الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 10
فهرس المحتويات
1-
أثر القرآن في تنمية القوى الإنسانية: بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السائح - من علماء الأزهر
2-
أخبار الجامعة
3-
في مناسبات الآيات والسور (3) - آراء العلماء في المناسبات: للشيخ أحمد حسن
4-
الإسلام والمذاهب الاشتراكية: بقلم فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
5-
التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي: بقلم الشيخ عطية محمد سالم
6-
الشباب الضائع: بقلم الطالب عبد الله العبادي
7-
العبرة في شهر الصوم: بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
8-
القرآن الكريم.. دراسته وتعليمه في جميع بلاد الإسلام: نص قرار المجلس لرابطة العالم الإسلامي
9-
المكتبات العامة وأثرها في تثقيف الأمة: للدكتور محمود بابللى
10-
ثقافة
…
ودين: نقلا عن مجلة دعوة الحق
11-
سلام على المنابر: شعر الطالب: عبد الشكور محمد أمان الأثيوبي
12-
شعر أهل الحديث: بقلم الأستاذ: عبد العزيز القارئ
13-
صدر حديثاً:
14-
في ظلال سورة الأنفال: بقلم الشيخ: أبي بكر جابر الجزائري
15-
مع الصحافة - حول المؤتمر الإسلامي في أمريكا الجنوبية: تحقيق صحفي مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية
16-
مكانة المسجد في الإسلام: بقلم الشيخ: محمد بن حمود الوائلي
17-
من وحي السنة: بقلم الشيخ علي ناصر فقيهي
18-
من.. ولماذا؟ (قصة) : بقلم الشيخ: محمد المجذوب
19-
ندوة الطلبة - دراسات في الديانات الهندية - الديانة الجينية - الجينية (جين دهرم)
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
20-
نظرات في حديث أصحابي كالنجوم: بقلم الطالب: صالح بن سعيد بن هلابي
21-
يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
أثر القرآن في تنمية القوى الإنسانية
بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السائح - من علماء الأزهر
هذا الإتجاه الواضح الذي أخذ فيه القرآن الكريم بيد الإنسان، وطاف به في أعماق هذا الكون، هداه إلى أسراره، وأوحى إليه أن يتأمل فيه ويتدبر، ويتعلم وليسخره لمنفعته، ويستخدم عقله في سبيل ذلك إلى حدود لم تحدد.
هذا الإيحاء هو الذي دفع بالمسلمين إلى الخوض في بحار العلوم المختلفة، وأدركوا مبلغ الحاجة إليه في بناء مجتمعاتهم، ودعم سلطانهم، وعرفوا أن العلم: هو الذي يوضح لهم معالم السير على النهج القويم، ويفتح لهم آفاق الحياة والقوة، ويكشف لهم عن أسرار العوالم الكونية ونواميسها، ويقيم لهم وسائل الحياة، والسؤدد ويبني لهم قواعد المجد والعزة.
عرفوا كل هذا، فوجهوا عزائمهم إلى طلب العلوم على اختلاف أنواعها ولم يشغلهم عن طلبها ترف الحضارة، ولا ثنت عزائمهم عنها بأساء الحياة وضراؤها، وبحثوا عنها في آيات الله التشريعية، وآياته الكونية وأقاموا لها في كل قطر إسلامي مناراً عالياً، وحملوا مشاعلها إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولم يقفوا بجهودهم عند نتاج عقولهم وأفهامهم بل اتجهوا بها أيضاً إلى علوم السابقين فاستخرجوها من زوايا النسيان والإهمال.
وأخذوا إبريزها بعد أن زادوه نقاء وصفاء، وردوا زائفها بعد أن بينوا زيفه وفساده؛ لأنهم كانوا يطلبون العلوم طلب الناقد البصير.
واكتمل لهم من ملكات العلوم والفنون في جيل واحد، ما لم يكتمل لأمة من الأمم الناهضة، في عدة أجيال وفي ذلك يقول بعض المؤرخين من علماء الغرب:(إن ملكة الفنون لم يتم تكوينها في أمة من الأمم الناهضة إلا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال والاجتهاد، إلا العرب وحدهم، فقد استحكمت لهم ملكة الفنون في الجيل الأول الذي بدأوا فيه بمزاولتها) .
نهضة علمية جبارة، قام بها المسلمون على رغم الأحداث العاتية التي حملوا أعباءها، والحروب الطاحنة التي خاضوا غمارها.
لأن الأحداث والخطوب، وإن بلغت من العنف ما بلغت، لا تستطيع أن تقف في طريق العقائد التي انطوت عليها القلوب، وانفعلت بها النفوس، ولا أن تمنع العزائم القوية من الوصول إلى أغراضها وأهدافها.
وبهذه النهضة العلمية الجبارة، استطاع المسلمون أن يعملوا عمل الأقوياء لأن العمل لبناء المجتمعات في دينها ودنياها لا يصدر إلا عن إرادة قوية دافعة، والإدارة القوية الدافعة لا تصدر إلا عن العلم.
وبهذه النهضة العلمية، استطاع المسلمون في سرعة لم يعهد لها مثيل في تاريخ النهوض أن ينتقلوا من أمة الأمية، والانطواء على النفس إلى أمة العلم والقيادة الفكرية العالمية، وأن يصبحوا أساتذة العالم، وقادة الفكر، ورواد العلوم والفنون، يدرسونها للأجيال المعاصرة كأحسن ما يكون الدرس والتعليم، ويدونونها للأجيال المقبلة كأحسن ما يكون التأليف والتدوين، وينشرونها في شعوب كانت تائهة في عماء الجهل وظلمته.
فقد كانت بعوث الأمم، تفد على العواصم الإسلامية من كل ناحية، فيأخذون من علمائها ما شاءوا من أفانين العلوم وألوان المعرفة، ثم يعودون إلى بلادهم حاملين إليها مشاعل هذه العلوم التي أخرجتهم من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة ونفحت فيهم روح الحياة، وفتحت لهم طريق الانتفاع بأصلين عظيمين من أصول الإصلاح الإسلامي، وهما حرية الفكر، واستقلال الإرادة.
كما شهد بذلك المنصفون من علماء الغرب، فيما كتبوه لمرضاة العلم في ذاته.
قال أحدهم: "إن المسلمين كانوا منفردين بالعلم في تلك القرون المظلمة وإن الفضل في إخراج أوروبا من ظلمة الجهل إلى ضياء العلم، وفي تعلمها كيف تنظر، وكيف تفكر، راجع إلى المسلمين وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم عن طريق أسبانيا وإيطاليا وفرنسا، وإن العرب هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين والعقيدة، وإن نشأة المدنية في أوروبا قامت على أصلين عظيمين وهما: حرية الفكر، واستقلال الإرادة، فلم تنهض العقول للبحث، ولم تتحرك النفوس للعمل إلا بعد أن عرفت أن لها حقا في طلب الحقائق بعقولهم وأفهامهم، وفي تصريف شئونهم بإرادتهم واختيارهم.
ولم يصل إليهم هذا النوع من العرفان إلا في الجيل السادس من ميلاد المسيح، حينما سطع عليهم شعاع من آداب الإسلام ومعارف المسلمين".
تقدم المسلمون في كل ميادين الفكر الإنساني عندما عملوا عقولهم في البحث والدراسة وانتهجوا نهج القرآن العقلي الذي وضح لهم.
وهذا الاتجاه من القرآن الكريم لاستعمال العقل هو الذي هدى المسلمين في المقام الأول للعمل على تنمية القوى العقلية، حتى كانت لهم حضارات رائعة، وما زالت تتحدى الحضارات الإنسانية عراقة وأصالة.
كما أن المسلمين استفادوا من ثقافات الأمم التي انتشر بينها الإسلام، والتي لم ينتشر فيها الإسلام.
ولم يكن المسلمون مجرد نقلة، ولكنهم كانوا مفكرين ناقدين مجددين فشرعوا في الفقه والقانون ومناهج البحث، ودونوا التاريخ، ووضعوا نظريات الاجتماع وأحدثوا أسساً عظيمة للفلك، والجغرافيا، والطب، والكيمياء، والطبيعة، والفلسفة، والرياضة، والهندسة.
وفوق هذا وذاك، كانوا واضعي طريق البحث التجريبي الذي كان أساساً للحضارة الأوروبية الحديثة.
ويكفي أن نستشهد في هذا باعترف (بريفولت) BRIFFAULT في كتابه:
MAKINJ OF HUMANITY
"إن الأوروبيين درسوا عن العرب طرق البحث العلمي التجريبي، وأنه لم يسبقهم إليها باحث أو مفكر".
ويؤكد (بريفولت) BRIFFAULT
"أن نفي هذا عن المسلمين، هو نوع من التضليل في فهم المصدر الحقيقي للحضارة الأوروبية"(1) .
ولقد خلف المسلمون ميراثاً، كان لأوروبا نبراساً، اعتدت به في عصورها المظلمة الحالكة الظلام.
وكانت مؤلفات العلماء المسلمين تدرس في جامعات أوروبا، وكان الأساتذة المسلمون يمدون أبناء أوروبا بما وهبهم الله من معرفة.
ولئن أفلتت القيادة الفكرية والسياسة من أيدي المسلمين حيناً من الدهر فقد استيقظ المسلمون على دوي المدافع، وضجيج الآلات، وأزيز الطائرات وسباق الفضاء.
والإسلام قادر بطبيعته الذاتية على مواجهة متطلبات كل زمان ومكان؛ لأنه الدين الذي ارتضاه رب العزة للإنسانية في مسيرتها عبر الزمان.
وما على المسلمين إلا أن يعودوا إلى الاغتراف من المنابع الإسلامية الأصيلة وينهلوا من المنهل الحق، ويتمسكوا بقيم الإسلام وتعاليمه وفي ذلك الشفاء، وإلى اللقاء.
---
(2)
انظر: مجلة رسالة الإسلام العدد 5 ـ 56 ص 323 الزمالك.
(3)
المصدر السابق ص 326.
(4)
مجلة الدراسات الإسلامية المجلد الثاني عدد 5 ص 51 باكستان ـ إسلام آباد.
ثقافة
…
ودين
نقلا عن مجلة دعوة الحق
نشرت مجلة دعوة الحق في عددها الأول من السنة الرابعة عشرة افتتاحية تحت عنوان: (ثقافة.. ودين) جاء فيها:
سئل أحد الرجال الذين هداهم الله أخيراً إلى اعتناق دين الإسلام بعد بحث واستقراء لما عرف في هذا الكون من ديانات وثقافات.. عن السبب الذي حدا به إلى الإقدام على هذا العمل، فأجاب على الفور:
إنني كنت أبحث عن عقيدة ذات ثقافة.. وفي الوقت نفسه كنت أبحث عن ثقافة ذات عقيدة.. فكانت رحلتي شاقة.. وأتعابي مضنية.. فكم وجدت من ثقافات لا تربطها بالعقائد رابطة.. ولا تجمعها بها جامعة.. وكم وجدت من عقائد لا تصلها بالثقافات صلة تذكر.. فهي في واد.. وثقافة أهلها في واد آخر.
وقد علمتنا التجربة التاريخية أن كل حضارة لم تعمق جذورها في ثقافة ذات عقيدة.. وعقيدة ذات ثقافة.. فإنها تكون في مهب الرياح..
ولا يعنينا هنا أن يكون هذا الجواب معبراً صادقاً عن واقع هذا الرجل.. ولا يعنينا أيضاً أن يكون هذا الجواب صحيحاً أو غير صحيح.. وإنما يعنينا أولا وقبل كل شيء أن نعرف أصل الفكرة التي يشير إليها ومقدار عمقها أو سطحيتها
…
فالباحث الدارس الذي يستهدف في بحثه النزيه الصلة الوثقى بين الإسلام وثقافة معتنقيه.. يجد أن الإسلام من حيث هو يتلخص في شيئين اثنين:
دين.. وثقافة.. وكل منهما يعمق في الآخر معاني الخير والطمأنينة من جهة.. ومعاني البحث والفهم والمعرفة من جهة أخرى.. وبذلك تمتد خيوط الصلة بين الدين والمجتمع.. وتقاس أعمال الخير والصلاح والفساد والنفع والضر.. بمقياس دقيقة تجعل الناس على بينة من أمرهم في كل عمل يربطهم بالآخرين.. كما تجعل الإنسان يسمو في مطامحه الشخصية والاجتماعية عن الأنانية والوصولية والغش والخداع.. لأن عليه رقابة من ضمير شريف..
وإذا كانت نوازع الإنسان متعددة.. يملي بعضها العقل..بينما يملي بعضها الآخر القلب والوجدان.. فإن من السخافة والجهل بطبيعة الأشياء.. أن يحاول دين ما.. أو ثقافة ما أن تجعل من الإنسان ذا نوازع عقلية صرفة، أو ذا نوازع وجدانية صرفة.. في حين أن الإنسان عقل ووجدان..
وهذا ما يشير إليه الجواب الذي قدمناه آنفاً.. حيث إن هذا الرجل الذي هداه الله إلى الدين الحق.. كان يبحث عما يروي ظمأه العقلي.. وظمأه الوجداني في وقت واحد.. ولا شك أن ذلك هو الخط المستقيم الذي يمر عليه كل تفكير مستقيم..
وأخطاء العصر.. ومآسيه.. ومشكلاته.. التي يتخبط فيها الأقوياء والضعفاء.. والمنتصرون والمنهزمون والأثرياء.. والبؤساء.. هي نتائج وليست مقدمات.. هي نتائج التنكر لطبيعة الإنسان مفرداً.. ومجتمعاً.. والتذكر لطبيعة الأشياء في الحسيات والمعنويات.. وحفر هوة عميقة بين عنصري الحيوانية.. والإنسانية.. في بني الإنسان..
فبقدر ما يحقق الإنسان انتصارات علمية.. واختراعات بشرية.. وتقدم يسير.. ويطير بقدر ما يسجل على نفسه في عصر الذرة والصاروخ سخافات وتفاهات وحماقات.. أفقدت السعداء سعادتهم.. وضاعفت في الأشقياء شقاوتهم.. ولو كان الإنسان يحقق انتصارات أخرى في الميدان الذي تهيم فيه الأرواح والقلوب.. وتتلوث الأخلاق.. والضمائر.. وتنتهك فيه الحرمات الإنسانية.. لكان بذلك يحفظ توازن الحضارات والثقافات ويضمن استمرار المجتمعات وتسلسل حلقات الحياة.. عبر الزمان والمكان.
ولقد أخطأ الإنسان في ماضيه يوم كان يخرج من وثنية إلى أخرى.. عبد الشمس.. والنار.. والكواكب.. والأشجار.. والحيوانات.. وقدس الأزمنة والأمكنة.. وهام بعدد من المخلوقات هياماً شبيهاً بالعبادة.. إن لم يكن عينها..
ثم كفر بمعبوداته ونبذها وانقلب عليها وآمن بالله.. لأنه أدرك أنه المعبود الحق الذي توحد عبادته بين القلوب.. وتؤلف بين الشعوب.. وتسمو بالإنسانية إلى درجة السمو الممكنة في إطار هذه الحياة..
واليوم يعيد الإنسان سيرته الأول.. فيعمد إلى المادة.. وإلى المادة وحدها.. ليجعلها علماً وعملاً.. وثقافة.. وقيمة.. ومقياساً.. وبذلك يجدد عهد الوثنية البغيض..
وعلى العادة.. فيسكفر الإنسان بالمادة.. وسيتنكر لها وسينبذها.. لأننا ألفنا منه ذلك في تاريخه الطويل.. وسيدرك الإنسان أنه بنى قصوراً على الرمال.. وشاد صروحاً على الفضاء.. يوم اعتمد على المادة وحدها وجعلها فلكاً يدور فيه في كل حركاته وسكناته.. وتنظيماته واستعداداته لأنه بعمله ذاك زرع الخوف.. كما زرع الألم.. وزرع الحقد كما زرع الانحلال..
وإذا صح ما يتنبأ به مفكرو عصرنا فإن مصير الإنسانية بعد عصر الذرة والصاروخ لن يكون إلا إلى الإيمان..!
(مؤمن)
سلام على المنابر
شعر الطالب: عبد الشكور محمد أمان الأثيوبي
ما لإخواننا سبتهم رعاء
بعد مجد له الملوك فداء
بعد عز هوى له ملك كسرى
وتهاوت أمامه العظماء
ولآبائهم منابر عز
عجزت عن صعودها الخطباء
ولهم في العلى مبوأ صدق
لم تنله الملوك والأمراء
ولكسرى عن مرتقاهم كسور
وقصور لقيصر وانحناء
خدمتهم ملوك فارس والرو
م وهم بعد ملكهم خدماء
لم يكن من شعارهم (وطني) بل
صلوات شعارهم ودعاء
فعليهم مدى الزمان رضي الله ومنـ
ـه مثوبة وجزاء
اعجز الغرب غزونا بسلاح
وثناه القنوط والإعياء
فمضى يركب الأضاليل والمكر
فيعنو لأمره السفهاء
اقتدوا بالعدو في كل شر
ولبئس التقليد والاقتداء
ويقولون بالسياسة نبني
ولكم هد بالنفاق البناء
كم تغنوا بالدين والقلب عار
وتنادوا والدين منهم براء
صدفوا عن صراطه فأضاعوا
مجد آبائهم فخاب الرجاء
هجروا نهجه القويم فضلوا
وهدى الله ليس فيه التواء
يدعون النهى وقد خسروها
أمن العقل أن يجافى الدواء؟
كيف يرجى الخلاص والبحر طام
وتوالى (1) العواصف الهوجاء؟
وسلام على المنابر من بعـ
ـد أناس هم للمعالي سماء
ملكوا العز بالنفوس الأبيا
ت فنعم الهدى ونعم الإباء
سأبكي ما عشت تلك المعالي
وأنادي إن كان يغني النداء
أسفا بعد عزة خسروها
وبكاء لو كان يجدي البكاء
---
الفعل مضارع حذفت إحدى تاءيه.
شعر أهل الحديث
بقلم الأستاذ: عبد العزيز القارئ
المدرس بمعهد الجامعة
ـ 1 ـ
مما جرى على الألسنة واشتهر ما نسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله، وهو قوله:
لكنت اليوم أشعر من لبيد
ولولا الشعر بالعلماء يزري
فما نصيب العلماء من الشعر؟ وما نصيب المحدثين منهم؟ وهم في الخاطر أجدر بأن يكونوا أبعد الناس وأقلهم فيه.
لم أشأ أن أوسع بحثي لأتناول العلماء على اختلاف اختصاصاتهم وقد أكتب في الموضوع بتوسع في بعض المناسبات.. لكني اخترت أهل الحديث من العلماء لأدرس شعرهم وموقفهم من الشعر والشعراء.
وفي النفس أمل يراودها بأن أكتب فيما بعد (أدب العلماء) في مصنفاتهم سواء منها العلمية أو الأدبية، فهو موضوع مهم يحتاج إلى دراسة واسعة..
قبل الشروع في شعر أهل الحديث.. يحسن أن أقدم له بالكلام عن الشعر وميزان الجمال فيه ثم موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الشعر والشعراء.. مع بحث بعض الآيات والآثار التي ظاهرها ذم الشعر والحث على هجره.
الشعر وديوان العرب:
قيل لسعيد بن المسيب: إ ن قوماً بالعراق يكرهون الشعر، فقال:"نسكوا نسكاً عجيباً". ذلك لأن الشعر من أعظم ما جادت به ألسنة العرب، وهو عنوان لغتها وبلاغتها وسجل حوادثها وتاريخها، وترجمان أخلاقها وعاداتها، وكان أحب إليهم من غيره وأرفع قدراً وأعظم شأناً، فهي أكثر اشتغالاً به وأكثر حفظاً ورواية له، وأعظم حرصاً عليه ولذلك فقد نقل إلينا من أشعارهم أكثر مما نقل من منثورهم. وقد قيل: إن ما وصل إلينا من منثورهم عشره، وما ضاع من منظومهم عشره (1) ومن إعظامهم لشأن الشعر قرنوه بالكهانة والسحر؛ لأن كلا منهما يغير الأشياء في مرأى الإنسان ومخيلته بأساليب تأثيرية نافذة، فتأثير الشعر في نفوسهم أشبه تأثير السحر حتى قال قائلهم:
رواية مرا ومرا شاعرا
لقد خشيت أن تكون ساحراً
ولذلك لما تحيروا من عظمة بلاغة القرآن وقوة بيانه لم يجدوا ما ينسبونه إليه إلا الشعر أو السحر فمرة قالوا: "هذا سحر"، ومرة قالوا:"هذا شعر".
وهذا منهم دليل على إعظامهم لشأن الشعر.. وقد رد الله عليهم بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (1) .
إلا أن الشعر تميز بأن أساسه التأثير بواسطة التخييلات البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ونحو ذلك.. ولما كان الخيال صورة من صور الكذب قيل إن أعذب الشعر أكذبه. ولكن ليس ذلك على إطلاقه، فإن العمدة في حسن الشعر وجودته على صدق الشعور وجمال التعبير.. وكم من أبيات اعتبرت من عيون الشعر بينما هي لا تعتمد على أي صورة كاذبة، وإنما تتجلى بلاغتها في حسن إصابتها للمعنى الصحيح وحسن صياغتها في تعبير جميل.. ولعل حسان رضي الله عنه كان يعني هذا الميزان حينما قال:
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإن أشعر بيت أنت قائله
إلا أن الذي غلب على الشعراء المبالغة في الصور البيانية إلى حد التخييل الكاذب الصريح.. وخاصة في مقاصد الوصف والمدح والهجاء، فتسابقوا إلى الإغراب في ذلك وإلى ابتداع المعاني الموغلة في الاستحالة، زاعمين أنه بذلك يحلو الشعر ويستعذب.. فمن قائل:
عقيقاً فصار الكل في جيدها عقدا
بكت لؤلؤاً رطباً فسالت مدامعي
وقائل:
وقدت لرجل البين نعلين من خدي
وجذت رقاب الوصل أسياف هجرها
وقائل:
منك يشكو ويصيح
بح صوت المال مما
وقائل:
صليل البيض تقرع بالذكور
فلولا الريح أسمع من بحجر
ولعمري لو كان هذا الميزان صحيحاً إذاً لكان أكثر حسناً وعذوبة في الشعر قول أبي نواس:
لتخافك النطف التي لم تخلق
وأخفت أهل الشرك حتى أنه
أو قول المتنبي:
من فيه أحلى من التوحيد
يترشفن من فمي رشفات
أو قول جرير:
على خبث الحديد إذا لذابا
ولو وضعت فقاح بني نمير
والنقاد يجمعون على استهجان مثل هذا الشعر مع أنه أشد إغراقا في الكذب: فالنطف التي لم تخلق لا تخاف صاحب أبي نواس، وربما حتى لو خلقت، والرشفات من فم المتنبي حاشا أن تكون أحلى (من التوحيد) وفي بيته هذا قبح من وجهين: تغزله بنفسه، واعتداؤه القبيح على مثل هذا الجناب العظيم (1) .. وكذلك فقاح بن نمير لا يمكن في أي يوم من الأيام أن تذيب الحديد أو خبثه مهما كان شأن بني نمير مع صاحبهم.
فكل هذا مستقبح مستهجن مع أنه من أكذب ما قيل من الشعر.. بل قالوا في قول المهلهل: "فلولا الريح أسمع من بحجر". إنه أكذب بيت قالته العرب.
ولكن لعلك تستعذب معي مثل قول كثير:
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها
إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها
أو قول جرير في الفخر:
حسبت الناس كلهم غضاباً
إذا غضبت عليك بنو تميم
أو قول المتنبي في مطلع قصيدة:
وتأتي على قدر الكرم المكارم
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
أو قول عنترة العبسي:
مني وبيض الهند تقطر من دمي
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فوددت تقبيل السيوف لأنها
فهل تجد في هذه الأبيات شيئاً من الصور الكاذبة المستحيلة؟. ومع ذلك فهي من أعذب الشعر وأجوده حتى لقد قيل في قول كثير عزة:
من الخفرات البيض ود جليسها
.....................................
إنه أرق شعر قيل في النسيب.
ولو تأملت هذا المقام لوجدت أن حسن الشعر يتجلى في أمرين:
الأمر الأول: صدق المعنى الذي يذكره في البيت أو صدق الشعور الذي يعبر عنه.
والأمر الثاني: جمال الصورة التعبيرية التي يختارها لأداء ذلك المعنى وإبراز ذلك الشعور..
فمثلاً أبيات كثير عزة: تصور لنا شعوراً يختلج في نفس كثير تجاه حبيبته، فهو يحبها حباً شديداً ويكاد يهلك شوقاً لمرآها.. فهو يصور كيف تكون نفسه في سعادة عندما يهم بزيارتها والرحيل إلى ديارها: كأن الأرض تطوى له من شدة رغبته في الوصول إليها.. حتى إذا اجتمع بها ودارت بينهما الأحاديث تلذذ بكل ما تقصه عليه، فما تنتهي من أحدوثة إلا تمنى لو تعيدها مرات ومرات.
ومثل هذه الإحساسات يعرفها ويشعر بها كل محب مع من يحب، وما في هذه الأبيات إذا معنى مستحيل.. بل صدق إحساس أحسن الشاعر التعبير عنه.
وقول الآخر:
حسبت الناس كلهم غضابا
إذا غضب عليك بنو تميم
هو كذلك في غاية الروعة في تصوير الحالة النفسية التي يغرق فيها من غضبت عليه بنو تميم، فإن الأرض تضيق به ووجوه الناس تتغير عليه، حتى يتخيل كل إنسان يمر به حانقاً عليه، وفيه تصوير بديع لسطوة هؤلاء القوم وعظم مكانتهم وامتداد نفوذهم، ولا يضاهيه في معناه إلا قول نابغة بني ذبيان لما غضب عليه النعمان ففر منه هائماً على وجهه:
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فإنك كالليل الذي هو مدركي
ولعمري إن بيت النابغة أكثر نجاحاً في تصوير هذه الحالة النفسية من القلق والرهبة باختياره لكمتي (الليل) و (مدركي) فالليل لا يمكن الفرار منه فهو مدركه أنى ذهب..
وأما بيت المتنبي (علي قدر
…
) إذا جردت معناه من شعره فلا تكاد تجد أي صورة بيانية، بل هو مجرد تعبير قوي عن حقيقة واقعة من حقائق الحياة، والحسن كل الحسن فيه في الإطار الشعري الذي صاغ المعنى به، وغالب أبيات المتنبي من هذا القبيل.. وما أخالك إذا سمعت مثل قوله:
فمن العجز أن تموت جبانا
وإذا لم يكن من الموت بد
إلا هاتفا بملء فيك: صدق.
وأبيات عنترة كذلك: صورة ملخصها: معركة محتدمة ازدحمت فيها الخيول وبرقت الأسنة ولمعت السيوف حول الشاعر تتناهشه وتنهل من دمه.
ومع عظم هذا المقام وشدة هوله يتذكر حبيبته، ويتخيل لمعان السيوف والأسنة كلمعان ثغرها عندما تبتسم، فيتفجر في نفسه الشوق إليها حتى يكاد يهجم على تلك السيوف لا باطشاً ولكن مقبلاً.
فهذه الصورة نجحت في التعبير عن: شجاعة الشاعر، وشدة محبته لصاحبته، وجمال ثغرها وحسنه.
وهكذا كلما تأملت شيئاً من عيون الشعر وجيده تجد أن حسنه وجودته في صدق المعاني وصدق التعبير وجماله.
وتجد الشعر كلما أغرق في الاستعارات البعيدة والصور المستحيلة ازداد قبحاً وصار مستهجناً.
وبذلك تعلم أن أعذب الشعر أصدقه! وأن هذا هو الميزان الصحيح كما قرره حسان بن ثابت رضي الله عنه.
موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الشعر:
النبي هو سيد العلماء، فهل كان يكره الشعر ويذمه؟
من المجمع عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاعراً ولم ينظم الشعر، بل طبعه الله عز وجل على خلاف سجية الشعراء ومنع عنه ملكة الشعر.. حتى ما كان يستقيم في لسانه في الغالب، وإن كان يجري على لسانه أحياناً، إلا أن المنفي عنه بالجملة أن يكون شاعراً، فإذا جرى على لسانه بيت أو بيتان مستقيمان فإن ذلك لا يعني أنه قال شعراً، لأن جريان كلام منظوم بغير قصد لنظمه وعنايته بإيجاده موزوناً، يجري على كل الألسنة ولا يعتبر شعراً..
قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} (1) : أخرج ابن كثير عن الشعبي قال: "ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
أما قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي ليس من طبعه فلا يحسنه ولا تقتضيه جبلته، ولعل الحكمة في ذلك (الإعجاز) بالقرآن فإنه أعظم من الشعر وليس بشعر، وإثبات أنه من عند الله وليس من تأليف الرسول.. فسد الله عز وجل كل باب يمكن أن يتذرع به المشركون في دعواهم أن القرآن من كلامه صلى الله عليه وسلم أو أنه من شعره، فجعل الرسول أميّاً لا يقرأ ولا يكتب، حتى لا يقال إنه ينقل من كتب اليهود والنصارى، ولم يجعله شاعراً حتى لا يقال إنه يؤلف شعراً.
وكون الرسول أمياً لم يعن مذمة الكتابة والقراءة.. وكذلك كونه ليس شاعراً لا يعني ذم الشعر.. فلا يفهم من قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} إلا أن الشعر مع مقام الوحي لم يكن مناسباً، كما أن الأمية كانت مناسبة، والدليل على أن المقصود هو تأكيد أن القرآن ليس بشعر أن الآية جاءت في معرض هذا المعنى حيث يقول بعدها:{إِنْ هُوَ إلَاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فيكون المعنى وما ينبغي أن يكون القرآن شعراً؛ لأنه كتاب إرشاد وتعليم وموعظة للناس، والشعر ليس محلا للتفصيل والتبيين والإيضاح بل هو محل الإجمال والإشارة.. فهذا الكلام ليس من نوع الشعر ولكنه (قرآن مبين) ..
ثم قال: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي يحق عليهم بأن هذا الكلام المبين كلام الله وبذلك تنقطع حجة المشركين..
ومثل هذه الآيات قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) .
وبذلك يتبين لك أن ليس في قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي دليل على غضاضة في الشعر، وسيزيدك إيضاحاً لذلك ما سيأتي من استشهاد الرسول بالشعر واستنشاده له، ومناقشته لبعض معانيه وحثه عليه..
وإن قال قائل: إن العلة في غضاضة الشعر كونه محلاً للأكاذيب وتلفيق المعاني وتغيير الحقائق فقد بينت لك آنفاً أن قولهم: أعذب الشعر أكذبه ميزان غير صحيح عن النقاد.
وقد يستدل بآيات الشعراء على ذم الشعر وهي قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} (1) ولو لم يكن لذلك من جواب إلا الاستثناء الذي ختمت به هذه الآيات {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} لكفى..
لكن يحسن أن تذكر سبب نزول هذه الآيات لنتبين المقصود منها:
فسورة الشعراء مكية، وهذه الآيات الأربع في آخرها مدنية، ونزلت في شعراء المشركين من قريش الذين كانوا قد أشعلوا حرباً كلامياً ضد الرسول صلى الله عليه وسلم بهجائهم له ولأصحابه ولدينه.. وهي دعاية تعتبر خطيرة في ذلك الوقت ضد الإسلام، لما علمت من مكانة الشعر في نفوس العرب وسرعة تأثيره فيها.. ولأجل خطورة هذه الحرب المناوئة التي شنها هؤلاء على الإسلام والمسلمين أهدر النبي دماءهم وقتل من قتل منهم وأسلم من أسلم.
ولأجل ذلك أيضاً نزلت الآيات تندد بهؤلاء الشعراء وتسفه من أمرهم فهم {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} أي يحيدون عن طريق الحق ليضيعوا في أودية الباطل والكفر والضلال، فيقولون بغير بصيرة ولا تعقل، ويكذبون في اتهاماتهم وشتائمهم.. و {يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} من تهديدهم للنبي والمسلمين..
ومثل هؤلاء الشعراء الذين كانوا يحاربون الإسلام بشعرهم كل شاعر يحارب الإسلام أو يدعوا إلى الرذائل أو يحسن الباطل.. فوجه الذم ليس في أصل الشعر ولكن في هذه الصفات التي علقت به..
وهذا ما ذكره أكثر المفسرين.. أخرج بن كثير قال: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن.."وكذا قال مجاهد رحمه الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما.. اهـ.
وقال الخازن في تفسيره عند هذه الآية: قال أهل التفسير: "أراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم منهم: عبد الله بن الزبعري السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومانع بن عبد مناف، وأبو عمرو بن عبد الله الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي.."اهـ.
وكانت بين هؤلاء، وبين حسان بن ثابت شاعر رسول النبي والإسلام معارك شعرية طاحنة ذكر ابن هشام طرفاً منها في السيرة.. وهي مذكورة في كتب السير والأدب فلما فتحت مكة هرب عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب إلى نجران فرمى حسان ابن الزبعرى ببيت واحد ما زاد عليه:
نجران في عيش أجد لئيم
لا تعدمن رجلا أحلك بغضه
فأتى هذا البيت من الشعر بقياده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه، وقال معتذراً ومكفراً عن شعره بشعره:
والليل معتلج الرواق بهيم
منع الرقاد بلابل وهموم
فيه فبت كأنني محموم
وآتاني أن أحمد لامني
عيرانة سرح اليدين غشوم
يا خير من حملت على أوصالها
أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
إني لمعتذر إليك من التي
سهم وتأمرني بها مخزوم
أيام تأمرني بأغوى خطة
أمر الغواة وأمرهم مشئوم
وأمد أسباب الهوى ويقودني
قلبي ومخطئ هذه محروم
فاليوم آمن بالنبي محمد
ودعت أواصر بيننا وحلوم
مضت العداوة وانقضت أسبابها
زللي فإنك راحم مرحوم
فاغفر فدى لك والداي كلاهما
وذكر ابن كثير بعض الأخبار المرسلة: أنه لما نزلت آية الشعراء جاء حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبكون قالوا: "قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء"، فتلا النبي:{إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وقال: "أنتم.."ومهما يكن حال هذا الحديث فإن المعنى بالآية هم رضي الله عنهم.
