الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 16
فهرس المحتويات
1-
من الصحف والمجلات - إعلام الشوكة البحرية للإسلام: للفقيد محمد الفاضل بن عاشور
2-
أخبار الجامعة: المجلس التنفيذي للجامعة الإسلامية يعقد في الجامعة الإسلامية
3-
آراء العلماء في المناسبة: للشيخ أحمد حسن
4-
أضواء إسلامية على بعض الأفكار الخاطئة: بقلم الشيخ ربيع بن هادي
5-
إفك مفترى حول عيسى عليه السلام: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
6-
الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم: بقلم الشيخ: محمد المهدي محمود علي
7-
المركز الثقافي الإسلامي باسكندنافية
8-
أولياء الله: للدكتور طه الزيني
9-
أين التقدم؟ ! : للشيخ عبد الله قادري
10-
بين الكتب: للأستاذ محمود محمد شاكر
11-
الإسلام والحياة - خطوات المنهج العقلي في الإسلام: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
12-
خنافس: بقلم الشيخ محمد المجذوب
13-
دراسات في السنة النبوية: بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي
14-
دور المستشرقين في تشويه الحقائق الإسلامية: بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
15-
رسالة المركز الثقافي الإسلامي باسكندنافية: مدير المركز يحيى زكريا سين
16-
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
17-
ملاحظات متجول: بقلم الشيخ عبد المهيمن أبو السمح
18-
ندوة الطلبة - النجاح والرسوب ونقاش بينهما: بقلم عبد الرحمن محمد الأنصاري
19-
يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
من الصحف والمجلات
إعلام الشوكة البحرية للإسلام
للفقيد محمد الفاضل بن عاشور
ظهر الإسلام في أرض هي جزيرة بين البحار، وسطع نوره بين أمة عرفت البحر ومارسته، واتخذته طريقا للتجارة، وسبيلا للغزو، ووسيلة للمعاش. فمن الواضح الضروري أن يكون لغزاة البحر في الإسلام، وللأساطيل وآثارها في تكوين الدولة وشد أزرها، ما لم تزل معالمه قائمة، وشواهده ماثلة، بحيث يغني فيه العيان عن البيان.
ولكن المهم وراء ذلك هو البحث عن أولية الحياة البحرية في الإسلام وكيف نشأت متسلسلة على الحياة البحرية للعرب في الجاهلية ومتولدة منها، في الأطوار الأولى لدولة الإسلام العربية قبل أن تتعاون أمم العرب والعجم على النهضة بعبء الحضارة الإسلامية وتتكاتف على احتمال أمانة الرسالة.
فقد احتفظ تاريخ ظهور الإسلام بذكريات عزيزة راسخة في قرارته، من حديث البحر ورجاله وأساطيله. وشرف البحر بما شرفت به أولية الرسالة الطاهرة، وكتب في صحيفة ما ابتلي به السابقون من المؤمنين، من ابتلاء بالهجرة.
فأول ما عرفت الهجرة في الإسلام كان البحر طريقها، والسفينة مطيتها، يوم كانت بلاد الحبشة أرض الهجرة الأولى للمسلمين، وقد اشتد بهم الأذى في مكة، فسافرت منهم طائفة إلى الحبشة، في سفينة اخترقت بهم البحر الأحمر، وكانوا خمسة عشر بين رجال ونساء ثم رجعوا إلى البلد الحرام فلم يلبثوا أن عادوا مخترقين البحر مرة ثانية، في عدد وافر، يناهز المائة، فأقاموا عشر سنين. وصادف أن خرج أثناء ذلك جماعة من الأشعريين، من اليمن في سفينة يريدون الحجاز، فاضطرب البحر بسفينتهم، وألقتهم الرياح إلى العدوة الحبشية، فالتقوا بإخوانهم المهاجرين من قريش، وأقاموا بالحبشة، ولم يرجعوا إلا في العام السابع من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وهؤلاء السادة هم الذين عرفوا في لسان علماء السنة بأهل السفينة، ولهم قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان"وإن دينا يكون البحر أول طريقي هجرته، زمن الدعوة والابتلاء لحقيق بأن يهرع إلى البحر، موجدا منه لنفسه طريقا زمن التوسع والفتح، لاسيما وباب الغزو البحري مفتوح في الإسلام من عهد البعثة على لسان الوحي فقد ورد في حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى الهاجرة يوما في بيت عبادة بن الصامت الأنصاري رضي الله عنه فنام فلما استيقظ استيقظ ضاحكا، فقالت زوجة عبادة أم حرام بنت ملحان:"ما يضحكك يا رسول الله؟ "قال: "عجبت من قوم من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة". قالت: "أدع الله أن يجعلني منهم"، قال:"أنت مع الأولين"، وأعاد ذلك مرتين أو ثلاثا.
وقد بقي من يومئذ هذا الأمل مكنونا في نفوس المسلمين. ومضت الغزوات النبوية برية لم تخرج إلى البحر، ولم تعتد بلاد العرب. واستمر الأمل العزيز مكنونا كذلك، في خلافة الصديق رضي الله عنه إذ لم تزايل غزواته إلى الشام الطريق البري الذي ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلكه بنفسه من تبوك.
حتى إذا أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه واتسعت الفتوح وتعددت مسالكها، بدأ الأمل المكنون يتطلع إلى البروز، فبدأ التردد، ثم ظهر الجدال، ثم آل الأمر إلى المحاولات.
وكذلك المعارضة الشديدة في ذلك، تبدو من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لشدة حذره على المسلمين، ولما كان يعلم من ضعف استعدادهم يومئذ بالنسبة إلى أعدائهم الذين كانت بيدهم أهم القواعد البحرية، فكان يرى من الجرأة المذمومة أن يغرر بالمسلمين تغريرا قد يحتمل سوء مغبته، وهو الراعي المسؤول، كما علل بذلك ابن خلدون.
أما الساعي لتحقيق فكرة الغزوات البحرية، فقد كان يضطلع بزعامته صحابيان جليلان من عمال سيدنا عمر، هما العلا بن الحضرمي، عامل البحرين، على المحيط الهندي، ومعاوية بن أبي سفيان، عامل الشام على البحر الأبيض المتوسط.
أما العلاء فقد جمع جنده من البحرين بدون إذن الخليفة، وعبر بهم البحر إلى شواطئ البلاد الفارسية، وقصد عاصمة الفرس، يومئذ وهي مدينة إصطخر، فكانت لهم مواقع عظيمة، أحرقت فيها سفن المسلمين، وحوصروا، وسدت عليهم مسالك الرجوع. وبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فاشتد غضبه، وعزل العلاء، وأنجد الجيش المحصور بمدد من البصرة فك عنهم حصارهم، وخاض معارك جديدة حمدت آثارها.
وبهذا يتبين أن العلاء بن الحضرمي هو أول من ركب البحر غازيا في الإسلام وبذلك جزم المقريزي، إلا أن جمهور الأدباء والمؤرخين لا يعدونها في الأوليات فيقولون: أول من ركب البحر معاوية بن أبي سفيان، ولعل ضعف أثر هذه الغزوة، وخلوها عن إذن الخليفة هو الذي دعاهم إلى ذلك.
وأما معاوية فقد كان محل عمله بالشام منتهيا إلى حدود الروم، وكانت مملكة الروم الشرقية هي التي بقيت تناهض سطوة الإسلام، بعد القضاء على مملكة الفرس، في موقعة القادسية الحاسمة، وكانت عاصمة المملكة مدينة قسطنطينية قبلة أنظار العالم، بعد سقوط روما، فكان معاوية يلح على عمر رضي الله عنهما في غزوة بلاد الروم بحرا، ويذكر له قرب مواقع المسلمين من مواقع الروم. وإزاء هذا الإلحاح رأى أمير المؤمنين أن يوجد لديه شيئا يعتمد عليه للخروج من تردده، فكتب إلى عامله على مصر: عمرو بن العاص، يستوصفه البحر، فأجابه عمرو بكتابه المشهور، مؤكدا ما في نفس أمير المؤمنين من مخاوف. وعلى ذلك اعتمد عمرن ورفض إلحاح معاوية رفضا باتا، جاعلا له من قصة العلاء بن الحضرمي عبرة.
وسكت معاوية رضي الله عنه من إلحاحه بقية الخلافة العمرية، حتى إذا صارت الخلافة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، أعاد استئذانه فأعرض كما أعرض الخليفة من قبله. حتى إذا تكرر إلحاح معاوية أجابه: على شرط أن لا ينتخب الناس لذلك، ولا يقرع بينهم، ولكن يخيرهم فمن تطوع بالغزو في البحر وجهه.
وبهذه الصورة تكونت أول غزوة بحرية رسمية في الإسلام سنة 28، وكانت وجهتهم الأولى جزيرة قبرص فتوجه إليها أسطول الشام، الذي جهزه معاوية بقيادة عامله على البحر عبد الله بن قيس الجاسي، وأسطول مصر بقيادة عبد الله بن أبي السرح، فاتح إفريقية. والتقى الأسطولان على قبرص فنصبا حصارا لم يرفع إلا بمعاهدة صلحية تضمنت إلزام أهل جزيرة قبرص بدفع جزية سنوية وإباحة طريقهم لقوات الإسلام إلى سواحل الروم، وإنذار المسلمين بكل خطر يتهددهم من الروم.
وكان ممن ركب البحر في هذه الغزوة عبادة بن الصامت، وزوجه أم حرام بنت ملحان رضي الله عنهما، وهي التي تلقت من النبي صلى الله عليه وسلم البشارة بغزو البحر وأنها من أول من ركبه، وفي هذه الغزوة استشهدت ودفنت بجزيرة قبرص، وضريحها معروف فيها إلى اليوم.
وبهذه الغزوة فتح للأسطولين الإسلاميين: أسطول مصر وأسطول الشام، طريق صولتهما بالبحر فكانت لهما مواقع مهمة كموقعة ذات الصواري التي انتصروا فيها على ملك الروم قسطنطين سنة 31 وفتح قبرص بعد انتقاض الهدنة سنة 33 وحصار القسطنطينية سنة 50 حتى أن عبد الله بن قيس الجاسي غزا بعد حصار قبرص، خمسين غزاة بحرية، صيفا وشتاء لم ينكب أسطوله ولم يغرق من جيشه أحد في البحر، حتى قتل شهيدا مغدورا في بعض استطلاعاته بشواطئ بلاد الروم.
بين الكتب
للأستاذ محمود محمد شاكر
((إن لغة العرب كانت لها السيادة في إفريقية وآسية، فزاحمتها لغات الغزاة حتى زحزحتها عن مكانها، أو أزالتها من الأسنة، ووضعت في ألسنة الإفريقيين والآسيويين ألسنة إنجليزية، أو هولندية، أو برتغالية وقد شهدنا بالأمس القريب اجتماع الإفريقيين وغيرهم في مصر فكان خطيب كل أمة يخطب بالإنجليزية أو الفرنسية، وآباء هذا الخطيب نفسه كانوا إلى عهد قريب يكتبون بالعربية، ويؤلفون بها ويقولون فيها شعرا، هذا على قلة التواصل كان بينهم وبين بلاد العرب لبعد المسافات، وغلبة الاستعمار، والذي حدث هو أن الاستعمار قد جعل حرب اللغة العربية أحد أسلحته، كما جعل التبشير سلاحا لمحو الإسلام من إفريقية، وهو يصرح بهذا اليوم غير موارب فيما يكتب عن إفريقيا)) .
تقول المبشرة ((أنا مليجان)) إن المدارس أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير التعليم المسيحي، وهذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوما ما قادة أوطانهم!!
وتقول أيضا: ((في صفوف كلية البنات بالقاهرة بنات آباؤهن باشوات وبكوات وليس ثمة مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحي وليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة)) .
ويقول زويمر في وصاياه للمبشرين:
((ينبغي للمبشرين أن لا يقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوروبيين، وتحرير النساء)) .
وفي الصحافة يقول المبشر ((ولسن كاش)) :
إن الصحافة لا توجه الرأي العام فقط، أو تهيئه لقبول ما ينشر عليه بل هي تخلق الرأي العام ((تأمل هذه العبارة جيدا)) وقد استغل المبشرون الصحافة المصرية على الأخص للتعبير عن أراء المسيحية أكثر مما استطاعوا في أي بلد إسلامي آخر ((تأمل هذه أيضا)) .
لقد ظهرت مقالات كثيرة في عداد من الصحف المصرية، إما مأجورة في أكثر الأحيان أو بلا أجرة في أحوال نادرة.
ويعقب مؤلف ((أباطيل وأسمار)) على هذه التقارير بقوله:
((فمن الغفلة التي تطمس القلب والعين والعقل، أن يعرف ذلك إنسان له بقية من نخوة أو كرامة، أو عقل، ثم لا يعيد النظر في كل من أمور الأمة العربية والإسلامية، ليرىأثر إصبع التبشير العامل على تحطيم النفس العربية المسلمة، في كل ناحية من نواحي الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية، وليبصر عيانا صدوع التحطيم والهدم ظاهرة في حياتنا، وليدرك أن العدو الذي يريدنا أن نعتنق مبادئ الحضارة الغربية، وأن يفشي طريقة العيش الغربية، إنما يريد أن يقوض بناء كاملا تمّ كماله في قرون متطاولة، وبقي يقارع الخطوب والأحداث والنكبات دهورا، محتفظا بقوته وكيانه ولم يجترئ عليه العالم الأوروبي المسيحي، إلا بعد طول تردد في القرن التاسع عشر كما قال ((توينبي)) .
من كتاب أباطيل وأسمار
للأستاذ محمود محمد شاكر
الإسلام والحياة
خطوات المنهج العقلي في الإسلام
بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
من علماء الأزهر
اتخذ الإسلام في منهجه العقلي أربع خطوات متتالية:
أولا - محاربة الجمود والتقليد:
لأن البناء على أساس عقلي متين يقتضي تنقية الرواسب والأكداس التي خلفتها القرون الماضية وأكسبتها طابع القداسة فهيمنت على العقول وحجبتها عن البحث والتأمل التفكير وقد أنب القرآن المشركين على تمسكهم بآراء السابقين من الآباء والأجداد ولو كانوا على ضلال مبين قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وقال تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} .
ثانيا - مكافحة المكابرة والعناد:
والمعاندون هم الذين يرون الحقائق ماثلة أمام أعينهم ولكنهم يكابرون ويجادلون ويختلقون الأكاذيب، لطمس الحقائق وصرف العقول، وهم الذين يقول الله تعالى فيهم:{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} ، وإذا وضح الحق ماثلا أمامهم لا سبيل إلى نكرانه كابروا، {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} فإذا أحرجتهم الحقائق الملموسة تعنتوا في جدالهم وطالبوا بالمستحيلات، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} .
ومن هؤلاء من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وفيهم يقول الله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} ويقول فيهم: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} وأمثال هؤلاء لا سبيل إلى جدالهم، وإنما السبيل فضحهم وكشف عبثهم حتى لا يفتنوا غيرهم بما يلفقونه من سفسطة ومهاترات.
ثالثا - التأمل والاستنباط:
بعد أن تحرر العقول من أغلال التقاليد البالية والمعتقدات الفاسدة وبعد أن تُكشف أباطيل المكابرين المتعنتين، تستطيع أن تنطلق حرة طليقة باحثة عن الحق متطلعة إلى الهداية منقبة عن الصواب، وقد ناشدها الإسلام أن تتأمل في ملكوت السموات والأرض وأن تتدبر ما أبدع الله من كائنات {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} ، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} ، ولا يكتفي الإسلام بهذا بل إنه يحفزنا أيضا إلى التأمل الذاتي في تكويننا الجسمي والعقلي {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} ، {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} ، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} وكلما لفت القرآن نظر المسلمين إلى آية من آيات الله أهاب بالعقل أن يتدبرها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ِلأُولِي الألْبَابِ} {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
رابعا- النتائج العقلية مؤيدة بالبراهين:
وبعد أن تنشط العقول من عقالها. وتتدبر ملكوت السماوات والأرض يعينها الإسلام على الوصول إلى النتائج العلمية مؤيدة بالدليل المنطقي الملموس {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
وهكذا نجد الحقيقة الكبرى مقررة مدعمة بالبرهان العقلي النافع الذي لا يعتريه شك أو إيهام، ولا يكتفي القرآن بتقرير المبادئ العليا بدليل واحد أو برهان مفرد، بل يسوق البرهان معززا بالبرهان حتى لا يدع للمكابرين حجة أو دليلا، استمع إلى قوله تعالى في تقرير الوحدانية المطلقة.
وفي التدليل على البعث والنشور يسوق القرآن الأدلة القاطعة والبراهين الدامغة يتلو بعضها بعضا، استمع إلى قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .
ويقول جل شأنه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهكذا يظل القرآن يوالي الحقائق مشفوعة بالدليل القاطع والبرهان المبين {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} .
خنافس
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
وذي جمة جلّلت منكبيه.
وأخصب في عارضيه الشعَرْ.
يميس بعطفيه مستهترا.
كأنّ بهِ سورة من خَدَر.
دلفت إليه فحييتُه.
وقلت: تبارك من قد فَطَر.
دلالُ الإناث وصوت الرجال.
أأُنثى وراءهما. .أم ذكر؟.
فأمسك في قِحَةٍ شيئَه.
ليعلنَ من خُلقه ما استتر.
فقلت: بذا يتساوى الجميعُ.
ولا يَفْضُلُ الآدمون البقر.
وأما الرجولةُ فهي التي.
أُسائِلُ عنها ولا من أثر!.
ونعرفها بالإباء الحميّ.
على نزوات الخنا والدّعَر.
وأين الخنافسُ من مجدِها.
وليسوا سوى حفنةٍ من قذر!.
فراح يقهقه من منطقي.
ورحت أُسجل تلك العِبَر.
وأُسأل نفسيَ في حرقةٍ:.
أيُحْسبُ هذا القذي في البشر!.
وكيف نُرجّي بذاك الغثاءِ.
جلاءَ العِدى ونوالَ الظفر!.
ويا ذلّ شَعبٍ بفتيانهِ.
إذا بلغوا ذلك المنحدَر!
.
دراسات في السنة النبوية
بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي
السنة اصطلاحا:
يختلف معنى السنة اصطلاحا حسب اختلاف الأعراض والمقاصد التي لأجلها توجه العلماء في البحث عنها. فالسنة بالنسبة إلى القرآن هي ما كانت منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم ينص عليها في الكتاب العزيز. وهي إما أن تكون بيانا لكتاب الله عز وجل أو تخصيصا له ولهذا السبب أطلق عليها الحديث بمقابلة القديم وهو كلام الله [-1] والعلم عند علام الغيوب.
وعند المحدثين: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية سواء قبل البعثة أو بعدها.
وعند الأصوليين: السنة هي ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. والأمثلة على ذلك:
من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخرجه الترمذي عن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى لله مسجدا بنى الله مثله في الجنة"[1] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. ومن فعله صلى الله عليه وسلم: ما أخرجه الترمذي أيضا عن البراء بن عازب قال: "كانت صلاة رسول الله صلى عليه وسلم إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود قريبا من السواء"[2] .
ومن تقريره صلى الله عليه وسلم ما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: "خرج رجلان في سفر. فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يُعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك"وقال للذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين" [3] .
ومن صفة النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: "ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الترمذي هذا حديث غريب [4] .
ومن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الترمذي أيضا عن علي بن أبي طالب قال: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بالطويل ولا بالقصير، شثن [5] القدمين والكفين. ضخم الرأس. ضخم الكراديس، طويل المشرُبَة، إذا مشى تكفّى تكفيا كأنما ينحط من صبب. لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح [6] .
وجه التفريق في معنى السنة عند الأصوليين والمحدثين هو راجع إلى الأغراض والمقاصد. فمثلا الأصولي جل همه أن يدور حول الأحكام الشرعية ليستنبطها من الأمر والنهي. فأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وسيرته خارجة عن دائرة بحثه.
والسنة بهذا المعنى المذكور مطلوبة شرعا والأمة مأمورة باتباعها. فمن القرآن نذكر بعض الآيات المحرضة على اتباع السنة:
قال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [7] روى عن عبد الرزاق قال أخبرني الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال عبد الله ابن مسعود: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" قال بلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب. فقالت يا أبا عبد الله بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله. قالت: إني لأقرأ ما بين اللوحتين فما أجده. قال: إن كنت قارئة لقد وجدتيه. أما قرأت قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم [8] .
قال ابن كثير: "أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم"، ثم قال:"فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ومن لا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر"[11] .
قد يخيل إلى أحد أن الرد كما وجب إلى الله والرسول كذلك وجب إلى أولي الأمر. فهل أولو الأمر في مرتبة الله والرسول في التشريع! فأجاب العلماء على هذا السؤال بأقوال منها:
إن لفظ الطاعة ذكر مع الله والرسول فقط ولم يُعَد مع أولي الأمر. إذا فالطاعة المطلقة مختصة بالله والرسول، أما أولوا الأمر فهم تبع لهما وإلى هذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"[12] .
ومنها: أن الرد لم يكرر مع أولي الأمر ويفيد هذا كذلك أن الرد لم يصح إلى أولي الأمر بل هو مختص بالله والرسول. ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الأعمش والإمام أحمد في مسنده عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: بعث رسول الله صلى عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار. فلما خرجوا وجد عليهم في شيء، قال فقال لهم:"أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ " قالوا: "بلى"، قال:"فاجمعوا إليّ حطبا"ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: "عزمت عليكم لتدخلنها"قال: فقال لهم شاب منهم: "إنما فررتم إلى رسول الله من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها"قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك فقال لهم: "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا إنما الطاعة في المعروف"[13] .
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [14] فأعلمهم بأن مبايعتهم لرسول الله هي مبايعتهم له عز وجل.
قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [15] قال الحافظ ابن كثير: "يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"[16] .
أخرج الشيخان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني"[17] .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على الأخذ بالسنة النبوية الناطقة بالحق المبينة للكتاب ولهذا أجمع المسلمون جيلا بعد جيل وعصرا بعد عصر على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وهي مبينة لكتاب الله عز وجل ومخصصة له، لأن الكتاب جاء مجملا ومعجزا فاقتضت حكمة الله العليا أن يرسل رسولا يفسر للناس كتابه ويوضح مراده بقوله وفعله وتقريره لقيم الحجة على عباده.
فقد قال الإمام الشافعي: "لا حجة في أحد خالف قولُه السنة"[18] فلنذكر هنا بعض الأحاديث الدالة على حجية السنة.
أخرج أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه. لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلاّ أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعاقبهم (يعقبهم) بمثل قراه"[19] .
وأخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعوني ما تركتكم. إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم"[20] .
وأخرج الدارمي عن عرباض بن سارية قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ثم وعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا. فقال:"أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والمحدثات فإن كل محدثة بدعة. وقال أبو عاصم مرة وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"[21] .
وفي سنن النسائي قال النضر بن شيبان قال قلت لأبي سلمة بن عبد الرحمن حدثني بشيء سمعته من أبيك سمعه أبوك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بين أبيك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدقال: نعم. حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"[22] . وفي سنده أيضا عن عبد الله المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عن الثالثة: لمن شاء" قال الراوي: كراهية أن يتخذها الناس سنة [23] وإلي غير ذلك من السنن المذكورة في كتب الأحاديث فلو لم يكن للسنة قيمة ذاتية رفيعة في نظر الشارع لما وردت هذه الآثار إلى هذا الحد الكبير.
--------------------------------------------------------------------------------
[-1] إلى هذا أشار الدكتور الحسيني نقلا من الفتح أصول الحديث النبوي ص23.
[1]
تحفة الأحوذي ج2 ص262.
[2]
المصدر السابق ص153.
[3]
أبو داود ج1 ص143.
[4]
تحفة الأحوذي ج10 ص124.
[5]
قال في النهاية إنهما يمييلان إلى الغلط والقصر وقيل هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر يحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضتهم ويذم في النساء ج2 ص204.
[6]
تحفة _ ج10 _ ص116.
[7]
الحشر: 7.
[8]
جامع بيان العلم وفضله ج2 ص188_ فتح الباري ج1 ص317.
[9]
الأحزاب 36.
[10]
النساء 59.
[11]
ابن كثير ج1 ص551.
[12]
بالمعنى تفسير ابن كثير ج1 ص549.
[13]
نقلا من تفسير ابن كثير ج1 ص549.
[14]
النساء 80.
[15]
الفتح 10.
[16]
تفسير ابن كثير ج1 ص562.
[17]
خ كتاب الجهاد 109 م كتاب الإمارة 32.
[18]
الرسالة ص576.
[19]
دج4 ص279.
[20]
خ ج9 ص77.
[21]
الدارمي ج1 ص44 اللفظ له، واعتصام 5، ت كتاب العلم 16.
[22]
ن ج 4 ص158.
[23]
حم ج5 ص55.
دور المستشرقين في تشويه الحقائق الإسلامية
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
لتدمع العين، ويحزن القلب، وتفجر الشعور، ويضطرب الفكر، عندما يلقي المسلم نظرته العابرة على ما كتبه المستشرقون من كتابات وهمية لا مستند لها إلا خشيتهم قيام هذه الأمة مرة أخرى بما أوجب الله عليها من نشر رسالة نبيها صلى الله عليه وسلم، وبثها إلى العالم، واستماتتها في سبيل نشرها، وتقديم أقصى ما يمكن لها أن تقدم لعدم ما بنته الجاهلية الحديثة الغربية أو الشرقية على حد سواء من عمارة الفساد. والفتن، والشرور، والإلحاد، والزيغ، والزندقة، والعلمانية اللادينية، وغير ذلك من الأمور الشنيعة التي لا حصر لها.
