئمة الأربعة:

أولا:

معجم فقه أبي حنيفة ومعجم فقه مالك معجم فقه الشافعي معجم فقه أحمد. ثم معاجم لفقه الأئمة الذين لم تدون مذاهبهم: كعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك وداوود بن علي ومحمد بن جرير وأبي ثور وأمثالهم لكل واحد منهم معجم مستقل بمذهبه.

ثم معاجم لفقه التابعين وتابعيهم:

ص: 196

الحسن البصري ـ وقد جمع فقهه في سبعة أسفار ضخام الحافظ بن مفرج الأندلسي وقد عاش بين سنتي 315-380 هـ والسعيدان: ابن المسيب وابن جبير والسفيانان: ابن عيينة والثوري والحمادان: ابن سلمة وابن زيد وابن شهاب الزهري ـ وقد جمع فقهه الحافظ ابن مفرج الأندلسي أيضا في ثلاثة أسفار ضخام، وعمر بن عبد العزيز وأمثالهم، لفقه كل واحد منهم معجم.

ثم معاجم لفقه آل البيت:

علي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس ـ وقد جمع فقهه سليله أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث: أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون العباس، جمعه في عشرين كتابا وقد عاش بين سنتي 268-342 هـ والحسن بن علي وسليله عبد الله الكامل، والحسين بن علي وذريته: زين العابدين وزيد بن علي والباقر والصادق، والعباس بن عبد المطلب وسليلاه: سليمان بن داوود والعباس بن عبد الله، لفقه كل واحد منهم معجم.

ثم معاجم فقه الصحابة:

عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت، وذكر ابن حزم في الأحكام وفي جوامع السيرة سبعة من الصحابة هؤلاء، وعليا وابن عباس وعائشة وقال: يمكن أن يجمع من فقه كل واحد منهم سفر ضخم. ثم فقه أبي بكر وعثمان وباقي عشرين من الصحابة قال عنهم ابن حزم: يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جدا ثم جزء لباقي فقهاء الصحابة. وذكر اسماء جميع فقهائهم في جوامع السيرة فبلغوا (162) فقيه وقد قال ابن حزم: "وقد روى عن فقهاء الصحابة أزيد من عشرين ألف قضية".

ثم معاجم فقه أئمة النساء صحابيات وتابعيات:

معجم فقه عائشة أم المؤمنين ثم معجم لفقه فاطمة بنت رسول الله وفقه أمهات المؤمنين ثم معجم لفقه عمرة بنت عبد الرحمن وباقي التابعيات.

ص: 197

وقد أشرفتُ في جامعة دمشق على إخراج فقه السبعة المكثرين من الصحابة، لسبعة من خريجي كلية الشريعة بها، فكان نصيب فقه عائشة لطالبة هي اليوم تعتبر داعية الإسلام في الشام وعالمة نسائها هي الآنسة منيرة الفبيسي وباقي السبعة المتخرجين هم اليوم بين زملاء أساتذة جامعين وبين دكاترة في علوم الشريعة وقضاة في المحاكم.

وهذه المعاجم تفيد بمفردها في المناطق التي تتمذهب بفقه أحد أئمتها الأربعة وكزيد بن علي وجعفر الصادق، تفيدهم للعلم والدراسة وتفيدهم لاختيار الدساتير الإسلامية منها، والقوانين الموحدة الملزمة حكما وقضاء وفتوى.

وبعد الانتهاء من تدوين جميع هذه المعاجم لفقه الصحابة والتابعين والأئمة الذين لم يدوَّن فقههم والأئمة الذين دوِّن فقههم وفقه آل البيت وفقه أئمة النساء، تأتي المرحلة الثانية وهي:

دمج جميع هذه المذاهب في كتاب واحد على نفس الطريقة المعجمية: أب ت باسم معاجم الفقه الإسلامي.

معجم الحديث:

والمرحلة الثالثة هي جمع جميع أحاديث الأحكام مرتبة على حروف المعجم كذلك وتكون هذه الأحاديث ذات عناوين مفردة لكل حديث كلمة أصلية، تحتها كلمات فرعية ذات دلالة فقهية خاصة، ولتكون هذه الأحاديث مع آيات الأحكام الدليل المرجوع إليه عند تضارب المذاهب وتغاير الأحكام في القضية الواحدة لاختيار حكم واحد من بينها، يسنده الدليل ويعززه على أن يُخرج كل حديث منها ويذكر بجانبه من صحَّحه أو ضعَّفه أو من زكَّى جميع رجاله أو جرَّح أحدهم.

ص: 198

وكنت أشرفت في لجنة موسوعة الفقه الدمشقية على جمع جميع أحاديث البيوع، فخرجتْ في ثلاثة أجزاء، وأعجلتنا الفتن العقائدية عن مراجعتها وإعطاء عناوين أصلية لوحداتها وفرعية لكل حديث منها، فأخرجتنا عن الشام حيث نقيم بين المملكة العربية السعودية وبين الكويت، بعد أن مات ثلاثة من خيرة زملائنا في اللجنة وهم الدكاترة مصطفى السباعي ويوسف العشي وأحمد السمان رحمهم الله وغفر لهم.

وقد وضعنا في المعجم الظاهري كلمات ليس لها في كتب الفقه أبواب أو فصول مستقلة وأن يكون لها أحكام مبعثرة في ثناياها ومستطردة، ومنها كمثال: إجهاض وتشريح وفضول المال.

وطريقتنا هذه في المعاجم الموسوعة أثنى عليها بكتاب مستقل ودعا لها ونوَّره بها فيه وأسماه: تراث الفقه الإسلامي ومنهج الاستفادة منه على الصعيدين الإسلامي والعالمي دعا لها وساندها مؤلف هذا الكتاب: الدكتور جمال الدين عطية، فقال بعد أن تحدث عنها في أوراق منه وفي عدة صفحات خص بها الحديث عن معجم فقه ابن حزم:

"ونرى أن يكون منهج العمل، في معاجم أمهات الفقه على مثال ما تم بالنسبة لمعجم فقه ابن حزم الذي يتميز في رأينا بميزتين أساسيتين:

1-

أنه أورد خلاصة وافية لرأي ابن حزم في كل مسألة.

2-

أنه أرجع مباحث كل كلمة إلى رقم المسألة من كتاب المحلي".

وكتاب الدكتور عطية في 104 صفحات.

وسيكون (معاجم الفقه الإسلامي) هذا بعد قيامه كتاب دراسة لجميع مراحل التعليم الثانوي والجامعي والعالي ومنه يأخذ كل ما يحتاجه وما يتفق ومنهاجه وبرامجه.

ومنه ستختار الحكومات الإسلامية بواسطة علمائها وقضاتها ورجال الحكم فيها دساتيرها وقوانينها العامة والخاصة الداخلية الخارجية إن شاء الله.

ص: 199

وقد استبعد بعض زملائنا وأصدقائنا من أساتذة الجامعات والعلماء إمكان تنفيذ هذه الطريقة وتحقيقها في الماضي ولكن حين رأوها متمثلة في معجم فقه ابن حزم تلاشى استبعادهم وآمنوا بتحقيق تنفيذها وإذا أعان الله فسنعيده وسيكون بعد تجديده ثلاث مجلدات بدل مجلدين، إذ لا تزال فيه نواقص ككل عمل في البداية حين يبتكر.

ولا يزال بعض العلماء مع كل ذلك يستبعد جمع فقه الصحابة والتابعين والأئمة المنقرضة مذاهبهم ولهؤلاء أقول:

يمكننا بكل يسر وسماحة وبلا كبير تعب ومشقة في عصرنا هذا الرابع عشر، أن نجمع فقه الصحابة والتابعين وأولئك الأئمة ونصل بها - في معاجم - لما قدره لها ابن حزم من خبرة له مؤكدة واطلاع تام ولعل المصادر المتاحة لنا اليوم لم تكن متاحة كلها لابن حزم، فما علينا إلا أن نحضر من التفاسير أمثال كتب ابن جرير والبغوي والقرطبي وابن كثير والسيوطي وأمثال كتب الحديث: الموطأ لمالك وسنن الترمذي والدراقطني والبيهقي ومصنف ابن أبي شيبة وشروح الحديث: فتح الباري للحافظ وشرح مسلم للنووي ومعالم السنن للخطابي وطرح التثريب للعراقي ونيل الأوطار للشوكاني وسبل السلام للصنعاني وكتب ابن حزم: المحلى والإحكام والملل والنحل وجمهرة الأنساب ومراتب الإجماع وتقريب المنطق وجوامع السيرة والرد على ابن التغريلة ورسائله المجتمعة والمتفرقة والمجموع للنووي والمغني لابن قدامة والبحر الزخار لابن المرتضى والروض النضير للحسين الصنعاني وأشباهها ونظائرها من الكتب كثيرة، تطولها كل يد دارسة ولعل المصادر التي بين أيدينا من ذلك توصلنا لأن نضع بين يدي الفقهاء من فقه الصحابة والتابعين وهؤلاء الأئمة أكثر مما قدره له ابن حزم.

وقد سبق لي أن قلت هذا أو شبيهه في مقدمة تخريجي بالمشاركة لأحاديث فقه الحنفية، منذ سنوات وهو مطبوع متداول بين أيدي الناس في أربع مجلدات.

ص: 200

وبعد، فإن قيام هذه (المعاجم لموسوعة الفقه الإسلامي) سيبقى دينا في ذمة الدول الإسلامية ملوكا ورؤساء وحكومات ودينا في ذمة الجامعات الإسلامية إدارة وأساتذة وموجهين ودينا في ذمة القضاء محاكم وحكاما وقضاة.

والذي سيسعده الحظ من الملوك والرؤساء المسلمين سيكون نابليون المسلم الذي سيقول بملء فيه: ستنتهي فتوحاتي حيث يصل قانوني. والمنتظر أن يكون القائم بذلك فيصل خادم الحرمين الشريفين ومنزلي الوحي ومولد صاحب الشريعة ومرقده صلوات الله عليه، فمن أولى بذلك منه فلا يزال في مملكته للحدود سلطان وللشريعة محاكم وقضاة.

نريد أن نسمع قريبا: قانون فيصل، بدل قانون نابليون.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} .

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} والحمد لله رب العالمين.

التعليق على محاضرة السيد المنتصر

محاضرة لسماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

أما بعد، فإنا نشكر الأستاذ الكبير والعلامة الشهير الأخ الشيخ المنتصر الموفق.

نعم، لقد أجاد أخونا العلامة وأفاد وأحسن فيما ذكر واقترح، وإنّ ما ذكره عن الموسوعات القديمة الفقهية ولاسيما موسوعة العلامة الكبير أبي محمد بن حزم المسماة بالإيصال، لا شك أن هذه الموسوعة موسوعة عظيمة وإن لم توجد، فقد بقي ووجد مختصرها الذي يدل على علم المؤلف الواسع وعظم عنايته وسعة اطلاعه.

ص: 201

وإني أؤيد فضيلة الأستاذ فيما ذكر من الاقتراح ومسيس الحاجة إلى معاجم متعددة لفقه الإسلام وإن الحاجة ماسة بل شديدة جدا إلى جمع أقوال علماء الإسلام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأعلام رضوان الله عليهم جميعا. وإن إيجاد معاجم لفتاواهم وأحكامهم ليس ذلك واجبا فقط وإنما ذلك مفيد جدا ونافع كثيرا، وقد أجاد فضيلته في بيان حاجة الناس لذلك وإن هذا القانون وهذه المعاجم سوف تفيد العالم كله الإسلامي وغير الإسلامي وحاجة المسلمين أنفسهم إلى تراثهم العظيم على نقاوته وصفائه من معادنه لا شك حاجة عظيمة، ومن استبعد وجود ذلك وإمكان ذلك فإنما ذلك من عدم العناية بهذا الأمر والتدبر له والتفكير فيه تفكيرا جدَّيا، وإنه كما قال الأستاذ ليس بعسير ولا مستحيل، بل ممكن إذا فُرِّغ له العلماء المتبصرون والمتحمسون لهذه الفكرة فإن الحصول عليه وإمكان جمعه أمر ممكن بلا شك، وإني أقترح أن يكون ذلك من طريق تكوين لجنة من أهل العلم المتبصرة في الفقه الإسلامي ممن يفرغون في مكان واحد ليجمعوا هذه المعاجم بادئين بفقه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ثم التابعين وهكذا وفي الإمكان أيضا أن يتشاوروا ويدرسوا الموضوع دراسة جدية على ضوء الدراسات السابقة التي أشار إليها محاضرنا وعلى الطريقة الجيدة الحسنة التي سلكت في وضع المعاجم كما أن في الإمكان أن ينظروا في ذلك من جهة أخرى من جهة البدء بمعاجم الصحابة أو غيرهم، كل ذلك ممكن إذا فرغ له العلماء المبصرون المعوَّل عليهم في الفقه الإسلامي ممن لهم سمعة حسنة ومعرفة جيدة في هذا الباب.

ص: 202

وكما أن الناس في حاجة إلى جمع نصوص الفقهاء والعناية بها مرتبة على أحرف المعجم فكذلك هم في حاجة إلى ترتيب ما لم يرتب من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ونشر ما رتب والعناية بالتصحيح والتضعيف، حتى يكون الناظر في ذلك على بينة وعلى بصيرة من أمر الحديث الشريف من جهة الصحة والضعف والوضع وغير ذلك ولابد من الإشارة إلى تكوين لجان متعددة، لجنة لكذا ولجنة لكذا ولجنة تقوم بإعداد الترتيب الكافي المناسب لما يتعلق بالأحاديث ولجنة تكون لما يتعلق بفقه الصحابة ولجنة أخرى لفقه التابعين وهكذا على حسب الإمكان واليسر من جهة وجود العلماء الذين يصلحون لهذا الغرض.

ومن أهم الأمور في هذا الباب العناية بصحة الفتاوي والنظر في أسانيدها إلى من نسبت إليه فإن هذا أمر عظيم فقد تنسب الفتوى إلى شخص هو براء منها وتنسب الفتوى إلى شخص لم يقلها كما نسبت وإنما قال شيئا منها فيزيد فيها وينقص. فالحاجة ماسة إلى العناية بأسانيد الفتوى عمن نقلت عنه من الصحابة وغيرهم وعن المرجع ومكانها في الصفحات والطبعات، وغير ذلك، حتى يكون المراجع والمطالع على بينة وعلى هدى وعلى بصيرة في ذلك كله. وكما أن العلماء محتاجون إلى ما دوِّن في الحديث الصحيح والتفسير فكذلك هم محتاجون أيضا إلى معرفة صحة الفتاوى عمن نسبت إليه من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، وعدم صحتها حتى يكون الناقل لها والناظر فيها على بصيرة. وقد علمنا وعلم غيرنا فتاوي كثيرة تنسب لكثير من أهل العلم ولا صحة لها، وقد علم الناس ما لدى الشيعة في كتبهم وغير الشيعة من فتاوي تنسب إلى أهل البيت تحتاج إلى تمحيص وإلى عناية والواجب في هذا، يتثبت في كل شيء.

ص: 203

فالذي ينسب للأئمة من الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعا وغيرهم من أئمة الصحابة وعلماء الصحابة يجب أن يكون العناية به أكبر ثم هكذا التابعون والأئمة بعدهم، وبخصوص ما ينسب لأهل البيت ينبغي أن يمحص وينظر في أسانيده حتى ينتفع في ذلك من أراد الله هدايته وتوفيقه إلى معرفة الصحيح والصواب فيما ينسب إلى أهل البيت كما ينتفع أيضا من ينتسب إلى الشافعي وإلى مالك وإلى أبي حنيفة وإلى أحمد بما يوقف عليه من الفتاوي بأسانيدها ودلائل صحتها أو ضعفها حتى يكون ذلك الشخص أو تلك الجماعة على بينة فيما ينسب إلى مذهبهم وإلى إمامهم وقد تكون أمور كثيرة في مسائل فقهية يوجد الشيء وضده فيها فتحتاج إلى بحث وتمحيص إلى أن يوجد السند القوي أو الأصل المعتمد في صحة ذلك الحكم وتلك الفتوى فالحاصل أن ما ذكره أخونا العلامة الشيخ المنتصر في هذا الباب حقيق بالعناية ولا شك أنه قد أصاب في ذلك ولا شك أن هذا العمل أمر عظيم ومشروع جليل يحتاج إلى عناية كبيرة وإلى علماء معروفين بالأمانة والنصح والصدق والبصيرة والعلم حتى يطمئن الناس إلى علمهم وإلى صحة ما ذكروا من الحديث والفقه والفتاوى.

ص: 204

وفي الجامع الصحيح للبخاري رحمة الله عليه من الآثار والأحاديث ما ينفع جدا هذا السبيل كما هو في كتب السنة وكتب الأحاديث المعروفة من الآثار والعلوم الكثيرة ما ينقع في هذا الباب وفي كتب الفقه كالمحلى والمغني وغيرهما من الفوائد العظيمة والآثار الكبيرة ما ينفع في هذا الباب أيضا، والحاصل أن هذا ممكن بحمد الله وليس بعسر ولا مستحيل إذا أوجد له الرجال الأكفاء وإذا هيئت له الأسباب وفرَّغوا لهذا الأمر. وإن أولى الناس بهذا الأمر ولهذا المشروع العظيم هو كما قال الأستاذ حاكم هذه البلاد وإمام المسلمين فيصل بن عبد العزيز وفقه الله وهداه إنه أولى الناس بهذا المشروع والعناية به وإخراجه إلى حيز الوجود لإيجاد علماء صالحين لهذا الغرض متفرغين يعنون به ويكرِّسون جهودهم ويمنحونه ما لديهم في هذا الباب مستعينين بالله سبحانه وتعالى ثم بإخوانهم بقية العلماء في كل ما يهم في هذا السبيل من المراجع والمحفوظات وغير ذلك.

وأسأل الله أن يجزي محاضرنا عن محاضرته خيرا، وأن يبارك في جهوده وعلومه وأن ينفع به وبسائر علماء المسلمين الأمة الإسلامية وأن ينصر بهم الحق ويدحض بهم الباطل وأن يجمع علماء المسلمين وولاة أمرهم على الحق والهدى ويصلح عامة المسلمين جميعا ويهديهم سواء السبيل ويصلح ويوفق قادتهم لحكم الشريعة والتحاكم إليها وتسهيل سبيل ذلك إنه على كل شيء قدير، وصلى لله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

ص: 205

مقابلة مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية

الشيخ محمد بن ناصر العبودي

أجاب فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد العبودي على أسئلة مندوب مجلة اليمامة ((حول الجامعة الإسلامية)) .