هل كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن الشعر؟
أما كونه صلى الله عليه وسلم كان لا يحب الشعر فقد ورد في أثر ذكره ابن كثير عن قتادة أنه قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله يتمثل بشيء من الشعر..؟
قالت: "كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان صلى الله عليه وسلم يتمثل ببيت أخي بني قيس فيجعل أوله آخره وآخره أوله.."تعني قول طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود.. فإنه كان يقول صلى الله عليه وسلم: فيأتيك من لم تزود بالأخبار..
ومما روي عن تغييره لوزن الشعر ما رواه البيهقي في الدلائل أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه: أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة فقال: إنما هو بين عيينة والأقرع.. فقال: "الكل سواء..".
وذكر ابن كثير أيضاً خبراً مرسلاً عن الحسن البصري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً..
فقال أبو بكر: "يا رسول الله، كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً".
والحاصل: أن كراهيته صلى الله عليه وسلم كانت إما للإكثار من الشعر أو أنه كان يكره قرض الشعر لأنه لا يمكن أن يقال بكراهيته لمطلق الشعر، وقد كان يستشهد به ويسمعه ويجيز عليه ويحث شعراءه على نظمه.
ومما يدل على أن هذه الكراهية خصوصية له صلى الله عليه وسلم، بسبب ما ذكرنا من سد الذريعة أن تتطرق إلى القرآن، ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم ما يستقيم على لسانه وزن الشعر في الغالب كما مثلت، وقد توسع ابن العربي في أحكام القرآن الكريم في هذه المسألة وادعى أنه صلى الله عليه وسلم ما استقام بيت من الشعر على لسانه قط، وخرج كل ما روي عنه على ذلك وما أظن جميع الروايات تساعده كما سيأتي.
ومن أعظم ما يشكل في هذا المقام حديث في الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً". وفي رواية عن مسلم عن أبي سعيد قال: "بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله: "خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً". فهذا الحديث في ظاهره يدل على التنفير من الشعر والحث على هجره واجتنابه.. بل على تحريم تعاطيه فهو كقوله صلى الله عليه وسلم "من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في دم خنزير".
ولو كان ذلك كذلك: فما ورد من تمثله صلى الله عليه وسلم بالشعر وإنشاده بين يديه واستنشاده له واتخاذه شعراء كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله ابن رواحة.. يعارض هذا ويناقضه.. هذا مع أنه لا يعقل أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم العرب عن الشعر وقد علم مكانته في نفوسهم.
وقد روي عن السائب المخزومي رضي الله عنه أنه كان يقول: "أما والله لو كان الشعر محرماً لوردنا الرحبة كل يوم مراراً"، (والرحبة الموضع الذي كانت تقام فيه الحدود) ولكن المعنى والله أعلم: هو النهي عن الاشتغال به عن القرآن، وعن ذكر الله، ويدل عليه لفظة "يمتلئ"فإن القلب إذا افتتن بالشعر فامتلأ منه لم يبق به موضع لذكر الله ودراسة القرآن والحديث..
وهذا ما ذكره بعض المحققين منهم البخاري فقد أورد هذا الحديث في الأدب المفرد معنوناً له بقوله: (باب من كره الغالب عليه الشعر) .
وقال النووي في شرح هذا الحديث: "الصواب أن المراد أن يكون الشعر غالباً عليه مستوليا عليه بحيث يشغله عن القرآن لكريم وغيره من العلوم الشرعية". اهـ.
ومن أوضح الأدلة على هذا المعنى أن الله عز وجل لما استثنى الشعراء وصفهم بقوله: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} فإذا لم يشغل الشعر صاحبه عن الإيمان والعمل الصالح وذكر الله، وكان وسيلة لنصر المسلمين والذب عن الدين والدفاع عن المظلومين، فلا يتوجه إليه النهي والذم ولا غضاضة في تعاطيه، وقد يكون المقصود بالحديث أيضاً الشعر الذي يخالف آداب الإسلام، فإن الإسلام حرم عادات الجاهلية من تعاظمها بالآباء ومن النياحة والكذب وقذف الأعراف والتشبيب بالمحجبات.. وقد كانت هذه كلها عادات مستحكمة في الشعر عند العرب.. فشدد الرسول في القضاء عليها والنهي عنها.
أخرج البخاري (في الأدب) بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم الناس جرماً إنسان شاعر يهجو القبيلة من أسرها ورجل ينتفي من أبيه".. وأخرجه ابن ماجة بلفظ: "رجل هاجى رجلا فهجا القبيلة بأسرها" وصحح هذا الحديث ابن حبان.
ويؤيد هذا المعنى والذي قبله ما أخرجه أحمد والترمذي وصححه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتناشدون الأشعار في المسجد فلا ينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وربما ابتسم معهم، وكذلك ما أخرجه مسلم من أن حسان كان ينشد في المسجد وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال (1) : "لم يكن أصحاب رسول الله محتزقين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون".
هذا مع ما روي من قوله: "إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكمة". وفي رواية: "لحكما"(2) .
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ بالحسن ودع القبيح، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعاراً منها القصيدة الأربعون بيتاً ودون ذلك"(3) .
وروي عن أبي العالية قال: كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرم وهو يرتجز بالإبل يقول:
إن تصدق الطير لميسا
وهن يمشين بنا هميسا
وذكر البخاري في الأدب قال: ثنا إبراهيم بن المنذر قال: ثنا معن قال: ثنا عمر بن سلام أن عبد الملك بن مروان دفع ولده إلى الشعبي يؤدبهم فقال: علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا..
ولعل هذا المقصد وهو ألا يغلب الشعر أصحابه فيشغلهم عن القرآن.. قد تجلى في بعض الشعراء الذين انصرفوا عن الشعر إلى القرآن كلبيد بن ربيعة العامري.. فإنه عاش في الإسلام خمساً وخمسين سنة ولم يقل إلا أبياتاً أو بيتاً من الشعر..
قال الحافظ في ترجمته (4) : لما كتب عمر إلى عامله بالكوفة: سل لبيداً والأغلب العجلي ما أحدثا من الشعر في الإسلام. قال لبيد: أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران، فزاد عمر في عطائه.
وفي رواية: ما قلت شعراً منذ سمعت الله يقول: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه} .
ويقال إنه ما قال في الإسلام إلا بيتاً واحداً هو قوله:
حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
ـ للبحث صلة ـ
---
(5)
العمدة: لابن رشيق.
(6)
الحاقة: 41، 42.
(7)
قيل: إنه يريد بالتوحيد نوعاً من التمر معروفاً وهناك رواية (حلاوة) بدل (أحلى من) - المجلة -.
(8)
يس: 69.
(9)
الحاقة: 41 ـ 43.
(1)
الشعراء: 224 ـ 227.
(2)
الأدب المفرد.
(3)
البخاري عن أبي بن كعب والترمذي وأبو داود عن ابن عباس.
(4)
الأدب المفرد.
(5)
الإصابة: ج3.
(صدر حديثاً)
من مؤلفات بعض مشايخ الجامعة الإسلامية:
1-
أضواء البيان ـ الجزء الخامس ـ لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
2-
همسات قلب ـ الديوان الثاني من شعر الشيخ محمد المجذوب.
3-
مشكلات الجيل في ضوء الإسلام ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
4-
تأملات في المرأة والمجتمع ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
5-
مشاهد من حياة الصديق ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
6-
بطل إلى النار ـ طبعة ثانية ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
7-
قصص من سورية ـ طبعة ثانية ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
8-
قصص للشباب والطلاب ـ طبعة ثانية ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
9-
الأدب العربي ـ للسنة الثانية من الكليتين ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
10-
منهاج المسلم ـ للسنة الثانية مزيدة ـ بقلم الشيخ أبي بكر جابر الجزائري.
11-
فقه الدعوة ـ بقلم الشيخ أحمد حسن.
12-
عشرون حديثاً من صحيح البخاري ـ دراسة أسانيدها ومتونها للسنة الأولى من كلية الشريعة ـ بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد.
13-
عشرون حديثاً من صحيح مسلم ـ دراسة أسانيدها وشرح متونها للسنة الثانية من كلية الشريعة ـ بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد.
14-
حقوق المرأة في الإسلام ـ طبعة ثانية ـ بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد.
في ظلال سورة الأنفال
بقلم الشيخ: أبي بكر جابر الجزائري
المدرس في الجامعة
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد، فهذه آيات ثلاث أخرى من سورة الأنفال نتفيؤ ظلالها مع الإخوة القراء، تقوية لإيماننا، وتنمية لمشاعر التقوى والإحسان في نفوسنا، ترقية للأرواح، وتهذيباً للوجدان.
صلة هذه الآيات بسابقاتها:
ما هذه الآيات التي نتفيؤ الآن ظلالها إلا بمثابة جواهر ثلاث من عقد النعم الذي طوقه الله تعالى جيد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الانتصار، فهو يمنه عليهم ويذكرهم به، ليبين لهم أن الذي أولاهم تلك النعم، ووهبهم ذلك الإحسان والإفضال لم يكن في انتزاعه الغنائم منهم ساعة اختلفوا في قسمتها وتنازعوا فيها، ليجعلها له ولرسوله يحكم فيها تعالى بما يشاء، ويقسمها الرسول على ما يريد، لم يكن ذلك عن بغض لهم، ولا عن إرادة شر، أو سوء بهم، وإنما كان من باب مزيدهم إفضالاً فوق الإفضال وإنعاماً وإحساناً فوق الإنعام والإحسان، فهو تعالى يقول لهم: اذكروا الوقت الذي أحاطت بكم المخاوف من كل جانب، وانتابكم الفزع، واستبد بكم القلق ففزعتم إلى ربكم تستغيثون، فأمدكم بألف من الملائكة مردفين، فكانت تلامس أرواحكم فتقوى عزائمكم، وتخالط صفوفكم فيشتد بها أزركم، ويحمي ظهركم، واذكروا ليلة لقائكم عدوكم والخوف الشديد يساوركم فيطرد النوم من أعينكم، فما أنتم ساعتها إلا نفوس حائرة وأعصاب ثائرة مرتاعون ارتياع من طار قلبه وفارقه عزمه، وعيل صبره. كيف غشاكم ربكم برداء رحمته بنعاس خالط الأجفان، فكان الأمان، فبه زالت المخاوف، وذهب القلق، فسكنت لذلك القلوب وهدأت الأعصاب، وقضيتم ليلتكم نائمين إلا ما كان من نبيكم عليه صلوات وسلام ربكم فإنه قضى ليلته يناجي ربه، ويسأله إنجاز وعده.
واذكروا إذ سبقكم عدوكم إلى الماء فنزل عليه، وحال بينكم وبين الوصول إليه، فقبض بذلك على زمام المعركة، وعزم على أن يقودها نصراً له وهزيمة عليكم، وكيف أنزل عليكم ربكم من السماء ماءً فأزال به ظمأكم، وطهر به أحداثكم، وأبعد وسواس الشيطان من صدوركم، ربط به القلوب، وثبتت به الأقدام.
لعلك، أخي القارئ، قد أدركت بهذا وجه المناسبة والصلة بين الآيات السابقة وهذه اللاحقة، فنمضي معك الآن قدماً في تفيء ظلال هذه الآيات.
إن الآية الأولى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} .
يخاطب فيها الرب تبارك وتعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكراً إياهم بنعمة استجابته دعاءهم يوم استغاثوه طالبين نصره فأغاثهم بأن أمدهم بألف من الملائكة مردفين (متتابعين) فكان في ذلك ما قوى عزائمهم، وحمى ظهورهم حتى انتصروا على عدوهم الذي يفوقهم عدداً، ويتفوق عليهم عدة.
أما الآية الثاني: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
فقد تضمنت إعلامه سبحانه وتعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الإمداد بالملائكة لم يكن إلا من قبيل التبشير بالنصر، والتطمين للقلوب، أما نصر الله متى أراده فإنه لا يتوقف على شيء من ذلك أبداً.
كما تضمنت الآية الإخبار بأن أي نصر يكسبه الإنسان في هذه الحياة موضوع من الله، موهوب من لدنه عز وجل، فلا يتصور وجود نصر خارج عن عطاء الله وهبته {وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ومن هنا وجب أن يطلب النصر دائماً من الله تعالى إذ هو مالك النصر وواهبه، فليتوسل في الحصول على أي نصر بطاعة الله تعالى باتباع شرائعه والأخذ بسننه في خلقه، ومن أراد النصر من غير طريق الله العزيز الحكيم فإنه لا يظفر به ولا يحصل عليه مهما بذل من جهد، وأنفذ من طاقة؛ لأن الله عزيز غالب لا يمانع في شيء يريده، ولا يمتنع عنه شيء أراده، حكيم يهب النصر ويضعه في يد من يستحقه، فلا يعطي نصراً ولا يمنحه غير مستحقه، وهذا بعض ما يدل عليه قوله:{وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وأخيراً الآية الأخيرة: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} .
فإن معناها: التذكير بنعمتين أخريين هما: تغشيه تعالى لهم بنعاس كان أماناً لهم من المخاوف التي ما برحت تساورهم، ومن القلق الذي هيج أعصابهم، وأطار النوم عن أعينهم بحيث لو باتوا على تلك الحال من الهيجان والقلق والخوف لما أمكنهم غداً قتال عدوهم، ولما استطاعوا الوقوف أمامه، ولكن تداركهم الله برحمته فأغشاهم بذلك النعاس الذي ذهب به كل تعب جسماني وروحاني فأصبحوا وهم أقدر على خوض المعركة والاستبسال فيها والصبر على خوضها حتى تم لهم النصر بإذن الله.
والثانية: إنزال الله تعالى عليهم ماء من السماء والذي كان له أعظم الأثر وأطيبه في إصلاح حالهم، وإعدادهم لخوض المعركة والانتصار فيها، وذلك أن هذا الماء المنزل عليهم اشتمل على أربع فوائد عظيمة إليكها أخي القارئ واحدة بعد أخرى:
1-
تطهيرهم به تطهيراً حسيا بالنظافة التي انشرحت بها الصدور، ونشطت بها الأعضاء، وتطهيراً شرعيا بإزالة الأحداث الكبرى والصغرى.
2-
إذهاب رجز الشيطان عنهم، وهو ما كان يلقيه في نفوسهم بالوسوسة كان يقول لهم: أتزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبي الله، وقد غلبكم عدوكم على الماء فها أنتم ظامئون عطاشاً تصلون بغير طهارة، فكيف تنتصرون غداً إلى غير ذلك مما كان يؤلم به نفوسهم ويعذبهم به.
3-
الربط على القلوب وهو تثبيتها وتوطينها على الصبر بما حصل لهم من ارتياح كبير بحصولهم على الماء واستيلائهم عليه دون عدوهم.. إذ أنهم قاموا من آخر الليل وصنعوا الحياض للماء، ثم غوروا ما عدا حياضهم ونزلوا عليها وبنوا لنبيهم عريشاً فوقها ليدير المعركة غداً من هذا المركز الذي أرشد إليه الحباب ابن المنذر رضي الله عنه.
4-
تثبيت الأقدام، إذ كانت الأرض رملية دهاسا تسوغ فيها الأقدام، فلما نزل بها الماء تماسكت واشتدت وأصبح المقاتل ثابت القدم عليها يمكنه أن يكر ويفر، ويجول في ساحة المعركة كما يشاء.
مباحث الألفاظ:
الاستغاثة: طلب الغوث والإنقاذ من الهلكة.
مردفين: متتابعين يردف بعضهم بعضاً، من أردفه على الدابة إذا أركبه وراءه على ردف الدابة وهو عجزها.
يغشيكم: يلقي النعاس عليكم كما يلقي الغشاء الغطاء على الشخص.
النعاس: أول النوم، وهو فتور في الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم.
أمنة: أماناً أكسبهم طمأنينة في نفوسهم وسكوناً في قلوبهم.
رجز: عذاب، وهو ما تخلقه وسوسة الشيطان من آلام في النفس.
هداية الآيات:
من ضروب الهداية في هذه الآيات ما يلي:
أ - الاستغاثة من العبادة ولا تصلح لأحد غير الله تعالى، وقد ورد أنه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم يوماً: تعالوا نستغيث برسول الله من هذا المنافق (لمنافق كان يؤذيهم)
فقال لهم عليه الصلاة والسلام: "إنه لا يستغاث بِي، وإنما يستغاث بالله".
ومن هنا يتبين خطأ أولئك الذين يستغيثون بالأولياء والصالحين يا فلان، يا فلان مما هو صريح الشرك والعياذ بالله.
ولو كان يجوز الاستغاثة بغير الله تعالى لاستغاث رسول الله وأصحابه، وهم في أحلك الظروف وأشدها.. ولكن كانت استغاثة الصحابة: يا رب، يا رب انصرنا على عدوك، يارب أغثنا، يا غياث المستغيثين.. وكانت استغاثة رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم أنجز لي ما وعدتني به اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فلم يسألوا الله تعالى بحق أحد ولا بجاه آخر، ولو كان ذلك جائزاً لما تركوه وهم في أشد الحاجة إليه، وأمسها إلى مثله.
ألم يسع المسلمين اليوم ما وسع نبيهم وأصحابه، ألم يكفهم ما كفى سلفهم؟ أليس الله بكاف عبده؟
ب - في استجابة الله تعالى لرسوله وأصحابه بإمدادهم بالملائكة وإنزال الماء عليهم ونصرهم على عدوهم الأكثر منهم عدداً وعدة كرامة واضحة من الله تعالى لهم، ولهذا كانت عقيدة السلف إثبات الكرامات لأولياء الله تعالى، وتضليل من ينفيها.
جـ - النصر لا يأتي من أحد غير الله تعالى، إذ الله وحده المالك له وهو الذي ينصر من يشاء ويخذل من يشاء، فلا ينبغي أن يطلب النصر إلا منه تعالى، وذلك بطاعته عز وجل في شرعه وسننه، في شرعه بامتثال أمره واجتناب نهيه، وفي سننه في خلقه بجمع القلوب على القتال، والصبر فيه، وإعداد ما يلزمه من عدة وعتاد وطاعة القيادة، والأخذ بالحذر، وبذل ما في الوسع من طاقة وجهد.
وأخيراً إلى اللقاء أيها القارئ في ظلال آيات أخرى إن شاء الله تعالى.
مع الصحافة
تحقيق صحفي مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية
حول المؤتمر الإسلامي في أمريكا الجنوبية
نشرت صحيفة عكاظ في عددها 1815 تحقيقاً صحفيا مع فضيلة الشيخ محمد ناصر العبودي الأمين العام للجامعة الإسلامية بمناسبة عودته من البرازيل حيث حضر باسم المملكة العربية السعودية المؤتمر الإسلامي الأول للمؤسسات الإسلامية في أمريكا الجنوبية الذي عقد في مدينة سان باولو في البرازيل، إعداد الأستاذ محمد عبد الله الحصين، تحت عنوان:
مسلمو أمريكا اللاتينية يباركون جهود الفيصل.
رئيس وفد المملكة إلى مؤتمر المؤسسات الإسلامية في البرازيل يتحدث لصحيفة عكاظ.
المؤتمر يدعو إلى جمع التبرعات للمجاهدين في فلسطين.
في المهجر مجلة عربية تهتم بنشر أنباء تطور المملكة وخاصة في المجال الثقافي..
عقد مؤخراً في مدينة سان باولو في البرازيل مؤتمر للمؤسسات الإسلامية، وقد وجهت الدعوة إلى المملكة العربية السعودية لحضور هذا المؤتمر فبادرت كدأبها إلى الاستجابة إيماناً منها بفاعلية مثل هذه المؤتمرات التي تستهدف نشر الدين الإسلامي والدعوة إلى اعتناقه فأوفدت فضيلة الشيخ محمد ناصر العبودي الأمين العام للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد التقيت بفضيلته بعد عودته من حضور المؤتمر إلى المدينة المنورة وأجريت معه هذا الحديث:
قلت لفضيلته: ما هي أهداف المؤتمر؟
فأجاب قائلاً: هو المؤتمر الأول أو كما أسماه المؤتمرون حرفياً (المؤتمر الإسلامي الأول للمؤسسات الإسلامية في أمريكا اللاتينية) والغرض منه مناقشة ودراسة الأمور التي تهدف إلى رفع شأن المسلمين في أمريكا اللاتينية وإيجاد التعاون بينهم وتأمين مستقبل أولادهم من الناحية الدينية وذلك مثل توفير التعليم الإسلامي وتعليم اللغة العربية لهم، كما تضمن جدول أعمال المؤتمر مسائل كثيرة كلها داخلة في موضوع العمل على رفع شأن المسلمين ومنها إبراز شخصية المسلمين في أقطار أميركا اللاتينية والاعتراف بهم كهيئة دينية لها مقامها المعتبر.
وقد استغرق المؤتمر خمسة أيام.
وإجابة على سؤال عن الدول التي اشتركت في المؤتمر قال فضيلته:
المؤتمر كما قلت هو للمؤسسات الإسلامية في أميركا اللاتينية وقد اشترك فيه ممثلون عن المسلمين في البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وكولمبيا وأرغواي، هذا إلى جانب الوفود التي وجه لها المؤتمرون الدعوة لحضور المؤتمر من خارج قارة أميركا الجنوبية وقد حضره من الوفود وفد المملكة العربية السعودية ووفد من مصر كما مثلت بعض الدول الإسلامية كالباكستان وأندونيسيا بسفرائها في تلك البلاد.
وسألت فضيلته عن القرارات التي اتخذها المؤتمر فقال:
تضمنت قرارات المؤتمر أموراً كثيرة من أهمها:
1-
إنشاء اتحاد للجمعيات الإسلامية في أميركا اللاتينية.
2-
تكوين صندوق يصرف منه على الدعوة الإسلامية وما يحتاجه المسلمون في أمور دينهم.
3-
الاتصال بالحكومات الإسلامية في الخارج بغية العمل على إرسال مدرسين ومرشدين للمسلمين في أميركا اللاتينية.
4-
حث جميع المسلمين في كل منطقة ولو كان عددهم قليلاً على أن يبنوا لهم مسجداً ولو كان صغيراً أو غير مستكمل البناء ليكون بمثابة النادي الذي يجتمعون به وعن طريقه يتعارفون وذلك بغية إيجاد الصلة والتعارف فيما بينهم وبالتالي إيجاد التعاون الوثيق بين أفرادهم.
هذا وقد أعقب المؤتمر أن وجهت بعض الجمعيات الإسلامية في أنحاء البرازيل أي خارج المنطقة التي عقد فيها المؤتمر وهي مدينة سان باولو دعوات إلى ممثلي بعض الدول لزيارتها وقد قمنا بزيارة بعضها وتفقد أحوال المسلمين هناك واستغرق ذلك بضعة أيام.
وإجابة على سؤال عن نشاط الجمعيات الإسلامية هناك قال فضيلته:
نقول مع الأسف الشديد أن نشاط الجمعيات الإسلامية هناك محدود جداً بالنسبة إلى نشاط الجمعية الدينية غير الإسلامية كالجمعيات المسيحية وذلك راجع إلى أمرين أساسيين:
أولا: وهو الأهم وجود الدعم الخارجي مادياً ومعنويا وأهم مظاهر هذا الدعم إرسال رجال الدين من الخارج إلى البرازيل على حين أن الدعم للمسلمين من الخارج يكون معدوماً.
ثانياً: أن أكثرية المسلمين في أميركا اللاتينية هم من التجار الذين هجروا من سوريا ولبنان للرزق وليسوا على مقدار كبير من الثقافة الإسلامية وإن كان لا ينقصهم التحمس لدينهم ومحبة العمل فيما ينفع المسلمين هناك.
وسألت فضيلته عن العلاج الذي يراه فقال:
ـ أعتقد أن أهم شيء وألزمه للمسلمين في أميركا اللاتينية هو إرسال مرشدين يرشدونهم ومدرسين يدرسون أولادهم الدين الإسلامي وينشئونهم تنشئة إسلامية صالحة وهذا أمر إذا تحقق فإنه يحل كثيراً من المشكلات التي يعانيها المسلمون وأخطرها الذوبان في تلك المجتمعات الغريبة عن الإسلام لأن المسلم إذا كان هو في نفسه على درجة كبيرة من الجهل بأمور الدين ثم أرسل أولاده ليتعلموا في مدارس غير إسلامية فمن أين تأتيهم المعرفة بأمور الدين وكيف يحصلون على التربية الإسلامية الصحيحة المطلوبة؟
وأعتقد أن واجب إرسال المرشدين والمدرسين للمسلمين هناك لا يقتصر على دولة إسلامية دون أخرى بل يجب أن يتضافر المسلمون على القيام بكل ما يجب نظراً لبعد المسافة من جهة ولشدة حاجة المسلمين وتفرقهم به لأن دولة واحدة لا تستطيع أن تقوم في أنحاء تلك القارة من جهة أخرى مما يستدعي معه الحاجة إلى إرسال عدد كبير من المرشدين والمدرسين الدينيين.
وسألت فضيلته هل طرحت قضية فلسطين في المؤتمر فقال:
طرحت في المؤتمر قضايا سياسية خارج قارة أميركا الجنوبية وكان الرأي السائد أن من الأفضل للمسلمين في هذه البلاد النائية أن يركزوا جهودهم على إصلاح أحوالهم لأن في ذلك تقوية للمسلمين في كل مكان على هذا لم يمنع من أن المؤتمر اتخذ قراراً بتأييد جمع التبرعات للمجاهدين في فلسطين ودعا إلى مزيد من التبرعات في هذا السبيل للمستقبل.
وإجابة على سؤال حول نظرة مسلمي أميركا إلى المملكة العربية السعودية قال فضيلته: إن المؤتمرين هم كغيرهم من المسلمين ينظرون إلى هذه البلاد على أنها الوطن الأم الذي شع منه نور الإسلام وهبط على ساحاته الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقد سروا كثيراً لوجود ممثل المملكة العربية السعودية بينهم ونوهوا بذلك في خطبهم وتوجهوا بالشكر إلى جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز حفظ الله على إصدار أمره الكريم بإيفاد ممثل عن المملكة لحضور مؤتمرهم وقد تضمنت قرارات المؤتمر بندا بهذا الخصوص.
وقال فضيلته ردا على سؤال عن نشاط الوفد السعودي في المؤتمر:
الحقيقة أنه شارك في عدة لجان وتقدم باقتراحات مفيدة وقدم باسم المملكة ما يلي:
1-
عدداً من المنح الدراسية للدراسة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مخصوصة لأبناء البرازيل الذين يحملون الجنسية البرازيلية ويقيمون هناك لأنهم هم الذين سيبقون في بلادهم البرازيل والمؤمل أن ينفعوها بعلمهم في المستقبل.
2-
قدم كمية طيبة من المصاحف والكتب الإسلامية هدية من الجامعة الإسلامية.
3-
قدم وعداً للسعي في إرسال عدد من المدرسين والمرشدين الإسلاميين إلى هناك حالما تتوفر الظروف لإرسالهم.
وقال فضيلته عن نشاط الجمعيات هناك في بناء المسجد:
هنالك في بعض المدن الكبرى توجد جوامع وفي مدينة سان باولو في البرازيل بصفة خاصة مركز إسلامي أسمه (المركز الإسلامي البرازيلي) ويتكون المركز من مسجد جامع تقام فيه صلاة الجمعة وقاعة صغيرة جداً تلقى فيها المحاضرات وبيت لإمام الجامع ولكن المسلمين يشكون من ضيقه ويزمعون العمل على إنشاء مركز أكبر يلحق به ناد كبير يكون صالحاً لقضاء أوقات الفراغ لأبناء المسلمين تحت إشراف المرشدين المسلمين. كما أن المركز الإسلامي في سان باولو يصدر جريدة أسبوعية صغيرة باللغتين العربية والبرتغالية لغة البلاد.
وتحدث فضيلته عن الحركة الأدبية العربية في المهجر قائلاً: إنه يوجد في البرازيل حركة أدبية عربية مهجرية تقوم على إصدار عدد من المجلات والنشرات الأدبية باللغة العربية وأكثر الذين يقومون على هذه الحركة ويغذونها بإنتاجهم الأدبي وخاصة من إنتاجهم الشعري هم من المسيحيين العرب الذين نزحوا من لبنان وسوريا وذلك لأن عددهم أكثر وعهدهم بالبلاد أقدم، ولهم نشاط بارز في المحافظة على إبقاء اللغة العربية حية في أولادهم وإبقاء مكتباتهم الخاصة عامرة بالكتب العربية.
وأقرب مثال لذلك أن مدينة سان باولو التي عقد فيها المؤتمر الإسلامي تصدر فيها أكثر من ست صحف ما بين جريدة ومجلة باللغة العربية.
ومن أرقى هذه الصحف مادة لغوية وأرقها إنتاجاً شعريا مجلة (المراحل) التي تقوم على إصدارها وإدارتها امرأة لبنانية في السبعين من عمرها اسمها (ماريانا فاخوري) وهذه المجلة بالذات تهتم بنشر أخبار المملكة العربية السعودية وتعريف العرب في المهجر بالنهضة الأدبية والثقافية في المملكة جرياً على عادتها في توسيع الحركة الثقافية والأدبية بين العرب في الوطن العربي والعرب في المهجر.
وسألت فضيلته عن أهم ما لفت نظره في البرازيل فقال:
أهم ما يلفت نظر السائح من الشرق الأوسط الذي يزور تلك البلاد من الناحية العمرانية والسكانية هو ما بلغته البرازيل من حضارة مادية ورقي عمراني لم نكن نظن أنه يوجد في غير أميركا الشمالية فمثلا ناطحات السحاب توجد بكثرة في سان باولو وفي مدينة ريودي جانيرو والجسور العظيمة تكاد تكون صفة مميزة لمدينة سان باولو التي يبلغ عدد سكانها أكثر من ستة ملايين نسمة وحركة سير السيارات فيها هائلة.
ثم إن المرء ليلاحظ بمزيد من الارتياح أن سكان البرازيل يمكن ملاحظة كونهم يتألفون من عناصر بشرية متعددة أو ربما يقال إنهم يمثلون جميع العناصر البشرية ويلاحظ ذلك بسهولة من تعدد ألوانهم ومع ذلك فإن التسامح العنصري موجود بل إن سياسة عدم التفرقة العنصرية هي السائدة هناك فلا تفريق بين أجناس الناس بسبب اللون أو الثقافة أو غيرهما.
ثم إن المرء إذا خرج إلى الريف البرازيلي وبخاصة إذا رأى مزارع البن فإنه يدهش إذا رأى المزارع الخضراء تغطي مساحات شاسعة ويمكن ملاحظة بعض مساحاته بالطائرة مما يجعل المرء يعتقد بأن دولة البرازيل سيكون لها مستقبل عظيم في السياسة الدولية في بحر عشرين سنة المقبلة لا سيما إذا لاحظنا أن عدد سكان البرازيل في الوقت الحاضر 91 مليون نسمة وأنهم يرحبون بالمهاجرين الجدد لأنهم يعتقدون أن بلادهم لا زالت في حاجة إلى أيد عاملة.
(درر)
ما خاب تاجر صادق، ولا تلميذ مجتهد، ولا صانع ماهر، المعروف قروض، والأيام دول، ومن توانى عن حقه ضاع، ومن قاهر الحق قهر.
الإمام علي كرم الله وجهه.
مكانة المسجد في الإسلام
بقلم الشيخ: محمد بن حمود الوائلي
المدرس بمعهد الجامعة
إن للمسجد في المجتمع الإسلامي دوره التاريخي يبقى بقاء العقيدة ويخلد خلود الإيمان ومن مناراته تعلو أصوات المؤذنين وتتكرر كلمات التوحيد التي توالت رسل الله تبينها لأممها واضحة المعالم نيرة السبل بينة المراسيم هذه العقيدة التي تجمع الشتيت وتلم الشعث وتربط الأفراد بعضهم ببعض دون نسب ولا صلة، فتذوب أمامها كل الفوارق، وتزول بها كل الحواجز..
بهذه العقيدة أصبح الحفاة العراة رعاة الشاة سادة وقادة..
وأصبحت الأمة الإسلامية مهيبة الجانب عزيزة السلطان موفورة الكرامة أقامت في إطار عقيدتها حضارة شامخة وحياة سعيدة.
ثم يلي ذلك النداء إلى الركن الثاني وهو إقامة الصلاة فتنعقد صلة العبد بربه بعد توحيده والإقرار له والإيمان به لتزاد عقيدته وتعلو ولتزداد تلك العقيدة سمواً ورفعة ويزداد صاحبها قرباً إلى الله.
فالصلاة عامل وقائي للفرد وللمجتمع من أن تتفشى فيه الفواحش أو المنكرات وهي وسيلة لمناجاة العبد لربه فتزكو نفسه وتنغرس فيها قوة قابلة للخير فتتكون بهذه النفس الطيبة أسرة صالحة تعمل لبناء المجتمع الناجح، فتكون الألفة شعارها والدين غايتها والمحبة ضالتها المنشودة فمتى تم هذا كما شرعه الله لا يكون بيننا جائع ولا عار ولن تسيل قطرة دمع لظلم ظالم أو طغيان جائر.