اطلعت أثناء تحضير رسالة الماجستير على كتاب لمستشرق ألماني ترجمه الدكتور حسين نصار من اللغة الإنجليزية إلى العربية، والمترجم مع غفلته وبلادته يعجب من الكتاب لحسن صياغته، وطرافة مادته، إذ يقول: "كنت أجمع المراجع التي أعتمد عليها في رسالتي التي قدمتها إلى كلية الآداب، بجامعة فؤاد الأول لأحصل على درجة الماجستير في نشأة الكتابة في الأدب العربي، فوجدت الكتب التي تتعرض لنشأة التاريخ عند العرب. تستعير كثيرا من كتاب يسمى ((المغازي الأولى ومؤلفوها)) من تأليف الأستاذ الألماني جوزيف هوروفتس. JOSEF HOROVITS
فبحثت عنه فوجدته مقالات في مجلة الثقافة الإسلامية CUZTERE ISLAMIC التي تصدر في حيدر آباد بالهند باللغة الإنجليزية في أعداد عامي 1927- 1928 فعثرت فيه على تحفة رائعة، في نشأة كتب المغازي والسير عند المسلمين، وأطوارها الأولى، اسم الكتاب:
EARLY EIOGRAPHIES. OF THE PROPHET AND THEIRAUTHEORS
وقد ترجمته باسم المغازي، ومؤلفها" [1] .
ثم يقول أخيرا: "مهما يكن من شيء فإن الكتاب تحفة رائعة أقدمها لإخواني القراء في العالم العربي، شاكرا مؤلفها جزيل الشكر، راجيا أن تفتح أمامنا آفاقا جديدة للبحث في مواطن الدراسة العربية".الخ. . .
قلت: لم يكن الكتاب تحفة رائعة كما زعم المترجم أكثر من أن يكون دسا خبيثا، وزعما باطلا، وحكايات واهية خيالية في كثير من مواضعه.
والكتاب عبارة عن تراجم مؤلفي المغازي والسير الأولى، كما عبّر عنه المترجم، ولم يكن المؤلف جوزيف هوروفتس قاصدا من وضع هذه الفصول تزويد القراء بمعلومات قيمة، ومعارف أصيلة في الثقافة العربية، بل أراد منها أشياء أخرى غفل عنها الدكتور حسين نصار، وأنا لا أعتقد أن المسلم إذا عرف حقيقة الأمر- التي سأضعها أمام القراء إن شاء الله تعالى - في صنيع هؤلاء الأعداء من زيغ، وتحريف ثم يتجاهل عنها، أو يتغافل، بل لا بد له من أن يكشف ويظهر للمسلمين ما هناك من حقيقة الأمر.
وإليكم بعض العمل الذي قام به المستشرق المذكور في كتابه آنف الذكر. ترجم في الصفحة الثالثة من كتابه لأبان بن عثمان بن عفان الأموي رحمه الله تعالى لكونه أول مؤلف في المغازي والسير، وهو إمام كبير وتابعي ثقة [2] وعندما لم يجد المستشرق شيئا في ترجمته يمس به عدالته وإمامته، أتى في ترجمته هذه العبارة "ولم تقصر عناية أهل المدينة على العلوم الدينية وحدها، بل عنوا أعظم عناية بالموسيقى والشعر، ومن الخطأ أن يظن أنه لا توجد صلات بين العلماء والشعراء، وإن علماء الدين كانوا جميعا معادين للشعر، بل وجد في المدينة نفسها أعلام من العلماء الدينيين قد برزوا في قول الشعر، وأشهر مثل لذلك تتحقق فيه هذه الصلة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ممن حارب مع النبي في أُحد، وقد خصص أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني [3] فصلا لعبيد الله هذا، وأورد طائفة من شعره، وفعل مثل ذلك ابن سعد في طبقاته [4] وهو معدود من فقهاء المدينة السبعة.
وحينما تيمه حب هذلية حسناء دعا الفقهاء الستة الآخرين في أشعاره التي يخاطبها بها، ليشهدوا على قوة حبه الذي برح به قال:
أحبك حبا لو علمت ببعضه.
لجدت ولم يصعب عليك شديد.
فحبك - يا أم الصبي - مدلهي.
شهيدي أبو بكر وأي شهيد [5] .
ويعلم وجدي القاسم بن محمد.
وعروة ما ألقى بكم وسعيد.
ويعلم ما أخفى سليمان علمه.
وخارجة يبدي لنا ويعيد.
متى تسألي عما أقول فتخبري.
فللحب عندي طارف وتليد.
قلت: عجيب أمر هذه الآبيات المنسوبة إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله تعالى، أُنظروا براعة المستشرق في إيرادها في ترجمة أبان بن عثمان الأموي رحمه الله تعالى، ثم عندي بعض الأسئلة أرغب في توجيهها إلى المستشرق:
أ- هل عرفت تلك الشخصية التي نسبت إليها هذه الآبيات بناء على إخراجها من قبل أبي الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني؟
ب- هل تتفق هذه المعاني القبيحة التي تحملها هذه الأبيات مع ترجمة عبيد الله المذكور؟
ح- هل درست إسناد هذه الأبيات؟
إن كنت لا تدري فتلك مصبية.
أو كنت تدري فالمصيبة أعظم.
وأما ترجمته:
فهو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي رحمه الله، أبو عبد الله المدني.
قال العجلي: "كان أعمى، وكان أحد فقهاء المدينة، تابعي ثقة، رجل صالح، جامع للعمل، وهو معلم عمر بن عبد العزيزن قال أبو زرعة الرازي: ثقة، إمام".
قال الطبري: "كان مقدما في العلم، والمعرفة بالأحكام، والحلال والحرام. وكان مع ذلك شاعرا مجيدا"، وقال بن عبد البر:"كان أحد الفقهاء العشرة، ثم السبعة الذين تدور عليهم الفتوى، وكان عالما فاضلا، مقدما في الفقه، تقيا، شاعرا محسنا، لم يكن بعد الصحابة إلى يومنا هذا - فيما علمت - فقيه أشعر منه، ولا شاعر أفقه منه".
وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: "لو كان عبيد الله حيا ما صدرت إلا عن رأيه"[6] .
قلت: لم يلزم من كونه شاعرا، أن يكون شعره كهذا الشعر الساقط السافل.
ب- لم تتفق هذه المعاني القبيحة المنكرة مع ترجمة المذكور، وقد اتفق علماء الحديث على أنه إمام، تقي، زاهد، كما تراه في المصادر المذكورة.
ح- وأما إسناد هذه الأبيات فهو إسناد موضوع مكذوب كما ستراه إن شاء الله تعالى.
قال أبو الفرج الأصبهاني: حدثنا محمد بن جرير الطبري، والحرمي بن العلاء، ووكيع، قالوا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني إسماعيل بن يعقوب، عن أبي الزناد، عن أبيه، قال: قدمت المدينة امرأة من ناحية مكة من هذيل، وكانت جميلة، فخطبها الناس، وكادت تذهب بعقول أكثرهم، فقال فيها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ثم ساق الأبيات المذكورة [7] .
رجال الإسناد:
أما أبو الفرج الأصبهاني، فهو علي بن حسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مهران، قال الخطيب بإسناده الجيد عن محمد بن الحسين بن الحسين النوبختي يقول:"كان أبو الفرج الأصبهاني أكذب الناس، كان يدخل سوق الوراقين، وهي عامرة، والدكاكين مملوءة بالكتب، فيشتري شيئا كثيرا من الصحف، ويحملها إلى بيته ثم تكون رواياته كلها منها"[8] .
وقال الذهبي: "كان وسخا زريا خلّط قبل موته، وكانوا يتقون هجاءه"[9] .
قلت: يوجد في هذا الإسناد رجل آخر لم أجد له ترجمة في المراجع التي بين يدي، وهو ذكوان القرشي والد أبي الزناد الذي ينتهي إليه إسناد هذه الأبيات.
قال فيه الحافظ بن حجر: "قيل كان أخا أبي لؤلؤة قاتل عمر"[10] .
وأما قول الشيخ حماد محمد الأنصاري -وهو أستاذنا الفاضل بالجامعة الإسلامية - هو ذكوان السمان وهو من رجال مالك في الموطأ الخ
…
فقلت: هذا وهم ظاهر لا يخفى على أمثال الشيخ حماد وفقه الله تعالى لأن أبا صالح الذكوان السمان لم يعرف لأبي الزناد الذي هو عبد الله بن ذكوان عنه سماع، ولعل الشيخ حماد الأنصاري التبس عليه في هذين الراويين لكونهما اتفقا في اسميهما، وأسماء آبائهما، وهذا مما لا شك فيه من أخطر المواضع وإليه أشار الحاكم في علوم الحديث [11] .
ومما قال الشيخ حماد وفقه الله تعالى: "إن رواية أبي الزناد عن أبيه اعتمد عليها مالك في موطئه".
قلت: وقد بحثت عن هذه الرواية في كلا الروايتين الموجودتين عندنا في مكتبتنا أعني رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي، ورواية محمد بن الحسن الشيباني لموطأ الإمام مالك فلم أجد فيهما هذه الرواية فلم أدر على أي رواية اعتمد فضيلة الشيخ حماد الأنصاري حفظه الله تعالى؟
فإن وجد ترجمة الرجل على فرض التقدير وكان ثقة لم تسلم رواية الأغاني التي نحن بصدد نقد إسنادها، فإذا عرفت هذا فاعلم، أن هذه الأبيات القبيحة لم تصح نسبتها إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله تعالى.
وأما قولك يا جوزيف: "وفعل مثل ذلك ابن سعد في طبقاته 185-5"فإني لم أجد الأبيات عند ابن سعد في طبقاته مع أنه ترجم له فيها [12]، ومن جملة ما قال عنه ابن سعد بإسناده عن شيخه الواقدي: إذ قال رحمه الله: "أخبرنا محمد بن عمر، قال حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: كان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يقول الشعر، فيقال له في ذلك فيقول: أرأيتم المصدور إذا لم ينفث أليس يموت؟ "
قلت: إسناد هذا الخبر متروك لكونه روي عن طريق الواقدي.
قال الذهبي: "محمد بن عمر واقد الأسلمي مولاهم الواقدي، القاضي المدني، صاحب التصانيف، وأحد أدعية العلم على ضعفه".
قال الإمام أحمد بن حنبل: "هو كذاب يقلب الأحاديث، يلقي حديث ابن أخي الزهري على معمر ونحو ذا".
قال ابن معين: "ليس بثقة"، وقال مرة:"لا يكتب حديثه"، وقال البخاري وأبو حاتم:"متروك"، وقال أبو حاتم أيضا والنسائي:"يضع الحديث"، قال الدارقطني:"فيه ضعف". قال ابن عدي:"أحاديثه غير محفوظة والبلاء منه". وقال أبو غالب بن بنت معاوية بن عمرو: سمعت ابن المديني يقول: "الواقدي يضع الحديث"، قال المغيرة بن محمد المهلبي سمعت ابن المديني يقول:"الهيثم بن عدي أوثق عندي من الواقدي لا أرضاه في الحديث، ولا في الأنساب، ولا في شيء"، قال إسحاق بن الطباع:"رأيت الوقدي في طريق مكة يسيء الصلاة"، وقال البخاري:"سكتوا عنه ما عندي له حرف"قال ابن راهويه: "هو عندي ممن يضع الحديث"، قال الذهبي:"ومات وهو على القضاء سنة سبع ومائتين في ذي الحجة، واستقر الإجماع على وهن الواقدي"[13] .
قلت: لا تثبت نسبة الشعر إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله تعالى عن طريق الواقدي، فإذا كان هناك إسناد آخر صحيح فلا مانع من قبوله إياه ثم تأويله إلى أنه شعر كشعر حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، كما قال عنه ابن عبد البر:"وكان شاعرا مجيدا محسنا"، ولا يمنعني شيء من عدم قبول روايات الواقدي كلها، فإذا كان عند المستشرق إسناد آخر فليأت به حتى اسبره، وانقده، ولعل هذا محال إن شاء الله تعالى، فإذا عرفت هذا فاعلم علم اليقين أن كتاب المستشرق الألماني المذكور كله مملوء بهذه الحكايات المكذوبة، والروايات المصطنعة والتي لا يثبت سندها أبدا، ولم يقصد من كتابة هذا إلا الطعن والرمي بالانحراف والزيغ لشخصية مباركة إسلامية عظيمة، عرفت بالتقوى والزهد، والعدالة والورع، ولا يخفى عليك أيها المسلم، أنه أراد بهذه الكتابة أن يسقط عدالة هذا التابعي الإمام الذي اعتمد عليه الأئمة الستة وغيرهم ف كتبهم فأخرجوا له جملة كبيرة من الأحاديث في الأحكام والعقائد ونحو ذلك، ولم يكن عمل هؤلاء منحصرا في كتاباتهم التي اطلعت على بعض أجزائها، إنما أسسوا جامعات كبيرة، ومتاحف أثرية لهذا الغرض، واهتموا أشد الاهتمام بدراسات إسلامية أكثر مما اهتموا بالدراسات الأخرى، وخططوا مناهج موبوءة وجبلوا إليها من جبلوا من ضعاف العقول، وبسطاء الضمير من أولاد هذه الأمة المرحومة لكي يخدموهم فيما أرادوه من الباطل والوقيعة، وهذا والله من أشنع الأسلحة الفتاكة التي يستعملها الأعداء في تشويه حقائق هذه الشريعة الصافية النقية.
قال محمد بن سيرين أحد أئمة التابعين الكبار فيما روى عنه مسلم في مقدمة صحيحه بإسناد قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"[14] .
وروى أيضا بإسناد عن أبي عقيل صاحب بهية، قال:"كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله، ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم: "يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين، فلا يوجد عندك منه علم، ولا فرج، أو علم، ولا مخرج"، فقال القاسم: "عم ذاك؟ "
قال: "لأنك ابن إمامي هدى ابن أبي بكر، وعمر"، قال: يقول له القاسم: "أقبح من ذلك عني من عقل عن الله، أن أقول بغير علم، أو آخذ عن غير ثقة"قال: فسكت فما أجابه" [15] .
قلت: لنأسف جدا على هذه الكارثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي حلت بالعالم الإسلامي وهي عدم الاعتداد بشخصيته الإسلامية التي عُرف بها في الماضي المجيد بالعلم والنباهة، وتيسير أمور العالم بأكمله بما عنده من النور الإلهي، والوحي السماوي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. فتلجأ هذه الأمة في هذا العصر إلى الغرب حتى في العلوم الدينية، وتتذلل أمامه على مائدة الخنزير، إنها جريمة خلقية في حق الإسلام لا تغتفر لها أبدا، مع العلم أن مناهجه قد وضعت على أساس أن لا تبقى هذه الأمة على صلابتها وإيمانها، وقوتها، وروحها، ونقاوتها بل تنجرف مع الروح العلمانية التي يعيش فيها الغرب أو الشرق، ومن لف لفهم.
فإلى متى تبقى هذه الأمة عالة على الغرب مع وجود منهج سامق عالمي لديها تستطيع أن تقف به موقفا عظيما شامخا أمام تحديات الإلحاد؟
وإلى متى تعيش هذه الأمة في نظريات منحرفة، وفلسفات مادية لا تتفق مع فطرتها السليمة، وطبيعتها الأصيلة، وعقيدتها الراسخة؟
اللهم يا ولي الإسلام والمسلمين ألهمنا مراشد أمورنا، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، أنت ولي ذلك والقادر عليهن وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
مقدمة الكتاب ص3 طبع بمطبعة الحلبي بمصر -الطبعة الأولى -.
[2]
انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 151- 153/5 وتهذيب الكمال للمزي 49-50 /1خ وتهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر 97/01 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 295/1/1 وتقريب النهذيب للحافظ بن حجر 31/1/01 وخلاصة لأحمد بن عبد الله الخزرجي ص15.
[3]
92-101/8 طبع بولاق.
[4]
185/5 حسب عزو المستشرق.
[5]
البيت مكسور وملحون. وقد اصلحنا عدة أغلاط في الأبيات. (المجلة) .
[6]
أنظر تهذيب التهذيب 22-24/7. ووفيات الأعيان لابن خلكان 271/1. وسير أعلام النبلاء للذهبي المجلد الرابع خ. وصفة الصفوة لابن الجوزي 57/2. وحلية الأولياء للحافظ بان نعيم 188/2. ونكت الهميان ص197.
[7]
الأغاني 95-97/88 طبع بولاق.
[8]
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 399/11.
[9]
نقلا عن الاعلام لخير الدين الزركلي 88/5 وهو بدوره ينقل عن سير اعلام النبلاء انظر: ارشاد الاريب 94-136/13. وفيات الاعيان 421-422/1.والوافي بالوفيات للصفدي 44-46/12 والنجوم الزاهرة 15-16/4. ميزان الاعتدال 223/2. المنتظم لابن الجوزي 71/7. لسان الميزان 221-222/4/1 وشذرات الذهب 19=-20/3 ومرآة الجنان 359/360/2. انظر:مؤلفاته في فهرست ابن النديم 115/1.
والمؤسف أن أديبا سوريا ذا شهرة قد وضع كتابا في توثيق روايات هذا الكذاب الزرى الهجاء غير عابئ بشهادة أئمة الحديث الفاضحة له. وقد تنبه إلى حقيقة الاصفهاني الدكتور زكي مبارك الذي أعطاه ما يستحق في كتابه (النثر الفني) فليفم ذلك قراء كتابه (الاغاني) الذي يوهم بطريقته الاسنادية غير حقيقية. (المجلة)
[10]
تهذيب التهذيب 203/5.
[11]
221/224.
[12]
250/5 الطبقات الكبرى دار صادر بيروت.
[13]
ميزان الاعتدال 662=666/3 انظر تاريخ بغداد للخطيب 21/196. 197/3 الانساب للسمعاني 577/2 ووفيات الاعيان لابن خلكان 640. 741 وارشاد الاريب 277-282/18. وتاريخ جرجان ص165. ومختصر دول الإسلام 99/1. والوافي بالوفيات 238-240/4. ومرآة الجنان 36-38/2 وشذرات الذهب 18/2. والديباج المذهب لان فرحون ص230. وانظر تهذيب التهذيب 363-368/9 وتهذيب الكمال للإمام المزي 1249-1251/6 خ وانظر عبر في خبر من غبر للذهبي 353/1.
[14]
مقدمة صحيح مسلم ص11.
[15]
مقدمة صحيح مسلم ص12.
رسالة المركز الثقافي الإسلامي باسكندنافيا
مدير المركز يحيى زكريا سين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد. .
فنظرا لما تتمتع به صحيفتكم من ثقة وسعة وانتشار وهي وسيلة من وسائل الإعلام بين المسلمين وأداة لمخاطبة ذوي الغيرة والشهامة منهم، وبناء على ما عُهِد فيكم من تجاوب وإخلاص لنصرة كل القضايا الإسلامية ومساعدة المسلمين نتوجه إليكم بهذا الخطاب راجين منكم التعاون والمساندة. . والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. .
فقبل كل شيء نود أن نعلمكم عن تأسيس المركز الثقافي الإسلامي بكوبنهاجن بالدانمرك والذي تأسس لخدمة المسلمين الموجودين هنا ومساعدتهم وتقوية الروابط الأخوية بينهم بالإضافة إلى تعميق المفاهيم الإسلامية لديهم حيث أنهم يعيشون في ظروف روحية سيئة جدا ولا يخفى عليكم ما يحتاجه هذا العمل من إمكانيات وجهود وما يعترضه من صعاب وعقبات، ولكن إيماننا بالله سبحانه وتعالى وثقتنا في تجاوبكم مع هذه الغايات دفعنا لمكاتبتكم آملين منكم مشاركتنا في حمل هذه المهام الجسام التي تعتبر أيضا من واجبات كل مسلم أينما كان. لقد رأينا أن نتصل بكم لنكون أولا على ارتباط وثيق بكم ولتكونوا وسيلة اتصالنا بإخواننا المسلمين في البلاد الإسلامية الذين نأمل منهم العون والمساندة. . فالمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا.
إن عدد المسلمين في الدانمرك حوالي (12) ألف مسلم وهم يحتاجون إلى مكان تقام في الصلاة ويلتقون فيه في المناسبات التي تمر دون أن يشعروا بها، وقد يضطر بعضهم إلى مطالبة الجهات المسؤولة لإعارتهم صلات الألعاب الرياضية لإقامة الصلوات بها، وطبعا لا توافق هذه الجهات إلا على إعطاء الأماكن البعيدة وغير المناسبة أو على الأقل في الأوقات غير المناسبة، وعلى سبيل المثال في عيد الأضحى المبارك الفائت لم تقم صلاة العيد المشروعة لعدم حصولنا على مكان يسهل الوصول إليه بحجة انشغال كل الأماكن وإصرارنا على إقامة الصلاة والتي أقيمت على البلاط دون أي فراش. . وما هذه إلا صورة لإحدى المآسي التي يعيشها المسلمون هناك. . وهي بسيطة إذا قورنت بمشكلة الأطفال الدراسية الذين يفقدون لغتهم نظرا لدراستهم باللغة الدانمركية ولا يجدون أي جهة تدرس لهم اللغة العربية ويتلقون منها شيئا عن الإسلام. . الأمر الذي يفقدهم كل ارتباط بإسلامهم وعروبتهم.
لقد تأسس المركز الثقافي الإسلامي كما تجدون في النظام الأساسي المرفق تحت رعاية سفراء الدول الإسلامية وليقوم بالواجبات المحددة به، ولكن في الواقع لم يتمكن المركز حتى الآن من إيجاد مقر له يجتمع فيه أعضاؤه حيث يجتمعون حاليا في غرفة صغيرة لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا مربعا بالدور الثالث تستعمل للصلاة والاجتماعات رغم مضايقة الجيران والحانة التي فتحت مؤخرا في الدور الأرضي من نفس البناية.
ولا بد لنا أن نشكر هنا كل من الإدارة العامة للأوقاف بالجمهورية العربية الليبية التي تبرعت بمبلغ (5600) خمسة آلاف وستمائة جنيها إسترلينيا وجمهورية موريتانيا التي تبرعت بمبلغ (700) سبعمائة جنيها إسترلينيا رغم ضيق ذات يدها سائلين الله العلي القدير أن يسدد خطى الجميع.
إن واقع المسلمين هنا سيئ جدا وهم في حاجة لمن يساعدهم ويشد من أزرهم فغالبيتهم عمالا تتقاسم أجورهم الضرائب الباهظة والأسعار العالية بالإضافة إلى التزاماتهم المادية نحو أهلهم وذويهم ببلدانهم الأصلية، فنرجو أن تكونوا خير معين لهم، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
وفي الختام نرجو أن تقوموا بدوركم في التعريف بنا وطلب المساعدة لنا وأن تكونوا وسيلة للاتصال بيننا وبين ذوي الفضل والسعة في العالم الإسلامي، كما أننا في حاجة ماسة إلى مساندتكم المادية والمعنوية، ولا يفوتنا أن نؤكد لكم استعدادنا للإجابة على استفساراتكم والتجاوب مع مقترحاتكم وتوجيهاتكم والتي ولا شك ستعيننا إن شاء الله على مواصلة العمل والسعي حثيثا لما فيه خير الإسلام والمسلمين. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون. .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
مدير المركز
يحيى زكريا سين
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
سورة الحجرات
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} . هذه الآية الكريمة تدل على أن خلق الناس ابتداؤه من ذكر وأنثى. وقد دلت آيات أُخر على خلقهم من غير ذلك كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} .
والجواب واضح وهو أن التراب هو الطور الأول وقد قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} وقد بين الله أطوار خلق الإنسان من مبدئه إلى منتهاه بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} إلى آخره.
سورة ق
قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} هذه الآية تدل على خصوص التذكير بالقرآن بمن يخاف وعيد الله وقد جاءت آيات أخر تدل على عمومه كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} والجواب أن التذكير بالقرآن عام إلا أنه لما كان المنتفع به من يخاف وعيد الله صار كأنه مختص به كما أشار إليه قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} كما تقدم نظيره مرارا.
سورة الذاريات
قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} . لا يخفى ما بين هذا النعت ومنعوته من التنافي في الظاهر لأن النعت صيغة جمع والمنعوت لفظ مفرد. والجواب أن لفظة الضيف تطلق على الواحد والجمع لأن أصلها مصدر ضاف فنقلت من المصدرية إلى الاسمية كما تقدم في سورة البقرة.
سورة الطور
قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} هذه الآية تقتضي عموم رهن كل إنسان بعمله ولو كان من أصحاب اليمين نظرا لشمول المدلول عليه بلفظه كل وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم شمولها لأصحاب اليمين وهي قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ} .
والجواب ظاهر وهو أن آية الطور هذه تخصصها آية المدثر.
سورة النجم
قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} . هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجتهد في شيء وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ربما اجتهد في بعض الأمور كما دل عليه قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} . وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} الآية.
والجواب عن هذا من وجهين: الأول - وهو الذي اقتصر عليه ابن جرير وصدر به ابن الحاجب في مختصره الأصولي إن معنى قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي في كل ما يبلغه عن الله أن هو أي كل ما يبلغه عن الله إلا وحي من الله لأنه لا يقول على الله شيئا إلا بوحي منه فالآية رد على الكفار حيث قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن كما قال ابن الحاجب.
