الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مواقف الطوائف
من توحيد الأسماء والصفات
د. محمد بن خليفة بن علي التميمي
الأستاذ المشارك بقسم العقيدة - كلية الدعوة وأصول الدين
الجامعة الإسلامية - المدينة المنورة
ملخص البحث
يتناول البحث جانباً من جوانب مسألة توحيد الأسماء والصفات وهو “ مواقف الطوائف من توحيد الأسماء والصفات ” وقد احتوى البحث على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، وتضمنت المقدمة أهمية الموضوع والخطة التي سار عليها البحث بينما خصص الفصل الأول لبيان موقف أهل السنة والجماعة من توحيد الأسماء والصفات، من خلال التعريف بهم وبيان وسطيتهم وموقفهم الإجمالي والتفصيلي من أسماء الله وصفاته والأسس والقواعد التي قام عليها معتقدهم في هذا الباب.
واحتوى الفصل الثاني على بيان موقف المعطلة من هذا الباب وذلك من خلال التعريف بطوائف المعطلة وذكر قول كل طائفة وموقفها من أسماء الله وصفاته، فقد تم التعريف في المبحث الأول بالفلاسفة وطوائفهم وذكر درجات تعطيلهم لأسماء الله وصفاته. كما تم التعريف في المبحث الثاني بأهل الكلام وبيان العلاقة بينهم وبين الفلاسفة، وبيان أقوال فرقهم (الجهمية - المعتزلة - الكلابية - الأشاعرة - الماتريدية) في باب الأسماء والصفات.
وأما الفصل الثالث فقد عقد لبيان موقف المشبهة من توحيد الأسماء والصفات وتضمن المبحث الأول ذكر من عرف بالتشبيه (وهم قدماء الرافضة وغلاة المتصوفة) وبيان أقوالهم.
وأما المبحث الثاني فعقد لبيان من نسب إلى التشبيه، وخصص المطلب الأول لذكر الفرق بين التشبيه والتجسيم والمطلب الثاني لذكر من نسب إلى التشبيه وحقيقة أقوالهم.
وختم البحث بخاتمة تضمنت بيان وسطية أهل السنة في هذا الباب وغيره، وسلامة منهجهم في التأصيل والتقرير.
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَأيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنّ إلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ} [آل عمران 102] .
أما بعد: فإنه على أساس العلم الصحيح بالله وأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح، والتوحيد الخالص، وتنبني مطالب الرسالة جميعها؛ فهذا التوحيد هو أساس الهداية والإيمان، وهو أصل الدين الذي يقوم عليه، ولذلك فإنه لا يتصور إيمان صحيح ممن لا يعرف ربه، فهذه المعرفة لازمة لانعقاد أصل الإيمان وهي مهمة جداً للمؤمن لشدة حاجته إليها لسلامة قلبه، وصلاح معتقده، واستقامة جوارحه، فالمعرفة لأسماء الله وصفاته وأفعاله توجب للعبد التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الرب عما لا يليق به ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام.
وبهذه المعرفة تحصل زيادة الإيمان ورسوخه، فكلما ازداد العبد علماً بالله زاد إيمانه وخشيته ومحبته لربه وتعلقه به قال تعالى:{إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر 28] ، كما تجلب للعبد النور والبصيرة التي تحصنه من الشبهات المضللة والشهوات المحرمة.
ولذا كان هذا العلم هو بحق أفضل ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول، وليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شيء من الأشياء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر ولا فرحها بشيء أعظم من فرحها بالظفر بمعرفة الحق فيه.
وإن من واجب طالب العلم أن يتعمق في فهم الحق في هذا الباب المبني على الكتاب والسنة؛ فإنه بالنظر إلى كون باب الأسماء والصفات من أكثر الأبواب التي حصل فيها النزاع بين علماء السلف وخصومهم الأمر الذي تسبب في حدوث نزاع في مسائل كثيرة ومتعددة ترتب عليها انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: أهل السنة، وأهل التعطيل، وأهل التمثيل، ومثل هذا الحال يوجب على طالب العلم أن يميز بين قول أهل الحق في تلك المسائل وأقوال أهل الباطل، وأن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة مسائل هذا الباب، وأن تكون تلك المعرفة سالمة من داء التعطيل وداء التمثيل اللذين ابتلي بهما كثير من أهل البدع.
فالمعرفة الصحيحة هي المتلقاة من الكتاب والسنة، وما روي عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهذه هي المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة إيمانه، وقوة يقينه، وطمأنينة أحواله ولما كان باب الصفات هو قلب هذا الباب ومحور النزاع مع الخصوم فيه فإن من الواجب على المسلم أن يدرس مسائل هذا الباب ويتعمق في فهمها وفق ما ورد في الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة،وأن يحذر من التيارات الفلسفية التي أضرت بأصحابها وأدخلتهم في دوامة الانحراف والضياع.
ومن منطلق توضيح مسائل الصفات وبيان الخلاف الحاصل بين الطوائف فيها، أحببت جمع شتات تلك المسائل وترتيبها ليسهل على الراغب في دراستها الاطلاع عليها بأقصر طريق وأقل مؤنه.
وقد سميت البحث ((مواقف الطوائف من توحيد الأسماء والصفات)) .
ورتبت عناصره في ثلاثة فصول وخاتمة تسبقها مقدمة وفق ما يأتي:
المقدمة: وفيها استهلال البحث وبيان بفصوله ومباحثه.
الفصل الأول: أهل السنة والجماعة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة، وتحته مطلبان
المطلب الأول: التعريف بهم.
المطلب الثاني: بيان وسطيتهم.
المبحث الثاني: موقفهم من توحيد الأسماء والصفات، وانتظم ثلاثة مطالب
المطلب الأول: موقفهم من توحيد الأسماء والصفات عموماً.
المطلب الثاني: موقفهم من باب الأسماء.
المطلب الثالث: موقفهم من باب الصفات.
الفصل الثاني: طوائف المعطلة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، واحتوى مبحثين
المبحث الأول: الفلاسفة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، واشتمل مطلبين.
المطلب الأول: التعريف بهم.
المطلب الثاني: قولهم في توحيد الأسماء والصفات.
المبحث الثاني: أهل الكلام وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، وضمّ مطلبين.
المطلب الأول: التعريف بهم.
المطلب الثاني: مواقفهم من توحيد الأسماء والصفات.
الفصل الثالث: المشبهة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، واندرج تحته مبحثان.
