المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 11 فهرس المحتويات 1- أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم (2) - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌العدد 11 فهرس المحتويات 1- أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم (2)

‌العدد 11

فهرس المحتويات

1-

أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم (2) : بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد

2-

أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد

3-

الخير في الاجتماع: بقلم الشيخ عبد الله بن صالح المحسن

4-

الدّيانة البوذية: بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي

5-

القيم الإنسانية في الصوم: بقلم الشيخ محمد وفا هاشم

6-

ذلك الكتاب لا ريب فيه: بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد

7-

دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطى

8-

شعر أهل الحديث (2) : بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ

9-

فضل الجهاد والمجاهدين: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية

10 -

في ظلال سورة الأنفال: بقلم الشيخ أبي بكر جابر الجزائري

11-

قبل فوات الأوان: للطالب عارف عبد الله الحسن

12-

كلمة وفد الجامعة الإسلامية في مؤتمر جمعية الجامعات الإسلامية المنعقد في مدينة تونس

ألقاها فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي

13-

لمحة عن مرض التدرن الرئوي ((السل)) : بقلم الدكتور محمد محسن خان مدير مستوصف الجامعة

14-

ما وقع في القرآن بغير لغة العرب: بقلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي

15-

من الصحف والمجلات - العسل علاج لا يقدّر بثمن! : ترجمة الطبيب محمد نزار الدقر

16-

من تاريخ الدعوة السلفية: الشيخ عبد الحميد بن باديس

17-

منطق ومناطقة: بقلم الشيخ رمضان أبو العز

18-

يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعةالإسلامية

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 438

أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم

بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة

2ـ تواضعه صلى الله عليه وسلم وقربه من الناس:

ولم يحصل لأحد من البشر ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من توفر صفات الكمال وبلوغ الحد الأعلى والغاية القصوى التي يمكن أن يبلغها إنسان فكان عليه الصلاة والسلام مضرب المثل في الكمال الإنساني والسمو الخلقي قبل البعثة وبعدها وقد خصه الله بخصائص وميزه بميزات امتاز بها على البشر في الدنيا والآخرة فجعله أفضل المرسلين الذين هم خير البشر وجعله خاتمهم وسيدهم وإمامهم وأولهم خروجا من القبر وأولهم تقدما للشفاعة وأولهم مشفعا وقال صلى الله عليه وسلم متحدثا بنعمة الله عليه ومبينا للأمة منزلته عند الله ليعتقدوا ذلك ولينزلوه المنزلة اللائقة به صلى الله عليه وسلم من الإجلال والتعظيم والمحبة والمتابعة قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع". رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ومع هذه الخصائص والميزات التي سما بها إلى منزلة لا يساويه فيها غيره من أولى العزم من الرسل فضلا عمن سواهم كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعا وأقربهم إلى الضعيف والمسكين وأبعدهم من الكبر والترفع.

ولما بين صلى الله عليه وسلم لأمته بعض ما خصه الله به بقوله: "أنا سيد ولد آدم.." أضاف إلى ذلك ما يبريء ساحته من الفخر- وحاشاه من كل نقص- فقال: "ولا فخر"أخرجه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وإنما أخبر صلى الله عليه مسلم بمنزلته عند الله لأنه لا سبيل للأمة إلى معرفة ذلك إلا بواسطته والتلقي عنه صلى الله عليه وسلم إذ لا نبي بعده يخبر عن عظم منزلته عند الله كما أخبر هو أمته بفضائل الأنبياء قبله صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين.

ص: 439

ولما خير صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبدا رسولا أو نبيا ملكا اختار مقام العبودية والرسالة على مقام النبوة والملك، أخرجه الإمام أحمد في المسند، وروى البيهقي عن أنس قال:"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه إلى راحلته متخشعا"، وروى ابن إسحاق في السيرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل". قال ابن كثير:"وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخوله صلى الله عليه وسلم مكة في مثل هذا الجيش العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس وهم سجود ـ أي ركع ـ يقولون حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة في شعرة) . وروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال:"كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت"، وروى مسلم في صحيحه عن أنس "أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال:"يا أم فلان أنظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها"، وفي صحيح البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: "كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة". وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو دعيت إلى ذراع أو كراع لقبلت"، وكان صلى الله علنه وسلم إذا مر بالصبين سلم عليهم. روى مسلم في صحيحه عن شعبة عن سيار قال:"كنت أمشى مع ثابت البناني فمر بصبيان فسلم عليهم وحدث ثابت أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم وحدث أنس أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بصبيان سلم عليهم"وكان صلى الله عليه وسلم يخالط أصحابه ويداعب الصبي الصغير يقول أنس رضي الله عنه فيما رواه عنه البخاري في

ص: 440

الصحيح: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ "، وفي رواية عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبوعمير، قال: أحسبه فطيما. وكان إذا جاء قال:"يا أبا عمير ما فعل النغير، نغير كان يلعب به".

وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف ولا لم صنعت؟ ولا ألا صنعت؟ ".

وكان صلى الله عليه وسلم يركب الدواب ويردف بعض أصحابه وراءه عليها، وكان صلى الله علنه وسلم يرشد أمته إلى التحلي بصفة التواضع ويرغبهم في التخلق بها، ومما قاله صلى الله علنه وسلم في ذلك:"وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". رواه مسلم، وهو صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين وأسوتهم وقد رفعه الله إلى أعلى الدرجات رفع قدره وأعلى منزلته وخلد ذكره.

ومع هذا التواضع والخلق العظيم الذي تفضل الله به على عبده ورسوله وخليله محمد صلى الله عليه وسلم كان أصحابه رضي الله عنهم لا يملئون أعينهم بالنظر إليه صلى الله عليه وسلم إجلالا واحتراما له صلى الله عليه وسلم.

يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه في حديث له أخرجه مسلم في صحيحه: "وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه"

3ـ رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته ورفقه بها وشفقته عليها:

وبفضل الله ورحمته عليه صلى الله عليه وسلم كان رحيما رفيقا كما قال الله تعالى مخاطبا إياه: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} فلم يحصل لأحدمن البشر ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الاتصاف بالرحمة والرفق لا يقاربه في ذلك أحد ولا يدانيه.

ص: 441

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعربيا بال في طائفة المسجد فثار إليه الناس ليقعوا فيه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه واهر يقوا على بوله ذنوبا من ماء أو سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين". أخرجه البخاري وغيره.

وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا قال فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ. قال: فقال: "يا أيها الناس إن فيكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الكبير والمريض وذا الحاجة."

وعن أبي هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ماشاء".

وعن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم قال: "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه".

وعن أنس رضي الله عنه قال: "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه". وعن أبي قتادة قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها"، وقال صلى الله عليه وسلم:"لولا أن أشق الى أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".

ص: 442

وهذه الأحاديث كلها في صحيح البخاري، ولما قام صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليلا يصلي بهم في رمضان خشي أن يفرض عليهم فترك الصلاة بهم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد فصلى بصلاته الناس ثم صلى الثانية فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله فلما أصبح قال: رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفترض عليكم وذلك في رمضان".

ص: 443

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم"، ولما واصل صلى الله عليه وسلم في صيامه وعلم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك واصلو معه فنهاهم عن الوصال إشفاقا عليهم قالوا فإنك تواصل، قال اني لست كهيئتكم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله قال وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فلما أبو أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا". فإنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الوصال رحمة بهم وشفقة عليهم فلما راجعوه في ذلك رغبة منهم في موافقته واصل بهم وكان ذلك آخر الشهر يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال وقال: "لو تأخر لزدتكم"، كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا وهذا منه صلى الله عليه وسلم إرشاد عملي وتأديب نبوي للصحابة الكرام رضي الله عنهم ليوقفهم على ضعفهم وأن الوصال يشق عليهم فيبتعدوا عنه من تلقاء أنفسهم وهذا التأديب النبوي يشبهه ما لو رأى والد ولده يحاول العبث بالنار فيعمل على تجنيبه ضررها بأن يأخذ بيده ويضع أصبعه برفق على طرف جمرة منها ليدرك مدى ضررها فيكون حذرا منها ويبتعد عن الوقوع فيها لأن والده قد أوقفه على مدى ضررها.

ص: 444

وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه لما شمت وهو في الصلاة رجلا عطس ووجد من الصحابة إنكار عليه قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: "إن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن أحد من أصحابه ما يحتاج إلى تنبيهه عليه قال في خطبة:"ما بال قوم يفعلون كذا ما بال رجال من أمتي يقولون كذا"، وما أشبه ذلك، وذلك ليعدل عنه من صدر منه وليحذر الوقوع فيه من لم يباشره.

4ـ عفوه وحلمه صلى الله عليه وسلم:

ص: 445

وكما كان صلى الله عليه وسلم غاية في الرحمة والشفقة فهو غاية في العفو والحلم والصفح والصبر والتحمل، وسيرته العطرة حافلة بالوقائع الدالة على ذلك. ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه، قال:"غزونا مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده فقال لي: من يمنعك مني، قال: قلت الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني، قال: قلت الله، قال: فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم". وهذا لفظ مسلم. وعند البخاري: "ولم يعاقبه وجلس". وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلت: وعليكم.."

ص: 446

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:"ماخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها"، وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس رضي الله عنه قال:"كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء."

–البقية في العدد القادم -

ص: 447

في ظلال سورة الأنفال

بقلم الشيخ: أبي بكر جابر الجزائري

المدرس في كلية الشريعة بالجامعة

وقال الله عز وجل:

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} .

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

وبعد:

أخانا القارئ الكريم، هذه ثلاث آيات أخرى من سورة الأنفال ندعوك لتتفيأ ظلالها الوارفة الندية معنا. فدونك أيها الأخ خطاب الله العلي العظيم فاستمع إليه وهو يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في جلال وجمال:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} .

وترجمة هذا الخطاب الذي استمعت إليه وتفسيره الذي يقربه من ذهنك وفهمك هو: أذكر أيها الرسول لأولئك الذين تنازعوا في الأنفال ـ غنائم بدر ـ وساءهم أن تكون لهم وحدهم دون سواهم، أذكر لهم مذكرا إياهم بأن النصر الذي كانت الأنفال به، ووجدت بسببه ليس هو من صنع أيديهم ولا هم الذين أوجدوه حتى يكونوا أحق بالغنائم وأولى بالأنفال إنما صنع النصر وأوجده من أوحى إلى ملائكته:{أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وامتثلت الملائكة أمره فألمت بقلوبكم ـ أيها المؤمنون ـ ونفخت فيها روح الشجاعة والثبات والاستبسال، ولا مستها فألهمتكم الصبر وبشرتكم بالنصر، فبذلك ثبتم وانتصرتم.

ص: 448

أذكر لهم أيها الرسول أن صانع النصر وموجده من وصل بحفنة التراب التي ألقاها عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في وجه أعدائه فوصل بها إلى كل وجه وأدخلها في كل عين فمرج أمر المشركين المقاتلين، وتقطع سلك نظامهم فتهيئوا للهزيمة واستهدفوا للانكسار {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .

أذكر لهم وذكرهم أن النصر الذي كان لهم على عدوا الله وعدوهم لم يكن من عند غير الله الذي ألقى بالرعب في قلوب مقاتليكم فخارت لذلك قواهم، وفقدوا في الانتصار عليكم كل أملهم ومناهم، أمكنكم منهم وسلطكم عليهم فقطعتم دابرهم وحطمتم أولهم وآخرهم، وكنتم كما قيل لكم:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} .

وشيء آخر ضمن هذا التذكير عليهم أن يفهموه ويفقهوه وهو أن ما أصاب الله به أعداءهم من الهزيمة والانكسار لم يكن إلا نتيجة مشاقة هذا العدو لله ولرسول الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .

وها أنتم أيها المنتصرون كدتم تنزلقون باختلافكم وتنازعكم من أجل الغنيمة والمادة المرذولة، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. احذروا الوقوع في المشاقة فإن سنة الله فيمن شاق الله ورسوله واحدة لا تتبدل وهي الحرمان والخذلان. واعلموا أن ما قيل لأعدائكم يوم مضت سنة الله فيهم بالهزيمة النكراء والعقاب الصارم الأليم {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} سيقال لكل من سلك سبيلهم في مشاقة الله ورسوله، وتمضي فيه سنة الله بالعذاب والعقاب لأن سنة الله واحدة لا تختلف ولا تتخلف والجزاء أثر طبيعي للأعمال.

ص: 449

والآن وأنا أحسبك أخي القارئ قد فهمت مدلول هذه الآيات وأدركت مغزاها، وعرفت صلتها بالآيات السابقة لها أريد قبل أن أنتقل معك إلى جانب آخر من البحث أمر بك مرة أخرى في ظلال هذه الآيات مستعرضين معانيها، واقفين على بعض الجوانب من أسرارها وهدايتها، قوله تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} الآيات.