الوجه الثاني: أنه إن اجتهد فإنه إنما يجتهد بوحي من الله يأذن له به في ذلك الاجتهاد وعليه فاجتهاده بوحي فلا منافاة. ويدل لهذا الوجه أن اجتهاده في الإذن للمتخلفين عن غزوة تبوك أذن الله له فيه حيث قال له فأذن لمن شئت منهم. فلما أذن للمنافقين عاتبه بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} . فالاجتهاد في الحقيقة إنما هو في الإذن قبل التبين لا في مطلق الإذن للنص عليه. ومسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وعدمه من مسائل الخلاف المشهورة عند علماء الأصول وسبب اختلافهم هو تعارض هذه الآيات في ظاهر الأمر.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر أن التحقيق في هذه المسألة أنه صلى الله عليه وسلم ربما فعل بعض المسائل من غير وحي في خصوص كإذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك قبل أن يتبين صادقهم من كاذبهم وكأسرة لأسارى بدر وكأمره بترك تأبير النخل وكقوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت" الحديث. .إلى غير ذلك. وإن معنى قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} لا إشكال فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بشيء من أجل الهوى ولا يتكلم بالهوى وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} يعني أن كل ما يبلغه عن الله فهو وحي من الله لا بهوى ولا بكذب ولا افتراء. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} هذه الآية الكريمة تدل على أنه لا ينتفع أحد بعمل غير. وقد جاءت آية أخرى تدل على أن بعض الناس ربما انتفع بعمل غيره وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية. فرفع درجات الأولاد سواء قلنا انهم الكبار أو الصغار نفع حاصل لهم وإنما حصل لهم بعمل آبائهم لا بعمل أنفسهم. اعلم أولا أن ما روي عن ابن عباس من أن هذا كان شرعا لمن قبلنا فنسخ في شرعنا غير صحيح بل آية وأن ليس للإنسان محكمة كما أن القول بأن المراد بالإنسان خصوص الكافر غير الصحيح أيضا والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول - إن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره لأنه لم يقل وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى. وإنما قال وأن ليس للإنسان. وبين الأمرين فرق ظاهر لأن سعي الغير ملك لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير وإن شاء أبقاه لنفسه وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه.
الثاني - أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم إذ لو كانوا كفارا لما حصل لهم ذلك فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين كما وقع في الصلاة في الجماعة فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة. وهذا الوجه يشير بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة. وهذا الوجه يشير ليه قوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} .
الثالث – إن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} . ولكنه من سعي الآباء فهو سعي الآباء أقر الله عيونه بسببه بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد فانتفاع الأولاد تبع فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين والخلق الذين ينشؤهم للجنة والعلم عند الله تعالى.
سورة القمر
قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} يدل على أن عاقر الناقة واحد وقد جاءت آيات أُخر تتدل على كونه غير واحد كقوله فعقروا الناقة الآية.
وقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} .
والجواب من وجهين: الأول - أنهم تمالئوا كلهم على عقرها فانبعث أشقاهم لمباشرة الفعل فأسند العقر إليهم لأنه رضاهم وممالأتهم.
الوجه الثاني - هو ما قدمنا في سورة الأنفال من إسناد الفعل إلى المجموع مرادا به بعضه وذكرنا في الأنفال نظائره في القرآن العظيم والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} . تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية.
سورة الرحمن
قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن إرسال شواظ النار الذي هو لهبها والنحاس الذي هو دخانها أو النحاس المذاب وعدم الانتصار ليس في شيء منه إنعام على الثقلين. وقوله لهم فبأي آلاء الله أي نعمه على الجن والإنس.
والجواب من وجهين: الأول - أن تكرير {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} للتوكيد ولم يكرر متواليا لأن تكريره بعد كل آية أحسن من تكريره متواليا وإذا كان للتوكيد فلا إشكال لأن المذكور منه بعد ما ليس من الآلاء مؤكد للمذكور بعد ما هو من الآلاء.
الوجه الثاني - أن {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} لم تذكر إلا بعد ذكر نعمة أو موعظة أو إنذار وتخويف وكلها من آلاء الله التي لا يكذب بها إلا كافر جاحد. أما في ذكر النعمة فواضح. وأما في الموعظة فلأن الوعظ تلين له القلوب فتخشع وتنيب فالسبب الموصل إلى ذلك من أعظم النعم فظهر أن الوعظ من أكبر الآلاء.. وأما في الإنذار والتخويف كهذه الآية ففيه أيضا أعظم نعمة على العبد لأن إنذاره في دار الدنيا من أهوال يوم القيامة من أعظم نعم الله عليه ألا ترى أنه لو كان أمام إنسان مسافر مهلكة كبرى وهو مشرف على الوقوع فيها من غير أن يعلم بها فجاءه إنسان فأخبره بها وحذره عن الوقوع فيها أن هذا يكون يدا له عنده وإحسانا يجازيه عليه جزاء أكبر الأنعام وهذا الوجه الأخير هو مقتضى الأصول لأنه قد تقرر في علم الأصول أن النص إذا احتمل التوكيد والتأسيس فالأصل حمله على التأسيس لا على التوكيد لأن في التأسيس زيادة معنى ليست في التوكيد وعلى هذا القول فتكرير {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إنما هو باعتبار أنواع النعم المذكورة قبلها من إنعام أو موعظة أو إنذار وقد عرفت أن كلها من آلاء الله فالمذكورة بعد نعمة كالمذكورة بعد قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ} الآية وبعد قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} الآية لأن السفن واللؤلؤ والمرجان من آلاء الله كما هو ضروري والمذكورة بعد موعظة كالمذكورة بعد قوله: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} الآية. والمذكورة بعد إنذار أو تخويف كالمذكورة بعد قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} . الآية. .
والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
. وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ إليهم} الآية. في سورة الأعراف.
سورة الواقعة
قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} يقتضي أنه لم يقسم بهذا القسم.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} يدل على خلاف ذلك.
والجواب من وجهين:
الأول - أن ((لا)) النافية يتعلق نفيها بكلام الكفار فمعناها إذا ليس الأمر كما يزعمه الكفار المكذبون للرسول وعليه أقسم إثبات مؤتنف.
الثاني - أن لفظة (لا) صلة وقد وعدنا ببيان ذلك بشواهده في الجمع بين قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} مع قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} .
سورة الحديد
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} يدل على أنه تعالى مستو على عرشه عال على كل جميع خلقه. وقوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} يوهم خلاف ذلك.
والجواب: أنه تعالى مستو على عرشه كما قال بلا كيف ولا تشبيه استواء لائقا بكماله وجلاله وجميع الخلائق في يده أصفر من حبة خردل فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علوا كبيرا فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق ألا ترى ولله المثل الأعلى أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل أنه ليس داخلا في شيء من أجزاء تلك الحبة مع أنه محيط بجميع أجزائها ومع جميع أجزائها والسموات والأرض ومن فيهما في يده تعالى أصغر من حبة خردل في يد أحدنا وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى علوا كبيرا فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته بل من حبل وريده مع أنه مستو على عرشه لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا.
سورة المجادلة
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} لا يخفى أن ترتيبه بالعتق على الظهار والعود معا يفهم منه أن الكفارة لا تلزم إلا بالظهار والعود معا وقوله من قبل أن يتماسا صريح في أن التكفير يلزم كونه قبل العود إلى المسيس. اعلم أولا أن ما رجحه ابن حزم من قول داود وحكاه ابن عبد البر عن بكير بن الأشج والقراء وفرقة من أهل الكلام وقال به شعبة من أن معنى ثم يعودون لما قالوا هو عودهم إلى لفظ الظهار فيكررونه مرة أخرى قول باطل بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار هل كرر زوجها صيغة الظهار أم لا وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم مرارا والتحقيق أن الكفارة ومنع الجماع قبلها لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار وما زعمه البعض أيضا من أن الكلام فيه تقديم وتأخيرو تقديره والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ثم يعودون لما قالوا سالمين من الإثم بسبب الكفارة غير صحيح أيضا لما تقرر في الأصول من وجوب الحمل على بقاء الترتيب إلا لدليل وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:
كذاك ترتيب لا يجاب العمل.
بما له الرجحان مما يحتمل
.
وسنذكر إن شاء الله الجواب عن هذا الإشكال على مذاهب الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين فنقول وبالله نستعين معنى العود عند مالك فيه قولان تؤولت المدونة على كل واحد منهما وكلاهما مرجح. الأول - أنه العزم على الجماع فقط - الثاني - أنه العزم على الجماع وإمساك الزوجة معا وعلى كلا القولين فلا أشكال في الآية لأن المعنى حينئذ والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعزمون على الجماع أو عليه مع الإمساك فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فلا منافاة بين العزم على الجماع أو عليه مع الإمساك وبين الإعتاق قبل المسيس وغاية ما يلزم على هذا القول حذف الإرادة وهو واقع في القرآن كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي أردتم القيام إليها. وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي أردت قراءته فاستعذ بالله الآية. ومعنى العود عند الشافعي أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلقه فيه فلا يطلق وعليه فلا إشكال في الآية أيضا لأن إمساكه إياها الزمن المذكور لا ينافي التكفير قبل المسيس كما هو واضح ومعنى العود عند أحمد هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه أما العزم فقد بينا أنه لا إشكال في الآية على القول به وأما على القول بأنه الجماع فالجواب أنه إن ظاهر وجامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر ولا يلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير لأن الآية على هذا القول إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير وأنه وجوب التكفير قبل مسيس آخر وأما الإقدام على المسيس الأول فحرمته معلومة من عموم قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ومعنى العود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو العزم على الوطء وعليه فلا إشكال كما تقدم وما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن مالك من أنه حكي عنه أن العود الجماع فهو خلاف المعروف من مذهبه وكذلك ما حكاه عن أبي حنيفة من أن العود هو العود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع
ما كان عليه أمر الجاهلية فهو خلاف المقرر في فروع الحنفية من أنه العزم على الوطء كما ذكرنا وغالب ما قيل في معنى العود راجع إلى ما ذكرنا من أقوال الأئمة رحمهم الله وقال بعض العلماء المراد بالعود الرجوع إلى الاستمتاع بغير الجماع والمراد بالمسيس في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} خصوص الجماع وعليه فلا إشكال ولكن لا يخفى عدم ظهور هذا القول والتحقيق عدم جواز الاستمتاع بوطء أو غيره قبل التكفير لعموم قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وأجاز بعضهم الاستمتاع بغير الوطء قائلا إن المراد بالمسيس في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} نفس الجماع لا مقدماته وممن قال بذلك الحسن البصري والثوري وروي عن الشافعي في أحد القولين وقال بعض العلماء اللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} بمعنى في أي يعودون فيما قالوا بمعنى يرجعون عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الواهب العائد في هبته". الحديث. وقيل اللام بمعنى عن أي يعودون لما قالوا أي يرجعون عنه وهو قريب مما قبله. قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن العود له مبدأ ومنتهى فمبدؤه العزم على الوطء ومنتهاه الوطء بالفعل فمن عزم على الوطء فقد عاد بالنية فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء ومن وطء بالفعل تحتم في حقه اللزوم وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير ويدل لهذا أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" وقالوا""يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ "قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه"فبين أن العزم على الفعل عمل يؤخذ به الإنسان فإن قيل ظاهر الآية المتبادر منها يوافق قول الظاهرية الذي قدمنا بطلانه لإن الظاهر المتبادر من قوله لما قالوا أنه صيغة الظهار فيكون العود لها تكريرها مرة أخرى. فالجواب أن المعنى لما قالوا أنه حرام عليهم وهو الجماع ويدل لذلك وجود نظيره في القرآن في قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ
مَا يَقُولُ} أي ما يقول أنه يؤته من مال وولد في قوله: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} وما ذكرنا من أن من جامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر هو التحقيق خلافا لمن قال تسقط الكفارة بالجماع قبل المسيس كما روي عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف ولمن قال تلزم به كفارتان كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن مهدي ولمن قال تلزم به ثلاثة كفارات كما رواه سعيد بن منصور عن الحسن وإبراهيم والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} هذه الآية تدل على طلب تقديم الصدقة أمام المناجاة. وقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية. . يدل على خلاف ذلك.
والجواب ظاهر وأن الأخير ناسخ للأول والعلم عند الله تعالى.
سورة الحشر
قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية. تقدم وجه الجمع بين الإطلاق والذي في هذه الآية والتقييد الذي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} في سورة الأنفال وقوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} .
سورة الممتحنة
قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} . هذه الآية الكريمة تدل على أن الكافر إذا لم يقاتل المؤمن في الدين ولم يخرجه من داره لا يحرم بره والإقساط إليه. وقد جاءت آيات أخر تدل على منع موالاة الكفار وموادتهم مطلقا. كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} الآية.
والجواب هو أن من يقول بنسخ هذه الآية فلا إشكال فيها على قوله وعلى القول بأنها محكمة فوجه الجمع مفهوم منها لأن الكافر الذي لم ينه عن بره والإقساط إليه مشروط فيه عدم القتال في الدين وعدم إخراج المؤمنين من ديارهم والكافر المنهي عن ذلك فيه هو المقاتل في الدين المخرج للمؤمنين من ديارهم المظاهر للعدو على إخراجهم والعلم عند الله تعالى.
سورة الصف
قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن الخارج عن طاعة الله لا يهديه الله. وقد جاءت آيات أُخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} الآية. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} .
والجواب: أن الآية من العام المخصوص فهي في خصوص الأشقياء الذين أزاغ الله قلوبهم عن الهدي لشقاوتهم الأزلية وقيل المعنى لا يهديهم ما داموا على فسقهم فإن تابوا منه هداهم.
ملاحظات متجول
بقلم الشيخ عبد المهيمن أبو السمح
منذ ثلثي قرن من الزمن قدمت من أمريكا امرأة أمريكية لتقيم في مدينة كبيرة في بلد عربي إسلامي، وكان هدفها من الإقامة فيها لغرضين، أحدهما ظاهري والآخر باطني، فأما الأول فهو رعاية الأيتام الذين لا عائل لهم، وقد استطاعت أن تقنع أثرياء المدينة فأمدوها بالمال علاوة على المدد المادي الذي يصل إليها من أمريكا، فأنشأت ملجأ تؤوي إليه من لا عائل له من الأيتام وزادت المعونة الأمريكية والمساعدات المحلية من أثرياء البلدة فاتسع الملجأ وزاد عدد اللاجئين إليه ثم أخذت تدربهم على الصناعات المختلفة حسب هواية كل لاجئ، وأهمها السجاد والتطعيم بسن الفيل وهذا هو الغرض الظاهري لمهمتها لتصل به إلى مهمتها الحقيقية (التبشير) .
وهدفها الخاص ورسالتها المعينة التي ظهرت أخيرا وهو تعليم اللاجئين مبادئ الدين المسيحي، وتلقينهم دروسا في التبشير ليكونوا دعاة رسالتها في المجتمعات التي يعيشون فيها، وهكذا أظهرت في بادئ الأمر العطف والرحمة والإنسانية فاستدرت عطف الوطنيين حتى تمكنت، ثم أظهرت غرضها الثاني، وكان غرضها الأول إنسانيا بحتا وكان ظاهرا للعيان مما شجع الأثرياء وغير الأثرياء على مساعدتها للنهوض برسالتها على أنها إنسانية وأما الغرض الثاني (الحقيقي) التبشير بالدين المسيحي ونشر تعاليمه في الأوساط المختلفة فقد تحقق بعد إتمام الغرض الإنساني الظاهري، وبعد أن تم لها تحقيق الهدفين من هجرتها، كانت تقوم بتزويج أبنائها لبناتها الذين تربوا في رعايتها وتحت كنفها منذ ما يبلغ كل منهما سنا معينة ولا تتركهما بعد الزواج بل تيسر لهما عملا يرزقان منه وتمدهما بالمساعدة المالية اللازمة على أن ترد هذه المساعدات على أقساط شهرية إلى إدارة الملجأ، وإيمانا من هؤلاء برسالة الملجأ، ووفاء لأمهم التي ربتهم وشملتهم بعنايتها يقومون بتسديد الأقساط الشهرية بمواعيدها وعن طيب خاطر، ومن تلقاء أنفسهم بل ومنهم من كان يتبرع للملجأ بعد السداد، وهكذا استطاعت هذه الأمريكية أن تنشأ لها دولة داخل الدولة تأتمر بأمرها وتنفذ تعاليمها وتنشر رسالتها بل وتنقلها من جهة إلى أخرى ومن جيل إلى جيل، واستطاعت أن تنشر دينها بطريقة سلمية منظمة، ثم توفيت وتركت رسالتها أمانة في عنق أبنائها الروحانيين.
ولا زال الملجأ قائما يؤدي رسالتها التي رسمتها له هذه الأمريكية التي جاهدت في سبيل عقيدتها وهاجرت في سبيل نشر دينها وتكوين أجيال من المبشرين لدينها تبشيرا عمليا عميق الجذور عريض الاتساع هذه لمحة عن هذه الأمريكية التي جاءت من بلادها لتبشر بدين منسوخ في بلاد دينها الرسمي الإسلام، نهضت برسالتها ومكنت لها لإقناع أثرياء تلك المدينة الذين أمدوها بالمال والمساعدات فضلا عن المساعدات الأمريكية.
هذه امرأة أمريكية آمنت بدينها ووهبت حياتها لتحقيق رسالتها التي تعتقد صحتها وتؤمن بخيرها وتركت بعدها ثروة بشرية جادة مجاهدة في نشر رسالتها التي ركزت لها كل إمكانياتها وجهودها ووقتها ومالها وشبابها وحسن تصرفها من وراء ذلك ما أحوج الدين الحقيقي الذي نسخ ما قبله من الأديان إلى مثل هذه المرأة المجاهدة، ما أحوج دين الله الحق إلى رجال ونساء يخلصون إخلاص تلك المرأة _ تتوفر فيهم ما توفر فيها من الإخلاص والمثابرة والثبات لنشر تعاليم الدين السمح في أواسط إفريقية وآسيا وأوروبا وأمريكا. ما أحوج العالم إلى معرفة أصول الدين الإسلامي.
لقد شاهدنا نماذج حية من المسلمين الذين جاءوا من مشارق الأرض ومغاربها ليحجوا إلى بيت الله الحرام وزيارة مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، شاهدنا هذه النماذج فأنبأتنا عن جهلها المطبق بأبسط قواعد الإسلام ودلت على أن هؤلاء المسلمين في حاجة ماسة وحاجة ملحة جدا إلى من يفقهم في الدين ويبصرهم بأمر دينهم ودنياهم أنها عناصر طيبة وخامات مؤمنة وتهفوا نفوسهم إلى الإسلام في أي مكان.
أيها الأخ القارئ لا أريد أن أطيل عليك، ولكن اقرأ إن شئت في الكتاب الأخضر ص82 قصة طريفة أذكر لك منها كلمات ذلك السنغالي التي ألقاها في أحد مساجد لبنان في يوم جمعة بين المسلمين ومما قال:
"يا إخواننا العرب إننا نرجوكم أن تكونوا أنتم قادتنا لأنكم لو لم تكونوا أشرف أمة لما اختاركم الله لحمل رسالته ونشر دعوته، وإنه ليشرفنا أن تقبلونا جنودا مخلصين نسير وراء قيادتكم مؤمنين ونتعلم لغتكم صادقين ونتلوا قرآنكم مصلين ونسجد لربنا وربكم طائعين وعابدين". أكتفي بهذه الكلمات من غير تعليق، والكتاب كله تجب قراءته.
فإذا تركناهم على ما هم فيه فسيتلقفهم المبشرون الذين أتقنوا هذه المهنة كما قرأت عن الأمريكية فيحولونهم من مسلمين إلى الأديان الأخرى ويتخذون منهم تكأة يتكئون عليها وقاعدة ينشرون منها ويجعلونهم أعداء لنا بعد أن كانوا إخوانا لنا في الدين والعقيدة ثم استطرد المتجول ليلقى التبعة على علماء المسلمين في جميع الأقطار فقال: إن علماء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها منعزلون انعزالا تاما عن هذه البقاع ويعيشون في معزل عن العالم وقد ارتضوا من حياتهم أن يصلوا في اليوم خمس أوقات وأن يصوموا رمضان وأن يؤدوا باقي ما اقترض الله وكفى، ولكن دين الله يتطلب من هؤلاء العلماء أن يجاهروا في سبيل الدعوة _ لا هذه الأمريكية _ لإنقاذ العالم من بيداء الجهالة وضلال الكفر.
إن دين الله وتعاليم الشرع الشريف والقرآن الكريم، وإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكفيها من العلماء شقشقة اللسان ولكنها تتطلب علماء عاملين بما يعلمون ومجاهدين بأموالهم وأنفسهم ومضحين بكل مرتخص وغال حتى يضمنوا لأنفسهم حياة سعيدة في جناة عدن {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} الآية
…
إن الدين في حاجة إلى قول باللسان يصدقه القلب والوجدان، فيتفاعل القول مع العمل ويتبلور في رجل مؤمن ومسلم عامل، وهذا عند الله خير من جيش عرمرم من المسلمين بل من العلماء الذين يقولون ما لا يفعلون و {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} إن الجهل الذي يسود العالم والكفر الذي يعيش فيه أغلب دول العالم مرجعه إخلاد أهل الدين من المسلمين إلى الدعة والاكتفاء بتسميتهم مسلمين وعلماء.
ما أحوج العلماء إلى توزيع الوعاظ وخريجي الجامعات الإسلامية لكن على نمط تلك الأمريكية وهم كثيرون على دول العالم ليقضوا فيها بقية حياتهم يجدون ويجاهدون بالطرق السهلة التي ضربت لنا فيها المثل الكبير هذه الأمريكية التي خلد التاريخ صنيعها والتي لا يزال أهل تلك البلدة يذكرونها ويشكرون لها جهودها إني أدعو العلماء من جميع الأقطار إلى تعليم دعاة يذهبون إلى كل دولة بحيث يتعلمون لغة هذه الدول التي يبعثون إليها ليعيشوا فيها ويموتوا بها بعد الجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية وبعد أداء رسالتهم فيحييهم الله في الدار الآخرة مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
إذا فعل كل غيور على دينه من هؤلاء العلماء الدعاء على نحو الطريقة التي سلكتها المرأة الأمريكية وحذوا حذوها فسيكون أثرهم في هداية الخلق خلال ثلث قرن من الزمان أضعاف ما قامت به تلك الأمريكية وخلال ثلثي قرن وذلك لسهولة تعاليم الإسلام السمح وقبول النفوس له (لأنه دين الفطرة) وإقبال العقلاء عليه واطمئنانهم إليه ونتيجة لذلك سنطوي ثلاثة عشر قرنا مضت ونصل حاضرنا ومستقبلنا السعيد بماضينا العتيق في صدر الإسلام في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم ووفقنا للعمل بشريعة السماء ودين الله السمح الحنيف الذي نسخ ما قبله من الأديان وسنة خير الأنام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
هيا يا رجال الدين الحنيف.. هيا إلى الجهاد في سبيل الله. .هيا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. . هيا فبلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ولا ترضوا بالتي هي أدنى واسعوا إلى ذكر الله بالقول والعمل هيا فهاجروا في سبيل الله فالحياة جهاد والجهاد سبيل المؤمنين وطريقتهم إلى الجنة عرفها الله لهم.
إني لأرجوا أن يحييني الله حتى أرى تطوير برامج التعليم الديني بما يتفق ورسالة الدين الحنيف وما يتفق مع روح الجهاد التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب لنا فيها المثل الأعلى في هجرته من مكة إلى المدينة ثم عودته إليها منتصرا وفاتحا وهو يردد قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} .
لقد فتحت هذه الأمريكية أمام المسلمين آفاقا شتى وضربت لنا المثل الرفيع في الجهاد والجلد والهجرة في سبيل العقيدة والدين فاللهم ارزقنا الإخلاص لدينك ووفقنا للعمل بسنة رسولك صلى الله عليه وسلم واهدنا صراطك المستقيم ووفق ولاة أمورنا للأخذ بناصر دينك الحنيف ووفق بين حكامنا ورؤساء دولنا الإسلامية للإنفاق على ما فيه رفعة دينك وإنقاذ على ما فيه رفعة دينك وانقاد البشرية من وهدة الجهل وضلال الكفر والعصيان إنك على ما تشاء قدير وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
ندوة الطلبة
النجاح والرسوب ونقاش بينهما
بقلم عبد الرحمن محمد الأنصاري
الطالب بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
هممت ذات مساء بكتابة كلمة عن النجاح والرسوب _ وفيما كنت أشرع في الكتابة لمحت اثنين قادمين، ولما كانت هيئتهما متسمة بصفة الغرابة بالنسبة لي، أوقفت الخيال ب ((جماح النظر والتحديق)) إليهما، وبالخصوص كأنهما قاصدان إليّ دون بقية الأنام.
أحدهما طويل القامة، ضخم البنية، مفتول العضلات كأنما هو بقية من قوم عاد!!
والآخر وما أدراك ما هو:رجل في منزلة بين المنزلتين.. كما تقول المعتزلة!!
ليس فيه ما يلفت النظر إلا أنه يظهر للرائي بادئ الأمر أنه من قوم لماّ يخلقوا، وإنما خلقتهم ((شاغرة _ كما في لغة الوظائف_ إذ ما سبق للتاريخ أن تبرع بوصفهم، إلا في ألف ليلة وليلة وهو بعد مصدر هام لإثبات تواريخ هؤلاء!!!
فلما ق ربا مني انحنى العملاق العاديّ _ نسبة إلى عاد _ انحناء تشبه انحناءة طائرة البوينج عندما تستعد لمصافحة الأرض.. ليصل أذن رفيقه الذي لا أعلم من صفته سوى أنه من قوم ما زالوا في كتمان الغيب.. ليقول له: أهو هذا؟ وقد قالها فيما أحسب بصوت أخفض من صوت القلب حينما يتناجى مع المخ. . ولكنه مع ذلك ما كانت قولته في أذني إلاّ صوت مكبّر في أصفى ما يكون!