ونظرا لأهمية الحديث وما يلقيه من أضواء على هذه الفكرة، رأت مجلة الجامعة نشره فيما يلي:

قال مندوب مجلة اليمامة موجها خطابه إلى فضيلة الأمين العام:

س1- كم عدد المدرسين والطلاب بالجامعة خلال العام الحالي 90-91هـ في مختلف مراحل الدراسة وكم عدد الكليات حاليا، ومن كم دولة إسلامية يتكون الطلاب؟

ج1- عدد أعضاء هيئة التدريس في المرحلة الجامعية والأقسام التابعة للجامعة هذا العام (71) واحد وسبعون مدرسا.

أما عدد الطلاب الدارسين في المرحلة الجامعية والأقسام التابعة للجامعة في هذا العام فقد بلغ ألف وثلاثة وأربعين طالبا.

وفي الجامعة حاليا كليتان، كلية الشريعة وقد أنشئت في عام 1381هـ وكلية الدعوة وأصول الدين وقد أنشئت عام 1386هـ.

وينتمي طلاب الجامعة إلى خمسة وسبعين قطرا من أقطار العالم.

س2ـ ما هي المراحل التي يتم بها قبول الطالب واستقدامه للدراسة في الجامعة من أي بلد إسلامي في العالم؟

ص: 206

ج2ـ توزع المنح الدراسية من قبل مجلس الجامعة في كل عام دراسي على الأقطار الإسلامية والبلاد التي يوجد فيها مسلمون حسب الحاجة وكثرة السكان وتبلغ بذلك وزارة الخارجية لإعلان ذلك بواسطة سفارات وممثليات جلالة الملك في الأقطار التي خصصت لها مقاعد ويقبل لشغل هذه المقاعد الطلاب الذين تتوفر فيهم شروط الالتحاق بالجامعة لكل مرحلة من المراحل الدراسية فيها حسب الأوراق الثبوتية اللازمة الخاصة بكل طلب إلتحاق، فإن كانت الشهادة التي يحملها قد عودلت مع توفر الشروط تمَّ قبوله وإلا طلب من المؤسسة التي تخرج منها بعث المناهج والأنظمة اللازمة لتجري معادلتها من قبل لجنة المعادلات في وزارة المعارف حسب نظام الجامعة لينظر في أمر قبول خريجيها على ضوء ذلك.

فإذا تمَّ ترشيحه للقبول استقدم على حساب الجامعة الإسلامية بواسطة الخطوط الجوية العربية السعودية.

س3- هناك جهود وخدمات تبذلها الجامعة لطلابها أثناء الدراسة وبعد التخرج فما هي هذه الجهود والخدمات؟

ج3- تستقدم الجامعة الطلاب المقبولين للدراسة فيها على حساب الجامعة وتصرف للطالب في المرحلة العالية شهريا ثلاثمائة ريال (300) وتصرف للطالب في المراحل دون الجامعية مائتين وخمسين ريال (250) في الشهر وذلك بالإضافة إلى الكتب الدراسية مجانا كما تتولى علاجهم وصرف الأدوية لهم مجانا من قبل المستوصف التابع للجامعة وتؤمن لهم وسائل النقل للدخول إلى المدينة والخروج إلى الجامعة يوميا صباحا ومساء وعند تخرُّج الطالب ترحِّله الجامعة كما استقدمته على حسابها بواسطة مؤسسة الخطوط الجوية العربية السعودية وتزويد الجامعة خريجها ببعض الكتب والرسائل التي يجري توزيعها من قبل الجامعة، وتقوم دار الإفتاء بالرياض بالتعاقد مع بعضهم للعمل في أفريقيا بالتدريس ونشر الدعوة الإسلامية.

ص: 207

س4- ممن يتكون المجلس الأعلى للجامعة؟ وكم مرة يجتمع في العام؟ وما هي آخر مرحلة وصل إليها مشروع افتتاح كلية اللغة العربية بالجامعة؟ وكذلك مشروع افتتاح قسم الدراسات العليا بها؟

ج4- يتألف مجلس الأعلى الاستشاري للجامعة من:

أ - رئيس الجامعة الإسلامية ونائبه وزير المعارف أو من ينوب عنه ومدير جامعة الرياض واثنين من هيئة التدريس بالجامعة.

ب - خمسة عشر عضوا يختارهم رئيس الجامعة بناء على ترشيح من نائبه يوافق عليه الرئيس الأعلى للجامعة وهو جلالة الملك ويراعى في اختيارهم تنوع الاختصاص وتمثيل مختلف البلاد الإسلامية وتكون مدة عضويتهم سنتين قابلتين للتجديد، ورئيس الجامعة هو رئيس المجلس، وله أن ينيب عنه من يشاء من الأعضاء عند غيابه، وينعقد المجلس الأعلى الاستشاري بناء على دعوة من رئيسه أو طلب يقدم من ثلث أعضائه، وقد درس المجلس الأعلى الاستشاري مشروع نظام قسم الدراسات العليا في الجامعة ومشروع افتتاح كلية اللغة العربية والآداب المعدين من قبل مجلس الجامعة ووافق عليهما وقد رفع إلى الجهات العليا لطلب الموافقة.

ونرجو أن تصل الموافقة عليهما ويتم التنفيذ قريبا إن شاء الله على الوجه المطلوب.

س5- سؤال يتردد على ألسنة فئة كبيرة من الشباب المسلم الذين لا تسمح لهم الظروف بالانتظام بالجامعة، وهو لماذا لا تتيح الجامعة الإسلامية الفرصة أمام هؤلاء الشباب للانتساب إليها لتحصل الفائدة ويعم النفع؟

ج5- قد درس مجلس الجامعة ثم المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة هذا الموضوع وقرر عدم فتح باب الانتساب للجامعة ووجه ذلك أن الغرض من إنشاء الجامعة ليس هو مجرد الحصول على الشهادة العلمية وإنما المقصود مع ذلك أن يعيش الطالب في جو إسلامي يكسبه أخلاقا كريمة وآدابا سامية.

موعظة

ص: 208

الإمام مسلم وصحيحه

بقلم الشيخ: عبد المحسن العباد

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية

نسبه:

هو الإمام أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري نسبا النيسابوري وطنا، قال ابن الأثير في اللباب في تهذيب الأنساب: القشيري بضم القاف وفتح الشين وسكون الياء تحتها نقطتان وفي آخرها راء، هذه النسبة إلى قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قبيلة كبيرة ينسب إليها كثير من العلماء فذكر جماعة من هؤلاء ومنهم الإمام مسلم، ونسبة الإمام مسلم هذه نسبة أصل بخلاف الإمام البخاري فإن نسبته إلى الجعفيين نسبة ولاء ولهذا لما ذكر الإمام أبو عمر بن الصلاح في كتابه علوم الحديث أن أول من ألف في الصحيح الإمام البخاري ثم الإمام مسلم قال:"أول من صنف الصحيح البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري من أنفسهم".

ولادته:

ولد الإمام مسلم سنة أربع ومائتين كما في خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي وتهذيب التهذيب وتقريبه للحافظ ابن حجر العسقلاني، وكذا في البداية والنهاية لابن كثير، قال بعد أن ذكر وفاته سنة إحدى وستين ومائتين: وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي وهي سنة أبع ومائتين فكان عمره سبعا وخمسين سنة رحمه الله تعالى، ونقل ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان عن كتاب (علماء الأمصار) لأبي عبد الله النيسابوري الحاكم أن مسلما توفي بنيسابور لخمس بقين من شهر رجب الفرد سنة إحدى وستين ومائتين وهو ابن خمسة وخمسين سنة ثم قال: فتكون ولادته في سنة ست ومائتين.

رحلته في طلب العلم وسماعه الحديث:

ص: 210

بدأ سماع الحديث سنة ثماني عشرة ومائتين كما في تذكرة الحفاظ للذهبي، وقد رحل لطلبه إلى العراق والحجاز والشام ومصر، وروى عن جماعة كثيرين أذكر فيما يلي عشرة من الذين أكثر من السماع منهم والرواية عنهم في صحيحه مع بيان عدد ما رواه عن كل منهم كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر في تراجمهم في كتابه تهذيب التهذيب:

1-

أبو بكر ابن أبي شيبة: 1540 حديثا.

2-

أبو خيثمة زهير بن حرب: 1281 حديثا.

3-

محمد بن المثني الملقب الزمن: 772 حديثا.

4-

قتيبة بن سعيد: 668 حديثا.

5-

محمد بن عبد الله بن نمير: 573 حديثا.

6-

أبو كريب محمد بن العلاء ابن كريب: 556 حديثا.

7-

محمد بن بشار الملقب بندارا: 460 حديثا.

8-

محمد بن رافع النيسابوري: 362 حديثا.

9-

محمد بن حاتم الملقب السمين: 300 حديثا.

10-

علي بن حجر السعدي: 188 حديثا.

وهؤلاء العشرة من شيوخ مسلم روى البخاري في صحيحه مباشرة عن تسعة منهم فهم جميعا من شيوخ الشيخين معا إلا محمد بن حاتم فلم يرو عنه البخاري في صحيحه لا بواسطة ولا بغيرها، وقد قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث: ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه.

تلمذته على الإمام البخاري:

ص: 211

يعتبر الإمام البخاري من شيوخ مسلم البارزين الذين لهم دور كبير في إفادته وتمكنِّه في معرفة الحديث النبوي والتثبت في نقل الصحيح. قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام مسلم في كتابه تاريخ بغداد، قلت:"إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه، ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وداوم الاختلاف إليه"، وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر في معرض ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم:"هذا على اتفاق العلماء على أن البخاري كان أجل من مسلم وأعرف بصناعة الحديث منه وإن مسلما تلميذه وخريجه ولم يزل يستفيد منه ويتبع آثاره حتى قال الدارقطني: "لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء"". انتهى.

ومع كون الإمام مسلم تتلمذ على الإمام البخاري ولازمه واستفاد منه لم يرو عنه في صحيحه شيئا ويبدو والله تعالى أعلم أن مسلما رحمه الله فعل ذلك لأمرين:

الأول:

الرغبة في علو الإسناد وذلك أن مسلما شارك البخاري في كثير من شيوخه فلو روى عنه ما رواه عنهم لطال السند بزيادة راو لكنَّه رغبة منه في علوِّ الإسناد وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم روى مباشرة عن هؤلاء الشيوخ تلك الأحاديث التي رواها البخاري عنهم.

الثاني:

أن الإمام مسلما رحمه الله ساءه ما حصل من بعض العلماء من مزج الأحاديث الضعيفة بالأحاديث الصحيحة وعدم التمييز بينهما، فوجه عنايته في تجريد الصحيح من غيره كما أوضح ذلك في مقدمة صحيحه، وإذاً فما كان عند البخاري من الأحاديث قد كفاه مؤونته لأنَّه قد عنى بجمع الحديث الصحيح مع شدة الاحتياط وزيادة التثبت.

تلاميذه:

ص: 212

وللإمام مسلم تلاميذ كثيرون سمعوا منه، كما في تهذيب التهذيب منهم: أبو الفضل أحمد بن سلمة وإبراهيم بن أبي طالب وأبو عمرو الخفاف وحسين بن محمد القباني وأبو عمرو المستملي وصالح بن محمد الحافظ وعلي بن الحسن الهلالي ومحمد بن عبد الوهاب الفراء - وهما من شيوخه - وعلي بن الحسين بن الجنيد وابن خزيمة وابن صاعد ومحمد بن عبد بن حميد وغيرهم.

وروى عنه الترمذي في جامعه حديثا واحدا أخرجه في كتاب الصيام باب ما جاء في إحصاء هلال شعبان لرمضان فقال: حدثنا مسلم بن حجاج حدثنا يحي بن يحي حدثنا أبو معاوية عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحصوا هلال شعبان لرمضان".

قال العراقي -كما نقله عنه المباركفوري في تحفة الأحوذي-: "لم يرو المصنف في كتابه شيئا عن مسلم صاحب الصحيح إلا هذا الحديث، وهو من رواية الأقران فإنهما اشتركا في كثير من شيوخهما". وقد أشار إليه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب وقال: "ما له في جامع الترمذي غيره". وقال الخزرجي في خلاصة تهذيب الكمال: "وعنه الترمذي فرد حديث". انتهى.

وقد رمز في الخلاصة وتهذيب التهذيب وتقريبه عند الترجمة لمسلم لكونه من رجال الترمذي وذلك من أجل هذا الحديث الواحد الذي أخرجه عنه.

نماذج من ثناء العلماء عليه رحمه الله:

ص: 213

تحدث العلماء عن فضل الإمام مسلم واعترفوا له بقوة المعرفة وعلو المنزلة. قال فيه شيخه محمد بن عبد الوهاب الفراء: "كان مسلم من علماء الناس وأوعية العلم ما علمته إلا خيرا". وقال ابن الأخرم: "إنما أخرجت مدينتنا هذه من رجال الحديث ثلاثة هم: محمد بن يحي وإبراهيم بن أبي طالب ومسلم". وقال ابن عقدة: "قلما يقع الغلط لمسلم في الرجال لأنه كتب الحديث على وجهه". وقال أبو بكر ابن الجارودي: "حدثنا مسلم بن الحجاج وكان من أوعية العلم". وقال مسلمة بن قاسم: "ثقة جليل القدر من الأئمة". وقال ابن أبي حاتم: "كتبت عنه، وكان ثقة من الحفاظ له معرفة في الحديث وسئل عنه أبي فقال صدوق"، وقال بندار:"الحفاظ أربعة أبو زرعة ومحمد بن إسماعيل والدارمي ومسلم". وقال إسحاق بن منصور لمسلم: "لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين". وقال أحمد بن سلمة: "رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما". وقال النووي: "وأجمعوا على جلالته وإمامته وعلو مرتبته وحذقه في هذه الصنعة وتقدمه فيها وتضلعه منها". وقال أيضا: "واعلم أن مسلما رحمه الله أحد أعلام أئمة هذا الشأن وكبار المبرزين فيه وأهل الحفظ والإتقان والرحَّالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان والمعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان والرجوع إلى كتابه والمعتمد عليه في كل زمان".

وقال الذهبي في العبر: "أبو الحسين النيسابوري الحافظ أحد أركان الحديث".

مؤلفاته:

قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: "وصنَّف مسلم رحمه الله كتبا كثيرة.

1-

منها هذا الكتاب الصحيح الذي مَنَّ الله الكريم -وله الحمد والنعمة والفضل والمنة- به على المسلمين أبقى لمسلم به ذكرا جميلا وثناء حسنا إلى يوم الدين مع ما أعد له من الأجر الجزيل في دار القرار وعم نفعه المسلمين قاطبة.

2-

ومنها الكتاب المسند الكبير على أسماء الرجال.

ص: 214

3-

وكتاب الجامع الكبير على الأبواب.

4-

وكتاب العلل.

5-

وكتاب أوهام المحدثين.

6-

وكتاب التمييز.

7-

وكتاب من ليس له إلا راو واحد.

8-

وكتاب طبقات التابعين.

9-

وكتاب المخضرمين. وغير ذلك". انتهى.

وذكر الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ نقلا عن الحاكم عشرين مؤلفا لمسلم هي بالإضافة إلى ما تقدم:

10-

كتاب الأسماء والكنى.

11-

كتاب الأفراد.

12-

كتاب الأقران.

13-

كتاب سؤالات أحمد بن حنبل.

14-

كتاب حديث عمرو بن شعيب.

15-

كتاب الانتفاع بأهب السباع.

16-

كتاب مشايخ مالك.

17-

كتاب مشائخ الثوري.

18-

كتاب مشائخ شعبة.

19-

كتاب أولاد الصحابة.

20-

كتاب أفراد الشاميين.

مهنته:

وكان الإمام مسلم رحمه الله بزازا كما في تهذيب التهذيب. وقال الذهبي في كتابه العبر: "وكان صاحب تجارة وكان محسن نيسابور وله أملاك وثروة".

عناية العلماء بترجمته ونقل أخباره رحمه الله:

وقد عنى الكاتبون في التاريخ وترجم الرجال بترجمة الإمام مسلم رحمه الله وتحدثوا عنه بما هو حقيق به من ثناء جميل وذكر حسن، وعلى سبيل المثال أذكر عشرة من أصحاب المؤلفات الذين توَّجوا مؤلفاتهم بترجمة الإمام مسلم رحمه الله مع ذكر تاريخ وفياتهم واسم الكتاب المطبوع المشتمل على ترجمة الإمام مسلم وعدد صفحات الترجمة في كل كتاب وتعيين الصفحة الأولى منها. أذكر ذلك تسهيلا لمن يريد الوقوف على بعض ما كتب هذا الإمام الذي خلَّد الله ذكره بما وفقه له من تدوين الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وذلك في الجدول المبيَّن في الصفحة التالية.

اسم المؤلف

تاريخ وفاته

اسم الكتاب

عدد صفحات الترجمة

الصفحة

تاريخ الطبع ومكانه

1ـ الخطيب البغدادي

463هـ

تاريخ بغداد

4

100جزء13

1349هـ مصر

ص: 215

2ـ القاضي محمد بن أبي يعلى

526هـ

طبقات الحنابلة

2

337 جزء 1

مطبعة السنة المحمدية بمصر

3ـ الإمام النووي

676هـ

تهذيب الأسماء واللغات

3

89 جزء2

الطبعة المنيرية بمصر

4ـ ابن خلكان

671هـ

وفيات الأعيان

2

280 جزء 4

1367هـ مصر

5ـ الحافظ الذهبي

748هـ

تذكرة الحفاظ

2

165 جزء2

حيدر آباد بالهند

6ـ ابن كثير

774هـ

البداية والنهاية

2

33 جزء 11

مطبعة السعادة بمصر

7ـابن حجر العسقلاني

852هـ

تهذيب التهذيب

2

126 جزء10

1326هـ حيدر آباد بالهند

8ـ العليمي الحنبلي

928هـ

المنهج الأحمد

1

146 جزء1

1383هـ مصر

9ـ ابن العماد الحنبلي

1089هـ

شذرات الذهب

1

144 جزء2

1350هـ مصر

10ـ صديق حسن خان

1307هـ

التاج المكلل

2

130 جزء 00

1382هـ الهند

وفاته ومدة عمره:

توفي الإمام مسلم رحمه الله عشية يوم الأحد ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين. دفن بنصر أباد ظاهر نيسابور، ومدة عمره قيل خمس وخمسون سنة وقيل سبعون وخمسون رحمه الله.