المعنى: أذكر أيها الرسول للذين شق عليهم أن لا يستأثروا بالغنيمة الوقت الضيق الحرج الذي واجهوا فيه قوة قريش الحربية تلك القوة التي لا قبل لهم بها ولا قدرة لهم عليها بحيث لو وكلوا فيها ٍٍِإلى أنفسهم لم يكونوا ليخرجوا منها سالمين فضلا عن أن يخرجوا منها ظافرين منتصرين، حيث أوحى الله إلى الملائكة أن ثبتوا الذين آمنوا ثبتوا قلوبهم حتى لا تفزع من الهول، ولاتنخلع من الرعب والخوف، ثبتوا الأقدام حتى لا تزول ولا تتزلزل، وباشرت الملائكة مهمتها على الفور فألمت بالقلوب تلهمها الصبر وتبشرها بالنصر.

وسرعان، بعد أن ألقى الله الرعب في قلوب الكافرين ما انقلبت المعركة إلى صالح المؤمنين فدارت رحى الحرب تطحن أعداء الله طحنا، ولم تلبث حتى تكشفت عن هزيمة كبرى أصيب بها المشركون، وعن نصر حاسم فاز به الموحدون.

ولكل من النصر والهزيمة علة ظاهر وسر غير خاف، فعلة النصر الإيمان بالله ورسوله، وسره طاعة الله ورسوله، وعلة الهزيمة الكفر بالله ورسوله، وسرها المشاقة لله ولرسوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .

ووراء ذلك حكمة عظيمة: التعليم بأن النصر في المعارك وفي كل زمان ومكان لا يتوقف الحصول عليه ولا الفوز به على كثرة العدد، ولا على قوة العدد، وإنما يتوقف على الإيمان الصادق، وطاعة الله في شرعه وسننه والرسول في محبته وصدق متابعته.

كما هي التنبيه إلى عوقب الكفر الوخيمة، ونتائج المشاقة لله ورسوله وما يترتب عليها من الخزي والهزائم والخذلان:

ص: 450

{وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} .

هداية الآيات:

من هداية هذه الآيات الثلاث ما يلي:

1ـ تقوية إيمان المؤمنين بصدق وعد الله تعالى بالدفاع عنهم في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} وبنصرتهم في قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .

2ـ الإعلام بأن نصر الله وتأييده يمنحهما المؤمنون به القائمون على حدوده الملتزمون للسير على منهاجه، والعاملون بسننه في خلقه.

3ـ بيان أسباب الهزائم وعوامل الخذلان في حروب الناس، وأنها المشاقة لله ورسوله بمعاداتهما ومخالفة أمرهما ونهيهما، والبعد عن طاعتهما.

4ـ بيان أن شقاء هذه الأمة في الدنيا وحيرتها وسوء حالها فيها مرده إلى خروجها عن الإسلام وتركها لشرائعه وأحكامه ووإهمالها لآدابه وأخلاقه.

5ـ بيان أن عذاب الآخرة منوط بالكفر المانع للمرء من تطهير نفسه وتزكينها بالإيمان الصحيح والعمل الصلح مع البعد بها عما يدنسها من الشرك والمعاصي.

لفت نظر إلى خلاف لا يضر:

اختلف في مباشرة الملائكة يوم بدر للقتال فمن قائل إن الملائكة قد باشرت القتال بالفعل، وقتلت العديد من المشركين، واليهم كان الأمر في قوله تعالى:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} الآية.ومن قائل إن الملائكة لم تباشر القتال، والأمر الأول فاضربوا فوق الأعناق كان للمؤمنين، وإنما مهمة الملائكة كانت الإلمام بالقلوب، وملامسة الأرواح للإلهام والتقوية والتبشير.

هذا هو القدر المختلف فيه بين أهل العلم. أما نزول الملائكة وكونهم ألفا، ومخالطتهم للصفوف المقاتلين، وتأثيرهم في المعركة حتى أصبحت في صالح المؤمنين فهذا محط إجماع المسلمين وذلك لدلالة النصوص القرآنية وصحة الأخبار النبوية عليه.

ص: 451

مع العلم أن الملائكة إن باشرت القتال فإنها لم تكن على هيأتها الأصلية التي خلقها الله تعالى عليها حتى يقال: ما هناك حاجة إلى ألف من الملائكة أن الملك الواحد يكفي لا هلاك كل المشركين، كما فعل بقرى لوط وجعل عاليها سافلها وإنما باشرتها وهي في صورة بشر عليها حتى عمائم البشر كما ورد في الأثر، وحينئذ فلا محل للتعجب ولا للاستغراب فضلا عن النفي والإنكار.

مباحث الألفاظ:

((إذ)) ظرف يفسر بوقت وهو متعلق بفعل: أذكر.

2ـ الوحي: الإعلام الخفي السريع وهو سبيل المعرفة إلى ما في عالم الغيب من أسماء الله وصفاته وشرائعه وأحكامه، ووعده ووعيده، ومحابه ومسا خطه، وما أعد لأوليائه وأعدائه.

3ـ الملائكة: خلق من خلق الله خلقهم من نور، وطبعهم على طاعته، وكرمهم بعبادته، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

4-

الرعب: انزعاج النفس بتوقع المكروه.

5ـ المشاقة كالمحادة والمخالفة لله والرسول وذلك بالكفر بهما ومعصيتهما ومعاداتهما.

ص: 452

قبل فوات الأوان

للطالب عارف عبد الله الحسن

هل تفكرت أيها الإنسان؟

برهة قبل أن يفوت الأوان

إن دنياك ساعة سوف تفنى

وديار الأخرى هي الحيوان

ليس يبقى ثوب البقاء لباسا

أبدا إنه له............... إبان

فتيقن أن المنية.. تأتى

قبل أن ينتهي بك البنيان

واغتنم فرصة الحياة وإن طا

لت عليك الأيام والأزمان

أين من كان يحكم الروم يوما؟

أين كسرى وهل له إيوان؟

أين أجدادنا الأولى أنجبونا؟

عجبا بل وأين ذاك الزمان

فني الكل والمهيمن00 باق

فاذكر الله انه المستعان

الجهل نسيت ذا أم لماذا؟

حذرا لا يغرك الشيطان

هو شر لأهله يا أصيحا

ب الحجا حيث حظه الحرمان

جنة الخلد للمطيعين فيها

كل ما يشتهي وحور حسان

جد في نيلها فان سواها

في زوال نعيمه خسران

ودع الكبر واتق الله ربا

يكرم المرء عنده أويهان

يوم لا تنفع البنون ولا الما

ل سوى ما يرضى به الرحمن

ذاك يوم ما أعظم الهول فيه

فانتبه سوف يوضع الميزان

فترى الناس أجمعين حيارى

كل فرد كأنه سكران

من سعيد يرجو عظيم ثواب

وشقي أذله الطغيان

يوم هم بارزون قال الهي

لمن الملك حيث لا سلطان؟

فإلى من مآبنا وإلى من؟

هل تفكرت أيها الإنسان؟

ص: 453

كلمة وفد الجامعة الإسلامية في مؤتمر جمعية الجامعات الإسلامية

المنعقد في مدينة تونس

ألقاها فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي

عقد بمدينة تونس في 25يناير عام 1971م الموافق 27 القعدة عام 1390هـ مؤتمر جمعية الجامعات الإسلامية. وقد حضر المؤتمر وفود يمثلون بعض الجامعات الإسلامية.هذا وقد مثل الجامعة الإسلامية في المدينة في هذا المؤتمر:

1:فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعةـ رئيسا للوفد.

2ـ فضيلة الشيخ محمد بن صالح المرشد عميد كلية الشريعةـ عضوا.

3ـ فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد القويقلى عميد كلية الدعوة وأصول الدين ـ عضوا.

وقد ألقى فضيلة رئيس الوفد كلمة جامعة المدينة المنورة ونصها:

سماحة الرئيس، أصحاب الفضيلة الأعضاء:

إن الحمد لله، وصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد، نحييكم بتحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إنها تحية الإسلام من منبع الإسلام، ومهبط الوحي، ومهوى القلوب المسلمين، من المدينة المنورة مهاجر رسول الله موطن المهاجرين، والأنصار.

أيها الإخوة الكرام من الأساتذة والمشايخ:

انه ليسرنا أن نحضر اجتماعكم هذا الم بارك أصالة عن أنفسنا، ونيابة عن سماحة رئيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ،وعن جميع الأساتذة، والمدرسين في الجامعة، وعن طلابها الذين جاءوا إليها من سائر أقطار العالم.

وان الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة إذ تشارك في هذا الاجتماع للمرة الأولى لترجو أن يستمر الاتصال، والاجتماع بأعضاء جمعيتكم الموقرة، وأن يكون منه كما هو مأمول الفائدة المرجوة لنا جميعا التي هي في صالح الإسلام والمسلمين.

أيها الإخوة:

ص: 454

إن الجامعة الإسلامية بالمدينة قد أسست عام 1371هـ الموافق لعام1961 م أي لم تستكمل السنوات العشر بعد وان الغرض من إنشائها كان توفير التعليم الإسلامي الصحيح لأبناء المسلمين من كل بقاع العالم، وهي منذ أن أنشئت وجلالة الملك المعظم خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فيصل بن عبد العزيزـ حفظه الله ـ لا يبخل بجهد يبذل، ولا بمال ينفق في سبيل تدعيمها، وتمكينها من القيام بمهمتها على خير وجه، حتى أصبحت الآن تظم طلابا ينتمون إلى 74الدولة، وما زالت تستقبل الطلاب الوافدين، وقد جرت عادة الجامعة على أن لا تزيد نسبة الطلاب السعوديين فيها 20% وان تكون بقية المقاعد مخصصة كلها لأبناء المسلمين من خارج المملكة توزع بينهم حسب الحاجة، وتقوم الجامعة باستقدام الطلاب على نفقتها، ثم إسكانهم ودفع نفقات معيشتهم حتى ينهوا دراستهم، وهي تشعر أن هذا جزء من واجب هذه البلاد المقدسة نحو المسلمين.

أيها الإخوة:

ص: 455

إن الواجب الملقى على عواتقنا جميعا واجب عظيم، ألا وهو واجب التبليغ، والتبيين، كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بلغوا عني ولو آية"، الحديث، وتوعد سبحانه وتعالى من لم يقم بهذا الواجب، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، وفي هذه المرحلة بالذات التي تتداعى فيها الأمم الأجنبية على الأمة الإسلامية بأجزائها، وجماعاتها، وعقائدها الغريبة عن الإسلام، كل حزب، وطائفة فرحة بما لديها، داعية إليه تحاول أن تجتذب ناشئة المسلمين إلي جانبها فتبعدها عن دينها، وتعزلها عن ثقافتها الإسلامية الصحيحة.هذه المرحلة التي نرى فيها أصحاب الأديان المخالفة يبذلون الجهود العظيمة، والأموال الطائلة، ويجندون الرجال ذوى الخبرات الطويلة في نشر دينهم، وتثبيت مبادئهم.

لاشك أننا نحن المشتغلين بالعلوم الإسلامية، وأصحاب التوجيه الديني أولى من غيرنا بذلك، وأحرى أن نقوم لله، وندعو الخلق إلى الدين الإسلامي الحنيف لأنه هو دين القوة، والعزة.

أيها الإخوة:

إننا نعتقد أن الدين الإسلامي بصفائه، ونقائه، وسماحته هو الدين الصالح الملائم لكل عصر، ومصر، وأن من واجب العلماء، والدعاة أن يعرضوه للناس بهذه الطريقة، وعلى طبيعته الصافية النقية الخالية من شوائب الشرك والبدع مما أحدثه الجاهلون، وابتدعه المبتدعون مما يخالف حقيقته، ويتباين مع قواعده.

ص: 456

إننا يجب علينا أن نرجع إلى مصادر الإسلام الأولى، إلى كتاب الله تعالى نتدبر آياته، ونتفقه في أحكامه، ونستنبط الحلول لمشكلاتنا المعاصرة من نصوصه.

ويجب علينا الرجوع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نهتدي بهداها، ونطبق ما صح عنه عليه الصلاة والسلام من الحديث مستعينين في ذلك كله بما خلفه علماء الأمة من التراث الإسلامي الصالح، ثم نعرض هذا الإسلام النقي من هذين المصدرين الأساسيين على الناس جميعا مسلمهم وكافرهم، لأن فيهما بيان كل ما تحتاج إليه الأمة قال الله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرما يعلمه لهم" أخرجه مسلم في صحيحه، أما المسلم فلتبصيره وإرشاده حتى يصلح أمره، وتستقيم حاله، وأما غير المسلم فلهدايته إلى سبيل الرشاد، وإخراجه من الظلمات إلى النور.

ولاشك في أننا سنكون الناجحين في الحالتين كلتيهما إذا أخلصن وصدقنا، ويكون الإسلام هو الرابح المتنصر المنتشر إن شاء الله.