المبحث الأول: من عرف بالتشبيه وبيان أقوالهم.
المبحث الثاني: من نسب إلى التشبيه.
الخاتمة:
وإني لا أدعي أني وصلت بهذا البحث إلى درجة الكمال، ولكن حسبي أني اجتهدت فإن وفقت فذلك بفضل من الله وحده، وإن حصل تقصير أو خطأ فهذا من طبيعة جهد البشر،وأسأل الله أن يتقبل مني هذا الجهد وأن يجعله عملاً صالحاً، ولوجهه خالصاً، وأن لا يجعل لأحد فيه شيئاً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفصل الأول: أهل السنة والجماعة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات
وفيه مبحثان
المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة، وفيه مطلبان
المطلب الأول: التعريف بهم.
((المقصود بأهل السنة والجماعة: هم الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، ومن سلك سبيلهم، وسار على نهجهم، من أئمة الهدى ومن اقتدى بهم من سائر الأمة أجمعين. فيخرج بهذا المعنى كل طوائف المبتدعة وأهل الأهواء. فالسنة هنا في مقابل البدعة، والجماعة هنا في مقابل الفُرقة)) (1) .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى {يَوَمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران 106] قال: ((تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة والفُرقة)) (2) .
والجدير بالذكر هنا أن نعرف أن العلماء يستعملون هذه العبارة لمعنيين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فلفظ أهل السنة يراد به:
1 من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة (3) .
2 وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول:((إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يُرَى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة)) (4) .
ومقصودنا بعبارة (أهل السنة) هو المعنى الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ ذلك لأن لأهل السنة أصولهم التي اتفقوا عليها ونصوا عليها في كتب الاعتقاد المعروفة.
ولأهل السنة عدة مسميات منها: أهل الحديث، الفرقة الناجية، الجماعة، الطائفة المنصورة وغير ذلك.
ويمكن حصر قواعد منهج أهل السنة في النِّقاط التالية:
أولاً: ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها.
ثانياً: التقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث. وذلك يتم ب:
أالاجتهاد في تمييز صحيحه من سقيمه.
ب الاجتهاد في الوقوف على معانيه وتفهمه (5) .
ثالثاً: العمل بذلك والاستقامة عليه اعتقاداً، وتفكيراً، وسلوكاً، وقولاً، والبعد عن كل ما يخالفه ويناقضه.
رابعاً: الدعوة إلى ذلك باللسان والبنان.
فمن التزم هذه القواعد في الاعتقاد، والعمل، فهو على نهج أهل السنة بإذن الله (1) .
وأهل السنة قالوا: الأصل في الدين الاتباع والعقل تبع، فالعقل المجرد ليس له إثبات شيء من العقائد والأحكام، وإنما المرجع في ذلك إلى القرآن والسنة.
ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء، ولبطل الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء (2) .
والتقرير بأن النقل مقدم على العقل لا ينبغي أن يُفهم منه أن أهل السنة ينكرون العقل والتوصل به إلى المعارف والتفكير به في خلق السموات والأرض وفي الآيات الكونية الكثيرة، فأهل السنة لا ينكرون استعمال العقل، ولكنهم توسطوا في شأن العقل بين طائفتين ضلتا في هذا الباب هما:
أهل الكلام: الذين يجعلون العقل وحده أصل علمهم ويفردونه ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له، والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن، فجعلوا عقولهم هي التي تثبت وتنفي، والسمع معروضاً عليها، فإن وافقها قُبِلَ اعتضاداً لا اعتماداً، وإن عارضها رُدَّ وطُرِح، وهذا من أعظم أسباب الضلال التي دخلت على الأمة.
وأهل التصوف: الذين يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية والمقامات الرفيعة، لا تحصل إلا مع عدمه ويقرون من الأمور بما يكذِّب صريح العقل.
ويمدحون السُّكْر والجنون والوَلَه، وأموراً من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا بزوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يُعْلَمُ بالعقل الصريح بطلانها. وكلا الطرفين مذموم.
وأما أهل السنة فيرون أن العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال وبها يكمل العلم والعمل، ولكنه ليس مستقلاً بذلك. فالعقل غريزة في النفس وقوة فيها، بمنزلة البصر التي في العين.
فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس أو النار.
وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن إدراكها.
وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أموراً حيوانية.
فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن إدراكه ولم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه (1) .
المطلب الثاني: بيان وسطيتهم
وقد توسط أهل السنة في كثير من مسائل الاعتقاد، منها ما يلي:
1 في أسماء الله وصفاته: فإن مذهب السلف هو إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها فتوسطوا بذلك بين المعطلة الذين نفوها فأبطلوا ما أثبته الله ورسوله، والمشبهة الذين خرجوا بها إلى ضرب من التشبيه والتكييف.
2 في أفعال الله ((القدر)) : فإن مذهب السلف هو أنهم أثبتوا لله فعلاً ومشيئة وأثبتوا للعبد فعلاً ومشيئة داخلة تحت مشيئة الله وقدرته، فتوسطوا بذلك بين الجبرية الذين أنكروا قدرة العبد ومشيئته، والقدرية الذين أنكروا قدرة الله في أفعال العباد.
3 في الإيمان: فإن مذهب السلف هو أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل يزيد وينقص، فتوسطوا بذلك بين المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، والخوارج والمعتزلة الذين أنكروا زيادة الإيمان ونقصانه.
4 في وعيد الله ((أي مرتكب الكبيرة)) : فإن مذهب السلف هو أن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، وهو مستحق للوعيد ولكنه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه على قدر ذنبه ثم يخرجه من النار، وإن شاء غفر له وأدخله الجنة.
فهم بذلك توسطوا بين المفرطين من المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وبين الوعيدية (الخوارج والمعتزلة)، فالخوارج يقولون: هو كافر في الدنيا، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين ويتفقون على أنه في الآخرة خالد مخلد في النار.
5 في أصحاب رسول الله (: فإن مذهب السلف هو الاعتراف بفضل الصحابة جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم وأنهم أكمل هذه الأمة إيماناً وإسلاماً وعلماً وحكمةً، وأنهم عدول بتعديل الله لهم، ولكنهم لم يغلوا فيهم ولم يعتقدوا عصمتهم بل قاموا بحقوقهم وأحبوهم لعظيم سابقتهم وحسن بلائهم في نصرة الإسلام وجهادهم مع رسول الله (، فهم بذلك توسطوا بين الرافضة والخوارج.