يلي هذا النداء مناجاة الله سبحانه وتعالى فتسعد بها النفوس.
إذن فالمسجد هو المركز الأول للإشعاع الروحي والعلمي لأنه مكان العبادة والتعلم وموطن التذكير والتفقيه والتوجيه.
فبيت الله الحرام قبلة المسلمين تتجه الوجوه شطره والأبصار نحوه تتحلق والجموع حوله، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل المدينة فيكون من أولى خطواته لبناء الدولة الإسلامية أن يقيم على هذه الأرض الطاهرة مسجده ليعلم الناس الخير ويجمعهم على عبادة الله.
ولم تكن رسالة المسجد في الإسلام قاصرة على الصلاة وحدها بل كانت المساجد ولا تزال مفتحة الأبواب لا يرد عنها طالب علم أو قاصد ثقافة.
ففي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أقام فقراء المهاجرين وفي هذا المسجد استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الوفود ومنه انطلقت البعوث وأرسلت الجيوش.
ولقد كان هذا المسجد الجامعة الأولى التي ربى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على يديه خير تربية فقهوا في دين الله فكانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العمل.
فكان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون إلى هذه المدرسة فيصيبون فيها علماً وهدى وفضائل وأدباً وأحكاماً ما اتسعت لذلك أوقاتهم وساعدت عليه ظروفهم.
ولقد كانت التربية العملية في هذه المدرسة الأولى لها المقام الأول في العناية لأنها نتيجة العلم وثمرته.
فأصبحت إطاراً لكل فضيلة وسياجاً من كل ظلم، ومناجاة من كل رذيلة، وحماية من كل كبر.
فكانت أساليب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه المثل الأعلى في تكوين الإنسانية بأسمى صفاتها.
فتخرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المسجد بقيادة حميدة وتعاليم رشيدة يمضون في مسالك الأرض يقيمون الحق وينصرونه ويدعون الله فقادوا العالم إلى وجهه سليمة واتجهوا به إلى شاطئ السلام.
حملوا للعالم ديناً ينظم حياته، ويساير فطرته، ويسمو بإنسانيته، وأماطوا عنه حجب التشاغل وأزالوا عنه ركام المادة فاهتدت القلوب بعد الضلال، وسكنت النفوس بعد الاضطراب، فكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم علماء أجلاء وقواداً عظماء تسير الفتوحات أين ساروا، ضربوا للعالم بعد رسول الله أروع مثل في الإخلاص لدين الله مع شجاعة فائقة، ونضوج عقل، فاستطاع المسلمون في مدة وجيزة أن يقضوا على الدولتين العظيمتين الروم وفارس رغم ما كان لهما من القوة وشدة البأس، وأن يقلبوا التاريخ رأساً على عقب.
هذا كله من نتائج هذه البيوت التي أقيمت ليعلو فيها ذكر الله وتزدان بالتقوى وعبادة الله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} .
إن المسجد حصن من حصون الإسلام كيف لا يكون ذلك وفيه قرآن يتلى وصلاة تقام وتسبيح لله يرتفع.
كيف لا يكون المسجد خير ما يبنى على الأرض والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة".
ولهذا نرى أن المسلمين إذا نزلوا أرضاً أو فتحوا مصراً يكو عملهم الأول أن يبنوا مسجداً لله فهو موضع عبادتهم ومركز تجمعهم، ومجلس قضائهم علانية بأحكام الله، وما ذهبت دولة المسلمين وضاع سلطانهم واستهان بهم أعداؤهم إلا بانحرافهم عن عقيدتهم، وما زهد المسلمون في مساجدهم إلا يوم ضعف شأنهم وانحطت كرامتهم وتفرقت كلمتهم وتمزقت ديارهم.
وإننا لنرى اليوم الكثير من شباب المسلمين يبتعدون عن بيوت الله وهم يعلمون أنهم لن يقوم لهم مجد ولا عز ولن تصبح لهم كرامة وهيبة إلا بعودتهم إلى المساجد فتتعلق بها قلوبهم وتهوى إليها أفئدتهم فيعمرونها بالإيمان وإقام الصلاة {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلآَّ اللَّه} الآية.
فالمساجد بيوت الله لا يعبد فيها غير الله ولا يدعى بها إلا الله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .
لقد عرفنا ما للمسجد في الإسلام من مكانة عالية ومنزلة رفيعة، وأنه بموضع القلب النابض لدى المسلمين، ولهذا نرى أن أول كيد في الإسلام كان كيد الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وفي ذلك يقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه، ِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ، أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وإنه لا يخفى اليوم على كل مسلم ما تقوم به الصهيونية الخبيثة على سمع ومشهد من العالم من انتهاك لحرمات المسلمين، وتهديم لمعالم الهدى، وإطفاء لنور التقوى مع تقتيل الشيوخ والأطفال والنساء.
فأين نحن اليوم مما كان عليه أبطال بدر وأحد، وفرسان القادسية واليرموك؟ أين نحن من أولئك القوم الذين دافعوا عن رسالة الإسلام حتى أوصلوا أمانتها إلى من بعدهم سالمة كاملة فتناقلتها العصور حتى وصلت إلينا اليوم.
إنها رسالة الإنسانية الخالدة التي لا دواء لها من أوصابها إلا بها، وهي أمانة ثقيلة على من أثقل نفسه بالشهوات والأباطيل خفيفة على من عاد إلى فطرة الله وتحرى في أعماله سبيل الله، وقصد بجميع تصرفاته وجه الله.
ألا ما أحوج المسلمين اليوم إلى شباب يهضمون رسالة الإسلام فتمتزج بها نفوسهم، وتنبض بها قلوبهم، وتراها الأمم في أخلاق حملة أمانتها وفي أعمالهم وتصرفاتهم فتنقاد من ورائهم إلى هذا الحق.
لقد أمعن اليهود في غرورهم وتمادوا في طغيانهم وازدادوا في عتوهم دون أن تفل له صفاة أو تقصف لهم قناة.
يا عجباً كل العجب من تمادي هؤلاء المعتدين في باطلهم وفشل المسلمين عن حقوقهم.
أين نريد، أفراراً من الزحف؟ والله يقول:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} أم خوفاً من الموت والله يدعونا إلى الجهاد في سبيله ويعدنا جنة عرضها السموات والأرض أكلها دائم وظلها {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
إن المسلمين اليوم في حاجة ملحة إلى تمزيق حجاب الجهل بالدين الصحيح وذلك بالالتفاف حول عقيدة الإسلام الخالدة فهي لب الإيمان وجوهر الإصلاح، والعودة إلى تعاليم الدين الحنيف فهو الدين الوافي بمطالب الإنسانية الصالح لها في كل جيل يسد عوزها، ويكفيها عن مورد آخر تستقي منه حاجتها فقد أغناها الله بالمنهل العذب والمعين الذي لا ينضب.
وبذلك يكون المسلمون قد وضعوا أيديهم على مفاتيح العزة وأسباب السعادة فتزول الفرقة وتحل الألفة ثم تنطلق الجموع المؤمنة تقطع الفيافي وتتخطى المفاوز دون أن تتعثر خطاها أو تحيد عن غايتها فتدخل ساحة الوغى وميدان القتال لتحرر مساجد الله من عبث العابثين وظلم الظالمين، إذ أن أعظم بقعة يجب الدفاع عنها والقتال دونها بيوت الله التي ما أقيمت إلا ليعلو فيها ذكر الله.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
هذه هي مكانة المسجد في الإسلام استقيناها من نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وهم القدوة الحسنة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
من وحي السنة
بقلم الشيخ علي ناصر فقيهي
مدير المعهد الثانوي في الجامعة الإسلامية
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". رواه مسلم، وفي رواية له:"المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله".
هذا اللفظ الموجز البليغ الذي نطق به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ورسم فيه ما ينبغي أن تكون عليه الأمة الإسلامية من التماسك والترابط وشد بعضهم بعضاً حيث شبهها بالجسد الواحد إذا أصاب المرض منه عضواً واحداً أصاب جميعه القلق والسهر وعدم الهدوء والراحة التي كان ينعم بها حينما كان صحيحاً، يا ترى هذه الأمة المسلمة المتصفة بهذا الوصف العظيم الذي يقوم فيه المسلم بحق أخيه المسلم في أي مكان وجد وبأي لون اتصف وبأي لغة تكلم، ما دام مسلماً {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} هل هي موجودة الآن، وهل وجد لها هذا الوصف في ماحي التاريخ؟
إذا رجعنا إلى العصر الأول عصر الترابط والتضحية والجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وجدنا ذلك واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار.
نجد من يضحي بحياته فينام على السرير الذي يعلم يقيناً أن سيوف المشركين تترقب الانقضاض على صاحبه ويتغطى ببرده عليه الصلاة والسلام.
وذلك هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونجد آخر يجاهد بنفسه وماله - كما هو واضح من سيرة الصديق رضي الله عنه ونرى عثمان رضي الله عنه يجهز جيشاً كاملاً.
ونجد مثالاً رائعاً في الإيثار والتضحية والتعاطف والتراحم ذلك هو ما وقع في معركة القادسية، إذ عرض الماء على جماعة كل واحد منهم في آخر رمق من حياته وهو بحاجة إلى جرعة ماء ليهون بها عن نفسه من سكرات الموت، فينظر إلى آخر فيراه ينظر إليه فيعلم أنه في حاجة إلى الماء، فيقول للساقي: قدمه إليه لعله أحوج مني، وهكذا إلى أن يصل إلى آخرهم وكل واحد منهم يؤثر أخاه على نفسه، ثم يرجع الساقي إلى الأول فيجده قد قضى نحبه، فإلى الثاني كذلك ويلقون ربهم جميعاً ويبقى الماء.
كما نجد في التاريخ أيضاً امرأة هتكت حرمتها فنادت: وا معتصماه! فجهز جيشاً كاملاً.. استجابة لدعوتها.
بعد هذه المقدمة القصيرة نلقي نظرة على واقع مسلمي اليوم ومدى ترابطهم وشد بعضهم بعضاً على ضوء هذا الحديث النبوي الكريم.
مع مقارنته بما عليه أعداء الله والذين هم على دين انتهت مهمته بالرسالة الشاملة الكاملة.
تعرف أيها القارئ الكريم ما حدث في فلسطين من قادة الكفر في أنحاء العالم ومدهم الشرذمة الذليلة المشردة المضروب عليها بالذلة والمسكنة إلى يوم القيامة بما يحتاجونه من سلاح وغيره إعداداً للنيل من الإسلام والمسلمين، وما حدث أثر ذلك من القتل الجماعي وتهديم المساكن والمساجد التي يذكر فيها اسم الله، وتشريد أهلها إلى مخيمات لاجئين يقاسون ما يقاسون من البرد القارس في الشتاء والحر المهلك في الصيف، ويعانون الأمراض التي تجتاحهم وأطفالهم ونساءهم.. كل ذلك يجري ويزداد يوماً بعد يوم بإجلاء العائلات ونسف مساكنها.
بل على العكس نسمع وكالة غوث اللاجئين تدعي عجزاً في ميزانيتها وتأتي بشتى الوسائل لإسقاط بعض ما تدفعه لهؤلاء المنكوبين، بدعوى أن أكثرهم ينتسبون لجهات تستطيع الوكالة بأسبابها إسقاط ما يستحقون ولا غرابة في ذلك فمن المشرف على هذه الوكالة؟
وما ذلك إلا لأن ما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية من التعاطف والتراحم وجعلها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ولا يوجد إلا قليلاً - ولا يمكن تحققه إلا إذا وجد من يتصف بتلك الصفات التي اتصف بها أسلافنا وأين ذلك في هذا العصر الذي تحقق فيه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حب الدنيا وكراهية الموت، ونعود لذكر ما أشرت إليه من المقارنة بين المسلمين على ضوء الحديث وبين أعداء الإسلام وشد بعضهم بعضاً.
سمعنا جميعاً ما حدث في نيجيريا من الحرب الأهلية التي استمرت أكثر من سنتين وانتصار الاتحاديين على البيفريين الانفصاليين.
فقد ضجت النصرانية والصهيونية في أقطار العالم من حكومات وجمعيات وكنائس وكل نصراني في العالم خوفاً على إخوانهم في بيفري أن يفتك بهم من قبل أعدائهم، كأنما يمثلون - ويا للأسف - ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمة المسلمة إذا اشتكى واحد منهم هب الجميع لنصرته وإغاثته.
ثم ما قدمته هذه الحكومات والجمعيات والكنائس من إعانات مالية تتمثل في ملايين النقود ومئات الآلاف من الأطنان الغذائية والكميات الهائلة من الأدوية والمستشفيات المتنقلة والأطباء والممرضين وغير ذلك.
كل هذا نقوله بأسف وأسى لما صار ويصير على المسلمين في فلسطين وروسيا وتنزانيا والهند وغيرها من البلدان الإسلامية التي يتعرض سكانها لكل كارثة من قتل ونسف وتشريد عوائل ولا معتصم يجيب، فهل ستعود الأمة الإسلامية كالجسد الواحد؟ ذلك ما نرجوه وما هو على الله بعزيز.
---
(1)
تداعى: دعى بعضه بعضاً إلى المشاركة في ذلك.
من.. ولماذا؟
- قصة -
بقلم الشيخ: محمد المجذوب
كان الرقيب برهان غارقا في نوم ثقيل، عندما انتقل جرس الهاتف الموضوع بحذاء رأسه يقرع سمعه برنين مزعج طويل، ويبدو أنه كان مستغرقاً في حلم غير سار سرعان ما اختلطت أحداثه بهذا الرنين، فإذا هو يهب مذعوراً، وفي غير وعي يجذب جهاز الهاتف ويقذف به بعيداً، فيكاد يصدم رأس زميله المساعد، لولا أن رده جانب الوسادة الذي كان مرتفعاً فوق ذراعه التي اعتادت أن تأخذ مكانها تحتها، كلما أخذ رأسه موضعه فوقها.. وفي هذه اللحظة أخذ الرقيب يسترد كامل يقظته، فاعتذر لرفيقه بأنه كان يحلم أنه في خط النار، وقد سقطت بجانبه قذيفة يدوية، فالتقطها ورمى بها ليتفادى انفجارها..
وكان جرس الهاتف مستمراً في رنينه، فرفع الرقيب السماعة..
- من هنا؟
- هنا مركز قطنا.
- هنا مركز الضابطة العامة في قوة اليرموك بدمشق.. الرقيب برهان يتكلم.
- شكراً.. هنا زميل لكم من ضابطة اليرموك في معسكر قطنا عثر به قتيلاً عند مدخل البلد.
- رقيب.. قتيل؟!.. أهكذا قلت؟!..
- نعم.. رقيب من ضابطة اليرموك الخاصة في قطنا.. وجدته جوالة للشرطة قتيلاً أو ميتاً..
- قتيل.. ميت!! .. أقتيل هو أم ميت؟؟
- المكان يوهم أن في الأمر جريمة.. ولكن لا يبدو في الجثمان ما يدل على ذلك.
- شكراً.. احرسوا الجثمان.. سنجري اللازم حالاً.
وأعاد الرقيب السماعة.. وأطرق يفكر، الساعة الآن الثانية، ومعنى ذلك أنه لم يمض على نومه سوى ساعة.. وقد قضى يومه في عمل متواصل يراقب المتطوعة، ويستمع إلى الشكاوي
…
وعشرات الأشياء الأخرى، وكان يمني نفسه بإغفاءة لا يقطعها إلا بالنهوض لصلاة الفجر.. وها هو ذا مضطر إلى مغادرة فراشه قبل الموعد بثلاث ساعات، ليبتدأ عملاً لا يعلم متى ينتهي.. ومن يدري فقد يكون الرجل ميتاً لا قتيلاً، ما دام الشرطة، وهم الذين شاهدوا جثمانه، لا يستطيعون القطع بأحد الأمرين، وفي هذه الحال سيكون مجهوده خالياً من كل معنى!..
وتذكر برهان أن مثل هذا التفكير لا يحسن بالإنسان الذي وهب نفسه لواجب الجهاد، الذي لا يكون قتالاً للعدو فقط، بل قتالاً للأهواء، وقتالاً للكسل الذي يدفع صاحبه لإيثار النوم على التحقيق في قضية كهذه.. أياً كانت نتائجها!.
على أنه لم يخطر في ذهنه موضوع الجهاد حتى أحس بانقباض موجع، لقد انتظم في سلك المجاهدين في غمرة من الحماسة الروحية التي تجعل الاستشهاد أروع ما يتصوره القلب المؤمن، وهو الروح الذي كان يسيطر على معسكرات المجاهدين جميعا، وبه بدأت المعارك الأولى، فكان النصر، وكان القتل، وكان كلاهما شيئاً جميلاً في نظر هؤلاء الذين فارقوا أهليهم وأعمالهم ابتغاء رضوان الله، ولا يزال يذكر الساعة التي فقد فيها رفيقه ومواطنه اللاذقي (محمد الصباغ) .. ذلك الفتى الذي لم يستطع والداه صده عن خوض هذه الغمرة؛ لأنه كان شديد الرغبة في الشهادة، فأبى الله إلا أن يحقق له رغبته، وتم ذلك برصاصة يهودية حطمت فكه الأسفل، وحملت إليه المنية، إذ كان إلى جانبه يطلق نيران بندقيته على العدو، وتحول الإصابة بينه وبين الكلام، فيسلم الروح وعلى ثغره ابتسامة الرضا بما آتاه الله من فضله.. ولقد خاض برهان بعد معركة القدس تلك عدة ملاحم، ورأى العديد من رفاقه المؤمنين يسبقونه إلى الجنة، وفي كل مرة كان يتطلع إلى حظه من هذه النعمة، مزوداً نفسه لها بكل ما يسعه.. ولكن الله لم يقدر له هذا المصير، ومد بأجله حتى اليوم.. ليشهد التدهور المريع الذي بدأ يراود النفوس، فيطفئ شيئاً فشيئاً توهج الوقدة المقدسة التي ساقتها إلى هذه الساحات.. وها هو ذا يرى بعيني رأسه التطور الفاجع الذي أعقب الهدنة، فجعل يحول الطاقات التي كانت معبأة لدك معاقل اليهود، واستنقاذ الأرض المقدسة إلى تدمير نفسها بهذه الخلافات اليومية التي يثيرها المتطوعة فيما بينهم لأتفه الأسباب.. ثم وجدت في الجهاد من أجل فلسطين فرصة للتوبة والتطهر.. حتى إذا تسرب روح الوهن إلى جهاز
النضال العام، استيقظت فيها عوامل الضعف القديمة، فتكاد اليوم تستأنف سيرتها الأولى، لا يمنعها من ذلك إلا هذه البقية من روح النظام الذي تكافح الضابطة من أجل صيانته في هذه المعسكرات.
ومما يساعد على مضاعفة هذا الانهيار المعنوي تلك الأنباء التي تأخذ طريقها بقوة إلى كل شقة ولسان بين المتطوعة.. إنها أنباء خيانات تنسب إلى طائفة من الكبار.. الذين تصدوا لقيادة الجهاد، فإذا هم فيما يقال يتواطأون مع العدو على تسليم الأرض المقدسة، لقد بدأت هذه الشوائع همسات في الخلوات، ثم انتهت إلى العلانية، يتداولها الجميع بين مصدق ومكذب.. وكفى بهذا وحده مثيراً للشكوك، مثبتاً للعزائم، مدمراً للحماسة، محطماً لكل تصميم روحي!..
وكانت هذه التصورات تتفاعل في صدر الرقيب برهان وخياله، وهو متجه في سيارة الجيب نحو منزل القائد.. ولما وقفت به السيارة أمام الباب انتزع نفسه من شروده، وأعلن مهمته لحرس المنزل.. ثم عاد إلى السيارة ليصحب الرئيس الذي كلف التحقيق في القضية.
وكانت الساعة لا تعدو الثالثة إلا قليلاً عندما وصل مكلفو التحقيق إلى حيث يستقر الجثمان تحت شجرة الجوز العجوز، التي تظلل أغصانها بعض الطريق الداخل إلى (قطنا) .. وترجل الرئيس وكاتبه، وتبعهما الرقيب برهان ليلقوا النظر الذي لا بد منه على الجسد الهامد.
كانت الظلمة طاغية.. والجو كشأنه في مثل هذه الليلة من آذار قارساً، ولكن مصباح الضغط الذي أحضره رجال الدرك لحراسة الجثمان بدد الكثير من تلك الظلمة، ونشر شيئاً غير قليل من الدفء..
ونظر المحقق ومن معه إلى ذلك الجسد المنبطح على صدره، وقد امتد كل من ذراعيه في شبه زاوية قائمة، وانفرجت ساقاه.. ولم يبد من وجهه سوى جانبيه.. لأن مقدمته لاصقة بالأرض.
وتراءى ذلك الهيكل العملاق تحت الضوء المشع مهيب النظر، يوحي بأن صاحبه كان على حظ من القوة الجسدية غير يسير.
ولم يشأ المحقق أن يغير وضع الجثمان بانتظار الطبيب الشرعي.. ولكنه جعل يدقق النظر من أعلاه إلى أدناه، فلم يلمح أي أثر لجريمة.. اللهم إلا ذلك التماس الشديد الذي بدا بين وجهه والأرض، حتى لكأن أنفه قد كسر أو بسط تحت ضغط ثقيل غير أن مثل هذا قد يتأتى من أيد آثمة كما يحدث من سقطة فادحة..ومن يدري، فقد يكون الرجل مصاباً بالصرع، وقد فاجأه هنا، فأكبه على وجهه بهذه الصورة!.
وبدأ المحقق استيضاحه مع كبير الشرط:
- من الرجل.. اسمه.. ومن أي البلاد هو؟
- اسمه عبد الله خليل.. وهو أردني من إربد.. كان يتردد على مركزنا أثناء تجواله لمراقبة المتطوعين..
- إذن فأنتم تعرفون الكثير عن سلوكه الخلقي؟
- بالتأكيد.. إنه رجل شهم يتحلى بإخلاص كبير.. وكان صارماً في حماية النظام.. مما جعل الكثيرين غير راضين عنه..
وأمسك المحقق عن متابعة الأسئلة، لم يفكر بما يسمع، ولاح عليه أنه وجد في بعض هذا الوصف ما يستحق اهتمامه.. ثم طلب إلى الرجل أن يطلعه على التقرير الذي كتبوه عن مشاهداتهم.
وقرأ التقرير ووقف عند هذه الأسطر:.. وكان آخر عمل قام به في (قطنا) هو إخراجه بعض المتطوعة بالقوة من خماره (أبو جورج) .. وفي تمام الساعة الثانية عشرة من بنا في طريقه إلى المعسكر، ثم حوالي الساعة الواحدة والنصف شاهدته جوالتنا فاقد الروح تحت شجرة الجوز..)
وسأل الرجل مرة أخرى: (هل تعرفون أحداً من أولئك الذين كرههم على مغادرة الخمارة!؟.
وجاءه الجواب بالنفي.. فالتفت إلى الرقيب برهان: يحسن أن تحضر لي الخمارة، وسيرافقك أحد الشرطة ليرشدك إلى داره.. وستجدني بانتظاركم في مخفر الشرطة.
وترك المحقق الجثمان للطبيب الذي وصل آنئذ.. ومضى بسيارته إلى داخل البلد، ثم لم يكد يستقر إلا قليلاً حتى أقبلت سيارة الرقيب برهان بالخمارة.. الذي أوشك قلبه أن يقف من شدة الرعب، ولما رأى المحقق اضطرابه سكن روعه، وأشار إليه بالجلوس، ثم جعل يسأله في لهجه لا تبعث القلق:
- الرقيب في الضابطة الخاصة لقوة اليرموك في قطنا عبد الله خليل الأردني، قد مر بحانتك مساء اليوم.. هل تذكر؟
- نعم أذكر جيداً..
- ماذا عمل عندك؟
- أخرج المتطوعة الذين كانوا يغربدون.. وعلى الفور أغلقت حانتي ودخلت الدار.. ثم لم أغادرها إلا الساعة.
- حسن.. تذكر.. هل تعرف هؤلاء المتطوعة؟
- إنهم من أقطار مختلفة: اليمن.. الحجاز.. العراق.. و.. لذلك من العسير أن أعرفهم جميعاً.
- إذن فأنت تعرف بعضهم؟
- طبعاً..
- أذكر لي اسم هذا البعض..
- سعيد حمدو الفلسطيني..
- وعبده الخالد من الأردن
- ثم من؟
- لا أعرف أسماء الآخرين.. ولكن أظنني أعرف وجوههم..
.. ولم يشأ المحقق أن يقطع تسلسل العمل فدعا بالرقيب برهان، وكلفه أن يحمل الخمار في سيارته.
وبعد مكالمة هاتفية قصيرة انطلقت السيارتان في الطريق إلى معسكر اليرموك خارج قطنا.
ودخل المحقق مع رئيس مثله من المعسكر، ووراءه كاتب التحقيق والرقيب برهان.. دخلوا جميعاً إحدى قاعات النوم، وكان نزلاؤها الثمانية يغطون في نوم عميق..
وطلب المحقق أن يؤتى بسعيد وعبده.. فأوقظا بصعوبة، وكلفا ارتداء ثيابهما، ثم أخرجا إلى غرفة مجاورة، حيث جهز للمحقق مكتب مرتجل..
ونظر المحقق إلى المتطوعين، قد أخذتهما رعشة ظاهرة.. وبدأ الجحوظ في عينيهما القلقتين، فلم يرد في ذلك ما يسترعي الاهتمام، بل وجد له ما يسوغه في برودة الجو، والنهوض المباغت من النوم، وأشار إلى أحد الاثنين بأن يدنو منه، ولكنه لم يفهم ما يريد، وجعل يدقق بصره بين رفيقه والمحقق في نظرات زائغة، فاضطر المحقق أن يشعره بقصده إليه، وقال له في لهجة الأمر:"أنت.. تعال"
…
ولكن الرجل غلبه الارتباك، فأخذ يجمجم، وهو يسارق رفيقه النظر: أنا!!. لا.. ما أنا.. هو.. هو!.
وبدا رفيقه فاغر الفم، كأنه عجز عن النطق، وقد بهتت عيناه، وانطفأ بريقهما، فكأنهما مصنوعتان من الزجاج، ولم يسطع ضبط ساقيه، فجعلتا تهتزان بصورة أفقدته التوازن..
وهنا أمر المحقق بإخراج هذا إلى مكان آخر، ودفع الأول نحو مكتبه مكرها..
- لم يبق مجال للكتمان.. خير لك أن تعترف.. وإلا فقدت كل حق بالعطف..
- أقسم لك.. أني.. أني.. لم أشترك بالقتل..
واهتزت أعصاب المحقق وهو يسمع لفظة القتل، الذي لم يذكر أنه رأى في هيئة القتيل أي دليل على حدوثه.. وثارت رغبته في معرفة التفاصيل التي بدأت تتدفق في جهد..
- لكن دورك بارز في الجريمة.. قلت لك تكلم بصراحة وصدق لتستحق العطف.. وسترى أن كل شيء معروف.. ولا سبيل إلى الإنكار.
وبلغت أعصاب المتهم نهاية الانهيار، ولم يبق له من سلطان على نفسه، فأخذ يتكلم ويسجل الكاتب كل حرف من كلامه، حتى إذا استنفد التحقيق غرضه أمره المحقق بالجلوس.. وحذره أن يتكلم إلا بإذنه.. ثم دعا بالمتهم الثاني..
- أي عبده.. لقد اتضح كل شيء.. فعليك بالصدق إذا شئت أن يكون لك حظ في الرحمة..
وحدق في وجه رفيقه سعيد قبل أية كلمة.. ورآه يحرك كتفيه ويقلب كفيه إشعاراً باعترافه.. فلم يدر بأية كلمة يجب أن يبدأ، وجعل يتمتم: الشيطان.. الشيطان.. له..
وشد على أسنانه يريد إتمام كلمته، ولكنه عجز عن ذلك.. ثم لم يستطع كلاماً إلا بعد أن نضح وجهه بالماء ومص بعض قطرات منه.. ثم راح يفضي بمكنوناته في حال من الإعياء الإرادي التام.
وتوالى الأفراد باعترافهم واحداً تلو الآخر.. وكان في إقرر كل منهم ضرب من الإيحاء القاهر، يجر الآخر مكرها إلى الإفضاء بكل ما في نفسه.. وكانت الساعة قد قاربت السادسة.. وأطلت تباشير من النهار، فلم يبق من مانع دون تمثيل وقائع الجريمة في مكانها..
وعند شجرة الجوز توزع الثمانية مهامهم وأمكنتهم.. فتسلق عبده وآخر معه الفرع الممتد فوق الطريق، وكمن اثنان في الخندق الأيمن من الطريق واحتل آخران خندقه الأيسر.. ثم تولى الباقيان مراقبة الطريق..
قال شحادة:
".. وكان لا بد للرقيب من المرور بهذا المكان.. فلما ألقى مبروك حصاته على الشجرة تأهبنا للعمل، وانتظرنا حتى كان الرقيب تحتنا، فقذفنا بأنفسنا عليه وكاد يتغلب علينا رغم المفاجأة.. لولا أن أدركنا الرفاق من الخندقين، فأخذ بعضهم بيديه وبعضهم برجليه، وتمكنا بذلك من دفعه على وجهه.. وكان علي أن أتولى عرك أخدعه الأيمن، وعلى عبده عرك الأيسر، فما زلنا بهما حتى خمدت حركته تماماً.. وهنا جاء دور سعيد فغرس دبوساً في النقرة الخلفية من عنقه حتى مزق الحبل الشوكي.. وبذلك تمت الخطة، ونهضنا عن جسده..".
وكان (شحادة) يسرد هذه المعلومات وهو يتبع كلا منها بتمثيل عملي ويستشهد كلا من رفاقه على دوره في ذلك، فيأتي الإقرار مؤكداً لا خلاف فيه ولا غموض..
واستغرقت محاكمة القتلة قرابة الثلاثة الأشهر.. وصدر الحكم بإعدام ثلاثة منهم.. وتفاوت نصيب الباقين من السجن بين الخمس والخمس عشرة من السنين.
وكان الرقيب برهان واقفاً خارج قوس المحكمة يستمع إلى قرارها، فلم يستطيع أن يتمالك دمعتين كبيرتين تدحرجتا على وجنتيه..
إنه لا يشك في عدالة الحكم.. ولكنه يتساءل في حيرة وحرقة: لقد جاء هؤلاء ليظفروا بالشهادة في فلسطين، أو يهموا في إنقاذها، فلماذا حرموا إحدى الحسنيين؟.. ومن المسئول عن تحولهم إلى هذا المصير الحقير؟!!
ندوة الطلبة
دراسات في الديانات الهندية
الديانة الجينية - الجينية (جين دهرم)
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
لا بد لأي باحث في الديانات الهندية من أن يذكر شيئاً عن (جين دهرم) مع قلة أتباعه لما له من تأثير كبير في الديانات الأخرى.
موجز تاريخها:
يدعي أتباع الجينية أن دينهم قديم كقدم العالم والمصلح الأخير الذي جدد أصوله ونشر عقيدته هم (مها بيرسوامي) كان معاصراً (لبوذا) فحصل بينهما معارك كثيرة ونقد عليه (بوذا) في بعض خطبه ومواعظه، وقد تقدم (مها بيرسوامي) ثلاث وعشرون (تيرشنكر)(الرسل الذين يعتقد فيهم الجينيون الألوهية) والزمان الذي بين كل اثنين منهم يستغرق ملايين السنين، بل قد عجز الرياضي عن ضبطه، يقول:(لالا ديوان جند) في كتابه (هل جين دهرم أزلي) – "إن هذه الدنيا قديمة أزلية لا بداية لها ولا نهاية فكذلك (جين دهرم) ".
الفرق والمذهب:
افترقت الجينية إلى فرقتين كبيرتين:
1-
الفرقة الدكمبرية.
2-
الفرقة السوبنامبرية.
ثم كل منهما انقسمت قسمين: قسم يعبد الأصنام، وقسم يحرمها.
فالقسم الذي يحرم عبادة الأصنام من الدكمبرية يسمى (تارن بنتهي) Taran Panthi
ومن السونبامبرية (داس) Das.
ترتيب تعليمات مها بيرسوامي:
توفي (مها بيرسوامي) سنة 527 ق. م.
تقول الفرقة الدكمبرية: إن حفاظ الجينيين كانوا يعلمون الناس (دواو شانك) من محفوظاتهم بعد وفاة (مها بيرسوامي) كانت لهم حافظة قوية يحفطون جميع التعلميات، ولكن بعد سبعة قرون على وفاة مها بيرسوامي مضى الحفاظ الكاملون ولم يبق فيهم إلا من يحفظ بعض الأجزاء، فلما رأى (كند كندسوامي) هذا الضعف توجه إلى ترتيب ما بقي في الحافظة فكتب كتباً كثيرة ثم تلاه تلميذه (أوماسوامي) فصنف كتاباً نال مرتبة (التوراة) و (الإنجيل) عند الجينيين وهو المعروف إلى يومنا هذا باسم (تتورات سوتر) Tatuarth Sutra والآن يعتبر هذا الكتاب مصدراً وحيداً لتعليمات (جين دهرم) :(هذه هي رواية الفرقة الدكمبرية) .
أما رواية الفرقة السونبامبرية فكما يقول مصنف كتاب (جين مت سار) :
(إن ديو آردي جمع خمسمائة من علماء الجينيين في بلده (بلبهي) سنة 453م أي بعد عشرة قرون تقريباً وأمرهم أن يرتبوا ما بقي من حافظتهم في كتاب.