إننا نعلم جميعا أن كثيرا من الناس قد ملوا مادية المدنية الحديثة، وطغيان الجسد على الروح فيها وهم يبحثون الآن عن دين جديد، ومبادئ غير مبادئ تلك المدنية، ترتاح له القلوب، وتطمئن له الضمائر، وإنهم سوف يجدون في الإسلام النقي الخالص ما يشبع جوعهم، ويروي ظمأهم، ولكن العقبة الكأداء وهي البلية العظمى أن كثيرا من المسلمين أو المنتسبين إلى الإسلام لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، وهم بواقعهم، وبأقوالهم، وأفعالهم أعظم منفر لغير المسلمين عن الإسلام، وأعظم سبب يصد من يريدون الدخول إلى الإسلام عن الدخول فيه.

ص: 457

لذلك فان واجبنا -كما قلت ـ سيكون واجب المحارب في جبهتين: الجبهة الداخلية نحارب فيها ما طرأ على أفكار المسلمين من انحراف، وما علق بأعمالهم من شوائب تخالف الإسلام، ونحارب في الجبهة الخارجية نحارب التيارات المعادية للإسلام من تيارات إلحادية مادية، ومبادئ مخالفة مخاصمة.

أيها الزملاء الكرام:

إننا في هذه اللحظات السعيدة الني نجتمع فيها على صعيد الإخوة الإسلامية وفي الطريق إلى العمل الإسلامي المشترك يجب علينا أن نذكر إخوانا لنا من المسلمين يقيمون في بلاد يمسك بمقاليد الأمور فيها أناس ليسوا من المسلمين أو أناس معادون للإسلام فيضيقون عليهم الخناق، ويكتمون منهم الأنفاس محاولين أن يطفئوا جذوة الإسلام في نفوسهم، ويخنقوا روحه من قلوبهم، وإذا لم يستطيعوا ذلك ركزوا على ناشئة المسلمين ليحولوا بينهم، وبين دينهم يبعدونهم عنه، ويمنعون دخوله إلى قلوبهم.

إن واجبنا أن نولي أولئك الإخوان من المسلمين العناية كل العناية، وأن نهتم بشأنهم، وأن نبذل جهودنا للمحافظة على مكانة الإسلام في نفوسهم، كل المحافظة.

إن بعض أولئك الذين يمكن أن يسموا بالأقليات الإسلامية يعيشون في ظروف دينية صعبة حتى يعز على بعضهم أن يجد من يحسن قراءة الفاتحة ليؤم قومه للصلاة، وبعضهم لا يجد من يستطيع أن يجهز الميت من المسلمين، كما يجهز غيره في بلاد المسلمين.

وهؤلاء الإخوة متفرقون في بلاد كثيرة، وموجودون في قارات متعددة، ولا يمكن لأي جامعة إسلامية أو أي جهة تعمل في التعليم الإسلام أن تقوم بأمر كله القيام الواجب جميعه منفردة لأن الأمر أكبر من ذلك، إذا لامناص من تعاون الجامعات، والمعاهد الإسلامية، وأن تعمل مجتمعة في هذا السبيل، وإننا نرى أن تتخذ الخطة اللازمة لهذا الغرض في اجتماعكم هذا ـ إذا رأيتم ذلك ـ.

ص: 458

وكلمة أخيرة في هذه الكلمة القصيرة، وهي أن وفد الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سوف يبذل جهده في كل عمل ترونه مثمراً سواء منه ما كان داخلا في جدول الأعمال المكتوب، وما كان خارجا عنه.

نسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعا مباركا، وأن يكلل جهود الجميع بالتوفيق، والنجاح، وأن يصلح أحوال المسلين جميعا، ويولي عليهم خيارهم، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته انه سميع قريب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

ص: 459

لمحة عن مرض التدرن الرئوي (السل)

بقلم الدكتور محمد محسن خان مدير مستوصف الجامعة

يعتبر مرض التدرن الرئوي من المشاكل التي تعانيها كثير من البلدان ومن أهم الأسباب التي يعزى إليها انتشار هذا المرض بين أهالي أي بلد هي كالآتي:

1ـ انتشار الجهل وقلة التعليم.

2ـ الاعتقاد السائد بأن هذا المرض لا يمكن الفرارمنه.

3 ـ عدم توفر الوعي الصحي والجهل بالمستويات الصحية.

4ـ عدم توفر عوامل نشر التثقيف الصحي بين المواطنين.

5ـ نزح كثير من أهل البادية الذين لا تتوفر لديهم المناعة ضد المرض إلى المدن حيث تتوفر الكثير من عوامل انتشار المرض.

6ـ قلة تناول الأغذية الطازجة.

7ـ طريقة تناول الغذاء والشراب التي تتنافى ومبادئ الصحة العامة والسائدة بين بعض المواطنين.

8ـ تعدد مرات الحمل والولادة بين النساء مع عدم توفر الغداء والراحة الضرورية لهن.

كل هذه العوامل مضاف إليها مشكلة التجمهر والاختلاط القريب بين السليم منهم والمصاب بمرض السل لمدة طويلة تحت ظروف صحية عامة وغذائية سيئة للغاية، كل هذه العوامل أسباب قوية تؤدي إلى كثرة انتشار المرض.

هذا علاوة على أن هناك بعض عوامل تؤدي في كثير من الأحيان إلى استمرار وجود المرض وتساعد على انتشاره وهروب كثير من الحالات من التشخيص. وهذه العوامل مثل:

1ـ عدم توفر التعاون الصادق من قبل المرضى تجاه العلاج.

2ـ النقص في إمكانيات تشخيص المرض في مراحله الأولى وهذا يكون بتأخر المريض في استشارة الطبيب وبالعجز السائد في عدد أخصائي الأمراض الصدرية أو ذوي الخبرات من الأطباء العموميون في مرض السل.

ومن المشاهد أن معظم حالات مرض السل في المملكة العربية السعودية تكون بين متوسطي العمر من المواطنين ودائما ما تكون عبارة عن تدرن رئوي متكهف مزدوج يتجاوب تجاوبا مرضيا مع علاجات مرض السل المعروفة.

ومن مشاهداتي الخاصة خلال مدة ثمان عشرة سنة بالمملكة أنه:

ص: 460

أولاـ عدد المرضى من النساء أكثر بقليل من عدد المرضى من الرجال.

ثانيا ـ انخفاض نسبة حالات السل المنتشر.

وسل الجهاز البولي التناسلي يقل في الوقت الذي تزيد نسبة حالات سل العظام والغدد زيادة ملموسة.

وعلاجات السل المعروفة هي:

الخط العلاجي الأول:

أمبول استربتوميسين1/جرام يوميا (من 60ألى90 حقنة) .

أقراص ويميفون (أيزونيكوتينيك أسيد هيدرازيد) 300 مجم يوميا.

أقراص باس من 12إلى15جم (جرام) يوميا.

الخط العلاجي الثاني: للحالات التي يستعصي فيها ميكروب السل على علاج الخط الأول:

أمبول فيومايسين2/1إلى1جم يوميا.

أقراص ايثنامايد2/1إلى1جم يوميا.

أقراص بايرازيناميد2/1إلى2جم يوميا.

أقراص ثيوسميكابازون 150مجم يوميا.

أقراص سيكلوسيرين 250مجمإلى750مجم يوميا.

وبديهي أن هذه الأدوية ينبغي أن توصف من قبل الطبيب وتعطى تحت إشرافه.

وقد يظن البعض أن إنشاء وحدة أو أكثر من مصحات الدرن الكبيرة قد يكون فيه حلا للمشكلة.ولكني أرى أن العمل لن يكون إلا إذا اتخذت إجراءات من شأنها القضاء على انتشار العدوى الذي يتزايد يوما بعد يوم ولن يتحقق هذا إلا بتوفر الآتي:

1-

تشخيص وعلاج المرض في مراحله الأولى.

2ـ الكشف على المخالطين للحالات التي يثبت إصابتها بالمرض.

3-

التثقيف الصحي العام.

4-

العمل على رفع المقاومة ضد المرض في أجسام من هم أكثر تعرضا لخطر العدوى وذلك بتعميم التطعيم بلقاح الـ بي. سى. جى (B C G) يرفع مستواهم الاقتصادي الاجتماعي والعمل على رفاهيتهم بفتح مراكز الرعاية والشؤون الاجتماعية تحت إشراف عيادات الأمراض الصدرية.

ص: 461

5-

إنشاء عيادات الأمراض الصدرية في جميع أنحاء البلاد على أن تكون هذه العيادات مزودة بالمختبرات التي تتوفر لديها جميع الإمكانيات لعمل الفحوص المخبرية الحديثة مثل طرق الفحص المباشر التقدمية ومزارع مكروب السل المؤكدة النتائج وكذلك إمكانيات عمل اختبارات التيبوبركلين والتحصين بلقاء الـ بى. سى. جي. (b c g) كما تزود هذه العيادات بوحدات الأشعة الصغيرة الجماعية.

6-

اجراء اختبار التيوبركلين الجماعي والتطعيم بلقاح الـ بى. سى. جى. على جميع الأطفال.

ويمكن تلخيص القواعد الأساسية لمقاومة السل والقضاء عليه في النقاط الآتية:

1ـ منع انتشار العدوى.

2ـ التشخيص المبكر للمرض في مراحله الأولى.

3ـ العلاج المناسب والكامل.

4ـ التخلص من العوامل الاقتصادية والاجتماعية السيئة.

ص: 462

ما وقع في القرآن بغير لغة العرب

بقلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي

المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

اعلم أن علماء اللغة اتفقوا على أن كل لغة عظيمة تنسب إلى أمة عظيمة لابد أن توجد في مفرداتها كلمات وردت عليها من أمة أخرى، لأن الأمة العظيمة لا بد أن تخالط غيرها من الأمم، وتتبادل معها المنافع من أغذية، وأدوية ومصنوعات، وتعلم وتعليم، فلا بد حينئذ من تداخل اللغات، ولا يمكن أن تستقل وتستغني عن جميع الأمم، فلا تستورد منها شيئا ولا تورد عليها شيئا، والقرآن نفسه يثبت هذا، قال تعالى في سورة إبراهيم 37 {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . ذكر إبراهيم في دعائه انه أسكن ذريته يعنى إسماعيل وآله بواد غير ذي زرع وهو وادي مكة وإذا لم يكن فيه زرع لم تكن فيه ثمرات، وذكر في أثناء دعائه ومناجاته لربه، أنه أسكن ذريته بذلك الوادي المقفر ليقيموا الصلاة أي يؤدوها قائمة كاملة عند بيت الله، ويعبدوه، فسأل الله أن يجعل قلوب الناس تهوي إلى ذريته، أي تسرع إليهم شوقا ومحبة، وتمدهم بما يحتاجون إليه وأن يرزقهم من الثمرات التي تجلب إليهم من الآفاق والأقطار المختلفة ليشكروا الله على ذلك فيزيدهم، وقد استجاب الله دعوته فصارت أنواع الحبوب والثمرات والتوابل والأدوات والثياب والتحف، والطرائف تجلب إلى مكة من جميع أنحاء المعمور.

ص: 463

وهذه الأمور التي تجلب إليها كثير منها وضعت أسماؤها في البلدان التي تصدر منه، فإذا جاءت إلى أهل مكة يسمونها بالاسم الذي جاءت به فتندمج في لغتهم وتصير جزءاً منها، والأصل في اللغات أن الأشياء العامة توجد لها أسماء في كل لغة، أما الأشياء الخاصة التي خص الله بها قطرا بعينه فإن الاسم الذي سماها به أهل ذلك القطر الذي خلقت فيه يبقى في الغالب ملازما ولنضرب لذلك مثلا، الجوز الهندي والنخيل الذي يثمره وهو ((نارجيل)) ويسمى بالهندية ((ناريل)) فهو يجلب إلى غير الهند، دون أن يبدل اسمه، وثمر ((الأمبة)) وهو أحسن الفواكه في الهند وقد يكون أحسن الفواكه مطلقا، يوجد دائما في مكة شرفها الله في أحقاق، إذا أكلته تظن أنك أكلته تحت شجرته وهذه الفاكهة موجودة في مصر وتسمى ((مانكة)) وتنقل إلى بلدان أخرى ويبقى اسمها ملازما لها.

وكذلك ثمر ((أناناس)) يجلب من أندونيسيا ويبقى اسمه ملازما له وقس على ذلك.