لا لأن سمعي لا كالأسماع، بل لأن صوت ذلك العملاق لا كالأصوات فرد المجهول الغيبي: هو، هو،..
ولم أفهمها منه إلا بإشمامه لشفتيه، ولم أدرِ من أين للخبيث بالتجويد؟!
فسلما، فرددت، فرحبت، فجلسا.. ولما كان من عادتي أن لا أسأل القادم عن دوافع قدومه إلاّ إذا بدأ هو بطوع من نفسه في الحديث عن أسباب مجيئه تريثت، ريثما قدمت لهما شرابا، وما أن أتى العملاق على نصيبه منه حتى رأيته متهيئا للحديث فقلت: خيرا؟
وهنا انبرى زميله فقال: جئنا إليك نختصم. . نطلب فتواك لاقراك!
فقلت: هما لكما إذا شئتما، فثنى العملاق عطفه ليقول: حسنا ولكن أرنا منهما ما جئنا لأجله لنرى أيطمعنا الخير بالحسنى، أما إذا انعكست الآية، فلا هذا ولا ذاك. . وهنا أدركت أن هذا ((عملاق)) من فئة ذات مزاج ((ساخن)) . .
فقلت: هيه! ما وراءكما؟
قالا معا: المسألة أنّ. . وهنا قطعت عليهما الحديث قبل إتمامه،، وقلت: على رسلكما، أحدكما فالآخر. .
وهنا قال المباين للعملاق: ذلك خير الحسنين.
فأذن لصاحبه العملاق بالحديث، فبدأ كأنما هو سيل جارف. . قائلا:
اسمي ((النجاح)) بن فلان الفوقيّ وصديقي هذا اسمه ((الرسوب بن مرسوب التحتيّ. . ولما كان فضلي أظهر ونوري أبهر، وخيري أوقع، وأجدر، حاول هذا الطفيليّ مشاركتي في سيما الخير بحكم ما بيننا من التلازم كالذي بين المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، والعدل والإسلام، فحاول التطفل إلى خيري، وبزّي حقي، فلما أبى إلا اللجاج والخصام. . دُلِلنا عليك لتحكم بيننا بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما.
فاستغفرت الله وقلت للرسوب ما عندك؟
فأومأ بطرفه إلى ندّه ليقول له: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. . ما الخير الذي زعمته لنفسك؟
أما لك أن تنزل من سمائك إلى أرضي فيذهب كما ذهب هدير بعض الظالمين.
بماذا تفضلني؟ أبمعناك اللغوي أم بالاصطلاحي أم بكرة مُمرّغَةٍ في وَحلٍ كان بينهما؟ أم بقوتك وبدانتك التي أحسن وصفها حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه؟ أم بعقلك الذي أحسن تشبيهه [1] أم بوصف الباري لأشباهك ممن: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} فيالك من مغرور غرّة هُزالي ورقة حالي، فظن أنه كل شيء، وأنني كل لا شيء!!
أعد نظرا يا عبد قيس لَعلّما.
أضاءت لك النار الحمار المقيّدا
.
وعندما أنشد ((الرسوب)) البيت، عيل صبر العملاق العاديّ، فعبس، وبسر، ثم أقبل وأدبر، فأشار بكفه فكأنما الأشجار المركبة فيه ((الأصابع)) لا تكفي إحداها للإشارة!! فقال لقد استنسر البُغات. .
ألمثلي تقول هذا يا راسب بن مرسوب؟!!
أنا الذي سُهر من أجلي وأعدّ الآباء أبناءهم في استحصالي فوالله ما استعاذت ((الأمُ)) على ابنها في دياجير الحوالك إلا منك، ولا سألت ربّها في السّحر لفلذة كبدها إلاّ إيّاي وما نِيلَتْ الرُتبُ إلاّ بين وفُصلت الفصول، وتُعوقد مع المعلمين في الأقطار النائية بباهظ الأجر إلا لأكون النتيجة في آخر العام. . ثم من علمك القول حتى تقول؟ ومن فرح بك حتى تفرح بنفسك؟..
فلما وصل ((النجاح)) إلى هذا القول التفت الرسوب إليه التفاتة الساخر بما سمع، ناظرا إليه نظرة من يؤمن بأن الحق بجانبه، وأنّ الخَطَلَ مع ندّه. فقال:
هذا قولك فما الشاهد عليه من التاريخ والواقع؟ هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزّة من أعراضنا ما استحلّت فلله نبرات صوت ما أسهل انسياب الضلال من ثقوبها. . إلى مسامع الأبرياء الذين لم يتعودوا إلا الحق وسماعه.
قُلتَ: إنهم فرحوا بك؟!
وهل كل فرح يُعتبر. . لكأنك من قوم قارون فَتُرشق بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} .
ومعنى هذا الفرح أنهم هضموا خمسة عشر كتابا إن لم تزد أقلها صفحات ما حوى المائتين في تسعة أشهر على الأكثر، ثلاثة أرباعها عطل. هنيئا لك ولهؤلاء العلماء. .
وإذا قربت الامتحانات، خفقت القلوب، ووجلت الأفئدة، وسُهر الليل، وضُيعت فريضة الفجر ولا تسمع إلا همسا، فلله ابن عبد الفتاح حين وصفك في عصمائيته التي يقول فيها: والظهر منكوس.. [2] .
قال الراوي: فرفع النجاح عقيرته ليقول ويرد، ولكني لماّ كنا غير أهل للحكم بين خصمين كهذين قطعت عليهما الحديث لأحيلهما على مليء، ومن أحيل إلى مليء احتال وفعلا أحلتهما إلى الأخ الفاضل الأستاذ الصديق عبد العزيز قارئ ليسمع من الخصمين ويحكم بينهما. فأخذ النجاح بتلابيب ((الرسوب)) إلى أن وصلا شارع الساحة [3] فقلت الحمد لله على هذه الراحة. .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
إشارة إلى قوله: جسم البغال وأحلام العصافير.
[2]
الاشارة إلى قصيدة الاستاذ عبد العزيز عبد الفتاح قارئ عن الاختبار المنشورة في العدد الأول من مجلة الجامعة الإسلامية الغراء السنة الأولى.
[3]
من شوارع المدينة المنورة_ وحيث يسكن الصديق المشار إليه.
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
س - من الأخ أ. ج.س. ما حكم المقيم في بلد أهله متمسكون بالبدعة هل يصح له أن يصلي معهم صلاة الجمعة والجماعة أو يصلي وحده أو تسقط عنه الجمعة وإذا كان أهل السنة ببلد أقل من اثني عشر فهل تصح لهم الجمعة أم لا؟
الجواب عن السؤال الأول: إن إقامة الجمعة واجبة مع كل مسلم أو فاجر فإذا كان الإمام في الجمعة لا تخرجه بدعته عن الإسلام فإنه يصلى خلفه، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة:"ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم"انتهى، قال الشارح لهذه العقيدة وهو من العلماء المحققين في شرح هذه الجملة، قال صلى الله عليه وسلم:"صلوا خلف كل بر فاجر" رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه الدارقطني وقال مكحول لم يلق أبا هريرة، وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرج له الدارقطني أيضا وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم برا كان أو فاجرا وإن عمل بالكبائر والجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر" وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي وكذا أنس بن مالك وكان الحجاج فاسقا ظالما، وفي صحيحه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم"، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله"أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها.
اعلم رحمك الله وإيانا أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة وليس من شرط الإئتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف المستور الحال ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو المبتدع عند أكثر العلماء، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف وكذلك أنس بن مالك رضي الله عنه كما تقدم وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان يشرب الخمر، حتى أنه صلى بهم الصب مرة أربعة ثم قال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة وفي الصحيح أن عثمان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص فسأل سائل عثمان إنك إمام عامة وهذا الذي صلي بالناس إمام فتنة؟ فقال يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب.
ومن ذلك أن من أظهر بدعة وفجورا لا يرتب إماما للمسلمين فإنه يستحق التعزير حتى يتوب فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة.
وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم، وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية فهنا لا يترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلفه أفضل.
فإذا أمكن للإنسان أن لا يقدم مظهرا للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشرٍ أعظم ضررا من ضرر ما أظهر من منكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان فتفويت الجمع والجماعات أعظم فسادا من الإقتداء فيهما بالإمام الفاجر لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجورا فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.
وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد العلماء منهم من قال يعيد ومنهم من قال لا يعيد وموضع بسط ذلك في كتب الفروع انتهى كلام الشارح. والأقرب في هذه المسألة الأخيرة عدم الإعادة للأدلة السابقة ولأن الأصل عدم وجوب الإعادة فلا يجوز الإلزام بها إلا بدليل خاص يقتضي ذلك ولا نعلم وجوده والله الموفق.
وأما السؤال الثاني: فجوابه أن يقال هذه المسألة فيها خلاف مشهور بين أهل العلم والصواب في ذلك جواز إقامة الجمعة بثلاثة فأكثر إذا كانوا مستوطنين في قرية لا تقام فيها الجمعة أما اشتراط أربعين أو اثني عشر أو أقل أو أكثر لإقامة الجمعة فليس عليه دليل يعتمد عليه فيما نعلم وإنما الواجب أن تقام في جماعة وأقلها ثلاثة وهو قول جماعة من أهل العلم واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الصواب كما تقدم.
وهذه عدة أسئلة من الأخ ع. ح.س.
السؤال الأول - لقد اكتسبت من عمل التصوير مالا وأنا مستعد للتنازل عنه رضاء لله ورسوله فما حكم ذلك المال هل هو حرام أم ماذا أصنع فيه.
الجواب: أرجو أن لا يكون عليكم فيه حرج لأنكم حين اكتسابه لم تكونوا متأكدين تحريمه جهلا بالحكم الشرعي أو لشبهة من أجاز التصوير الشمسي وقد قال الله سبحانه في أهل الربا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أعاذنا الله وإياكم منها فهذه الآية الكريمة يستفاد منها حل الكسب الماضي من العمل غير المشروع إذا تاب العبد إلى الله ورجع عن ذلك وإن تصدقتم به أو بشيء منه احتياطا فحسن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" أما وجوب الصدقة به فلا أعلم دليلا واضحا يدل عليه.
السؤال الثاني - إذا كان تصوير ما لا روح فيه مباحا شرعا فهل يجوز الاستمرار على ذلك.
الجواب: نعم يجوز ذلك كما أفتى بذلك ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ودل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي ذكرنا في الجواب المفيد في حكم التصوير وهو أن جبريل عليه السلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع رأس التمثال حتى يكون كهيئة شجرة وذلك يدل على جواز تصوير الشجرة ونحوه وقد أجمع العلماء على ذلك بحمد الله، لكن إذا تيسر للإنسان عمل آخر من الأعمال الطيبة المباحة فهو أحسن من عمل التصوير لما لا روح فيه لأنه قد يجر إلى تصوير ما له روح والبعد عن وسائل الشر مطلوب شرعا رزقنا الله وإياكم العافية من أسباب غضبه.
السؤال الثالث- أرغب ترك العمل والاتجاه للدراسة فهل هذا حسن؟
السؤال الرابع - هل في الإمكان إلحاقي بالجامعة الإسلامية والدراسة والتفقه في الدين؟
الجواب: إن الاتجاه للدراسة والتفقه في الدين من أفضل الأعمال وقد يجب ذلك إذا كان المسلم لم يتمكن من معرفة الأمور التي لا يسعه جهلها أعني أمور دينه فطلب العلم حينئذ واجب حتى يعرف ما أوجب الله عليه وما حرم عليه ويعبد ربه على بصيرة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وقال عليه الصلاة والسلام: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة"والجامعة الإسلامية ترحب بأمثالكم إذا كان لديكم مؤهل غير دبلوم الصناعة فإذا رأيتم إرسال صورة من مؤهلاتكم للنظر فيها وإفادتكم فلا بأس مع العلم بأن الطالب في الجامعة يعطى مكافأة نقدية مقدارها (250) ريالا لطالب المرحلة المتوسطة والثانوية و (300) ريال لطالب المرحلة العالية مع إعداد السكن المجهز بما يلزم ووسائط النقل من الجامعة إلى المدينة ومن المدينة إلى الجامعة.
السؤال الخامس - ما حكم الإسلام في عمل المرأة وخروجها بزيها الذي نراه في الشارع والمدرسة والبيت هكذا وعمل المرأة الريفية مع زوجها في الحقل؟
الجواب: لا ريب أن الإسلام جاء بإكرام المرأة والحفاظ عليها وصيانتها عن ذئاب بني الإنسان وحفظ حقوقها ورفع شأنها فجعلها شريكة الذكر في الميراث وحرّم وأدها وأوجب استئذانها في النكاح وجعل لها مطلق التصرف في مالها إذا كانت رشيدة وأوجب لها على زوجها حقوقا كثيرة وأوجب على أبيها وقراباتها الإنفاق عليها عند حاجتها وأوجب عليها الحجاب عن نظر الأجانب إليها لئلا تكون سلعة رخيصة يتمتع بها كل أحد قال تعالى في سورة الأحزاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} الآية. . وقال سبحانه في السورة المذكورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ ِلأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} وقال تعالى في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية. . فقوله سبحانه: {إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فسّره الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بأن المراد بذلك الملابس الظاهرة لأن ذلك لا يمكن ستره إلا بحرج كبير وفسره ابن عباس رضي الله عنهما في المشهور عنه بالوجه والكفين والأرجح في ذلك قول ابن مسعود لأن آية الحجاب المتقدمة تدل على وجوب سترهما ولكونهما من أعظم الزينة فسترهما مهم جدا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله كان كشفهما في أول الإسلام ثم نزلت آية الحجاب بوجوب سترهما ولأن كشفهما لدى غير المحارم من أعظم أسباب الفتنة ومن أعظم الأسباب لكشف غيرهما، وإذا كان الوجه والكفان مزينين بالكحل والأصباغ ونحو ذلك من أنواع التجميل كان كشفهما محرما بالإجماع والغالب على النساء اليوم تحسينهما وتجميلهما فتحريم كشفهما معين على القولين جميعا وأما ما يفعله النساء اليوم من كشف الرأس والعنق والصدر والذراعين والساقين وبعض الفخذين فهذا منكر بإجماع المسلمين لا يرتاب فيه من له أدنى بصيرة والفتنة في ذلك عظيمة والفساد المترتب عليه كبير جدا، فنسأل الله أن يوفق قادة المسلمين لمنع ذلك والقضاء عليه والرجوع بالمرأة إلى ما أوجب الله عليها من الحجاب والبعد عن أسباب الفتنة ومما ورد في هذا الباب قوله سبحانه:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} وقوله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، فأمر الله سبحانه النساء في الآية الأولى بلزوم البيوت لأن خروجهن غالبا من أسباب الفتنة وقد دلت الأدلة الشرعية على جواز الخروج للحاجة مع الحجاب والبعد عن أسباب الريبة ولكن لزومهن للبيوت هو الأصل وهو خير لهن وأصلح وأبعد عن الفتنة ثم نهاهن عن التبرج الجاهلية وذلك بإظهار المحاسن والمفاتن وأباح في الآية الثانية للقواعد وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا وضع الثياب بمعنى عدم الحجاب بشرط عدم تبرجهن بزينة، وإذا كان العجائز يلزمن بالحجاب عند وجود الزينة ولا يسمح لهن بتركه إلا عند علمها وهن لا يفتن ولا مطمع فيهن فكيف بالشابات الفاتنات ثم أخبر سبحانه أن استعفاف القواعد بالحجاب خير لهن ولو لم يتبرجن بالزينة وهذا كله
واضح في حث النساء على الحجاب والبعد عن السفور وأسباب الفتنة والله المستعان.
أما عمل المرأة مع زوجها في الحقل والمصنع والبيت فلا حرج في ذلك وهكذا مع محارمها إذا لم يكن معهم أجنبي منها وهكذا مع النساء وإنما المحرم عملها مع الرجال غير محارمها لأن ذلك يفضي إلى فساد كبير وفتنة عظيمة كما أنه يفضي إلى الخلوة بها وإلى رؤية بعض محاسنها والشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرأ المفاسد وتقليلها وسد الذرائع الموصلة إلى ما حرم الله في مواضع كثيرة ولا سبيل إلى السعادة والعزة والكرامة والنجاة في الدنيا والآخرة إلا بالتمسك بالشريعة والتقيد بأحكامها والحذر مما خالفهما والدعوة إلى ذلك والصبر عليه وفقنا الله وإياكم وسائر إخواننا إلى ما فيه رضاه وأعاذنا جميعا من مضلات الفتن إنه جواد كريم.
السؤال السادس - ما حكم الإسلام فيمن يعملون في البنوك ووضع أموال فيها دون أخذ فوائد لها؟
الجواب: لا ريب أن العمل في البنوك التي تعامل بالربا غير جائز غير جائز لأن ذلك إعانة لهم على الإثم والعدوان وقد قال الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربى وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: "هم سواء"أخرجه مسلم في صحيحه.
أما وضع المال في البنوك بالفائدة الشهرية أو السنوية فذلك من الربا المحرم بإجماع العلماء، أما وضعه بدون فائدة فالأحوط تركه إلا عند الضرورة إذا كان البنك يعامل بالربا لأن وضع المال عنده ولو بدون فائدة فيه إعانة له على أعماله الربوية فيخشى على صاحبه أن يكون من جملة المعينين على الإثم والعدوان وإن لم يرد ذلك، فالواجب الحذر مما حرم الله والتماس الطرق السليمة لحفظ الأموال وتصريفها، وفق الله المسلمين لما في سعادتهم وعزهم ونجاتهم ويسر لهم العمل السريع لإيجاد بنوك إسلامية سليمة من أعمال الربا.
إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. .
أخبار الجامعة
المجلس التنفيذي للجامعة الإسلامية يعقد في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
· تقرر انعقاد المجلس التنفيذي لجمعية الجامعات الإسلامية بمقر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وتقوم رئاسة الجامعة الإسلامية بالإعداد لهذا المؤتمر الذي يعتبر المؤتمر الأول من نوعه في المدينة المنورة، وكخطوة أولى كلف سماحة الرئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز فضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي بالسفر إلى كل من تونس والمغرب للاجتماع هناك برئيس جمعية الجامعات الإسلامية، وسكرتارية الجمعية للاتفاق على زمان انعقاد المجلس، وعمل الترتيبات اللازمة لذلك.
هذا ومن المنتظر أن تمثل الجامعات والكليات الإسلامية التالية في هذه الدورة:
رئيس جمعية الجامعات الإسلامية.
جامعة عليكره بالهند.
كلية الجامعة الإسلامية بماليزيا.
كلية الدراسات العربية والإسلامية بجامعة البنجاب بباكستان الغربية.
كلية الشريعة بالأزهر.
كلية الشريعة بالجامعة الأردنية.
الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس.
كلية الشريعة بدمشق.
كلية الآداب والدراسات الإسلامية، كلية عبد الله بايرم كنو بجامعة أحمد بيلو في نيجيريا.
المعهد العالي للدراسات الإسلامية في كينيا.
المعهد الإسلامي في السنغال.
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
كلية الدارسات الإسلامية بتركيا.
وجهات أخرى سيجرى تعيينها فيها بعد.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الدورة الثانية للمجلس التنفيذي سبق أن عقدت في مدينة _ تونس _ في شهر يناير عام 1971م ومثل الجامعة الإسلامية في المدينة فضيلة أمين عام الجامعة، وعميد الكليتين فيها.
هذا وسنوافي القراء بموعد انعقاد المجلس في حينه.
ونسأل الله أن يحقق منه الخير للمسلمين إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
· لجنة القبول والمعادلات بالجامعة الإسلامية بالمدينة انتهت هذه الأيام من دراسة الطلبات الواردة من خارج المملكة وهي الآن تستعد لدراسة الطلبات المقدمة من الطلاب السعوديين.
· يغادرنا قريبا إلى جدة في طريقه إلى الجزائر فضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس بكلية الشريعة بالجامعة والواعظ بالمسجد النبوي الشريف مبعوثا من الجامعة الإسلامية للقيام بالدعوة والإرشاد والوعظ هناك خلال العطلة الصيفية.
· كما وسيغادر إلى السودان فضيلة الشيخ ربيع هادي حكمي المدرس بالمعهد الثانوي مبعوثا من الجامعة للغرض نفسه.
· غادرنا إلى إفريقيا كل من:
1_
فضيلة الشيخ عمر محمد مساعد الأمين العام للجامعة الإسلامية مندوبا من قبل الجامعة الإسلامية بالمدينة.
2_
فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم قعود مدير إدارة الدعوة والإرشاد مندوبا من دار الإفتاء بالرياض.
وذلك في مهمة للإطلاع على المدار س والجمعيات الإسلامية هناك وتزويد الجهات الرسمية هنا بتقرير مفصل عنها.
هذا وسيقومان هناك بإبقاء المحاضرات والندوات العلمية والوعظ والإرشاد في تلك الأنحاء ومما تجدر الإشارة إليه أن الجامعة الإسلامية ودار الإفتاء قد زودتهما بكمية كبيرة من المصاحف والكتب والنشرات لتوزيعها هناك على الأهالي وتستمر المهمة حوالي شهرين.
والحقيقة أن هذا مثل تضربه حكومة جلالة الملك وعلى رأسها الفيصل المعظم حفظه الله في العناية بأمور المسلمين داخل المملكة وخارجها وتفقد أحوالهم.
· في يوم السبت الموافق 6/5/1392هـ قام معالي وزير الأوقاف السوداني السيد عوني الشريف بزيارة خاصة للجامعة الإسلامية يرافقه سعادة وكيل وزارة الحج والأوقاف ومديرها العام وكان في استقباله فضيلة الشيخ عمر محمد مساعد الأمين العام في الجامعة وبعض رؤساء الأقسام وبعد جولة في أقسام الجامعة ومكتباتها قدمت الجامعة له بعض الكتب القيمة هدية لمعاليه.
· قام سعادة سفير نيجيريا بجدة بزيارة خاصة للجامعة الإسلامية وكان في استقباله الأمين العام المساعد ومدير العلاقات العام وبعضا من رؤساء الأقسام وقد تجول الضيف في أنحاء الجامعة وزار المكتبة العامة وفي ختام الزيارة قدمت الجامعة لسعادته بعض الكتب هدية منها.
· نظرا لكثرة الطلبات الواردة من شتى أنحاء العالم لإرسال كتب دراسية من المملكة.
فقد أصدر سماحة رئيس الجامعة قرارا بتشكيل لجنة في الجامعة للنظر في الطلبات الواردة من الخارج على النحو التالي:
مساعد الأمين العام للجامعة رئيسا
مدير العلاقات العامة عضوا
مدير شئون الطلبة عضوا
رئيس التحرير عضوا
هذا وقد أسندت سكرتارية اللجنة لمدير العلاقات العامة في الجامعة الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس ومن المنتظر أن تبدأ اللجنة نشاطها قريبا.
· وصل إلى الجامعة فضيلة الدكتور محمد أمين المصري رئيس قسم الدارسات العليا بمكة المكرمة للمشاركة في إلقاء المحاضرات على طلاب الدورة التدريبية المنعقدة الآن في الجامعة الإسلامية للطلبة المتخرجين منها ويحاضر فضيلة الدكتور المصري في شعبة التربية وطرق التدريس ومما يجدر ذكره أن فضيلته حصل على شهادة الدكتوراه في موضوع ((التربية الإسلامية)) .
· قام وفد من الجامعة الإسلامية بالسلام على ضيف جلالة الملك الرئيس ذو الفقار على بهوتو رئيس الجمهورية الإسلامية الباكستانية برئاسة فخامة سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز، وعضوية كل من:
فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعة.
فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس بكلية الشريعة بالجامعة.
فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد المدرس بكلية الشريعة بالجامعة.
الأستاذ عبد الرحمن بن دايل سكرتير سماحة الرئيس.
الأخ عبد العزيز شريف سكرتير فضيلة الأمين العام.
وقد قدمت الجامعة لفخامة الضيف مجموعة طيبة من الكتب الإسلامية باللغتين العربية والإنكليزية تقبلها شاكرا.
هذا وقد ألقى سماحة الرئيس كلمة ترحيب بالضيف ضمنها نصيحة شرعية، وبعدها ودع الوفد الضيف الكريم.
· غادرنا إلى جدة في طريقهما إلى القاهرة _ بيروت _ دمشق _ عمان _ كل من:
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد القويفلي عميد كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة.
الأستاذ سليم سلمان الحازمي مدير شؤون الموظفين بالجامعة وذلك للتعاقد مع مدرسين للعمل في كليات الجامعة ومعاهدها للعام الدراسي القادم 92_1393هـ.
آراء العلماء في المناسبات
للشيخ أحمد حسن
المدر س بالمعهد الثانوي بالجامعة
بعد هذا العرض لمذاهب العلماء في (المناسبة) لا بدّ أن نقف وقفة عند كل اتجاه نناقش الأدلة التي اعتمد عليها في حكمه والاستنتاجات التي توصل إليها بناء على هذه الأدلة.
1-
مع الشوكاني:
عرفنا من استعراض رأي الشوكاني أنه ينكر القول بـ (المناسبة) ويرى من يقول بها متكلفا متعسفا متكلما برأيه فاتحا لأبواب الشك مُوسّعا لدائرة الرّيب، مُضَيّعا وقته فيما لا يفيد. ويبني الشوكاني رأيه على دليلين. .