النقد التاريخي:
بعد إيرادنا هذه الرواية يسهل علينا أن نقول إن تعليمات (مها بيرسوامي) لم تصل إلينا كما هي بل ضاع منها جزء كبير عبر الزمن، والذي بقي لا نثق بصحته التاريخية لأن ديو آردي لم يتأكد من صدق هؤلاء الحفاظ الذين جاءوا من أنحاء البلاد؛ لأن (ديو آردي) كان كلما سمع كلمة من فمهم أمر الكتاب بكتابتها، والأهم من هذا هو كيف يثق أحد بسند هذا الكتاب إلى ديو آردي مع أنه خال من أي وثيقة ومستند، فالعجب ممن يؤمن بهذه القصص والأساطير والحكايات.
الاختلاف الأساسي بين الفرقة الدكمبرية السونبابرية:
الاختلاف بين هاتين الفرقتين في أربع وثمانين مسألة ولكن أكثرها جزئي لا نهتم به، أما الاختلاف الأساسي فهو في ثلاث:
الأولى:
أنه لا تحصل المعرفة الكاملة والنجاة الدائمة عن الفرقة الدكمبرية بأن يقطع الإنسان علاقته الدنيوية تماماً بحيث يجتنب اللباس وستر العورات لأجل هذا نجد نساك الفرقة الدكمبرية يعيشون عراة، وأما نساك الفرقة السونبامبرية فلا يقطعون عن الحوائج الضرورية من اللباس والفراش والعصا وغيرها، ونساك الدكمبرية يكتفون بأشياء ثلاثة:
1-
شاشر (الكتاب المقدس) .
2-
ومراوح من ريش الطاووس لتكنيس الأرض وطهارتها.
3-
وإبريق للاستنجاء.
فما نرى من الصور العارية في الكتب الدينية والمراكز الثقافية كلها متعلقة بالفرقة الدكمبرية، نساك الفرقة السونبامبرية يرخون على وجوههم ثوباً عند السفر والكلام، ونساك الفرقة الدكمبرية يجتنبون الثياب كليا.
نساك الفرقة الدكمبرية يأكلون مرة واحدة في اليوم والليلة ولا يستعملون الأواني بل يصنعون الطعام في أيديهم ثم يأكلون.
ونساك الفرقة السونبامبرية ياكلون مرتين في الأواني.
الثانية:
الفرقة السونبامبرية ترى أن المرأة تحصل النجاة في قالبها النسائي بينما الفرقة الدكمبرية ترى أن المرأة لا تحصل النجاة لأن في إبطها جرثومة صغيرة تموت بحركتها فتلزم عليها ولادتها بقالب الرجل في الحياة الأخرى (جولان الروح) وكذلك لأنها تتنجس في كل شهر بحيض فلا تقدر على المراقبة التامة وكذلك لا تقدر على التخلص من اللباس كلياً، وهكذا.
الثالثة:
إن الفرقة الدكمبرية ترى أن العارف الكامل لا يلحقه الجوع والعطش والمرض في حياته الدنيوية بصورته الإنسانية خلافاً للفرقة السونبامبرية.
هذه هي الفروق الأساسية بين هاتين الفرقتين أما الجزئيات والفرعيات فكثيرة نتركها إيثاراً للإيجاز.
العقائد الجينية:
1-
الدنيا ثمرات الروح والمادة وليس لها خالق ومدبر خارج عنها.
2-
أن العلاقة التي نجدها بين الروح والمادة هي نتيجة الأعمال (كرما) لأن الأعمال تعيد الروح إلى الدنيا مرة بعد مرة.
3-
لا تتخلص الروح من العودة إلا بالإيمان الصحيح والعلم الصحيح والسيرة الحسنة ويسمى هذا التخلص (مكتي)(النجاة) .
4-
الروح الناجية هي (برماتما)(إله) وتتردد وبعد النجاة لإضاءة السبيل للسائرين، فالواجب على الإنسان أن يجتهد في تخليص روحه من العودة.
5-
الدنيا مركز الأرواح ومستقرها وتسلسل الأرواح في الدنيا غير متناه.
6-
أهنسا برمو دهرما (أفضل الدين هو ترك القتل والإيذاء) .
الألوهية عند الجينيين:
إذا فكرنا في العقيدة الأولى وجدنا أن الجينيين لا يعتقدون بوجود خالق الكون ومدبره بل يقولون إن الدنيا نتيجة للعلاقة التي بين الروح والمادة فهي قديمة كالروح والمادة لأنها لم تكن معدومة فأوجدها موجد بل كانت موجودة من الأزل بشكل آخر فشكلت بهذا الشكل لأجل العلاقة الجديدة.
ولكن الجينيين ينكرون ذلك ويقولون نحن لا ننكر وجود الخالق بل ننكر صفته الخالقة والمدبرة، لأن وجوده ليس خارجاً عن الدنيا.
يقول العالم الجيني بي - آر - جين:
"إن الجينيين لا يعتقدون بمعبود أزلي قديم وموجود في كل زمان ومكان عالم لكل صغير وكبير قادر على كل شيء خالق الكون والحياة، بل يعتقدون بالأرواح الناجية التي بلغت درجة الإله".
معنى هذا الكلام أن آلهة جينيين كعدد الأرواح الناجية (والعياذ بالله) فروا من إله واحد فوقعوا في آلهة لا تحصى.
طبقات الرجال:
إن الجينيين يقسمون رجالهم إلى خمس طبقات:
1-
أرهت:
الأرواح الناجية في الأجسام التي حصل لها علم كامل ومعرفة تامة فوصلت إلى درجة المعبود في الحياة الدنيا وهم أربع وعشرون تيرشنكر قبل الموت.
2-
سدها:
الأرواح التي نجت من تكرر العودة في الدنيا ووصلت إلى مقام النجاة هم أربع وعشرون تيرشنكر بعد الموت.
3-
آجاريه: رئيس الرهبان.
4-
أبا دهياء: الرهبان المرشدون.
5-
سادهو: الرهبان والنساك.
فلسفة عبادة الأصنام:
إن المبتدئين الذين بدأوا حياتهم الرهبانية لا يقدرون على استقرار الفكر ودوام الفكر لعدم قدرتهم على تركيز القلوب في تصور المعبود فاحتاج هؤلاء إلى إله مكشوف بالأعين الظاهرة فلما عرف علماء الجينيين هذه الحقيقة أذنوا لهم في بناء الأصنام التي تحمل الأوصاف المطلوبة فتوجهت كل فرقة إلى بناء المعبود وفق اعتقادهم.
فالفرقة الدكمبرية مثلا تبني معبوداتها عراة لتصور تخليهم عن الضروريات الدنيوية والفرقة السوبنامبرية تبنيها وفق اعتقادها.
فهذه هي بداية عبادة الأصنام في الديانات الهندية لأننا نجد ذكر الأصنام وبناء المعابد في ويدك دهرم وبدها دهرم كما أثبتنا في موضعه فكلا المذهبين تأثرا من (جين دهرم) .
عبادة الأصنام أمر مستحسن عند الجينيين فهم يتأسفون الآن على الأجيال الجديدة التي تركت عبادة الأصنام وينقدون الإسلام لأنه هو الذي حرم بناء الأصنام وعبادتها أول مرة في تاريخ الديانة الهندية.
هنا يسأل السائل: عن الجينيين لا يعتقدون بصفة من صفات الله فعلى أي صورة يصنعون أصنامهم؟
يجاب: هم لا يصنعون صورة الإله الذي ينكرون وجوده بل يصورون حياة (تيرشنكر) الذين نجت أرواحهم من عودتها إلى الدنيا، ممثلاً ديوجي وبارش بات جي ومها بيرجي، وشومنات جي وغيرهم.
أثر جين دهرم على ويدك دهرم وبدها درهم:
1-
عبادة الأصنام وبناء المعابد:
إن الهندوسيين ما كانوا يعرفون عبادة الأصنام وبناء المعابد في عصر ويدك دهرم وكذلك البوذيون بل تأثروا كلهم بجين درهم وحذروا حذوه.
2-
أهنسا:
إن ويدك دهرم قد صرح بتضحيته الأنعام من الخيل والجاموس حتى البقرة، فجاء جين دهرم وحرم الأضحية حتى قتل الجراثيم التي تطير في الهواء، فتأثر به ويدك دهرم وحرم على أهله تضحية الحيوان عامة وخاصة البقرة بغضاً للمسلمين، وأما بدها دهرم فكيف يريب العاقل بجوار الأضحية رغم أن بدها لم يمت إلا بعد أن أكل لحم الخنزير، والآن هم كذلك يفتخرون بقولهم:(أهنسا برمو دهرما) .
3-
مسألة التناسخ أو جولان الأرواح:
لقد أثبتنا أن ويد قد صرح بوجود الجنة والنار وإثبات الحياتين، فجاء جين دهرم وأثر على ويدك دهرم حتى على بدها، فصار ويدك دهرم ملتزما بالتناسخ.
4-
الرهبانية:
تقدم بحث أعمار الإنسان في ويدك دهرم، فالقسمان الأولان متعلقان بالحياة الأهلية، أما جين دهرم فيبحث عن بداية الحياة وفي ترك العلاقة الدنيوية والتمسك بالحياة الرهبانية.
نعم، أن بدها يحرض على ترك اللذات والشهوات، ولكن الغاية العظمى عنده هي النجاة، لا كالجينيين، فإن الغاية عندهم قطع العلائق الدنيوية كلية في جميع مجالات الحياة من الطعام والشراب واللباس فتأثر نساك الهندوسيين من جين دهرم وتركوا العلائق الدنيوية كلية وسكنوا في رأس جبل (هملايا) .
5-
العري:
لا نجد فكرة العري في ويدك دهرم ولا في بدها دهرم بل جاءت هذه الفكرة من حين دهرم وأخذها نساك الهندوسيين، والآن هم الذين يحتفلون كل سنة ويجولون في الشوارع عراة ولكن الحكومة الهندية منعتهم وسمحت لهم أن يقيموا احتفالاتهم هذه في الصحاري والغابات.
وأخيراً:
هذه هي الديانة الجينية أوجزناها قدر المستطاع مع أن تفصيلها يستغرق آلاف الصفحات، ويجعل هذه المباحث السهلة تعود غامضة يتعب العقل من إدراكها ويصعب على القراء فهمها.
فسبحان الذي أنزل آيات بينات في كتابه المبين يستوي معه في فهمها الحضري والبدوي، ويستفيد منها حسب حاجته العالم والجاهل، فنشكر الله على ما من علينا بالتوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي.
---
(1)
يبلغ عددهم في إحصائيات سنة عام 1951م 1،618،405
(1)
شبو ديوجي - اجت نات جي -شبوانات جي - نفدن جي - سمت نات جي - يدم جي - سياثيوجي جندرجي - سبدي نات جي - شنيل نات جي - شريانسي - شرى اسوويوجي - شري بمل ناشاجي - آره ناتجي - ملى نات جي - مني سوامي - اننت نات جي - شرى دهرم نات جي - شانتى نات جي - كنت نات جي - نمى نات جي - نسيم نات جي - بارش نات جي - شرى مها بيرسوامي جي - هؤلاء كلهم في فترة واحدة من الزمان وبين كا اثنين ملايين السنوات فإذا انتهت هذه الفترة تبدأ فترة ثانية وهكذا تعيد الدنيا فتراتها مرة بعد مرة.
(2)
في المطارات والمعابد والاحتفالات.
(3)
هذا هو الصنم الذي هدمه محمد غزنوي حينما قام بغزو الهند سنة 1018م.
أخبار الجامعة
وجه سماحة رئيس الجامعة الإسلامية أمراً لمدرسي الجامعة الإسلامية بأن يختاروا نخبة من طلاب الجامعة من مختلف الجنسيات ليقوموا بالمساهمة في تثقيف الحجاج وتذكيرهم بما قد يخفى على كثير منهم في مسائل الحج والعمرة، كما يوضحون لهم العقيدة الصحيحة ويحذرونهم مما قد ألصق بها من أنواع الخرافات وما فشا في الكثير من البلاد الإسلامية من البدع والضلالات ويشرحون لهم محاسن الإسلام كل ذلك بلغتهم التي يفهمونها وذلك في المسجد النبوي والمسجد الحرام ومواضع الاجتماعات؛ لأن الكثير من الحجاج في أشد الحاجة إلى مثل هذه التوجيهات وقيد شجع هذه الحركة المباركة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح رئيس المحاكم الشرعية بالمدينة المنورة وهيأ للدعاة ما يعينهم على أداء مهمتهم على الوجه المطلوب، كما اهتم فضيلته بإعداد مكبر للصوت بعد العصر وبعد المغرب في المسجد النبوي ليتناوب المرشدون والمدرسون على توجيه الحجاج إلى ما يهمهم نحو دينهم وحجهم.
نسأل الله أن ينفع بالجهود المبذولة ويوفق المسئولين لكل ما فيه الخير للمسلمين عامة، إنه ولي التوفيق.
إجتماع مجلس الجامعة
. انعقد مجلس الجامعة الإسلامية وذلك بناءً على دعوة من سماحة رئيسه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية.
وقد عقدت الجلسة بعد صلاة العشاء واستمرت مدة ثلاث ساعات، وكانت برئاسة سماحة الرئيس.
وقد بحث المجلس موضوع الدعوة التي تلقتها الجامعة الإسلامية من رئاسة جمعية الجامعات الإسلامية لإرسال وفد يمثل الجامعة الإسلامية في اجتماع المؤتمر التأسيسي للجمعية الذي سينعقد في تونس ابتداء من يوم 25يناير 1971م.
ورأى المجلس أن تشترك الجامعة في الاجتماع المذكور، ثم بحث تعيين أسماء الأشخاص الذين يمثلون الجامعة في ذلك الاجتماع فقرر أن يكون الوفد مؤلفاً من ثلاثة أشخاص هم:
الشيخ محمد ناصر العبودي ـ الأمين العام للجامعة.
الشيخ محمد بن صالح المرشد عميد كلية الشريعة.
الشيخ عبد العزيز بن محمد القويفلي عميد كلية الدعوة وأصول الدين.
ثم انتقل المجلس إلى بحث موضوع إدخال مادة جديدة على مناهج الكليتين في الجامعة باسم: البحث العلمي، وهو الموضوع الذي كان قد نظره المجلس في جلسة سابقة وألف لجنة ثلاثية من أعضائه لوضع مشروع منهج تفصيلي له، وقد قدمت اللجنة الثلاثية المنهج المطلوب، فناقشه المجلس وأقره بالصيغة التالية:
البحث العلمي:
تمهيد: من مهام الدراسة الجامعية إعداد الخريج للبحث، والمناقشة، والتأليف، والانتفاع بالمراجع العلمية المتعلقة باختصاصه، لذلك درج الكثير من الجامعات على إلزام الطالب في المرحلة النهائية تقديم بحث في إحدى المواد التي يدخل ضمن منهاج الكلية.
وقد قررت الجامعة الإسلامية اعتبار تأليف البحث المنشود مادة إلزامية مستقلة في السنة النهائية لها درجتا نجاح: الصغرى، وهو عشرون، والكبرى وهي أربعون، ويجري تطبيقها على الأسس التالية:
1-
يكون البحث في إحدى مواد المنهج المقرر في الكلية.
2-
على الطالب أن يختار الموضوع الذي يريد الكتابة فيه، ويقدم بذلك خطاباً إلى عميد كليته خلال شهرين اعتباراً من بدء الدراسة، وليس له العدول عنه إلى سواه بعد تقديم الخطاب، والموافقة عليه من قبل مجلس الكلية.
3-
يكون الموضوع المختار - مهما يحمل طابع الجدة ما أمكن - ولا يكتب فيه أكثر من طالب واحد في العام الواحد.
4-
لا تقل صفحات البحث عن الثلاثين من حجم ورق الآلة الناسخة، ولا تزيد عن الخمسين ولا أسطر الصفحة عن العشرين بالخط العادي.
5-
على الطالب أن يقدم بحثه إلى عميد الكلية قبل شهر من بدء امتحان الدور الأول مكتوباً بخط واضح، وعلى ثلاث نسخ مع أصلها، مذيلا كل صفحة اشتملت على ذكر مرجع ما بذكر المرجع، والجزء، ورقم الصفحة التي استمد منها.
6-
يتولى مدرس المادة في السنة النهائية، مع أستاذ يختاره مجلس الكلية لمراجعة البحث ثم مناقشته مع الطالب للتيقن من كونه هو المنشئ له وكونه على فهم سليم له، ثم يقدران الدرجة التي يستحقها على ضوء ذلك، مع ملاحظة الأفكار، والترتيب وسلامة الأسلوب، وصحة التعبير.
7-
على الطالب أن يلحق بالبحث فهرساً تفصيلياً لنقاط البحث، وجريدة بذكر المراجع التي اعتمدها، مع تعيين أرقام الصفحات التي احتوت ذكرها.
نظرات في حديث أصحابي كالنجوم
بقلم الطالب: صالح بن سعيد بن هلابي
كم من حديث اشتهر في بطون الكتب واستخرجت منه أحكام وقواعد عامة وأصلت منه أصول وقد يكون ضعيفاً بل موضوعاً بل ربما لا أصل له، ويلاحظ هذا كثيراً ما يقع في كتب الرقائق والزهد والوعظ والإرشاد والفضائل.
وموضوع حديثنا اليوم هو حديث أو يقال إنه حديث "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وقد انتشر هذا الحديث في كثير من كتب أصول الفقه في باب الإجماع وخاصة إجماع الصحابة هل هو حجة أم لا؟ وربما سكت عنه الكثيرون بعد إيرادهم له ولست آتي بحكم جديد وإنما أنا ناقل وجامع لبعض ما قيل فيه.
وردت هذه الرواية بست روايات مختلفة متقاربة في اللفظ والمعنى، وسأسردها كلها إن شاء الله ونناقشها نقاشاً علمياً من حيث السند حتى نعرف مدى ما تقوم عليه هذه الروايات من حيث الصحة والضعف أو الوضع:
1-
الرواية الأولى:
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" قال الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي المتوفى سنة 463هـ في كتابه (جامع بيان العلم وفضله)(1) قال أخبرنا محمد بن إبراهيم بن سعد قراءة مني عليه أن محمد بن أحمد بن يحيى حدثهم قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن أيوب الرقي قال لنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار سألتهم عما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما مثل أصحابي كمثل النجوم أو أصحابي كالنجوم فبأيها اقتدوا اهتدوا".
قال ابن عبد البر: "وهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وربما رواه عبد الرحيم عن أبيه عن ابن عمر وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم". اهـ.
وسنعرف حالة عبد الرحيم بن زيد هذا بعرضه على كتب أئمة الجرح والتعديل كيف تناولوه وشرحوه هذا التشريح، قال الحافظ ابن حجر:"عبد الرحيم بن زيد بن الحواري العمي بفتح المهملة وتشديد الميم البصري أبو زيد كذبه ابن معين من الثامنة مات سنة أربع وثمانين". اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر أيضاً في تهذيب التهذيب: "عبد الرحيم بن زيد بن الحواري العمي البصري أبو زيد روى عن أبيه ومالك بن دينار وعنه أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي وأبو إبراهيم الترجماني وغيرهم"، قال الدوري عن ابن معين:"إنه ليس بشيء"، وقال الجوزجاني:"غير ثقة"، وقال أبو زرعة:"واه ضعيف الحديث"، وقال أبو حاتم:"يترك حديثه منكر الحديث كان يفسد أباه يحدث عنه بالطامات"، وقال الإمام البخاري:"تركوه"، وقال أبو داود:"ضعيف"،وقال النسائي:"متروك الحديث"، وقال مرة:"ليس بثقة ولا مأمون ولا يكتب حديثه"، وقال ابن عدي:"يروي عن أبيه عن شقيق عن عبد الله غير حديث منكر وله أحاديث لا يتابعه عليها الثقات"، وقال العقيلي: قال ابن معين: "كذاب خبيث"، وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه:"ضعيف"، وقال الساجي:"عنده مناكير". اهـ. من تهذيب التهذيب، وذكره الحافظ الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) ج2 ص605 وذكر بعض أقوال العلماء التي ذكرا الحافظ ثم ذكر بعضاً من رواياته الموضوعة ثم قال ومن مروياته حديث:"أصحابي بمنزلة النجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم".
2-
الرواية الثانية:
وبإسناد آخر روى ابن عبد البر النمري القرطبي في كتابه جامع بيان العلم وفضله (1) من طريق سلام بن سليم قال حدثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعاً: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" قال ابن عبد البر: "هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول"، قال الحافظ ابن حزم الأندلسي في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) قال:"هذه رواية ساقطة أبو سفيان ضعيف والحارث ابن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة وهذا منها بلا شك". اهـ. ولنأخذ رجلاً واحداً من السند هو سلام بن سليمان قال الحافظ ابن حجر العسقلاني قال: "سلام بن سليم أو ابن سلم أو ابن سليمان والصواب أبو سليمان ويقال أبو عبد الله وهو سلام الطويل خراساني الأصل، روى عن حميد الطويل، وثور ابن يزيد الرجي وجعفر بن محمد الصادق وغيرهم وعنه - أي وروى عنه - عبد الرحمن ابن ثابت بن ثوبان وعبد الرحم بن محمد المحاربي وقبيصة بن عقبة وعلي بن الجعد وغيرهم"، قال فيه الإمام أحمد:"روى أحاديث منكرة"،وقال ابن أبي مريم عن ابن معين:"له أحاديث منكرة"، وقال الدوري وغيره عن ابن معين:"ليس بشيء"، وقال ابن المديني:"ضعيف"، وقال ابن عمار:"ليس بحجة"، وقال الجوزجاني:"ليس بثقة"، وقال البخاري:"تركوه"، وقال مرة:"يتكلمون فيه"، وقال أبو حاتم:"ضعيف الحديث تركوه"، وقال أبو زرعة:"ضعيف"، وقال النسائي:"متروك"، وقال مرة:"ليس بثقة ولا يكتب حديثه"، وقال ابن خراش:"كذاب"، وقال ابن حبان:"روى عن الثقات الموضوعات كأنه كان المعتمد لها وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس: "وقت للنفساء أربعين يوماً". اهـ.
هذا خلاصة ما قيل فيه من أقوال أئمة الجرح والتعديل عن كتاب تهذيب التهذيب وعرفنا الرجل الآخر في السند هو الحارث بن غصين وهو أبو وهب الثقفي وهو مجهول ولا يحتج بالمجاهيل فضلا عن الضعفاء والكذابين والمتروكين.
3-
الرواية الثالثة:
من طريق سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً: "مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحدكم في تركه فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني ماضية فمما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيها أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة". الحديث أورده السيوطي في رسالة (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب) وأورد الجملة الأخيرة منه الإمام الغزالي في الإحياء ج1 ص25 قال الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء: "إسناده ضعيف، ومعروفة بضاعة الغزالي في الحديث".
قلت: ليس هو ضعيفاً فقط بل هو موضوع لأن رواته كلهم متروكون، الأول فيه سليمان بن أبي كريمة قال الحافظ الذهبي قال:"سليمان بن أبي كريمة شامي روى عن هشام ابن عروة وهشام بن حسان وأبي قرة وخالد بن ميمون وعنه صدقة بن عبد الله وعمرو ابن هشام البيروني قال: ضعفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير".
وقال ابن أبي حاتم: "ضعيف جداً"، ثم قال الذهبي:"ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً".
ومن مناكيره حديث: "لكل أمة يهود ويهود أمتي المرجئة"اهـ. ملخصاً من ميزان الاعتدال، والرجل الثاني في السند هو جويبر بن سعد الأزدي قال الذهبي:"جويبر بن سعيد أبو القاسم الأزدي البلخي المفسر صاحب الضحاك قال فيه ابن معين: "ليس بشيء"، وقال الجوزجاني: لا يشتغل به، وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: "متروك الحديث"، وقال أبو قدامة السرخسي: قال يحيى القطان: "تساهلوا في أخذ التفسير عن القوم لا تولعوهم في الحديث ثم ذكر ليث بن أبي سليم وجويبر هذا والضحاك ومحمد بن السائب وقال هؤلاء لا يحمد حديثهم ويكتب التفسير عنهم". اهـ.
والضحاك هو ابن مزاحم الهلالي لم يلق ابن عباس، بعد هذا العرض السريع لرجال هذا السند تبين لنا أن الرواية ساقطة لا تقوم بها حجة في ميزان العلم الصحيح والنقد النزيه.
4-
الرواية الرابعة:
روى ابن عساكر في تاريخه من طريق نعيم بن حماد، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعاً قوله:"سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى".
الحديث أورده الإمام السيوطي في الجامع الصغير برواية السجزي في الإبانة وابن عساكر عن عمر رضي الله عنه، ورمز إليه السيوطي بالضعف، قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي صاحب كتاب فيض القدير شرح الجامع الصغير حول الحديث عن السجزي في كتاب الإبانة عن أصول الديانة وابن عساكر في التاريخ في ترجمة زيد الحواري وكذا البيهقي وابن عدي كلهم عن عمر بن الخطاب. قال ابن الجوزي في العلل:"هذا لا يصح نعيم مجروح وعبد الرحيم قال ابن معين إنه كذاب وفي الميزان هذا الحديث باطل"، وقال ابن معين وابن حجر في تخريج المختصر حديث غريب سئل عنه البزار فقال:"لا يصح هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم". اهـ. ملخصاً.
وقد تقدم الكلام في الرواية الأولى حول عبد الرحيم بن زيد هذا وأقوال العلماء فيه فلا نعيده هنا، ونعيم بن حماد الخزاعي هو أبو عبد الله المروزي نزيل مصر، وقد تكلم حوله الحافظ الذهبي في الميزان كلاماً طويلاً، فمنهم المادح له ومنهم القادح فيه والذام له، وخلاصة القول فيه أنه كان ثقة وكان يروي المناكير قال محمد بن علي المروزي: سألت يحيى بن معين عن بعض أحاديث رواها نعيم بن حماد قال: "ليس لها أصل"، قلت: فنعيم قال: ثقة، قلت: كيف يحدث الثقة بباطل، قال شبه له"، قال أبو داود: "كان عند نعيم ابن حماد نحو من عشرين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل"، وقال النسائي: "هو ضعيف ومن مناكيره القبيحة المروية عنه حديث: "رأيت ربي في أحسن صورة شاباً موقراً رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب". اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: "كان يخطئ كثيراً فقيه عارف بالفرائض". اهـ.
وإذا رجعنا إلى القاعدة الأصولية في مصطلح الحديث فيما اختلف العلماء في توثيقه أو ضعفه فإن القاعدة تقول إن الجرح مقدم على التعديل وخاصة إذا بين الجارح سبب الجرح في الراوي، ولأن الجارح يطلع على أحوال الراوي ما لم يطلع عليه غيره، بهذا نعرف منزلة الراوية أنها ضعيفة بل موضوعة بسبب هذا الكذاب فيها هو عبد الرحيم بن زيد.
5-
الرواية الخامسة:
"أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"الحديث أورده ابن عراق في كتابه العظيم تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، وكذلك السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ص 201، وأورده الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 397، قال الشوكاني قال في المختصر:"هو من نسخة نبيط المكذوبة"قال الأستاذين المعلقين على كتاب الشوكاني ما يأتي: "في الأصلين الكذاب وهو وهم نبيط صحابي وإنما جاء الكذب من بعض ذريته وهو أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط لفق نسخة رواها عن أبيه عن جده عن نبيط وقد ذكرها السيوطي في أواخر الذيل". اهـ.
وأورد الشيخ الفاضل ناصر الدين الألباني الحديث في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة كما أورد كل هذه الروايات المتقدمة إنما أحببت أن أعيد القارئ الكريم إلى أصل مرجع أئمة الجرح والتعديل في مثل هذه الأحوال وأشار الشيخ الألباني في هذه الرواية إلى الفرق بين نبيط الصحابي ونبيط الكذاب، وقال:"وقد وقفت على نسخة أحمد بن نبيط الكذاب وهي من رواية أبي نعيم الأصبهاني قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن القاسم بن الريان المصري المعروف بـ (اللكي) بالبصرة في نهر دبيس قراءة عليه في صفر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فأقر به قال: أنبأنا أحمد بن إبراهيم بن نبيط بن شريط أبو جعر الأشجعي بمصر سنة اثنتين وسبعين ومائتين قال: حدثني أبي إسحاق بن إبراهيم بن نبيط قال: حدثني أبي إبراهيم بن نبيط عن جده نبيط بن شرط مرفوعاً فذكر أحاديث كثيرة هذا منها" اهـ.
قال الذهبي: "في نسخة أحمد بن نبيط هذا فيها بلايا وأحمد بن إسحاق لا يحل الاحتجاج به فإنه كذاب وأقره الحافظ في اللسان، والراوي أحمد بن القاسم ضعيف"، وأحمد ابن القاسم هذا قال عنه الذهبي في الميزان أحمد بن القاسم بن الريان (اللكي) له جزء عال رواه عنه أبو نعيم الحافظ لينه الأمير ابن ماكولا.
وقال الحسن بن علي بن عمرو الزهري: "ليس بالمرضي وضعفه الدارقطني في المؤتلف والمختلف". اهـ.
6-
الرواية السادسة:
"إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم" الحديث رواه ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) من طريق أبي شهاب الحناط عن حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً ثم قال ابن عبد البر: "وهذا إسناد لا يصح ولا يرويه عن نافع من يحتج به"، قلت وآفة هذه الرواية حمزة بن أبي حمزة الجزري النصيبي، قال الذهبي في الميزان قال ابن معين:"لا يساوي فلساً". وقال الإمام البخاري: "منكر الحديث"، وقال الدارقطني:"متروك"، وقال ابن عدي:"عامة ما يرويه موضوع"، ثم سرد الذهبي بعضاً من مروياته الموضوعة منها هذه الرواية: "أصحابي كالنجوم
…
".
وقال الحافظ في التقريب: "حمزة بن أبي جعفر الجعفي متروك متهم بالوضع"، وقال ابن حبان:"ينفرد عن الثقات بالموضوعات حتى كأنه المعتمد لها ولا تحل الرواية عنه".اهـ.
قال الحافظ ابن حزم الأندلسي وكتب إلي أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري إن هذا الحديث روي أيضاً من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي ومن طريق حمزة الجزري قال: "وعبد الرحيم بن زيد وأبوه متروكان وحمزة الجزري مجهول"، وقد عرفنا حالة كل واحد منهم.
قال ابن حزم: "فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلاً بل لا شك أنها مكذوبة لأن الله تعالى يقول في صفة نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} فإذا كان كلامه عليه السلام في الشريعة حقا كله ووحياً فهو من الله تعالى بلا شك، وما كان من الله تعالى فلا اختلاف فيه بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} ".
إلى أن قال: "فمن المحال أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع كل قائل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيهم من يحلل الشيء وغيره يحرمه ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالاً اقتداء بسمرة بن جندب رضي الله عنه، ولكان أكل البرد للصائم حلالاً بأبي طلحة وحراماً بغير منهم، ولكان ترك الغسل من الإكسال جائزاً اقتداء بعلي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب وحراماً اقتداء بعائشة وابن عمر ولكان بيع التمر قبل ظهور الطيب فيها حلالاً اقتداء بعمر حراماً اقتداء بغيره منهم، ثم استطرد ابن حزم في ضرب الأمثلة، وقال: وكل هذا مروي عندنا بالأسانيد الصحيحة تركناها خوف التطويل وقد كان الصحابة يقولون بآرائهم في عصره عليه الصلاة والسلام فيبلغه ذلك فيصوب المصيب ويخطئ المخطئ، فذلك بعد موته عليه السلام أفشى وأكره."اهـ ملخصاً من كلام ابن حزم رحمه الله ومن أراد التفصيل فعليه بالكتاب المشار إليه.
بعد هذا ليس على الباحث المنصف وطالب الحق إذا قال بعد اطلاعه على هذه الأحاديث الموضوعة المكذوبة ليس عليه شيء إذا قال: لا يصح في هذا الباب حديث واحد بهذه الروايات، وبهذا نتبين أن الله حفظ هذه الشريعة الغراء من كيد الدساسين الوضاعين والكذابين الآثمين، وإن الله قيض لهذا الدين جهابذة يدافعون في سبيله وينافحون عما علق به من الكذب والأباطيل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
إلى الإسلام
أعتقد أنه لا خير لنا في واحد من هذه النظم جميعاً، فلكل منها عيوبه الفاحشة، كما له حسناته البادية، وهي نظم نبتت في غير أرضنا لأوضاع غير أوضاعنا ومجتمعات فيها غير ما في مجتمعنا.. فضلاً عن أن بين أيدينا النظام الكامل الذي يؤدي إلى الإصلاح الشامل في توجيهات الإسلام الحنيف، وما وضع للاقتصاد القومي كلية أساسية لو علمناها وطبقناها تطبيقاً سليماً، لانحلت مشكلاتنا، ولظفرنا بكل ما في هذه النظم من حسنات، وتجنبنا كل ما فيها من سيئات، وعرفنا كيف يرتفع مستوى المعيشة وتستريح كل الطبقات، ووجدنا أقرب الطرق إلى الحياة الطيبة.
(من مجموعة رسائل البنا)
---
(1)
ج2ص90 المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
(2)
في تقريب التهذيب ج1 ص504.
(3)
ج6 ص305.
(4)
ج2 ص91.
(5)
ج6 ص810 بتعليق الشيخ أحمد شاكر.
(6)
تهذيب التهذيب ج4 ص281.
(7)
في ميزان الاعتدال ج2 ص221 من الطبعة الجديدة بتحقيق الشيخ علي محمد البجاوي.
(8)
ميزان الاعتدال ج1 ص427.