سبب تأليفه:

ص: 216

ذكر الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه سبب تأليفه هذا الكتاب المبارك وملخصه أن شخصا رغب تعرف جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنن الدين وأحكامه وما كان منها في الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد التي بها نقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم وسأل الإمام مسلما تلخيصها له في التأليف بلا تكرار يكثر ليتمكن من التفهم فيها والاستنباط منها، ولأهمية هذا المطلوب وما يترتب عليه من منفعة موجودة وعاقبة محمودة له خصوصا وللمسلمين عموما أقدم على جمع هذه الدرر خالصة نقية من الشوائب وزاده رغبة في القيام بهذه المهمة الجليلة ما رآه من بعض العلماء من نشر الأخبار الضعيفة وعدم التمييز بين السليم والسقيم وما ينجم عن ذلك من أضرار لا سيما على العوام الذين لا يدركون الفرق بينها.

قال رحمه الله: "وبعد، يرحمك الله فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات المعرفون بالصدق والأمانة بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس ومستنكر ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة أهل الحديث، مثل مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان عيينة ويحي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من الأئمة لما سهل علينا الانتصاب لما سألت عن التمييز والتحصيل ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت".

مدى عنايته في تأليفه:

ص: 217

قال الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه: "وأعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروى منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه وأن ينقى منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع". انتهى.

هذه الحقيقة التي أثبتها الإمام مسلم في مقدمة صحيحه وأرشد إليها هي المنهج الذي سلكه في تأليف صحيحه فقد بذل وسعه وشغل وقته في جمعه وترتيبه، ومن الأدلة على ذلك ما جاء عنه وعن غيره مما يوضح ذلك.

فروى الخطيب البغدادي بإسناده إلى محمد الماسرجسي قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة".

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: "قال ابن الشرقي سمعت مسلما يقول: "ما وضعت في كتابي هذا المسند إلا بحجة وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة".

وقد مكث في تأليف هذا الكتاب المبارك خمسة عشرة سنة قضاها في التحري والتثبت والعناية التامة بهذا المصدر الأساسي لمعرفة الحديث الصحيح جمعا وترتيبا وساعده في كتابته بعض تلاميذه طوال هذه المدة.

قال أحمد بن سلمة تلميذ الإمام مسلم-كما في تذكرة الحفاظ-: "كتبت مع مسلم رحمه الله في صحيحه خمس عشرة سنة وهو اثنا عشر ألف حديث".

ولم يكتف الإمام مسلم رحمه الله بما بذله من جهود عظيمة في تأليفه بل أخذ في عرضه على جهابذة المحدثين واستشارتهم فيه، فقد نقل النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم عن مكي بن عبدان أحد حفاظ نيسابور قوله:

ص: 218

"سمعت مسلما يقول: "عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة خرجته"، وهذا من الإمام مسلم رحمه الله غاية في الاحتياط والتثبت من جهة وفي التواضع وقصد الصواب من جهة أخرى، ونتيجة لهذه العناية التامة التي تجلَّت في تلك الأدلة انشرح صدر الإمام مسلم لهذا النتاج القيم وارتاحت نفسه لذلك فأخذ يرغب الناس فيه ويؤكد أنه عمدة يعوَّل عليه في معرفة الصحيح من الأخبار يتضح ذلك مما نقله النووي عن مكي بن عبدان أيضا حيث قال: "سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند"ـ يعني صحيحه.

منزلته بين كتب السنة:

صحيح مسلم يأتي في الدرجة الثانية بعد صحيح البخاري فهو ثاني كتابين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى. قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "

وأصح مصنف في الحديث بل في العلم مطلقا الصحيحان للإمامين القدوتين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري رضي الله عنهما، فلم يوجد لهما نظير في المؤلفات". وقال أيضا:"اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة". انتهى.

هذه هي منزلة صحيح مسلم بين كتب السنة فهو في أعلى درجات الصحيح لا يتقدمه في ذلك سوى صحيح البخاري، ونقل عن أبي علي النيسابوري شيخ الحاكم قوله:"ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج.."وقد يفهم من هذه العبارة تقديمه على صحيح البخاري وذلك خلاف ما صرح به العلماء من ترجيح صحيح البخاري عليه لتوفر أسباب الترجيح فيه وقد أجيب عن هذه العبارة بثلاثة أجوبة:

الأول:

ص: 219

للحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ قال بعد ذكر عبارة أبي علي النيسابوري هذه: "قلت: لعل أبا علي ما وصل إليه صحيح البخاري"واستبعد هذا الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري

الثاني:

لجماعة منهم أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث أن ذلك محمول على سرد الصحيح فيه دون أن يمزج بمثل ما في صحيح البخاري مما ليس على شرطه، ولا يحمل على الأصحية.

الثالث:

للحافظ ابن احجر في شرحه لنخبة الفكر وحاصله أن عبارة أبي علي هذه تقتضي أن صحيح مسلم في أعلى درجات الصحيح وأنه لا يفوقه كتاب، أما أن يساويه كتاب كصحيح البخاري فذلك لا تنفيه هذه العبارة.

والحاصل أن صحيح مسلم في قمة الصحيح بعد صحيح البخاري كما صرح بذلك أهل العلم ولم يفصح أحد بترجيح صحيح مسلم على صحيح البخاري فيما يتعلق بالصحة.

ثناء العلماء عليه وتلقيهم له ولصحيح البخاري بالقبول:

لقي صحيح البخاري وصحيح مسلم قبولا لم يحصل لكتاب آخر وذلك نتيجة للعناية التامة التي بذلها الشيخان في هذين الكتابين الجليلين من التثبت والاحتياط في تجريد الصحيح من غيره فلا عجب إذا انطلقت الألسنة بالإشادة بشأنهما وإبراز ما لهما من خصائص ومزايا وقد ذكرت بعض النقول في ذلك في المقال السابق عن الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح.

وأذكر هنا بعض ما يتعلق في صحيح مسلم:

ص: 220

قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقه وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة إطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيَّات علم أنَّه إمام لا يلحقه من بَعُد عصره وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".

وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب: "قلت: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله ٍبحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ من غير تقطيع ولا رواية بمعنى وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم، فسبحان المعطي الوهاب".

مقدمة صحيح مسلم:

وقد وضع الإمام مسلم رحمه الله بين يدي صحيحه مقدمة قيمة عظيمة الشأن جليلة القدر تنبئ عن جلالة قدر واضعها وحسن نيته وحرصه على تدوين السنة النبوية نقية من الشوائب وقد صدَّر هذه المقدمة ببيان السبب الباعث له على تأليفه هذا الكتاب وإن أصل ذلك سؤال وقد زاده رغبة في الإجابة عليه ما رآه من قيام بعض العلماء بجمع الحديث دون تمييز بين صحيح وضعيف ثم أوضح أنه لا يصير إلى التكرار في ذكر الحديث إلا لحاجة من زيادة معنى في متن أو فائدة اسنادية، ثم ذكر أنه يعنى أولا وقبل كل شيء بذكر رواية أهل الضبط والاتقان ثم يتبعها برواية من هم أقل من أولئك ممن يشملهم اسم الستر والصدق وتعاطي العلم، ثم ذكر أن ما كان من الأخبار عن قوم متهمين أو كان الغالب على حديثهم المنكر والغلط لا يعبا به ولا يعرج عليه.

ص: 221

ثم عقب ذلك بذكر وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ فيه، وساق الأدلة على ذلك ثم أورد الأدلة على النهي عن الحديث بكل ما سمع وعلى النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، ويلي ذلك كلامه عن الإسناد وأنه من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وإن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب، وإنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة، وأفاض في ذكر الأدلة والنقول عن المحدثين في ذلك. وختم هذه المقدمة بالكلام على صحة الحديث المعنعن، وأوضح أن المبحث الذي عليه المحدثون الاكتفاء بمعاصرة الراوي لمن يروي عنه دون اشتراط معرفة تلاق بينهما ما لم يكن الذي روى بالعنعنة مدلسا وأكثر من لوم من يشترط ذلك.

ولا شك أن من اشترط التلاقي بين الراوي ومن روى عنه كالبخاري مثلا قد أخذ في الاحتياط وزيادة التثبت واشتراطه ذلك يرفع من شأن كتابه، وأن من لم يشترط ذلك كالإمام مسلم لا يحط ذلك من شأن كتابه ولا يقدح فيه، وإنما هو التفاوت في درجات الصحة ومن أجل هذا ترجح صحيح البخاري على صحيح مسلم.

تبويبه:

ص: 222

لما قام الإمام مسلم رحمه الله بجمع كتابه الجامع الصحيح راعى في جمعه أن تكون كل مجموعة من الأحاديث تتعلق في موضوع واحد على حدة، لكنه لم يضع لها تراجم أبواب كما صنع الإمام البخاري في صحيحه، وهو في الحقيقة في حكم المبوَّب وإنما فعل ذلك مسلم والله أعلم لئلا يزيد بها حجم الكتاب من جهة وليشحذ القارئ ذهنه في استنباط الترجمة من جهة أخرى، قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم:"ثم إن مسلما رحمه الله رتب كتابه على أبواب فهو في حكم المبوَّب في الحقيقة ولكنه لم يذكر تراجم الأبواب فيه لئلا يزداد بذلك حجم الكتاب أو لغير ذلك"، ثم قال:"قلت: وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جيِّد وبعضها ليس بجيِّد إما لقصور في عبارة الترجمة وإما لركاكة لفظها وإما لغير ذلك وأنا إن شاء الله أحرص على التعبير عنها بعبارات تليق بها في مواطنها والله أعلم".

عدد أحاديثه:

ذكر النووي في التقريب أن عدة أحاديث صحيح مسلم نحو أربعة آلاف بإسقاط المكرَّر وقال العراقي في نكته على بن الصلاح: "ولم يذكر - يعني النووي - عدته بالمكرر وهو يزيد على عدة كتاب البخاري لكثرة طرقه وقد رأيت عن أبي الفضل أحمد بن سلمة أنه اثنا عشر ألف حديث". انتهى. وقد عد أحاديثه الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي من المعاصرين وبلغت عنده بدون المكرَّر ثلاثة آلاف وثلاثة وثلاثين حديثا وقال: "وهو عمل ما سبقني إليه أحد من جميع المشتغلين بهذا الصحيح إذ كان جلُّ جهدهم أن يطلقوا عددا ما ورقما تخمينا وارتجالا لا يرتكز على أساس سليم، فجئت أنا بهذا الحصر كي أضع حدا حاسما فاصلا لهذا الاضطراب والبلبلة ولله الحمد".

شرط مسلم فيه:

نقل النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم عن بن الصلاح أنه قال: "شرط مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما من الشذوذ والعلة". انتهى.

ص: 223

وقال الحافظ بن حجر في شرحه لنخبة الفكر في أثناء تعداد مراتب الصحيح: "ثم يقدم في الأرجحية من حيث الأصحية ما وافقه شرطهما لأن المراد به رواتهما مع باقي شروط الصحيح". انتهى.

ويتضح من مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام:

الأول: ما رواه الحفاظ المتقنون.

والثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان.

والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون وأنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه الثاني.

وأما الثالث فلا يعرج عليه كما نص في آخر مقدمة صحيحه على اكتفائه بمعاصرة الراوي لمن يروي عنه إذا روى بالعنعنة ما لم يكن الراوي بالعنعنة موصوفا بالتدليس.

التعليقات في صحيح مسلم:

التعليق هو حذف راوٍ أو أكثر من أول السند ولو إلى آخر الإسناد وهو كثير في صحيح البخاري بخلاف صحيح مسلم فإنه قليل جدا بلغت جملته فيه أربعة عشر موضعا ذكرها النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم. وقال نقلا عن أبي عمرو بن الصلاح: "وليس شيء من هذا والحمد لله مُخرِجا لما وجد فيه من حيز الصحيح بل هي موصولة من جهات صحيحة لا سيما ما كان منها مذكورا على وجه المتابعة ففي نفس الكتاب وصلها فاكتفى بكون ذلك معروفا عند أهل الحديث".

ثناء العلماء على الرواة المخرَّج لهم في صحيح مسلم وانتقاد بعض الحفاظ بعضهم والجواب على ذلك:

قال الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر: "ورواتهما ـ يعني الصحيحين ـ قد حصل الاتفاق على القول بتعديلهم بطريق اللزوم فهم مقدمون على غيرهم في رواياتهم، وهذا أصل لا يخرج عنه إلا بدليل"، وقال في مقدمة الفتح:"وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي خرج عنه في الصحيح: هذا جاز القنطرة، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه".

وقد تكلم في بعض الرواة الذين خرج لهم مسلم وعدتهم مائة وستون رجلا وذلك الكلام لا يقدح في صحيحه ولا يحط من شأنه لأنه:

ص: 224

أولا ـ قد يكون القدح غير مؤثر.

قال الخطيب البغدادي كما في مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي: "ما احتج البخاري ومسلم به من جماعة عُلِمَ الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسَّر السبب"، وقال الذهبي في جزء جمعه في الثقات الذين تكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ما نصه:

"وقد كتبت في مُصَنَفِي الميزان عددا كثيرا من الثقات الذين احتج البخاري ومسلم وغيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دُوِّنَ اسمه في مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمرُّ بي الرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به

"إلى آخر كلامه رحمه الله.

ثانيا ـ وإن كان القدح مؤثرا حمل الإخراج عنه في الصحيح على:

1-

أن يكون ذلك واقعا في المتابعات والشواهد لا في الأصول. قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم نقلا عن ابن الصلاح: "وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلا ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه".

2-

أن يكون ضعف الرجل المحتج به في الصحيح طارئا عليه بعد أن أخذ صاحب الصحيح عنه كالاختلاط فروايته عنه زمن استقامته لا يؤثر فيها ما طرأ عليه من الاختلاط.

3-

أن يكون صاحب الصحيح تجنب ما أنكر على الرجل المتكلم فيه. قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه لحديث إعادة النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة ثلاثا لتفهم عنه قال: "وقد تقرر أن البخاري حيث يخرج لبعض من فيه مقال لا يخرج شيئا مما أنكر عليه". انتهى. ومثله مسلم في ذلك وقال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "واعلم أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى وقد جاء كثير منه في الصحيح بالطريقين جميعا".

انتقاد الحفاظ بعض الأحاديث في صحيح مسلم والجواب عن ذلك:

ص: 225

ذكر ابن حجر في مقدمة الفتح أن الدارقطني وغيره من الحفاظ انتقدوا على الصحيحن مائتين وعشرة أحاديث اشتركا في اثنين وثلاثين حديثا وانفرد البخاري عن مسلم بثمانية وسبعين حديثا، وانفرد مسلم عن البخاري بمائة حديث، وقد تولى الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح الإجابة عن الانتقاد الموجه إلى الأحاديث التي اشتركا فيها والأحاديث التي انفرد بها البخاري عن مسلم وعدتها مائة وعشرة أحاديث.

أما الأحاديث التي انفرد بها مسلم فقد أجاب عنها النووي في شرحه لصحيح مسلم في مواضعها وأكثرها الانتقاد فيه غير مسلم والإيراد عليه غير وارد، وما لا جواب عنه منها نزر يسير لا يعد شيئا في جنب الآلاف من الأحاديث الصحيحة التي اشتمل عليها صحيحه.

وهذه الانتقادات القليلة التي توصل إليها جهابذة النقاد مع أن أكثرها غير وارد إن دلت على شيء فإنما تدل على عظم شأن هذا الكتاب المبارك وأنه في أعلى درجات الصحيح، وتدل على جلالة قدر جامعه وشدة احتياطه وتحريه وأنه وفق فيما قصد إليه من جمع لصحيح نقيا خالصا، فإن تصدى الإمام الدارقطني وغيره من النقاد وتتبعهم الصحيح حديثا حديثا وهم من هم في دقة الإدراك وسعة الاطلاع ثم تكون نهاية المطاف ونتيجة التمحيص والتنقيب على هذا الوصف.

أقول إن ذلك يعطي الدليل الواضح على عظم قدره وعلو منزلته، وتلك شهادة من فرسان هذا الميدان على أنه بالمكان الأعلى والوصف الأسمى، وذلك يوضِّح لنا أيضا السرَّ في إقبال العلماء عليه وتلقيهم له ولصحيح البخاري بالقبول.

عناية العلماء بصحيح مسلم:

ص: 226

وكما اعتنى علماء الأمة الإسلامية بصحيح البخاري الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل فقد كانت عنايتهم عظيمة بصحيح مسلم الذي هو أصح كتاب يليه. فقد شرحه شارحون واختصره مختصرون وألف في رجاله مؤلفون واستخرج عليه مستخرجون، وعنايتهم بهذين الكتابين جاءت على قدر منزلة كل منهما، فهي بالنسبة لصحيح البخاري بالدرجة الأولى وبالنسبة لصحيح مسلم بالدرجة الثانية، فالكتب التي ألفت في صحيح مسلم كثيرة وأكثر منها المؤلفات المتعلقة بصحيح البخاري، ومع كثرة شروح صحيح مسلم ليس فيها ما يقرب من الكتاب العظيم الذي وفق الله لوضعه الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري الذي أسماه ((فتح الباري)) وأشهر شروحه وأكثرها رواجا في هذا العصر شرح الإمام النووي وهو شرح يغلب عليه الاختصار، وأكثر عنياته فيه في ضبط الألفاظ والتنبيه على لطائف الإسناد مع الإشارة إلى بيان فقه الحديث أحيانا.

وممن عني بصحيح مسلم عناية تامة من المعاصرين الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، فقد بذل جهدا مشكورا في ترقيمه وتنويع فهارسه حتى كان الوصول إلى المطلوب فيه سهلا ميسورا لا يحوج الناظر إلى عناء ومشقة وخصص لهذه الفهارس مجلدا حافلا بأنواع شتى من الوسائل المؤدية إلى الوقوف على ما في هذا الكتاب المبارك بيسر وسهولة.

وقد طبع صحيح مسلم في أربع مجلدات وتلك الفهارس في مجلد، وما أحوج طالب العلم إلى اقتناء هذه الفهارس التي هي في الحقيقة مفتاح لصحيح مسلم.

خصائص صحيح مسلم والموازنة بينه وبين صحيح البخاري:

ينفرد صحيح مسلم بخصائص يتميز بها عن صحيح البخاري، ويوجد في صحيح البخاري من الخصائص والميزات ما لا يشاركه صحيح مسلم فيه ويتفقان في أمور ترفع من شأن الكتابين معا ويسموان بها إلى منتهى الصحة والإجادة والإتقان ونشير فيما يلي إلى نماذج من ذلك:-

ص: 227

فيتفقان في أنهما معا في أعلى درجات الصحيح مع تفوق صحيح البخاري على صحيح مسلم في ذلك.