الأول:
نزول القرآن مفرقا حسب الحوادث المقتضية لنزوله، وكونها متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمرٍ كان حلالا، وتحليل أمر كان حراما. . . ثم يقول: وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين.. فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها إلى أن يقول: هذا على فرض أن نزول القرآن مترتبا على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب، وأيسر حظ من معرفة يعلم علما يقينا أنه لم يكن كذلك. . ثم يقول: وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخرا، وتأخّر ما أنزله الله متقدما فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدّى لذلك من الصحابة. .
الثاني:
قياسُه القرآن الكريم على قصائد الشعراء وكلام الخطباء حيث يقول: وقد علم كل مقصر وكامل أن الله تعالى وصف هذا بأنه عربي وأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسالكهم في الكلام وجرى به مجاريهم في الخطاب، وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة وطرائق متباينة فضلا عن المقامين، فضلا عن المقامات، فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا، وكذلك شاعرهم. وإذا ما نظرنا في القسم الأول من الدليل الأول، وهو نزول القرآن منجما على حسب الحوادث المختلفة، وترتيبه على حسب النزول فإننا لا نجد حاجة لناقشة هذه الفكرة لأنها ساقطة بنفسها، ولم يقل بها أحد من العلماء حتى إن الشوكاني نفسه يقول بعد أن يستعرضها:"هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتبا على الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفة، يعلم عليما يقينا أنه لم يكن كذلك".
وإذا كان الأمر - كما قال الشوكاني - فلماذا هذا الفرض ولماذا هذا الحكم بناء عليه وهل هناك مجال للافتراضات في الأمور المعلومة من الدين بالضرورة والتي ثبتت بطريق التواتر، خاصة وأن جميع القائلين بـ (المناسبة) إنما يبنونها على أساس أن ترتيب التلاوة غير ترتيب النزول. وإذا ما انتقلنا إلى القسم الثاني من الدليل الأول، والذي يبني فيه حكمه على أن ترتيب القرآن لم يكن حسب النزول، وإنما تقدم في ترتيبه ما كان متأخرا وتأخر ما كان متقدما فإننا نقول: -
إن كلام الشوكاني هنا مبني على أن ترتيب الآيات القرآنية، لم يكن بالتوقيف وإنما كان اجتهاديا برأي الصحابة ونص كلامه "فإن هذا - أي تقديم المتأخر وتأخير المتقدم - عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة".
ومعلوم أن القول بأن ترتيب الآيات اجتهادي لم يقل به أحد من العلماء وإنما انعقد الإجماع وقامت الأدلة - كما تقدم معنا - على أن ترتيب الآيات توقيفي لا مجال للاجتهاد فيه. فالقول بأنه اجتهادي خروج على الإجماع والأدلة المتضافرة،هذا بالإضافة إلى أن الشوكاني لم يذكر لنا دليلا واحدا على رأيه هذا.
وإذا ثبت هذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا رُتّبَت الآيات ترتيبا مخالفا لترتيب النزول؟ وهل كان هذا الأمر هكذا جزافا أم لابد وراء ذلك من حكمة؟ وإذا كان لحكمة فما هي هذه الحكمة؟ إن لم تكن المناسبة؟ وإذا كانت المناسبة خافية في بعض الأحيان فليس معنى ذلك أنها غير موجودة، بل معنى ذلك أننا قصرنا في استخراجها وإدراكها كما تخفى علينا كثيرا من الحكم في آيات الله في الآفاق والأنفس، وقد يظهر عند البعض ما هو خاف عند غيرهم وقد يظهر في زمن ما خفي في زمن آخر، ولا شك أن الإنسان يأخذ من القرآن بقدر ما يعطيه، والمناسبة تكون على وجوه وتدرك حسب أفهام الناس، ولا بد من اختلاف لمدارج الناس في العلم وقوة الاستنباط. فبعض الوجوه يظهر على بعض الناس، وبعضها عل بعض آخر. ويعلق الفراهي على هذه الفكرة في كتابه ((دلائل النظام)) فيقول:
المنكر للنّظْم - أي المناسبة - لا محيص له من أحد ثلاثة أقوال:
فإما أن يقول بأن السورة ليست إلا آيات جمعت بعد النبي صلى عليه وسلم من غير رعاية ترتيب كما وجدت في أيدي الناس. وإما أن يقول بأنها اختل نظمها، لما أن الآيات التي أدخلت بين الكلام المربوط قطعت النّظم، فكلا القولين ظاهر البطلان ومبنيٌ على الجهل الفاحش بجمْع القرآن وترتيبه، ومواقع الآيات المبيّنة والمفصلة بعد النزول الأول.
أما الأول فلأنّ السّور كانت متلوّة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الله النبي بالتّلاوة حسب تلاوة جبريل كما صرح به القرآن. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الناس السورة بالتمام ويسمع منهم فهذا القرآن المجموع في المصاحف ليس إلا على نسق ما جاء به جبريل عليه السلام، وقرأه على النبي في تلاوته الأخيرة، فلو صح ما زعم فَلِمَ أمرَ الله نبيه باتّباع قراءة جبريل؟ ولِمَ كان يأمر بوضع الآيات بمواقعها الخاصة.
أما الثاني - فلأن الآية المدخولة لا تقطع النّظم إذا دخلت في موضع يليق بها، والآيات المدخولة كلها معلومة الربط بما قبلها أو بعدها. وقد قال الله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .
وإما أن يقول بأن الله تعالى لم يُرِدْ أن يُنَزّل كلاما منظما كما لم يُرِد أن يجعله شعرا أو سجعا أو غير ذلك مما يراعى فيه المتكلم من البدائع والتكلف إنما هو كلام أُريد به الهداية والحكمة فأنزل حسب ما اقتضت الأحوال من الدلائل والشرائع. وربما اجتمع المقتضيات من وجوه مختلفة، فأنزل مراعيا لتلك الوجوه المتباينة سورة جامعة لمطالب مختلفة، احتيج إليها في زمان نزولها. والأحوال والحوادث، واقتضاءاتها تجمع من علل متباعدة في زمان واحد. فالسورة تجمع هذه الجمل كلها تكون على حِدّتها في غاية الحُسْن والنّظام، وأما مجموع هذه الجمل فلا معنى لالتماس النظام فيه. وقد بيّن ذلك بعض أكابر العلماء فأقول لولا رعاية النظم فيه لما وجدنا الكلام الطّويل مبنيا على أسلوب جامع أو كلمة ناظرة إلى كلمة سابقة بعيدة عنها. مثلا {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} قد سبق في أول سورة البقرة ثم جرى الكلام حتى عاد إلى ذكر أهل التقوى، فجاء قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ناظرا إلى ما سبق، والتّأمل في نظم ما بينهما وفي ما بعد ذلك يبيّن أن ذلك ليس بمحض الاتفاق ولذلك أمثلة كثيرة أوضح مما ذكرنا.
أما الدليل الثاني الذي يعتمد عليه الشوكاني في حكمه، وهو قياسه على كلام العرب وقصائدهم وخطبهم لأنه نزل بلغتهم فإننا نقول فيه: إن القرآن الكريم وإن نزل بلغة العرب، فليس يشبه كلامهم من كل وجه ولا يخالفه من كل وجه، فهناك أوجه اتفاق، كما أن هناك أوجه اختلاف فمن أوجه الاختلاف ما قال الجاحظ: "سمّى الله تعالى كتابه اسما مخالفا لما سمّى العرب كلامهم على الجملة، والتفصيل، سمّى جملته قُرآنا ما سمّوا ديوانا وبعضه سورة، كقصيدة، وبعضها آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية. وإذا ما تأملنا قصائد الجاهلية، وجدنا أنها تسير على نظام معيّن حيث ابتداء بالنسيب والبكاء على الأطفال والديار، ثم يصل الشاعر إلى غرضه من الفخر أو المدح أو الرثاء، ولا شك أن المناسبة قائمة بين أجزاء القصيدة وأبياتها.
أما بالنسبة إلى ما ذكره الشوكاني من إنكاره ترتيب القصائد المختلفة الموضوع كمدح والهجاء والرثاء، أو ترتيب الخطب التي قبلت في مناسبات مختلفة، فهذا غير وارد، وذلك لأن كثيرا من القصائد التي وصلتنا على قلتها لم تكن لتنجو من تلاعب رواة الشعر بين تقديم وتأخير، وحذف وتغيير، ولأن العرب كانوا أمة أُمية لا يقرؤون ولا يكتبون، ومن ثم لم يؤلفوا كُبُبا حتى تحتاج إلى ترتيب وتنسيق، وحينما تحولوا إلى أمة علمية بمجيء القرآن ودخولهم في الإسلام، وجدنا الكتب المصنفة المرتبة، ووجدنا المناسبة تجمع أشتات هذه الكتب وموضوعاتها، وهكذا توزعت الكتب واختلفت باختلاف موضوعاتها وفنونها فكتب الفقه وكتب التفسير، وكتب الحديث وكتب التاريخ الخ.
وكل كتاب يبدأ بما يناسب الابتداء، ثم يقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، ثم تأتي الخاتمة، وكذلك الشعراء فإنهم لا ينشرون دواوينهم هكذا اعتباطا، وإنما يعمدون إلى القصائد التي يجمعها موضوع واحد، أو مناسبة ما فينشرونها في ديوان واحد تحت عنوان واحد، وليس هذا شأن العرب وحدهم، وإنما هو شأن البشرية كلها في الشرق والغرب، بل إن الشوكاني نفسه، شعر حينما استطرد في كلامه عن المناسبة أنّه خرج عن الموضوع الذي كان فيه وهو تفسيره لسورة البقرة، فاعتذر عن ذلك وقال:"إنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام". فهو يريد بذلك أن يبين للقارئ مناسبة هذا الكلام الذي انْجرّ إليه، حتى لا يلام على ذلك، وهذا دليل على أن الإنسان لا يمكن أبدا أن يتخلى عن المناسبة، أو أن يُغفلها في كلامه أو كتابته فإذا كان كلام البشر خلوا من المناسبة فلا شك أنه عيب في الكلام، ونقص في صاحبه فكيف بكلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي لا ريب فيه هدىً للمتقين.
وإليك ما قاله الفراهي في دحض هذه الشبهة:
"زعم بعض العلماء أن الكلام المنظم الذي يجري إلى عمود خاص ليس من عادة العرب فإنك ترى في شعرهم اقتضابا بيّنا، فلو جاء القرآن على غير أسلوبهم ثقل عليهم، وهذا زعم باطل، فإن العرب كانوا يتَلَهّوْنَ بالشعر، ولا يعدونه من المعالي وإنما كانوا يعظمون الحكماء ويحبون الخطبات الحكيمة، ولذلك كان الأشراف يأنفون عن قول الشعر وأنْ يُعْرفوا به وإنما يستعملونه نزرا على وجه الحكمة وضرب المثل. ومحض الوزن والنظم لا يُعَد شعرا، وإن للشعر مواضيع من فنون الهزل والإطْراب، فهو على كل حال من لهو الحديث، فمن نظم الأبيات في غير مواضيعه لا يُسَمّى شاعرا إنما هو ناظم. ومن هذا الجانب المعروف من حقيقة الشعر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا".
أي هذا يكون عل الندرة، ولذلك نزه الله تعالى نبيه عن الشعر حيث قال:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
فإن تبيّن لك هذا الفرق بين الشعر والبيان، وأن العرب لم يكن أكثر كلامهم الجزل شعرا، فهل بعد ذلك تجعل القرآن على أسلوب الشعراء وأنه مقتضب البيان كمثله؟ ألا ترى كيف جعل الله ذلك من ذمائم الشعراء وقدمه على الكذب مع ظهور شناعة الكذب فنبّه على أن القول من غير غاية وعمود ونظام أدل على سخافة القائل، فقال تعالى في ذم هؤلاء الشعراء:{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} الشعراء (225-226) .
هل الهيمان في كل واد إلا الجريان في القول من غير مقصد ونظام. وليس للعقل فيه رغبة، ولكن النفس ربما ترغب في الملاهي، والخُلُوِّ عن الفكر فتميل إلى ذلك كما تميل إلى الخمر والغناء وأشغالٍ تغفلها عن الهموم والأفكار وهذا ليس بدواء ولكنه داء. .
ثم يبين الدوافع الحقيقية، والأسباب الخفية التي جعلت بعض العلماء ينكرون المناسبة فيقول:
"ما أنكر وجود النظم في القرآن من أنكره إلا بخلاف رضاه، ولولا أنه أكره عليه لتحاشى عنه، فإنه لا يرضى عاقل أن يترك بين الناس كلاما له، وهو يعلم أنه مختل النظم، بل لو لاح له بعد زمان شيء من الإخلال راجع فيه النظر، وهذّبه غاية ما يمكنه".
وكذلك لا يتهم به من حَسُن فيه ظنه، وإنما يتهمه إذا عجز عن فهمه ولم يتهم فيه نفسه بالتقصير، فحينئذ ينسب إلى القائل إساءة الصناعة، وذلك إذا كان الكلام من مخلوق.
فأما إذا كان من الخالق - تعالى وتقدس - وهو محفوظ ومرتب على غير ترتيب النزول - وألقاه الملك الأمين إلى نبي كريم، فصيح اللسان من قوم مشهورين بالفصاحة والبيان، وقد قرأه عليه مرارا.
ولا شك أن حُسْنَ الشيء ونفعه مودعان في تناسب أجزائه، لا سيما الكلام البليغ، ولا سيما إذا تحدى به البلغاء، فعجزوا عن الإتيان بمثله ولو بسورة واحدة. فلا أدري كيف يظن به ظان - وهو من المسلمين المؤمنين بالله وتنزيله - أنه خال عن حسن النظام.
فإذا كان الأمر كذلك، فلا شك أن الذين ذهبوا إلى نفي النظام ((أي المناسبة، لم يذهبوا إليه إلا لأسباب اضطرتهم إليه، فلنذكر بعض تلك الأسباب لتعرف عذرهم، وتبقى على حسن ظنك بهم، ولتخرج من محض التقليد، إلى مطمئن من الحق.
فإن الأذكياء والحكماء لا يذهبون إلى رأي نكرٍ إلا فرارا مما هو أشد نكارة، فمن لم يعرف ذلك إما أساء بهم الظن، وسدّ على نفسه الانتفاع بهم، أو قلّدهم في أمر ظاهر الفساد فعمي وتصامم عن الاستماع لكل دليل واضح. فإن إساءة الظن إلى دلائلك أهون عليه من إساءة الظن بأولئك الأكابر. وإن نقلت من بعض الأكابر ما يوافق الحق اشتبه عليه الأمر، وربما اتبع ما عليه الأكثرون.
فلذلك احتجنا إلى ذكر بعض الأسباب المانعة عن الإيقان بالنظام مع وضوح دلائله، فنقول وبالله التوفيق:
الأول:
وهو أقوى الأسباب: تبرئة كلام الله عن كل عيب وشين. ولا شك أنه ظاهر النظام والترتيب في كثير من المواضع، ولكنهم لو ادعوا أن كله منظم، -والنظم مرعي فيه - لاضطروا في مواضع إلى القول بعدمه وذلك لغموضه ودقته، فتركوا هذا المسلك، ولم يحولوه إلى قصور أفهامهم، فإن منها ما وجدوه خلاف أصول النظم، وتيقنوا أنه لا يمكن فيه تصور نظم ما. كما ترى في آية:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} - البقرة:238- فإن هذه الآية واقعة بين ذكر متصل لأمور النساء، ثم بعدها يرجع إلى الذكر الأول، ولولا هذه الآية لكان البيان على غاية الاتصال.
ومن بيّن مناسبة هذه الآية، لم يأت بما يتقبله من رزق شيئا من الإنصاف ويستمع القول فيتبع أحسنه.
ومن الذين يؤمنون بوجود النظام من نسب ذلك إلى عجز فهمه. وذلك هو المسلك الأحوط وقد كشف لنا غطاؤه بعد سنين، فالحمد لله رب العالمين {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الأعراف:43.
الثاني:
ليس دون الأول، ولكن الأول يتعلق بالمصنفين، والثاني يتعلق بالناظرين في كلامهم.
وهو أكثر من ذهب إلى وجود النظم كالإمام الرازي رحمه الله قنع في هذا الأمر الصعب بما هو أوهى من نسج العنكبوت، مع سبقه الظاهر في العلوم النظرية والذكاء.
فمن نظر في كلامه تيقن بأن النظم لو كان كما يدعيه هذا الإمام المتبحر وأمثاله، لما خفي عليه مع خوضه فيه، وإذ لا يأتي هو ولا غيره إلا بكل ضعيف، فلا مطمح فيه لأحد بعد هؤلاء، فإما بقي على قوله بوجود النظم، ولكن يئس من علمه وأغلق بابه، فإن سمع أحدا يدعوه إليه لم يسمعه. وإما صار إلى الرأي الذي ظنه أسلم، وهو أن القرآن إنما نزل منجما مفرقا، فلا يطلب فيه نظام.
الثالث:
إكثار الوجوه في التأويل، وإكثار الجدل وقال وقيل، وذلك بأن النظم إنّما يجري على وحدة، فبحسب ما تكثر الوجوه، يتعذر استنباط النظام. فمن نظر في هذه الوجوه المتناقضة والأقاويل المتشاكسة تحَيّر، لا يدري ماذا يختار منها؟ وأصبح في حجب من النّظم الذي يجري من كل جملة في وجه واحد كمن سلك طريقا يصادف في كل غلوة طرقا شتّى.
ولما كان ذلك - ولأسباب أُخر شرطنا أن نقنع بوجه واحد صحيح ظاهر ينتظم به الكلام، ولم نجده إلا أحسنها تأويلا، وأبلغها بيانا - وهذا مبسوط في موضعه وإنما ذكرناه هنا من جهة أن إكثار الوجوه من أكبر الحجب على فهم النظام، بل عدم التمسك بالنظام هو أكبر سبب للولوع بكثرة التأويل، فإن النّظم هو الذي يوجهك إلى الوجه الصحيح والسلف رحمهم الله لم يجمعوا وجوها بل كل منهم ذهب إلى أمر في كل علم إذا كثرت الكتب ودون العلم، وسهل الطريق فيحرصون على التبحر ويرفضون الرسوخ والتحقيق في فن واحد، فيحسبون تكثير الأقاويل والمذاهب علما وهم خِلْوٌ عنه كما قيل: طَلَبُ الكل فَوْتُ الكل.
فمن اشتغل بالتفسير وجده بحرا متلاطما من الأقوال، وحفظه هذه الأقاويل يمنعه عن مسلك النظام من جهة نفاد فرصته ومنته، ومن جهة أن النظام قد خفي وضل عنه في شتات الوجوه الكثيرة بل لو رفض هذه الكتب كلها وأخذ طريق السلف رحمهم الله فتدبر القرآن والتمس المطابقة بينه، وبين السنة الثابتة لكان أقرب إلى معرفة النظام وصحيح التأويل.
الرابع:
قريب من الثالث، إنّ تحَزّب الأمة في فرق وشِيع، قد ألجأهم إلى التمسك بما يؤيده من الكتاب فراق لهم تأويله الخاص سواء كان بظاهر القول، أو بإحدى طرق حمل الكلام على بعض المحتملات. ولا يخفى أن غلبة رأي وتوهم، يجعل البعيد قريبا والضعيف قويا، وكذلك يضل كل فريق، فلكل حزب تأويل حسب مذهبه، وحينئذ لا يمكن رعاية النظام فإن الكلام لا بد له من سياق، ولا بد لأجزائه من موقع يخصه. فلو رعوا النظام، ظهر ضعف ما يمليه ويجذبه إلى غير مساقه، كما أنن الكلمة الواحدة ربما تكون مشتركة بين المعاني المتعددة ولكن إذا وضعت في كلام منع موقعها وقرائنها من كثرة الاحتمالات، وتعين منها ما وافق معنى الجملة والتأم به. ومع ذلك ليس كل نظام جديرا بالأخذ بل ما هو أحسن تأويلا فربما يلتئم الكلام ويتسق النظام بتأويل ركيك ساقط، فهذا مما يتح بابا لدخول الأباطيل والهوى، ويخالف النظام الصحيح العالي الذي يظهر به رفيع مكان التنزيل، كما وصف الله به كتابه في مواضع لا تحصى.
مع العز بن عبد السلام:
بالرغم من أن العز بن عبد السلام يصرح بأن المناسبة علم حسن، إلا أنه يشترط أن تكون في أمر متحد مرتبط أوّله بآخره، ولا يقبل بالمناسبة فيما وراء ذلك لأن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، وما كان كذلك لا يتَأتّى ربط بعضه ببعض ولا شك بأن الأمر المتحد المرتبط أوله بآخر لا يحتاج أن نبحث له عن المناسبة لأنها ظاهرة الفكرة مرتبط أولها بآخرها، فهذا الشرط هو تحصيل حاصل. أما في ما وراء الأمر المتحد المرتبط أوله بآخره، فنرى أن العز بن عبد السلام لا يقول بالمناسبة، وذلك لاختلاف أسباب النزول، ولا شك بأن هذا الرأي مبني على أن ترتيب الآيات كما هي في المصحف، إنما كان على ترتيب النزول، وهو أمر ظاهر البطلان، بعد ما قدمنا من الأدلة على أن ترتيب الآيات ليس وفق ترتيب النزول، وأنه توقيفي بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم وهكذا نرى أن هذه الشبهة ساقطة، ولا تنهض أمام الأدلة المتوافرة التي سبقت.
ونستخلص من هذا أن العز بن عبد السلام متوسط في رأيه، فهو يقول بالمناسبة الظاهرة، دون الخفية، وذلك ليهرب أيضا من التكلف الذي رآه عند بعض من خاضوا هذا البحر، ولم يحسنوا فيه السباحة فأوشكوا على الغرق. فهو يرى حسن المناسبة ولكنه يشفق على من يسعى إليها.
مع الجمهور:
لا شك أن رأي الجمهور بالقول بالمناسبة يعتمد على أدلة قوية كما قدمنا، غير أن الطريقة التي سلكها أكثرهم في التعرض إلى المناسبة واستكشافها لم تكن تساعدهم دائما على معرفة المناسبة القوية، فيلجئون إلى مناسبات ضعيفة قد تضطرهم إلى شيء من التكلف مما حمل أصحاب الاتجاه الأول على إنكار المناسبة والتشنيع على القائلين بها، وأصحاب الاتجاه الثاني على القول بها في حال دون حال ويبدو أن الطريقة التي كانوا يلجئون إليها في غالب الأحيان، وهي طريقة التحليل حيث لا يتجاوزون الآيتين المتجاورتين، وبالتالي ينحصر البحث في معنى الآيتين ولا يجاوزهما إلى معانٍ أخرى تفهم من مجموع الآيات في السورة الواحدة، ولو أنهم بعد أن سلكوا هذا الطريق التحليلي، عادوا فنظروا إليه نظرة محلية تركيبية، لأمكنهم أن يربطوا بين الآيات كلها ربطا محكما، لا شبهة فيه ولا تكلف، ومن هنا فالطريق الصحيح لإدراك المناسبة لا بد أن يستخدم أولا منطق التحليل، حيث يضع الفرضيات الأولى للمناسبة بين الآيات، ثم يأتي بعد ذلك منطق التركيب الذي يحاول استكشاف الوحدة الكلية الموضوعية التي يقوم عليها بناء السورة فإذا ما أدرك ذلك أمكن تصحيح التكلف والتعسف الذي ينشأ من منطق التحليل، بذلك تبدو المناسبة قوية محكمة لا تحتاج إلى تكلف ولا تعسف. غير أن إدراك الوحدة الموضوعية الكلية ليس بالأمر الميسور، كما أنه ليس ملقىً على قارعة الطريق، وإنما يحتاج إلى بحث ودراسة، وقد تختلف فيه أنظار الباحثين والدارسين ومن ثمّ تختلف المناسبات باختلافهم، فالبقاعي - مثلا - يستنتج موضوع السورة من اسمها، وفي ذلك يقول. وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تلحظ المناسبة بينه وبين مُسماّه عنوانه الدّال إجمالا على تفصيل ما فيه، وذلك هو الذي أنبأ آدم عليه السلام عند العرض على الملائكة عليهم السلام، ومقصود كل سورة هاد
إلى تناسبها، فأذكر المقصود من كل سورة وأطابق بينه وبين اسمها، وأفسّر كل بسملة بما يوافق السورة ولا أخرج عن معاني كلماتها.
أما الفراهي فإنه يقول:. . ولما كان اسم الشيء عنوانا لمعناه، وقد اشتهر من الأسماء ما لا يخبر عن معناً هاما، فاعلم أن أسماء السور على أربعة وجوه:
الأول:
تسميتها بلفظ من أوائلها، فمنه فيما نقله السيوطي سورة الحمد وبراءة، وسورة سبحان، وطه، وحواميم، ويس، واقتربت، والرحمن، وتبارك، وعمّ، والمعصرات، وأرأيت، وسورة تبت، وغير ذلك، وهكذا سمّت اليهود كتب التوراة.
الثاني:
تسميتها بلفظ اختص بها، كالزخرف والشعراء والحديد، والماعون، وغير ذلك، فهذه أسماء لا تنبئ عن مقصود السورة ولكنها كالشّامة والسّمة تتميز بها مسمياتها، وكانت العرب تسمي الرجال والأشياء هكذا، كالملتمس وتأبَطّ شراً، وهكذا المنطقي يميز المعاني بعرض خاص ليس في شيء من حقيقة المعنى.
الثالث:
تسميتها بلفظ يخبر عن بعض المعاني العظيمة كتسمية سورة النور لاشتمالها على آية النور وتسمية سورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة إبراهيم وسورة يونس، وكثير من الأسماء على هذا الأسلوب.