(9)
انظر: فيض القدير ج4 ص76.
(10)
ج4 ص267.
(11)
التقريب ج2 ص305.
(12)
ج1 ص419.
(13)
ج1 ص128.
(14)
ج1 ص90.
(15)
ج1 ص606.
(16)
الإحكام في أصول الأحكام ج6 ص810.
(17)
ولا يغتر القارئ بتعدد روايات هذا الحديث لأن المتعدد لا يجدي نفعاً إذا كان مدار كل رواية على كذاب أو متهم أو فاحش الغلط فمثل هذا النوع لا يقوي بعضه بعضاً لأنه يكون من (مثقل استعان بذقنه) .
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
وردت إلينا أسئلة من بعض مناطق اليمن، وفيما يلي نص الأسئلة والإجابة عليها:
س1- ما حكم الأذان والإقامة في قبر الميت عند وضعه فيه؟
ج - لا ريب أن ذلك بدعة ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن ذلك لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، والخير كله في اتباعهم، وسلوك سبيلهم قال الله سبحانه:
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق على صحته، وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة والسلام:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الجمعة: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " خرجه مسلم في حديث جابر رضي الله عنه.
س2- ما حكم التلفظ بالنية جهراً في الصلاة؟
ج - التلفظ بالنية بدعة، والجهر بذلك أشد في الإثم، وإنما السنة النية بالقلب لأن الله سبحانه يعلم السر وأخفى، وهو القائل عز وجل:
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن الأئمة المتبوعين التلفظ بالنية، فعلم بذلك أنه غير مشروع، بل من البدع المحدثة، وسبق في جواب السؤال الأول بيان الأدلة الدالة على إنكار البدع، والله ولي التوفيق.
س3- ما حكم رفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والترضي عن الخلفاء الراشدين بين ركعات التراويح؟
ج - لا أصل لذلك - فيما نعلم - من الشرع المطهر، بل هو من البدع المحدثة، فالواجب تركه، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وهو اتباع الكتاب والسنة، وماسار عليه سلف الأمة، والحذر مما خالف ذلك.
س4- ما حكم الجهر بالبسملة في الصلاة عند قراءة الفاتحة وغيرها من السور؟
ج - اختلف العلماء في ذلك، فبعضهم استحب الجهر بها، وبعضهم كره ذلك وأحب الإسرار بها وهذا هو الأرجح والأفضل لما ثبت في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم" وجاء في معناه أحاديث، وورد في بعض الأحاديث ما يدل على استحباب الجهر ولكنها أحاديث ضعيفة، ولا نعلم في الجهر بالبسملة حديثاً صحيحاً صريحاً يدل على ذلك، ولكن الأمر في ذلك واسع وسهل ولا ينبغي فيه النزاع، وإذا جهر الإمام بعض الأحيان بالبسملة ليعلم المأمومون أنه يقرأها فلا بأس، ولكن الأفضل أن يكون الغالب الإسرار بها عملاً بالأحاديث الصحيحة.
س5- ما حكم ما جرت به عادة بعض الناس من ذبح الإبل، والغنم، وإقامة وليمة عند موت الميت يجتمع فيها المعزون وغيرهم ويقرا فيها القرآن؟
ج - هذا كله بدعة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم، وقد ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي الصحابي الشهير رضي الله عنه، قال:"كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة". أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجة بسند صحيح، وإنما المشروع أن يصنع الطعام لأهل الميت، ويبعث به إليهم من أقاربهم أو جيرانهم أو غيرهم لكونهم قد شغلوا بالمصيبة عن إعداد الطعام لأنفسهم لما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه، قال: لما أتى نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم"، أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة بإسناد صحيح، وهذا العمل - مع كونه بدعة - فيه أيضاً تكليف أهل الميت وإتعابهم مع مصيبتهم، وإضاعة أموالهم في غير حق، والله المستعان.
س6- هل على السيارات التجارية التي تسافر وتجلب الحبوب، وغيرها زكاة، وهكذا ما أشبهها من الجمال؟
ج - ليس على السيارات والجمال المعدة لنقل الحبوب، والأمتعة، وغيرها من بلاد إلى بلاد زكاة لكونها لم تعد للبيع وإنما أعدت للنقل والاستعمال، أما إن كانت السيارات معدة للبيع، وهكذا غيرها من الجمال، والحمير، والبغال، وسائر الحيوانات التي يجوز بيعها إذا كانت معه للبيع فإنها تجب فيها الزكاة لأنها صارت بذلك من عروض التجارة فوجبت فيها الزكاة لما روى أبو داود، وغيره عن سمرة بن جندب، رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع، وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم، وحكاه الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله إجماع أهل العلم.
س7- بلادنا تنتج الحب، والعملة عندنا بالحبوب لقلة النقود، فإذا جاء وقت البذر اشترينا من التجار الصاع بريال، فإذا جاء وقت الحصاد وصفيت الحبوب سلمنا للتجار عن كل ريال صاعين مثلاً لأن السعر في وقت الحصاد أرخص منه في وقت البذر، فهل يجوز هذه المعاملة؟
ج - هذه المعاملة فيها خلاف بين العلماء، وقد رأى كثير منهم أنها لا تجوز لأنها وسيلة إلى بيع الحنطة ونحوها بجنسها متفاضلاً ونسيئة، وذلك عين الربا من جهتين: جهة التفاضل، وجهة التأجيل، وذهب جماعة آخرون من أهل العلم إلى أن ذلك جائز إذا كان البائع والمشتري لم يتواطأ على تسليم الحنطة بدل النقود، ولم يشترطا ذلك عند العقد، هذا هو كلام أهل العلم في هذه المسألة، ومعاملتكم هذه يظهر منها التواطؤ على تسليم حب أكثر بدل حب أقل لأن النقود قليلة وذلك لا يجوز، فالواجب على الزارع في مثل هذه الحالة أن يبيعوا الحبوب على غير التجار الذين اشتروا منهم البذر، ثم يوفوهم حقهم نقداً، هذا هو طريق السلامة والاحتياط والبعد عن الربا، فإن وقع البيع بين التجار وبين الزراع بالنقود، ثم حصل الوفاء من الزراع بالحبوب من غير تواطئ، ولا شرط فالأقرب صحة ذلك كما قاله جماعة من العلماء، ولا سيما إذا كان الزارع فقيراً ويخشى التاجر أنه إن لم يأخذ منه حباً بالسعر بدل النقود التي في ذمته فات حقه ولم يحصل له شيء لأن الزارع سوف يوفي به غيره ويتركه أو يصرفه - أي الحب - في حاجات أخرى، وهذا يقع كثيراً من الزراع الفقراء، ويضيع حق التجار، أما إذا كان التجار والزراع قد تواطأوا على تسليم الحب بعد الحصاد بدلاً من النقود فإن البيع الأول لا يصح من أجل التواطئ المذكور، وليس للتاجر إلا مثل الحب الذي سلم للزارع من غير زيادة تنزيلا له منزلة القرض لعدم صحة البيع مع التواطئ على أخذ حب أكثر.
س8- لمس المرأة بشهوة أو بدون شهوة سواء كانت امرأته أو غيرها هل ينقض الوضوء؟
ج - هذه المسالة فيها خلاف بين العلماء، والصواب أنه لا ينقض الوضوء سواء كان بشهوة أو بدونها، وسواء كان اللمس لامرأته أو غيرها إذا لم يخرج منه مذي أو غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ، ولأن الأصل صحة الطهارة وسلامتها فلا يجوز إبطالها إلا بناقض ثابت في الشرع، وليس في الشرع المطهر ما يدل على النقض بمجرد اللمس، أما قوله سبحانه:{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فالمراد به الجماع في أصح قولي العلماء كما قاله ابن عباس، وجماعة من العلماء، وليس المراد به مجرد اللمس، ولو كان المراد به مجرد المس لبينه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، لأن الله سبحانه بعثه مبلغاً ومعلماً، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ، وذلك يبين معنى الآية الكريمة، والله أعلم.
س9- هل التسبيح برفع الصوت يوم الجمعة قبل الصلاة بساعة أو أكثر سنة أم بدعة؟
ج - لا شك أن هذا العمل بدعة، لأنه لم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه أنهم فعلوا ذلك، والخير كله في اتباعهم، أما من سبح بينه وبين نفسه فلا بأس بذلك بل فيه خير عظيم، وثواب جزيل لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، وقال عليه الصلاة والسلام:"كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، والأحاديث في فضل أنواع الذكر كثيرة.
س10- يكثر بين الناس عندنا الحلف بالطلاق، والحرام، فما حكم ذلك؟
ج - أما الحلف بالطلاق فهو مكروه لا ينبغي فعله لأنه وسيلة إلى فراق الأهل - عند بعض أهل العلم - ولأن الطلاق أبغض الحلال إلى الله، فينبغي للمسلم حفظ لسانه من ذلك إلا عند الحاجة إلى الطلاق، والعزم عليه في غير حال الغضب، والأولى الاكتفاء باليمين بالله سبحانه إذا أحب الإنسان أن يؤكد على أحد من أصحابه أو ضيوفه للنزول عنده للضيافة أو غيرها، أما في حال الغضب فينبغي له أن يتعوذ بالله من الشيطان، وأن يحفظ لسانه وجوارحه عما لا ينبغي، أما التحريم فلا يجوز سواء كان بصيغة اليمين أو غيرها؛ لقول الله سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية.
ولأدلة أخرى معروفة، ولأنه ليس للمسلم أن يحرم ما أحل الله له، أعاذ الله الجميع من نزغات الشيطان.
س11- إذا تخاصم قبيلتان أو شخصان حكم شيخ القبيلة على المدعى عليه بعقائر من الإبل أو الغنم تعقر وتذبح عند من له الحق إلى آخره؟
ج - الذي يظهر لنا من الشرع المطهر أن هذه العقائر لا تجوز لوجوه، أولها: أن هذا من سنة الجاهلية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا عقر في الإسلام".
والثاني: أن هذا العمل يقصد منه تعظيم صاحب الحق، والتقرب إليه بالعقيرة، وهذا من جنس ما يفعله المشركون من الذبح لغير الله، ومن جنس ما يفعله بعض الناس من الذبح عند قدوم بعض العظماء، وقد قال جماعة من العلماء: إن هذا يعتبر من الذبح لغير الله، وذلك لا يجوز بل هو في الجملة من الشرك، كما قال الله سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
والنسك هو الذبح، قرنه الله بالصلاة لعظم شأنه فدل ذلك على أن الذبح يجب أن يكون لله وحده، كما أن الصلاة لله وحده، وقال تعالى:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله".
الوجه الثالث: أن هذا العمل من حكم الجاهلية، وقد قال الله سبحانه:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وفيه مشابهة لأعمال عباد الأموات، والأشجار، والأحجار كما تقدم، فالواجب تركه وفيما شرع الله من الأحكام، ووجوه الإصلاح ما يغني ويكفي عن هذا الحكم، والله ولي التوفيق.
س12- قد اشتهر عندنا أن الرجل إذا غاب عن بلاده ثم قدم أن النساء من جماعته يأتين إليه ويسلمن عليه ويقبلنه، وهكذا في الأعياد، عيد الفطر، وعيد الأضحى، فهل هذا مباح؟
ج - قد علم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أن المرأة ليس لها أن تصافح أو تقبل غير محرمها من الرجال سواء كان ذلك في الأعياد أو عند القدوم من السفر أو لغير ذلك من الأسباب، لأن المرأة عورة، وفتنة، فليس لها أن تمس الرجل الذي ليس محرماً لها سواء كان ابن عمها أو بعيداً منها، وليس لها أن تقبله أو يقبلها، لا نعلم بين أهل العلم رحمهم الله خلافاً في تحريم هذا الأمر وإنكاره، لكونه من أسباب الفتن، ومن وسائل ما حرم الله من الفاحشة، والعادات المخالفة للشرع لا يجوز للمسلمين البقاء عليها، ولا التعلق بها بل يجب عليهم أن يتركوها، ويحاربوها ويشكروا الله سبحانه الذي من عليهم بمعرفة حكمه ووفقهم لترك ما يغضبه، والله سبحانه بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم سيدهم وخاتمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لدعوة الناس إلى توحيده سبحانه، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، ومحاربة العادات السيئة التي تضر المجتمع في دينه، ودنياه، ولا شك أن هذه العادة من العادات السيئة، فالواجب تركها، ويكفي السلام بالكلام من غير مس، ولا تقبيل، وفيما شرع الله وأباح غنية عما حرم وكره، وكذلك يجب أن يكون السلام مع التحجب ولا سيما من الشابات لأن كشف الوجه لا يجوز لكونه من أعظم الزينة التي نهى عن إبدائها، قال الله تعالى:{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنّ} إلى آخر الآية الكريمة، وقال تعالى في سورة الأحزاب:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً} وقال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ
مِنَ النِّسَاءِ اللَاّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
والقواعد من العجائز، بين الله سبحانه أن لا حرج عليهن في وضع ثيابهن عن الوجه ونحوه إذا كن غير متبرجات بزينة، وأن التستر والتحجب خير لهن لما في ذلك من البعد عن الفتنة، أما مع التبرج بالزينة فليس لهن وضع الثياب بل يجب عليهن التحجب والتستر وإن كن عجائز، فعلم بذلك كله أن الشابات يجب عليهن التحجب عن الرجال في جميع الأحوال سواء كن متبرجات بالزينة أم غير متبرجات لأن الفتنة بهن أكبر، والخطر في سفورهن أعظم، وإذا حرم سفورهن فتحريم الملامسة، والتقبيل من باب أولى لأن الملامسة والتقبيل أشد من السفور، وهما من نتائجه السيئة وثمراته المنكرة، فالواجب ترك ذلك كله، والحذر منه، والتواصي بتركه وفق الله الجميع لما فيه رضاه، والسلامة من أسباب غضبه إنه جواد كريم، والذي أوصي به الجميع هو تقوى الله سبحانه، والمحافظة على دينه، ومن أهم ذلك وأعظمه المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، وأداؤها بالخشوع والطمأنينة، والمسارعة من الرجال إلى أدائها في الجماعة في مساجد الله التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما قال الله سبحانه:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
ومن الأمور المهمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والصبر عليه، وهذه هي أخلاق المؤمنين والمؤمنات، وصفاتهم كما بين الله ذلك في قوله عز وجل:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه وأن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في مناسبات الآيات والسور (3)
آراء العلماء في المناسبات
للشيخ أحمد حسن
إذا تأملنا ما كتبه العلماء حول المناسبات أمكننا أن نميز فيه اتجاهات أربعة، وسنعرض أولاً آراء هذه الاتجاهات ثم مناقشتها ونرجح ما نراه أولى وأقرب إلى الصواب.
الإتجاه الأول:
يقول بعدم المناسبة أصلاً ونمثل له بالشوكاني حيث تعرض لهذا الموضوع في تفسيره المسمى (فتح القدير) ص 72 من المجلد الأول وأنحى باللائمة على المفسرين الذين يقولون بالمناسبة، يقول الشوكاني: "اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات وتعسفات يبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب سبحانه وحتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه حسبما ذكر في خطبته وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال مفرقاً ينزل حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن قبضه الله عز وجل، وكل عاقل فضلاً عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها بل وقد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالاً وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله.
وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين وتارة مع من مضى وتارة مع من حضر وحيناً في عبادة وحيناً في معاملة ووقتاً في ترغيب ووقتاً في ترهيب وآونة في بشارة وآونة في نذارة وطوراً في أمر دنيا وطوراً في أمر آخرة ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية، وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يسير معه الأئتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتبار نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون والماء والنار والملاح والملاح والحادي وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة وتبين الأمر الموجب للارتباط فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفاً محضاً وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة.
هذا على فرض أن نزول القرآن الكريم كان مرتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول المطلعين على حوادث النبوة فإنه ينثلج صدره ويزول عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة فضلاً عن المطولة لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزلت فيها في الترتيب بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وبعده {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} وينظر أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف؟ وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً وتأخر ما أنزله الله متقدماً فإن هذا العمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمره وأحقر فائدته بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً وأخرى هجاء وحيناً نديباً وحيناً رثاء وغير ذلك من الأنواع المتخالفة فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ثم تكلف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله متلاعباً بأوقاته عابثاً بعمره الذي هو رأس
ماله وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب وأبكت بفصاحته فصحاء عدنان وقحطان وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي وأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسلكهم في الكلام وجرى به مجاريهم في الخطاب وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين فضلاً عن المقامات فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حيا وكذلك شاعرهم.
ونكتفي بهذا التبيين على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام، فإذا قال متكلف كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا لا كيف".
فدع عنك نهبا صيح في حجراته
وهات حديثا ما حديث الرواحل
الإتجاه الثاني:
اتجاه يقول بالمناسبة في حال دون حال ويمثل هذا الاتجاه الشيخ العز بن عبد السلام حيث يقول: "المناسبة علم حسن ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر".
قال: "ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلاً عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ولأسباب مختلفة وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض، إذ لا يحسن أن تربط تصرف الإله في خلقه وأحكامه بعضها ببعض مع اختلاف العلل والأسباب كتصرف الملوك والحكام وتصرف الإنسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة، وليس لأحد أن يطلب ربط بعض تلك التصرفات مع بعض مع اختلافها في نفسها واختلاف أوقاتها".
الاتجاه الثالث:
هو الذي يقول بالمناسبة ويمثل جمهور الذين بحثوا في هذا الموضوع وهم يرون أن هذا العلم قد خفي على كثير من المفسرين لدقته، يقول الفخر الرازي في تفسيره:"أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"وقال بعض الأئمة: "من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض لئلا يكون منقطعاً وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم، وفوائده غزيرة". قال القاضي أبو بكر بن العربي في (سراج المريدين) : "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ثم فتح الله عز وجل لنا فيه فلم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه".
وقال بعض المشايخ المحققين: "قد وهم من قال لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيباً فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، وحافظ القرآن العظيم لو استفتي في أحكام متعددة أو ناظر فيها، أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سئل وإذا رجع إلى التلاوة لم يمثل كما أفتى، ولا كما نزل مفرقاً بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة ومن المعجز البين أسلوبه الباهر فإنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .
الاتجاه الرابع:
هو الذي يقول بأكثر من المناسبة أنه بـ (النظام) الذي تعتبر المناسبة جزءاً من أجزائه وفرعاً من فروعه، ويمثل هذا الاتجاه المعلم عبد الحميد الفراهي الهندي ويقرب منه الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) يقول الفراهي في معرض بيان الفرق بين المناسبة والنظام:"قد صنف بعض العلماء في تناسب الآي والسور وأما الكلام في نظام القرآن فلم أطلع عليه، والفرق بينهما أن التناسب إنما هو جزء من النظام فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئاً واحداً مستقلا بنفسه، وطالب التناسب ربما يقنع بمناسبة ما وربما يغفل عن المناسبة التي ينتظم بها الكلام فيصير شيئاً واحداً، وربما يطلب المناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها، فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بعد منها ولولا ذلك لما عجز الأذكياء عن إدراك التناسب فأنكروه، فإن عدم الاتصال بين آيات متجاورة يوجد كثيراً ومنها ما ترى فيه اقتضابا بيناً وذلك إذا كانت الآية أو جملة من الآيات متصلة بالتي على بعد منها، وبالجملة فمردانا بالنظام أن تكون السورة كلاماً واحداً ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة أو بالتي قبلها أو بعدها على بعد ما، كما قدمنا في نظم الآيات بعضها مع بعض فكما أن الآيات ربما تكون معترضة فكذلك ربما تكون السور معترضة. وعلى هذا الأصل ترى القرآن كله كلاماً واحداً ذا مناسبة وترتيب في أجزائه من الأول إلى الآخر فتبين مما تقدم أن النظام شيء زائد على المناسبة وترتيب الأجزاء".
ويوضح الفراهي هذه الفكرة في كتابه الذي ألفه لهذا الغرض والمسمى (دلائل النظام) حيث يثبت أن للترتيب والنظام حظاً وافراً في كل مركب لا سيما في الكلام البليغ ولا سيما في هذا القرآن الكريم والذين يزعمون خلاف ذلك فإنهم قد أخطأوا في زعمهم ولم ينصفوا كتاب الله. ثم صرح بعد ذلك بأن القرآن الحكيم كلام منظم ومرتب من أوله إلى آخره على غاية حسن النظم والترتيب وليس فيه شيء من الاقتضاب لا في آياته ولا في سوره بل آياته مرتبة في كل سورة كالفصوص في الخواتم وسورة منظمة في سلك واحد كالدرر في القلائد حتى لو قدم ما أخر أو أخر ما قدم لبطل النظام، وفسدت بلاغة الكلام بل ربما يعود إلى قريب من الهذيان.
ويبين الفراهي في موضع آخر من كتابه كيف اهتدى إلى هذا العلم فيقول:
"وقد يسر لي بمحض نعمته فهم نظم القرآن في سورة البقرة وسورة القصص من نفس القرآن وإني كنت مولعاً بتلاوته وهو أحب الكتب وألذها عندي - ولله الحمد - وقد كنت أسمع أن القرآن الكريم أشت الكتب نظماً، لنزوله نجماً نجْماً ولكن بعد ما ظهر في النظام في سورتين حثني على التدبر في باقيها وكنت في حدث السن وعز الفرصة، فمضت بضع عشرة سنة حتى وفقني الله تعالى أن ابتدأت من أول القرآن ويسر لي الإتمام في سنة كاملة وهممت أن أبرزه للناس فردعني عظم الذمة وروعني كبر المغبة، فمكثت أراجع فيه النظر مرة بعد مرة أمداً طويلاً مستعيذاً بالله من ظلمات النفس وغوايات الجهل ومع ذلك وددت لو طويته على غره وسكت عن حلوه ومره ونجوت من إثمه وبره ولكن اضطرني إليه أمور:
الأول:
أني رأيت اختلاف الآراء في التأويل من عدم التزام رباط الآيات، فإنه لو ظهر النظام واستبان لنا عمود الكلام، لجمعنا تحت راية واحدة وكلمة سواء {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} وجعلنا معتصمين بحبل كتابه، كما قال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وكيف الخلاص عن التفرق الأصلي، وقد جعلوا هذا الحبل أشتاتاً في ظنونهم وهو بحمد الله متين {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فيؤوله كل فريق حسب ظنه، ويحرف طريق الكلام عن متنه وبالنظام يتبين سمت الكلام، فينفي عن آيات الله أهواء المبتدعين وانتحال المبطلين وزيغ المنحرفين، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، والذين يقطعون كلام الله عما بين يديه ومن خلفه ويضمون إليه ما يعجب هوى نفوسهم.
والثاني:
أني رأيت الملحدين قد طعنوا في القرآن من جهة سوء النظم ورأيت جمهور علماء المسلمين - عوض الشهادة بالحق والمنافحة عن حقيقة كتاب الله - قد تفوهوا بمثل ما قالوا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وقد علمت حق اليقين أن قولهم باطل وحجتهم داحضة فلم يسعني أن أسكت وأرى الباطل قد عمت بلواه وبلغ السيل زباه.
الثالث:
أنه لا يخفى أن نظم الكلام بعض منه فإن تركته ذهب بعض معناه، فإن للتركيب معنى زائداً على أجزاء الأشتات فلا شك أن من حرم فهم النظام، فقد حرم حظاً وافراً من الكلام ويوشك أن يشبه حاله بمن قبله من أهل الكتاب كما أخبر الله تعالى عنهم:{فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وأخاف أن تكون هذه العداوة والبغضاء التي نراها في المسلمين من هذا النسيان فلا تهدأ عداوتهم ولا يرجعون من اختلافهم وسبب ذلك ما ذكرنا في الأمر الأول؛ لأننا إذا اختلفنا في معاني كلامه اختلفت أهواؤنا، وصرنا مثل أهل الكتاب، غير أن رجاءهم كان بهذا النبي وهذا القرآن الذي يرفع اختلافهم وأما نحن فليس لنا إلا هذا الكتاب المحفوظ".
وهكذا فإن علم النظام الذي اكتشفه الفراهي علم جامع ليس كعلم المناسبة الذي كان مركزاً لأفكار السلف ومطمحاً لأنظارهم؛ لأن التناسب إنما هو جزء من أجزائه والنظام شيء زائد عليه بل أوسع منه وأعم فعلم النظام لا يظهر التناسب وحده بل يجعل السورة كلاماً واحداً، ويعطيها وحدانيتها التي بها صارت سورة كاملة بنفسها ذات عمود تجري إليها أجزاؤها ويربط الآيات بعضها ببعض حتى تأخذ كل آية محلها الخاص ويتعين من التأويلات المحتملة أرجحها فمن تدبر القرآن في ضوء النظام فلا شك أنه لا يخطئ في فهم معانيه وذلك لأن النظام قد يبين له سمت الكلام وينفي عنه تشاكس المعاني ويرد الأمور إلى الوحدة ويسد أبواب الدخول فيه للأهواء حتى يجبره ألا يأخذ إلا بصحيح التأويل ولا يعتمد إلا عليه وهو أعظم مطلوب.
ويقول الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) :
" إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثاً من المعاني حشيت حشواً وأوزاعا من المباني جمعت عفواً فإذا هي - لو تدبرت - بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول وأقيم على كل اصل منها شعب وفصول وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة، لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضام والالتحام كل ذلك بغير تكلف ولا استعانة بأمر خارج المعاني أنفسها وإنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعة وأثنائه يريك المنفصل متصلاً والمختلف مؤتلفاً.
ولماذا نقول إن هذه المعاني تتسق في السورة كما تتسق الحجرات في البنيان؟ لا بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقها تمتد شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين وتؤدي بمجموعها غرضاً خاصاً، كما يأخذ الجسم قواماً واحداً ويتعاون بجملة على أداء غرض واحد مع اختلاف وظائفه العضوية".
---
(1)
الشيخ ولدين الملوي الهندي.
الإسلام والمذاهب الاشتراكية
بقلم فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
الإسلام هو الدين الرباني الذي ختم الله به دعوات الرسل وهدايتهم للبشر وهو دين خالد باق إلى قيام الساعة، له كتاب ضمن الله حفظه من التبديل والتغير والزيادة والنقص، وله سنة محمدية تفسر هذا الكتاب وتوضح معانيه وتبسط أحكامه، وتبين قواعده وتشرح فروعه، ولم يحصل مثل ذلك لأي كتاب من الكتب السماوية السابقة؛ لأنها كانت موقوتة بوقت محدود ينتهي العمل بها بانتهائه، أما القرآن والهداية المحمدية فهما باقيان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، لا ينسخهما ناسخ ولا يحدهما حد ولا يقف في طريقهما شيء، وإن بلغ أعداؤهما في الكيد والمكر كل مبلغ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} - سورة الصف - وقال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وقال تعالى فيها أيضاً: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
فعلى كل من بلغه الإسلام بوجه تقوم به الحجة عليه أن يدخل فيه ويتبعه ويتمسك به وهو دين صالح لكل الشعوب في كل زمان ومكان، ومعناه التسليم والانقياد لأمر الله تعالى باللسان والقلب والجوارح، والإسلام في عقيدته وأحكامه وآدابه وهي الأخلاق وسط بين طرفين لا إفراط فيه ولا تفريط فهو يثبت في عقيدته توحيد الله تعالى في ربوبيته وعبادته وأسمائه وصفاته، لا يعطي منها غير الله سبحانه مثقال ذرة ولو كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو صديقا صالحاً.
فأما توحيد الله في ربوبيته فيتبين في نحو قوله تعالى في سورة المؤمنين: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
هذه محاجة أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحاج المشركين بها فقال له: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعترفون بأن الله رب كل شيء وخالق كل شيء وهو المدبر لشئون الخلق كلهم ومع ذلك يعبدون معه غيره، قل لهم لمن الأرض ومن فيها من حيوان عاقل وغير عاقل ونبات بسائر أنواعه وجماد من خلق ذلكم ومن يملكه ومن يسيره فسيعترفون بأن الله وحده هو الذي يملك الأرض ومن فيها فقل لهم أفلا تذكرون، فلماذا تعبدون معه غيره بالخوف والرجاء والذبح والنذر والدعاء والطلب والالتجاء عند الشدائد والملمات مع أن أولئك الذين تعبدونهم فقراء عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فكيف بغيرهم؟ ثم قال تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} قل لهم يا محمد قل للمشركين من رب السموات وما فيها من الكواكب السيارة والنجوم وغير ذلك من الآيات من خلقها؟ ومن يدبر شؤونها؟ ومن رب العرش العظيم؟ الذي هو سقف المخلوقات ولا يعرف قدره إلا الله فإنهم سيعترفون ويقولون الله هو رب ذلك كله قل أفلا تتقون الله وتتركون ما أنتم عليه من عبادة غيره، ثم قال:{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي من يملك كل شيء وغيره لا يملك شيئاً بل هو نفسه مملوك ومن السيد العظيم الذي يجير أي يحمي من شاء فلا يستطيع أحد أن يناله بأذى ولا يجار عليه ولا يستطيع أحد أن يحمي ويؤمن من أراد الله عذابه أو إهلاكه فسيعترفون ويقولون: الله وحده هو الذي يستطع ذلك، فقل لهم: كيف تذهب عقولكم فتشركون مع الله غيره في عبادته، قال تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
قال في اللسان: "الرب في اللغة يطلق على المالك والسيد المدبر والمربي والقيم والمنعم ولا يطلق على غير مضاف إلا على الله عز وجل".اهـ.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "يخبر تعالى أنه خالق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الذهن أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس. الشهادة.
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال فيه الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، وهذا أحسن ما قيل في تفسيره فإن الاستواء في لغة العرب معلوم معناه وكيفية ذلك لا يعلمها إلا الله واعتقاد السلف الصالح إمراراً آيات الصفات كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل، ثم قال ابن كثير وقوله تعالى:{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} أي يذهب ظلام هذا بضياء هذا وضياء هذا بظلام هذا وكل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً أي سريعاً لا يتأخر عنه بل إذا ذهب هذا جاء هذا وعكسه {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} منهم من نصب ومنهم من رفع وكلاهما قريب المعنى أي الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ولهذا قال منبهاً: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} أي له الملك والتصرف {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} الآية. قال صاحب اللسان: "وتبارك الله تقدس وتنزه وتعالى وتعاظم لا تكون هذه الصفة لغيره".اهـ. والعالمون أجناس الخلق فهو ربهم ومالكهم والمتصرف فيهم وحده لا شريك له. وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} قال ابن كثير: "أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم قيل معناه: تذللاً واستكانة وخيفة كقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية. وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنّ الذي تدعون سميع قريب" الحديث. وعن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون قوم يعتدون في الدعاء
والطهور" اهـ.
فرفع الصوت في الدعاء والابتداع فيه من الاعتداء الذي نهى الله عنه.
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما بعد الإصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الفساد بعد
ذلك كان أضر ما يكون على العباد فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} أي خوفاً مما عنده من وبيل العقاب وطمعاً فيما عنده من جزيل الثواب ثم قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} " قاله ابن كثير في تفسيره. اهـ.
وأما توحيد العبادة فمعناه توحيد التوجه والطلب فإذا تقرر أن الله رب العالمين هو خالقهم ومالكهم ورازقهم ومدبر شؤونهم كلها وهو بكل شيء عليم وهو على كل شيء قدير وجب أن لا يتوجهوا في طلب جلب النفع ودفع الضر إلا إليه ولا يتخذوا من دونه ولياً ولا نصيراً واقتصر في الاستدلال على ذلك بآيتين في سورة فاطر وآيتين في سورة الأحقاف، ففي سورة فاطر قال تعالى بعد ذكر دلائل ربوبيته:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فأخبر سبحانه أن كل من يدعى من دونه كيف ما كانت مرتبته لا يملك للداعي شيئاً من نفع أو ضر وأن غيره لا يسمع دعاء الداعين ولو سمع لم يقدر على إجابتهم ولا إسعافهم بشيء مما طلبوا وإن المدعوين من دونه سواء أكانوا ملائكة أم رسلاً أم صالحين أم غيرهم سيكفرون يوم القيامة بدعاء من دعاهم في الدنيا وسمى دعاءهم شركاً ومعنى يكفرون يتبرأون.
وفي سورة الأحقاف: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} فأخبر سبحانه أنه لا أضل ولا أبعد عن الحق ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة وهو أي المدعو غافل عن دعاء الداعي إن كان من الأنبياء والصالحين فهو مشغول بما أعد الله له من الكرامة والنعيم، وإن كان من الطالحين فهو مشغول بما أعد الله له من العذاب الأليم وإذا حشر الناس يوم القيامة وعلم المدعوون بدعاء الداعين لهم كانوا لهم أعداء وكفروا بدعائهم وسماه الله عبادة وكذلك سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة في الحديث الصحيح:"الدعاء هو العبادة"، وفي حديث آخر:"الدعاء من العبادة". رواهما الترمذي. وأما الأحكام فقد أحل الإسلام جميع الطيبات ولم يحرم منها شيئاً قال تعالى في سورة الأعراف: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وحرم الخبائث كلها ولم يبح منها شيئاً ومنها الخنزير والميتة والدم والخمر وكل مفسد للعقل الذي هو أعظم نعمة أنعم الله بها على البشر وأكل الربا والغصب والسرقة والغش والنجش وهو الاحتيال في البيع والقذف وهو اتهام المحصنات والمحصنين بالزنا، والزنا والسرقة وقطع الطريق وأكل أموال الناس بالباطل كالقمار وبيع الغرر وسائر أنواع الاحتيال.