ويتفقان في أن العلماء تلقوهما بالقبول واعتبروهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز. ويتفقان في أن مؤلفيهما رحمهما الله سلكا في تأليفهما طرقا بالغة في الاحتياط والتثبت مع الأمانة التامة في العزو، ومن أمثلة ذلك أنهما يتقيدان غاية التقيد فيما يتلقيانه من شيوخهما في الأسانيد والمتون، وإذا كان الأمر يستدعي إيضاحا وبيانا قاما بذلك على وجه يتميز به ذلك. وقد عقد النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم فصلا خاصا بذلك قال فيه:"ليس للراوي أن يزيد في نسب غير شيخه ولا صفته على ما سمعه من شيخه لئلا يكون كاذبا على شيخه، فإن أراد تعريفه وإيضاحه وزوال اللبس المتطرق إليه لمشابهة غيره فطريقه أن يقول: قال حدثني فلان. يعني ابن فلان.. أو.. الفلاني.. أو.. هو ابن فلان.. أو.. الفلاني.. أو نحو ذلك فهذا جائز حسن قد استعمله الأئمة وقد أكثر البخاري ومسلم منه في الصحيحين غاية الإكثار حتى أن كثيرا من أسانيدهما يقع في الإسناد الواحد منها موضعان أو أكثر".

وينفرد صحيح مسلم بجمع طرق الحديث في مكان واحد غالبا مما جعل الوقوف على المطلوب فيه سهلا ميسورا. وإنما قلت - غالبا - لأنه قد وقع فيه ذكر بعض الأحاديث في أكثر من موضع.

وهذه الميزة لا توجد في صحيح البخاري إلا أنه وجد فيه بدلا منها ميزة كبرى وهي إيضاح ما اشتملت عليه الأحاديث من الفوائد الفقهية مع دقة الاستنباط وبألخص عبارة مما جعل صحيحه كتاب رواية ودراية معا. ومن أجل تحصيل هذا المطلب العظيم عمد البخاري رحمه الله إلى تفريق الحديث وتكرراه في أكثر من موضع مستدلا به في كل موضع بما يناسبه.

ص: 228

وينفرد صحيح مسلم بأن مسلما رحمه الله إذا أسند الحديث فيه إلى جماعة من شيوخه عيَّن من له اللفظ منهم غالبا، فيقول:"حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان"أو قال: "فلان حدثنا فلان"ومن أمثلة ذلك قوله في باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر: حدثنا يحي بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر كلهم عن إسماعيل.

قال ابن أيوب حدثنا إسماعيل بن جعفر. وقوله في باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء: حدثنا سويد بن سعيد وابن أبي عمر جميعا عن مروان الفزاري، قال ابن أبي عمر: حدثنا مروان، وقوله في الحديث الذي يليه: وحدثنا أبو كريب وواصل بن عبد الأعلى واللفظ لواصل قالا حدثنا ابن فضيل. وقوله في باب الاستنجاء بالماء من التبرز: وحدثني زهير بن حرب وأبو كريب واللفظ لزهير حدثنا إسماعيل يعني ابن علية.

أما الإمام البخاري فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري عند الكلام على حديث جابر بن عبد الله في الخمس الذي أوتيها صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الثاني في كتاب التيمم من صحيح البخاري ذكر الحافظ أنه إذا روى الحديث عن غير واحد فاللفظ للأخير، قال رحمه الله:"وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد فإن اللفظ يكون للأخير والله أعلم".

وينفرد صحيح مسلم بأن مسلما رحمه الله صدَّره بمقدمة اشتملت على جمل من علوم الحديث وقد تقدم بيان ما تضمنته على سبيل الإجمال، أما الإمام البخاري فلم يضع بين يدي صحيحه مقدمة بل افتتحه ببدأ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وينفرد صحيح مسلم بكثرة استعمال التحويل في الأسانيد وذلك لجمعه طرق الحديث المتعلقة بموضوع معين في موضع واحد ويوجد التحويل في الأسانيد قليلا في صحيح البخاري.

ص: 229

وينفر صحيح مسلم بقلة التعليق فيه إذ بلغت جملة ما فيه من ذلك أربعة عشر موضعا كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وقد أكثر الإمام البخاري من استعماله في صحيحه.

وينفرد صحيح مسلم بأن مسلما رحمه الله اقتصر فيه على الأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أقوال الصحابة وغيرهم بخلاف البخاري رحمه الله فقد أورد أقوالهم ومعلوم أنها ليست من شرط كتابه وإنما ذلك للإيضاح والبيان لأنه يجمع في كتابه بين الرواية والدراية.

ليس كل الصحيح موجودا في الصحيحين وحدهما:

صحيح البخاري وصحيح مسلم اشتملا على قدر كبير من الحديث الصحيح، وهذا القدر الذي اشتملا عليه ليس هو كل شيء في الحديث الصحيح، فإن الصحيح كما أنه موجود فيهما فهو موجود خارجهما في الكتب المؤلفة في الحديث النبوي كالموطأ وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والدارمي والدارقطني والبيهقي وغيرها. وهو أمر واضح غاية الوضوح فلم ينقل عن البخاري ومسلم أنهما استوعبا الصحيح في صحيحهما أو قصدا استيعابه وإنما جاء عنهما التصريح بخلاف ذلك. قال أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث:"لم يستوعبا - يعني البخاري ومسلما - الصحيح في صحيحهما ولا التزما ذلك، فقد روينا عن البخاري أنه قال: "ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت من الصحيح لحال الطول". وروينا عن مسلم أنه قال: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا - يعني في كتابه الصحيح - إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه

"وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: "روى الإسماعيلي عنه ـ يعني البخاري ـ قال: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيح وما تركت من الصحيح أكثر".

ص: 230

وقال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم بعد أن ذكر التزام جماعة لهما إخراج أحاديث على شرطيهما لم يخرجاها في كتابيهما قال: "وهذا الإلزام ليس بلازم في الحقيقة فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعباه وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جمل من مسائله لا أنه يحصر جميع مسائله"انتهى.

ومما يوضح عدم استيعاب البخاري الصحيح وعدم التزامه بذلك أيضا أنه جاء عن البخاري أنه قال: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي حديث غير صحيح". مع أن جملة ما في صحيحه من الأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في ذلك الأحاديث المعلقة لا تبلغ عشرة آلاف حديث. وأيضا استدراك الحاكم على البخاري ومسلم أحاديث على شرطيهما أو شرط واحد منهما لم يخرجاها وهي أحاديث كثيرة جدا، وأيضا فإن العلماء قسموا الصحيح إلى سبع مراتب مرتبة حسب القوة على النحو التالي:

1-

صحيح اتفقا على إخراجه البخاري ومسلم.

2-

صحيح انفرد بإخراجه البخاري عن مسلم.

3-

صحيح انفرد به مسلم عن البخاري.

4-

صحيح على شرطهما معا ولم يخرجاه.

5-

صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه.

6-

صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.

7-

صحيح لم يخرجاه ولم يكن على شرطهما معا وعلى شرط واحد منهما.

ص: 231

وهذه المراتب السبع للصحيح ذكرها أبو عمرو ابن الصلاح في علوم الحديث والحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر وغيرهما، وليس في الصحيحين في هذه المراتب إلا الثلاث الأولى أما الأربعة الباقية فلا وجود لها إلا خارج الصحيحين ولم يزل من دأب العلماء في جميع العصور الاحتجاج بالأحاديث الصحيحة - بل والحسنة - الموجودة خارج الصحيحين والعمل بها مطلقا واعتبار ما دلت عليه دون إعراض عنهما أو تعرض للحط من شأنها والتقليل من قيمتها، فلا يليق بمسلم يحب الخير لنفسه ودفع الضر عنها أن يتوقف أدنى توقف في أن سبيلهم هذا هو الحق وغيره هو الباطل والضلال المبين {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .

الحديث المتفق عليه:

يرفع من شأن الحديث كونه مخرجا من أحد الصحيحين فإن كان مخرجا فيهما معا كانت منزلته أعلى وشأنه أكبر وأمره أعظم وهذا النوع هو المرتبة الأولى من المراتب السبع للحديث الصحيح التي مر ذكرها، وقد درج المشتغلون بالسنة من أهل الحديث وغيرهم على التعبير عن هذا النوع بقولهم:"متفق عليه"، أو، "أخرجاه".

ولا أعلم أحد يطلق " متفق عليه " إلا على اتفاق البخاري ومسلم وحدهما ما عدى المجد ابن تيمية جد شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منتقى الأخبار الذي شرحه الشوكاني في كتابه ((نيل الأوطار)) فإنه يعني بقوله فيه "متفق عليه " اتفاق البخاري ومسلم وأحمد. ويعبر عما رواه الشيخان وحدهما " أخرجاه ".

وكون الحديث المتفق عليه في قمة الصحيح أمر معلوم عند المحدثين. قال أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث بعد أن ذكر مراتب الصحيح السبع المشار إليها.

ص: 232

"هذه الأمهات أقسامه وأعلاها الأول وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيرا "صحيح متفق عليه ". يطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم لا اتفاق الأمة عليه، لكن اتفاق الأمة عليه لازم وحاصل معه لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول وهذا القسم مقطوع بصحته والعلم اليقيني والنظري واقع به". انتهى.

وقد أُفْرِدَ هذا النوع المتفق عليه بالتأليف وأشمل هذه الكتب وأدقها تحريرا كتاب ((اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان)) للشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، ذكر أنه فرغ من جمعه عام 1367هـ وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات وقد بلغت أحاديثه 1906 من الحديث المتفق عليه. وقد رتبه على ترتيب صحيح مسلم فيثبت فيه الحديث بلفظ مسلم ويشير إلى أقرب ألفاظ الحديث عند البخاري الذي اتفق فيه مع مسلم إذا كان مكررا فيذكر الكتاب عند البخاري ورقمه والباب الذي فيه الحديث من ذلك الكتاب ورقم الباب.

ص: 233

في مناسبات الآيات والسور

المناسبات.. وترتيب الآيات والسور

للشيخ أحمد حسن

المدرس في المعهد الثانوي في الجامعة

الكلام عن المناسبات فرع على الكلام عن (ترتيب الآيات والسور) أهو توقيفي أم اجتهادي؟ ومن هنا كان لابد لنا قبل بيان آراء العلماء في المناسبات من أن نعرض لهذه القضية.

ونبين الوجه الذي تطمئن إليه النفس كما نبين الوجوه الأخرى التي تنير لنا الطريق في مناقشة آراء العلماء في المناسبات وتكشف اللثام عن اختلاف المنازع والاتجاهات، بحيث يكون حكمنا أقرب للصواب وأبعد عن الخطأ.

ترتيب الآيات:

ترتيب الآيات في سورها توقيفي ثابت بالوحي وبأمر النبي صلى الله عليه وسلم وبما علم من تلاوته للقرآن بمشهد من الصحابة وعلى كونه توقيفيا، دلت النصوص وانعقد الإجماع، قال السيوطي في بحث ترتيب الآيات ما نصه:"الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، أما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته وعبارته ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين".

وهذه هي النصوص التي استدل بها السيوطي على أن ترتيب الآيات توقيفي.

1-

ما قاله زيد بن ثابت فيما رواه البيهقي والحاكم: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع"قال البيهقي: "يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم"0

2-

ما أخرجه أبو داوود والنسائي وغيرهما عن عثمان بن عفان أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا".

ص: 234

3-

روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: "كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: "أتاني جبرائيل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} إلى آخرها".

4-

روى البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: "قلت لعثمان بن عفان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} نسختها الآية الأخرى فَلِمَ تكتبها أو تدعها - والمعنى لماذا تكتبها؟ أو قال: "لماذا تتركها مكتوبة مع أنها منسوخة؟ قال: يا ابن أخي لا أغيّر شيئا منه من مكانه".

فقوله: "لا أغير شيئا من مكانه"يدل على أن وضع كل آية في مكانها أمر توقيفي لا مدخل للرأي فيه لذلك لا يجوز تحويل شيء منه عن مكانه.

5ـ روى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، وروى مسلم عن أبي الدرداء مرفوعا:"من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال".

وروى مسلم عن عمر قال: "ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري تكفيك آية الصيف التي في آخر النساء".

فلولا أنه كان قد وقفهم على ترتيب من قبل لما اعتمد في إرشادهم إلى الآيات المتقدمة على وصفها بأنها أول سورة كذا، أو آخر سورة كذا، إذ كيف تتميز لهم عن غيرها بوصف يكون مجهولا لهم؟

ص: 235

6-

ما ثبت من قراءته صلى الله عليه وسلم لسور كثيرة بمشهد من الصحابة ففي حديث حذيفة الذي رواه مسلم أنه قرأ في صلاته ذات ليلة البقرة وآل عمران والنساء وفي صحيح البخاري أنه قرأ الأعراف في سورة المغرب. وروى الشيخان أنه كان يقرأ في صبح الجمعة بـ (الم تنزيل) و (هل أتى على الإنسان) وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ (ق في الخطبة، وعند مسلم أنه كان يقرأ في العيد بـ (ق) و (اقتربت) وعنده أيضا أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بـ (الجمعة) و (المنافقون) وفي المستدرك عن عبد الله بن سلام أنه قرأ عليهم سورة الصف حين نزلت حتى ختمها، إلى غير ذلك من سور أخرى ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأها بمشهد من الصحابة وما كان لهم أن يختاروا ترتيبا يخالف ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم [1] فتبين بهذه الأدلة أن الصحابة تلقوا ترتيب الآيات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن النبي تلقاه عن جبرئيل عن الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} :"إن جبرئيل أتاني فأمرني أن أضعها في موضعها من سورتها". فتكون جميع الآيات كذلك، إذ لا فرق بين آية وأخرى، وقد صرح جميع العلماء بذلك، وبأنه مجمع عليه كقول القاضي عياض فيما نقله عن الحافظ في الفتح:"لا خلاف أن ترتيب الآيات في كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف من الله تعالى [2] ".

ترتيب السور:

ص: 236

الصحيح عند عامة السلف أن ترتيب السور توقيفي بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه عن جبرئيل عليه السلام وتلقاه عنه الصحابة. قال عبد الرحمن بن وهب: "سمعت مالكا يقول: "إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال البغوي في شرح السنة: "والصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزل الله على رسوله من غير أن يزيدوا أو ينقصوا منه شيئا، خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا، بتوقيف جبرئيل إياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب كذا في سورة كذا فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب، أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا، ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة. وقال ابن الحصار:"ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ضعوا آية كذا في موضع كذا". وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف، وقال أبو بكر بن الأنباري في كتاب (الرد على من خالف مصحف عثمان: "إن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا، ثم فرقه على النبي صلى الله عليه وسلم في بضع وعشرين سنة وكانت السورة تنزل في أمر يحدث والآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبرئيل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية. فانتظام السور كانتظام الآيات والحروف كله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين عن رب العالمين. فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة كمن أفسد نظام الآيات وغيَّر الحروف

ص: 237

والكلمات. ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب وهو كان يقول:"ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن"وكان جبرئيل عليه السلام يوقفه على مكان الآيات". وقال الكرماني في (البرهان) : "ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب وكان صلى الله عليه وسلم يعرض على جبرئيل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه. وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين، وكان آخر الآيات نزولا {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} فأمره جبرئيل أن يضعها بين آيتي الربا والدين". وقال العلامة الطيبي:"أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا على حسب المصالح، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ". وذهب الباقلاني في أحد قوليه وابن فارس إلى أن ترتيب السور باجتهاد من الصحابة، ونسب إلى مالك، ومال ابن عطية في تفسيره إلى أن كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها في حياته صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوَّض الأمر فيه إلى الأمة بعده. قال الزركشي في "البرهان":"والخلاف بين الفريقين لفظي، لأن القائل بالثاني يقول أنه رمز إليهم بذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته. ولهذا قال مالك: "إنما ألَّفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السوَّر باجتهاد منهم، فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي؟ أو بمجرد إسناد فعلي، بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر".

وقال البيهقي في المدخل: "كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلى الأنفال والبراءة، لحديث عثمان"ومال إليه السيوطي وحديث عثمان لا دلالة فيه لما قاله كما سيأتي بحول الله تعالى.

ص: 238

قال أبو جعفر النحاس: "المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث واثلة: "أعطيت مكان التوراة السبع الطوال" فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من ذلك الوقت، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد لأنه جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأليف القرآن. قلت: "لفظ حديث واثلة: "أعطيت مكان التوراة السبع الطوال وأعطيت مكان الزبور المئين وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفضلت بالمفصل" رواه أحمد والطبراني، وفي إسناده عمران بن داوود القطان وهو وإن ضعفه يحي بن معين وأبو داوود والنسائي، فقد وثقه عفان ومشاه أحمد، وقال ابن عدي:"هو ممن يكتب حديثه". واحتج به ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، فهذا الحديث حسن، قال الحافظ بن حجر في (فتح الباري) :"ومما يدل على أنَّ ترتيبها توقيفي ما أخرجه أحمد وأبو داوود عن أوس بن أبي أوس عن حذيفة الثقفي قال::كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف"الحديث. وفيه: "فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طرأ على حزب من القرآن فأردت ألا أخرج حتى أقضيه" فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: "كيف تحزبون القرآن؟ "قالوا: "نحزبه ثلاث سور، وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة وحزب المفصل من (ق) حتى نختم" قال:"فهذا الحديث يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن، كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال: "ويحتمل أن الذي كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة بخلاف ما عداه". قلت: هو احتمال بعيد يبطله حديث واثلة.

وفي صحيح مسلم حديث: "إقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران" وفي مصنف ابن أبي شيبة من حديث سعيد بن خالد قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسبع الطوال في كل ركعة".

ص: 239

وفي صحيح البخاري عن بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي". فذكرها نسقا كما هي في المصحف الآن. قال الحافظ السيوطي: "ومما يدل على أن ترتيب السور توقيفي، كون الحواميم رتبت ولاء، وكذا الطواسين. ولم ترتب المسبحات ولاء، بل فصل بين سورها وفصل بين (طسم الشعراء) و (طسم القصص) بـ (طس) مع أنها أقصر منهما ولو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات ولاء وأخرت (طس) عن القصص".