الرابع:
تسمية السورة بما ينبئ عن المقصد الذي تبنيت له السورة، ضمنها تسمية الفاتحة بصورة الصلاة وتسمية براءة وسورة بني إسرائيل وسورة محمد بسورة القتال وسورة الإخلاص والمعوذتين، فهذا الوجه الرابع يخبر عن فهم من سمّى السورة به، فلو سموا كل سورة على هذا الوجه لظهر نظام السور لكل متوسم. وهكذا فإن حصر موضوع السورة في اسمها ربما يؤدي إلى تكلف، إذا كان الاسم من الأنواع الثلاثة التي ذكرها الفراهي، ولا شك أن هذا الخلاف في تعيين موضوع السورة ينعكس على إدراك مناسبات آياتها، ومن ثم يكون اختلاف كبير في وجهات النظر.
مع دراز والفراهي:
لا شك أن ما ذهب إليه الدكتور دراز، والمعلم الفراهي، يبدو أنه أقرب للصواب وأدنى من الحكمة، لما قدما من أدلة قوية مقنعة، ولما وضعاه من الأصول والمعالم التي تهدي إلى المناسبة المعقولة، والتي تبعد عن التكلف والتعسف وذلك كما سيأتي معنا فيما بعد، وقد بلغ الأمر عند الفراهي مرتبة اليقين حتى أنه يقول:((وكيف يشك فيه من وجد مَسّ برده، وشم ريح ورده، وتمتع بنسيم عرار نجده، ولكنه من لم يذق فإن ارتاب فلا تثريب عليه)) ومع ذلك يبدو أن هذا الاتجاه على أهميته - وبالرغم من الجهود التي بذلها في توضيح رأيه وإقامة الحجج والبراهين المقنعة - لم يستطع أن يعبد الطريق أمام الباحثين فما زالت هناك صعوبات كثيرة وعقبات كبيرة، تحتاج إلى مواصلة الجهد ومعودة الدرس. إننا نتعاطف مع هذه الفكرة ونشعر شعورا قويا وغامضا بصحتها، ولكن تحقيقها في عالم الواقع ليس بالأمر الهين اليسير ودون ذلك، أشواك ومشتقات حتى يستوي النظام على سوقه، ويرتفع بنيانه على قواعد علمية محددة، وقد لا يستطيع ذلك إلا أفذاذ من الناس ممن وهبوا حياتهم ووقتهم لمطالعة كتاب الله ودراسته وآتاهم الله فهما وحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.
أضواء إسلامية على بعض الأفكار الخاطئة
بقلم الشيخ ربيع بن هادي
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن من أغرب الأمور وأعجبها وأشدها وقعا على قلب كل مؤمن واع وأشدها حيرة لعقله وأذهبها للبّه ما وقع فيه كثير من المنتسبين للإسلام من ضلال بعيد في الفكر وانحراف خطير في المعتقد وانحدار فيه إلى مستوى من الجاهلية لم تبلغه أيّ جاهلية مضت على مدار التاريخ.
صحيح أن المشركين في كل جاهلية قد عبدوا الطواغيت والأوثان من دون الله واستكبروا في الأرض وكذبوا الرسل وعاندوهم أشد العناد والمكابرة.
غير أن احتجاجهم لشركهم وتعصبهم لوثنيتهم ما كان يتجاوز أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى ((الزمر)) وأن هذا أمر اعتادوه وألفوه وورثوه عن آبائهم كما يقص علينا القرآن وهو أصدق حديث عرفته البشرية {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} الزخرف.
فأنت ترى أنهم لا يبالغون ولا يهولون في تمجيد آلهتهم ولا يتجاوزون الواقع الذي كان عليه معبوداتهم من أنها لا تسمع دعاءهم ولا تجلب لهم نفعا ولا تدفع عنهم ضرا كل ما في الأمر أنهم قلدوا آباءهم في أمر وجدوهم عليه وتراث يريدون الحفاظ عليه.
وإذا قرأت تاريخ الجاهلية ترى تعلق كثير منهم بمعبوداتهم فيه ضرب من الاستخفاف فالرجل يحمل حجرا معه ليعبده فإذا وجد حجرا أجمل منه رمى حجره الأول واتخذ الأخير معبوده الجديد ويتخذ الرجل معبوده يصنعه من التمر فإذا مسه الجوع أكله بدون تردد أو وجل.
وكانوا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ناسين آلهتهم لأن ثقتهم فيها ضعيفة متجهين إلى الله الذي بيده النفع والضر والإنقاذ من الشدائد.
إن مثل هذا الكلام والأسلوب يزعج كثيرا من الناس ويثيرهم وأكثر ما يزعج أولئك الصيادين الذين اتخذوا من سدانة القبور ومن كرامات الأولياء شبكات لاصطياد الأغمار والبله والمغفلين قارن بين واقع المشركين الأولين الذي قصه الله علينا وهو أصدق القائلين وبين عقائد هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام.
قارن بين ما تراه من أفعالهم وما تسمع من أقوالهم وما تقرؤه من كتبهم في كرامات الأولياء ومراتبهم من أن هناك أقطابا وأوتادا وغوثا و. . . و. . .الخ.
وما لهم من خوارق العادات ومن تصرفات في شؤون الكون واطلاع على الغيوب تر العقائد الوثنية الأولى أقل جهلا وغلوا من عقائد هؤلاء المتأخرين، إنا نقول لهؤلاء كما قال تعالى لأهل الكتاب - لأن هؤلاء - يزعمون أنهم أهل القرآن فنقول {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقّ} .
ونقول لعلمائهم إن كان فيهم علماء.
{لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
تعالوا نحتكم إلى القرآن الحكيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} كما أمرنا الله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
وإلى السنة المطهرة قول الرسول الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ولا تكونوا كالذين قال الله فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} فإن صددتم فاسمعوا قول الله {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
وإن كنتم على استعداد للتحاكم إلى الرسول كما أمر الله بذلك فهنا بعض المسائل نحب أن يركز الكلام عليها وأن يدور الحديث حولها وليس عليكم إلا أن تتحلوا بالإنصاف وتتجردوا من التعصب وتقبلوا بعقولكم وقلوبكم وتصغوا بآذانكم بجد إقبال من يريد الحق وعلى ضوء مناقشة تلك المسائل بالأدلة من الكتاب والسنة ستبين لكم الحق من الباطل وإليكم ما نريد مناقشته:
1-
دعاء غير الله من الموتى والغائبين والاستغاثة بهم.
2-
إدعاء أن غير الله يعلم الغيب سواءا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والأولياء.
3-
إدعاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بشرا.
(المسألة الأولى - وهي دعاء غير الله)
نريد أن نعرف حقيقة الدعاء لغة وشرعا.
1-
قال في الصحاح دعوت فلانا صحت به واستدعيته ودعوت الله له وعليه.
2-
وقال في القاموس الدعاء الرغبة إلى الله.
3-
وقال في المصباح دعوت الله أدعوه دعاء ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير ودعوت زيدا ناديته وطلبت إقباله.
4-
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "والدعاء الطلب والدعاء إلى الشيء الحث على فعله ودعوت فلانا سألته ودعوته إستغثته".
فالدعاء إذا استدعاء ورغبة ونداء وابتهال بالسؤال واستغاثة والذي يدعو الله راغب إليه ومنادٍ له ومبتهل وسائل له ومستغيث به والداعي لغير الله من ميت وغائب كذلك.
(حقيقة الدعاء في القرآن)
1-
قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} آل عمران.
2-
فالدعاء المذكور في آل عمران سمّاه هنا نداء وفسر النداء في سورة مريم بطلب الولد.
(حقيقة الدعاء في السنة)
1-
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله سبحانه لا يتعاظمه شيء أعطاه".
فسمى ما يطلبه العبد من ربه دعاء ومسألة رغبة وهو موافق لأقوال أئمة اللغة.
2-
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول قد دعوت فلم يستجب لي" متفق عليه وأخرجه الترمذي.
3-
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحدكم فليعزم الدعاء ولا يقل اللهم إن شئت فأعطي فإن الله لا مستكره له" متفق عليه.
والأحاديث ومؤلفات العلماء وتراجمهم في الدعاء شيء لا يأتي عليه العد بل عوام الناس إذا ذكر لفظ الدعاء لا يتبادر إلى أذهانهم إلا هذه الحقيقة وهي النداء والسؤال والطلب.
إذا تقررت وفهمت حقيقة الدعاء على ضوء الكتاب والسنة واللغة العربية وواقع الناس فالله تعالى قد أمرنا بدعائه ونهانا أشد النهي عن دعاء غيره.
أمرنا الله بدعائه وعلمنا آداب الدعاء التي يرجى من ورائها الإجابة وهي:
1-
التضرع 2- الخفية 3- الخوف 4- الطمع.
فهنا ندب تبارك وتعالى عباده إلى دعائه وأخبر أن المستكبرين عن دعائه مستكبرون عن عبادته لأن الدعاء أهم أنواع العبادة وأعظمها فالتارك لدعائه استكبارا كافر سيدخل جهنم داخرا أي صاغرا وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبن أبي حاتم عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدعاء هو العبادة"ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
قال الترمذي صحيح الإسناد ومعنى الدعاء هو العبادة كما قال العلماء أي جلها ومعظمها كقوله صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة"أي أعظم أركان الحج، وكقوله صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة" ولا شك أن الدعاء كذلك ولذا تعبدنا الله به في كل صلاة.
هذه لمحة عن أهمية الدعاء وإشارة خاطفة إلى بعض ما أمرنا به ربنا تعالى من دعائه وحده.
أما دعاء غير الله فقد نهى الله تبارك وتعالى عنه أشد النهي وحكم على فاعله بالضلال وضرب فيه الأمثال وأبدى فيه وأعاد وركز عليه تركيزا قويا واعتنى بموضوعه أقوى عناية وأشدها وكيف لا يكون كذلك وهو أعلى أنواع العبادة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" بتعريف الجزءين وهو من طريق القصر المعروفة عند البلاغيين.
ولنشر الآن إلى قليل من كثير مما ورد في القرآن الكريم في هذا الموضوع قال تعالى مخاطبا نبيه الكريم: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} .
والظلم هنا هو الشرك {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} .
فهذا نهي صريح للنبي صلى الله عليه وسلم عن دعاء غير الله مهما علت منزلته وارتفعت درجته سواء كان نبيا أو ملكا مقربا، فهذا أكمل المخلوقات وسيد المرسلين والنبيين لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا قال تعالى في سورة الأعراف آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فبديهي أنه لا يملك ذلك لغيره وصرح بهذا المعنى في آيات أُخر قال الله آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} .
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
وقال صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} : "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا.
يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا".
فإذا كان أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم كذلك، فغيره أبعد عن ذلك وأبعد، فهذه البيانات الواضحة والتصريحات القوية التي تصدر عن أصدق القائلين الهدف الأصيل منها أن يقطع المؤمن الصادق كل أمل وكل رجاء من غير الله ويتجه بدعائه ورجائه ورغباته وكل مطالبه إلى الله وحده مباشرة.
ولذا قال عقب هذه الآية التي تلوناها عليكم من سورة يونس: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
وقال في سورة الأنعام مستعملا الأسلوب نفسه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
2-
وقال تعالى ضاربا مثلا لحال من يدعو غير الله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
شبهت حال من يدعو غير الله بحال شخص استولت عليه الشياطين فحرفته عن الجادة فهو تائه مضطرب الفكر والعقل ذاهب اللب يتخبط في سيره لا يهتدي لجهة ولا يعرف مقصدا في الوقت الذي يدعي فيه إلى خلاصه والطريق الذي فيه نجاحه وفلاحه فيمعن ويوغل في البعد عن طريق الخلاص والنجاة حتى يلقى هلاكه ومصيره المشئوم.
3-
وقال ضاربا مثلا لخيبة الأمل التي يُمنى بها من يدعو غير الله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَاّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَاّ فِي ضَلالٍ} .
فهل يستجيب ماء بئر في الدنيا لمن وقف على حافته يمد كفيه ويبسطهما إليه ولو كان ملتهب الأحشاء محترق الفؤاد من الظمأ؟
4-
وهذا تصوير صحيح لواقع كل مدعو من دون الله وأن من في السماوات والأرض لو اجتمعوا لخلق ذرة فضلا عن ذباب لا يستطيعون، ولوقفوا عاجزين وهذا غاية الغايات في العجز، فإذا كان هذا حال المدعوين فلماذا لا يثوب الداعون لهم إلى رشدهم ولذا قال ما قدروا حق قدره إن الله لقوي عزيز، فهو قادر على كل شيء غالب على كل شيء إنما أمره إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، والواقع أن الذين يستجيزون لأنفسهم دعاء غير الله لا يشعرون أن هذا النداء في هذه الآية موجه إليهم وأن هذا المثل فيها مضروب لهم ومن جراء فقدان هذا الشعور والإحساس لم يرهفوا أسماعهم لهذا المثل الذي قال الله فيه فاستمعوا له وإلا لكان لهم منه أكبر زاجر وأقوى رادع ولفتحوا أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم على قدرة الله الهائلة التي يصغر أمامها كل شيء فاتجهوا إليه وحده ضارعين وداعين.
5-
وقال تعالى مبينا غناه المطلق وفقر من عداه المطلق وأن المدعوين من دون الله جميعا صفر اليدين مما يتعلق به المشركون بهم الداعون لهم من دون الله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} .
فهذه الآية فيها تحطيم لكل أمل يتعلق به المشركون فالمدعوون من دون الله مع الأسف لا يملكون من هذا الملك الواسع والكون الكبير السموات والأرض مثقال ذرة لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل المشاركة والله غني غنىً مطلقا فليس هو سبحانه وهي متوقفة على إذنه، على أنه لا حظ فيها لهؤلاء المشركين الداعين لغير الله وإنما هي للموحدين فماذا استفاد المشركون؟
النار وبئس القرار، ولا كرامة.
فالله تبارك وتعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتحدى المشركين بأن يشيروا إلى أي نقطة من السموات والأرض قد خلقها آلهتهم ولو مجتمعة أو أي جزئية شاركوا فيها في الخلق والتصرف وهم لا يمكن أن يدعو ذلك فهم معترفون بأن الله وحده المنفرد بخلق الكون والتصرف في شئونه.
فإن توقح متوقح منهم فليت بالبرهان الواضح ولا يمكنه ذلك لا من طريق النقل ولا من طريق العقل وبعد عجزهم الفاضح أمام التحديات فما حكمهم إن أصروا على دعاء غير الله؟
حكمهم أنهم خلق الله إنهم غارقون في ضلال بعيد لأنهم يدعون من لا يملك شيئا في السماوات والأرض لا لنفسه ولا لغيره وقد عجزوا وأفحموا عن إقامة البرهان على شيء من ذلك وهم مع ذلك لا يستجيبون لهم ولو بحت أصواتهم وانقطعت حناجرهم من النداء والهتاف ولو استمروا فيهما إلى يوم القيامة.
والنتيجة المرة أنهم يوم القيامة يبارزونهم ويصارحونهم بالعداء الشديد {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} إنها لنهاية أليمة ومصير مشئوم وهذا الذي أشرنا إليه قليل من كثير فما يزخر به القرآن من محاربة هذا الاتجاه المخزي فمن أراد أن يعرف الحقيقة فليمط عن وجهه حجاب التعصب الأعمى وليقرأ القرآن ملاحظا ما أشرنا إليه فسيجد الأمر أوضح وأقوى.
المسألة الثانية: وهي ادعاؤهم وزعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من الصالحين يعلمون الغيب.
وقبل الخوض في هذه المسألة نبدأ بمقدمة ينكشف بها أن المزاعم الباطلة والافتراءات الكاذبة لا ترفع شيئا من منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من تعظيمه وتوقيره في شيء بل ذلك عدوان على منصبه ومنابذة لشرعه ورسالته.
إن المؤمن الحق يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم البشر وسيد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأنه يجب تعظيمه وتوقيره وتعظيم واحترام ما جاء به من قرآن وسنة وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وهنا نتساءل ما هو البرهان الصحيح العملي الذي يقيمه المؤمن على هذا الحب والتعظيم والتوقير.
والجواب: السديد أن ذلك يكون بطاعته.
1-
والتفاني فيها واتباع ما جاء به بحيث لا يزاحمه في هذه الطاعة وهذا الاتباع الصادق أحد كائنا من كان جاعلا المؤمن نصب عينيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .
2-
ويكون ذلك بحبه الصحيح الذي يفوق حب النفس والوالد والولد والمال والناس أجمعين "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
3-
ويكون ذلك بموافقته في كل أمره فما أحبه رسول الله يحبه وما أبغضه يبغضه.
4-
ويكون ذلك أيضا بتصديقه في كل ما أخبر به تصديقا وإيمانا لا يرقى إليه أدنى شك ولا ريب واتخاذ أخباره قضيا مسلمة لا تقاس ولا توزن بكلام أحد بل أقواله وأفعاله وأخباره وتشريعاته في الميزان الصحيح الحق لأقوال الناس وأعمالهم فما وافقه فهو الحق وما خالفه فهو الباطل سواء كان في مجال الاعتقاد أو التشريع أو الأخلاق أو السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو غيرها من شئون الحياة الدنيا أو الدين.
أما الغلو فيه وإطراؤه مع الاستخفاف بأوامره ونواهيه وتشريعاته وتعاليمه وبغض ما يحبه وحب ما يبغضه وتقديم طاعة الناس والأهواء على طاعته والحيدة والروغان عند أخباره فهذا في الواقع هو العداء السافر أو المقنع فما قيمة تعظيم مزعوم لا ينقاد صاحبه ولا يسلس له قياد إلا فيما يوافق هواه وما يتبعه من مذاهب وتقاليد وعادات، ما قيمة تعظيم أشبه بصراع عنيف مع تعاليمه ومصادمة لا تقف عند حد، فإذا قال افعلوا هذا قيل سمعنا وعصينا وإذا قال اتركوا ذلك قيل لا بد من فعله وإذا أخبر عن أمر أنه كذا وكذا قيل لا بد من وزن هذا الكلام وعرضه على آراء الناس، فإذا قال صلى الله عليه وسلم:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله"، قيل ليس لنا بد من إطرائك والغلو فيك وإذا قال الله لرسوله {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} .
لا يرفع أناس الخبر رأسا ولم يقيموا له وزنا ولم يعيروه أي اهتمام بل قالوا:
(فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم) .
ولنضرب مثلا يتضح به الحب الصحيح من الكاذب هناك زعيم مخلص متفان فيما ينفع أتباعه صادق اللهجة لم يجرب عليه كذب له أتباع فريق منهم سهل الانقياد سريع الاستجابة لا يتلكأ ولا يتلعثم عند أمر أو نهي لا يأمره ذلك الزعيم بأمر إلا بادر وسارع إلى تنفيذه ولا ينهاه عن شيء إلا كان أشد الناس ابتعادا عنه ولا يخبره بخبر إلا أصاب موضع اليقين من قلبه ولا يفعل فعلا إلا أتسم به ورأى أنه القدوة الحسنة.
وفريق آخر يمتاز بالمبالغة والتهويل في تمجيد ذلك الرئيس رغم أنه يكره هذه المبالغات وهذا الغلو أشد الكراهية عرف ذلك من أقواله وأفعاله المتواترة وتصريحاته القوية وتعليماته. ومبادؤه قائمة على أساس محاربة هذا اللون من الانحراف والإتيان عليه من القواعد ورغم كل ذلك يصر هذا الفريق على موقفه ويمعن فيه غير أنه بجانب هذا الغلو يمتاز بأسلوب آخر وهو أن أوامر هذا الرئيس وزواجره وتوجيهاته لا يذعن لها هذا الفريق ويروغ عنها روغان الثعلب فإذا قال افعلوا هذا الأمر واتركوا ذاك والأمر الفلاني واقعه كذا قالوا والله يا سيادة الرئيس أمرك هذا لا يوافق مزاجنا وليس عندنا نشاط ولا استعداد لتنفيذه ويمكن إن نفذناه أن نواجه مشاكل لأنه لا يتفق مع رأي فلان ولا يناسب مزاج علان ونهيك ندخله في خبر كان وخبرك فيه سطحية وسذاجة لا بد له من ميزان، وعلى كل حال أحسن رأي عندنا أننا نمدحك ونطريك ولو كان الغلو والإطراء أبغض شيء إليك، ثم ضربوا بتعليماته السديدة وتوجيهاته الرشيدة عرض الحائط فخالفوا أوامره ونواهيه، وحرفوا أخباره وتأولوها كما أملت عليهم أهواؤهم ولم يقفوا عند هذا الحد بل صبوا جام غضبهم على الفريق الطائع المنقاد وأوسعوهم لوما وتجريحا واحتقارا وسخرية ووجهوا إليهم الشتائم والمطاعن ورموهم بالدواهي من المفتريات فأي الفريقين أحق بذلك الزعيم وأقربهم إليه وأحبهم لديه لا يخفى ذلك على المنصف العاقل.
ولنشرع الآن في بيان هذا الموضوع على ضوء الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وواقعهم، قال تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
ومعنى الآية واضح كل الوضوح أن علم الغيب أمر مختص بالله جملة وتفصيلا وأن هذا أمر استأثر به لا يشركه فيه غيره كاختصاصه واستئثاره بالربوبية والألوهية وغيرها من صفاته العليا التي انفرد بها واستأثر بها وحده.
2-
وهذا أمر امتاز به وحده كما امتاز بتصويرنا في الأرحام كما يشاء.
3-
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} إلى قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ} .
وهذا تصريح واضح من نبي كريم من أولي العزم بحقيقة ناصعة يوافقه عليها كل نبي ورسول اختاره الله وكل مؤمن هداه الله.
4-
أمر الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعلن هذه الحقائق الساطعة فليس عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يقول إنه ملك ولا يخرج عن الطريق الواضح الذي رسمه الله له وهو اتباع الوحي فلا تخفى هذه الأمور الواضحة إلا على من أعمى الله قلبه وطمس بصيرته من المكذبين المعارضين أو من الغلاة المبالغين.
5-
وهذا أمر من الله لنبيه أن يعلن هذه الحقيقة أنه لا يعلم الغيب إنما الغيب لله وحده وقد بلغ رسول الله كما أمره الله ونحن على ذلك من الشاهدين ومن المؤمنين المصدقين لا نمتري في هذه الأخبار الصادقة ولا نشك فيها ولا نحرفها ولا نؤولها.
6-
وهذه الإحاطة والشمول لا تنبغي إلا لجلاله الكبير المتعال.
هذه الآيات التي تلوناها وأضعافها في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تدور على حقيقة واحدة بشتى الأساليب من عموم وشمول وإحاطة وإجمال وتفصيل واستقصاء واستيعاب وقصر وتأكيد مما لا يدع بعض هذه النصوص فضلا عن جميعها أدنى شك في أن الله وحده هو المنفرد بهذا الكمال وأن ادعاء علم الغيب لأحد غير الله سواء رسول الله أو غيره تكذيب وقح لله ولرسوله ولكتابه شاء ذلك أو أباه.
ولنضف إلى ما سبق نصوصا أخرى تخص رسول الله بالذات بنفي علم الغيب عنه زيادة في إقامة الحجة.
1-
2-
وقد سبقت الإشارة إلى معاني هاتين الآيتين، إلا أننا نلفت النظر هنا إلى أنه يجب أن نفهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أنه يوحى إليهم لا يجوز أن يعتقد فيهم أنهم يعلمون الغيب بدليل أنه جمع في آية واحدة بين نفي علم الغيب عنه وإثبات الوحي له إذا فعلم الغيب شيء وكونهم يوحى إليهم شيء آخر ولو جاز أن يعتقد فيهم ذلك لجاز الاعتقاد ونفسه في كل من بلغوه ذلك الوحي وهو في غاية البطلان والضلال.
3-
وقال تعالى معاتبا نبيه صلى الله عليه وسلم: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} .
فسبب هذا العتاب أن بعض الأشخاص استأذنوه صلى الله عليه وسلم في القعود عن الجهاد وقدموا إليه معاذير غير صحيحة ولا واقعة فأذن لهم بناء على تلك الأعذار التي قدموها ظانا صحتها وواقعيتها غير عالم أن الله سيعاتبه في هذا الأمر وإلا لما أقدم عليه وهو أحرص الناس على مرضاة ربه وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} فهؤلاء المنافقون من سكان المدينة ومن حولها والمنافقون من أهل المدينة بالذات قد مهروا في النفاق لكثرة ممارستهم له حتى أتقنوه وهم ولا شك يشكلون خطرا على رسالته وأصحابه ومع ممارستهم إياه مدة طويلة وفي قلب المدينة إلى تسع سنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمهم كما قال تعالى:
{لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُم} وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} .
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} .
ففي هذه النصوص ما يشفي المؤمن ويقنعه أن علم الغيب مختص بالله وحده وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدعي ذلك وإذا كان كذلك فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأولى.
ولننتقل إلى رحاب السنة المطهرة.
1-
عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار".
فالحديث صريح أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر والبشر وغريرهم من المخلوقات لا يعلمون الغيب وإنما ذلك لله وحده ولرسول الله يخشى أن يقلب بعض الناس للسنهم وفصاحتهم الحق باطلا والباطل حقا فيقضي رسول الله بنحو ما يسمع لأن بواطن الأمور وسرائر النفوس وخفاياها لا يعلمها إلا الله.
2-
وروى الإمام مسلم عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة رضي الله عنها قالت: يا أبا عائشة ثلاث من تحدث بواحدة منهم فقد أعظم على الله الفرية.
قلت ما هن، قالت من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله ولقد رآه بالأفق المبين ولقد رآه نزلة أخرى.
فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى عليه وسلم فقال: "إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض" فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
أو لم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} .