وأما الآداب فقد جاء الإسلام بأكمل الآداب وأكرم الأخلاق، فمنها بر الوالدين وصلة الرحام بالإحسان إلىى الأقارب وإكرام الجار كيف ما كان جنسه أو لونه أو دينه وإطعام الطعام وإفشاء السلام وإكرام اليتامى والرفق بالضعفاء وإقامة العدل بين الناس، قال تعالى في سورة النحل:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الآية. وأمر بإيفاء الكيل والوزن وأوعد على نقصهما بالويل قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} . وأمر بكظم الغيظ والعفو عن الناس، ومدح الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وذم التبذير والإسراف، وحث على الصدقة وذم الكبر والعجب والحسد والبخل والرياء والغيبة والنميمة والتجسس وقبول أخبار الفساق بدون تثبت وأمر بالصبر والتواضع والتواصي بالحق والتعاون على البر التقوى ووضع النبي صلى الله عليه وسلم ميزاناً دقيقاً يميز المسلم الصادق من المنافق المدعي الكاذب، فقال فيما رواه البخاري ومسلم:"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". وفي رواية انفرد بها مسلم: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". رواه البخاري.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة". يعني من قتل شخصاً من غير المسلمين بينه وبين المسلمين عهد لا يشم رائحة الجنة، وسوى الإسلام بين جميع البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق التي لا تجدها في غيره أبداً ولو ذهبنا نعدده لطال بنا القول.
المذاهب الحديثة
(الاشتراكية الشيوعية)
اعلم أيها القارئ الكريم أن للإسلام نظاماً اقتصادياً مستقلاً مخالفاً لنظام رأس المال والاشتراكيات بأنواعها والشيوعية كل ما يدعى في هذه المذاهب من خير فقد سبق إليه الإسلام قبل التفكير فيها بقرون كثيرة، وكل ما فيها من شر فقد ابتعد عنه وحذر أهله منه، فهو يخالف نظام رأس المال بفرض الزكاة في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم وما يخرج من الأرض من حبوب وثمرات والحق في المعدن والركاز وهو ما وجد مدفوناً في الأرض من الأزمنة السابقة وكذلك فرض كفارات، ككفارة الأيمان وكفارة الظهار وكفارة قتل النفس خطأ وكفارة الإفطار في نهار رمضان بلا عذر، وحرم الربا وبيع الغرر والبيوع الفاسدة، وبذلك ضمن التوازن النسبي في الممتلكات الثابتة والمنقولة، وحفظ الفقراء من استبداد الأغنياء واحتكارهم للثروة، ولم يحجر على أصحاب الكفاءات بل تركهم أحراراً في استخدام مواهبهم واكتساب الأموال بطرق مشروعة إذا أدوا حقهما، ومن أراد أن يجعل الناس سواء، فليس لجهله دواء، قال تعالى في سورة النحل:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} وسبب التفاضل في الرزق التفاضل في المواهب التي بها يكتسب الرزق، ولن يستطيع أحد من الأفراد والجماعات لا بسيف ولا مطرقة ولا محراث ولا بأي نوع من أنواع الإرهاب أن يجعل الناس في المواهب سواء، وإذا اختلفوا في المواهب فلا بد أن يختلفوا في الرزق سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، نزل المطر في
أرض تثمر الكمأة بالعامية المغربية (الترفاس) فانطلق جماعة من الناس يبحثون عن الكمأة ثم رجعوا بعضهم حصل عشرين رطلاً، وبعضهم حصل رطلين، وبين هذين درجات كثيرة متفاوتة، فهل يجب على صاحب العشرين أن يقتسم مع صاحب الرطلين؟ هذا جور وظلم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون، خرج ثلاثة صيادين إلى البحر فوضعوا شباكهم أو ألقوا سناراتهم فرجع كل واحد بما قسم له فهل يجب أن يخلطوا ويقتسموا؟ لا، لا هذا ظلم وجور، خرج ثلاثة صيادين لصيد الحجل في الهضاب والغابات وآخرون لصيد الغزلان في الصحراء، فهل يجب أن يجمعوا ما حصلوا عليه ويقتسموا بالسوية؟ لا، لا، هذا ظلم وجور، التفاوت في المواهب يستلزم التفاوت في الأرزاق لا محالة، ودواؤه فرض الزكاة والقرض بلا منفعة، وفرض الكفارات والحث على الصدقات.
(الاشتراكية الشيوعية)
الاشتراكية ثلاثة أنواع:
النوع الأول:
الاشتراكية القومية وهي التي دعا إليها موسوليني وهلتر، وحاصلها أن يعتبر الشعب كله عمالاً والحكومة هي التي تتصرف في جميع الأموال فتعين لكل عامل عمله وأجره ولا يجوز لأحد أن يرفض ما عينته له الحكومة وليس إلا حزب واحد وعلى الشعب أن ينتخب حكومته من ذلك الحزب، فهو الوصي على الشعب الذي ينظر في مصالحه في سلمه وحربه، وغاية الحزب والحكومة أن يكون شعبه فوق جميع الشعوب غنى وقوة وسعادة ولكل فرد من أفراد الشعب الحق في الحصول على عمل وأجر يكفل معيشته وله الحق أن يدخر ويملك ما قدر عليه من الممتلكات المنقولة وغيرها بشرط أن يؤدي الضرائب المفروضة، والملاك يقولون إن تلك الضرائب ثقيلة وكثيرة حتى إنه لا يبقى لهم بعد أخذها إلا قليل يعيشون به ويدعون إن حال العامل أفضل من حالهم وأن الحكومة تحصى عليهم كل شيء. هذا مبلغ علمي فيما رأيته وسمعته ولكني لم أسمع قط بوجود رشوة.
أما المناصب العالية فهي خاصة للمنتسبين إلى الحزب، وهذا النظام لم يعمر طويلاً حتى يعلم صلاحه أو فساده ولما جر على أهله حرباً طاحنة أحرقت الأخضر واليابس فإن جمهور الشعب الألماني مقت هذا النظام ورفضه ولا يريد العودة إليه، ومن المؤسف أن بعض البلدان العربية اختارته وتمسكت به وعضت عليه بالنواجذ ودانت به مع أن أهله تبرأوا منه. هذا مع ما لهم من العلم والخبرة والتعاون والنجدة وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين.
النوع الثاني:
الاشتراكية الديمقراطية، كالتي عليها حزب العمال البريطاني الحاكم وأحزاب أخرى في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، وهذا النوع من الاشتراكية ليس فيه استبداد ولا خنق لحريات الشعوب وإنما يبنى على الدعاية ولا يمنع الملك الفردي لكنه يوجب أن تكون المصالح العامة كالمعادن والمناجم وسكك الحديد وما أشبه ذلك ملكاً للحكومة التي تمثل الشعب، فهذه الموارد يجب أن تكون ملكاً لعموم الشعب لا يستبد باستغلالها فرد ولا جماعة؛ لأن ذلك يفضي إلى احتكار بعض الأفراد أو الجماعات مقداراً كبيراً من الأموال والممتلكات على حساب أبناء جنسهم، وبذلك تنقسم الأمة إلى أغنياء طاغين قد تفاحش غناهم وتجاوز الحدود، وفقراء مدقعين قد تفاحش فقرهم فهم في غاية الذلة والاستكانة لا رأي لهم ولا كرامة موطوئين بالأقدام عبيداً أرقاء ليس لهم إلا السمع والطاعة وذلك ظلم وحيف في نظر الاشتراكية الديمقراطية، ولا تمنع هذه الاشتراكية وجود أحزاب مخالفة لها؛ لأنها كما قلنا لا تنشر مبادئها بالقهر والجبر بل بالدعاية والإقناع وتقدس حرية الرأي والكلام والعقيدة والعمل والتنقل.
ولما كان هذا النوع من الاشتراكية يبيح الملك إلا ما تقدم استثناؤه خاف من تفاحش الغنى وتعاظم الثروة ففرض ضرائب تصاعدية على قدر الدخل والمحاصيل حتى لا تتسع المسافة بين الأغنياء والفقراء وهذه الاشتراكية لا تتعرض للدين ولا تتدخل في عقائد الناس وأقطابها متدينون معظمون لرجال الكنائس متفقون معهم وهم حاربون نظام رأس المال ويتهمون المتبعين له بأنهم كاذبون في ما يزعمونه من الدعوة إلى الحرية والديمقراطية لأنه متى لم تقيد الثروة بالقيود التي تقدم ذكرها طغى الأغنياء على الفقراء {كَلَاّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} فالرجل الذي يملك معامل أو مزارع أو متاجر تحتاج إلى آلاف العمال لا بد أن يفرض إرادته على أولئك العمال فلا يستطيعوا أن ينتخبوا غيره إذا رشح نفسه ليكون نائباً في مجلس النواب أو يكون عيناً في مجلس الأعيان، وهذا يتنافى مع تحقيق الحرية وإقامة العدل والمساواة التي يزعم أصحاب رؤوس الأموال أنهم أنصارها، أما أنصار عقيدة رأس المال فلهم حجج يدفعون بها عن أنفسهم منها الحكومة تستنكر الاحتكار على أفراد الشعب وجماعاته وتحرمه عليهم وتحله لنفسها، ومنها أن الاستيلاء على المصالح العامة يعطل حركة التنافس بين الأفراد والجماعات فيضعف النشاط ويقل الحماس ونتيجة ذلك قلة المحاصيل وفرق كبير بين من يشتغل لنفسه ويشتغل في ما يعود عليه بالنفع والخير العميم وبين عامل يعمل في مصلحة حكومية لا يهمه ربحها أو خسارتها وإنما يهمه الراتب الذي يحصله في نهاية الأسبوع أو في نهاية الشهر، هذا مع اتفاق الفريقين على حرية الرأي والعقيدة وسائر الحريات ولذلك نراهم متعايشين في شعب واحد متعاونين على ما يرون فيه الخير لأمتهم وإن اختلفت وسائلهم، وقد مضى على هذا النوع من الاشتراكية زمان طويل في بلدان مختلفة وظهر أنه صالح للبقاء عندهم.
النوع الثالث من الاشتراكية:
النوع الثالث من الاشتراكية التي يزعم أهلها أنها مقدمة للشيوعية، وتسمى (البولشفية) وهذا النوع يبنى على سلب جميع الممتلكات وجميع الحريات والمعتقدات ويجعل الإنسان آلة صماء يحركها الرؤساء فتتحرك ويقفونها فتقف، ويأمرونها أن تنطق فتنطق بما يشتهون وأن تسكت فتسكت، وأن تمدح فلانا فتقدسه في أول النهار، ثم يأمرونها أن تلعنه في آخر النهار، فتأتمر ولا تفكر فالاشتراكي المخلص عندهم هو الذي يكون كالعقل الالكتروني وليس مقصودي بهذا الكلام أن أشتمهم، ولكني أريد بيان الحقيقة كما هي في نظري، وقد دخلت برلين الشرقية وبقيت فيها أياماً وأنا أذكر ما شاهدته وخبرته وتحققته.
فأما سلب الأموال والممتلكات فإنه لا يجوز لأحد أن يملك أرضاً ولا داراً ولا سيارة ولا متجراً ولا يملك إلا ثيابه التي على ظهره وإلا أجرة عمله بشرط أن لا يدخرها لو كان فيها متسع للادخار.
ودونك مثلا يعينك على تصور هذه الحقيقة، رأيت في برلين الغربية سنة 1954م بتاريخ النصارى قبل بناء سور برلين عجوزاً تسكن في غريفة حقيرة من الفندق الذي كنت فيه نازلاً فأخبرتني صاحبة الفندق أن تلك العجوز قبل الحرب كانت لها ثروة طائلة فلما انتهت الحرب بخسران ألمانيا أراضيها الشرقية استولى الشيوعيون على أملاكها كلها، ولم يبقوا لها منها شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً، وبقي لها جزء قليل من بيت في برلين الغربية وقد أعطاها الشيوعيون غرفة في بيت من برلين الشرقية وجعلوا لها أجرة لسد الرمق وفرضوا عليها أن تشتغل في كنس الشوارع فهي تشتغل مدة طويلة إلى أن يجتمع لها من كراء ذلك الجزء الضئيل الذي تملكه من ذلك البيت في برلين الغربية مقدار من المال فتنتقل إلى برلين الغربية وتستأجر غريفة رخيصة الثمن وتنفق مما اجتمع لها حتى ينقضي ثم ترجع إلى الجحيم.
أما بعد بناء السور الذي هو عكس ما قال الله تعالى: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} فلا أدري ما فعل الله بتلك المسكينة وأمثالها من الأغنياء الذين قلب لهم الزمان ظهر المجن فأصبحوا بؤساء بين عشية وضحاها بسبب الاحتلال الروسي وفرض الحكم الشيوعي على ذلك الشعب المنكوب، ودونك مثلا آخر حدثنا شهود عيان أن أهل بيت من الأغنياء (ولا أقول أسرة ولا عائلة) من ألمانيا الشرقية لما دهمهم الاحتلال الروسي أمروا بإحضار طعام الضيافة للفاتحين الغزاة فأمروا خدمهم بذبح المواشي وطهي الطعام وتوجهوا إلى الغابة وعلقوا فيها حبالاً وقتلوا أنفسهم خنقاً لأنهم يعلمون أن الضيوف الثقلاء بعد أكلهم وشربهم الخمور يسلبونهم كل شيء حتى الخواتم التي في أصابعهم ويطردونهم من ديارهم ومزارعهم ويفرضون على كل من سلبوا أرضه أو داره أن يكون بعيداً من الأرض المسلوبة أو الدار المغصوبة والمعمل مسافة لا تقل عن ثلاثين كيلو مترا، ومتى وجد في مكان يقرب من ممتلكاته السابقة أقل من ثلاثين كيلو متراً يعاقب عقاباً شديداً.
ودونك مثالا ثالثاً، من المعلوم أن الشعب الجرماني الذي يسمونه بالألماني من أرقى شعوب أوربة مدنية وحضارة لا يمتري في ذلك اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان، وقد انقسمت هذه البلاد الجرمانية وهذا هو الاسم الذي سمتها به العرب في عام تخطيط البلدان بعد الحرب العالمية الأخيرة قسمين: غربي وشرقي، فالقسم الغربي مع ما أصابه من النكبات في زمان الحرب الطحون رجع أحسن مما كان يشهد بذلك كل مسافر وسائح رأى تلك البلاد فالمباني التي تهدم ثمانون منها في المائة بفعل قنابل الأعداء أعيدت أحسن مما كانت عليه، وكذلك المعامل والمزارع والطرق، هذا في القسم الغرب.
أما القسم الشرقي فإنه خراب كأنه انتقل من يد دولة متمدنة إلى دولة همجية، سافرنا بالسيارة من المغرب فعبرنا المضيق من سبتة إلى الجزيرة، وعبرنا أسبانيا ففرنسة فالقسم الغربي من ألمانيا وكان الطريق من كلونيا إلى هنوفر التي هي على حدود ألمانيا الشرقية من أحسن طرق أوربا مقسوماً قسمين بينهما حاجز وكل منهما تسير فيه أربع سيارات ولا تحتاج السيارة إلى توقف لأن السيارات التي تعبر الطريق عرضاً لها ممرات إما تحت الأرض وإما فوق الجسور وقد تعجب في ذلك سائق سيارتي تبرعا وهو الأخ الحاج أحمد هارون، فقال لي: أريد أن أجرب هل اضطر إلى نقص سرعة السيارة أم لا أضطر فبقي ساعتين بمقياس واحد لم يضطر إلى أن ينقص شيئاً منه وأسماء الأماكن وعلامات الطرق المختلفة والأضواء التي تقوم مقام شرطة المرور كل ذلك في غاية الإتقان بحيث قلما يحتاج المسافر إلى أن يسأل عن شيء أو يضل طريقه هذا في القسم الغربي.
أما في القسم الشرقي فالأمر بعكس ذلك الطريق مهمل لم يصلح منذ سنين كأنه صحراء وليس فيه علامات ولا أضواء فتجد السائحين ضائعين يسأل بعضهم بعضاً ولا هادي ولا مرشد.
والشعب الذي يسكن القسمين شعب واحد لا يختلف إلا في نظام الحكم، وهناك مثل آخر وهو برلين الغربية، وبرلين الشرقية، من المعلوم أن مدينة برلين مدينة واحدة كانت عاصمة جرمانية كلها قبل الحرب، وبعد هزيمة الجرمانيين في الحرب العالمية الأخيرة أصبحت برلين جزيرة في بحر ألمانيا الشرقية تحيط بها أراضي ألمانيا الشرقية من جانب، فاقتسمه الغالبون فأخذ الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون القسم الغربي منها وحكموه مدة ثم سلموه إلى حكومة ألمانيا الاتحادية، أما القسم الشرقي فبقي تابعاً لحكومة ألمانيا الشرقية تحت نفوذ الروسيين، وكل من زار قسمي برلين الشرقي والغربي لا يكاد ينقضي عجبه، يرى القسم الغربي وسكانه ثلاثة ملايين يعيشون في أرغد عيش في غاية الرفاهية والازدهار فترى المخازن والمتاجر ملأى بأنواع التحف والبضائع والمطاعم والمشارب والحدائق والملاعب والشوارع غاصة بأجمل السيارات والمباني التي تهدمت كلها في زمان الحرب قد أعيد بناؤها حتى صارت أجمل مما كانت وترى السكان يرفلون في أفخر الثياب والزي، أما إذا أردت أن تدخل إلى برلين الشرقية فإنك تجيء إلى مدخل السور وتسلم جواز سفرك وتعطي بطاقة صغيرة وتقف مع صفوف الواقفين حتى يجيء دورك فتنزل إلى سرداب تحت الأرض وتنتظر حتى تمتحن في أربعة مكاتب بأسئلة وأجوبة والمكتب الرابع بعد ما يعرف مقدار ما عندك من النقود ويسجلها يرد لك الجواز، فتدخل في القسم الشرقي وتجده يبابا خراباً كأن خيلا أغارت عليه ونهبته، وأبدلت سعده نحساً ونضرته كآبة وسعادته شقاء، فلا مباني تعجبك ولا أسواق ولا مطاعم ولا سيارات جميلة ولالا بضائع في المخازن والناس في ثياب حقيرة والنساء لابسات ثياباً خسيسة، فكأنك خرجت من عالم إلىعالم، فإن قلت: وما الموجب لبناء السور؟ فالجواب أن الشيوعيين أو الاشتراكيين كما يجبون أن يدعوا يزعمون أنهم وحدهم يعيشون في النعيم في الحرية والديمقراطية والعالم كله يعيش في شقاء
العبودية تحت نظام رأس المال الطاغي أو الاستبداد الظالم ولكن رعاياهم لا تصدق هذا الزعم، ولذلك لم يزالوا يفرون من ذلك الفردوس المزعوم إلى برلين الغربية فتنقلهم الطائرات إلى برلين الغربية حيث يستنشقون نسيم الحرية ويشعرون بأنهم أحرار يسيرون في أرض الله الواسعة حيث يشاءون فلما عجزت حكومة ألمانيا الشرقية تحت المراقبة الروسية أن تقنعهم بما تزعم من الدعاوى أرادت أن تضرب سوراً على ذلك الفردوس وتنصب عليه الأسلاك الشائكة والرشاشات والحرس المسلح ليلا ونهاراً حتى لا يفر واحد من فردوس الشيوعية ونعيمها إلى عذاب نظام رأس المال وجحيمه، ومع ذلك كله لم تنقطع الهجرة والفرار وقد هرب من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية بواسطة برلين الغربية منذ نهاية الحرب أكثر من أربعة ملايين وحتى بعد بناء السور لا يزال الناس يهربون ويتركون بيوتهم وأمتعتهم ويفرون بأنفسهم مؤثرين الحرية على كل شيء سواها من متاع الدنيا، وحوادث هذا الفرار لا تزال تتلى صباح مساء في الإذاعات على مسامع القراء وما أحسن المثل العامي الذي يقول:(حتى كلب ما هرب من دار العرس) معناه بالفصحى: (لا كلب يفر من الدار التي تصنع فيها وليمة العرس بل بالعكس كل كلب يحب أن يأتيها لينال من فضلات الطعام) ومن أغرب ما سمعته من إذاعة لندن في هذا الصدد أن خمسة وعشرين شخصاً اتفقوا على أن يحفروا نفقاً يبتدئون من دار أحدهم وكانت داره بقرب السور فقضوا مدة في الحفر كل ليلة يحفرون ساعات ويقومون بأعمالهم المفروضة عيهم في النهار حتى وصلوا النفق إلى مبنى في القسم الغربي ولما انتهى النفق خرجوا كلهم ذات ليلة وتركوا الدار تنعي من بناها، وهناك حوادث كثيرة طريفة وعجيبة يعرفها من يتتبع مثل هذه الأخبار.
وأما سلب الحريات فيجب على كل عضو في الحزب أن يكفر بجميع الأديان وأن يؤمن بعصمة شارل ماركس في كل ما شرعه واعتقده ولينين، وكان ستالين ثالث ثلاثة إلى أن خلعه نائبه وشريكه في كل ما ارتكبه خروتشوف بعد وفاته فبطلت قدسيته عند بعض الشيوعيين وبقيت ثابتة عند بعضهم، أما من لم يكن من المشتركين في الحزب فيجوز له أن يقول إنه مسلم أو نصراني بشرط أن لا يرد شيئاً ولا ينتقد شيئاً من نظام شارل ماركس ولا من الأنظمة التي يضعها الحزب الشيوعي ومع ذلك يكون محتقراً موضع سخرية واستهزاء.
أما في السياسة فلا يجوز له أن يعتقد إلا سياسة الحزب وإن تناقضت يتناقض معها فكل الزعماء الذين رفضهم الحزب يجب على جميع الناس أن يقلبوا لهم ظهر المجن ويذموهم بعدما مدحوهم أعظم المدح كتروتسكي ومالينوف ومولوتوف وخروشوف. وأما ستالين فقد تقدم خبر رفعهم له إلى درجة التقديس ثم خفضهم له إلى درجة الإجرام.
وأما حرية العمل فهي معدومة، فيجب على كل إنسان ذكراً كان أو أنثى أن يقبل العمل الذي تفرضه عليه الحكومة في المكان الذي تعينه له بالأجر الذي تعينه له والساعات التي تعينها له ولا يجوز له أن ينتقد شيئاً من ذلك، وإلا صار متهماً بالخيانة واستحق العقاب الشديد على قدر انتقاده وكذلك حرية التنقل والسفر إلى الخارج لا يجوز لأحد أن يفكر فيه وقد شاهدت في برلين الشرقية الصبيان في سن أربع عشرة سنة يوبخون والديهم ويتهمونهم بالرجعية وعدم الإخلاص للحزب والجمود على الأفكار السخيفة والآباء والأمهات يخافونهم، والواجب على كل ملك ورئيس من رؤساء المسلمين أن يحفظ شعبه من هذه المذاهب التي تجلب الشقاء والشر ويجب أن تسمىسل بحق الشعوب إذا كان غلاة الشيوعيين وكلهم غلاة يسمون الدين أفيون الشعوب فنحن نسمي نحلتهم سل الشعوب ولسنا من المؤثرين المحتكرين حتى نتهم بأننا نعارضهم محافظة على أموالنا ولكن النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أوجب علينا أن ننصح لجميع الشعوب وخصوصاً المسلمين أن يبتعدوا من جميع أنواع الاشتراكية اسماً وعقيدة وعملاً، ففي ما جاء به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غنية لهم وكفاية، ومن لم يسعه ما وسع السلف الصالح فلا وسع الله عليه:
ومن لم يسعه ما أتى عن محمد
فلا وسع الرحمن يوماً على الغر
أما التسمية فقد قال الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} آخر سورة المؤمنين.
وأما العقيدة والعمل فقد تقدم أن الإسلام سبق إلى كل خير وتجنب عن كل شر وكل ما يدعونه من المواساة وابتغاء العدالة بين أفراد الشعب ظهر أنه غير صحيح، فقد أخبرني السيد أحمد موسلر المسلم الألماني في بيته ببرلين الغربية، قال: كنا نعيب على حكومة هلتر أنها تدعي الاشتراكية لتحقيق المساواة بين أفراد الشعب ومع ذلك كان طعام الضباط يختلف عن طعام الجنود فكان للضباط مطبخ فيه ألوان من الطعام ولعامة الجنود مطبخ آخر فيه ألوان دونها في الجودة فلما انهزم الجيش الألماني وقعت في أسر الروسيين فأخذوني إلى موسكو وبقيت هنالك سنتين فرأيت للجيش الروسي خمسة مطابخ بعضها أعلى من بعض يعني أن الطعام عندهم خمس درجات الدرجة العليا لكبار الضباط والثانية للمتوسطين والثالثة للصغار والرابعة للعرفاء والخامسة لعامة الجند، قال: فعلمت أن كلا الفريقين في دعواه الاشتراكيون القوميون والاشتراكيون الشيوعيون كلهم مخادعون، وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة البقرة:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
…
من صفات المؤمن
قال الحسن البصري:
"من أخلاق المؤمن: قوة في دين، وحزم في لي، وحرص على العلم، وقناعة في فقر، وعطاء في حق، وبر في استقامة، وفقه في يقين، وكسب في حلال".
التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي
بقلم الشيخ: عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
الحلقة الخامسة
التراويح اليوم في المسجد النبوي:
إنّ كل مواطن أو مشاهد في غنى عن التحدث إليه عن واقع التراويح الشاهد الملموس، ولكن الذين لم يقدر لهم حضور رمضان ولا جزءاً منه بالمدينة لا شك أنهم يتطلعون إلى كل شيء في المسجد النبوي، ولاسيما عن هذا العمل الفاضل، القيام في شهر الصيام، وفي مسجد النبي عليه السلام، ومن الذي يستطيع تصوير ذلك كما ينبغي، ولكني أحاول التحدث عنه حسب ما نشاهده وبقدر ما يمكن إعطاء الفكرة عنه، ومعلوم أن الكتابة لا تصل حد المشاهدة، فليس كالعين في النظر، ولا الأذن في السماع ولكن بقدر المستطاع.
أولا:
وقتها: معلوم أن وقتها بعد صلاة العشاء ولكن الجديد فيه هو أن العشاء في غير رمضان يؤذن لها بعد غروب الشمس بساعة ونصف أي تسعين دقيقة وتصلى بعد ربع الساعة من الأذان.
أما في رمضان فلا يؤذن للعشاء إلا في تمام الساعة الثانية بعد الغروب مراعاة للمصلين الذين يحضرون أولا لتناول ما يفك صيامهم في الحرم النبوي من تمرات خفيفات ثم يصلون المغرب ثم ينصرفون إلى بيوتهم لتناول وجبة الإفطار ومن ثم يعودون إلى الحرم لصلاة العشاء والتراويح.
والكثيرون منهم يحضرون من أماكن بعيدة فروعيت ظروفهم وتيسر حضورهم فإذا مضت الساعتان وأذن للعشاء أقيمت الصلاة بعد عشر دقائق فقط ويصليها فضيلة الشيخ عبد العزيز وبعدها يتنفل من شاء من ركعتي سنة العشاء ثم تبدأ التراويح على الكيفية الآتية:
كيفية أدائها:
تبدأ في الساعة الثامنة والنصف إلا خمس دقائق تقريباً يبدأها فضيلة الشيخ عبد العزيز، فيصلي عشر ركعات في خمس تسليمات وتستمر إلى الساعة الثالثة إلا خمس دقائق أي تستغرق نصف ساعة تماماً ثم يبدأ فضيلة الشيخ عبد المجيد في العشر ركعات الأخرى مباشرة يصليها بخمس تسليمات تستمر إلى الساعة الثالثة والنصف إلا خمس دقائق ثم يصلي الوتر ثلاث ركعات مفرقة ينتهي منه في تمام الثالثة والنصف تماماً ومجموع القراءة في كل ليلة من كل منهما معاً جزء كامل.
والجدير بالذكر أن صلاة كل منهما حفظهما الله متساوية في الزمن وفي الأداء نصف ساعة لكل عشر ركعات بنصف جزء فيكون العشرون ركعة ساعة كاملة بجزء كامل.
وقد بلغ حرص المصلين على حضور التراويح بالمسجد النبوي حتى أصبحت التراويح كالجمعة لكثرة الزحام ووفرة القائمين من أطراف المدينة والزائرين من خارجها، وهذا العدد يتضاعف والزحام يشتد ليلة تسع وعشرين ليلة الختم، ختم القرآن لما فيه من الدعاء.
الوتر في رمضان في هذا العصر:
أما الوتر ففي التراويح فيما قبل العشر الأواخر فإن فضيلة الشيخ عبد المجيد يوقعه في نهاية التراويح بعد الخمس تسليمات الأخيرة التي يصليها تتمة للعشر تسليمات ويوقعه بثلاث ركعات منفصلة يسلم من ركعتين ثم يأتي بواحدة مفردة ويقنت جهراً بعد الرفع من الركوع.
أما في العشر الأواخر من الشهر المبارك والتي يكون فيها القيام آخر الليل يكون الوتر كالتالي:
1-
يترك فضيلة الإمام ونائبه الوتر في صلاة التراويح ليؤدياه مع صلاة القيام آخر الليل لحديث: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً".
ولا يوقعه أول الليل لحديث: "لا وتران في ليلة" فيوتر بالجماعة أول الليل محمد العلمي على النحو المتقدم، هذا عمل الجماعة العامة لجميع المصلين.
ما عدا جماعة الأحناف فإنهم لا يوترون مع الإمام بل ينفردون به بإمام منهم طيلة الشهر وذلك بعد فراغ الإمام الراتب أو نائبه من الوتر بعد التراويح ويوقعونه ثلاث مجتمعات كالمغرب، وسنلم بمبحث الوتر عند الأحناف في نهاية دعاء القنوت في التهجد ليلة الثلاثين من رمضان سنة 1390هـ بعد الختم بليلة نقل من التسجيل.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين من تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها وخير أعمارنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار، ونسألك الجنة وما قرب منها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيراً لنا يا رب العالمين.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وارزقنا وارض عنا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا..
اللم اجعل مجتمعنا هذا مجتمعاً مرحوماً واجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. ربنا تقبل منا إنك أنت السمع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم على سيدنا محمد وسلم.
صلاة القيام آخر الليل:
تقدم أن أهل المدينة منذ القرون المتقدمة من عهد أبي زرعة رحمه الله كانوا إذا فرغوا منن التراويح يرجعون إلى المسجد في ثلث الليل الأخير لصلاة الست عشرية وذلك طيلة ليالي الشهر كله يصلون ست عشرة ركعة وكانوا ينادون لها على المنارة لاجتماع الناس إليها وكانت ست عشرة ركعة مع عشرين أول الليل تتمة ست وثلاثين كما تقدم، ولكن في هذا العهد لا يصلي من آخر الليل شيء في أول الشهر.
فإذا كان العشر الأواخر ابتداء من ليلة عشرين فإن المصلين يعودون إلى المسجد بدون نداء على المنابر فإذا كان ثلث الليل الأخير حضر الإمام ونائبه وقد تجمع جم غفير من أنحاء المدينة رجالاً ونساء شيباً وشباباً ترى على الوجوه سمة الخير ووقار السكينة وإشراقة التهجد.
فيقوم الإمام في الروضة الشريفة في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بدأ الصلاة ساد شعور لا يمكن وصفه ولا تصويره، من جلال وإجلال ورغبة ورهبة، وتلاحق في الذهن الماضي المشرق للمسجد المبارك، والآثار العطرة للروضة المطهرة.
وتراءت صور المصلين عبر القرون الماضية، وأحسست بخيوط من الأشعاع تربطك بالسلف وهبات من نسيم الرحمة تبلل جفاف القلوب وتحيي مواته وتمس شغافه فتزكي شعوره وتوقظ انتباهه وتملك زمامه.
فإذا قرأ الإمام ورتل اجتذب المسامع واستصغى الأفئدة وهناك يمضي الوقت ولا يكاد يحسب من العمر أو يعد من الحياة لأنه أسمى ساعات العمر وفوق لحظات الحياة يصلي الإمام ركعتين ثم يصلي نائبه ركعتين وهكذا بالتناوب إلى أن تنتهي العشر ركعات بخمس تسليمات يبدأهن فضيلة الإمام ويختمهن أيضاً يقرأ في كل ليلة ثلاثة أجزاء ويوتر فضيلة الإمام بثلاث ركعات ويقنت كما تقدم ويطيل قنوته وهكذا الليالي التسع.
فإذا كانت الليلة الأخيرة وهي ليلة تسع وعشرين والتي يقع فيها الختم فإن الصلاة تكون فيها كالتالي:
أولاً: في التراويح تكون قراءة الختمة الأولى قد بلغت إلى جزء (عم) فيصلي الإمام التراويح كلها عشرين ركعة فإذا كان في الركعة الأخيرة وقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} دعا بدعا ختم القرآن الكريم قبل أن يركع، وأطال في الدعاء واجتهد في الإنابة إلى الله والضراعة إليه والمصلون معه يؤمنون ويبتهلون وما أن يسترسل الإمام في دعائه وتظهر رقته في صوته إلا ويجهش الجميع بالبكاء ويضج المسجد بالدعاء إلى أن ينهي الإمام دعاءه ثم يركع ويكمل الركعة الأخيرة، ثم يترك الوتر للشيخ العلمي فإذا كان في القيام من آخر الليل عمر المسجد بالمصلين وأطلقت مباخر الطيب.
وتكون القراءة في تلك الليلة قد وصلت جزء (قد سمع) فيبدأ الإمام الصلاة كالمعتاد ويتناوب معه نائبه وتكون الركعتان الأخيرتان للإمام كما تقدم فإذا كان في الركعة الأخيرة كما تقدم وقرأ سورة (الناس) رفع يديه وبدأ الختم المبارك على النحو المتقدم، فإذا فرغ منه أتم صلاته ثم أوتر وقنت.