ص: 240

والخلاصة أن ترتيب السور توقيفي كترتيب الآيات، أما ما رواه أحمد وأصحابه السنن عن ابن عباس قال:"قلت لعثمان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ "فقال عثمان:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: "ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت بأنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتهما في السبع الطوال"صححه ابن حبان والحاكم، فهذا لا يدل على أن عثمان رتبهما باجتهاد منه وإنما يدل على أنه ظنهما سورة واحدة. ولهذا لم يكتب لبراءة بسملة، وهذا رأي رآه مجاهد وأبو روق وسفيان، فقالوا الأنفال وبراءة سورة واحدة والصحيح أن براءة قائمة بنفسها، وهو ما عليه عامة العلماء، ولم تكتب في أولها البسملة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتابتها كما في المستدرك للحاكم والحكمة في ذلك ما رواه الحاكم عن بن عباس قال:"سألت عليا بن أبي طالب: لما لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف [3] ".

(للبحث صلة)

رباعيات من فلسطين

((.. وجاء الخامس عشر من أيار.. فتذكرت النكبة والمأساة والعار..))

بعثرت أيامنا عاما فعاما

وزرعنا الأرض بؤسا وخياما

وطوينا بسمة العمر على

أما العودة.. أو نقضي كراما

لا تسلني يا أخي في عجب

لم لا تملأ دنياك ابتساما؟

أنا مذ مزق قدسي غاصب

صارت البسمة في شرعي حراما؟

يوسف العظم

ص: 241

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

- انظر (الإتقان) للسيوطي.

[2]

- جـ9 ص33.

[3]

- ولأنها كانت عذابا على المنافقين فضحتهم وكشفت أسرارهم. في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: "سورة التوبة، قال التوبة؟ بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل ومنهم حتى ظننا أن لا يبقى أحد منا إلا ذكر فيها". وفي مستدرك الحاكم عن حذيفة قال: "التي تسمون سورة التوبة هي سورة العذاب".

ص: 242

في ظلال سورة الأنفال (3)

بقلم الشيخ: أبي بكر جابر الجزائري

المدرس في الجامعة

قال الله تعالى:

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}

بسم الله والحمد لله. وبعد:

فهذه أربع آيات أخرى من سورة الأنفال نتفيأ ظلالها مع السادة القراء الكرام، وقبل الشروع في ذلك تحسن الإشارة إلى مضمون الآيات الأربع قبلها تذكيرا وتعليما فنشير إليها ونقول: إن مضمون الآيات الأربع السابقة يتلخص فيما يلي فتأملها أيها القارئ الكريم:

1-

خلاف الشبان مع الشيوخ في الأحق بالغنائم، ذاك الخلاف الذي أدى إلى حالة خطرة جدا كادت تقضي بجماعة الإيمان إلى أسوأ العواقب وأوخمها.

2-

إنهاء الخلاف والقضاء على أسبابه برد الله تعالى أمر الغنائم إليه وإلى رسوله ليحكم الله فيها بما يشاء، ويقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بما يأمره الله تبارك وتعالى.

3-

أمر الجماعة المؤمنة بتقوى الله عز وجل وإصلاح ذات بينها، وبطاعة الله ورسوله فيما يأمران به، وينهيان عنه، ككفارة لما بدر منها من رغبة في المادة وميل إليها. (وحب العاجلة رأس الخطايا كما قيل) .

ص: 243

4-

تذكير الجماعة المؤمنة بإيمانها الذي هو مصدر قوتها وخيريتها وكمالها وسعادتها وذلك لترقية شعورها، ودفعها إلى طاعة الله والرسول، تلك الطاعة التي لا يستقيم أمرها، ولا يصلح شأنها إلاّ عليها {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً} .

5-

ذكر صفات المؤمنين الصادقين في إيمانهم لتكون مرآة للجماعة ترى فيها صورتها الحقة، وتعرف بها مدى كمالها في إيمانها، ودعواها فيه، وتلك الصفات هي:

1-

وجل القلب عند ذكر الرَّب.

2-

زيادة الإيمان عند سماع القرآن.

3-

التوكل الكامل على الله وحده دون سواه.

4-

إقام الصلاة.

5-

الإنفاق مما رزق الله.

6-

بيان منازل أولئك المؤمنين الصادقين، وما أعد الله لهم من النعيم المقيم.

ص: 244

والآن، وبعد هذا العرض السريع لمضمون الآيات السابقة نعود إلى تفيؤ ظلال الآيات الأربع التي أردنا تفيؤها في هذه الحلقة من الدراسة القرآنية المفيدة النافعة إن شاء الله تعالى. فنذكر أولا: أن المناسبة بين هذه الآيات وسابقتها هي مناسبة قوية كمناسبة الشبيه بشبيهه، والمشبه بالمشبه به، إذ الكاف في قوله:{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} . الآية. هي لتشبيه حال الكارهين لخروج الأنفال من أيديهم، وعدم ارتياحهم لذلك، في حين أن العاقبة كانت خيرا من ذلك، وإن كراهتهم لم تكن إلا من باب المثل القرآني:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} . أقول: إن الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ} هي لتشبيه حال هؤلاء في كراهيتهم لما آلت الغنائم بخروجها من أيديهم، وردها إلى الله والرسول ابتدءا، بحال الفريق الذين كرهوا الاصطدام بقريش وقتالها على قلَّتهم وكثرتها، وخوفهم وقوَّتها في حين أن تلك الكراهية لم تكن لتخرج أيضا من مثل (عسى وعسى) لما كان في ذلك الاصطدام والقتال على كراهية بعض القوم له ومحاولة الفرار منه من الخير العظيم الذي لا يقدر قدره، والإنعام الكبير الذي لا يوفى شكره. وما هذه الغنائم التي تنازعوا اليوم إلا من خير ذلك القتال الذي كرهوه وبركته لو كانوا يذكرون.

هذا وجه المناسبة بين هذه الآيات وسابقتها وقفنا القارئ الكريم عليه.

أما معاني هذه الآيات فإلي القارئ الكريم ذلك بشيء من التفصيل أحيانا وبدونه أخرى:

قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} .

ص: 245

هذه الآية معناها الذي دل عليه لفظها هو تشبيه حال المتنازعين في غنائم بدر وكراهيتهم لخروجها من أيديهم - ابتداءا - بعد أن ظنُّوا كلَّ الظنِّ أنها لهم وحدهم، وأنهم أحق بها من غيرهم مع ما كان في ذلك التدبير الإلهي من خير، بحال الكارهين لقتال قريش يوم خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بهم من بيته من المدينة يقودهم إلى المعركة بعد ما تعيَّنت، وإلى القتال بعد ما وجب، مع ما كان في ذلك أيضا من الخير لهم وحسن العاقبة.

وقوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} .

في هذه الآية تصوير بديع لحال المتنازعين في الغنائم يوم تقدم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو قتال قريش بعد ما تعين عليهم ووجب، وهم يجادلونه - فداه أبي وأمي - ويحاولون التفصي من القتال والهروب من المواجهة، بحجة أنهم لم يخرجوا لقتال قريش ولم يستعدُّوا لذلك، وإنما خرجوا لعير أبي سفيان وتجارة قريش فقط. والمخاوف تنتابهم، وتصوُّر كرب المعركة يغشاهم، حتى لكأنهم يساقون إلى الموت الحتم، وهم ينظرون إلى أسبابه قائمة بين أيدهم، ماثلة أمام أعينهم: وضعت هذه الصورة الحية لهم ليشاهدوا بأعينهم حالهم قبل الظفر بالغنائم وكيف كانوا على وضعية يستحي معها صاحبها اليوم أن يطالب بالغنائم فضلا أن يحاول الاستئثار بها دون إخوانه المجاهدين معه. كل هذا من تأديب الله تعالى لأصحاب رسوله وتربيته لهم حتى كانوا مَثَل الكمال البشري، ولم تعرف الحياة لهم نظيرا على طولها.

وقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} .

ص: 246

تضمنت هذه الآية جانبا من الصورة التي رسمتها الآية قبلها، فهي تقول لهم: أيها المتنازعون في الغنائم اذكروا اليوم الذي وعدكم الله على لسان نبيه اغتنام إحدى الطائفتين: عير قريش التجارية، أو قريش بسلاحها وكراعها، وأكد لكم ذلك بحيث لم يبقى للشك مجال في صدق هذا الوعد وأحقيته. غير أنه لم يعين لكم الطائفة الموعودة بها لحكمة الدفع بكم إلى مواصلة الطلب، والسير حتى ساحة المعركة. وأنتم في هذه الأثناء، وقبل أن يتبين لكم أن العير نجت حيث أخذ بها أبو سفيان قائدها سيف البحر ونجا بها، وإن الطائفة الموعود بها أصبحت قريشا ذات القوة والسلاح، ولم يبقى شك في قتال قريش والاصطدام بها، كنتم في هذه الأثناء تحبون متمنين أن غير ذات الشوكة تكون لكم، لأنها في نظركم من الغنائم الباردة التي لا تكلف دما ولا جهدا كبيرا.

ولكن الله أراد غير ذلك أراد النفير أراد قريشا الباغية العاتية ليكسر شوكتها، ويحطم كبرياءها فيحق بذلك الحق وينصره ويقطع دابر الكافرين ويهزمهم. وشتان بين ما أراد الله، وبين ما أردتم، فهلا تتعظون بهذه الصورة أيها القوم، وقد انتزعت من ماضيكم القريب، فتتقوا الله وتصلحوا ذات بينكم.. وقد فعلتم وهذا من فضل الله عليكم حيث أدبكم فأحسن، ورباكم فأجمل وأكمل، فله الحمد وله المنة.

قوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .

في معنى هذه الآية التعليل لإرادة الله تعالى بأن تكون إحدى الطائفتين هي ذات الشوكة التي لم يردها المؤمنون، ولم يحبوها ويتمنوها كما تمنوا غيرها وأحبوها، وأراد الله النفير (قريشا) لا العير، لأن في انهزام قريش وانتصار المؤمنين من الخير ما لا يوجد ولا معشاره في الاستيلاء على تجارة قريش والتمتع بها أياما ثم تنقضي، كما ودَّ المؤمنون الغافلون.

ص: 247

إن بانهزام قريش انتصر الإيمان على الكفر، والحق على الباطل، وإلى الأبد، ولو كره المجرمون من اليهود والمنافقين المتربصين بالرسول والمؤمنين في المدينة.. والحمد لله على تدبيره لأوليائه، وحسن بلائه لهم. وأخيرا ما في هذه الآيات من الهداية القرآنية.

إن بهذه الآيات من الهداية القرآنية ما لا مطمع لأحد في حصره، ولا استقصائه، ولا حتى في الكشف عن جله وإظهاره، لأن هذا من سر الله في كتابه وهو بحر علوم ومحيط أنوار، يفتح الله من أبواب رحمته ما يشاء على من يشاء، ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور، فليأخذ العبد بقدر ما أعطاه مولاه، فمن أعطي الكثير فهو المكثر ومن أعطي القليل فهو المقل، وليس تمَّ إلا الله. قل هو الله أحد.

وبعد، فمن هداية هذه الآيات ما يلي:

1-

تحقيق وشرح معنى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .

فقد كره من كره من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الاصطدام بقريش وحاول الفرار من مواجهتها بكل جهد، ويأبى الله إلا ذاك، فكان، وكان فيه من حسن العاقبة والخير الكثير.

كما تنازع الشبان مع الشيوخ الغنائم، وأرادها كل له دون سواه بحسب بلائه في القتال وتأثيره في المعركة، وانتزعها الله من أيديهم وجعلها له ولرسوله فتململ من تململ وكره من كره، ثم قسمها الله عليهم قسمة عادلة بقيت مثلا يحتذى في قسمة كل الغنائم إلى يوم القيامة، فكان من ذلك التدبير من البركة والخير ما لم يَقِل عن سابقه في إرادة الله تعالى النفير لا العير.

ص: 248

هذا ووجه العبرة لنا نحن اليوم وفي ظروفنا الراهنة هذه: أن المسلمين اليوم يكرهون شيئين عظيمين معا أحب الله تعالى لهم وأراد، ويُصِرُّون على ذلك إلى حد العناد والمكابرة. وهذان الشيئان هما: وحدة المسلمين في عقيدتهم وعباداتهم وشرعهم وقانونهم وحكومتهم وقيادتهم، مع أن تحقيق هذا الأمر وطاعة الله فيه من أيسر الأمور وأسهلها في هذه الظروف الحاضرة لوجود الأسباب وتوفر القدرات، فلم يكلف الأمر أكثر من التفويض لله والانقياد له، واجتماع حكام المسلمين وعلمائهم في مكة أو المدينة والخروج بوحدة كاملة، لا يكون من نتائجه سعادة المسلمين في حياتهم فحسب، بل وسعادة العالم أجمع.

والشيء الثاني: تخاذل المسلمين في قتال اليهود والسكوت عن احتلال اليهود لأُوْلى قِبْلَتَيْهِم ومسرى ومعراج نبيهم المسجد الأقصى وما حوله من الأرض المباركة.

في حين أن هذا القتال لو أرادوه وخاضوه لم يزد على أن يطهر قلوبهم من الجبن، وجيوبهم من المال الحرام، ومسجدهم من رجس اليهود. وقد يكون سببا في عزة دائمة للمسلمين. وقد يكون بداية وحدة بهم تشمل كل بلادهم، وتوجد منهم المنقذ المنتظر لعالم البشر.

وأيسر الطرق لذلك تكوين جيش إسلامي نظامي يسهم فيه جميع المسلمين بخير ما عندهم من صالح الرجال والسلاح، كل أمة بقدرها وطاقتها، ويوضع تحت قيادة إسلامية مشتركة، ويدرب ذاك الجيش أياما على الرغبة فيما عند الله، وحب لقائه، والرضا بحسن بلائه، بعد أن كان قد تدرب على استعمال السلاح وخوض معارك الكفاح، ثم يرمى به في أرض المعركة فلا يخرج منها حتى يطهر أرضها، ويعلن عن دولة للإسلام جديدة تحكِّم كتاب الله وتدعو كافة البشرية إلى الله، فيولد بها المولود المنتظر، وتقر بحكمها عيون البشر، لأنها دولة الله والحاكم فيها الله.

وختاما، آمل من كل قارئ أن يفكر جديا في تحقيق هذه الفكرة وأن يبذل لها ما يمكنه بذله، والله يحسن الجزاء لمن أحسن عملا.

ص: 249

فضل الذكر

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ربه عز وجل: "قال الله تبارك وتعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم".

متفق عليه.

ص: 250

التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي

بقلم الشيخ عطية محمد سالم

القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة

الحلقة الرابعة

القرن الرابع عشر

دخل القرن الرابع عشر والتراويح في المسجد النبوي على ما هي عليه من قبل وظلت إلى قرابة منتصفه.

ولم يطرأ عليها أي تغيير لا في العدد ولا في كيفية أدائها فكانت ستا وثلاثين ركعة وثلاثا وترا تصلى عشرون بعد العشاء وست عشرة ركعة بعد منتصف الليل وينادي لهذه الأخيرة باسم الستة عشرية كما قاله النابلسي سابقا في القرن الثاني عشر.

ولكن الجديد في التراويح في هذا الوقت أي أوائل القرن الرابع عشر هو تعدد الأئمة والجماعات المتعددة زيادة على أئمة المذاهب الأربعة، وكانوا كثيرين يزيدون تارة وينقصون أخرى ولكن الدائمين أو الرسميين منهم ستة:

1-

إمام للحاكم وحاشيته.

2-

إمام للقاضي وكتابه وأعوانه.

3-

إمام للأغوات ومن يصلي معهم.

4-

إمام للمفتي.

5-

إمام لرئيس العسكر.

6-

إمام للنساء.

7-

أئمة للعوائل، تقيم بعض العوائل الكبار التراويح لأفرادها خلف إمام خاص بها، وهؤلاء الأئمة كانوا يصلون التراويح أثناء صلاة الإمام الراتب أي مع أئمة المذاهب السابقين وكانوا يختلفون عنهم في القراءة فيقتصرون على بعض الآيات وقصار السور لأنهم يصلون بأصحاب أعمال لا يستطيعون انتظار أئمة الفريضة لأن الأئمة الآخرين أئمة المذاهب كانوا يصلون بعموم الناس وكانوا يختمون مرتين مرة في الصلاة الأولى، ومرة في الصلاة الأخيرة التي هي الست عشرية.

وكان لهؤلاء الأئمة مواضع خاصة، فكان إمام الأغوات يصلي بهم عند الدكة الخاصة وفي محراب التهجد وهو المحراب الواقع حاليا في مؤخرة الحجرة والذي في الشبك الواقع بين الحجرة والدكة، أي دكة الأغوات محل أهل الصفة.

ص: 251

كما أن النساء كان يصلي بهن داخل القفص، وكان القفص عبارة عن شبك خشبي مزركش يحجز النظر يمتد في الجناح الشرقي من جهة باب النساء ممتدا إلى الشمال إلى الباب المجيدي من مؤخرة المسجد آنذاك وبعرض الجناح الشرقي كله.

وكان بارتفاع نحو ثلاثة أمتار، وغير مسموح لأحد بدخوله سوى النساء والأطفال والأغوات إذا لزم الأمر.

وقد أزيل هذا القفص قبل التوسعة الجديدة الحالية.

وكان إمام لشيخ الروضة يقوم في الحصوة الأولى التي بين باب الرحمة وباب النساء مما يلي مؤخرة الحرم.

ومن العجب ما أخبرني به السيد سعيد باشا شامل أن إمام شيخ الروضة كان يقرأ القرآن كله كل ليلة في التراويح طيلة الشهر، وقال:"كان هذا الإمام يقرأ بسرعة شديدة بحيث أنه كان تأخذه هزة وينسى نفسه وربما قرأ الجزء في الركعة الواحدة".

وقد سمعت من فضيلة الشيخ حسن الشاعر شيخ قراء المسجد النبوي أن رجلا كان يقرأ القرآن الكريم كله في ليلة واحدة من ليالي رمضان في صلاة التراويح، ولكن كان يفعل ذلك مرة واحدة تأكيدا لحفظه، وقال: كان يسرع في القراءة حتى لا تكاد تسمع منه إلا رؤوس الآية أو أواخرها من شدة السرعة، ومثل هذا يكون لضبط الحفظ لا للتدبر.

صلاة شيخ الحرم:

ص: 252

وسمعت من الشيخ السيد أحمد الرفاعي وهو شيخ الحرم الآن، أن شيخ الحرم في عهد الأتراك والأشراف كان يصلي التراويح أحيانا في دكته أي دكة شيخ الحرم شتاء وهي الدكة الصغيرة الواقعة بين باب جبريل ودكة الأغوات على يمين الداخل من الباب ولا تزال موجودة حتى الآن وتتسع لثلاثة صفوف كل صف فيه ثلاثة أشخاص وترتفع قدر نصف المتر تقريبا كان يصلي به إمام خاص به وبمن يصلي معه فكان يصلي التراويح بتلك الدكة شتاء ويصلي التراويح بالحصوة الأولى صيفا. ومما يدل على صلاة التراويح بالحصوة على وجه العموم ما جاء عن النابلسي أنه قال عن بعض الليالي قال:"وكنا في صلاة التراويح فنزل المطر فدخلنا إلى الداخل"مما يدل على أنهم كانوا يصلون التراويح في الحصوة صيفا وفي الداخل شتاء وأن ذلك عمل البعض، لأنهم يذكرون صلاة أئمة الفريضة في محاريب معينة ويصلون فيها أيضا التراويح.