قالت: ومن زعم أن محمدا كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
ومن زعم أنه يخير بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، فعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهي أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ترى أن نسبة واحدة من هذه الثلاث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أظم الافتراءات على الله ولنلاحظ كيف استدلت على عدم إمكان رؤيته لربه بقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الآية، لأنها ترى وتعالم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر تنطبق عليه الآية كما تنطبق على غيره من الرسل الكرام لأن الجميع مشتركون في هذا الوصف وهو البشرية وهذا الذي أنكرته عائشة إنما هو الرؤية في الدنيا وأما رؤية الله في الآخرة فهي ثابتة للمؤمنين بالكتاب والسنة فلا تنكرها عائشة رضي الله عنها.
واستدلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب بقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ} وهو استدلال في موضعه وهو عين الحق والصواب الذي لا تشك فيه عائشة ولا غيرها من الصحابة الكرام وجميع المؤمنين ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد أعظم على الله الفرية كما قالت رضي الله عنها.
3-
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال أخبرتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أصبح يوما واجما"-أي حزينا كئيبا- فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني أما والله ما أخلفني" قال فظل رسول الله يومه ذلك على ذلك ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء مكانه فلما أمسى لقيه جبريل فقال: "لقد كنت وعدتني أن تلقاني" قال: "أجل ولكننا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة"رواه مسلم.
فجبريل وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه في الليل وطبعا يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره فلم يأته لذا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم واجما ولا يعلم لذلك سببا ولو أن السبب هو الجرو لبادر إلى إخراجه فورا ثم استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الحل من الكآبة والحزن. يفكر في الأمور التي قد تكون سببا في تأخر جبريل فوقع في نفسه جرو كلب فأمر به فأخرج كما قالت ميمونة.
ثم سأل جبريل عن سبب تأخره لأنه لم يستيقن إلى وقت سؤاله السبب الحقيقي وفي رواية لمسلم عن عائشة يحتمل أن تكون هي هذه الحادثة ويحتمل أن تكون حادثة أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة متى دخل هذا الكلب ههنا؟ "
فقالت: "والله ما دريت"، فهذه الحادثة وأمثالها كثير مما يدور في بيته وهو لا يعلمه فيسأله عنه أهله.
فقد تنفد نفقة أهله فلا يعلم بها فيأتيه الضيف فيرسل إلى أهله واحدة واحدة فيقلن والله ما عندنا غير الماء كما روى مسلم فلماذا يحرج أهله بالسؤال وهو خير الناس لأهله وأفضلهم معاشرة ما ذلك؟ إلا أنه لا يعلم الغيب.
4-
ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق استأجر أجيرا يدلهما على الطريق ومن يعلم الغيب لا يلجأ إلى ذلك.
5-
وعن أنس رضي الله عنه: "أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك" فإذا خفي عليه شيء كهذا وأمثاله وإذا مسه مرض أو أذى لا نقول لماذا؟ لأنا نعلم أنه بشر رسول وسنة الله في البشر أنهم مبتلون وأشدهم بلاء الرسل ثم الأمثل فالأمثل كما قال هو صلى الله عليه وسلم.
6-
وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتى بضب محنوذ فأهوى إليه صلى الله عليه وسلم بيده فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده" وفي رواية أخرى في مسلم "وكان قلما يقدم إليه طعام حتى يحدث به ويسمى له فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الضب فقالت امرأة من النسوة الحضور أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له قلن هو الضب فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده". والعبرة من الحديث.
1-
أن رسول الله كان يكره الضب ما صرح بذلك غير مرة وفي هذه المناسبة أهوى بيده ليأكل منه لأنه لا يعلم أنه الضب ولما أخبر رفع يده.
2-
اعتقاد أصحابه وأهل بيته أنه لا يعلم الغيب ولهذا كان قلما يقدم إليه طعام حتى يحدث به ويخبر ويسمي له.
3-
قول المرأة أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له والمخاطب بهذا أهل بيت النبي صلى عليه وسلم ويمكن أن يكون عندهن غيرهن نساء أخر، وفي القوم خالد بن الوليد وابن عباس ولم ينكر هذا أحد منهم لأنه مستقر عندهم أنه لا يعلم الغيب وحاشاهم أن يكونوا غلاة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يقر على باطل يسمع هذا كل يوم ولم يقل لهم لا حاجة بي إلى أن تخبروني لأني أعلم الغيب والله تبارك وتعالى قد أمر رسوله بأن يستشير أصحابه فقال وشاورهم في الأمر فكان يستشيرهم وأحيانا يميل إلى رأي يكون الصواب في غيره كما في قصة أسرى بدر حيث هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي أبي بكر ولم يأخذ برأي عمر فأنزل عليه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} .
فجاء عمر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان فقال يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد عرض علي العذاب دون هذه الشجرة للذي عرض على أصحابك".
والشاهد منه أن الصحابة كانوا يدلون بآرائهم إذا استشارهم ولا يقولون لا حاجة إلى رأينا لأنك تعلم الغيب ولننقل كلاما يتمشى مع ما اقتضاه الكتاب والسنة.
وما كان عليه السلف الصالح: قال ابن الهمام في المسايرة في العقائد (ص202) وذكر الحنفية تصريحا بالتفكير باعتقاد أن النبي صلى عليه وسلم يعلم الغيب لمعارضته قوله تعالى {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ} هذا الكلام في الكتاب المذكور في خاتمة الفصل التاسع.
المسألة الثالثة وهي: هل الرسول ليس من البشر ?
وبقيت ثالثة الأثافي وهي من أغرب الغرائب وأعجبها قولهم: إن رسول الله ليس بشرا وتضليل من يقول إنه بشر وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل فنحن إذا مضطرون إلى أن نسوق الأدلة على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم.
آسفين أشد الأسف على من ينتسب إلى الإسلام ويؤمن بالقرآن والسنة ويصل في الانحطاط الفكري والضلال العقائدي إلى هذا المستوى.
1-
فالآية تنص على أن رسول الله من أنفس المؤمنين قال المفسرون: "إن المراد بقوله من أنفسهم أنه من العرب"وقال آخرون: "إن المراد أنه من البشر"ووجه المنة على التفسير الأول يفقهون عنه ويفهمون ولا يحتاجون إلى ترجمان.
وعلى التفسير الثاني أنهم يأنسون به بجامع البشرية.
2-
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} والشاهد من الآية قوله: {ٌمِنْ أَنْفُسِكُمْ} وتفسيره كالأول و {مِنْ} في الموضعين للتبعيض فهو بعض من البشر.
3-
والأميون هم العرب وقوله منهم أي من الأميين العرب ومن تبعيضية فهو من بعض العرب وواحد منهم فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم النبي العربي الأمي الهاشمي من أشرف العرب وأكرمهم محتدا. ولو كان من عنصر آخر لذكره الله في هذه المقامات.
4-
وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وعشيرة الرجل قبيلته وبنو أبيه الأدنون ولما نزلت عليه هذه الآية صعد على الصفا ونادى يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب اشترِ نفسك من الله لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا وهكذا فهم رسول الله أن عشيرته الأقربين وبني أبيه هم هؤلاء الذين صدع فيهم بهذا الأمر.
5-
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} وقومه هم العرب الأميون بالكتاب والسنة وإجماع كل الأمم العرب والعجم.
(إثبات بشرية الرسول من السنة)
وقبل أن نسوق الأدلة من السنة نذكر نسبه صلى الله عليه وسلم فهو محمد بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
فمن يزعم أنه صلى الله عليه وسلم ليس بشرا فماذا يقول في هذا النسب ولماذا جاء عن طريق هؤلاء فهل هؤلاء أيضا غير بشر.
1-
روى مسلم رحمه الله عن واثلة بن الأسقع يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم".
2-
وروى الترمذي عن واثلة بن الأسقع أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واسطفاني من بني هاشم".
3-
وروى الترمذي أيضا عن المطلب بن وداعة قال: جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه سمع شيئا. (أي من الطعن في بني هاشم) فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "من أنا" فقالوا"أنتَ رسول الله عليك السلام"فقال: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيتا وخيرهم نفسا"، فهذه الفرق والقبائل والبيوت كلها من البشر ولو كان رسول الله من عنصر آخر لذكره في هذه المناسبات وإنا لنأسف إذ نستنبط أمورا بديهية هي من باب تحصيل الحاصل ولكن ماذا نصنع وقد وجد في الناس من يتلقف أفكارا مسمومة هدامة تدس على المسلمين الهدف منها هدم الإسلام واقتلاع قواعد التوحيد من الأساس يتلقفونها ثم لا تلبث أن تتحول عندهم إلى عقائد راسخة من أعظم أركان الدين فيوالون يعادون من أجلها ويحرفون نصوص القرآن والسنة من أجلها مهما بلغت من الكثرة والوضوح.
وعندما رسخت في نفوسهم هذه الأفكار المدسوسة شوهت نظرهم الصحيح فأصبحوا ينظرون إلى البشرية من الزاوية التي نظر منها المشركون فكان المشركون يتحقرون البشرية ويرون استحالة اجتماع البشرية والرسالة وأن الإنسان لا يمكن أن يرتفع إلى مستوى يؤهله لتلقي الوحي من الله.
قال تعالى حكاية لموقفهم: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَاّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} .
وهؤلاء نظروا من نفس الزاوية إلى البشرية واحتقروها فعز عليهم يكون رسول الله بشرا وتلقفوا أسطورة من نسج خيال أعداء الإسلام أن رسول الله خلق من نور، وهذه الدسيسة تشبه إلى مدى بعيد دسيسة اليهود على النصارى، واليهود أعدى أعداء عيسى عليه السلام فدسوا على أتباعه أنه ابن الله وأنه هو الله لقصد إضلالهم ولا يبعد أن تكون فكرة أن رسول الله ليس بشرا وإنما هو من نور دسيسة من دسائس اليهود والقصد إضلال المسلمين ونحن بحمد الله معشر المؤمنين نرى الإنسان البشر المؤمن العادي أفضل من جميع الأنوار فكيف برسول الله الذي هو أفضل الخلق أجمعين.
وكل ما في السموات والأرض سخره الله لهذا الإنسان البشر {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
فأنوار الكواكب والشمس والقمر والنار والكهرباء كلها مسخرة لهذا البشر الكريم فالذي يجرد رسول الله من بشريته فقد احتقره من حيث يعزم أنه يكرمه ويجله ثم هذه الأسطورة لا تستطيع أن تثبت أمام نص واحد من القرآن وقد تقدمت لكم النصوص التي تلوناها على مسامعكم، ونضيف إليها الآن ما لا يدع مجالا للشك في الإيمان ببشرية رسول الله المثلى قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} فقد أكد بشريته بأقوى أنواع التأكيد فإن القصر من أسباب التأكيد عند البلاغيين ثم زاد ذلك تأكيدا بقوله: {مِثْلُكُمْ} أي مثلنا في الخلق والتكوين له جسم مكون من لحم وعظام وعصب وله شعر وعينان ويدان يبطش بهما ورجلان يمشي بهما، ويأكل كما نأكل ويشرب كما نشرب ويجوع ويمرض وقد تولد بين أبوين هما عبد الله ابن عبد المطلب وآمنة بنت وهب.
وقد تزوج كثيرا من النساء وأنجب أولادا كما يتزوج البشر وينجبون ثم أشار في الآية إلى الميزة التي امتاز بها صلى الله عليه وسلم وهي الوحي فقال: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وهذا هو المضمار الذي لا يباريه فيه أحد والقمة الشاهقة التي بلغها النبي العربي الكريم، وقال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُوراً وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَاّ بَشَراً رَسُولاً} .
فأنتم ترون أن الكفار قد بلغ بهم التعنت أقصى مدى فطلبوا من رسول الله ما لا يدخل تحت قدرة البشر ولا غيرهم من الخلق ولا يقدر عليه إلا الله فلذا أمر الله نبيه أن ينزهه بالتسبيح فقال: {ُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} ثم بين حقيقة نفسه وواقع أمره بكل صراحة ووضوح فقال: {هَلْ كُنْتُ إِلَاّ بَشَراً رَسُولاً} وصفان ظاهران أولهما (بشر) وثانيهما (رسول) بأقوى طرق القصر والتأكيد لأن هل هنا استفهام بمعنى (ما) النافية والنفي وإلا أقوى طرق القصر والتأكيد والقصر هنا حقيقي بمعنى أنه لا يتجاوز البشرية والرسالة إلى غيرهما فالبشرية تستلزم كل خصائص البشرية والرسالة تستلزم كل مقومات الرسالة وخصائصها، وقال تعالى:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية وقال تعالى في سورة (ص) .
{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فقال رجل منهم وقال منذر منهم فبأي حديث بعد الله وآياته نؤمن.
وإليكم الآن أقواله الصادقة الواضحة الصريحة الصحيحة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"صلى رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ الظهر خمسا فلما سلم قيل له: "يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء"قال: "وما ذاك"قالوا: "صليت كذا وكذا"فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم فلما أقبل علينا بوجهه قال: "إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتك به ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني"رواه البخاري.
وانظر فتح الباري ج1 ص503.
وهذا موافق للآيات الكريمة من ناحية القصر والتأكيد وذكر المماثلة في البشرية وزاد أمرا آخر من لوازم الطبيعة البشرية فقال: "أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني".
وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر مثلكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار". رواه الجماعة.
وهذا الحديث يوافق الآيات والحديث السابق في استخدام الطريق نفسه والأسلوب عينه وفيه بالإضافة إلى إثبات بشريته نفي علم الغيب عنه وقد تقدم لنا في بحث المسألة الثانية أن عائشة رضي الله عنها استدلت على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} رواه مسلم
وعائشة رضي الله عنها أعلم الناس به فلو كان رسول الله غير بشر لقال لها أنا لست بشرا ولأخبرتنا بذلك ولكنا نراها تحتج على عدم رؤيته لربه ببشريته وأن الآية تنطبق عليه والصحابة الكرام كانوا يعلمون أنه بشر وهو يؤكد لهم هذه الحقيقة وهم قد بلغوها إلى التابعين ومن بعدهم يتداولون هذه الحقيقة مؤمنين بها من أعماق القلوب كإيمانهم برسالته وهكذا نقف على هذه الحقائق الثلاث واضحة جليه على ضوء الكتاب والسنة تولى الله بيانها على أبلغ وجوه البيان بشتى الطرق كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك وليس بعد الحق إلا الضلال وما بعد بيان الله ورسول الله بيان فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر والمرجع إلى الله وحده.
وهو سبحانه سيكافئ ويجازي كل امرئ بما يعتقد وبما يعمل والله نسأل أن يثبتنا على الحق والتمسك بالكتاب والسنة ويتوفانا على ذلك إنه سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم.
إفك مفترى حول عيسى عليه السلام
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
نشرت صحيفة الميثاق الأسبوعية التي تصدر في طنجة بالمغرب في عددها رقم 145 من السنة التاسعة كلمة لفضيلة العلامة الشيخ محمد بن عبد السلام كنون رئيس محكمة الاستئناف الشرعي بفاس ذكر فيها أنه وجد في ص 212 من كتاب (التاريخ القديم من عصور ما قبل التاريخ إلى الفتح العربي (للسنة الأولى من القسم الثانوي بالمدارس الإسلامية بالمغرب الذي ألفه الأستاذ إبراهيم بو طالب ومحمد زيبر وعبد العزيز أمين وآخرون والذين نشرته ووزعته دار الثقافة ودار الكتاب بالدار البيضاء، النص التالي (ولد عيسىمن مريم ببيت لحم في أسرة متواضعة حيث كان أبوه نجارا فاشتغل معه صبيا ثم شابا حتى أنزل عليه الوحي الإلهي وسنه سبع وعشرون سنة الخ.
ثم ذكر فضيلة الشيخ محمد بن عبد السلام كنون، أن هذا ولا شك يصادم الكتاب والسنة وما علم مجيئه من الدين بالضرورة أن المعتقد الإسلامي كما هو معلوم أن عيسى وُلِدَ بدون أب ثم قال: ولعل الذين يقولون أن له والدا كان نجارا هم اليهود.
وإني لأشكر فضيلة الشيخ محمد ابن عبد السلام كنون على كلمته القيمة، وغيرته على دين الله جزاه الله خيرا، ونأمل من جميع علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يكثروا من تفحص ما ينشر أو يقرر من كتب في البلاد الإسلامي، وأن يعلموا على القاء الأضواء على ما قد يدس فيها من إفساد لعقائد أبناء المسلمين.
والواقع أن الناس قد اختلفوا في عيسى بن مريم عليه السلام بعد إطباقهم على أن أمه عندما حبلت به لم تكن متزوجة. فزعم اليهود لعنهم الله أنه ولد زنا وقالوا على مريم بهتانا عظيما، وإلى ذلك يشير الله عز وجل حيث يقول، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما.
وأما النصارى فلم يقل واحد منهم، إنه ابن يوسف النجار، فنص الفقرة (18) من الإصحاح الأول من إنجيل متى يقول ((أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا، لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس)) وتقول الفقرة (27) من الإصحاح الأول من إنجيل لوقا، واسم العذراء مريم، 28 _ فدخل إليها الملاك وقال، سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء 29 _ فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية، 30 _ فقال لها الملاك، لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة الله، 31 _ وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع، ثم يقول في الفقرة 34 _ من نفس الإصحاح، فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجا، الخ.
غير أن النصارى قد اخترع لهم شاول اليهودي (بولس) الزعم بأن المسيح ابن الله ولم يكن أحد من الحواريين قد سمع من عيسى عليه السلام تقرير هذه البنوة المفتراة.
وقد أشار برنابا في الإصحاح الأول من إنجيله إلى سبب تأليفه وأنه ألفه للرد على شاول الذي ادعى أن المسيح ابن الله فقد جاء في مقدمة برنابا ما يلي: _
أيها الأعزاء إن الله العظيم العجيب قد افتقدنا في هذه الأيام بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم، والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة للتضليل كثيرين ما سوى التقوى مبشرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان الذي أمر به الله دائما مجوزين كل لحم نجس الذي ضل في عدادهم أيضا بولس (شاول) اليهودي الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق الذي رأيته.
وفي الإصحاح السبعين منه يقول، أجاب يسوع، وما قولكم أنتم فيّ؟ أجاب بطرس: إنك المسيح ابن الله، فغضب حينئذ يسوع وانتهره بغضب قائلا اذهب وانصرف عني لأنك أنت الشيطان، وتريد أن تسيء إليّ.
وفي الإصحاح الثالث والتسعين منه يقول:
أجاب الكاهن أن اليهودية قد اضطربت لآياتك وتعليمك حتى أنهم يجاهرون بأنك أنت الله، فاضطررت بسبب الشعب إلى أن آتي إلى هنا مع الوالي الروماني والملك هيرودوس فنرجو من كل قلبنا أن ترضى بإزالة الفتنة التي ثارت بسببك لأن من يقول أنك الله وآخر يقول أنك ابن الله، ويقول فريق أنك نبي، أجاب يسوع وأنت يا رئيس الكهنة لماذا لم تخمد الفتنة وهل جننت أنت أيضا؟ وهل أمست النبوات وشريعة الله نسيا منسيا، أيتها اليهودية الشقية التي ضللها الشيطان ولما قال يسوع هذا عاد فقال: إني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض أني بريء من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر، لأني بشر مولود من امرأة وعرضة لحكم الله أعيش كسائر البشر.
أما المسلمون فيعتقدون أن المسيح عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الله تبارك وتعالى خلقه من غير أب آية للدلالة على عظيم قدرته، وأنه تعالى لا يعجزه شيء، وكما أوجد آدم من غير أب ولا أم، وكذلك أوجد حواء من غير أم، جعل عيسى آية كذلك كما قال عز وجل، إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وكما قال وإنه لعلم للساعة ويقول إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل.
وقد أوضح الله تبارك وتعالى في محكم كتابه قصة ولادته حيث قال:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
وصلى الله وسلم وبارك على النبي وآله وصحبه وسلم. .
الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم
بقلم الشيخ: محمد المهدي محمود علي
المدرس في دار الحديث بالمدينة التابعة للجامعة
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبي الهدى ورسول الخير والبر، من اصطفاه الله رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد:
فيقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} .
جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى هذا العالم داعيا إلى الله. راسما الطريق إلى رضوان الله ومحبته، رافعا علم التوحيد. موضحا معالم العبودية لذي الجلال والإكرام.
عاش الهادي الأمين صلوات الله وسلامه عليه حياته الطيبة المباركة. مجاهدا. زاهدا. عابدا. مجاهدا أعظم ما يكون الجهاد.
زاهدا أسمى وأصفى ما يكون الزهد.
عابدا أجمل وأحلى ما تكون العبادة والإنابة والخشوع، والخوف من الله ذي الجلال والإكرام. عاش صلوات الله وسلامه عليه. يبلغ في رحمته، ويرسم الطريق إلى الله في رفق وحكمة وتؤدة، داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فكان المثل الأعلى في الأدب والكمال. المثل الأعلى في عظمة الأخلاق في كل ناحية من النواحي وفي كل ميدان من الميادين.
أدبه ربنا تبارك وتعالى فأحسن تأديبه وأثنى عليه سبحانه بقوله:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
ومن أجل هذا الاصطفاء الإلهي، والأدب الرباني.
من أجل هذا السمو وهذه العظمة. عظمة الأخلاق العالية. كان صلوات الله وسلامه عليه. أسوة كريمة وقدوة حسنة، مثلا أعلى للمؤمنين الذين صفت أرواحهم، وزكت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، واطمأنت أفئدتهم، واستنارت ألبابهم، فعاشوا في دنياهم العابرة الفانية. يريدون الله والدار الآخرة، يجمعون الزاد لدار البقاء في جنة الفردوس مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
اتخذوا السبيل إلى الله، وجعلوا الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، والقدوة المباركة، للوصول إلى هذه الغاية المنشودة، والسعادة العظمى. سعادة الفوز برضى الحق جل جلاله. قال تبارك وتعالى:
عاش صلوات الله وسلامه عليه حياته المباركة، فملأ الدنيا نورا وخيرا، ورحمة وعدلا، ثم ودعها راحلا إلى الله، يلقى وجه الله الكريم، وما عند الله خير وأبقى. لقد انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة. ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد. بلغ الرسالة أعظم ما يكون التبليغ.
وأدى الأمانة أكمل ما يكون الأداء، وترك الدنيا وفيها نور التوحيد الصادق، وعبير الإيمان، وكمال الأخلاق، وعطر المحبة، والأخوة في الله ولله، والرحمة الشاملة المباركة في كل ناحية من نواحي الحياة، والعدالة في أسمى صورها ومحاسنها، وأكمل معانيها، وأجمل ثمارها وفوائدها، وبذلك تمت نعمة الله تبارك وتعالى على العوالم كلها.
فارق الرسول صلوات الله وسلامه عليه هذه الدنيا. بعد أن بيّن للمسلمين طريق العظمة والسيادة، والمجد والعزة. بيّن لهم أن القرآن هو نور الله، هو النور الهادي إلى سعادة البشرية في الدنيا والآخرة. السعادة في أتم معانيها، وأكمل صورها.
إن القرآن هو كتاب الله تبارك وتعالى. هو المصباح السماوي الخالد. هو الكتاب المعجز ببلاغته وتشريعاته، وأخبراه، وما كشف من حقائق كونية. إنه هداية الباري جل وعلا. قال سبحانه وتعالى:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
وكلما تقدم العلم. سجد العلم والكشف والاختراع والابتكار أمام الآيات البينات. أمام آيات الحق جل وعلا.
فما بالنا نرى المسلمين اليوم وقد تخلفوا عن ركب الحضارة. تخلفوا عن قيادة توجيه الإنسانية.
ما بالنا نرى المسلمين وقد تفشت فيهم الأمراض الاجتماعية الفتاكة!!! تركوا الحكم بكتاب الله، فحرموا نعمة الهدوء والعيش الآمن الوارف الظلال الطيب الثمار، واحتكموا لغير ما أنزل، واستبدلوا بتشريع الله القوانين الوضعية. التي هي من صنع البشر، فحرموا نعمة العدل السماوي، وعاشوا في شقاء وفوضى واضطراب!!!
خرجت المرأة عن مبادئ العز والشرف والحياء والفضيلة فاضطربت الحياة المنزلية، واهتزت السعادة الزوجية، وأصيبت حياة الأسرة بالفشل والشقاق والنزاع، وحل الخصام محل الوئام وضاع الأطفال الأبرياء!!!
استباحوا الكثير مما حرّم الله! فتعاملوا بالربا فزاد فقرهم، وكثر شقاؤهم، وانتزعت البركة من أموالهم، وأصبحوا يتسللون عن طريق القروض الأجنبية.. وهيهات أن يكون فيها خير أو أن يكون فيها بركة بعد أن أعلن الله الحرب على المتعاملين بالربا، وبعد أن لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله سبحانه وتعالى:
وقال صلى الله عليه وسلم:
"لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهده".
إن المال الحلال الطيب الطاهر. تستجاب به الدعوات، وتنال بطريقه البركات، والخيرات والحسنات، ويتنزل النصر من السموات.
ما بالنا نرى المسلمين اليوم عميت بصائرهم فضلوا سواء السبيل.
1_
حددوا النسل تارة. 2_ وحددوا الملكية تارة أخرى. وكانت ثالثة الأثافي أن حددوا عدد الحجاج إلى بيت الله الحرام!!!