ص: 464

وقد قال أحد علماء الفيلولوجيين أي علماء اللغات: إن لغة سكان أستراليا الأصليين لا تزيد مفرداتها على مائة لأنهم أبعد الناس على المدنية التي تستلزم مخالطة الأمم الأخرى وتبادل المنافع معها، فكلما عظمت اللغة دلت عظمتها وثروتها ووفرة ألفاظها على مخالفة أهلها لشعوب أخرى واقتباسها منهم فهي تعطي وتأخذ.. وقد أخبرنا القرآن أن قريشا كانت لهم رحلتان رحلة في الشتاء إلى جنوب الجزيرة العربية اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام وكانوا تجارا ينقلون البضائع من بلد إلى بلد، وكانت مكة شرفها الله تعالى مركزا عظيما للتجارة قبل الإسلام فكانت تنقل إليها البضائع من الشرق والغرب والجنوب والشمال فكيف يتصور أن لغة العرب تبقى مغلقة مختوما عليها لا تخرج منها كلمة ولا تدخلها كلمة. والأئمة الذين أنكروا وجود كلمات غير عربية في القرآن تمسكوا بظاهر قوله تعالى في صورة يوسف:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقوله تعالى في سورة النحل1.3: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، وما أشبه ذلك وهم على حق فيما قالوا ،فليس في القرآن كلمة أعجمية باقية على عجمتها البتة، فكل ما في القرآن من الكلمات كانت تنطق به العرب وتفهمه وهو جار على سنن كلامها لا خلاف في ذلك نعلمه، إنما الخلاف في المعرب هل هو موجود في القرآن أم لا؟

ص: 465

قال السيوطي في الإتقان: " قد أفردت في هذا النوع كتابا سميته (المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب) وأنا ألخص هنا فوائد فأقول: اختلف الأئمة في وقوع المعرب في القرآن فالأكثرون ومنهم الإمام الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر وابن فارس على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} ، وقوله تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} وقد شدد الشافعي النكير على القائل بذلك.

وقال أبو عبيدة: "إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول ومن زعم أن {لدا} بالنبطية فقد أكبر القول"، وقال ابن فارس:"لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها".اهـ.

ص: 466

قال محمد تقي الدين: "إنما يمكن أن يقال ذلك إذا كان في القرآن تراكيب أعجمية، أو كلمات باقية على عجمتها، أما وجود كلمات قد صقلتها العرب بألسنتها ونحت بها مناحي كلماتها ودخلت في أوزانها فلا يمكن أحدا أن يدعي ذلك فيها، وقد رد القرآن نفسه على من زعم ذلك من أعداء الإسلام الأولين، فقال تعالى: في سورة النحل 103: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وتحداهم أن يأتوا بسورة مثله بأشد أساليب التحدي، فقال تعالى في سورة البقرة 23ـ 34:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وقال تعالى في سورة الإسراء 88: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} فأي عدو يسمع مثل هذا التحدي لا يبذل قصارى جهده في معارضة عدوه وإبطال تحديه ولو أن إحدى الدولتين لمتعارضتين اليوم وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي صنعت إحداهما سفينة فضائية مثلا وقالت للأخرى: انك لن تستطيعي أن تصنعي مثلها لغضبت الدولة المتحداة ولم يقر لها قرار، حتى تصنع سفينة مماثلة أو فائقة لما صنعته الدولة المتحدية.

ص: 467

وها نحن اليوم نرى الصين الشيوعية لما رأت عدوتها الولايات المتحدة متفوقة في صنع القنابل الذرية والهيدروجينية فقدت عقلها حنقا وغيظا وهي جادة في صنع هاتين القنبلتين، وزادها غيظا أن أختها في الشيوعية دولة الاتحاد السوفياتي ضنت عليها بالمساعدة على التوصل إلى هذا الغرض مع أن الولايات المتحدة لم تتحد الصين إلا بلسان الحال، بل هذه فرنسا قلبت ظهر المجن لحليفتها الولايات المتحدة وبريطانيا لأنهما لم يشركاها فيما وصلتا إليه من صنع القنبلتين المذكورتين إلا بقدر ضئيل لا يشبع نهمتها. ولم يقل أحد من العرب المعادين للإسلام إن الذي منعهم من معارضة القرآن هو وجود كلمات فيه غير عربية بل سلموا أنه كله عربي.

أما كتاب السيوطي الذي سماه (المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب) فلا نعلم أنه موجود في هذا الزمان، لكن الملخص الذي نقله منه مؤلفه في كتاب الإتقان لا يدل على أن المؤلف - مع غزارة علمه - كان أهلا أن يؤلف في هذا الباب لأنه فيما يظهر لم يكن يعرف إلا اللغة العربية والمؤلف في هذا الموضوع يحتاج إلى إلمام باللغات التي قيل أن بعض مفرداتها قد عرب ودخل في القرآن، فإن لم يعلم بها كلها فلا أقل من الإلمام ببعضها، وأكثر علماء العرب مقصرون في علم اللغات، والذين يعرفون شيئاً من اللغات الأخرى منهم قليل. وقد كان عمر رضي الله عنه يعرف اللغة العبرانية ويقرأ التوراة ويفهمها.

وقال الترمذي في جامعه (باب تعليم السريانية) ثم روى بسنده إلى زيد بن ثابت قال:"أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم كلمات من كتاب يهود وقال إني والله ما آمن يهود على كتابي، قال فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم". هذا حديث حسن صحيح.

ص: 468

قال العالم الرباني أستاذي عبد الرحمن بن عبد الرحيم المبار كفوري الهندي رحمه الله رحمة واسعة في شرح هذا الحديث من كتابه (تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي ج 3 ص392) ما نصه: "قال القاري: قيل فيه دليل على جواز تعلم ما هو حرام في شرعنا للتوقي والحذر عن الوقوع في الشر كذا، ذكره الطيبي في ذيل كلام مظهري وهو غير ظاهر إذ لا يعرف في الشرع تحريم تعلم من اللغات سريانية أو عبرانية هندية أو تركية أو فارسية وقد قال تعالى سورة الروم الآية 22:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} أي لغاتكم بل هو من جملة المباحات. اهـ.

وهذا الحديث رواه أيضا أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه وذكره في صحيحه تعليقا، ومعنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابي الجليل كاتب الوحي زيد بن ثابت أن يتعلم كتابة اليهود وفي رواية "أمره أن يتعلم السريانية"وعلل ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمن اليهود أن يقرءوا له كتابا يأتيه منهم لئلا يزيدوا فيه وينقصوا أو يبدلوا ويغيروا، فتعلم زيد ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في نصف شهر.وقد يشكل فهم هذا من وجهين:

الأول: أن المعهود من اليهود أن يتكلموا ويكتبوا بالعبرانية لا بالسريانية.

ص: 469

الثاني: كيف يستطيع متعلم أن يتعلم لغة أجنبية في نصف شهر؟ والجواب عن الأول أن اليهود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بل في زمان عيسى بن مريم وقبله بزمن لم يكونوا يتكلمون ويكتبون بالعبرانية لأنها كانت قد انقرضت ولم يبق منها إلا كلمات قليلة تردد في الصلوات، وكان اليهود يكتبون علومهم الدينية والدنيوية ويتخاطبون بالسريانية، وإنما جددوا العبرانية وأحيوها وبذلوا في ذلك جهودا عظيمة في هذا العصر الأخير. والجواب عن الثاني: أن زيدا لم يتعلم اللغة في نصف شهر وإنما تعلم الكتابة والقراءة، أما معاني لغة اليهود فكان يفهمها لأنها كانت لا تزال قريبة جدا من لغة العرب، ولأن قبائل من اليهود كانت مساكنة للأنصار وتعلم اللغات الأجنبية للانتفاع بها في أمور الدين والدنيا أمر محمود إذا لم يكن على حساب لغة القرآن كما يفعل سكان المستعمرات المتهوكون في زمان الاستعمار وبعده فيحقرون لغة القرآن وهي لغة دينهم وتاريخهم ومجدهم ويتعلمون لغة المستعمر ويتطاولون بها ويشمخون بأنوفهم ويتراطنون بها بغير ضرورة ويحتقرون شعوبهم لعدم استعمال تلك اللغة الأجنبية فهؤلاء أعضاء مجذومة في جسم الأمة يجب قطعها وهم يعلمون أن جميع الأمم تحتقرهم لأنه لا يكون لهم فضل بتعلمهم تلك اللغة الأجنبية إلا إذا أتقنوا لغتهم وكانوا أعضاء نافعين في أمتهم، ولكن..

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام.

ثم قال السيوطي: "قال ابن جرير: ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد".اهـ.

ص: 470

قال محمد تقي الدين: ابن جرير إمام المفسرين في زمانه وما بعده وفد أخطأ في هذا الرأي إذ لا يمكن أن تتكلم هذه الشعوب المتباينة في أنسابها ولغتها المتباعدة في أوطانها على سبيل المصادفة والاتفاق وتوارد الخواطر بتلك الكلمات الكثيرة العدد على أن الذين قالوا في القرآن كلمات كانت في الأصل غير عربية ثم صارت بالاستعمال عربية لم يقل أحد منهم أن الكلمة التي أصلها فارسي قد اتفق فيها الفرس مع العرب والنبط والحبشة، بل إذا كانت الكلمة فارسية كالأباريق مثلا لم تكن حبشية ولا نبطية والكلمة التي قيل إنها حبشية (كابلعي) من قوله تعالى:{يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} لم يقل أحد أنها توافق الفارسية والنبطية..وهكذا يقال في سائر الكلمات كما سيأتي في ذكر الكلمات التي نسب أصلها إلى غير العربية. ثم قال السيوطي: "قال غيره بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظا غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن". انتهى. هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ثم ذكر السيوطي آراء أخرى يظهر زيفها عند الامتحان فأعرضت عن نقلها. ثم نقل عن الجويني ما معناه في القرآن وعد ووعيد، والوعد يذكر فيه ثواب المطيعين وما أعد الله لهم في الدارين مما تشتهيه أنفسهم ويرغبهم في فعل الطاعات وذلك يتضمن مآكل ومشارب وثيابا ومساكن طيبة وحورا عينا وفرشا طيبة وغلمانا للخدمة وبعض تلك الأمور صنعته أمم غير عربية وسمته بكلمات من لغاتها فنقله العرب عنها فصار ذكره في وصف النعيم والعيشة الراضية لابد منه وهو ما غلظ من ثياب الحرير، وضرب لذلك كلمة إستبرق مثلاً، وهو ما غلظ من ثياب الحرير، والسندس مارق منه. قال البيضاوي وهو معرب (استبره) بالفارسية فلو أريد التجنب استعمال كلمة إستبرق، فأما أن يترك ذكر هذا النوع من

ص: 471

الثياب أصلا فلا يتم المقصود وهو وصف العيشة الراضية، وإما أن يعبر عنه بكلمتين أو أكثر كثياب الحرير الغليظة فتفوت البلاغة إذن فلابد من التعبير به ليكون الكلام بليغا. ثم قال السيوطي:"قال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى هذا القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية، والصواب عندي ما ذهب فيه تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفظها، فصارت عربية ثم نزل القرآن بها وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال أعجمية فصادق، ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون".اهـ.

الكلمات المشتركة

أول القرآن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اشتملت على أربع كلمات اسم، الله، الرحمن، الرحيم، ابدأ بالكلام على الرحمن. قال السيوطي في كتاب الإتقان:"ذهب المبرد وثعلب إلى أنه عبراني وأصله بالخاء المعجمة. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة الفرقان الآية 6: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} الآية. لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيره ولذلك قالوا: {أنسجد لما تأمرنا} ؟ أي للذي تأمرنا يعني تأمرنا بسجوده أو لأمرك لنا من غير عرفان وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه".اهـ..

وهذا يدل على ما قلته سابقا من جهل علماء العرب باللغات حتى أخوات لغتهم كالعبرانية والسريانية، فالرحمن كلمة عربية خالصة من الرحمة بزيادة الألف والنون كظمآن وعطشان، وكانت العرب تعرفه وتفهم معناه وقد سموا به مسيلمة الكذاب فكانوا يدعونه (رحمان اليمامة) ولكنهم لجهلهم لم يكونوا يعلمون أنه من أسماء الله.

ص: 472

ومن أعجب العجب قولهم إنه عبراني وإن أصله بالخاء المعجمة، والخاء المعجمة لا وجود لها في العبرانية استقلالا وإنما تنطق الكاف بها إذا جاءت قبلها حركة مثل (هبراخا) البركة ومثل باروخ، أي مبارك ومعناه بالعبرانية هو معناه بالعربية، إلا أنه في اللغة العبرانية، صفة عامة لكل من في قلبه رحمة ليس خاصا بالله تعالى، إذن فهو من الكلمات المشتركة بين العبرانية والعربية وهي كثيرة تعد بالآلاف، وهذه الكلمات الأربع التي في البسملة كلها مشتركة بين اللغتين، فالاسم (شم) بإبدال السين شينا وذلك كثير في العبرانية، والله (الوهيم) والرحمن لفظه بالعبرانية كلفظه بالعربية إلا أداة التعريف فإنها بالعبرانية (هارحمان) والرحيم بالعبرانية (هارحوم) .. وهذه الكلمات الكثيرة المشتركة بين اللغات السامية هي أصلية في كل واحدة منها، لا يقال إن إحداهن أخذتها من الأخرى وهذا هو الشأن في كل مجموعة من اللغات ترجع إلى أصل واحد كاللغات اللاتينية كالإيطالية والإسبانية والفرنسية والرومانية والبرتغالية، ومجموعة اللغات الجرمانية كالألمانية والهولندية والفلمنكية والسويدية والنرويجية والدانماركية.