وسيأتي ذكر صلاة بعض أمراء المدينة في العهد السعودي للتراويح في الحصوة أيضا زمن الصيف إن شاء الله.

وبجانب هؤلاء الأئمة الست أئمة أيضا لبعض العوائل الكبار تجتمع العائلة بجميع أفرادها من عميدها وكبيرها إلى غلمانها فيأتي إمامهم فيصلي بهم في جهة ما من المسجد إلى أن ينهي التراويح طيلة رمضان.

إمامة طارئة من نوع جديد وطريف:

وكانت هناك إمامة الغلمان الذين يحفظون القرآن ويختمونه في تلك السنة من أي سنة من السنين فإذا تم حفظه في أي وقت من أوقات السنة ظل ينتظر حتى يأتي شهر رمضان فيحضر إلى الحرم ويحضر معه شيخه الذي حفظه وأبوه وزملاؤه الذين يحفظون معه وبعض الأقارب والأصدقاء فيقوم الغلام بصلاة التراويح ويقرأ القرآن الكريم كله في أثناء الشهر أو أقل بسماع شيخه والحاضرين فيكون بمثابة اختبار له وشهادة منهم على حفظه ثم يعمل له والده حفل ختم القرآن كلٌّ حسب اقتداره ومجهوده.

ص: 253

وقد يبذل والد الغلام الشيء الكثير في هذا الحفل فرحا بحفظ ولده للقرآن العظيم وقد يهدي الحلل والهدايا الثمينة للشيخ والحاضرين علاوة على الطعام والحلوى ثم يلبس الغلام حلة وعمامة تشعر بأنه ختم القرآن وصلى به التراويح بالمسجد النبوي، وقد حدثني الشيخ السيد جعفر فقيه عن هذا العمل حديثا شيِّقا ولا سيما ما فعله والده نفسه لأحد أولاده، كما سمعت من فضيلة الشيخ محمد سعيد دفتر دار طرقا عديدة في ذلك.

وقد كان لهذا العمل فضل عظيم في تشجيع طلاب الكتاتيب على حفظ القرآن الكريم.

وكان بالحرم النبوي عدة كتاتيب يقوم عليها نخبة من معلمي القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن وكانت تلك الكتاتيب هي اللبنة الأولى في تعليم أبناء المدينة كلهم ومنها إلى دروس الحرم أو المدارس فيما بعد.

ولا زالت صلاة هؤلاء الطلاب الصغار الذين ختموا القرآن يصلون بأهاليهم وزملائهم ومشائخهم لازال موجودا حتى الآن إلا أنه على نطاق ضيق ومن قلة من الناس.

ولا يبدؤون صلاتهم إلا بعد أن يفرغ الإمام من الصلاة بالناس.

والجدير بالذكر أنه أخذ يتناقص حتى أصبحنا لا نرى إلا الواحد أو الاثنين فقط وأن الكتاتيب نفسها قد ألغيت ولم تبق إلا آثار وبقايا في جوانب المسجد لا تستطيع مواصلة السير مع الصبيان حتى تعلمهم وتحفظهم القرآن.

كما أن آباء هؤلاء الصبيان لا يرضون لأبنائهم قضاء الوقت في أمثالها فيبادرون بهم إلى المدارس ومن ثم يثقل الطفل بالمواد فلا يستطيع حفظ القرآن اللهم إلا من وجدوا عناية خاصة من آبائهم أو التحقوا بمدارس تحفيظ القرآن التي أنشأتها وزارة المعارف تسد هذا الفراغ وساندها أهل الخير بإنشاء جمعيات لهذا الغرض، وقد التحق بها العديد من أبناء الحاضرة والبادية.

ولقد استطرد بنا الحديث إلى تلك الكتاتيب فلنعد إلى التراويح من أول العهد السعودي.

العهد السعودي

تمهيد:

ص: 254

من أصعب المواضيع على الكتاب هو الموضوع الذي لم يسبق إليه، حيث لا مثال يحتذي ولا مصدر يستقى منه، وسيكون الكاتب، وإن قيل أن له قصب السبق إلا أنه سيكون موضع التجربة، ومحل النقد، لأنه سيتصيده من بحار الكتب ثم يجمع ما تصيده في سلك التأليف. فإذا لم يكن له وجود في الكتب، ولم يقيد قط، ولم يكن الكاتب يعاصره كان ذلك أصعب عليه، لأنه لا مرجع يؤخذ منه، ولا مشاهدة يستقي منها، بل سيتصيد ذلك من أقوال الرجال، وإذا كان العهد بعيدا كانت الصعوبة أشد لما يعرض للناس من آفة النسيان، وسيجد اختلافات عديدة وأقوال متنوعة، وعليه هو أن يستخلص منها ما يوصله إلى مطلوبه، وفي مثل هذه الحالة لن يسلم من الخطأ بزيادة أو نقص.

ومبحث التراويح في العهد السعودي وفي أوائله بالذات من هذا القبيل، فلا هو مدوَّن في كتب التاريخ، فيرجع إليها، ولا هو مشاهد فيستقى من الواقع.

وقد اتصلت بالكثيرين ممن شاهدوا أواخر العهد السابق وأوائل هذا العهد فكان كل يدلي بما حفظته الذاكرة ولم تضيعه عليه الأيام، وما نقص من عند هذا يكمل من عند ذاك، وكانت في مجموعها متفقة في أصولها وإنما الخلاف في صورها وأشكالها فاستخلصت منها ما سنقدمه للقراء الكرام ليأخذوا ولو صورة مجملة.

وإني لأجدد الذكرى بما أسلفت من رجاء من حضرات القراء أن من اطلع على شيء يتعلق بهذا الموضوع فإنه يتفضل بتقديمه إلينا تتمة للبحث وتوفية للموضوع وخدمة للمعرفة، وتأييدا للحق.

بدء العهد السعودي بالحجاز:

بدأ العهد السعودي قبيل منتصف هذا القرن وبدأ في المدينة المنورة بالذات سنة 1344هـ، وقد كانت التراويح من قبله تصلى جماعات متعددة بأئمة متعددين في وقت واحد وكانوا جميعا يصلون عشرين ركعة في أول الليل، والبعض منهم وخاصة المالكية يرجعون آخر الليل إلى المسجد النبوي يصلون ست عشرة ركعة المتقدم ذكرها وقد زال هذا التعدد من أوائل العهد السعودي.

ص: 255

أما وجوده فكان طارئا على المدينة لم يحدث إلا بعد القرن السابع وكانت المدينة سبعة قرون تصلي الصلوات كلها بإمام واحد ولا تتعدد فيها الجماعة لفريضة واحدة بل إن مالكا رحمه الله وهو إمام دار الهجرة ممن يكره تعدد الجماعة في المسجد الواحد للفريضة الواحدة.

وقد مرَّت بالمدينة قبل هذا العهد أطوار مذهبية ساد أولا فيها مذهب مالك ثم ساد بعده مذهب الشافعي، ثم بعده مذهب أبي حنيفة رحمهم الله جميعا، وذلك بدون تعدد في وقت واحد ثم تعدد المذاهب في المدينة بعد أن ظهرت الدراسات المذهبية وتميز طلاب كل مذهب، وبدأت المنافسة ثم تحولت إلى مناقشة، ثم انتهت إلى تعصب، وأخيرا تعدد الأئمة في الصلوات الخمس، ثم جاء العهد السعودي فتوحدت فيه الجماعة في المسجد النبوي وفي المسجد الحرام للصلوات الخمس وللتراويح.

أما عدد الركعات وكيفية الصلاة فكانت عشرين ركعة بعد العشاء وثلاثا وترا، وذلك طيلة الشهر فإذا دخل العشر الأواخر زيدت عشر ركعات في آخر الليل باسم القيام، ومعها ثلاث وترا. فيكون مجموع الركعات في العشر الأواخر ستا وثلاثين ركعة إذا أضفنا الوتر أول الليل وآخره فيتفق العدد مع ما كانت عليه من قبل، ولكن هل كان ذلك مقصودا أم جاء عفوا واتفاقا يغلب على الظن أنه جاء عفوا وإن الزيادة قصد بها الاجتهاد في العشر الأواخر كما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها. وعنها أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر طوى فراشه وشد مئزره وأيقظ أهله.. إلى غير ذلك.

ولا سيما شدَّة التحري لليلة القدر التي تضافرت النصوص أنها في العشر الأواخر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر دون غيرها.

وعليه فتكون التراويح قد استقرت على عشرين ركعة على ما عليه العمل في جميع البلاد وعليه المذاهب الثلاثة. وخصت ليالي العشر الأواخر بعشر ركعات تهجدا وقياما.

ص: 256

الجديد في هذا العهد

فيكون الجديد في التراويح في هذا العهد بالنسبة لما قبله هو: توحيدها في الجماعة الأولى، وإبطال التعدد الذي كان يشوش بعضهم على بعض. وقد سمعت من الشيخ محمد مظهر أن جده كان يخرج إلى بيته يصلي التراويح فرار عن التشويش في المسجد.

والجدير بالذكر أن من أعظم نعم الله على الأمة أن تتوحد في الصلوات كلها في جماعة واحدة، وعلى إمام واحد أيا كان مذهبه من المذاهب الأربعة التي لم تخرج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولسنا في معرض مناقشة تعدد الأئمة والجماعة في الصلاة الواحدة في المسجد الواحد لا لشيء إلا لاختلاف مذهب هذا عن مذهب ذاك مع اتفاق أئمة المذاهب أنفسهم رحمهم الله على جواز صلاة كل منهم خلف الآخر. ولسنا كذلك في معرض المقارنة بين مذهب ومذهب فكلهم يرجعون إلى أصل واحد هو الكتاب والسنة. فلسنا في معرض هذا أو ذاك ولكن يهمنا وحدة الأمة، وبالأخص في عمل هو شعار الوحدة، ويكفي في ذلك الإشارة إلى ما سلف ذكره عن عمر رضي الله عنه لما دخل المسجد ووجد تعدد الجماعات فساءه ذلك فجمعهم على إمام واحد كراهية تفرقتهم أوزاعا، ولما رآهم من الغد ورأى اجتماعهم بعد الفرقة أعجبه ذلك وقال:"نعمت البدعة تلك".

ص: 257

أما العدد والاقتصار منه على عشرين ركعة فإنه العدد المعمول به عند الأئمة الثلاثة أبي حنيفة والشافعي وأحمد في غير المدينة وأخذا برواية ((يزيد بن رومان)) في نفس المدينة وعدم الأخذ بالزيادة في مقابل طواف بعض أهل مكة الذي تقدم الكلام عليه. وهذا العدد هو ما كان العمل عليه في المائة الرابعة وما بعدها إلى عهد أبي زرعة رحمه الله وتقدم أنه لما أراد بإعادة الست والثلاثين ركعة لم يعدها مجتمعة بل راعى خلاف الأئمة فصلى عشرين ركعة بعد العشاء عملا بما عليه الاتفاق، وأتى بالست عشرة ركعة آخر الليل مراعاة لعمل أهل المدينة، وقد كان يختم القرآن مرتين إحداهما في العشرين ركعة أول الليل، والأخرى في الست عشرة ركعة التي يصليها في آخر الليل.

وهذا الختم موجود كذلك في هذا العهد حيث يختم الإمام في التراويح أول الليل ثم يختم مرة أخرى في العشر ركعات في آخر الليل من العشر الأواخر.

فالتقى هذا العهد مع الذي قبله تقريبا في النتيجة، وهي ختم القرآن الكريم مرتين وإن اختلف عنه في عدد الركعات وفي كيفية توزيع الصلاة، وانفرد هذا العهد بتوحيد الجماعة وإن وجد عدة أئمة يتناوبون الصلوات الخمس دون أن تتعدد الجماعة للصلاة الواحدة.

وكان أول من تولى الإمامة في العهد السعودي من السعوديين هو الشيخ الحميدي بردعان من أهالي حائل.

وتولاها معه ومن بعده عدة أئمة كانوا من أئمة سابقين يصلون بأتباع المذاهب الثلاثة على الوضع الأول فكانوا يتناوبون جميعا للصلوات الخمس يصلي كل واحد منهم بالجميع فريضة دون تعدد الجماعات.

فكان الشيخ محمد خليل من أئمة الشافعية سابقا أسندت إليه صلاة الظهر للجميع.

وكان الشيخ مولود من أئمة المالكية سابقا أسندت إليه صلاة العصر.

وكان الشيخ أسعد توفيق من أئمة الأحناف أسندت إليه صلاة العشاء.

وأسندت صلاتي المغرب والفجر إلى الشيخ عبد الرزاق حمزة.

ص: 258

وكان ينوب عنه الشيخ تقي الدين الهلالي.

كما كان يصلي أيضا الشيخ محمد عبد الله التنبكتي.

ثم كان من بعدهم جميعا لجميع الصلوات الخمس وللتراويح فضيلة المرحوم الشيخ صالح الزغيبي تولى الإمامة حوالي ربع قرن ظل فيها إلى أخريات حياته.

ولما كبر كان يساعده فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ابتدأ من شعبان سنة 1367هـ ثم انفرد بالإمامة فضيلة الشيخ عبد العزيز بعد وفاة الشيخ صالح الزغيبي رحمه الله سنة 1376هـ تقريبا.

وفي سنة 1376هـ عيِّن فضيلة الشيخ عبد المجيد بن حسن مساعدا لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح.

ولا تزال إمامة المسجد النبوي الرسمية لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ونائبه فضيلة الشيخ عبد المجيد بن حسن إلى تاريخ كتابة ذلك.

وكنَّا نود أن نقدم الكثير عن أصحاب الفضيلة أئمة المسجد النبوي في هذا العهد وخاصة الذين صلوا التراويح ولكن ذلك يطول ذكره ويبعدنا عن الموضوع.

ولكن لا يسعنا إلا أن نورد عبارات موجزة ولمحات خاطفة إلى أن يقيض الله من يترجم لهم جميعا تراجم وافية في رسالة مستقلة خدمة للمسجد ووفاء بحق أئمته.

وقد ترجم ابن فرحون للعديدين من أئمة المسجد النبوي في عصره وساق طرفا عنهم رحمهم الله.

ثم أعقبهم بتراجم للمؤذنين ثم للخدام وذكر الكثير من ذلك في عصره رحمه الله.

مما يلفت النظر إلى أسبقية هذا العمل وأنه محل عناية المؤرخين والكتاب والمؤلفين.

ولا سيما إذا تناول البحث جانبا علميا وحُكْماً فقهيا لنوع الإمامة وكيفية القراءة وهيئات الصلاة.. إلخ.. لما لهذا المسجد الشريف من مكانة في النفوس ومنزلة في القلوب جعلته المثل الذي يحتذى والقدوة التي به يقتدى.

ص: 259

ولئن عني بالإمامة في هذا المسجد في السابق فلهي اليوم أولى بالعناية وألزم حيث تزايد عدد المصلين وتضاعف عدد الوافدين وتطلعت الأنظار إلى بلوغ الكمال، وما يتناسب ومقام المسجد من تعظيم وإجلال ولا سيما وقد كان ذلك مقام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خلفائه من بعده.

وإنها لنعمة يسوقها الله لمن أسعدهم من خلقه يشرفون بها ويؤدون حقها.

ومن ثم عظم حق الأئمة في هذا المسجد الشريف على سائر الناس وعظم الواجب في حقهم أقل ما يكون هو ترجمة شخصياتهم وبيان مزاياهم ليقتدي بهم أئمة مساجد الدنيا في الحفاظ على الأوقات وإتمام العمل في الصلوات وما إلى ذلك.

إذا كنا لا نستطيع إيفاء الواجب كما ينبغي فلا أقل من نبذة موجزة للتعريف لا للتأليف، ونقول بإيجاز: أئمة المسجد.

أما الشيخ الحميدي واسمه الشيخ الحميدي بردعان تقدم أنه كان من أهالي حائل وهو أول من تولى الإمامة في المسجد النبوي في أول العهد السعودي مكث لمدة سنتين ثم طلب من الملك عبد العزيز رحمه الله أن يسمح له بالعودة إلى بلده تلبية لرغبة جماعته ليعلمهم ويصلي بهم فامتنع عليه أولا ثم سمح له أخيرا. وبعد مدة رغب العودة إلى المدينة فلم يتيسر له.

أما الشيخ مولود فكان من أهالي المغرب وكان قد هاجر إلى المدينة قبل العهد السعودي وتوفي بالمدينة ولم أعلم أنه صلى التراويح.

وأما الشيخ محمد خليل والشيخ أسعد فمن أهالي المدينة والشيخ أسعد هو الذي تولى صلاة التراويح وتوفي كل منهما بالمدينة وعقبا أبناء كراما. وكان الثلاثة رحمهم الله من أئمة المذاهب الثلاثة في المسجد النبوي قبل هذا العهد.

ص: 260

أما الشيخ عبد الرزاق حمزة فقد هاجر من مصر إلى المدينة في أوائل هذا العهد وتولى الإمامة للمغرب والفجر لمدة فوق السنتين ثم نقل إلى مكة المكرمة، ولم يعد إلى المدينة المنورة وظل بين مكة والطائف. وفي سنة 72ـ 1373هـ انتدب لتدريس المصطلح والحديث في المعهد العلمي بالرياض وانتهى به المطاف الآن إلى الطائف لكبر سنه، نسأل الله لنا وله العافية.

والشيخ تقي الدين الهلالي هو:

هاجر من المغرب في سنة 1340-1341هـ إلى مصر ومكث بها سنة واحدة لقي فيها السيد رشيد رضا وتنقل بين قبلي وبحري والإسكندرية في دعوة سلفية.

ثم سافر إلى الحج تلك السنة ومكث ثلاثة أشهر طرف الشيخ محمد نصيف وكان حفظه الله مركزا لكل سلفي يقدم جدة.

ثم سافر إلى الهند للدراسة والاطلاع على المكتبات وألقى دروسا في مدرسة علي جان من مدارس أهل الحديث في دلهي ثم تنقل في أرجاء الهند، ولقي شارح الترمذي صاحب التحفة أثناء كتابته للشرح المذكور وقد قرظه بقصيدة يهيب فيها بطلاب العلم إلى التمسك بالحديث والاستفادة من الشرح المذكور وقد طبعت تلك القصيدة في الجزء الرابع من الطبعة الهندية.