فالرافضة - قبحهم الله- يسبون الصحابة ويلعنونهم وربما كفروهم أو كفروا بعضهم، والغالية منهم مع سبهم لكثير من الصحابة والخلفاء يغلون في علي رضي الله عنه وأولاده ويعتقدون فيهم الإلهية (1) .
والخوارج قابلوا هؤلاء الروافض فكفروا عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة وقاتلوهم واستحلوا دماءهم وأموالهم.
والمقصود أن أهل السنة هم أعرف الناس بالحق، ولذلك فإن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار رسول الله (، لا ينفردون عن طائفة أهل السنة إلا بقول فاسد، ولا ينفردون بقول صحيح، وكل من كان عن السنة أبعد، كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر.
فالسعيد من لزم السنة، والله الموفق وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.
المبحث الثاني: موقفهم من توحيد الأسماء والصفات
وفيه ثلاثة مطالب
المطلب الأولى: موقفهم من توحيد الأسماء والصفات عموماً معتقد أهل السنة في أسماء الله وصفاته، يقوم على أساس الإيمان بكل ما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة إثباتاً ونفياً، فهم بذلك:
1 يسمون الله بما سمى به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله (، لا يزيدون على ذلك ولا ينقصون منه.
2 ويثبتون لله عز وجل ويصفونه بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله (من غير تحريف (2) ، ولا تعطيل (3) ، ومن غير تكييف (4) ، ولا تمثيل (5) .
3 وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله محمد (، مع اعتقاد أن الله موصوف بكمال ضد ذلك الأمر المنفي.
فأهل السنة سلكوا في هذا الباب منهج القرآن والسنة الصحيحة، فكل اسم أو صفة لله سبحانه وتعالى وردت في الكتاب والسنة الصحيحة فهي من قبيل الإثبات فيجب بذلك إثباتها.
وأما النفي فهو أن ينفى عن الله عز وجل كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص مع وجوب اعتقاد ثبوت كمال ضد ذلك المنفي.
قال الإمام أحمد: ((لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله (لا نتجاوز القرآن والسنة)) (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله (، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات ونفي ممثالة المخلوقات قال تعالى {ليس كمثله شيء} [الشورى 11] ، فهذا رد على الممثلة {وهو السميع البصير} [الشورى 11] رد على المعطلة.
وقولهم في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقاً كالسِّنَةِ، والنوم، والعجز، والجهل، وغير ذلك.
والثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها، على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات)) (2) .
وقد ارتكز معتقد أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته على ثلاثة أسس رئيسة، هي (3) :
الأساس الأول: الإيمان بما وردت به نصوص القرآن والسنة الصحيحة من أسماء الله وصفاته إثباتاً ونفياً.
الأساس الثاني: تنزيه الله جلّ وعلا عن أن يشبه شيء من صفاته شيئاً من صفات المخلوقين.
الأساس الثالث: قطع الطمع عن إدراك كيفية اتصاف الله بتلك الصفات.
وهذه الأسس الثلاثة هي التي تفصِّل وتميز عقيدة أهل السنة في هذا الباب عن عقيدة أهل التعطيل (من الفلاسفة وأهل الكلام) من جهة.
وعن عقيدة أهل التمثيل (من الكرامية والهشامية وغيرهم) من جهة أخرى.
فالأساس الأول: فيه تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المعطلة، فأهل السنة يجعلون الأصل في إثبات الأسماء والصفات أو نفيها عن الله تعالى هو كتاب الله وسنة نبيه (، ولا يتجاوزنهما، فما ورد إثباته من الأسماء والصفات في القرآن والسنة الصحيحة فيجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما فيجب نفيه.
((وأما ما لم يرد إثباته ونفيه فلا يصح استعماله في باب الأسماء وباب الصفات إطلاقاً، وأما في باب الإخبار فمن السلف من يمنع ذلك، ومنهم من يجيزه بشرط أن يستفصل عن مراد المتكلم فيه، فإن أراد به حقاً يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أراد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده)) (1) .
ومجمل القول أن في الأمر ثلاثة أبواب:
1 باب الأسماء: وهذا يجب الاعتماد فيه على الكتاب والسنة فقط.
2 باب الصفات: وهذا كذلك يجب الاعتماد فيه على الكتاب والسنة فقط.
3 باب الإخبار: وهذا لا يشترط فيه النصّ الشرعي، ولكن يشترط أن يكون معنى اللفظ المستعمل ليس بسيئ.
أما أهل التعطيل: فقد جعلوا ((العقل)) وحده هو أصل علمهم، فالشُّبه العقلية هي الأصول الكلية الأولية عندهم، وهي التي تُثبِت وتَنفي، ثم يعرضون الكتاب والسنة على تلك الشبه العقلية، فإن وافقتها قُبِلَت اعتضاداً لا اعتماداً، وإن عارضتها رُدت تلك النصوص الشرعية وطُرِحت، وفي هذا يقول قائلهم: ((كل ما ورد السمع به ينظر فإن كان العقل مجوزاً له وجب التصديق به
…
وأما ما قضى العقل باستحالته فيجب فيه تأويل ما ورد السمع به، ولا يتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول. وظواهر أحاديث التشبيه يعني بها أحاديث الصفات أكثرها غير صحيح، والصحيح منها ليس بقاطع، بل هو قابل للتأويل)) (2) .
فهذا النقل يبين لك مدى تقديم هؤلاء لشبههم العقلية وتعصبهم لها، وكيف أنهم يجعلونها هي الأصول والسمع معروضاً عليها، فما أجازته عقولهم قبلوه، وما لم تُجزه عقولهم شككوا فيه وانتقصوه، ومن ثمَّ سعوا في تأويله وتحريفه، ومن يُلقي نظرةً على كتب الأشاعرة مثلاً يجد أن القوم يُقسِّمون أبواب العقيدة إلى إلهيات ونبوات وسمعيات، وهم في باب الإلهيات والنبوات لا يعتمدون نصوص الكتاب والسنة، ولذلك لن تجد في هذين البابين إلا الشبه العقلية المركبة وفق القواعد المنطقية، ويا عجبا أنأخذ ديننا من ملاحدة اليونان وتلامذتهم أم من كلام الله ورسوله (؟!