لفظ الجلالة (الله) هل هو مشتق أو مرتجل؟

ص: 473

ومن ذلك المعركة الكبرى التي خاضها علماء العربية في لفظ الجلالة (الله) أهو مرتجل أم مشتق؟ وإن كان مشتقا فهل اشتقاقه من (أله) أو من (وله) أو من (لاه) وما هو أصله على كل من هذه الأوجه وماذا جرى عليه من الحذف والإدغام حتى بلغ صورته التي هو عليها؟ ومن تعلم شيئا من اللغات السامية أخوات اللغة العربية لا ينقضي عجبه من الخائضين في تلك المعركة ويرى جهودهم ضائعة ويحكم يقينا أن الاسم الكريم مرتجل بلا مرية وهو بعيد كل البعد من الاشتقاق، فإنه ثابت بهذا اللفظ في جميع اللغات السامية ففي السريانية (ألاها) والشرقيون منهم ينطقون به (ألاهو) وهو كذلك في الآشورية بفتح الهمزة في اللغات الثلاث وبالعبرانية (ألوهيم) . ولا تختلف الشعوب السامية فيما أعلم في هذا الاسم الكريم وكذلك في مجموعة اللغات اللاتينية، وفي مجموعة اللغات الجرمانية الاسم الكريم عندهم واحد مهما اختلفت لغاتهم في الكلمات الأخرى لا تختلف فيه.

مثال يدل على تقارب اللغتين العربية والعبرانية

ص: 474

جاء في ترجمة يوسف روفلين للقرآن الكريم بالعبرانية في أول سورة الصف ما نصه مع استبدال الحروف العبرانية بحروف عربية (باراششت همعراخا) سورة المعركة (بشم الوهيم هارحمان هارحوم يشبح أث الوهيم كل أشر بشاميم وغل أشر باآرص وهو هكبور وهحاخام همأمنيم لا ماتوا مروات أثر لو تعسوا) بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} . فأنت ترى أن الألفاظ كلها مشتركة من أول البسملة إلي قوله تعالى: (لم) إلا أن لفظ (سبح) أبدلت سينه شينا وحل المضارع محل الماضي، وهذا الفعل في العبرانية متعد بنفسه وكذلك في العربية قال تعالى في سورة ق.40:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} وإلا ترجمة (ما) الموصولة بـ (أشر) وزيادة (كل) لأن الترجمة إنما هي تفسير وإبدال سين السماوات شينا وجمعها بالياء والميم واستعمال (باء) الجر في موضع (في) وهو جائز في العربية قال تعالى في سورة الصافات 137 ـ 138 {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وإبدال ضاد الأرض صادا وإبدال العزيز بالجبار (هكبور) وهما متقاربان في المعنى وإبدال الحكيم (هحاخام) وهما شيء واحد إلا أن الكاف أبدلت خاء.

وترجمت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بـ (همأمينيم) يعني المؤمنين. وترجمت (لم) بـ (لاما) وتقولون بـ (تومرو) وترجمت (لا) بـ (لو) وهما شيء واحد بإمالة الألف إلى الواو وترجمت تفعلون بـ (تعسوا) الواو في (تومور وتعسوا) واو الجماعة وحذفت النون فيهما بلا ناصب ولا جازم كما تحذف في العمليات العربية وهذه النون هي نون الرفع وهي ثابتة في التوراة في مواضع تفوق الحصر وليس كما قال بعض المستشرقين في خمسة مواضع فقط.

أمثلة من الكلمات التي قيل إنها وقعت في القرآن من غير العربية

ص: 475

1 ـ أباريق

قال السيوطي في الإتقان: "حكى الثعالبي في فقه اللغة أنها فارسية، وقال الجوالقي الإبريق فارسي معرب ومعناه طريق الماء أو صب الماء على هينة. قال في لسان العرب والإبريق إناء وجمعه أباريق فارسي معرب، قال ابن بري شاهده قول عدي ابن زيد:

ودعا بالصبوح يوما فجاءت

قينة في يمينها إبريق

وقال كراع هو الكوز وقال أبو حنيفة مرة هو الكوز وقال مرة هو مثل الكوز وهو في كل ذلك فارسي وفي التنزيل {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} وأنشد أبو حنيفة لشبرمة الضبي:

كأن أباريق الشمول عشية

إ وز بأعلى الطف عوج الحناجر

وقال الفيروز أبادي في القاموس: "الإبريق معرب (اب ر ي) جمع أباريق."اهـ.

قال بعض العلماء هو مركب من كلمتين (آب) وهو الماء و (راه) وهو الطريق، وقيل مركب من (آب) وهو الماء و (ريختن) وهو الصب على مهل قاله أرثر جفري:

Arthur Jeffery by

في كتابه الألفاظ الأجنبية في القرآن:

the foreign vocabulary of the quran

2 ـ الأب

قال السيوطي: " (آب) قال بعضهم وهو الحشيش بلغة أهل الغرب حكاه شيدلة".اهـ. ونقله عنه جفري وفسر لغة أهل الغرب بالبربرية. أقول وهذا من أعجب العجب ولا نعلم أن العرب كانت لهم علاقة بالبربر قبل الإسلام حتى تقتبس العربية من لغتهم ثم إن هذه الكلمة يبعد أن تكون بربرية لأنها لا تشبه الكلمات البربرية وإنما تشبه العربية والسريانية والعبرانية. وقال جفري أنه مأخوذ من (أبا) الآرامية ومعناه الخضرة.

وقال في لسان العرب: "الأب الكلأ وعبر بعضهم عنه بأنه المرعى، وقال الزجاج: الأب، جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشية، وفي التنزيل العزيز {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} ، قال أبو حنيفة سمى الله تعالى المرعى كله أبا.قال الفراء الأب ما يأكله الأنعام، وقال مجاهد: الفاكهة ما أكله الناس، والأب ما أكلت الأنعام، فالأب من المرعى للدواب كالفاكهة للإنسان. وقال الشاعر:

ص: 476

جذ منا قيس ونجد دارنا

ولنا الأب به والمكرع

قال ثعلب: الأب كل ما أخرجت الأرض من النبات، وقال عطاء كل شيء ينبت على وجه الأرض فهو الأب وفي حديث أن عمر بن الخطاب "قرأ قوله عز وجل:{وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} وقال فما الأب؟ ثم قال ما كلفنا وما أمرنا بهذا".اهـ.

وقال ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلي أنس قال قرأ عمر بن الخطاب {عَبَسَ وَتَوَلَّى} فلما أتى على هذه الآية: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} قال قد عرفناها الفاكهة فما الأب؟ فقال لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلّف"فهو إسناد صحيح رواه غير واحد عن أنس به. وهذا محمول على أنه أراد يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض لقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}

3 ـ ابلعي

قال السيوطي في الإتقان: "أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه في قوله تعالى 11ـ44: {ابْلَعِي مَاءَكِ} ، قال بالحبشية ازدرديه، وأخرج أبو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال اشربي بلغة الهند".اهـ.

وان تعجب فعجب قولهم إن (ابلعي) بلغة أهل الهند وهذا القول إلى الهزل أقرب منه إلى الجد وقائله ليس أهلا أن يؤخذ عنه العلم وإنما هو يهرف بما لا يعرف وأهل الهند أجناس كثيرة لهم مئات من اللغات ولا تكاد تسير مسافة يوم إلا وجدت جنسا آخر له لغة أخرى. وفي زماننا هذا نرى الدماء تسفك بينهم بسبب اللغات فلا يرضى جنس أن تكون لغة الدولة لغة أخرى غير لغته، وفي زمان الاستعمار لم تكن في الهند لغة يستطيع المسافر أن يتكلم بها ويجد من يفهم كلامه في جميع أنحاء الهند إلا لغتين إحداهما الإنكليزية وهي لغة الدولة الحاكمة، والثانية لغة المسلمين وهي لغة أوردو، على أن (بلغ) كلمة عربية سامية أصيلة عريقة في عروبتها وساميتها وترفع راية اللغات السامية وهي حرف العين.

ص: 477

ومن المعلوم عند علماء اللغات أن العين والحاء لا توجدان إلا في اللغات السامية، فان وجدت إحداهما في كلمة من لغة غير سامية فتلك الكلمة طارئة واردة على تلك اللغة وبهذا يستدل الفيولوجيون على أن البربر من جزيرة العرب قبل خروج البابليين والآشوريين والكنعانيين والفينيقيين كما هو مبين في موضعه.

ونحن نرى إخواننا عامة المسلمين من أهل الهند يبذلون جهودهم في النطق بقوله تعالى: {إياك نعبد وإياك تستعين} فلا يتمون النطق بالعينين حتى تغفر ذنوبهم من مشقة النطق بهما. ولذلك نرى السيوطي في كتاب الإتقان كحاطب ليل وليس عنده تحقيق ولا إتقان وهذا شأنه في علوم المنقول، أما في علوم المعقول كعلوم العربية فهو فارس لا يشق له غبار. وقد تحامل عليه الحافظ السخاوي في كتابه (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع) فالله يغفر لهما جميعا.

4 ـ أخلد

قال السيوطي في الإتقان قال الواسطي في الإرشاد أخلد إلى الأرض ركن بالعبرية. اهـ.

أقول: هذا القول لا يقوله إلا جاهل باللغات السامية فإن أخلد وخلد موجودتان في اللغتين كلتيهما ومتفقتان في معانيهما في الجملة فمن قال اتهما عبريتان وليستا عربيتين لقد قفاما لا علم له به ومن قال العكس فهو مثله، غير أن (أخلد) في العبرانية بالحاء المهملة، وكذلك (خلد) وقد تقدم أن الخاء المعجمة لا توجد بالأصالة في العبرانية وإنما توجد بالعرض في حرف الكاف إذا جاءت بعد حركة، ولم نر أحدا علماء اللغة العربية أشار إلى أن (أخلد) عبرانية كما ادعى هذا المدعي.قال في لسان العرب وخلد إلى الأرض وأخلد أقام فيها وفي التنزيل العزيز:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أن ركن إليها وسكن وأخلد إلى الأرض وإلى فلان أي ركن إليه ومال إليه ورضي به، ويقال خلد إلى الأرض بغير ألف وهى قليلة. اهـ.

ص: 478

وقال البيضاوي في تفسيره {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} مال إلى الدنيا أو إلى السفالة {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات. اهـ.

5 ـ الأرائك

قال السيوطي في الإتقان: "حكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشية".اهـ.قال الراغب:"الأريكة حجلة على سرير جمعها (أرائك وتسميتها لذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجرة أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات"اهـ. وقال في لسان العرب والأريكة سرير في حجلة والجمع أريك وأرائك، وفي التنزيل {عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} قال المفسرون: الأرائك السرر في الحجال، وقال الزجاج: الأرائك الفرش في الحجال، وقيل: هي الأسرة وهي في الحقيقة الفرش كانت في الحجال أو في غير الحجال، وقيل الأريكة سرير منجد مزين في قبة أو بيت فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة. وفي الحديث "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله"، الأريكة السرير في الحجلة من دونه ستر، ولا يسمى منفردا أريكة."اهـ. قال في اللسان:"والحجلة مثل القبة وحجلة العروس معروفة وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور"، فقد رأيت أن الأرائك كلمة عربية خالصة، وبطل ما ادعاه السيوطي ومن نقل عنه.

6 ـ أسباط

قال السيوطي في الإتقان: "حكى أبو الليث في تفسيره أنها بلغتهم كالقبائل بلغة الغرب". اهـ.

وفي هذا الكلام شيء ساقط لأن الضمير في لغتهم لم يذكروا ما يعود عليه وهذا الساقط يحتمل أن يكون يدل على بني إسرائيل وكلام جفري يؤيد هذا الاحتمال وهذا نص ترجمته بالعربية..

ص: 479

اضطر أبو الليث أن يعترف أنه أي السبط لفظ عبراني مستعار، قاله السيوطي في الإتقان. وقد أطال جفري البحث في هذا اللفظ وادعى أنه لم يستعمل في كلام العرب قبل استعماله في القرآن وربما يكون أول من استعمله محمد.

ونحن نقول لجفري وأمثاله من الذين أعمى التعصب بصائرهم وأفقدهم صوابهم: إن الله الذي أنزل التوراة والإنجيل اللذين تؤمن بهما أنت هو الذي أنزل القرآن على عبده ورسوله محمد بن عبد الله خاتم النبيين على رغم أنفك ولا ضير على القرآن أن يوجد فيه لفظ شاع استعماله في العبرانية لأن هاتين اللغتين نشأتا من أصل واحد وإذا جاز أن يكون في القرآن ألفاظ هي في الأصل فارسية مع أن لغة الفرس بعيدة من لغة العرب فما المانع أن توجد فيه ألفاظ عبرانية أو سريانية؟ وإذا اعتبرنا السبط اسما لقبيلة من قبائل بتي إسرائيل فالتعبير به طبيعي وهو أولى من التعبير عنه بالقبيلة لأنه صار شبيها بالأعلام التي يجب ذكرها بلفظها.

قال في لسان العرب:"والسبط من اليهود كالقبيلة من العرب وهم الذين يرجعون إلى أب واحد، سمي سبطا ليفرق بين ولد إسماعيل وولد إسحاق وجمعه أسباط.وقوله عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} ، ليس أسباطا بتمييز لأن المميز إنما يكون واحدا لكنه بدل من قوله {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} كأنه قال: جعلناهم أسباطا والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب". اهـ.