ثم سافر إلى العراق لمقابلة الشيخ الألوسي فلم يدركه ومكث بها ثلاث سنوات وتزوج بها وأنجب.

ثم جاء إلى الحجاز سنة 1345هـ مرة أخرى ومر بالشيخ رشيد رضا بمصر فكتب معه كتابا للملك عبد العزيز يشير عليه بإقامة الشيخ تقي الدين لديه.

فأراد الملك رحمه الله أن يوليه الإمامة في المسجد النبوي ولكنه اشترط أن يؤدي الصلاة على نحو عشر تسبيحات في الركوع والسجود فاعتبر ذلك تطويلا فعين مراقبا للدروس في الحرم النبوي وعين زميله الشيخ عبد الرزاق حمزة إماما ولكن الشيخ عبد الرزاق كان ينيبه عنه في بعض الصلوات خاصة في صلاة الصبح.

ص: 261

ومكث سنتين بالمدينة المنورة ثم وقع نزاع بينه وبين أمير المدينة آنذاك فسافر إلى مكة مدرسا في المعهد السعودي وهو معهد ثانوي ديني وقد سمعت من فضيلته أن سبب هذا النزاع هو الاختلاف في أسلوب الدعوة وتغيير المنكر بين الشدة واللين وقد هجا بعض الأشخاص المسؤولين آنذاك لتراخيه في أمر العقيدة وقد أملى علي أبياته في هجائه غير أني لم أرد ذكره لما فيه من التصريح باسمه، وقد توفي قريبا رحمه الله فلا حاجة لذكرها بعد وفاته.

والجدير بالذكر أن زميله الشيخ عبد الرزاق كان سفره إلى مكة لنفس السبب، ثم سافر حفظه الله إلى الهند بدعوة السيد الندوي ومكث ثلاث سنوات ثم رجع إلى العراق ومن ثم سافر إلى أوربا لتحصيل شهادة رسمية عالية بجانب شهادته القروية من جامعة القيروان.

فسافر إلى جنيف ولقي الأمير شكيب أرسلان فتوصل إلى التدريس في جامعة ((بون)) محاضرات في اللغة العربية ودرس حتى نال الدكتوراه سنة 1940م.

ثم سافر إلى المغرب ومكث حتى انتهت الحرب فرجع إلى العراق وعمل أستاذا في جامعة بغداد إلى قيام ثورة عبد الكريم قاسم فهرب إلى ألمانيا ومنها إلى المغرب فعين مدرسا في جامعة الملك محمد الخامس.

ومن ثم دعي إلى المدينة المنورة للتدريس في الجامعة الإسلامية ابتداء من سنة 1388هـ ولم يزل بها حتى الآن مدرسا وعضو المجلس الإداري.

هذه خلاصة ما سمعته مشافهة من فضيلته، وقد سجلته نظرا إلى أنه يعتبر من أسبق المعاصرين لأوائل هذا العهد.

أما الشيخ عبد الله التنبكتي فهو من بلاد مالي من إقليم تنبكتو وهي العاصمة العلمية والسياسية لتلك البلاد وقد كان من علماء العربية والفقه.

ص: 262

وكان له نشاط حميد في الدعوة بالمدينة ولظروف ما عاد إلى بلاده حوالي سنة 1344هـ وزاول نشاطه منقطع النظير في الدعوة إلى الله بفتح المدارس وتعليم عقيدة السلف، وكانت له جولات مع أعدائه على أيدي المستعمرين الفرنسيين آنذاك ولكن الرجل في نصرة دين الله فكان الله ناصر له كما قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} ولم يستطع الأعداء هناك النيل منه وبقي على عمله حتى توفاه الله.

ولعلي آتي بتفاصيل أوفى عنه وعن نشاطه في رسالة التراويح هذه التي ستطبع إن شاء الله تعالى قريبا في كتيب مستقل.

أما الشيخ صالح رحمه الله فقد آلت إليه الإمامة بعد هؤلاء جميعا وقام بها وحده منفردا بها منقطعا إليها ومكث بها مدة خمس وعشرين سنة تقريبا. وتوفي رحمه الله عن عمر يناهز الثمانين.

وكان من أهل القصيم وكتب عنه الشيخ محمد سعيد دفتر دار كتابة وافية في كتابه المخطوط أعلام المدينة.

ولكن الذي يهمنا هو جانب الإمامة وما له فيه من غرائب ونوادر لم تنقل عن غيره منها ما سمعته من فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح عنه أنه كان رحمه الله إذا أتى المسجد لصلاة العصر لم يخرج حتى يصلي العشاء، وإذا أتى لصلاة الفجر لا يخرج حتى تطلع الشمس.

ومنها ما سمعته من الشيخ عبد الرحمن الحصين أنه لم يؤخذ عليه سهو في الصلاة إلا النادر كما سمعت من فضيلة الشيخ عبد المجيد أنه دخل في الصلاة مرة ثم التفت وأشار إليهم مكانكم وذهب فتطهر وعاد للصلاة ولم يستخلف لأنه كان حريصا ألا تفوته صلاة وهو بالمدينة.

ولذا فالمشهور أنه لم يتخلف عن صلاة قط مدة وجوده بالمدينة إلا لمرض ولم يخرج من المدينة إلا إلى الحج وحج مرة واحدة.

ص: 263

ومن الطريف أن إمام الحرم المكي في وقته كان ربما أطلق على نفسه إمام الحرمين فجاء إلى المدينة وأراد أن يصلي بالمسجد النبوي ولو فريضة واحدة كي يبرر هذا الإطلاق فلم يمكنه الشيخ صالح من ذلك أبدا.

ومن العجائب ما حدثني به رحمه الله أنه في بعض الأيام استيقظ لصلاة الفجر وكان من عادته أن يبكر قبل الوقت بساعة تقريبا يتوضأ ويوتر ثم ينزل إلى الحرم وبعد أن أتم وضوءه وأراد لبس حذائه فإذا بعقرب فلدغته في قدمه، ولم يجد من يسعفه في ذلك الوقت ولم يستطع إخبار نائبه ليصلي عنه فصبر وتجلد ونزل إلى الحرم كعادته، وانتظر الموعد المحدد الذي ألف الناس إقامة الصلاة فيه وهو بعد الأذان بثلث ساعة ثم صلى بالناس، ولم يقدم الصلاة عن الموعد المحدد حرصا على إدراك الناس للجماعة، وكل ذلك لم يعلم بحالته أحد حتى انتهى من صلاته وعندئذ نفد صبره وانهارت قواه فلم يستطع النهوض وأخبر بعض الحاضرين فقرأ عليه بعضهم ثم نقل إلى بيته وأسعف هناك بمصل ضد العقرب. وكان في أخريات حياته ينوب عنه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ثم لما ثقلت عليه القراءة صار ينوب عنه في الجهرية وفي خطبة الجمعة وهكذا في التراويح وفي العشر الأواخر.

أما فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي الآن ومساعده فضيلة الشيخ عبد المجيد المعاصران فإن معاصرتهما وإمامتهما تغني عن التحدث عنها، ومعرفة الجميع لها تكفي عن التعريف بهما وما يعرفه المعاصرون عنهما أكثر مما سيكتب بخصوصهما.

ولكن ما لابد منه لهذا العرض وما له صلة بصلاة التراويح، وما يقتضيه المقام من الإشارة بإيجاز فإني أوجزه في الآتي:

ص: 264

أولا: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح آل صالح ولد بالمجمعة ونشأ في أسرة كريمة عرف جميع أفرادها بالفضل وتحتل مكانتها في البلدة المذكورة بأصالة الرأي وحسن القدوة في أعيانها، فنشأ حفظه الله على أسس كريمة فاضلة ومحبة للخير فحفظ القرآن الكريم في صغره قبل البلوغ. ودرس على المشايخ الأوائل، وأكثر من أخذ عنه العلامة الفاضل الشيخ عبد الله ابن عبد العزيز العنقري من كبار علماء عصره وصاحب الحاشية المعروفة بحاشية العنقري على الروض المربع في ثلاث مجلدات. ثم أنهى دراسة التجويد على الشيخ القراء في المسجد النبوي وإمام عصره في القراءات فضيلة الشيخ حسن الشاعر سنة 1370هـ على قراءة حفص.

ومنذ بدء دراسته حفظه الله وهو دائب الجد والتحصيل وكانت دراستهم مناقشة ومنافسة على نظام الحلق والمراجع بدون تقيد بوقت ولا اختيار في مقرر وهي الطريقة التي كانت سائدة في عامة البلاد قبل الدراسات النظامية. فكانت مجالا واسعا للتحصيل والنبوغ.

وقد ظهرت مخايل نبوغه في صغره فاختير لمساعدة إمام مسجدهم لصلاة التراويح وعمره 16 سنة ثم عين إماما في المجمعة ثم رئيسا لهيئة الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمجمعة مع مواصلة الدراسة، ثم عين في سلك القضاء فعين في الرياض مع فضيلة الشيخ عبد الله بن زاحم رحمه الله فاتصل في تلك المدة بأصحاب الفضيلة من المشايخ بالرياض وخاصة آل الشيخ وسماحة المفتي رحمه الله، وفي سنة 1363هـ اختار الملك عبد العزيز رحمه الله فضيلة الشيخ عبد الله بن زاحم وكان من خواص رجالاته المقربين ذوي المكانة الخاصة لدى جلالته اختاره لرئاسة محكمة المدينة المنورة، فاختار هو أيضا فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ليكون معه بمحكمة المدينة.

وفي شعبان سنة 1367هـ بدأ فضيلته الإمامة في المسجد النبوي مساعدا لفضيلة الشيخ صالح الزغيبي رحمه الله وكان يساعده في الصلوات الجهرية خاصة ثم عموم الصلوات والجمعة.

ص: 265

وفي سنة 1370هـ توفي الشيخ صالح رحمه الله فأسندت الإمامة والخطابة إلى فضيلة الشيخ عبد العزيز حفظه الله وبجانب عمله الرسمي بالمحكمة الكبرى وكان آنذاك مساعد الرئيس مع دروس في الفقه والفرائض بالمسجد ثم بالبيت.

وفي 12 رجب سنة 1374هـ توفي فضيلة الشيخ عبد الله رئيس المحكمة فأسندت الرئاسة إلى الشيخ عبد العزيز بن صالح، وفضيلته من ذاك التاريخ هو الإمام والخطيب ورئيس المدرسين بالمسجد النبوي بجانب رئاسة المحاكم والدوائر الدينية بمنطقة المدينة.

وبعد نظام كادر القضاة عين فضيلته على رتبة قاضي تمييز واختير عضوا في المجلس الأعلى للقضاء وهو المجلس الذي يشرف على سير القضاء كله في المملكة كلها.

وكل ذلك معلوم للجميع الذين عرفوا فضيلته وما ذكرنا ذلك إلا بيانا لمقدار الإمامة بالمسجد النبوي وأنها لأعظم منصب وأكبر خطرا من ذلك كله.

ومما هو غني عن الذكر في هذا أن فضيلته وجه الخطابة إلى المشاكل والقضايا الاجتماعية درسا وتحليلا وعلاجا وتوجيها، فنقلها عن الدواوين المسطورة إلى الوقائع المشهورة.

أما التراويح موضوع الرسالة والكتابة فهي في صورتها وكيفية أدائها تلاوة وطمأنينة فهي في الواقع تعتبر الوسط الفاضل، فلا هي طويلة على ذوي الحاجات ولا هي قصيرة عند ذوي الرغبة في العادات، بل هي ترتيل من غير تطويل، وتخفيف من غير تحريف سواء من فضيلته أو من فضيلة مساعده عبد المجيد بن حسن.

تلك نبذة يسيرة لعمل تاريخي من زاوية محدودة لا ترجمة ولا تعريفا إذ التراجم دراسات من مقدمات ونتائج وليس هذا مجالها والتعريف بمن يكون مجهولا ولا محل للجهالة مع عظمة هذا المنصب الذي يعرف بصاحبه لدى القاصي والداني حفظه الله وأمد في عمره لخدمة هذا المنصب الجليل.

ص: 266

أما فضيلة الشيخ عبد المجيد بن حسن فقد بدأ دراسته أولا في بلاده ثم واصل دراسته في مدرسة دار العلوم الشرعية بالمدينة إبان حدتها وقوة دراستها حين كان بها القسم العالي للعلوم الدينية والعربية وواصل دراسته أيضا الدينية والعربية في المسجد النبوية على عدة مشائخ منهم الشيخ الطيب رحمه الله.

وقد اختير للتعليم فالتحق بمديرية التعليم آنذاك وكان أول مؤسس لمدرسة شقراء سنة 1360هـ فقام بها خير قيام وكان لفضيلته أكبر الأثر في جميع أبنائها خاصة في أهالي البلدة عامة.

وفي سنة 1366هـ التحق بسلك القضاء فعين بمحكمة رابغ وعمل بها لمدة ست سنوات إلى نهاية عام 1371هـ.

وفي عام 13714هـ نقل إلى محكمة المدينة ثم كان المساعد الثاني لفضيلة الرئيس الشيخ عبد الله ابن زاحم رحمه الله، وكان المساعد الأول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح.

وفي سنة 1373هـ بدأ الصلاة بالمسجد النبوي مساعدا لفضيلة الإمام عبد العزيز بن صالح وفضيلته الآن المساعد الأول لفضيلة الإمام يعاونه في الصلوات الخمس وينوب عنه في جميعها وفي الخطبة عند غيابه. ويشترك معه في صلاتي التراويح والقيام على النحو الآتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وفي عام التسعين والثلاثمائة والألف عند كتابة هذه الأحرف عين فضيلته عضوا في محكمة التمييز بالمنطقة الغربية وانتدب إلى الهيئة العلمية.

وكما أسلفت فلست في معرض الترجمة ولا بيان المزايا الشخصية والخصائص الفردية لكل من الشيخين فضيلة الإمام ونائبه، فهناك الشيء الكثير سواء ما عرفته من كل منهما، أو عرفه بعض خواصهما أو عرفه كل منهما عن الآخر بحكم ما بينهما حفظهما الله من قوة الصلة وروابط الإخاء والصداقة الشخصية فوق حدود الزمالة والعمل من أول ارتباطهما معا في عمل واحد.

ص: 267

فلسنا في معرض بيان كل ذلك فكما أسلفنا معاصرة فضيلتهما أغنت عن تفصيل الحديث عنهما، وما يعرفه الناس عنهما أكثر مما يمكن أن يقال فيهما.

أمد الله في حياتهما وبارك فيهما أمين.

هذه لك عندي، فما لي عندك؟

طلب بعض الملوك كاتبا لخدمته، فقال للملك:

أصحبك على ثلاث:

فقال ما هي؟

قال: لا تهتك سترا، ولا تمنع عذرا، ولا تقبل فيَّ قول قائل.

فقال: هذه لك عندي، فما لي عندك؟

قال: لا أفشي لك سرا، ولا أؤخر عنك نصيحة، ولا أؤثر عليك أحدا.

ص: 268

دراسات أدبية

كتاب في أفريقية الخضراء

بقلم الأستاذ محمد المجذوب

المدرس في الجامعة

كثيرون الذين كتبوا في ميدان الرحلات فسجلوا مشاهداتهم، وصوروا انطباعاتهم، وقد اشتهر من هؤلاء رحالون من العرب في القديم والحديث، كان لرحلاتهم العالمية أثرها العميق في قلوبهم وعقولهم، وكان لمؤلفاتهم عنها فوائد جليلة لا نزال نقتطفها وننعم بثمراتها. وما أحسبني مغاليا إذا صنفت كتاب (في أفريقية الخضراء) ضمن هذه المؤلفات الدسمة المفيدة.

إن للأدب الخاص بالرحلات عناصر لابد من توفرها في الكتاب، على رأسها دقة الملاحظة، وحرارة الانفعال، وصحة الحكم، وأخيرا براعة التحليل الذي يربط بين الوقائع والدوافع، على أن يسكب ذلك كله في أسلوب عفوي يحمل طابع السهولة والامتناع معا.

وقد توفر للأستاذ محمد العبودي كل هذه العناصر مجتمعة، سواء في كتابه هذا أو فيما سبقه من بحوث ضمها كتاب أو نشرت في مجلة. فهو في كتابه (الأمثال العامية في نجد) لغوي مدقق، وباحث متتبع، يتقصى الأسباب الجامعة بين المثل الدارج وأصله الفصيح، ولا يفوته إدراك الصلة الاجتاعية بين الوسط والكلمة. وفي كتابه المُعَد للطبع (الثقلاء) ظرف وطرافة، الحافز إليها بالدرجة الأولى ملاحظته العميقة للفروق الدقيقة بين أصناف الطبائع.. هذا إلى ما أوتيه من ثقافة أدبية تجعله مرجعا يعاد إليه في ما غمض من أخبار الأدب والأدباء، إلى مطالعات متجددة لا يكاد يند عنها أي جانب من أنباء العصر.

وطبيعي أن مثل هذه المميزات العقلية من شأنها أن تنفخ في مذكراته - عن جولتيه في أفريقية - روحا ترتفع بها عن مستوى الكتابات العادية التي تكتفي بالوقوف عند السطوح.

ص: 269

وقد آثرت لكتابه هذا صفة المذكرات أخذا بما ذهب إليه هو في تعريفها، وجريا مع الطريقة التي سلكها في تسجيل مشاهداته وانطباعاته مقترنة على الغالب بتعيين الأمكنة والأيام.

يصدِّر الأستاذ العبودي كتابه - بعد المقدمة الوجيزة - ببيان واف عن البواعث الأساسية لرحلتيه، فهما مرتبطتان بالمهمة الكبرى التي أسست من أجلها الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وذلك أنها تخصص كل عام منحا دراسية توزعها على أقطار المسلمين.. ولكنها ترى أن يكون هذا التوزيع على أساس الحاجة دون الحجم، ومن أجل ذلك قررت في عامها الثالث إيفاد بعثة إلى بعض الأقطار الإفريقية للاطلاع على واقع المسلمين فيها، وتحديد حاجة كل منها إلى التعليم الإسلامي، وإلى المطبوعات الإسلامية، ودراسة ألوان النشاط الإسلامي والمعادي له، ومدى الحاجة إلى المدرسين من المملكة.