وأما باب السمعيات أي البعث والحشر والجنة والنار والوعد والوعيد فهم يقبلون النصوص الشرعية، وبالتالي سموا هذا الباب بالسمعيات في مقابل باب الإلهيات والنبوات؛ إذ إنهم يعتمدون فيهما على العقليات، وهؤلاء شابهوا حال من قال الله تعالى فيهم {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُم إِلَا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُنيَا وَيَومَ القِيَامَة يُرَدُّون إِلى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة 85] .
وأما الأساس الثاني: وهو تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، ففيه تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المعطلة من جهة وعن عقيدة المشبهة من جهة أخرى.
فأهل السنة: يعتقدون أن ما اتصف الله به من الصفات لا يماثله فيها أحد من خلقه، فالله (قد أخبرنا بذلك بنص كتابه العزيز حيث قال {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى 11] ، فإذا ورد النص بصفة من صفات الله تعالى في الكتاب أو السنة فيجب الإيمان به والاعتقاد الجازم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو مما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فالشر كل الشر في عدم تعظيم الله، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فعلى القلب المؤمن المصدق بصفات الله التي تمدح بها أو أثنى عليه بها نبيه (، أن يكون معظما لله (غير متنجس بأقذار التشبيه، لتكون أرض قلبه طيبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه أخذاً بقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى 11] (1) .
أما أهل التعطيل: فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات التي لا وجود لها إلا في أفهامهم الفاسدة، فعقيدة هؤلاء المعطلة جمعت بين التمثيل والتعطيل، وهذا الشر إنما جاء من تنجس قلوبهم وتدنسها بأقذار التشبيه، فإذا سمعوا صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه كاستوائه على عرشه ومجيئه يوم القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال، فإن أول ما يخطر في أذهانهم أن هذه الصفة تشبه صفات الخلق فَلِتَلَطُّخ القلب بأقذار التشبيه لم يُقَدِّر الله حق قدره ولم يعظم الله حق عظمته حيث سبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق، فيكون أولا نجس القلب بأقذار التشبيه ثم دعاه ذلك إلى أن ينفى صفة الخالق جل وعلا عنه بادعاء أنها تشبه صفات المخلوق، فيكون فيها أولاً مشبهاً، وثانياً معطلاً ضالاً ابتداءً وانتهاءً متهجماً على رب العالمين ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق (2) .
وأما عقيدة أهل التمثيل: فهي تقوم على دعواهم أن الله (لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة، فشبهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، فقالوا: له يد كأيدينا ونحو ذلك، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وأما العارفون به، المصدقون لرسله، المقرون بكماله فهم يثبتون لله جميع صفاته، وينفون عنه مشابهة المخلوقات فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم حسنة بين سيِّئتين، وهدى بين ضلالتين.
وأما الأساس الثالث: ففيه تمييز لعقيدة أهل السنة عن عقيدة المشبهة، فأهل السنة يفوضون علم كيفية اتصاف الباري (بتلك الصفات إلى الله (، فلا علم للبشر بكيفية ذات الله تبارك وتعالى ولا تفسير كنه شيء من صفات ربنا تعالى كأن يقال استوى على هيئة كذا، فكل من تجرأ على شيء من ذلك فقوله من الغلو في الدين والافتراء على الله (واعتقاد ما لم يأذن به الله ولا يليق بجلاله وعظمته ولم ينطق به كتاب ولا سنة، ولو كان ذلك مطلوبا من العباد في الشريعة لَبَيَّنه الله تعالى ورسوله (فهو لم يدع ما بالمسلمين إليه حاجة إلا بيَّنه ووضحه، والعباد لا يعلمون عن الله تعالى إلا ما علمهم كما قال تعالى {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة 225] فليؤمن العبد بما علَّمه الله تعالى وليقف معه، وليمسك عما جهله وليكل معناه إلى عالمه (1) .
وأما المشبهة فقد تعمقوا في شأن كيفيات صفات الله وتقولوا على الله بغير علم، حيث يقول أحدهم: له بصر كبصري ويد كيدي، وقدم كقدمي، تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً.
المطلب الثاني: موقفهم من باب الأسماء.
يمكن إجمال معتقد أهل السنة في أسماء الله في النقاط التالية:
أولاً: الإيمان بثبوت الأسماء الحسنى الواردة في القرآن والسنة، من غير زيادة ولا نقصان.
فمن الأمور المتقررة في عقيدة أهل السنة في باب أسماء الله الحسنى أن من ضابط أسماء الله الحسنى ورود النص بذلك الاسم فلا يسمى الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله (.
ولذلك يرى السلف أن من أحكام باب الأسماء ما يلي:
1 إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء الحسنى الواردة في نصوص القرآن والسنة الصحيحة.
2 ألاّ ننفي عن الله ما سمى به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله (.
3 ألاّ نسمي الله بما لم يسم به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله محمد (.
وذلك لأنه لا طريق إلى معرفة أسماء الله تبارك وتعالى إلا من طريق واحد هو طريق الخبر (أي الكتاب والسنة) .
ومن أقوال أهل العلم في تقرير هذه المسألة ما يلي:
قال ابن القيم رحمه الله: ((أسماء الله تعالى هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها ولا يقوم غيرها مقامها ولا يؤدي معناها، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيراً بمرادف محض، بل هو على سبيل التقريب والتفهيم.
فإذا عرفت هذا فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى، وأبعده عن شائبة عيب أو نقص.
فله من صفة الإدراكات:
العليم الخبير دون العاقل الفقيه.
والسميع البصير دون السامع والباصر والناظر.
ومن صفات الإحسان:
البر الرحيم الودود دون الشفوق.
وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف.
وكذلك الكريم دون السخي.
وكذلك الخالق البارئ المصور دون الفاعل الصانع المُشكل.
وكذلك سائر أسمائه تعالى يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها وما لا يقوم غيره مقامه فتأمل ذلك، فأسماؤه أحسن الأسماء كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا تعدل عما سمى به نفسه إلى غيره، كما لا تتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله (إلى ما وصفه به المبطلون والمعطلون)) (1) .
وقال أبو سليمان الخطابي: ((ومن علم هذا الباب -أعني الأسماء والصفات- ومما يدخل في أحكامه ويتعلق به من شرائط، أنه لا يتجاوز فيها التوقيف، ولا يستعمل فيها القياس فيلحق بالشيء نظيره في ظاهر وضع اللغة ومتعارض الكلام:
((فالجواد)) لا يجوز أن يقاس عليه السخي وإن كانا متقاربين في ظاهر الكلام، وذلك أن السخي لم يرد به التوقيف كما ورد بالجواد.