إن تحديد النسل افتراء على الله، وسوء ظن بالرزاق القادر على كل شيء، وليتهم حافظوا على أموال الدولة ولم يبعثروها على أوجه الفساد، تارة في الاعتمادات الضخمة لإعانة الملاهي، وأخرى في استيراد الدخان والخمور، وثالثة في أوجه الكماليات للنساء، فأخرجوهن عن الفطرة السليمة للمرأة الفاضلة العاقلة!!!
وإن تحديد ملكية الأفراد. أكل لأموال الناس بالباطل، وظلم شنيع للأسر الكريمة الفاضلة، واعتداء شنيع على الحرمات!! لقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم تحريم ذلك وأكده في خطبته المبراكة في حجة الوداع، تلك الخطبة العظيمة التي هي دستور السعادة الحقة، فقال صلوات الله وسلامه عليه:"إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. . ." أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.
إن أكل أموال الناس بالباطل ظلما وعدوانا جزاؤه نار جهنم وبئس المصير!
وأما تحديد عدد الحجاج فهو صد عن سبيل الله. . إنه عمل الكفار. قال الله تبارك وتعالى:
إن الحج مصدر الخير والبركة ومغفرة الذنوب وزيادة الرزق، يلجأ فيه الإنسان إلى مولاه ويتعرض لنفحات ربه سبحانه. قال تبارك وتعالى:
سبحانه هو الغني ونحن الفقراء إلى الله جل شأنه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" وقال صلوات الله وسلامه عليه: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب".
وكان مما عظمت مصيبته أن خدع بعض المسلمين بالمذاهب الضالة، خدعوا بالشيوعية، وبالاشتراكية وبالوجودية والماسونية الخ. . .
إن الاشتراكية ضلال وإلحاد وكفر وزندقة ومروق إن أصولها خبيثة. إن نباتها سام. إنها شجرة الزقوم. إنها لا تعترف بدين ولا بخلق، ولا بحساب وبعث. إن الاشتراكية سراب خادع. يحسبه الظمآن ماء. إنها بيت العنكبوت. إنها ظلمات بعضها فوق بعض هكذا أثبتت التجارب، وهكذا أثبت الواقع الواضح، وإن الإسلام دين الرحمة والأخوة، والسماحة والوفاء. إن الإسلام دين الإيثار، والمحبة لله ومن أجل الله رجاء رضوان الحق تبارك وتعالى. والمسلم الحق يتحلى بالأخلاق الكريمة، ينفق في سخاء، ويتصدق عن رضاء ومحبة يعمل ويكدح. يبتغي من رزق الله ولا يرضى لنفسه الخسة والدناءة. همته عالية، وإيمانه قوي، فهو رجل الحياة بحق _ أما الشيوعيون وأذنابهم الاشتراكيون فهم حيوانات سائمة فقدوا إنسانيتهم وفقدوا كرامتهم. فهم عبيد مسخرون لعبادة أشخاص أصحاب مبادئ ضالة أردتهم في أسوأ نهاية ثم لهم جهنم وبئس المصير!!!
ثم ما كان من أمر أجهزة الإعلام، لقد انحرفت عن رسالتها وأصبحت أداء لنشر الأغاني الخليعة. الفاجرة الماجنة. التي تحطم أقدس معاني الشرف والحياء والفضيلة ومكارم الأخلاق. إن أذناب المدرسة الاستعمارية الإلحادية لا زالت لهم بقايا تشرف على توجيه الإذاعة و ((التلفزيون)) والصحافة. توجهها نحو مظاهر الانحلال الخلقي الجامح العنيف. لا زالت جادة في المسير نحو التغني بالمرأة ومحاسنها ومفاتنها وإشاعة الفساد الخلقي، فانحرف الشباب وضلت المرأة وانحط المستوى الخلقي للشعوب والجماعات!!!
كل هذه مظاهر واضحة لترك المسلمين مصادر النور والخير، والسعادة والهداية والفضيلة والشرف، مصادر النور التي تتمثل في كتاب الله، وكتاب الله نور من الله {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} تتمثل في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والمصطفى هو السراج المنير.
تتمثل فيما كان عليه صحابة المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم، وهم الغر الميامين، النجوم الزاهرة. المثل العليا، والنماذج الصادقة للعمل بنور الله تبارك وتعالى، وهدي السراج المنير صلى الله عليه وسلم.
إن العلاج لتخلف المسلمين وضعفهم وتشتتهم وتفرق كلمتهم وهزائمهم الفادحة وتهافتهم على تقليد الأجانب في الجانب الخلقي الهدام.
إن العلاج واضح إنه يتمثل في العودة الكريمة لمصادر النور والخير والنصر والهداية.
وفي هذه الأيام بزغ نجم جديد في سماء المعرفة الإسلامية. نجم قوي لامع. نجم الجامعة الإسلامية فقد قامت الجامعة الإسلامية تؤدي دورها العلمي في أمانة وقوة.
تؤدي دورها الإيجابي البنّاء. في إعادة مجد الإسلام، وعزة المسلمين.
تؤدي الجامعة رسالتها. بتوجيه شيخ مبارك، وعالم جليل ورع زاهد، وهب حياته للعلم، ونصح المسلمين. لا يخشى في الله لومة لائم. ضرب مُثُلا عالية في الكرم، والسماحة، والنبل، وعلو الهمة. هدفه في الحياة. عودة المسلمين إلى كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة المصطفى الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم. وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم. . .
تؤدي الجامعة الإسلامية رسالتها. بمساعدة الملك المحبوب فيصل بن عبد العزيز حفظه الله ورعاه وكتب على يديه إعادة مجد الإسلام والعروبة تنبعث هاتك الرسالة. رسالة الجامعة الإسلامية. رسالة العلم والنور والهداية، وتسير شرقا وغربا. على يد طلاب علم بررة صلحاء، جاءوا ينهلون العلم من مشارق الأرض ومغاربها، وبذلك أصبحت الجامعة الإسلامية. مركز إشعاع لنور الإسلام، وتعاليم القرآن، وهدى الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
فيا أبناء الجامعة الإسلامية هذا قبس من نور رسالة الجامعة فتقدموا في إيمان وقوة وعزم وكفاح. لحمل راية الجهاد المبارك في نشر رسالة الإسلام. بلغوا أمانة العلم التي تحملتموها، وكان لكم شرف الانتساب إليها.
تزودوا من العلم إلى أبعد الحدود، وجدوا ليلا ونهارا في الارتشاف من رحيق العلم، واحرصوا على إجادة كتاب الله. إجادة تامة، واستذكروا كلام الله سبحانه، فهو الخير والهدى والفلاح، واقرءوا دائما في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحاديثه المباركة. تنالوا شرف الأسوة الطيبة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، وإن تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم، واضح مشرق. عظيم السنا والسناء. ينزل على القلوب، فيهديها إلى شرف القدوة بالرسول صلى الله عليه وسلم.
يا أبناء الجامعة _ إنكم ستجدون في كثير من البلاد تركة مثقلة خلفها الاستعمار، والكفار، وأعداء الله. في عصور ضعف المسلمين.
لقد عمل المستعمرون على الحيلولة بين المسلمين وبين التفقه في دينهم، فحاربوا كتاب الله، وحاربوا اللغة العربية. لغة القرآن والإسلام، واضطهدوا العلماء الأجلاء، ونشروا الفسق والفجور والخمور، وجردوا المرأة من ثياب الحياء والشرف، وفتحوا مدراس التبشير والكنائس، وجعلوا المستشفيات أوكارا خبيثة للتبشير والصليبية، ونشروا الإلحاد والكفر والزندقة!!! ودنسوا المعاملات المالية بالربا وحكموا بالقوانين الوضعية ومولوا أجهزة الإعلام لنشر الفساد الخلقي!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فيا أبناء الجامعة. . أنتم حملة المشاعل المقدسة فتقدموا لشرف الجهاد، واعتصموا بحبل الله المتين وجاهدوا كما جاهد العلماء الأبرار، واسلكوا طريق الهداة المرشدين. في العناية بكتاب الله، والدعوة إلى هداية السماء، والتهجد بالقرآن، ونشر العلم في المساجد ولا سيما في شهر رمضان المبارك.
لقد كان العلماء في عصورهم الزاهية _ ولا زالوا _ ينتشرون في أنحاء البلاد ينيرون للناس السبيل إلى الله، ويبصرونهم بكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتاريخ السلف الصالح. في أخلاقهم وخوفهم من الله. في بطولتهم، وشجاعتهم. في حبهم لما عند الله، وإنابتهم إلى الله، ومجافاتهم لدار الغرور. كان العلماء يبلغون الرسالة في أمانة وخوف وخشية من الله.
تراهم. فترى فيهم نور القرآن، وجمال العلم، وأدب الإسلام، وشعار الفضيلة. ترى حسن الصلة بالله وبالناس، فسعد بهم العالم، وعرف عن طريقهم هداية القرآن، وما جاء به المبعوث رحمة للعالمين.
عرفت المجتمعات الإسلامية. المبادئ الإنسانية السامية، وَوَضَح لها الحلال الطيب من الحرام الخبيث، فكان هناك الأمن الشامل، والسعادة الوارفة الظلال، فساد الهدوء والإخاء، والمحبة والتعاون، والورع والعفة، والفضيلة والحياء، وحب الخير والإيثار، والتعاون على البر والتقوى. تنبعث كل هاتيك الصفات من صدور مشرقة بنور الإيمان وصفاء اليقين. الله أكبر لقد عرفت الأمة عن طريق ورثة الأنبياء. السبيل إلى الله والدار الآخرة والصراط المستقيم. الموصل إلى الفوز بجنة الفردوس في دار الخلود.
إعلان
أنا طه محمد الزيني محقق كتاب الإمامة والسياسة الذي نشرته مؤسسة الحلبي بالقاهرة. أعلن للناس جميعا أنني غير راضٍ عما في هذا الكتاب من كل رأي يخالف رأي أهل السنة والجماعة وعن كل ما ورد فيه ماسا ببعض الصحابة والتابعين أو ما يفهم منه نصرة طائفة على طائفة بغية التفريق بين المسلمين.
كما أعلن أن هذا الكتاب ليس من تأليف ابن قتيبة وقد شرحت ذلك وبينته في المقدمة التي قدمت بها لهذا التحقيق ولكن الطابع أضاعه ولم يظهر في الكتاب ولم أستطع مقاضاته لعدم وجود مستند تحت يدي على تسليمه هذه العبارات فأرجو من كل من اطلع أو يطلع عليه أن يعتقد براءتي من كل ما فيه من سوء والله أسأل أن يديم تثبيتي على العقيدة الصحيحة ويوفقني والمسلمين إلى ما يحبه ويرضاه.
طه الزيني
المركز الثقافي الإسلامي باسكندنافية
النظام الأساسي
1-
الأهداف
المركز الثقافي الإسلامي باسكندنافية مؤسسة مستقلة مهمتها تنمية الروابط الروحية للمسلمين المقيمين هنا وفي نفس الوقت إبراز التفاهم المتبادل والصداقة بين الاسكندنافيين والعالم الإسلامي.
كما أن من أهدافه أن يكون مكانا للالتقاء الثقافي والاجتماعي للمسلمين ولغيرهم من المهتمين.
2-
المقر
المقر الرئيسي للمركز مدينة كوبنهاجن، وتنشأ فروع له في أماكن أخرى حسب الحاجة داخل اسكندنافيا وأيسلندا.
3-
النشاطات
يقوم المركز بالواجبات الآتية طبقا لروح الإسلام العامة:
1-
نشر الثقافة الإسلامية وإبراز فلسفة الإسلام وحضارة.
2-
إنشاء مسجد أو أكثر والقيام بصيانتها حسب الحاجة والإمكانيات وإنشاء مكتبة بكل منها تحتوي مؤلفات عن الثقافة الإسلامية وفلسفتها وعن الدول والشعوب الإسلامية.
3-
تنظيم دروس لتعليم اللغة العربية وأصول الدين لأبناء المسلمين.
4-
تنظيم المؤتمرات والندوات ودوائر الأبحاث والمحاضرات والمعارض وتعليم اللغات.
5-
فتح فروع للمركز في أماكن أخرى داخل اسكندنافيا وأيسلندا حسب الحاجة والإمكانيات.
6-
إصدار نشرة دورية،
7-
التعاون مع كل من يرغب في التعاون مع المركز في روح من الأخوة الإنسانية والصداقة.
4-
الإدارة
أولا - اللجنة الشرفية: تتكون من رؤساء البعثات الدبلوماسية للدول الإسلامية المعتمدين في كوبنهاجن، وللجنة الشرفية الصلاحيات الآتية:
1-
تعيين رئيس اللجنة العاملة.
2-
البت في اقتراح رئيس اللجنة العاملة حول اختيار أعضائها وتعيين أعضاء آخرين فيها حسب الحاجة.
3-
اعتماد ميزانية المركز ومراقبة حساباته.
4-
إسداء النصح والتوجيه للجنة العاملة مع مراعاة تحقيق أهداف المركز.
5-
دراسة المشروعات الهامة وتقدير قيمتها وأتعابها وطريقة صرف أموالها.
وتجتمع اللجنة الشرفية مرتين في السنة على الأقل، وخلاف ذلك بناء على طلب اثنين على الأقل من أعضائها أو بناء على طلب رئيس اللجنة العاملة.
ويجب الدعوة كتابيا إلى الاجتماعات الدورية والهامة قبل الموعد بأسبوعين على الأقل، ويمكن الاستثناء من هذه القاعدة في حالة اتفاق جميع أعضاء اللجنة الشرفية المقيمين في كوبنهاجن على ذلك.
وتتم الموافقة على القرارات الهامة بأغلبية ثلثي الحاضرين على الأقل، أما القرارات الأخرى فيتم الموفقة عليها بالأغلبية العادية.
ثانيا- رئيس اللجنة العاملة: يعين رئيس اللجنة العاملة بواسطة اللجنة الشرفية، ويجب أن يكون من الشخصيات الإسلامية ذات السيرة الحسنة، ويفضل أن يكون اسكندنافي الأصل. ويقوم بالواجبات الآتية:
1-
هو المتحدث الرسمي باسم المركز ويمثله أمام الجهات الرسمية والرأي العام وأمام المنظمات والمؤسسات بتفويض من اللجنة الشرفية.
2-
يقوم بتوقيع جميع المستندات والمراسلات نيابة عن المركز (أنظر فقرة 6) .
3-
يقترح تعيين أعضاء اللجنة العاملة. (أنظر المادة 4أولا فقرة2) .
4-
يرأس اجتماعات اللجنة العاملة.
5-
يقوم بتوزيع العمل بين أعضاء اللجنة العاملة ويعين من بينهم أمين الصندوق والسكرتير ورئيس اللجنة الثقافية بالتشاور مع اللجنة الشرفية.
6-
يمكنه إسناد بعض واجباته عند الضرورة إلى أحد أعضاء اللجنة العاملة.
ثالثا- اللجنة العاملة: يتكون أعضاؤها من أشخاص ذوي سيرة حسنة يؤمنون بأهداف المركز ويسعون بنشاط إلى تحقيقها. ويقترح رئيس المركز تعيين الأعضاء وتعتمدهم اللجنة الشرفية.
ويمكن أن يعين أعضاء جدد مباشرة بواسطة اللجنة الشرفية. (أنظر المادة 4 أولا فقرة 2) .
وتقوم اللجنة بممارسة نشاطات المركز وتسيير أعماله.
5-
المالية
يمول المركز من وسائل دخل على صورة هبات أو ما شابه ذلك، وتوضع الأموال في حساب في المصرف باسم المركز الثقافي الإسلامي ويتم الصرف عن طريق توقيع مشترك من الرئيس وأمين الصندوق في المبالغ التي لا تزيد عن عشرة آلاف كرون دانمركي.
يقوم رئيس اللجنة الشرفية بإبلاغ المصرف في حالة تغيير الرئيس أو أمين الصندوق أو غياب أحدهما.
تُعد اللجنة العاملة الميزانية ويقوم أمين الصندوق بعمل الحسابات ويتم مراجعتها بواسطة محاسب قانوني.
6-
أملاك المركز
بما في ذلك الأموال العقارية تعتبر وقفا إسلاميا، وفي حالة حل المركز تصبح وقفا إسلاميا تؤول إدارته إلى الحرم المكي الشريف.
يجب توقيع الرئيس وأمين الصندوق مجتمعين في حالة شراء أو بيع أو رهن العقارات إن وجدت بموافقة اللجنة الشرفية.
تمت مناقشة هذا النظام وإقراره في الاجتماع الذي عقد بمنزل السفير المغربي بكوبنهاجن مساء يوم 21 رمضان 1391هـ الموافق 9 نوفمبر 1971م.
أولياء الله
للدكتور طه الزيني
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
معنى الولي:
يطلق لفظ الولي في اللغة ويُراد منه القريب والصديق، والحبيب، والنصير، وعلى غير تلك من المعاني التي وردت في القرآن العظيم وفي الحديث النبوي الشريف، ولكن المعاني التي يستعمل فيها لفظ الولي تدور على معنى واحد هو القرب.
وعلى ذلك فمعنى ولي الله، القريب إلى الله، وأولياء الله هو القريبون منه، والقرب من الله لا يتحقق إلا إذا تحلى المؤمن بصفات الكمال الإيماني، بأن يؤمن بالله وبمن أرسله من الرسل وما أنزله من الكتب، وبالملائكة، وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وبأن الله هو الفاعل لكل شيء، وأن يتقي الله، بأن يجعل بينه وبين مخالفة الله وقاية وحاجزا يمنعه من المخالفة فيتبع الأوامر، ويجتنب النواهي، وبذلك يحفظه الله من الخوف ومن الحزن ومن العذاب. وعلى ذلك جاء قوله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وهؤلاء الأولياء يحبهم الله ويدافع عنهم وقد ورد في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه "يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما فرضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش وبي يسعى"-الحديث، وفيه أن الله يجيب هذا الولي إذا دعاه ويعيذه من الشرور إذا استعاذ به، وعلى
العموم يطمئن ويمنع الخوف عنه والحزن والشر.
وأولياء الله قسمان: مقتصدون يتقربون إلى الله بفعل الواجبات، وسابقون يتقربون إلى الله بالنوافل بعد الواجبات، مكثرين من عمل النوافل حتى يحبهم الله.
وهؤلاء الأولياء الذين يحبهم الله ويدافع عنهم قد يظهر على أيديهم أو بسببهم أعمالا خارقة للعادة تدل على رضاه عنهم وإكرامه لهم وقد ثبت لأوليائه كرامات عرفها الناس وورد بها القرآن الكريم.
نماذج من الكرامات
1-
من ذلك ما ورد في قوله تعالى عن مريم عليها السلام: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الآية (37) من سورة آل عمران.
2-
ومن ذلك ما حدث لأهل الكهف الذين كانوا يعبدون الله، اضطهدهم ملكهم هم وغيرهم من المؤمنين بالله، فخرجوا من مدينتهم لا يقصدون مكانا (معينا) بعينه حتى وجدوا غارا فدخلوا فيه، فناموا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ثم أحياهم الله بعد ذلك ليكون أحياؤهم عبرة لمن لا يعتقد بقدرة الله، وإكرامه لأوليائه.
3-
ومن ذلك ما أجراه الله تعالى على يد الذي عنده علم من الكتاب لما طلب سليمان عليه السلام أن يأتيه أتباعه بعرش الملكة بلقيس، وكان الجن مسخرين له، وهم يقدرون على ما لا يقدر عليه الإنس، فتفوق الإنسي الولي على الجن، إذ قال عفريت من الجن لسليمان أنا آتيك بعرشها قبل أن تقوم من مقامك. وقال الولي الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يعود إليك بصرك.
4-
ومن ذلك سماع سارية قائد المسلمين وهو بخراسان قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا سارية الجبل"وعمر رضي الله عنه بالمدينة وكان في ذلك نصر المسلمين، لأن الجبل حمى ظهورهم من العدو [1] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
يتضح من البحث أن الولاية قرينة التقوى والتزام مرضاة الله. . وبذلك يخرج من حيز الولاية كل من تجرد من التقوى والالتزام، فلاحظ، إذن في الولاية للدجالين الذين يدعون -أو يدعى لهم -الوصول إلى التحرر من التكاليف الشرعية! . . (المجلة)
أين التقدم؟ !
للشيخ عبد الله قادري
المشرف الاجتماعي بالجامعة
ماذا وراء تخرج وتعلم
في عالم متحضر متقدم
شاد القصور فطاولت شرفاتها
سحب السماء لزينة وتنعم
ومضى يشق بأرضه طرقاتها
فغدت مذللة لكل ميم.
وبني جواري كالجبال مواخرا
غواصة في قعر بحر مظلم.
وغدا الحديد الصلب طوع بنانه
بسهولة تبدو كنوع توهم
وغزا الكواكب خاطرا متبخترا
ومضحيا بالنفس دون تلعثم
بل قرب الزمن البعيد لناظر
ومسافر ولهامس متكلم
وانساح في الأرض البسيطة كاشفا
أسرارها سعيا وراء تقدم
صنع السلاح قنابلا ومدافعا
وبنادقا وصوارخا لم ترحم
وتبددت ظلمات ليل حالك
بكواشف لألاءة كالأنجم
ولمَ التوجع والحضارة أسفرت
عما ذكرت من الثناء القيم
بل ما وظيفة عالم متنسك
في عالم متمدن متقدم
هذا سؤال القاصرين أصوغه
وجوابه متيسر للمسلم
قف فوق طود شريعة ميمونة
وانظر إلى ما تحته وترحم
سترى الجحود لخالق ورسالة
ولما يغيب كجنة وجهنم
وترى من الإشراك أمرا هائلا
:للقبر، للأبقار، للطاغي العمى
والجاحدون لربهم عبدوا الذي
أغوى، كماركس، وماو المجرم
وترى القوي له حقوق جمة
وترى الضعيف مسفها لم يكرم
والعهد عند المستفيد معظم
ولدى سواه محقر لم يبرم
وترى الخيانة عادة قد أصبحت
في القوم دون تحسر وتندم
وعلى الحطام تقاتلوا بشراسة
مثل القرود تهارشت للمغنم
وغدا السلاح كلعبة الأطفال في
أيدي قساة لم يبالوا بالدم
قتلوا الشعوب بقتلهم للمصلحين
من الرجال ونصرهم للمجرم
وبنهب خيرات البلاد وجعلها
تحت الوصاية والحصار المحكم
ويجعل أبناء الشعوب نفوسهم
أدوات إفساد وفكر مظلم
يستبدلون بعزهم وثرائهم
ذلا وفقرا مدقعا لم يفصم
وغدت عقولهمو أسيرة خمرة
_ وهمو عبيد الموسمات _ ودرهم
وترجل الجنس اللطيف مخلفا
فينا شبابا للأنوثة ينتمي
فترى الفتى متسترا لكعوبه
متخنفسا متمايلا كالأيم
وترى الفتاة بجنبه قد أسفرت
عن جسمها الفتان دون تبرم
مسخ لعمري قد أحاط بجيلنا
فهوى بقعر رذيلة لم يعلم
والمسلمون تحاسدوا وتفرقوا
في الدين للدنيا وعاجل مغنم
والنزر منهم واقف لا ينثني
عن نصر دينه بالوجاهة والدم
وهنا يكون سؤلنا متوجها
: ماذا وراء تخرج وتعلّم؟!
أين التقدم والحضارة يا أخي
بل أين ناس ينتمون لآدم
أين التقدم والخلائق تصطلي
نار الشقاء وحسرة المتندم
هذا فساد بالغ متأصل
يرنو إليك يراك خير مرمم
فاضرب بسهم في سهام أئمة
سبقوك في هذا السبيل القيم
وافتح مغاليق القلوب لتهتدي
بشريعة الهادي الرسول الأكرم
وادع العباد بحكمة وترفق
فالرفق للقلب المريض كبلسم
وأبِنْ لهذا الجيل زائف عصره
فالجيل لم يفتأ بليل مظلم
وأبِنْ محاسن ديننا متوسلا
بأصوله والواقع المتحتم
فمذاهب الأرض الوضيعة جربت
وبدت مرارتها كطعم العلقم
وشريعة الإسلام أضحى أهلها
إذ حكموها في الملا كالأنجم
وأبدأ بنفسك صائغا وممرنا
لتكون عالية المرام وتمّم
وبدولة البيت الصغيرة فاهتمم
فهي النواة لأي شعب تنتمي
وانشر رسالتك التي كلفتها
في كل صقع واغد خير معلم
واختر ذوي الهمم العظام وحطهمو
بعناية قصوى وقلب مفعم
فهم الذين سيصبحون مشاعلا
لبناء هذا العلم المتحطم
ويجددون بعلمهم وببأسهم
مجدا تليدا شامخا للمسلم
واحذر من اليأس المثبط آملا
نصر الإله وللنهاية صمم
واحذر ولاء الكافرين وخبثهم
على إلهك فاعتمد واستعصم
واذكر بلاء الأنبياء وغيرهم
في الله دون تقاعس، وتقدّم
وإذا أردت حياة عز دائم
فأعد نفسك للوطيس إذا حمى
واصبر إذا نزل البلاء مراقبا
برد الجنان وصرف حر جهنم
والموت في الوقت المحدد زاحف
فاختر لنفسك موت ذي البأس الكمي
وأرِ العدو تصبرا وتجلدا
وثبات أطواد أمام تهجم
وإذا رأيت المبطلين تجرؤوا
وتظاهروا بتعجرف وتعظم
فاعلم بقرب زوالهم واعزم على
تحطيم ما قد شيدوه وهدم
والنصر للدين الحنيف محقق
للقائمين بحقه المتحتم
ولسوف تشرق شمسه في حينها
لتضيء درب جماعة لم تسأم
هذي وظيفتنا وذاك مجالها
يا ويل كل مفرط مستسلم