واصله بالعبرانية (شبط) على وزن ابل ومعناه القضيب والعصا والقبيلة.

7 ـ إستبرق

قال السيوطي الإتقان:"أخرج ابن أبي حاتم أنه الديباج بلغة العجم".اهـ. وقال البيضاوي في قوله تعالى في سورة الدخان53: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} .السندس مارق من الحرير والإستبرق ما غلظ منه معرب استبره".اهـ.

ص: 480

قال جفري وهذا من الألفاظ القليلة التي اعترف المسلمون أنها مأخوذة من الفارسية وعزاه إلى السيوطي في الإتقان وفي المزهر حكاه فيه عن الأصمعي وإلى السجستاني في غريب القرآن وإلى الجوهري في الصحاح وإلى كتاب الرسالة للكندي وإلى ابن الأثير في النهاية قال وبعضهم يقول انه لفظ عربي مأخوذ من البرق ".اهـ.

8 ـ السندس

قال في القاموس:"ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف".اهـ. وقال في لسان العرب السندس البزيون.

وفي الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عمر بجبة سندس".

قال المفسرون في السندس أنه رقيق الديباج ورفيعه وفي تفسير الإستبرق أنه غليظ الديباج ولم يختلفوا فيه، الليث، السندس ضرب من البزيون يتخذ من المر عزى ولم يختلف أهل اللغة فيهما أنهما معربان".اهـ.

9 ـ أسفار

قال السيوطي في الإتقان "قال الواسطي في الإرشاد هي الكتب بالسريانية وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: هي الكتب بالنبطية".اهـ.

قال محمد تقي الدين: يا لله للعجب؟ كيف يقال: إن الأسفار جمع سفر- بكسر فسكون-ليس بعربي وإنما هو سرياني أو نبطي، لا جرم لا يقول ذلك إلا جاهل باللغات السامية، والحق الذي لاشك فيه أن السفر كلمة عربية خالصة وهي في الوقت نفسه عبرانية وسريانية ونبطية فهي من الألفاظ المشتركة بين اللغات السامية ليست واحدة منها أولى بها من غيرها.

ص: 481

من الصحف والمجلات

العسل علاج لا يقدّر بثمن!

تحت هذا العنوان نشرت مجلة حضارة الإسلام قي عددها رقم 1 و2 السنة الثانية عشرة، هذا المقال

ترجمة الطبيب محمد نزار الدقر: دكتوراه دولة بالأمراض الجلدية والتناسلية

[مقتبس عن كتاب (تقويم النخل) للبروفيسور ن. بوريش (أستاذ المداواة في معهد كييف الطبي) طبع في موسكو عام197..]

يعتبر العسل بحق مادة دوائية ثمينة فهو بالإضافة إلى كونه غذاء ممتازا للإنسان فهو يشفيه من كثير مما يعانيه من الأسقام.

ولقد استعمل الدكتور أ. بوداي العسل ممزوجا مع زيت السمك في معالجة الجروح المتقيحة والحروق، والتي استعصت على المعالجات الأخرى، وحصل على نتائج باهرة. كما طبقه كثير من الجراحين السوفييت أثناء الحرب الوطنية العظمى لمعالجة الجرحى وتوصلوا إلى نتائج علاجية جيدة.

ومنذ القديم، كتب ابن سينا أن العسل علاج رائع في معالجة أمراض القلب ونصح بتناوله على نطاق واسع بكميات معتدلة وممزوجا مع عصير الرمان الحلو، إذن من المعروف أن القلب بحالة عمل دائم وهو يحتاج إلى طاقة لا بد له لكي يؤمنها باستمرار من عنصر الغلوكوز (سكر العنب) ـ الذي يعتبر أهم مكونات العسل.

ولقد أدخلنا العسل في عداد القائمة الغذائية لعدد من المرضى المصابين بقصور في الجهاز القلبي الدوراني، فكان من نتيجتها أن استطعنا إبقاء هؤلاء المرضى بحالة معاوضة ممتازة دون تناول أي علاج آخر.

والعسل (أفضل صديق للمعدة) . هكذا تنادي الحكمة الشعبية الروسية. وبالفعل فإن الكثير مما نشره الباحثون، ومشاهدتنا خلال سنوات طويلة، كل هذا ينطق بما للعسل من تأثير حسن على سير عمليات الهضم. يفسر هذا ما يحتويه العسل من عناصر هامة كالمنغنيز والحديد وغيرها التي لا ينكر تأثيرها في إسراع وتحسين هذه العمليات.

ص: 482

ولقد وصف الدكتور ف. غريغوريف مشاهدة سريرية لمريض مصاب بالتهاب معوي مزمن مع فرط حموضة في المعدة مترافق بآلام نوبية شديدة. عولج هذا المريض بعقاقير متنوعة لم ينتفع منها جميعها وكان شفاؤه بالنهاية بعسل النحل وحده.

أما لعلاج قرحة المعدة أو الاثنى عشرية، ففي كل من معهد كييف الطبي ن. يوريس ر. مييرزون، ومعهد كورسك الطبي (ف) مينشيكوف، (وس) فيلدمان، ومعهد أركوتسك (م. خوتكينا)، فقد جرب استعمال عسل النحل. وقد أعطت معالجة القرحة بالعسل نتائج مشجعة: ففي مدة قصيرة زالت الآلام القرحية وتحسنت شهية المرضى ونقصت مفرزات المعدة وحموضتها وزاد بالتالي وزن المرضى وارتفعت نسبة الهيموغلوبين في دمائهم.

وقد أثبتت جميع المشاهدات أنه بمعالجة مرضى القرحة بالمعالجات العدية مع الحمية المناسبة، فقد ثم شفاؤهم ببطء أكثر. في حين أن المعالجة بالعسل قصرت أمد هؤلاء المرضى في المشافي.

ونحن ننصح المصابين بالقرحة بتناول العسل قبل الفطور وقبل الغداء بساعة ونصف إلى ساعتين وبعد العشاء بساعتين إلى ثلاث ساعات. ويجب أن يكون على شكل محلول دافئ (تذوب كمية من العسل في مثليها من الماء المسخن) .

كما أثبتت التجارب الخواص المقوية للعسل وتأثيره العام على عضوية المرضى: فلقد زاد وزنهم، وزاد عدد الكريات الحمر والخضاب الدموي واعتدلت حموضة المعدة كما ونقصت نسبة التنبه في الجهاز العصبي مما جعل المرضى بشكل عام يشعرون بالراحة والنشاط.

ص: 483

والعسل يساعد العضوية في كفاحها ضد الانتانات الرئوية كالسل الرئوي وخراجات الرئة والتهابات القصبات وغيرها. يثبت هذا نتائج مشاهداتنا على مجموعة من المصابين بالسل الرئوي أعطي كل منهم في حميته الخاصة من 100 ـ150غراما من العسل يوميا. كانت النتائج مشجعة. فقد تحسنت الحالة العامة عند المرضى وزاد وزنهم وتناقص السعال عندهم.وفي الدم ارتفعت نسبة الخضاب وعادت سرعة (التثفل) إلى الحدود الطبيعية، والنتائج العلاجية كانت جيدة إلا أنه لا يمكننا طبعا أن نعتبر العسل دواء نوعيا مضادا للسل.

وكما في الطب الشعبي، يؤيد البحت العلمي وصف العسل في أمراض الكبد. فقد ثبت أن الغلوكوز (سكر العنب) لا يعتبر فقط مادة مغذية لخلايا النسج إنما يزيد أيضا من قدرة الكبد على التخزين الغذائي حيث يدخر الغذاء على شكل مولد سكر العنب (الغليكوجين) كما ويحسن من عمليات الاستقلاب الخلوية. والغليكوجين يزيد من خاصيته العضوية في مقاومتها للانتان.ولقد أصبح العسل يستعمل في الأيام الأخيرة في أمراض الكبد والطرق الصفراوية مشركا مع الفيتامين (ج) ، لغاية علاجية بحته.

ولقد اعتبر الرومان واليونانيون القدامى العسل بمثابة مادة مهدئة ومنومة. ولهذا فقد نصح ابن سينا بتناول العسل بمقادير قليلة في حالات الأرق. أما الكميات الكبيرة منه فيمكن أن تؤدي إلى فرط تنبه في الجهاز العصبي.

ولقد أثبتت المشاهدات السريرية الخواص الدوائية للعسل في معالجة أمراض الجهاز العصبي. فقد بين البروفسور ن. بوغوليبوف، وف. كيسيلييفا نجاح المعالجة بالعسل لمريضين مصابين بداء الرقص، (داء الرقص هو عبارة عن تقلصات عضلية لا إرادية تؤدي إلى حركات عفوية في الأطراف) . ففي فترة امتدت ثلاثة أسابيع أوقفت خلالها كافة المعالجات الدوائية الأخرى حصلوا على نتائج باهرة: فلقد استعاد المرضى نومهم الطبيعي وزال الصداع المرفق ونقص التهيج والضعف العام.

ص: 484

والعسل مادة غذائية لا بديل لها للمرضى المبضوعين في عمليات الوجه والفكين. ففي الوقت الذي يحتاج فيه هؤلاء المرضى إلى حمية، لا يكتفي فقط باحتوائها على متطلباته من الحريرات، وإنما يتطلب منها أن تعمل بقدر الإمكان على تسريع التئام الجروح، وهذا ما يحققه العسل.

ومع أن العسل لا يدخل في عداد العقاقير المفرطة الفعالية كالمورفين والأفيون فإن لمقادير وزمن تناوله أهمية خاصة أثناء المعالجة به.

ويفضل من أجل المعالجة بالعسل تناوله على شكل محلول مع شراب الورد أو عصير الفواكه أو الثمار، ومع الجبن المبشور أو صفا البيض أو القشدة وغيرها. فهذا يسهل من نفوذية الأجزاء الفعالة في العسل إلى تيار الدم ومنه إلى الأنسجة والخلايا. وقد تبينا من تجاربنا على مدى ثلاثين عاما أن المقدار الدوائي من العسل للمريض الكهل100غ يوميا. أما المقدار الأقصى فلا يجوز أن يتجاوز الـ 200غ من العسل يوميا. ويجب أن يوزع المقدار اليومي على 3وجبات: صباحا من 30ـ60غ، ظهرا من 40ـ80غ ومساء من 30ـ60غ، ويعطى قبل تناول الطعام بساعتين أو بعده بثلاث ساعات. أما للأطفال فيعطى مقدار من العسل حوالي 30غ يوميا.

وقد تبين أن إضافة العسل إلى طعام الطفل (سميد، خبيصة

) يزيد من طاقته الحرورية ويحسن طعمه ويسهل هضمه وتمثله، ويحسن خاصة إضافة العسل إلى الحليب أو مشتقاته أو أن يتناول مع قطع من التفاح الحامض أو البرتقال أو بتحضيره مع الخشافات أو المهلمات المختلفة (الجيلاتين) . وإن ملعقة شاي واحدة من العسل في غذاء الطفل تفيده أكثر من تناول 20ـ25غ من السكر. ففي العسل العديد من الفيتامينات وحمض الغوليك والتي تعتبر ضرورية وهامة جدا للعضوية أثناء نموها. كما أن حمض الفوليك مع الفيتامين ب12 يحسن من نوعية الكريات الحمر ويزيد من عددها وكمية خضابها.

ص: 485

هذا ويمكن تناول العسل لهدف علاجي لمدة شهرين وسطيا. أما الأشخاص المصابون بالداء السكري فلا نرى أي مانع من تناولهم للعسل تحت مراقبة الطبيب وعلى حساب الكمية المقررة لهم من ماءات الفحم.

كلمة المترجم: كثرت في الآونة الأخيرة ظهور مقالات علمية في أنحاء مختلفة من العالم حول أهمية العسل العلاجية. منها هذه المقالة، ومنها مقالة للدكتور ريمي شوفان مدير مركز أبحاث العسل في وزارة الزراعة الفرنسية نشرت ترجمته في مجلة العلوم اللبنانية (السنة 16العدد2 عام 1971م) . كل هذا يجعلنا نفهم مغزى الآية القرآنية في سورة النحل:{وأ وحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا. يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس.} صدق الله العظيم.

ص: 486

من تاريخ الدعوة السلفية

الشيخ عبد الحميد بن باديس: قائد الحركة الإصلاحية في الجزائر

بقلم الشيخ محمد شريف الزيبق المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

لقد حمل ابن باديس لواء الإصلاح والدعوة لإيقاظ الوعي الإسلامي في بلاد الجزائر، في زمن ضرب فيه الجهل بجرانه، وراجت فيه الشعوذات والبدع، بعد أن سقطت البلاد في حضيض الضعف، واستولى الفرنسيون على السلطات وسعوا في زيادة مصائب الجزائريين، فسلطوا عليهم سياط العذاب والهوان والإرهاب من سفك للدماء وتشريد للأحرار وإفقار للعوام، وتركهم فريسة الجوع والبؤس والجهل، واستمر الاستعمار زهاء 130 عاما بكابوسه الفظيع إلى أن أثمرت جهود العاملين المخلصين أمثال الشيخ ابن باديس، وهب الجزائريون عن بكرة أبيهم يذودون عن الحمى ويجاهدون في سبيل الله، وأصلوا المستعمرين حربا ضروسا لا هوادة فيها طيلة ستة أعوام سقط فيها مئات الألوف من الجزائريين صرعى البغي والعدوان وظفرت الجزائر بحريتها رغم انف وزير خارجية فرنسا (1) .