و ((القوي)) لا يقاس عليه الجلْدُ، وإن كانا يتقاربان في نعوت الآدميين لأن باب التجلد يدخله التكلف والاجتهاد.
ولا يقاس على ((القادر)) المطيق ولا المستطيع.
وفي أسمائه ((العليم)) ومن صفته العلم، فلا يجوز قياساً عليه أن يسمى عارفاً لما تقتضيه المعرفة من تقديم الأسباب التي بها يتوصل إلى علم الشيء وكذلك لا يوصف بالعاقل.
وهذا الباب يجب أن يراعى ولا يغفل، فإن عائدته عظيمة والجهل به ضار وبالله التوفيق)) (1) .
وقال السفاريني في منظومته:
لنا بذا أدلة وفية
لكنها في الحق توقيفية
ثم قال في شرحه: ((لكنها -أي أسماء الله- في القول الحق المعتمد عند أهل الحق توقيفية بنص الشرع وورود السمع بها، ومما يجب أن يعلم أن علماء السنة اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء الحسنى والصفات على البارئ جل وعلا إذا ورد بها الإذن من الشارع، وعلى امتناعه على ما ورد المنع عنه)) (2) .
من خلال ما تقدم من نقول يتضح لك مدى تمسك علماء أهل السنة بالتوقيف في باب الأسماء الحسنى، ومنعهم لاستخدام القياس اللغوي والعقلي في هذا الباب.
وهذا هو القول الحق الذي تدل عليه النصوص الشرعية ومنها ما يلي:
أولاً: قوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى} [الأعراف 180] . فهذه الآية تدل على أن الأسماء توقيفية من وجهين:
1 قوله {الأسماء} فهي هنا جاءت (بأل) وهي هنا للعهد، فالأسماء بذلك لا تكون إلا معهودة، ولا معروف في ذلك إلا ما نص عليه في الكتاب أو السنة (3) .
2 قوله {الحسنى} فهذا الوصف يدل على أنه ليس في الأسماء الأخرى أحسن منها، وأن غيرها لا يقوم مقامها ولا يؤدي معناها (1) فلا يجوز بحال أن يدخل في أسماء الله ما ليس منها، فهذا الوصف يؤكد كونها توقيفية.
ثانيا: قوله تعالى {وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف 180] .
قال الإمام البغوي: ((قال أهل المعاني الإلحاد في أسماء الله تسميته بما لم يتسم به ولم ينطق به كتاب الله ولا سنة رسوله ()) (2) .
وقال ابن حجر: ((قال أهل التفسير: من الإلحاد في أسمائه تسميته بما لم يرد في الكتاب أو السنة الصحيحة)) (3) .
قال ابن حزم: ((منع تعالى أن يسمى إلا بأسمائه الحسنى وأخبر أن من سماه بغيرها فقد ألحد)) (4)
وبهذا يتبين أن هذه الآية دليل على أن أسماء الله توقيفية، وأن مخالفة ذلك وتسميته تعالى بما لم يسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها، فالإقدام على فعل شيء من ذلك هو نوع من الإلحاد في أسماء الله.
ثالثاً: قوله تعالى {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى 1] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((ومن جعله تسبيحاً للاسم يقول المعنى: أنك لا تسم به غير الله، ولا تلحد في أسمائه فهذا ما استحقه اسم الله)) (5) .
فإذا فسرت الآية بهذا الوجه ففيها دليل على ما سبق في الآية التي قبلها من اعتبار تسميته بما لم يسم به نفسه من أنواع الإلحاد في أسمائه.
رابعاً: قوله تعالى {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة 255] .
وقوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء 36] .
وقوله تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف 33] .
فإذا كانت هذه الآيات تحرم وتحذر من الخوض في الأمور المغيبة عند فقد الدليل الشرعي، فإن ذلك التحريم والتحذير يدخل فيه باب أسماء الله باعتباره من الأمور المغيبة التي لا تعرف إلا من طريق النص الشرعي.
ولذلك من الواجب هنا الاقتصار على الأسماء الواردة في النصوص وترك ما سواها.
خامساً: حديث ((ما أصاب عبداً قط هَمٌّ ولا غَمٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك
…
)) الحديث (1) .
والشاهد من الحديث قوله: ((أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك)) .
قال ابن القيم: ((فالحديث صريح في أن أسماءه ليست من فعل الآدميين وتسمياتهم)) (2) .
و ((أو)) في قوله: ((سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك)) حرف عطف والمعطوف بها أخص مما قبله فيكون من باب عطف الخاص على العام فإن ما سمى به نفسه يتناول جميع الأنواع المذكورة بعده، فيكون عطف كل جملة منها من باب عطف الخاص على العام، فوجه الكلام أن يقال ((سميت به نفسك فأنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)) (3) .
ثانياً: الإيمان بأن الله هو الذي يسمي نفسه، ولا يسميه أحد من خلقه، فالله عز وجل هو الذي تكلم بهذه الأسماء وأسماؤه منه، وليست محدثة مخلوقة كما يزعم الجهمية، والمعتزلة، والكلابية، والأشاعرة، والماتريدية.
فمن معتقد أهل السنة والجماعة في هذه المسألة أنهم يؤمنون بأن الله الذي سمى نفسه بأسمائه الحسنى وتكلم بها حقيقة، وهي غير مخلوقة وليست من وضع البشر، يستدلون لقولهم بما يلي:
1 حديث: ((ما أصاب عبداً قط هَمٌّ ولا غَمٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك
…
)) الحديث (1) .
والشاهد من الحديث قوله: ((أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك)) .
فقد دل الحديث على أن أسماء الله غير مخلوقة بل هو الذي تكلم بها وسمى بها نفسه، ولهذا لم يقل بكل اسم خلقته لنفسك ولا قال سماك به خلقك؛ فالحديث صريح في أن أسماءه ليست من فعل الآدميين وتسمياتهم، وأن الله سبحانه تكلَّم بتلك الأسماء وسمَّى بها نفسه (2) .
2 أن أسماء الله من كلامه، وكلامه تعالى غيرُ مخلوق، فأسماؤه غير مخلوقة، فهو المُسمِّى لنفسه بتلك الأسماء (3) .
3 أن الله عز وجل يُسألُ بهذه الأسماء، ولو كانت مخلوقة لم تجز أن يُسألَ بها. فإن الله لا يُقسَمُ عليه بشيء من خلقه (4)، فالسائلَ لله بغير الله:
أإما أن يكون مقسماً عليه.