ولعظم شأن هذا الختم في المسجد النبوي المبارك وشدة روعته وكبير أثره فإني أورده بشيء من التفصيل في المبحث الآتي مبيناً أقوال العلماء في أصله ومستنده وكيفيته ومكانه من الصلاة وخاصة في المسجد النبوي.
مبحث عمل الختم في المسجد النبوي في الوقت الحاضر سنة 1390هـ.
وبما أن العمل في المدينة وفي المسجد النبوي ومن الإمام الراتب له أهميته وقيمته في العالم الإسلامي كله. وقديماً كان علماء أهل المدينة حجة عند إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله بناء على أنهم توارثوه عن السلف وأنها منبع السنة.
وهكذا اليوم منزلة المدينة في نفوس المسلمين وقداستها في قلوبهم وإمامتها في أنظارهم فهي دار الهجرة وموطن التشريع.
وعمل الختم في نهاية التراويح والتهجد في رمضان بالمسجد النبوي في هذه الآونة طبقت أخباره الآفاق والأمصار، ويفد لحضوره عدد من جميع الأقطار، فلا بد وأن يكون موضع تساؤل عن أصل مشروعيته ولا سيما من الذين يتطلعون إلى أدلة كل عمل، وقد تساءل عبد الله بن أحمد بن حنبل مع أبيه حين سمعه يذكر عمل الختم فقال له: إلى أين تذهب في ذلك، أي ما هو دليلك فيه؟ فأجابه بما عنده فيه وسيأتي قريباً إن شاء الله.
وقبل كتابة هذه الرسالة تساءل معي أحد الإخوان الذين لهم غيرة على السنة وشدة على البدعة وشبهته في ذلك من جهتين:
الجهة الأولى:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل التراويح كاملة في رمضان، ولم يقرأ القرآن كله في تراويح ولا في تهجد، وعليه فلم يدع بهذا الدعاء ولا محل له عنده؛ لأنه لم يوقع الختم الذي يدعو بعده فمن أين إذاً أصل المشروعية؟.
والجهة الثانية:
إن الناس في حالة سماع التلاوة طيلة الشهر يكونون في هدوء تام وحسن إصغاء وصمت، وعند دعاء الختم تعتريهم حالات الضراعة والبكاء والابتهال ويقول: إن الدعاء لا يكون أعظم تأثيراً من كلام الله تعالى.
هكذا أورد لي وجهة نظره وربما كان لا يحضر ولا يشارك في هذا العمل فكان من المستحسن إيراد الجواب على وجهة النظر تلك وعرض ما أقف عليه من الأدلة عن السلف رحمهم الله سواء المرفوع منها أو الموقوف العام فيها أو الخاص مما تستأنس له النفس ويطمئن إليه القلب إن شاء الله.
أما الأدلة:
فقد وجدت في مجمع الزوائد ج1 ص172 حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة فريضة فله دعوة مستجابة ومن ختم القرآن فله دعوة مستجابة"رواه الطبراني، وفيه عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف، وعن ثابت أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده فدعا لهم. رواه الطبراني ورجاله ثقات. اهـ.
فهنا حديث مرفوع بسند ضعيف وأثر موقوف على صحابي رجاله ثقات فيعضد أحدهما الآخر، وفي رسالة للشيخ حسين مخلوف ما نصه:(يسن الدعاء عقب الختم) وساق حديث العرباض المتقدم وقال: رواه الطبراني وغيره.
وعن أنس مرفوعاً: "من قرأ القرآن وحمد الرب وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم واستغفر ربه، فقد طلب الخير مكانه" رواه البيهقي في الشعب. وكان عند ختم القرآن يجمع أهله ويدعو.
فقد وجدنا حديث العرباض رواه الطبراني وغيره ووجدنا أثراً موقوفاً ومرفوعا عند البيهقي ومؤيداً بعمل الصحابي الذي رواه مرفوعاً.
وعند المروزي في كتاب (قيام الليل) قال: "كان رجل يقرأ القرآن من أوله إلى آخره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عباس يجعل عليه رقيباً فإذا أراد أن يختم قال لجلسائه: قوموا حتى نحضر الخاتمة".
وروي عن مجاهد أنه قال: "تنزل الرحمة عند ختم القرآن ويقولون الرحمة تنزل".
فهذه نصوص عامة في الدعاء عقب ختم القرآن مطلقاً من غير قيد الصلاة أو غيرها.
وقد وجدنا عند ابن قدامة تفصيلاً كاملاً في خصوص هذا العمل لأحمد رحمه الله.
قال في المغني ج2 ص171 قال: "فصل في ختم القرآن. قال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله فقلت: ختم القرآن أجعله في الوتر أو في التراويح قال: اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاءين اثنين، قلت كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع لنا ونحن في الصلاة وأطل القيام، قلت: بم أدعو؟ قال: بما شئت، قال: ففعلت بما أمرني وهو خلفي يدعو قائماً ويرفع يديه". فقد فصل لنا هذا النص عن أحمد كيفية العمل في الختم وبين لنا محله وعموم الدعاء فيه.
ونص عن حنبل قال: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغت من قراءة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت: إل أي شيء تذهب في هذا؟ قال: "رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة".
قال العباس بن عبد العظيم: "وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة. ويروي أهل المدينة في هذا شيئاً وذكر عن عثمان بن عفان.
ففي هذا نجد الفضل بن زياد يسأل أحمد لا عن مشروعية الدعاء عند الختم، بل عن موضعه من الصلاة وكيفية العمل فيه وأقره أحمد رحمه الله وبين له الكيفية والموضع مما يدل على أن أصل المشروعية معلوم لهما.
فلا غرو أن يقع التساؤل اليوم عن مشروعية هذا العمل، وقد وقع من قبل بين حنبل وأحمد رحمهما الله وقال له: إلى أين تذهب في ذلك، أي إلى دليل عليه.
وأحاله أحمد رحمه الله على ما عنده فيه مما رآه بالفعل من عمل أهل مكة، وفعل الإمام الجليل سفيان بن عيينة مع أهل مكة، وما يروى عن أهل المدينة، وما كان يفعل في الأمصار الثلاثة الرئيسية البصرة ومكة والمدينة مناطق العلم ومواطن الإقتداء آنذاك بالإضافة إلى ما عند أهل المدينة في ذلك عن عثمان رضي الله عنه، وكذلك ما رأينا عن ابن عباس رضي الله عنه، فظهر من هذا كله مستند مشروعية الدعاء عقب ختم القرآن سواء على الإطلاق أو في التراويح مع بيان الكيفية عن أحمد رحمه الله.
وهي في مجموعها كافية لمثل هذا العمل بناء على أن ما كان مشروعاً بأصله فهو جائز بوصفه، فأصل الدعاء مشروع وكونه متصفاً بصورة الختم لا تنفي مشروعيته ومثله القنوت، دعاء في الصلاة.
ومهما يكن من شيء فإن ما تقدم من عرض ما ورد عن السلف يكسب طمأنينة ويورث ارتياحاً لمشروعية هذا العمل، وأن فيه اقتداءً بسلف الأمصار الثلاثة البصرة ومكة والمدينة.
أما التأثر بالدعاء أشد من التأثر بالتلاوة فهذه مقارنة بين حالتي المصلين في سماع التلاوة طيلة الشهر في هدوء وطمأنينة وسماع الدعاء عند الختم في ضراعة وبكاء وخشية وابتهال، وهما حالتان متغايرتان.
إلا أنهما وإن اختلفتا في الشكل فهما متحدتان في المعنى والحقيقة لأن آداب التلاوة في حسن الاستماع والإنصات، وخصائص الدعاء الابتهال والخشوع.
وللدعاء مكان لا تتأتى فيه التلاوة كالسجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى الله تعالى، ومع هذا القرب لا تجوز التلاوة وينبغي الاجتهاد في الدعاء وكالحالات التي وردت فيها نصوص أدعية خاصة في الصباح وفي المساء ودخول المسجد وافتتاح الصلاة والقنوت.
وكما أن للتلاوة آداباً فللقرآن مواضع تمر بالمستمع من مواعظ وأخبار وتشريع وحلال وحرام وغير ذلك مما ينقل ذهن السامع من معنى إلى معنى آخر.
وأما الدعاء فإن المستمع والداعي تتركز أحاسيسهم وأفكارهم وشعورهم وقلوبهم إلى وجهة واحدة هي الضراعة والإنابة والابتهال إلى المولى عز وجل.
بل إن الفطرة نوجه القلب في حالة الاضطرار والفزع إلى خالص الدعاء وذل السؤال كما قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة".
ومن الواضح البين ما كان منه صلى الله عليه وسلم يوم بدر لما قام في العريش حين التقت قوى الحق على قلتها مع قوى الشر على كثرتها توجه إلى الله تعالى بالدعاء وألح على ربه في السؤال حتى أشفق عليه الصديق قائلاً: بعض مناشدتك ربك يا رسول الله.
فقد اجتهد صلى الله عليه وسلم في الدعاء ولم يلجأ إلى التلاوة، وكذلك ما جاء في الأحاديث الصحيحة عن يوم الفزع الأكبر حين يذهب صلى الله عليه وسلم لطلب الشفاعة فإنه يسجد سجوداً طويلاً ويلهمه الله بمحامد لم يكن يعلمها من قبل، ولم يوجه صلى الله عليه وسلم إلى التلاوة مما يبين أن للتلاوة مكاناً وحالات وآداباً وتأثيراً، وللدعاء مكان وحالات وتأثير، فهما متوافقان في الحقيقة وإن اختلفا في الصورة، وكلاهما متلائم في مكانه.
أما عمل الختم بالمسجد النبوي اليوم فالواقع أن الحديث عنه شيق كيف لا والحديث في حد ذاته عن ختم القرآن في أي مكان حديث ممتع للروح منعش للنفس منبه للضمائر الإسلامية لارتباطه بالقرآن الكريم المنزل من رب العالمين.
وإذا كان هذا الحديث يتعلق بالمسجد النبوي وفي الجوار الطاهر الكريم وفي شهر رمضان المعظم وفي آخر العشر الأواخر كان ذلك أعظم من أن يصور بحديث أو يقدم في موضوع، ولكن نسوق للقارئ الكريم وصفاً عملياً بقدر ما يمكن تصويره من وحي الشعور به فنقول وبالله التوفيق:
يقع الختم في المسجد النبوي في شهر رمضان مرتين مرة في صلاة التراويح وأخرى في صلاة القيام آخر الليل وذلك في ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان في أول الليل وفي آخره.
ولعل في ذلك ارتباط وإن كان من غير قصد بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام كان يدارسه القرآن الكريم في رمضان كل سنة مرة وفي السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم دارسه القرآن مرتين.
وفي هذه الليلة يقع الدعاء في المسجد النبوي في صلاة الجماعة أربع مرات: مرتين في الختم ومرتين في الوتر مما يجعل تلك الليلة ليلة مشهودة عبادتها موصولة.
أما ختم التراويح الذي يكون في أول الليل فإنه إذا جاءت ليلة التاسع والعشرين فيكون قد بقي من قراءة الختمة الأولى جزء (عم يتساءلون)، وهو الجزء الأخير من المصحف الشريف وفي هذه الليلة يصلي فضيلة الإمام الشيخ عبد العزيز بن صالح التراويح كلها بدون تناوب فيها مع أحد وعند الفراغ من قراءة سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} في آخر ركعة من التراويح وقبل أن يركع يبدأ الدعاء بالختم يفتتحه بقوله: صدق الله العظيم الذي لا إله إلا هو، المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً المنفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً إلى آخر ما يدعو به، وسيأتي نص ما أمكن تدوينه في نهاية هذا البحث إن شاء الله.
والجدير بالذكر هنا أنه حفظه الله يطيل القيام ويكثر السؤال ويجتهد في الابتهال ويظهر من الخشوع والخضوع إلى الله، ومن الإنابة والضراعة ما يحرك القلوب ويوقظ الشعور ويفتح الآفاق بالآمال ويطمع في رحمة الله وعظيم النوال لما يرد في الدعاء من نصوص مأثورة تجمع خيري الدنيا والآخرة.
فإذا فرغ من الدعاء ركع وأكمل صلاة الركعة الأخيرة من التسليمة الأخيرة والتي هي تمام العشرين ركعة وسلم وهي نهياة التسليمة العاشرة.
ويترك الوتر إلى الشيخ محمد العلمي فيوتر ويقنت في الوتر ويدعو هو أيضاً بدعاء القنوت المشهور الذي أوله: اللهم اهدنا فيمن هديت..الخ.
ويحضر هذا الختم في أول الليل من المصلين رجالاً ونساءً شيباً وشباباً مما يماثل بهجة العيد.
وتطلق مباخر العود وتنثر أنواع العطور ويتبادل المصلون الدعوات والتباريك ببهجة وفرحة وغبطة تفوق الوصف، ثم ينصرفون موفوري الرجاء والآمال في سعة فضل الله ورحمته.
فإذا كان ثلث الأخير عاد إلى المسجد خلق وفير من أهل المدينة وممن يفدون إليها بغية المشاركة وحضور هذا الختم فيتكامل عدد كبير رجالاً ونساء صغاراً وكباراً.. ويفيض المسجد بالجلال والوقار والهيبة والإكبار ينتظرون الإمام والبعض لم يبرح مكانه خاصة من وجد مكاناً في الروضة فيأتي الإمام ويقوم في الروضة في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون قد بقي من الختمة الثانية ثلاثة أجزاء (قد سمع) و (تبارك) و (عم) ، فيصلي الإمام كالمعتاد بالتناوب مع مساعده يبدأ الإمام بالركعتين الأوليين ويختم بالركعتين الأخيرتين، وإذا فرغ من سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} بدأ دعاء الختم ثم يكمل الركعتين ويسلم ثم يصلي هو الوتر حيث لم يوتر أول الليل ويقنت في الركعة الأخيرة منه، وإذا سلم من الوتر تسابق الناس إليه وإلى بعضهم البعض بأحر التهاني وخالص الدعاء وعظيم الرجاء في القبول وطلب العودة إلى تلك الفرصة الكريمة من كل عام.
وهنا وقفة مع التاريخ الذي سردناه للتراويح في هذا المسجد المبارك فلئن سجل العلماء والمؤرخون وأصحاب الرحلات كالنابلسي وابن جبير وابن بطوطة والعياشي صور الختم في الحرمين من احتفال هائل بإيقاد الشموع والمشاعل ونثر الزهور والرياحين وضرب الفراقع والمقارع وإنشاء القصائد والابتهالات، وغير ذلك.
فإنه في هذا الوقت وقد انقضى عهد الشموع بالكهرباء والثريات الكبريات فإن ليلة الختم في هذا العصر في المسجد النبوي أصبحت مقصد الكثيرين ومحط رحال المسافرين يفدون إليها من أطراف المملكة التماساً لبركاتها وتعرضنا لنفحاتها في هذا المسجد الكريم وفي هذا الجوار العظيم حيث يتوفر لها فضل الزمان من شهر رمضان وفضل المكان من تضاعف الأعمال.
عوامل تجعل لختم القرآن بالحرم النبوي في شهر رمضان وفي الثلث الأخير من الليل تفيض عليه روحاً ويضفي الله عليه نوراً ويكسوه جمالاً ويكسبه حلاوة ويزيده معنوية تفيض كلها على المصلين وجميع الحاضرين والمستمعين رحمات ورضوانا يجل قدرها عن الوصف، ويقصر دونها البيان، ولا يقدر قدره إلا من حضره.
وكيف يمكن وصف الحالات الروحية التي تشمل المكان كله وهي فوق حدود الوصف أو تقييم النفحات الربانية وهي أبعد من مقاييس التقييم حين تكتنف الحاضرين جميعاً.
ومن يقدر على تصوير الأحاسيس النفسية والشعور العميق بالبهجة العظمى لختم القرآن في نهاية رمضان في روضة من الجنان، إنها حالة يغيب فيها الشعور عن الوصف وتفقد فيها القدرة على البيان، فلا يسمع إلا أنات القلوب وزفرات الصدور، ولا ترى إلا عبرات الباكين من أعين الخاشعين في أكف الضارعين.
صور تجل عن الوصف ندركها ولا نقدرها ونلمسها ولا نصورها فتبقى في إطار الذكرى ماثلة وفي حلقات التاريخ نيرة عطرة.
ولا ينتهي الإمام من دعائه ويفرغ من تضرعاته إلا وقد استشعر كل فرد في قرارة نفسه ببرد الطمأنينة، وذاق حلاوة المناجاة وغسلت دموعه آثاراً تامة، وأحس بالارتياح وزاد بهجة وغبطة واهتز في إطار ما يكتنفه من شعور بجلال المقام وشرف الجوار وفضل المكان واسترجع بذاكرته عجلة التاريخ أربعة عشر قرناً يستعرض الماضي بعزته وإشراقته ويدرك سر القوة ومصدر الإشعاع الروحي من هذا المكان ينزل به جبريل عليه السلام كل ذلك في لمحات خاطفة وخطرات عابرة ثم يوتر الإمام ويقنت، ثم يكمل الوتر ويسلم فيقبل المصلون بعضهم على بعض بالتهاني وصالح الدعوات متمنين العودة ومؤملين القبول، نسأل الله تعالى أن يقبلنا معهم ويجعلنا وإياهم من عتقائه من النار. آمين.
نص الدعاء عند ختم القرآن في المسجد النبوي في هذا الوقت الحاضر في التراويح من المعلوم أنه لا توجد نصوص خاصة بذلك ولا معينة له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرا القرآن كله في الليالي التي صلاها أول الأمر فلم يؤثر عنه دعاء في ذلك.
ولكن كما قال ابن دقيق العيد: "ما كان مشروعاً بأصله فهو جائز بوصفه"أي أن الدعاء مشروع بأصله وهو مخ العبادة، وقال تعالى في أصل ذلك:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، وحث صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد في الدعاء في السجود بدون تحديد لا في الآية ولا في الحديث ومن هنا كان الأصل في الدعاء الإطلاق والعموم إلا ما جاء منصوصاً عليه كالدعاء في القنوت أو في آخر التشهد أو في أول الافتتاح في الصلاة وكذلك عند دخول المسجد وخروجه وغير ذلك فمثل هذا تكون السنة فيه التقيد بما ورد، وما عداه فهو على عمومه يجتهد الداعي بما تيسر له كما فعل صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر.
وهكذا في هذا العمل فهو موضع اجتهاد وقد تقدم عن أنس أنه كان يجمع أهله ويدعو ولم يعثر على نص معين، كما تقدم عموم لفظه فله دعوة مستجابة أي بعد ختم القرآن وصلاة فريضة على ما سبق بحثه.
ومن هنا لم يتقيد أحد بنص معين بل يتخير من الدعاء ما تيسر له وما يحقق له رغباته ويعبر عن حاجاته ومتطلباته، سواء من الأدعية العامة المأثورة أو من غيرها، وتقدمت إجابة أحمد للسائل عن الدعاء في الختم فقال: أدع بما شئت.
وقد نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نصوصاً للدعاء في هذا العمل وهو دعاء جامع شامل وليس بالطويل المسهب ولا بالقصير الموجز، ولم يتقيد الإمام بنص معين بل يدعو بما تيسر وجميع أدعيته من المأثور ولكنه يفتتح الدعاء بقوله:
صدق الله العظيم الذي لا إله إلا الله، المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المنفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، الذي أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة، حيث أنزلت علينا خير كتبك وأرسلت إلينا أفضل رسلك وشرعت لنا افضل شرائع دينك، وجعلتنا من خير أمة أخرجت للناس وهديتنا لعالم دينك الذي ارتضيته لنفسك وبنيته على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
ولك الحمد على ما يسرته من صيام شهر رمضان وقيامه، وتلاوة كتابك العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك.
نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عند أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا.
اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه ويتلوه حق تلاوته.
اللهم اجعلنا ممن يقيم حدوده ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده.
اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك والجنة ولا تجعلنا ممن اتبعه القرآن فزج في قفاه إلى النار، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبارك لهم في أسماعهم وأبصارهم وذرياتهم وأزواجهم أبداً ما أبقيتهم واجعلهم شاكرين لتعمك مثنين بها عليك، وأتمها عليهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لجميع موتى المؤمنين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك.
اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك ونسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك ومن النار.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته وعافيته ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا.
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.
هذا نص الدعاء المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية ولكن فضيلة الإمام الشيخ عبد العزيز بن صالح يزيد فيه جملاً مناسبة منها:
اللهم لا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم إنك أمرتنا بالدعاء ووعدتنا بالإجابة فلا تردنا خائبين.
اللهم اجعلنا من عتقائك من النار ومن المقبولين.
اللهم إن رحمتك أوسع من ذنوبنا وعفوك أوسع من خطايانا.
اللهم هب المسيئين منا للمحسنين.
اللهم أنت الغني عنا ونحن الفقراء إليك..
إلى مثل ذلك من العبارات التي تحرك القلب وتزكي الروح.
ثم يختم بنحو قوله: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم يركع ويكمل الركعتين، ثم يأتي بركعتي الشفع ثم بركعة الوتر.
ولا يقام عمل ختم آخر نظراً لعدم تقدم الإمامة في الصلاة وإنما يجري ذلك كله في جماعة واحدة وفي ليلة واحدة من إمام واحد وهو الإمام الراتب الشيخ عبد العزيز بن صالح.
الشباب الضائع
بقلم الطالب عبد الله العبادي
إن الكثير من شبابنا اليوم يعيش في متاهة نائية، بعيد عن كل خلق كريم، وعن كل تعاليم سامية، شباب انحرف عن الجادة فتاه في ظلمات الجهل، والإلحاد، والإباحية، والدعايات الفارغة، شباب انخدع بالمظاهر البراقة، فصفق مع المصفقين، وهتف مع الهاتفين دون أن يعرف عن ذلك شيئاً، شباب غرق في بحر السفاسف والملذات، فلم يجد من ينير له الطريق، فيدعوه إلى ما فيه صلاحه وسلامته.
ولكن على من تقع المسؤولية؟
تقع المسئولية على البيت، والمدرسة، والمجتمع، والحكومة، فكل من هذه العوامل لم تقم بواجبها خير قيام لتربية الجيل، وتركت الشباب في متاهته، وضلالاته.
ففي البيت قد ترك الوالدان لولدهما الحرية في كل ما يفعل: يجالس من يشاء، ويمشي مع من يشاء، ويسهر مع من يشاء، ويسافر حيث يشاء، فيكتسب بذلك كل ما هب ودب من الأخلاق، والرذائل، والتقاليد البالية.
بل إن الوالدين في كثير من البلدان قدوة سيئة لولدهما، فما دام الوالدان يجالسان المنحرفين، فما المانع أن يكون الولد كذلك؟
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
أما المدرسة، فإن فيها المعلم، وهو ذو تأثير فعال في التلميذ، وجل المعلمين في زماننا من المنحرفين، فما دام المعلم لا يعرف صلاة ولا صياماً، فاسد العقيدة، سيء الأخلاق فإن التلميذ - لا شك - سوف يحذو حذوه.
أما المجتمع فلا يقل عن البيت والمدرسة في التأثير في الشباب، بل هو الذي عليه المدار في زرع الفساد، والانحلال الخلقي في نفوس الشباب، والتأثير فيهم.
أما الحكومة فإن عليها القسط الأكبر من هذه المسئولية لأنها المسئول الأول عن خراب المجتمع، وعن ضلالاته، وانحرافاته "ولو صلح الراعي لصلحت الرعية"و "الناس على دين ملوكهم"كما ورد في الأثر.
ولكن الحكومات نفسها قد ضلت الطريق، فأضلت التابع لها {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ، وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} فإن سلم الشباب من تلك لم يسلم من هذه، وإن اجتمعت عليهم القوى فقد قضي عليهم، ولا فائدة حينئذ ترجى.
وهذا هو الشيء المشاهد في كثير من البلدان الإسلامية فالسواد الأعظم من الشباب لا يعرف صلاة ولا صياماً، ولا أخلاقا فاضلة، يتردد على دور السينما والكبريهات ليل نهار، ويقضي كل وقته في لهو ولعب، وعبث ومجون، وخاصة إذا كان ذا ثروة، وفراغ، لا صلة له بالدين وأهله، يأكل ويشرب ويجيء ويذهب {كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة
فلنتذكر إذاً الحديث الشريف: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". ولنضعه أمام أعيننا فنحن مسئولون أمام الله يوم القيامة.
من خلق الإيثار وتفضيل الغير على النفس
روى الشيخان أنه نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئاً فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل، ولا يأكل حتى أكل الضيف إيثاراً للضيف على نفسه وأهله فلما أصبح قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام:"لقد عجب الله من صنيعكم الليلة بضيفكم"، ونزلت آية:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .
العبرة في شهر الصوم
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
محاضرة ألقيت في مدرسة طيبة الثانوية
ليلة الاثنين الموافق 16 شوال عام 1390 هـ
الدنيا دار ابتلاء وامتحان:
خلق الله عباده ليعبدوه وحده لا شريك له، وقال في كتابه العزيز:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ، وأرسل رسله الكرام ليرسموا لهم طريق العبادة، وقال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .. وجعل حياتهم الدنيوية موطناً لابتلائهم وامتحانهم أيهم أحسن عملاً، وقال:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، ثم قال:{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} مبيناً أن هؤلاء الممتحنين منهم من يحسن في عمله فيجازى بما يقتضيه اسمه الغفور ومنهم من يسيء فيكون مستحقاً للعقوبة بما يقتضيه اسمه العزيز، وذلك كقوله تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} .
موسم من مواسم الآخرة:
وكما فضل الله بعض البشر على بعض وبعض الأماكن على بعض فضل بعض الزمان على بعض، ومن ذلك تفضيل شهر رمضان المبارك وتمييزه على غيره واختياره ليكون محلاً لإيجاب الصوم على الناس {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .. فلقد فضل الله هذا الشهر وجعله موسماً من مواسم الآخرة يتنافس فيه عباده المتنافسون ويتسابق فيه لتحصيل الفوز والزلفى عند الله المتسابقون، يتقربون فيه إلى ربهم بصيام النهار وقيام الليل وتلاوة كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ويتقربون إلى الله بهذا وغيره من الطاعة مع الحذر والبعد عن المعصية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور.
زيادة في الخير:
ولما فرض الله على العباد صيام شهر رمضان رغبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتهائه بصيام ست من شوال ليعظم لهم الأجر وليكونوا كمن صام الدهر، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر". قال الحافظ المنذري: "رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والطبراني وزاد وقال: "قلت: بكل يوم عشرة، قال: نعم"، ورواته رواة الصحيح". انتهى. وذلك أن السنة أقصى حد لها ثلاثمائة وستون يوماً فإذا أضيف إلى شهر رمضان ستة أيام من شوال وصيام كل يوم بعشرة أيام لأن الحسنة بعشر أمثالها يكون المسلم كأنه صام السنة كلها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"كان كصيام الدهر" وذلك فضل عظيم من الله فله الحمد والشكر على نعمه التي لا تحصى ولا تعد.
من خير إلى خير:
ومن فضل الله وإحسانه إلى عباده أن يسر لهم الأسباب التي ترفع في درجاتهم وتجعلهم على صلة وثيقة دائماً بعبادة ربهم فإذا مرت بهم أيام وليالي شهر رمضان التي يكفر الله فيها السيئات ويرفع الدرجات ويقيل العثرات تقربوا فيها إلى ربهم فإذا ما تصرمت أيامه وانتهت تلتها مباشرة أشهر الحج إلى بيت الله الحرام فإن يوم عيد الفطر الذي هو أول يوم من شهر شوال هو أول يوم في أشهر الحج التي قال الله تعالى فيها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَاب} نعم إذا انتهت أيام شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن الشهر المبارك الذي تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتصفد الشياطين أيام الصيام التي قال الله تعالى عنها في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، إذا انتهت هذه الأيام جاءت أيام الحج الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم:"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وقال عنه صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فلا يكاد المسلم يودع موسماً من مواسم الآخرة إلا استقبل موسماً آخر ليكون على صلة مستمرة بعبادة خالقه وبارئه الذي أوجده من العدم وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
العبرة من شهر الصوم:
وهذا الموسم المبارك من مواسم الآخرة قد ودعته الأمة الإسلامية منذ أيام فطوبى لمن وفقه الله فيه للأعمال الصالحة وتفضل عليه بقبولها ويا خسارة من مرت به أيامه دون أن يقدم فيها لنفسه صالحاً يلقاه إذا غادر هذه الدار وما أعظم مصيبته إن كان قد شغل أيامه بما يرضي الشيطان ويتفق مع ما تهواه النفس الأمارة بالسوء، والعياذ بالله.
وهذا الموسم العظيم الذي مرت بنا أيامه يشتمل على فوائد جمة وعلى عبر وعظات تبعث في النفس محبة الخير ودوام التعلق بطاعة الله كما تكسب النفس بغض المعصية والبعد من الوقوع فيما يسخط الله عز وجل.
وسأحاول فذ هذه الكلمات تسجيل بعض تلك العبر والعظات التي يخرج بها المسلم معه من شهر الصيام والتي هي الحصيلة الطيبة له في تلك الأيام المباركة فأقول مستمداً من الله التوفيق والتسديد:
أولا:
إن أيام شهر رمضان إذا مرت بالمسلم فهي فرصة من فرص العمر قد تسنح له هذه الفرصة مرة أخرى أو أكثر وقد يوافيه الأجل المحتوم قبل بلوغ ذلك، والمهم في الأمر أن تكون هذه الفرصة قد انتهزت بشغلها في الطاعة والبعد من المعصية وأهم من ذلك أن تحصل المداومة على ذلك فإن من ثواب الحسنة الحسَنة بعدها كما أن من العقوبة على السيئة السيئَة بعدها وذلك أن المسلم الناصح لنفسه إذا وفق لبلوغ هذا الشهر المبارك وشغله في طاعة ربه الذي خلقه لعبادته وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة فارتاحت نفسه للأعمال الصالحة وتحرك قلبه للآخرة التي هي المستقر والمنتهى والتي لا ينفع الإنسان فيها إلا ما قدمت يداه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، نعم إذا ألفت النفس الطاعة في تلك الأيام المباركة رغبة فيما عند الله وكفت عن المعصية خوفاً من عقاب الله فلفائدة التي يكسبها المسلم من ذلك والعبرة التي يجب أن تكون معه بعد ذلك أن يلازم فعل الطاعات واجتناب المنهيات؛ لأن الله تعبد عباده حتى الممات.. {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فلا يليق بالمسلم وقد ذاق طعم الطاعة في شهر الصيام أن يحل محل تلك الحلاوة مرارة المعصية، ولا يسوغ له إذا أرغم عدوه في شهر الصيام أن يدخل عليه السرور في شهر شوال وما بعده من الشهور، وليس من صفات المسلم الناصح لنفسه أن يودع فعل الخيرات مع توديع شهر الصيام فيستبدل الزمن الذي هو أدنى بالذي هو خير فالمعبود في رمضان وغير رمضان حي لا يموت قيوم لا ينام يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار لا يظلم مثقال ذرة {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} .
ثانياً:
الصيام سر بين العبد وبين ربه لا يطلع على حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى ولهذا جاء في الحديث الصحيح يقول الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا اجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي". وذلك أن بإمكان العبد أن يختفي عن الناس ويغلق على نفسه الأبواب ويأكل ويشرب ثم يخرج إلى الناس ويقول أنا صائم ولا يعلم ذلك إلا الله تبارك وتعالى ولكن يمنعه من ذلك اطلاع الله عليه ومراقبته له وهذا شيء يحمد عليه الإنسان والعبرة من ذلك أن يدرك أيضاً أن الذي يخشى إذا أخل الإنسان بصيامه هو الذي يخشى إذا أخل الإنسان بصلاته وزكاته وحجه وغير ذلك مما أوجبه الله فالذي فرض الصيام هو الذي فرض الصلاة والصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولعظم شأنها وكونها هي الصلة المستمرة ليلا ونهاراً بين العبد وبين ربه افترضها الله على نبيه ليلة عرج به إلى السماء فإذا وجد المسلم أن إخلاله بالصيام كبير وعظيم فيجب أن يجد ويدرك أن حصول ذلك منه في الصلاة أكبر وأعظم وتلك من أجل الفوائد وأعظم العبر التي يستفيدها المسلم من شهر الصيام.
ثالثاً:
إن مما يشرح الصدر ويدخل السرور على النفوس الطيبة أن تكون المساجد عامرة بالمصلين في شهر رمضان ويكون انشراحها أعظم والسرور أكبر في المداومة على ذلك فالفائدة التي يليق بالمسلم بعد الذي شاهده في تلك الأيام من اكتظاظ المساجد بالمصلين أن يعقد العزم ويصمم على أن يكون ممن يداوم على هذا الخير ليكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فإن من بينهم الرجل الذي يكون قلبه معلقا بالمساجد كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً:
وجوب الصيام عن الطعام والشراب وسائر المفطرات محله شهر رمضان أما الصيام عن الحرام فمحله طيلة عمر الإنسان فالمسلم يصوم في أيام شهر رمضان عن الحلال والحرام ويصوم طيلة حياته عن الحرام فالصيام عن الحلال والحرام معاً قد مرت أيامه أما الصيام عن الحرام فهو مستمر دائم وذلك أن الصوم في اللغة الإمساك عن الشيء، والصوم الشرعي هو الإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس والمعنى الشرعي جزء من جزئيات المعنى اللغوي فكما يطلق المعنى اللغوي على المعنى الشرعي فهو يشمله ويشمل غيره ومن ذلك الامتناع عن الحرام فامتناع العين واللسان والأذن واليد والرجل والفرج عما منعت منه هو صيام من حيث اللغة وذلك أن الله تفضل على العباد بهذه النعم التي لا غنى لهم عنها ولكن الله كما امتن عليهم بها أوجب عليهم استعمالها فيما يرضيه وحرم عليهم استعمالها فيما يسخطه ومن أعظم شكر الله على هذه النعم أن يكون المسلم مستعملاً لها حيث أمر أن يستعملها فيه ممتنعاً عن استعمالها في معصية من تفضل عليه بها وبكل نعمة ظاهرة وباطنة سبحانه وتعالى.