وإذا كان الأجل لم يمهل ابن باديس حتى ينظر بعينيه إلى جهاد أبناء وطنه ويسعد بانتصارهم ـ إذ توفي قبل نشوب الثورة الجزائرية بخمس عشرة سنة ـ فإنه كان واثقا من نصر الله، دائبا في بذل أقصى ما يستطيع من جهد في إرشاد العامة ونشر العلم بين نابتة البلاد، وتنقلا بين حواضر الجزائر وبواديها، لا يهدأ له بال ولا يقرله قرار، يصدر الصحف العلمية الإسلامية وكلما عطل له المستعمرون صحيفة جدد غيرها وكان مع هذا كله يتعبد يتأمل ويحقق واصلا ليله بنهاره غير مشفق على نفسه ولا على جسمه، وقد هم بالخروج إلى جبال أوراس لإعلان الجهاد على الفرنسيين وكان يسعى لجمع الرجال لهذه الغاية. وحين اشتعلت الحرب العالمية الثانية قبيل وفاته اجتمع بأنصاره وقال:"عاهدوني" فلما أعطوه العهد فال: "سأعلن الثورة على فرنسا عندما تشهر إيطاليا عليها الحرب".

ص: 487

وقبل الحديث عن حركة ابن باديس لابد من ذكر نبذة عمن سبقوه من العلماء المصلحين ـ وبعضهم معاصرون له ومنهم أساتذة تلقى عليهم دروسه الأولى ـ وكان هؤلاء العلماء نجوماً يضيئون في ليل الجزائر البهيم حيث يخيم ظلال الجهل والتعصب والجمود الفكري، ويستشري داء البدع والمحدثات، التي كان يتولى نشرها والدفاع عنها جهلة اتباع الطرق الصوفية التي سندها الاستعمار..حتى شاعت في بلاد المغرب عامة، وبلغ عدد الزوايا الصوفية في الجزائر وحدها 349زاوية يتبعها نحو ثلاثمائة ألف مريد وقد جارى الفقهاء هؤلاء المتصوفين وأصبح أكثرهم طرقيين حين لم يروا جدوى من معارضة هؤلاء المبتدعين.وقد أدى انتشار البدع والاعتقاد بالخرافات والأوهام إلى استسلام الناس للواقع والقعود عن مقاومة المنكر والجبن عن قتال أعداء الإسلام وصار أحدهم إذا سئل عن حاله يقول:"نأكل القوت ونستنى الموت".

وهنا برز جماعة من الفقهاء السلفيين الذين أثارتهم هذه الأحوال فقاموا بنشر العلم وبث الوعي وتنوير الأذهان ومحاربة البدع والمنكرات.

كذلك أثرت حركة السيد محمد بن على السنوسى ـ وهى حركة إصلاحية تعتمد على الجهاد للتخلص من النفوذ الأجنبي، ومع إن الدعوة السنوسية صوفية فقد اتصلت بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتأثرت بروحه السلفية، وكان للزوايا والرباطات السنوسية أثرها في إيقاظ الوعي الإسلامي في المغرب، وعلى الأخص في أقاليم برقة وطرابلس والجزائر.

ويعتبر الشيوخ صالح بن مهنا وعبد القادر المجاوى وحمدان الونيسى والمولود بن الموهوب والمولود الزريبي وعبد الحليم بن سماية ومحمد بلخوجة طلائع حركة الإصلاح وهذه نبذة عن كل منهم:

ص: 488

1 ـ الشيخ صالح بن مهنا: كان يتولى التعليم والإرشاد بمدينة قسنطينة وامتاز بأسلوبه العاطفي الذي حرك الضمائر، وبدأ بإيقاظ الغافلين، فعملت السلطات الاستعمارية الفرنسية على إبعاده، وصادرت مكتبته النفيسة، ومؤلفاته الكثيرة (1) وقد توفي رحمه الله عام 1325هـ.

2ـ الشيخ عبد القادر المجاوي: كان عالما مفكرا عاملا بعلمه، يقوم بتطبيق ما يراه من مناهج الإصلاح وأساليب التربية والتعليم، ابتدأ التدريس في مدينة قسنطينة سنة 1286مدرسا متطوعا، ثم عين مدرسا بجامع الكتاني سنة1290. وتولى التدريس بالمدرسة الكتانية سنة 1295، ثم أبعدته الحكومة الفرنسية من قسنطينة إلى مدينة إلى الجزائر سنة 1316 فدرس في المدرسة الثعالبية التي تم بناؤها سنة 1322، ونالت دروسه إقبال الناس، وأحبوا فيه صدق اللهجة وصفاء السريرة، وظل يخاطب القلوب ويربي النفوس إلى إن أدركته الوفاةسنة1332،وله مؤلفات كثيرة منها: إرشاد المتعلمين، والمرصاد في مسائل الاقتصاد، وشرح منظومة في إنكار البدع والمفاسد الاجتماعية، والمنظومة للشيخ المولود بن الموهوب مطلعها:

صعود الأسفلين به دهينا

لأنا للمعارف ما هدينا.

وله رسالة في التربية، ورسالة في علم الكلام سماها القواعد الكلامية.

3ـ وقد ترك الشيخ المجاوي من بعده تلميذه الشيخ حمدان الونيسي الذي خلفه في التدريس بقسنطينة. والونيسي هو أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ المولود بن الموهوب مفتي قسنطينة والشيخ أحمد الحبيباتي، وقد هاجر الشيخ الونيسي إلى المدينة المنورة وتوفي فيها.

ص: 489

4ـ الشيخ المولود الزريبي المتوفى سنة 1343وهو من بلدة زريبة الوادي بناحية بسكرة تلقى العلم في الجامع الأزهر ثم عاد إلى الجزائر وقام بالتدريس في منطقة الأوراس، وكان من العلماء المشهود لهم بالصلاح، ومما يذكر عنه أنه لجأ إلى حيلة طريفة فعمد إلى كتاب (المرشد المعين) وهو كتاب معروف لدى الخاصة والعامة فشرحه وبث فيه آراءه الإصلاحية ودعوته السلفية لمقاومة البدع، وكانت تجري بينه وبين أنداده مناظرات في (المحدثات في الدين) .

5 ـ الشيخ عبد الحليم بن سماية المتوفى سنة1351 وكان على صلة بالسلفيين في مصر، وخاصة الشيخ رشيد رضا، وقد درس رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للجرجاني وألفية ابن مالك وشروحها والعقد الفريد لابن عبد ربه وحماسة أبي تمام ومفصل الزمخشري، وله تآليف نفيسة منها كتاب (فلسفة الإسلام) الذي ألقى الفصل الأول منه في مؤتمر المستشرقين الرابع عشر المنعقد في الجزائر سنة1323 وحين زار ملك المغرب الأقصى عبد العزيز الجزائر عام 1319 دعا الشيخ عبد الحليم للغداء فاعتذر (1) بقصيدة منها:

أمولاي شمس الفضل والعلم والنهى

وأجدر من يجري اللبيب ثناءه

سلام عليكم عاطر متضوع

كمسك ذكا بل لا يكون بواءه

وأفضل تكريم وأزكى تحية

يقيمان للقدر العظيم وفاءه

ويرأب كل منهما نأي عبدكم

بغيبته عما إليه دعاءه

علمت بأن المشي بالجفن واجب

إليكم ولكن لي اعتذار وراءه

6 ـ الشيخ محمد بلخوجة المتوفى سنة1333،وكان شاعرا مشهورا بتقدمه بالآداب والعلوم العربية، وهو أعلم علماء عصره بتراجم علماء الجزائر، وكان واسع الاطلاع ولوعا بالكتب العصرية، وقد قام بنشر تفسير عبد الرحمن الثعالبي من رجال القرن التاسع بعد تحقيقه على سبع نسخ، ونشر كتاب السيوطي:"الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض".

وقد عزلته السلطات الفرنسية من عمله، فأخذ يلقي دروسه في جامع حي بلكلور بمدينة الجزائر.

---

ص: 490

(1)

كان وزير خارجية فرنسا صرح عند نشوب الثورة الجزائرية بأنه لن يفاوض الجزائريين ولن يدع الهلال ينتصر على الصليب

(2)

شروط النهضة ومشكلات الحضارة لمالك بن بني ترجمة عبد الصبور شاهين وعمر مسقاوي.

(3)

الظاهر أن سبب اعتذاره نفته نن الحضور في مأدبة يشهدها الحكام الفرنسيون.

ص: 491

منطق ومناطقة

بقلم الشيخ رمضان أبو العز: المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة

لم يختل ميزان المنطق كما اختل في أيامنا هذه، وانك لتستمع إلى كثير من الناس فيتهيأ لك أنك في حظيرة ببغاوات لا تعي مما تنطق شيئا أو تحسب أنك في بيمارستان حيث لا قواعد تلتزم ولا أصول تراعى0

فمن الناس من يشتط في المكابرة فليجأ إلى المنطق المقلوب بمعنى أنه يرميك بما هو شائع فيه هو، متواتر عنه، فهذا أبو جهل قبحه الله يرمي خير البشر عليه الصلاة والسلام بأنه قاطع الرحم وذلك حيث يقول يوم خرج لبدر:"اللهم أقطعنا لرحمه فأحنه الغداة"يقصد اللعين أن قاطع الرحم إنما هو محمد عليه الصلاة والسلام وهل حض على صلة الرحم على توالي الأزمان وكر الأعصر كمحمد صلى الله عليه وسلم؟، ونسي اللعين أنه وثلثه من زعماء الشرك كانوا هم الذين سموا محمدا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة الصادق الأمين فكان الرد الإلهي على استنصاحه أن استجاب دعاءه فأدركه الحنين الغداة كما طلب0 وفي ذلك نزل قوله تعالى:{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}

وقد عبر الشاعر العربي عن المنطق المقلوب بقوله: ((رمتني بدائها وانسلت)) وقالت العامة في هذا المعنى: ((تدهيك وترزيك واللي فيها تجيبوا فيك))

ومن المنطق المقلوب قول الاشتراكيين وزعمائهم بوجه أخص عن مجتمعهم انه مجتمع ((الحرية والرخاء والتنمية)) وما إليها في حين لم تشهد الدنيا أشد تضييقا وكبتا من مجتمعاتهم ولا أشد فقرا وتعاسة منها ويسمون أنفسهم أهل السلم والسلام وهم هم أهل الشغب والفوضى والإيغال في الدماء البريئة0

وأخيرا، وليس آخراً قالوا إن مجتمعهم إنما هو مجتمع الكفاية والعدل ولم نر أشد جورا وظلما وأبعد عن الكفاية منهم ولذلك علقت النكتة المصرية على هذه الكفاية والعدل بقولهم:((انهم يكفون الناس على وجوههم ثم يقيموهم استعدادا للكفي مرة وثانية وثالثة))

ص: 492

ومن الناس من يلجأ إلى المغالطة والتحريف، وقد شاع هذا في الأوساط التي تدعي الثقافة الذين يزعمون أن قدماء الهنود وقدماء المصريين واليونان والعرب القدامى أن هؤلاء وهؤلاء كانوا موحدين والذي ألجأهم إلى هذا القول أنهم جميعا كانوا إلى حد ما يقرون بالربوبية لذى الجلال جل شأنه، ولكن هذا الإقرار لا يفيدهم شروى نقير طالما أنهم أشركوا به العباد والمحكومين في العبادة والذل والتماس النفع وموقع الضر وإلا فهل يعقل أن الذين أشركوا مع الله سبحانه كرشنا وأدونيس وأميون وأزيريس أن هؤلاء كانوا موحدين بل وأشركوا القطط والبقر والحيات والعجول انه لمنطق ساقط ما في ذلك شك0

ومن الناس من يجنح إلى المغالاة الخارجة على كل منطق وذوق كأولئك الذين غلوا في المسيح عليه السلام فجعلوه إلها وما تسرب الشرك إلى الأمم السابقة إلا عن طريق الغلو ومما يروى عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما أهلك من كان قبلكم الغلو إلا أني أنهاكم عن ذلك "وقد رد الحق تبارك وتعالى على غلو النصارى في المسيح بقوله: {ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} 0الآية ومن لزوم أكل الطعام إخراج الفضلات فأي اله هو. ولذا قال الحق تبارك وتعالى في آخر الآية {أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} . وللأسف قد شاعت الغلوات حتى في أمتنا الإسلامية فغلوا في البدوي والجيلاني والعيدروس جميعا بل قال شاعر العبيديين عن المعز العبيدي:

ندعوه منتقما عزيزا قادراً غفار موبقة الذنوب صفوحا

تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا0

ص: 493

وفي هذا المعنى ما كتبه الأخ الفاضل الأستاذ محمد الحسني الندوي رئيس تحرير مجلة البعث الإسلامي الكلنوية المباركة في عدد رمضان سنة 1390هـ تحت عنوان: ((مسابقة في وضع الألقاب واختراع الأوصاف إذ أنه بعد موت هالك من دعاة الاشتراكية طلعت الصحف بمنحه ألقاب عجيبة من مثل قولهم: ((خالق الكرامة)) و ((صانع الحياة)) و ((نبي هذا الزمان)) و ((لا إله إلا الله فلان حبيب الله)) ثم ((أشرف رجل في التاريخ)) 0فعلق الأخ محمد الحسني قائلا: "ما كنا نتصور أن الإغراق في الثناء والتنافس في المدح والإطراء لرجل أهان بلده وشعبه يصل إلى درجة تمس كرامة الأنبياء ومكانة النبوة وحرمة سيد الأولين والآخرين"0وصدق الأخ الحسني وإلا فما معنى أشرف رجل في التاريخ إلا الازدراء برسل الله جميعا من نوح إلى محمد صلى الله عليهم أجمعين0

وما أجمل ما قاله الأخ الحسني في هذا المقال:"إنهم يؤمنون بالله، نظرا إلى أوضاع البلد المسلم الذي يحكمونه ولكنهم لا يحتاجون إليه في شيء مادام ((صانع الحياة)) و ((خالق الكرامة)) أغناهم عن كل شيء". ثم قال: "إن القرآن عندهم ليس إلا للمنابر والأضرحة والجنائز"، ولذلك يتطاول عليه الفجار والفساق ورواة التاريخ الجنسي0

أما القرآن الثاني وهو الميثاق فحرام أن ينقده ناقد أو يقول فيه قائل، إلى آخر ما ذكر الأخ الحسني لا فض فوه وإني أنصح الشباب أن يقرؤوا المقال بإمعان ففيه توعية جليلة0

قومي الأعزاء، أفيقوا فقد حان الفواق ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم00

ولكن المنطق الشاذ الموغل في السماجة والقحة منطق الشيوعي الكويتي الذي زعم أنه دكتور في علم النفس والفلسفة فقد كتب إلى الدكتور محمد عزت نصر الله مدير مجلة (الفكر العربي) البيروتية (1) كتب الشيوعي قائلا:

ص: 494

لقد قرأت موضوع المجتمع الروسي مغلق على نفسه00 أنا الذي أكتب إليك، دكتور في علم النفس والفلسفة، ولقد درست في موسكو تسع سنوات00 ولقد رأيت الشعب الروسي وخاصة الشعب المسلم هناك فان لهم حرية العبادة وحرية الرأي وحرية الصحافة، وكل الشعب الروسي والحكومة السوفيتية يحترم الديانة الإسلامية وإنني أنا مسلم".

من السفه أن ندخل في نقاش منطقي مع مثل تلك العقول فهؤلاء الذين عناهم الحق تبارك وتعالى بقوله {صم بكم عمي فهم لايعقلون} .

وهل يعقل أن دولة اللالحاد تحترم الديانة الاسلامية بل استمع إلى قوله: (وإنني أنا مسلم) بالتأكيد المؤكد فما الدليل على إسلامه؟

الدليل أكبر الدليل ما قاله بعد ذلك بقليل: "إنكم تهاجمون ماركس ولينين، إنه أحسن من محمد ماذا عمل محمد للشعب العربي؟.

أرأيت أي مسلم هو؟ وأي إسلام ذاك الذي يحترمه الشعب الروسي والحكومة السوفيتية إنه لا شك إسلام الخنازير والخنافس الذين يرون أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس شيئا بجانب آلهتهم ماركس ولينين، لعنة الله عليهم أجمعين0

---

(1)

وهي مجلة قيمة تنشر هي و ((الشهاب)) البيروتية وعيا إسلاميا.

ص: 495

يستفتونك

يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز

رئيس الجامعة الإسلامية

*ظهرت لدينا بوادر خلاف حول صلاة المسافر خلف المقيم وصلاة الجمعة للمنفرد، وأنه هناك من يقول بأن يسلم المسافر إذا صلى خلاف المقيم من ركعتين، ويصلى المنفرد يوم الجمعة إن لم يدرك الجماعة ركعتين وأن الذي تعلمناه وسرنا عليه منذ أن جلسنا أمام علماء السنة، أن المسافر إذا كان إماما سلم من ركعتين ويتم المأمومون أربعا، وأن المنفرد إن فاتته الجمعة في المسجد يصلى الظهر أربعا وكنا نعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى في عرفات يوم الجمعة الظهر والعصر سرا وقصرا وجمعا ولكن لم نجد دليلا يؤكد قراءته سرا ونطلب البيان؟

ص: 496

والجواب عن ذلك هو أن الصواب الذي عليه سلف الأمة وخلفها هو ما أنتم عليه لا ما جاءكم من المثال وهو أن المسافر إذا صلى خلف المقيم عليه أن يتم أربعا وقد ثبت في مسند أحمد وصحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على ذلك، أما إذا كان المسافر هو الإمام فإن السنة في حقه أن يصلي الرباعية ركعتين وعلى المأمومين أن يكملوا أربعا إذا كانوا غير مسافرين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. وأما من فاتته الجمعة فالذي عليه الأئمة الأربعة والجمهور أنه يصلى ظهرا وليس له أن يصلى جمعة، والقول بأنه يصلى جمعة قول شاذ مخالف للأدلة الشرعية فلا ينبغي أن يعول عليه، وأما الدليل على قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سرا في صلاتي الظهر والعصر يوم الجمعة في عرفة فهو ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه."أن النبي صلى الله وسلم بعدما خطب الناس يوم عرفة أمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين ولم يصلى بينهما شيئا". فهذا النص دليل ظاهر على أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل جمعة وإنما صلى ظهرا ومعلوم بالأدلة الشرعية أنه كان عليه الصلاة والسلام يقرأ سرا في الظهر والعصر فلو كان جهر بالقراءة في الظهر ذلك اليوم لنقل ويدل على ذلك أيضا أنه قدم الخطبة على الأذان فلو كان صلى جمعة لأخر الخطبة بعد الأذان أو جهر بالقراءة وأخر العصر إلى وقتها لأن ذلك هو الأجر المعروف من سنته عليه الصلاة والسلام مدة إقامته بالمدينة ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم -فيما نعلم- أنه قدم الخطبة على الأذان يوم الجمعة ولا مرة واحدة كما أنه لم ينقل عنه أنه جهر في الظهر، وإنما قد يسمعهم الآية بعض الأحيان في الظهر والعصر، ليعلموا أنه يقرأ عليه الصلاة والسلام، كما أنه لم ينقل عنه أنه صلى الجمعة في شيء من أسفاره، ولا أنه جمع بين الجمعة والعصر لا في السفر، ولا في الحضر، ومن قال خلاف ذلك فعليه بيان الدليل الثابت في ذلك.

ص: 497

*ما قولكم في الصلاة خلف من يستغيثون بغير الله، واضطروا للصلاة في المنازل تحرجا من إمامة هؤلاء؟

لاشك أن الصلاة خلفهم لا تصح لتلبسهم بالشرك، ولكن لا ينبغي من مثلكم الصلاة في المنازل وترك الجمعة، بل الواجب الصلاة في غير مساجد هؤلاء المشركين أو إقامتها قبلهم أو بعدهم منكم، ومن لديكم من أهل التوحيد، ليتضح للجميع إنكاركم ما هم عليه من الشرك حيث أمكن ذلك، وأمنت الفتنة، وأما سماعكم بعض الإخوان يروي عن أم المؤمنين أنها قالت:لا تضر المؤمن صلاته خلف المنافق، ولا تنفع المنافق صلاته خلف المؤمن، وسؤالكم عن صحة هذا الأثر، فالجواب: هذا الأثر لم أطلع عليه ولا أظن صحته ولو صح لوجب حمله على معنى صحيح وهو أن مرادها إن المؤمن لا تضره صلاته خلف المنافق إذا لم يعلم نفاقه.

*ما حكم الإسلام في شارب الدخان، وهل تطلق زوجة شارب الدخان؟

الجواب: شارب الدخان قد أتى أمرا محرما؛ لأن الدخان من الخبائث وشربه محرم، ولكن زوجته لا تطلق بذلك لأن المسلم إذا فعل المعصية لا تطلق زوجته بذلك، وإنما عليه التوبة إلى الله سبحانه من ذلك، والحذر من العود إليه.

*هل يجوز للمسلم أن يقرأ ما تيسر من القرآن وهو جنب؟

الجواب: لا يجوز للمسلم أن يقرأ القرآن وهو جنب، سواء كانت قراءته من حفظه أو من المصحف؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة.

*ما حكم الإسلام في الجلوس عند التلفزيون؟

الجواب: لا يجوز للمسلم إن يشاهد أو يستمع لما يعرض في التلفزيون من الصور النسائية غير المتحجبة، والأغاني وآلات الطرب؛ لما في ذلك من التعرض لغضب الرب عز وجل، ومرض القلوب وصدها عن ذكر الله، وعن الصلاة، والأحوط للمسلم أن لا يقتنيه ولا يحضره بالكلية حسما لمادة الشر، وحذراً من أسباب الفتنة.

واسأل الله أن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه انه خير مسئول.

ص: 498

أضواء من التفسير

للشيخ عبد القادر شيبة الحمد

المدرس بكلية الشريعة

{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ}

المناسبة:

هذه السورة كالمتممة لما قبلها من حيث أنه ذكر فيها عدد من الأنبياء لم يذكروا في السورة السابقة وكذلك فإنه لما ذكر عن الكفار في السورة السابقة أنهم كانوا يقولون: لو أن عندنا ذكرا من الأولين لأخلصنا العبادة لله وحده وأنهم لما أتاهم الذكر كفروا به فبدأ هنا بالقسم بالقرآن ذي الذكر الذي جاءهم فخالفوه وكفروا به.

سبب النزول:

أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا فلو بعثت إليه فنهيته؟ فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل فخشي أبو جهل إن جلس النبي إلى أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم ـ قال وأكثروا عليه من القول ـ وتكلم رسول الله صلى عليه وسلم فقال:"يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب، وتؤدي لهم بها الجزية العجم"، ففرحوا لكلمته ولقوله. فقال القوم: لنعطينكها وعشرا. قال: لا اله إلا الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ، حتى بلغ {إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} .

القراءة:

ص: 499

قرأ الجمهور (ص) بسكون الدال وقرىء صاد بضم الدال وقرىء بكسر الدال بتنوين وبغير تنوين وقرىء بفتح الدال، وقرأ الجمهور (عزة) بالعين المهملة والزاي المعجمة وقرىء (غرة) بالغين المعجمة والراء المهملة، وقرأ الجمهور {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} بفتح النون من حين وقرىء بضمها وقرىء بكسرها إيضا.

المفردات:

(ص) من الفواتح الكريمة مثل: ق ون وحم وألم وغيرها، فمن الناس من قال: لا تفسير لها إما لأنها لا معنى لها أصلا وإلى هذا ذهب الحشوية. وإما لأن معناها استأثر الله بعلمه وإليه ذهب كثير من المتكلمين والأصوليين. ويقولون: الله أعلم بمراده به.

ومن الناس من قال لها معنى يدرك. وقد اختلف أصحاب هذا القول في المعنى المراد منها فقيل إنها اسم السورة، وقيل اسم للقرآن، وقيل مبادئ لأسماء الله تعالى أو لأفعال، وقيل غير ذلك. وقد اختار كثير من المحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيميه بأنها للدلالة على الإعجاز والتحدي.

وقد لوحظ أن السور المبدوءة بهذه الفواتح المباركة يغلب عليها طابع الإعجاز والتحدي، وهي من خواص السور المكية إلا فيما ندر كالبقرة وآل عمران. وقد بدئ بها تسع وعشرون سورة عدد حروف المعجم. كما لوحظ أن هذه السور لها طابع خاص إذ يبدأ فيها بعد الفواتح بذكر القرآن إما صراحة وإما ضمنا فيعظمه ويمجده ثم يذكر أصناف الناس بالنسبة إليه وأنهم اختلفوا فيه كما اختلفوا على كتب الأنبياء السابقين، ويبين أن الفئة التي تتمسك به هي العزيزة الغالبة الظاهرة المنصورة في الدنيا وأنها السعيدة الفائزة بجنان الخلد ورضوان الله في الآخرة، وأن المعادين لهم مغلوبون مقهورون معرضون لعذاب الله في العاجلة والآجلة، يضرب الله تعالى لذلك ما شاء من الأمثلة، ويقص ما شاء من أحسن القصص، الذي يشرح هذه الفكرة، ويوضح هذا الهدف، ثم يختم السورة بذكر القرآن فيعظمه ويمجده كما بدأ أولا.

ص: 500