ب وإما أن يكون طالباً بذلك السبب، كما توسَّل الثلاثة في الغار بأعمالهم.
فإن كان إقساماً على الله بغيره فهذا لا يجوز، وإن كان سؤالاً بسبب يقتضي المطلوب، كالسؤال بالأعمال التي فيها طاعةُ الله ورسوله مثل السُّؤال بالإيمان بالرسول ومحبته وموالاته ونحو ذلك فهذا جائزٌ (5) .
4 أن اليمين بهذه الأسماء منعقدةٌ، فمن حلف باسم من أسماء الله فهو حالف بالله، ولو كانت الأسماء مخلوقة لما جاز الحلفُ بها، لأن الحلف بغير الله شركٌ بالله، والله لا يُقسَمُ عليه بشيء من خلقه (6) .
قال الإمام الشافعي: ((من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفَّارة؛ لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة أو بالصفَّا أو بالمروة فليس عليه كفَّارة لأنه مخلوق وذلك غير مخلوق)) (7) يعني أسماء الله.
5 أن أسماء الله مشتقةٌ من صفاته، وصفاته قديمةٌ به، فأسماؤه غير مخلوقة (1) .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما سُئل عن قوله تعالى {وكان الله عزيزاً حكيماً} [النساء 58] . {غفوراً رحيماً} [النساء 96] قال: ((هو سمَّى نفسه بذاك، وهو لم يزل كذلك)) .
فأثبت قدم معاني أسمائه الحسنى، وأنه هو الذي سمَّى نفسه بها (2) .
والربُّ تعالى يُشتق من أوصافه وأفعاله أسماءٌ (3) ، ولا يُشتق من مخلوقاته، وكل اسم من أسمائه فهو مشتقٌ من صفة من صفاته، أو فعل قائم به، فلو كان يُشتق له اسم باعتبار المخلوق المنفصل لسُمِّيَ متكوِّناً أو متحركاً، وساكناً وطويلاً وأبيض وغير ذلك، لأنه خالقُ هذه الصفات، فلما لم يُطلق عليه اسم من ذلك مع أنه خالقه عُلم أنما تُشْتَقُّ أسماؤه من أفعاله وأوصافه القائمة به، وهو سبحانه لا يتصف بما هو مخلوقٌ منفصل عنه، ولا يتسمَّى باسمه (4) .
ثالثاً: الإيمان بأن هذه الأسماء دالة على معانٍ في غاية الكمال، فهي أعلام وأوصاف، وليست كالأعلام الجامدة التي لم توضع باعتبار معانيها، كما يزعم المعتزلة.
فمن الأمور المتقررة في عقيدة أهل السنة والجماعة أن أسماء الله الحسنى متضمنة للصفات، فكل اسم يدل على معنى من صفاته ليس هو المعنى الذي يدل عليه الاسم الآخر، فالعزيز متضمن لصفة العزة وهو مشتق منها، والخالق متضمن لصفة الخلق وهو مشتق منها، فأسماء الله مشتقة من صفاته وليست جامدة كما يزعم المعتزلة ومن وافقهم الذين ادعوا أنها أعلام لا معاني لها فقالوا سميع بلا سمع بصير بلا بصر وعزيز بلا عزة، فسلبوا بذلك عن أسماء الله معانيها.
فالرب تعالى يشتق له من أوصافه وأفعاله أسماء ولا يشتق له من مخلوقاته، وكل اسم من أسمائه فهو مشتق من صفة من صفاته أو فعل قائم به.
ولمزيد من الإيضاح وإلقاء الضوء على هذه المسألة وبيان عقيدة أهل السنة أود طرح ذلك في النقاط التالية:
النقطة الأولى: أن أسماء الله الحسنى لها اعتباران:
أسماء الله الحسنى كلها متفقة في الدلالة على نفسه المقدسة، ثم كل اسم يدل على معنى من صفاته ليس هو المعنى الذي دل عليه الاسم الآخر (1) .
وذلك لأن أسماءه الحسنى لها اعتباران:
اعتبار من حيث الذات.
واعتبار من حيث الصفات.
فهي أعلام باعتبار دلالتها على الذات.
وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني.
وهي بالاعتبار الأول: مترادفة لدلالتها على مسمى واحد هو الله عز وجل ف ((الحي، العليم، القدير، السميع، البصير الرحمن، الرحيم، العزيز، الحكيم)) كلها أسماء لمسمى واحد وهو الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء 110] .
فأسماء الله تعالى تدل كلها على مسمى واحد، وليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى يضاد دعاؤه باسم آخر، بل كل اسم يدل على ذاته.
وهي بالاعتبار الثاني: متباينة لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص فمعنى الحي غير معنى العليم غير معنى القدير وهكذا (2) .
النقطة الثانية: الوصف بها لا ينافي العلمية:
قال ابن القيم: ((أسماء الله الحسنى هي أعلام وأوصاف، والوصف بها لا ينافي العلمية؛ بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي علميتهم لأن أوصافهم مشتركة فنافتها العلمية المختصة، بخلاف أوصافه تعالى)) (3) .
وقال رحمه الله: ((أسماء الرب تعالى وأسماء كتبه، أسماء نبيه (هي أعلام دالة على معانٍ هي بها أوصاف، فلا تُضادُّ فيها العلمية الوصف بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين فهو الله الخالق البارئ المصور القاهر فهذه أسماء له دالة على معان هي صفاته
…
)) (4) .
قال الدارمي: ((لا تقاس أسماء الله بأسماء الخلق، لأن أسماء الخلق مخلوقة مستعارة وليست أسماؤهم نفس صفاتهم بل مخلوقة لصفاتهم، وأسماء الله وصفاته ليس شيء منها مخالفاً لصفاته ولا شيء من صفاته مخالفاً لأسمائه.
فمن ادعى أن صفة من صفات الله مخلوقة أو مستعارة فقد كفر وفجر، لأنك إذا قلت (الله) فهو (الله) وإذا قلت (الرحمن) فهو (الرحمن) وهو (الله) فإذا قلت (الرحيم) فهو كذلك، وإذا قلت (حكيم - عليم - حميد - مجيد - جبار - متكبر - قاهر - قادر) فهو كذلك هو (الله) سواء، لا يخالف اسم له صفته ولا صفته اسماً.