فالعين شرع استعمالها في النظر إلى ما أحل الله ومنع من استعمالها في النظر إلى الحرام وامتناعها عن ذلك صيامها وحكمه مستمر دائم.
والأذن شرع استعمالها في استماع ما أبيح لها وحرم على العبد استعمالها في سماع ما لا يجوز سماعه وامتناعها عن ذلك صيامه وحكمه مستمر دائم.
واللسان شرع استعماله في كل معروف ومنع استعماله في كل ما هو منكر وامتناعه من ذلك صيامه وحكمه مستمر دائم.
واليد شرع استعمالها في تعاطي ما هو مباح ومنع من استعمالها في كل حرام وامتناعها من ذلك صيامها وحكمه مستمر دائم.
والرجل شرع استعمالها في المشي إلى كل خير ومنع من المشي فيها إلى الحرام وامتناعها عن ذلك صيامها وحكمه مستمر دائم.
والفرج أبيح استعماله في الحلال ومنع من استعماله في الحرام وامتناعه من ذلك صيامه وحكمه مستمر دائم.
وقد وعد الله من شكر هذه النعم واستعملها حيث أمر الله أن تستعمل وعده بالثواب الجزيل وتوعد من لم يحافظ عليها ولم يراع ما أريد استعمالها فيه بل طلقها فيما يسخط الله ولا يرضيه بل يرضي الشيطان الذي هو عدو الله وعدو المخلصين من عباد الله توعده بعقابه وأخبر أن هذه الجوارح مسؤولة يوم القيامة عنه وهو مسؤول عنها فقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه بعد أن أمره بحفظ اللسان، وقال له معاذ:"يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال عليه الصلاة والسلام: "ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة". رواه البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، ورواه الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: "من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة".
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجا من حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعاً: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". وقال صلى الله عليه وسلم: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والحاصل أن الله أوجب على العبد أن يصون لسانه وفرجه وسمعه وبصره ويده ورجله عن الحرام وهو صيام من حيث اللغة وهذا الصيام لا يختص بوقت دون آخر بل يجب الاستمرار عليه حتى الممات طاعة لله تعالى ليفوز برضا الله ويسلم من سخطه وعقوبته، فإذا أدرك المسلم أنه في شهر الصيام امتنع عما أحل الله له؛ لأن الله حرم عليه تعاطي ذلك في أيام شهر رمضان فالعبرة من ذلك أن يدرك أن الله قد حرم عليه الحرام مدة حياته وعليه الكف عن ذلك والامتناع منه دائماً خوفاً من عقاب الله الذي أعده لمن خالف أمره وفعل ما نهى عنه.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن ربه أن للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه فالصائم يفرح عند فطره لأن النفس عند الفطر تتعاطى ما منعت منه وهو محبوب لها ولأنه قد وفق لإنهاء الصيام الذي جزاؤه عظيم عند الله ويفرح الفرحة الكبرى عند لقاء ربه حيث يجازيه على صيامه الجزاء الأوفى.
ومن حفظ لسانه عن الفحش وقول الزور وفرجه عما حرم الله عليه ويده من تعاطي ما لا يحل تعاطيه وسمعه من سماع ما يحرم سماعه وبصره عما حرم الله النظر إليه واستعمل هذه الجوارح فيما أحل الله من حفظها وحافظ عليها حتى توفاه الله فإنه يفطر بعد صيامه هذا على ما أعده الله لمن أطاعه من النعيم وأول ما يلاقيه من ذلك ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجري للمؤمن عند الانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة حيث يأتيه في آخر لحظات في الدنيا ملائكة كأن على وجوههم الشمس معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة يتقدمهم ملك الموت فيقول: يا أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء إلى آخر ما بينه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مما يجري بعد ذلك وهذه هي البوادر الطيبة التي يجدها أمامه من حرص على سعادة نفسه وسعى في خلاصها مما يفضي بها إلى الهلاك والدمار، ولهذا أرشد طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه الرجل الذي سأله عن قيام الساعة إلى ما هو أهم من قيامها وهو الاستعداد لها بالأعمال الصالحة فإنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن قيامها:"وماذا أعددت لها؟ " مبيناً أن الإنسان في حياته الدنيوية عليه الاستعداد لحياته الأخروية، وقد قال الله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} وذلك أن كل سفر لا بد فيه من زاد يناسبه والسفر إلى الآخرة زاده تقوى الله والعمل بطاعته والسير على النهج القويم الذي جاء به رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
كلمة ختامية:
واختتم هذه المحاضرة بكلمة تخصنا معشر الذين امتن الله عليهم بسكنى طيبة الطيبة دار الهجرة والعاصمة الأولى للمسلمين فأقول:
إن شهر رمضان المبارك شهر شرفه الله وخصه بخصائص لا توجد في غيره وقد ودعناه نحن وسائر الأمة الإسلامية منذ أيام ونرجو أن نكون جميعاً ممن فاز فيه برضا الرب جل جلاله والذي أحب أن أذكره هنا هو أنه إذا كان هذا الوقت المفضل والزمن المقدس قد مضى وذهب عنا وعن سائر المسلمين في كل مكان فإن لدينا ولله الحمد والمنة المكان المقدس، فقد جمع الله لنا في شهر رمضان بين شرف الزمان وشرف المكان وإذا ذهب شرف الزمان فإن شرف المكان باق موجود فها هي بين أيدينا سوق من أسواق الآخرة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عن الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم أنه قال:"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"، إنه الفضل العظيم من الله صلاة في هذا المسجد المبارك مسجد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام تفوق ألف صلاة في سائر المساجد سوى المسجد الحرام، إن المشتغلين في التجارة الدنيوية يتحرون المواسم التي تنفق فيها السلع وتروج فيها التجارة فيتجشمون الأخطار ويقطعون الفيافي وينتقلون بتجارتهم من مكان إلى آخر إذا علموا أن السلعة التي تساوي ريالاً واحداً قد تباع بريالين اثنين، هذا أمر لا مرية فيه ولا شك ونحن في هذا البلد الطيب الصلاة الواحدة في مسجد سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام لا تساوي صلاتين أو ثلاثاً أو عشراً أو مائة فحسب بل تفوق ألف صلاة في غيره سوى المسجد الحرام، سبحان الله ما أعظم فضله وأوسع جوده وإحسانه فله الحمد والشكر على نعمه.
ولا يفوتني أن أقول: كما أن النعمة من الله علينا في سكنى طيبة الطيبة عظيمة والمنة جسيمة فإن علينا أن لا ننسى أنه على قدر النعمة تكون المسؤولية فكما أن الإحسان في هذا المكان المقدس أجره عظيم عند الله فإن الإساءة فيه ليست كالإساءة في الأمكنة الأخرى التي لا تفضيل فيها فمن يعصي الله بعيداً عن الحرم ليس كمن يعصيه في الحرم، وليس من يرتكب الحرام وهو في المشرق والمغرب كمن يقترف الذنوب في مكة المكرمة أو المدينة المنورة فإن البون شاسع بين هذا وذاك، فالمدينة المنورة أعز مكان وأقدس بقعة على وجه الأرض بعد مكة المكرمة فهي تلي مكة في الفضل ويليها المسجد الأقصى وهذه المدينة المباركة هي منطلق الرسالة ومنها شع النور إلى سائر أنحاء الأرض وهي المركز الرئيسي والعاصمة الأولى للمسلمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ هاجر إليها وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان وبعض من عهد علي رضي الله عن الجميع، وفيها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى هذه الأرض نزل جبريل عليه السلام بالوحي من السماء إلى محمد عليه الصلاة والسلام وهي الأرض المشتملة على أول جامعة إسلامية أبرز خريجيها أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي أبو الحسنين ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة أجمعين وهي الأرض التي مستها أقدام صفوة الصفوة وخلاصة الخلاصة من البشر بعد الأنبياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، فجدير بنا وقد أكرمنا الله بالبقاء فيها أن نتزود فيها من الأعمال الصالحة التي تنفعنا بعد الموت وأن نكون على حذر من الوقوع فيها بما يسخط الله عز وجل.
وأسال الله تعالى أن يجعلنا جميعاً ممن تقبل الله صيامه وقيامه وأن يرزقنا في هذا البلد الطيب طيب الإقامة وحسن الأدب وأن يحسن لنا الختام، كما أرجوه سبحانه أن يمن على المسلمين في سائر أنحاء الأرض بالرجوع إلى كتاب ربهم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
القرآن الكريم..
دراسته وتعليمه في جميع بلاد الإسلام
نص قرار المجلس لرابطة العالم الإسلامي
نص قرار المجلس لرابطة العالم الإسلامي عن القرآن الكريم ووجوب تعليمه ودراسته في جميع بلاد الإسلام.
بعث الله تعالى خاتم رسله (محمداً) صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً بكتاب عربي مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حيكم خبير ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم، فهو الحق القاطع والنور الساطع المستقيم، والمنهج القويم الذي فرض الله على العباد أن يؤمنوا به، ويهتدوا بهديه، وينتهجوا سبيله، ويلزموا طريقه في الأقوال والأعمال، وسائر الشؤون والأحوال، وحذرهم غاية التحذير من التفريط فيه والإعراض عنه وسلوك غير سبيله والعمل بغير تعاليمه.
وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه لعباده فقال:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَاّ الْبَلاغُ} .
فبلغ صلى الله عليه وسلم رسالة ربه فبشر وأنذر وحث وحذر وبين وأوضح وعلم وربى على نهج كتاب ربه أمة مؤمنة قوية عادلة لم تطلع الشمس على مثلها في العالم إيماناً، وطاعة وهدى وفضلاً وقوة في الدين وعدلاً.
استظلت بالقرآن واعتصمت به في كل سبيل، وعاش في كنفه منها كل قبيل، وحرصت كل الحرص على استذكار آياته وتدبر معانيها، وتلاوتها مع فهم مقاصدها ومراميها، فكانت أعدل أمة بل أثمن درة في تاج تاريخ الأمم.
ذلك شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان من أمة القرآن في عهد ازدهار الإسلام ونضارته وصولته وقوته وانفعال النفوس به والحفاظ على جدته.
ثم خلت قرون، وتبدلت شؤون، وتتابعت أحداث، وخلف من بعدهم خلف قد استهواهم الشيطان فلم يسلكوا سبيل أسلافهم في القيام بحق القرآن حفظاً وتلاوة وتدبراً وفهماً فنالهم بشؤم ذلك كثير من الذل والهوان، أهملوا حفظ القرآن في مكاتب تحفيظه بل أهملوا بعد ذلك إنشاء هذه المكاتب نفسها فحرم الأبناء من حفظ القرآن في حداثة السن، وبداية التربية.
ثم أهملوا حفظ القرآن وتدريسه في مراحل التعليم بعد المدارس، والمعاهد فتخرج الأبناء منها أخلياء من القرآن حفظاً ودراسة.
وحينما قررت بعض البلدان حفظ قليل منه وتدريسه بمدارسها جعلوه مادة إضافية بين مواد التعليم لا يترتب على الرسوب فيها أثر فكان كأن لم يكن.
وبذلك تقلص ظل القرآن في المدارس في هذه الأزمنة الأخيرة في معظم البلدان حفظاً، وتعليماً، وكل ذلك تنفيذ لمخطط إجرامي أثيم اصطنعه وأحكم تدبيره أعداء القرآن والإسلام من الأجانب المستعمرين الذين بأيديهم مقاليد التعليم في البلاد التي منيت بهم، وتبعهم، وتبعهم في ذلك بعض الضعفاء الإمعات، والمنافقين من أبناء البلاد ويمكننا أن نقول - في غير مغالاة - إن الشباب المسلم محروم الآن في أكثر بلاد الإسلام من حفظ القرآن، ودراسته في المرحلة الثانوية من مراحل التعليم، وفي الجامعات بأسرها، وهم في السن التي يحتاجون فيها أشد الاحتياج إلى ضبط النفوس، وقمع الشهوات، والتربية الدينية، والتهذيب والتوجيه إلى الخير والصلاح بوازع ديني محكم قويم وذلك بحفظ كثير من آيات الذكر الحكيم، ودراسة تفسيرها، وفهم معناها القويم.
ولا شك أن ذلك خطر كبير على المجتمع الإسلامي، وسبب قوي لانحلاله وتمزقه يحمل تبعاته الجسام من لم يحسن الرعاية من المسؤولين عن التعليم في البلاد بل استهان بالأمر حتى استفحل الشر، وساءت العقبى وأصبح الإسلام غريباً كما بدأ.
ولا سبيل للخلاص من هذا الخطر الداهم، والخروج من عهدة الإثم البالغ إلا بتنفيذ ما يأتي:
1-
الإكثار في البلاد الإسلامية من إنشاء مكاتب التحفيظ للقرآن يذهب إليها الأطفال في بدء نشأتهم ليحفظوا بعض أجزاء من القرآن عن ظهر قلب مع قليل من المعلومات الأولية على أن يكون التعليم فيها إجباريا.
2-
وجوب حفظ أجزاء من القرآن لا تقل عن ثلثه في المرحلة الابتدائية للتعليم موزعة في سنواته العديدة مع تفسير المحفوظ تفسيراً بسيطاً للمفردات والمقصود من الآيات.
3-
متابعة ذلك في المرحلة الثانوية مع قليل من التوسع في التفسير يناسب نمو المدارك في هذه السن.
4-
تكميل هذه المراحل في التعليم الجامعي حيث يكون الطالب قد كمل استعداده فيتم له حفظ أغلب القرآن، وفهم أكثر معانيه وحسن التوجيه إلى أحكامه ومراميه.
5-
وفي كل هذه المراحل يكون هذا التعليم مادة إجبارية أساسية في التعليم يترتب على الرسوب فيها عدم الانتقال إلى صف أعلى، وتوضع مناهج حفظ القرآن لكل مرحلة بل لكل سنة على غرار مناهج العلوم الأخرى في المدارس في جميع المراحل.
6-
يختار لتدريس مادة تفسير القرآن وتحفيظه للطلاب من يتوافر فيه الصلاح والتقى والغيرة الإسلامية والاحتفاء بالدعوة إلى الإسلام من المدرسين.
7-
تخصص مكافآت شهرية أو سنوية لمن يلبي أمر التحفيظ في مكاتب التحفيظ في سائر القرى، والمدن تشجعهم وترغيبهم في حسن القيام بمهمتهم الجليلة وتصرف المصاحف والاجزاء للتلاميذ مجاناً ويمنح كل من أتم جزءاً مكافأة مالية، وهكذا في سائر الأجزاء في هذه المرحلة تشجيعاً له.
8-
تخصص مكافآت مماثلة للحفاظ من التلاميذ لهذه المراحل التعليمية تشجعهم وتتفاوت بقدر اجتهادهم في الحفظ، والفهم.
9-
إنشاء معاهد في البلاد الإسلامية لتجويد القرآن - بعد حفظه - وتلقى الروايات السبع المعروفة وذلك لتخريج حفاظ ثقات يعرفون بإتقان علم الروايات، والقراءات، وبذلك تبقى سلسلة الرواة متصلة وذلك من الفرائض في حق القرآن.
10-
تعميم هذا النظام بأسره في الدول الإسلامية بحيث تشتمل قوانين التعليم في كل دولة عليه.
11-
يسمح لأي طالب أن ينتسب لأي معهد من هذه المعاهد مهما كانت جنسيته ما دام مسلماً حافظاً.
12-
على المسلمين الذين يقيمون ببلاد غير إسلامية أن ينشئوا مكاتب لتحفيظ القرآن وتدريسه، ويمولوها يقدر الإمكان، وعليهم أن يتصلوا بالدول الإسلامية لمدهم بما في الإمكان من المساعدة.
(تجارة رابحة)
المكتبات العامة وأثرها في تثقيف الأمة
للدكتور محمود بابللى
إن تيسير أسباب المطالعة من أهم عوامل الثقافة، ومهما أوتي المرء من قدرة على اقتناء الكتب فإنه أعجز من أن يظفر بمجموعة كبيرة منها تحتوي مختلف أنواع الكتب أو المجلات أو الصحف، كما أنه أكثر عجزاً من أن تكون لديه مكتبة تضم الآلاف أو عشرات الآلاف من الكتب.
لهذا كانت المكتبات الكبرى من الأمور المتعذر تأمينها لدى الأفراد إلا ما ندر، وإذا ما وجدت لدى البعض مثل هذه المكتبة فإنها لا تتعدى أن تكون مكتبة خاصة ذات نطاق ضيق ومحصور من حيث نوع الكتب وكميتها واقتصارها على صاحبها.
والتعطش إلى الثقافة غير محصور بنوع من المعرفة، وإنما هو عام ويشمل العديد من فروع العلم والمعرفة، ويتمشى انتشار الثقافة طرداً وعكساً مع تقدم الأمة أو تأخرها.
والمثقف من أبناء الشعب هو الذي يجمع إلى معلوماته الخاصة بناحية معينة من المعلوم حصيلة اطلاعاته على كثير من الكتب في مختلف العلوم والفنون، مع ما اكتسبه من خبرات اجتماعية أو إنسانية في حسن معاشرته للآخرين أو تتبعه لأخبارهم أو أسلوب معيشتهم أو طراز حياتهم؛ لأن كل هذه الأمور تدخل في نطاق الثقافة، وترفع مستوى أصحابها.
وليس أدل على حب العلم والازدياد منه في هذه البلاد وفي غيرها من البلدان العربية من كثرة هذه المدارس والجامعات، وحرص الموجهين فيها على استيعاب جميع أبناء الأمة، ومن يفد عليها من الأمم الأخرى، ضمن نطاق ما تتسع له.
والعلم كما هو معروف لا يأتي إلا بالتعلم، والكتاب وسيلة لهذا العلم، والمدرسة مفتاح ومنطلق للتزود منه ومهما توسعت برامج التعليم فإنها قاصرة عن أن تشتمل على جميع عناصر المعرفة، ولا بد للمتعلم في سبيل توسيع معرفته من أن يعب من مناهل العرفان المبثوثة في بطون الكتب وما يلحق بها من وسائل الثقافة العامة، كالمجلات على اختلاف أنواعها والصحف والندوات العلمية.
وإن حرص المملكة على بث البرامج الإذاعية عن طريق الراديو والتلفزيون وتوسيع هذه البرامج وتعميمها لأنحاء المملكة كافة ما هو إلا دليل على رغبة الدولة في نشر الثقافة والتوجيه العام؛ لينال كل فرد من أفراد هذه الأمة نصيبه من هذا الجهد المشكور.
والبرامج الإذاعية - عن طريق الراديو والتلفزيون - ذات تأثير كبير على توجيه الشعب فيما إذا روعي فيها صدق هذا التوجيه وحسن الرقابة عليها؛ لأنها أصبحت تدخل إلى بيوت الناس، وتنقل إليهم ما تبثه الإذاعة والشاشة وتفرض نفسها عليهم بشكل يجعل لها تأثيراً على التربية الاجتماعية يعطي ثماره في مستقبل هذه الأمة، لذلك كانت خطورة التلفزيون ومحاربة البعض له باعتباره أداة قد يكون لها من التأثير ما ذكرنا أو أكثر، فيما لو تغافل عنه المسؤولون في انتقاء ما يعرض على المشاهدين من هذه البرامج المتنوعة من أجنبية أو عربية أو محلية.
ولكن هل تغني هذه البرامج على اختلاف مواضيعها عن اقتناء الكتب أو الاطلاع على بعض ما فيها عن طريق المكتبات العامة، إن تعذر على البعض - أو على الكثير من أفراد الأمة - تأمين ذلك من مواردهم الخاصة؟
هذه البرامج التوجيهية نوع من أنواع الثقافة تقدمه الدولة إلى الشعب وتيسر له سبيله، ولكنه كما قلنا لا يكفي في تزويد أبناء الشعب مما ترجوه لهم - منهم - الدولة، والكتاب وحده هو الزاد الحقيقي الذي يتعطش إليه الراغب في العلم؛ لأنه أداة العلم ووسيلته.
وتجدر رقابة الكتب والصحف والمجلات كرقابة الإذاعة والبرامج التلفزيونية أو أشد؛ لأن للكتب وغيرها من المطبوعات تأثيراً كبيراً في وعي الأمة وعقليتها وسلوكها، لذلك كانت الرقابة وحسن التوجيه مطلوبين أيضاً على هذه الوسائل التثقيفية، بما يتفق وعقيدة هذه الأمة ورايتها التي تحمل شعار التوحيد وما يستلزم هذا الشعار من عمل واعتقاد.
والإسلام - كشأنه في شتى أموره - أسبق من غيره في تقديم هذا الزاد إلى أتباعه خاصة وإلى الناس كافة، وقد أنزل عليهم رب العالمين كتابه لينهلوا من زاده الذي لا ينضب له معين، وصدق الله العظيم:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}
والتزود من هذه الدنيا بخير زاد بالنسبة للمفهوم الإسلامي يدخل في شموله التزود من العلم حيث قال سبحانه وتعالى موجهاً رسوله الكريم أن يسأله الزيادة فيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} والعلم يبقى أجره لصاحبه بعد وفاته إلى يوم القيامة.
ويحدثنا القرآن العظيم في قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام، أن قدرة العفريت في جلب عرش بلقيس كانت دون قدرة صاحب العلم الذي أخذ علمه من الكتاب، فتمكن من أن يأتي لسليمان بالعرش المطلوب قبل أن يرتد إليه طرفه.
فالسر في هذه القدرة الخارقة كامن في هاتين الكلمتين اللتين نوه عنهما رب العالمين: {عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} أي العلم ووسيلته التي هي الكتاب.
فهلا عملنا على توفير الكتاب للشعب وتيسير الحصول عليه وتمكين أفراده من التزود منه علماً ومعرفة وتقوى بأيسر السبل وأقربها تناولاً؟
ومن جملة العوامل التي تساعد على اقتناء الكتب وتشكيل مكتبات خاصة، عدم ارتفاع أسعار هذه الكتب وإسهام الدولة في تخفيض هذه الأسعار، وفي طباعة الكتب المخطوطة أو تجديد طبع ما نفد من أمهات الكتب، ومساعدة المؤلفين على طباعة إنتاجهم، وتقديم الجوائز التقديرية لهم، وإيجاد متفرغين منهم لينكبوا على إخراج بعض الموسوعات أو المعاجم التي نشهدها، وإيجاد مجامع علمية، وغير ذلك مما يساعد على تدعيم هذه النهضة والارتفاع بها إلى المستوى اللائق بأمة قال عنها رب العالمين:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .
وإن النهضة التي نلمس أثرها في شعب المملكة بشكل خاص لم تترك مجالاً من مجالات التقدم والرقي إلا شاركت فيه، وهذا شيء تحمد عليه، وسوف يذكر لها التاريخ هذه النهضة ولا يبخس حق العاملين في سبيلها.
وتدشين المكتبة العامة في مدينة الرياض من سنتين خلتا والإعلان عن تعميم المكتبات في جميع مدن المملكة مثل حي وبارز من الأمثلة العديدة لآثار هذه النهضة، ودليل عملي على الاتجاه الذي تسير فيه الدولة وبشرى للشعب في تعميم هذا الخير على جميع أبنائه في مختلف أطراف المملكة، مدنها وقراها.
ولهذا نستطيع أن نطمئن ذاك الرجل الذي تمنى أن تكون في جدة، هذه المدينة الرئيسية من مدن المملكة، والتي هي من دلائل نهضة هذه المملكة مكتبة عامة كبرى أو مكتبات تفي بحاجة الشعب للتزود من هذا الزاد المشروع المندوب، نطمئنه بأنه ستكون هنالك مكتبة عامة كبرى بإذن الله.
وفي هذه المدينة بالذات يوجد رجل من أبنائها، صاحب مكتبة خاصة تعتبر من أغنى المكتبات بالكتب العلمية، ينبئك عن أمثاله من أبناء جدة في حرصهم على اقتناء الكتب والتزود منها علماً ومعرفة وديناً، وهو الشيخ محمد نصيف، أمد الله في عمره ونفع به وبآثاره ومخلفاته، وقد بلغنا أنه أهدى مكتبته (هذه) القيمة إلى مدينة جدة لتكون نواة لمكتبة عامة، فجزاه الله عن بلده وأمته خير الجزاء وأكثر من أمثاله.
ولما كان التسابق العلمي في عصرنا هذا بلغ شأواً بعيداً جداً، لم يكن ليدرك أو يتوصل إليه لولا تسهيل أسباب العلم والمعرفة لأبنائه وإذ كانت الأندية الثقافية والجمعيات العلمية، وقاعات المحاضرات العامة والمراكز الثقافية، والمكتبات العامة الكبرى، والمكتبات الخاصة بالمراكز العلمية والجامعات والمدارس والمعاهد، ومكتبات البلديات، والمكتبات العامة المتنقلة بين القرى، مع وسائل التثقيف الأخرى التي تشارك في تعميم الثقافة وتيسير إيصالها إلى أبناء الشعب في مختلف مدنه وقراه، من أكبر العوامل المشاركة في هذه النهضة العلمية المعاصرة.
لذلك فإن الإكثار منها معناه المساهمة في الأخذ بأسباب هذه النهضة وتبويئها المكانة اللائقة بها.
ولما كانت الغاية من هذا البحث هي (تسيلط الأضواء) إن صح هذا التعبير على المكتبات العامة وعلى أثرها في تثقيف الأمة، لهذا يجدر بنا أن نضرب مثلاً على ذلك ما كانت عليه دورنا العميلة وما كانت تحتويه من كتب، في وقت لم تتوفر فيه أسباب الطباعة كما هي عليه الآن إذ كانت الكتب تكتب باليد، ويستنسخ منها المئات لتعميمها ونشرها بين الناس، وكثرة الكتب المخطوطة التي تطبع في وقتنا الحاضر والموجود منها في مكتبات العالم الكبرى لأكبر دليل على مدى ما توصلت إليه حضارتنا في العصور الماضية.
وينقل لنا (آدم متز) في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) عن بعض المراجع الإسلامية أنه كان في كل جامع كبير مكتبة؛ لأنه كان من عادة العلماء أن يوقفوا كتبهم على الجامع، ويقال إن خزانة الكتب بمرو كانت تحتوي كتب يزدجرد لأنه حملها إليها وتركها، ص 322.
وفي هامش هذه الصفحة يقول: "وقد ترنم ياقوت بذكر مكاتب مرو مع تأخر الزمن به، وكان قد أمضى بمرو ثلاث سنين، فتغنى بأيامه فيها شعراً جميلاً، وكان بها على عهده اثنتا عشرة خزانة بأحدها نحو من اثني عشر ألف مجلد"، يقول ياقوت:"وكانت (الخزائن) سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثر بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار، فكنت أرتع فيها وأقتبس من فوائدها وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الأهل والولد"(معجم البلدان ج4 ص 509-510) من الطبعة الأوروبية.
ويقول في الصفحة 325: "وقد عمل علي بن يحيى وكان ممن جالس الخلفاء، حوالي منصف القرن الثالث الهجري خزانة كتب عظيمة في ضيعته وسماها خزانة الحكمة، وكان يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة لهم والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى".
ويقول أيضاً في الصفحة 329: "على أنه قد ظهرت إلى جانب دور الكتب مؤسسات علمية أخرى تزيد على دور الكتب بالتعليم أو على الأقل بإجراء الأرزاق على من يلازمها، فيحكي عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه الشافعي المتوفى عام 323هـ، أنه أسس داراً للعلم في بلده، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب علم، لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب، وكان معسراً أعطاه ورقاً وورقاً (أي الفضة) ".
وقد حدثتنا كتب التاريخ أن بغداد كان فيها من المكتبات ما لا يحصى عدده، حتى جاءها الغزو الوحشي فقضى على معالمها، وقد تغير لوم مياه دجلة من مداد الكتب التي ألقيت فيها.
وأثر هذه النهضة العلمية الإسلامية بارز وناطق في مكتبات العالم الكبرى حيث حرصت هذه المكتبات على جمع الكتب والمخطوطات الإسلامية، وإن كل زائر لهذه المكتبات ليدهش مما تحتويه من آثارنا الخالدة التي تهيب بأبناء الأمة الإسلامية أن يعيدوا هذا الماضي المجيد في مستقبل مشرق رائد.
وبالإضافة إلى هذه المكتبات العامة الكبرى - في عواصم العالم - فإن إلى جانبها مكتبات عامة أخرى على نطاق أضيق، منها ما هو مستقل بذاته، ومنها ما هو مرتبط بالمعاهد والكليات.
وجميع هذه المكتبات تيسر لروادها المراجعة، حتى إنها تفتح أبوابها في الوقت الذي يسهل على راغب المطالعة الحضور إلى هذه المكتبات في غير أوقات الدوام الرسمي للموظفين أو المعاهد العلمية، أي أنها لا تقتصر على دوام واحد لمدة ثماني ساعات فقط، وإنما تمتد إلى ضعف هذه المدة، فيتمكن بذلك الموظف والعامل والطالب وغيرهم من الاستفادة من هذه المكتبات بالحضور إليها خارج أوقات عمله.
وهناك في بعض المدن الكبرى مكتبات عامة تعرف باسم (المكتبات البلدية) وهي منتشرة هناك بكثرة، وتابعة لكل قسم من أقسام المدينة، وهي تسهل على أبناء هذا القسم أو المنطقة التزود من الكتب والإطلاع عليها في المكتبة، واستعارتها بإخراجها من المكتبة وفقاً للشروط التي يلتزم بها المستعير، ولا يدفع المستعير أي ضمان لقاء استعارته الكتب من المكتبة، وإنما يملي استمارة باسمه ومحل إقامته واسم الكتاب الذي يريده ورقمه، والمدة التي سيبقى الكتاب عنده فيها.
كما أن تيسير إعارة الكتب يحقق وجود أكثر من نسخة لكل كتاب، ومن هذه الاستعارة أو من المطالعة بشكل عام تتمكن الدولة من معرفة أي اتجاه يتجه إليه أبناؤها في مطالعتهم لهذه الكتب، وأي عنصر من عناصر الثقافة يقبلون عليه، وعلى ضوء ذلك تعمل الدولة على توجيه أبنائها الوجهة التي تراها أصلح لهم في دعم هذا الاتجاه أو تحويله، بأساليبها الخاصة إلى الوجهة الأخرى.
وهناك مثل آخر على تيسير سبل الثقافة لغالبية أبناء الشعب ممن يسكن بعيداً عن المدن، كسكان الأرياف والمناطق الزراعية البعيدة، فإن الدولة تؤمن لهم مكتبات عامة متنقلة تيسر على سكان تلك المناطق النائية استعارة الكتب في فترات محددة، حيث تطوف عليهم هذه المكتبات المتنقلة في كل أسبوعين مرة أو في كل شهر على أبعد تقدير.
ولا أريد أن أتوسع في هذه الاستشهادات ولكني أردت أن أضرب المثل على اعتناء بعض الأمم بأبنائها من هذه الناحية العلمية الهامة بتيسير أسباب العلم والثقافة لهم بشتى الطرق والوسائل.
والإسلام الذي تقوم رسالته على العلم والتزود من العلم إلى جانب الأسس الأخرى التي يدعو إليها، لم يسبقه أحد، في هذه الناحية، حتى إن أول آية أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم تتضمن الأمر بالقراءة وتكرار الأمر بالقراءة وربط القراءة بالقلم الذي هو ربط وسيلة الكتابة، والكتاب الذي هو مصدر القراءة.
يقول تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فهي دعوة صريحة إليه، ورأس الكتب جميعاً هو كتاب الله سبحانه الذي يدعونا إلى قراءته وتدبره والعمل بأحكامه.
يقول عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر 17) .
ويقول سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد 24) .
ويقول أيضاً: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (ص 29) .
وعلى هذا تكون المكتبات العامة ذات أثر كبير على تثقيف أبناء الأمة، ويكون إيجادها والإكثار منها، وتيسير أسباب المطالعة فيها من الأمور التي يدعو إليها الإسلام ويرغب فيها؛ لأنه دين العلم والإشادة بالعلم والعلماء، والعلم - كما قلنا في مطلع هذا البحث - لا يأتي إلا بالتعلم، والكتاب هو الوسيلة الأولى لهذا العلم، وتوفير هذا الكتاب وتيسير الوصول إليه وتعميمه على أبناء الأمة هو من مقتضيا المصلحة الكبرى التي يقوم على تحقيقها الحكم الصالح في كل زمان ومكان.
آداب المجالس
إذا جلست فأقبل على جلسائك بالبشر والطلاقة، وليكن مجلسك هادئاً، وحديثك مرتباً واحفظ لسانك من خطئه، وهذب ألفاظك، والتزم ترك الغيبة، ومجانبة الكذب والعبث بأصبعك في أنفك، وكثرة البصاق والتمطي والتثاؤب والتشاؤم، ولا تكثر الإشارة بيدك، واحذر الإيماء بطرفك إلى غيرك، ولا تلتفت إلى من وراءك، فمن حسنت مجالسته ثبتت في الأفئدة مودته، وحسنت عشرته، وكملت مروءته.