ص: 270

وقد بدأت الرحلة الأولى يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ربيع الآخر عام 1384هـ، وشملت زيارات الوفد أثناءها السودان وأرتيرية والحبشة والصومال وكينية وأوغندة وبورندي وتنجانيقة وروديسية الشمالية. وقد استغرقت هذه الرحلة قرابة أربعة أشهر، رفع الوفد بنهايتها تقارير وافية عن مشاهداته وانطباعاته، كانت موضع اهتمام بالغ من رئاسة الجامعة ورابطة العالم الإسلامي والوزارات المختصة بالمملكة، وكان من آثارها الطيبة أن رصدت حكومة المملكة مبالغ سخية، وأحدثت مبدئيا قرابة خمسين وظيفة لمدرسين ومرشدين يوفدون لبعض الأقطار الإفريقية ويرتب لهم نظام خاص يحصر نشاطهم ضمن حدود التنوير الديني المحض، ومن ثم تقرر إيفاد المؤلف في رحلة ثانية إلى تلك الأقطار لتعيين أماكن هؤلاء المدرسين والمرشدين وتأمين إقامتهم. وقد زود الوفد بمبالغ كريمة لتوزيعها على الهيئات والمؤسسات والدعاة هناك.. وفوض إليه تقديم منح دراسية واختيار الطلاب الصالحين لها. وقد بدأت هذه الرحلة الثانية بعد سنتين من تلك.. وتجاوزت المناطق الأولى إلى ملاوي وجوهانسبرغ - جنوب أفريقية - والكنغو كنشاسا.

ونظرة فاحصة إلى الفهرس الذي يستغرق ثلاث عشرة صفحة - توضح قيمة الكتاب، إذ يتعرف القارئ من خلال هذا الفهرس ميزة الشمول التي اتصفت بها هذه المذكرات، وأهمية الشؤون التي عالجتها أو عرضت لها. فكما عنيت بالمشاهدة العابرة - لطرافتها - عنيت بالأوضاع الاجتماعية والجوانب السياسية، والمظاهر الدينية، بما فيها من حقائق وما يعتريها من أوهام وخرافات.. فكان فيها ما يضحك ويعجب ويبكي.. وهنا يكمن السر الذي يشد القارئ إلى متابعة هذه اليوميات بشغف واهتمام.

ص: 271

ولقد رأيتني أقف مترددا أمام ضخامة الكتاب عندما أردت التعريف به، إذ لم يكن من اليسير عليَّ قراءة سبعمائة وثلاث وستين صفحة في وقت لا أكاد أجد فيه متسعا للتنفس. ولكن سرعان ما وجدتني أتابع موضوعاته بمجرد أن وقع بصري عليها، ثم لا أستطيع بتر أي فصل دون استيفائه، حتى أتيت على الكثير منه في الأيام القليلة.. ومرد ذلك إلى الحيوية التي غمرت جوانبه، والطرافة التي جللته.. هذا إلى أن مضمون الكتاب كله ينبثق من القارة التي تهم كل مفكر مسلم. إنها أفريقية التي نريدها منطلق الإسلام الجديد، وتريدها الصليبية والشيوعية معترك الصراع الذي قد تختلفان فيه على كل شيء إلا القضاء على الإسلام.

فأنت لا تدرك السبب الذي من أجله اختار المؤلف لأفريقية صفة الخضراء، الكثير مما هو في حاجة إليه، إذ يفتح بصره - أثناء تَيْنِك الجولتين - على (بلاد تكاد تكون مجهولة لديه، ومعلومات وملاحظات عن الأوضاع الإسلامية وأحوال المسلمين لا يحسن بالباحثين الذين يهمهم هذا الأمر أن يجهلوها..) .

فأنت لا تدرك السبب الذي من أجله اختار المؤلف لإفريقية صفة الخضراء، ولكن لا تكاد تمضي معه في أنحاء تلك الأقطار حتى تؤيد ما ذهب إليه، إذ ترى الخضرة تغمر كل بقعة هناك، فتعلم من خلال ذلك السر الذي هاج كلب الاستعمار الغربي للانقضاض على تلك القارة التي منحها الله الكثير من الخصب والخير، وأودعها الكثير من الطاقات التي من شأنها - لو أحسن تنظيمها واستثمارها لمصلحة أهلها - أن تكون أنموذجا للعمران والتقدم، بدلا من التخلف الذي أسلمها الاستعمار إليه، حتى أصبحت نهبة لكل طامع من المستبدين والهدامين.

ص: 272

وفي أثناء تجوالك مع المؤلف بين مسلمي تلك الأقطار ستضع يدك على الكثير من مواطن الأمل والألم.. إذ تطل على المعارك الرهيبة التي يخوضها الإسلام للدفاع عن بقائه ومعظمها من مخلفات الصليبية التي غادرت أفريقية من باب الجيوش لتدخلها من نوافذ التبشير والصهيونية ووليدتها الشيوعية، العدو الجهنمي الجديد.

وسيدهشك من واقع هذه المعارك صمود الإسلام على امتداد هذه الجبهات كلها، وهو الأعزل من كل سلاح سوى الحق الذي يسلك طريقه إلى القلوب عن طريق الفطرة، فيمتزج معها إلى الحد الذي يعجز أعداء في أيديهم مقاليد العلوم والحضارة والفنون وسائر وسائل الإغراء والاستهواء.

وفي الوقت نفسه سيؤلمك أن ترى الضعف الذي يعتري وجود المسلمين في كل مكان من هذه الأقطار الإفريقية.. ذلك الضعف الذي يكاد يكون شاملا لمختلف جوانب الحياة، وبخاصة في ناحية الثقافة الإسلامية، حيث معظم المسلمين لا يفقهون من العربية ما يمكِّنهم من الاتصال بمنابع الوحي، وليس لديهم من الترجمات لهذه المعاني ما يفي بغرض التوعية، ناهيك بالخرافات والبدع التي تفسد على العامة تصورهم وتفكيرهم، ثم يأتي وراء ذلك التمزق الذي يفتت قوة المسلمين، فيجعل منهم في بعض المناطق شيعا متنافسة يقاتل بعضهم بعضا حتى في الجمعية الواحدة - كما هو الحال في كينية حيث يرتفع عدد الجمعيات الإسلامية إلى 420 دونما جدوى -

ثم تخرج من ذلك كله بهذه النتيجة المؤثرة، وهي أن الطاقة الإسلامية العاملة هناك إنما هي طاقة أفراد وهبوا أنفسهم لله، فهم جنوده المجهولون، هالهم ما يتعرض له دين الله من أخطار، فتقدموا لحمل لواء الدعوة يجمعون تحته القوى، ويبصِّرون المسلمين بواقعهم وواجبهم ومصائرهم، ليتعاونوا معهم على صد الأرزاء وتثبيت العقيدة العاصمة في صدور الأبناء، الذين أصبحوا بتأثير الثقافة الغربية المسمومة صيدا قريب المنال لسهام الأعداء.

ص: 273

في هذه المناطق التي نجوبها مع المؤلف ركائز بعيدة الغور للوجود الإسلامي، تتجلى في ميادين عديدة.. لعل أهمها إطلاقا ذلك الارتباط الروحي بالقرآن العظيم. فأنت أنى سرت خلال هذه المذكِّرات تجد إقبالا عليه، واهتماما بتلاوته، وإن وقف ذلك غالبا عند حدود التبرك والتعبد المجرد عن الفهم.. ذلك لأن القوم، سواء منهم الأفارقة الأصليون، أو الأعاجم المهاجرون، ولا يكادون يفقهون - كما أسلفنا - حرفا من العربية، التي هي المدخل الأول إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يقل في ذلك عن الأهمية إقبال هؤلاء على العبادات الإسلامية من صلاة وصيام ونوافل.. تلك العبادات التي لا نظير لها في تحصين القلوب وتفتيت الفوارق. وإمداد المجتمع الإسلامي بكل عوامل الاستمرار ثم يلي هذا وذاك بعض الجمعيات والمؤسسات والمدارس والكتاتيب التي تقوم هنا وهناك من تلك الأقطار، فتأتي كتعبير عملي عن تنبه الجماعات الإسلامية إلى حاجتها للتنظيم الذي يساعدها على التقدم، ويمكنها من مواجهة التحديات الهائلة التي تنصب عليها من مختلف التيارات الغازية.. أجل.. إن القارئ ليطل من خلال هذه المذكرات على تلك الركائز التي من حقها أن تشدد الأمل بمستقبل الإسلام في تلك القارة، ولكنه لا يستطيع أن يتساءل: أين هم البناة الذين يحسنون استخدامها لتشييد الصرح الإسلامي الجديد في أفريقية الغد! ..

إن التعلق بكتاب الله لا يؤتي ثمرته إلا بالنفاذ إلى معانيه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتمكين للعربية من ألسنة القوم وعقولهم، بحيث لا يقل اهتمامهم بها عن اهتمامهم بلغتهم القومية، ولا أمل في هذا الخير إلا بتوفير المدرسين لهذه اللغة في المدارس التي تعدُّهم للحياة.. ومن غير العرب يحمل مسئولية هذا العمل أمام الله وأمام الأجيال القادمة من أبناء هذه الأمة في أفريقية

وفي غير أفريقية من أرض الله!

ص: 274

ولكن.. متى كان العربي مَعْنِيًّا بأمر هذه اللغة والتمكين لها بين غير أهلها إذا فرَّغ قلبه من الإيمان برسالة الإسلام؟

وإذا كان الأمر كذلك فطبيعي أن تكون الدولة التي تضم الحرمين وترفع راية التضامن الإسلامي في العالم، هي الأَوْلَى بالاستجابة إلى هذا الواجب، والأجدر بحمل العبء الأكبر من هذه المسئولية.

وهذا هو الأمر الذي استهدفت هاتان الرحلتان المباركتان تحقيقه.. فكانتا الخطوة الأولى في طريق طويل من العمل الإسلامي الذي وطنت المملكة العربية العزم على النهوض به بكل ما وسعها من جهد..

لقد قام مؤلف هذه المذكرات مع إخوانه الموفدين لتلك المهمة بواجبهم كاملا، فاطَّلعوا على أحوال المسلمين في تلك الأقطار عن كثب، وتعرفوا مدى حاجة كل منها إلى العون الأخوي فقدموا للعاملين في خدمة الإسلام ما حملوه إليهم من عون كريم مشجع، ورفعوا إلى المسئولين في المملكة اقتراحاتهم البنَّاءة التي لم تلبث أن تحولت إلى أعمال، فانتشرت بعثات الوعظ والإرشاد والتدريس في تلك المناطق بأسرها، ووزعت منح الدراسة على العديد من أبنائها.. ثم تم إنشاء أول معهد سعودي لتدريس الإسلام والعربية في الصومال الشقيق، وأول الغيث قَطر ثم ينهمر.

وإلى جانب هذه التقريرات الحيَّة المؤثرة يطالعنا الطابع العلمي في الكتاب مطلا من منافذَ عدة وجوانب مختلفة. فهناك نَقْدُه الاجتماعي الذي يتناول بعض الأوضاع غير المرضية، ثم نَقْدُه للخرافات التي تتخذ لَبُوسَ الدِّين في بعض المناطق الإسلامية، كحديثه عن المتاجرين بالقبور، وأخبار من يسمونهم بالأولياء.. وهناك النظرات التاريخية كحديثه عن وصول الإسلام إلى سواحل كينية وملاوي، وعن بناء العُمَانِيينَ مدينة دار السلام - عاصمة تنزانية -.

ص: 275

ونخص بالذكر تحليله الدقيق لمأساة العرب في زنجبار ثم تنزانية، ومقدماتها البعيدة، وتحديده المنصف لتبعة العرب في تلك الفواجع الدامية، ثم علاقة ذلك كله بالدعايات الغربية واللإيحاء الصهيوني، وبردود الفعل العِرْقِي ضد الجنس الأبيض في بعض المناطق، وضد الأجناس غير السوداء مطلقا في بعض المناطق الأخرى.. وما رافق ذلك من أحقاد أدَّت - في الكنغو - إلى أكل لحوم بعض الإيطاليين على مسمع ومرأى من شهود عيان!.

ومع تقديرنا لموضوعية هذه الأحكام نرى أن يضاف إلى عوامل المأساة في زنجبار مساعي اليسارية العربية، التي تولت تدريب القتلة في ظل بعض الأنظمة الاشتراكية.. الأمر الذي أعلنه أصحابه مع قيام الثورة نفسها.. ثم ما أشار إليه المؤلف من دسائس بعض السفارات العربية ضد الحكم القائم في ملاوي - وغيرها - مما أدى إلى زيادة التغلغل اليهودي في تلك الأقطار على حساب مصلحة العرب!

وقد تتبع المؤلف أثر الاستعمار في تأخر المسلمين، وتعمُّد المستعمر إقصاءهم عن الحياة العامة، وتركيزه على إضعاف اللغة العربية، وتحويل الشعوب الأفريقية عنها وعن الكتابة بحروفها إلى لغاته وحروفه، فجمَّد بذلك حركة المد الإسلامي إلى حد بعيد. واستعان بالتبشير لضرب الإسلام في عقر داره، ولانتزاع أبناء المسلمين من دين آبائهم، حتى أصبح هناك أسر تحتوي بين أفرادها المسلمين والمسيحيين!.

ولا ننسى أن نشير هنا إلى ملاحظته الدقيقة للصلات اللغوية بين العربية ولغات السواحل الشرقية من أفريقية، حيث تكوِّن من امتزاجها لغة خاصة هي السواحلية. وقد أحسن صنعا بما قدمه على ذلك من شواهد في جدول مقارن استغرق ثماني صفحات.

ص: 276

ومن الجوانب العلمية الأخرى في الكتاب تلك المحاورة التي عقدها المؤلف مع طيَّار من جنوب إفريقية يعمل في الكنغو وقد جمعته به الطائرة على غير ميعاد فكانت فرصة سانحة للحديث عن السياسة العنصرية وموقف الإسلام منها. وقد حاول ذلك الأوربي تسويغ التمييز الذي تمارسه بلاده بكل ما أوتي من منطق، ومن ذلك احتجاجه بمنع الإسلام غير المسلمين دخول مكة المكرمة. فكان رد المؤلف على غاية من الإحكام، إذ أوضح لذلك العنصري سمو نظرة الإسلام إلى الإنسان، وتقرير مكانته على أساس الكسب الشخصي الذي يتساوى في مسئوليته الناس جميعا، دون الجانب الطبيعي الذي لا بد لصاحبه في تكوينه، ولا قدرة له على تبديله.

ومن طرائف هذه المحاورة تلك العبارة التي كشف بها ذلك العنصري المتعصب على لعبة الأوربيين والأمريكيين في موقفهم من أنظمة التمييز في جنوب أفريقية وروديسية، إذ يملئون ردهة المجالس العالمية ببكاء الحريات والتظاهر باستنكار تلك الجرائم العنصرية، ولكنهم يرفضون استعمال القوة لوقفها! فقد سأله المؤلف عن رأيه في المسألة الروديسية، وعما إذا كان يتوقع زوال الوضع الشاذ الذي فرضته جماعة سميث عليها. فأجاب:((نحن لا نخشى شيئا، لأن من بأيديهم القوة لا يمكن أن يستعملوها ضدنا أو ضد روديسة.. أما من يرغبون في تدميرنا حقا فإننا أقوى منهم..)) .

والكتاب إلى هذا غني بالمشاهد العاطفية، فهي تطالع القارئ بنفحاتها اللاذة بين الحين والحين، وقد هزتني منها بخاصة ثلاثة مشاهد لا أزال أحس آثارها في أعماق نفسي.

ص: 277

أما الأول فهي زامبية حيث يلتقي الوفد بشيخ باكستاني في بيت قريب له من كبار المسلمين الهنود، فما أن يعلم هذا الشيخ هوية الزائرين حتى يطلق لشجونه العنان، وجعل يقول والدمع ينساب من عينيه: "إنني شاهدت منذ أيام بعض أبناء المسلمين وهم لا يعرفون حتى أنهم مسلمونأنهم مسلمون، لأنهم لم يجدوا من يشرح لهم الإسلام، أنهم أنهم مسلمون، لأنهم لم يجدوا من يشرح لهم الإسلام، ولم يجدوا مدارس إسلامية فدخلوا مدارس المبشرين صغارا فنصروهم.. تصوروا كيف يكون حزنكم إذا علمتم اسم أحدهم (هنري محمد) أو (جيمس علي) . ومن أجل ذلك يرى هذا الشيخ أن الاتصال بالمسلمين في أفريقية، ومساعدتهم على الاحتفاظ بدينهم ولا سيما بين الناشئة منهم، واجب يخص كل مسلم.. ويقع العبء الأكبر منه على المملكة العربية السعودية بصفتها مهبط الوحي ومنبع الدين الإسلامي..

ثم يأتي المشهد الثاني في جامع بلانتير - من ملاوي - حيث نرى الأطفال الهنود يستعدون لصلاة المغرب مع الشيوخ والشبان والكهول، فما أن بصروا بالمؤلف ورفيقه حتى أحاطوا بهما، ولما علم القوم أنهما من المدينة المنورة أخذهم العجب والفرح.. وتجلى ذلك على أَشُدِّه في المؤذن الإفريقي الذي هزته روعة المفاجأة فلم يستطع التعبير وأخذ يردد كلمات:"المدينة المنورة.. الرسول صلى الله عليه وسلم ".

أما المشهد الثالث ففي المسجد الجامع بسالزبوري - روديسية الجنوبية - أثناء رمضان، حيث نستمتع مع المؤلف بمنظر المسلمين مكبين على تلاوة القرآن منذ انقضاء صلاة العصر حتى موعد الإفطار، فيقبلون عليه في مشاركة روحية رائعة، حتى إذا حانت صلاة العشاء غص المسجد بالمصلين كبارا وصغارا، ثم لا يغادره أحد منهم إلا بعد أن يؤدي صلاة التراويح..

ص: 278

وكم في دمعة ذلك الشيخ الباكستاني الخائف على دينه.. وكم في مشهد الأطفال والمؤذن، وقد غمرتهم نشوة الحب لطيبة وساكنها الحبيب.. وكم في منظر أولئك الصائمين والقارئين المصلين المتحابين في الله الملازمين حتى للتراويح.. كم في هذا وذاك وذلك من معان يستشرفها الشعور، وتضيق عن استيعابها السطور!..

وأخيرا.. إن أقل ما توصف به هذه المذكرات هو أنها ليست عرضا جامدا أو سردا ميتا.. وإنما هي نتاج تفكير، وملاحظة وشعور، فهي بهذا كله تعتبر عملا أدبيا حيا..

وطبيعي أن كتابا ينطوي على كل هذه الجوانب من الشطط الإدعاء بأن صفحات يسيرة كهذه يمكن أن تستوعب خلاصته، أو تقدم صورة كاملة عنه. ولكن حسبها من الخير أن تؤكد للقارئ أن في هذا المؤلف خيرا كثيرا لا سبيل إلى الاستمتاع به كله إلا بمطالعته كله.

ص: 279