وقد يسمى الرجل حكيماً وهو جاهل، وحَكَماً وهو ظالم، وعزيزاً وهو حقير، وكريماً وهو لئيم، وصالحاً وهو طالح وسعيداً وهو شقي، ومحموداً وهو مذموم، وحبيباً وهو بغيض، وأسداً وحماراً، وكلباً وجدياً، وكليباً، وهراً وحنظلة، وعلقمة وليس كذلك.
والله تعالى تقدس اسمه كل أسمائه سواء، ولم يزل كذلك ولا يزال. لم تحدث له صفة ولا اسم لم يكن كذلك، كان خالقاً قبل المخلوقين، ورازقاً قبل المرزوقين، وعالماً قبل المعلومين، وسميعاً قبل أن يسمع أصوات المخلوقين، وبصيراً قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة)) (1) .
رابعاً: احترام معاني تلك الأسماء، وحفظ ما لها من حرمة في هذا الجانب، وعدم التعرض لتلك المعاني بالتحريف والتعطيل كما هو شأن أهل الكلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: ((ومذهب السلف أنه يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله (من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل. ونعلم أن ما وُصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما بقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف، والدلالة والإرشاد)) (2) .
فمن المعلوم أن نصوص الصفات ألفاظ شرعية يجب أن تحفظ لها حرمتها وذلك بأن نفهمها وفق مراد الشارع، فلا نتلاعب بمعانيها لنصرفها عن مراد الشارع.
فمن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان:
النوع الأول: نوع جاء به الكتاب والسنة.
فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله.
فاللفظ الذي أثبته الله أو نفاه حق، فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه بالمعاني.
فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر. ونطيعه في كل ما أوجب وما أمر.
ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان. وقد قال تعالى {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة 11] .
النوع الثاني: الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها.
فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده.
فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به.
وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره (1) .
خامساً: الإيمان بما تقتضيه تلك الأسماء من الآثار وما ترتب عليها من الأحكام (2) .
قال ابن القيم رحمه الله: ((وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة. فإن أسماءه أوصاف مدح وكمال. وكل صفة لها مقتضً وفعل: إما لازم. وإما متعد. ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه. وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه. كل ذلك أثار الأسماء الحسنى وموجباتها.
ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافه ومعانيها، وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال، وتعطيل الأفعال عن المفعولات، كما أنه يستحيل تعطيل مفعولاته عن أفعاله وأفعاله عن صفاته، وصفاته عن أسمائه، وتعطيل أسمائه وأوصافه عن ذاته.
وإذا كانت أوصافه صفات كمال، وأفعاله حكماً ومصالح، وأسماؤه حسنى ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه؛ ولهذا ينكر سبحانه على من عطله عن أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وأنه بذلك نسبه إلى ما لا يليق به وإلى ما يتنزه عنه وأن ذلك حكم سيئ ممن حكم به عليه، وأن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره، ولا عظمه حق تعظيمه، كما قال تعالى {وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام 91] . وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر 67] . وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المخلوقين، كالأبرار والفجار، والمؤمنين والكفار {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} [الجاثية 21] ، فأخبر أن هذا حكم سيئ لا يليق به تأباه أسماؤه وصفاته. وقال سبحانه {أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} [المؤمنون 115-116] عن هذا الظن والحسبان، الذي تأباه أسماؤه وصفاته.
ونظائر هذا في القرآن كثيرة ينفي فيها عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته إذ ذلك تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها.
فاسمه ((الحميد، المجيد)) يمنع ترك الإنسان سُدى مهملاً معطلاً، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه ((الحكيم)) يأبى ذلك.
وكذلك اسمه ((الملك)) واسمه ((الحي)) يمنع أن يكون معطلاً من الفعل؛ بل حقيقة ((الحياة)) الفعل. فكل حي فعال. وكونه سبحانه ((خالقاً قيوماً)) من موجبات حياته ومقتضياتها.
واسمه ((السميع البصير)) يوجب مسموعاً ومرئياً.
واسمه ((الخالق)) يقتضي مخلوقاً. وكذلك ((الرزَّاق)) .
واسمه ((الملك)) يقتضي مملكة وتصرفاً وتدبيراً، وإعطاءً ومنعاً، وإحساناً وعدلاً، وثواباً وعقاباً.
واسمه ((البر، المحسن، المعطي، المنان)) ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها إذا عرف هذا. فمن أسمائه سبحانه ((الغفار، التواب، العفو)) فلابد لهذه الأسماء من متعلقات. ولابد من جناية تغتفر، وتوبة تقبل، وجرائم يعفى عنها.
ولابد لاسمه ((الحكيم)) من متعلق يظهر فيه حكمه. إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم ((الخالق، الرازق، المعطي، المانع)) للمخلوق والمرزوق والمعطَى والممنوع. هذه الأسماء كلها حسنى.
والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه. فهو عفو يحب العفو، ويحب المغفرة، ويحب التوبة ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال.
وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله، ويحلم عنه، ويتوب عليه ويسامحه، من موجب أسمائه وصفاته. وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك.
وما يَحمدُ به نفسه ويحمده به أهل سمواته وأهل أرضه، ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده. وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما.
ومن آثارهما: مغفرة الزلات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات، والمسامحة على الجنايات. مع كمال القدرة على استيفاء الحق. والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها. فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته، كما قال المسيح عليه السلام {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة 118] أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك. لست كمن يغفر عجزاً ويسامح جهلاً بقدر الحق، بل أنت عليم بحقك. قادر على استيفائه حكيم في الأخذ به.
فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم، وفي الأمر، تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد وتقديرها: هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال.
وغاياتها أيضاً: مقتضى حمده ومجده، كما هو مقتضى ربوبيته وألهيته فله في كل ما قضاه وقدَّره الحكمة البالغة والآيات الباهرة، والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته، واستدعاء محبتهم له، وذكرهم له، وشكرهم له، وتعبدهم له بأسمائه الحسنى. إذ كل اسم له تعبد مختص به، علماً ومعرفة وحالاً.
وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر. فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه ((القدير)) عن التعبد باسمه ((الحليم الرحيم)) . أو يحجبه عبودية اسمه ((المعطي)) عن عبودية اسمه ((المانع)) أو عبودية اسمه ((الرحيم العفو الغفور)) عن اسمه ((المنتقم)) أو التعبد بأسماء ((التودد، والبر واللطف، والإحسان)) عن أسماء ((العدل، والجبروت، والعظمة، والكبرياء)) ونحو ذلك.
وهذه طريقة الكُمَّل من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن، قال الله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف 180] والدعاء بها يتناول دعاء المسألة، ودعاء الثناء، ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها. ويأخذوا بحظهم من عبوديتها.
وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته.
فهو ((عليم)) يحب كل عليم، ((جواد)) يحب كل جود، ((وِتْرٌ)) يحب الوتر، ((جميل)) يحب الجمال، ((عفو)) يحب العفو وأهله، ((حيي)) يحب الحياء وأهله، ((بَرٌّ)) يحب الأبرار، ((شكور)) يحب الشاكرين، ((صبور)) يحب الصابرين، ((حليم)) يحب أهل الحلم.
فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح: خلق من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه. وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له. ليترتب عليه المحبوب له والمرضى له
…
)) (1) .
المطلب الثالث: موقفهم من باب الصفات.
يمكن إجمال معتقد أهل السنة في صفات الله في النقاط التالية:
1-
إثبات تلك الصفات لله عز وجل حقيقةً على الوجه اللائق به، وأن لا تعامل بالنفي والإنكار.
2-
أن لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة، ولا يغير اسمها ويعيرها اسماً آخر.
3-
عدم تشبيهها أو تمثيلها بما للمخلوق. فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
4-
اليأس من إدراك كنهها وكيفيتها.
5-
الإيمان بما تقتضيه تلك الصفات من الآثار وما يترتب عليها من الأحكام.
أما بالنسبة للنقطة الأولى: وهي إثبات الصفات لله عز وجل حقيقةً على الوجه اللائق به، وأن لا تعامل بالنفي والإنكار. فتفصيلها أن يقال: صفات الله تعالى كلها صفات كمال.
قال تعالى {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} [النحل 60] .
وقال تعالى {وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الروم 27] .
قال ابن كثير: (( {ولله المثل الأعلى} أي الكمال المطلق من كل وجه)) (1) .
وقال القرطبي: (( {ولله المثل الأعلى} أي الوصف الأعلى)) (2) .
فالله سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أن له الوصف الأعلى والكمال المطلق من كل وجه، فيجب الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه وذلك بالاعتقاد الجازم بأن كل ما أخبر به في كتابه أو على لسان رسوله (من الصفات هي صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، لأن الله تعالى هو الذي أخبر بها عن نفسه ووصف بها نفسه، وهو سبحانه المستحق للكمال من جميع الوجوه، كما دلت على ذلك النصوص المتقدمة وغيرها.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وصف سبحانه نفسه بأن له المثل الأعلى فقال تعالى {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} [النحل 60] ، فجعل مثل السوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال للمشركين وأربابهم، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده، ولهذا كان له المثل الأعلى وهو أفعل التفضيل، أي أعلى من غيره
…
والمثل الأعلى: هو الكمال المطلق، المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره، ولما كان الرب تعالى هو الأعلى ووجهه الأعلى وكلامه الأعلى وسمعه الأعلى وبصره وسائر صفاته عليا، كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان، لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده، ويستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى، مثل، أو نظير، وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة
…
فهذه الآية من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه)) (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((يجب أن يعلم أن الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه، فثبوت الحياة مستلزم نفي الموت، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز، وإن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع على ذلك (2) .
وثبوت ((معنى الكمال)) قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة، دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى، فما في القرآن من إثبات الحمد لله، وتفصيل محامده، وأن له المثل الأعلى، وإثبات معاني أسمائه، ونحو ذلك كله دال على هذا المعنى.
وقد ثبت لفظ ((الكمال)) فيما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير {قل هو الله أحد الله الصمد} [الإخلاص 1-2] ، أن الصمد المستحق للكمال، وهو السيد الذي كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكم الذي قد كمل في حكمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الشريف الذي قد كمل أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه وتعالى.
وهذه صفة لا تنبغي إلا له، ليس له كُفُواً ولا كمثله شيء، وهكذا سائر صفات الكمال.
ولم يعلم أحد من الأمة نازع في هذا المعنى، بل هذا المعنى مستقر في فطر الناس، بل هم مفطرون عليه، فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق، فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر، وأعلى وأعظم وأكمل من كل شيء، فالإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها)) (1) .
ولقد وصف الله نفسه بصفات كثيرة في كتابه العزيز وعلى لسان نبيه محمد (منها على سبيل المثال صفة الحياة أو العلم والسمع والبصر والرحمة والحكمة والعزة والعظمة والعلو والاستواء والقدرة والنزول والضحك والغضب واليدين والوجه وغير ذلك، وهذه الصفات التي أثبتها لنفسه كلها صفات كمال في حقه نثبتها لله حقيقة مع الاعتقاد الجازم بأنه ليس كمثله شيء في هذه الصفات.
وكما أثبت الله لنفسه صفات الكمال فقد نزه نفسه عن صفات النقص كالموت والجهل والنسيان والعجز والعمى والصمم ونحوها كما في قوله تعالى {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان 58] وقوله عن موسى {في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} [طه 52] وقوله {وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض} [فاطر 44] وقوله {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} [الزخرف 80] وقال النبي (في الدجال ((إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)) (1) ، وقال ((أيها الناس اربعوا (2) على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)) (3) .
فالصفة إذا كانت صفة نقص لا كمال فيها فهي ممتنعة في حق الله تعالى ولقد عاقب الله تعالى الواصفين له بالنقص وذمهم كما في قوله تعالى {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} [المائدة 62] وقوله تعالى {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق} [آل عمران 181] .
ونزه نفسه عما يصفونه به من النقائص فقال سبحانه {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين} [الصافات180] وقال تعالى {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} [المؤمنون 91] .
ولقد أظهر الله بطلان ألوهية الأصنام بأنها متصفة بالنقص والعجز فقال تعالى {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون} [الأحقاف 5] ، وقال تعالى {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهو يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} [النحل 21] ، وقال عن إبراهيم وهو يحتج على أبيه {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} [مريم 42] ، وعلى قومه {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} [الأنبياء 66] .
وبهذه الأدلة وغيرها يُعلم أن الواجب على المسلم أن يثبت لله ما وصف به نفسه في كتابه أو سنة نبيه محمد (حقيقة وأن تلك الصفات هي صفات كمال اختص بها سبحانه وتعالىلا يماثله ولا يشابهه فيها أحد.
كما يعلم ضلال من أنكر تلك الصفات أو بعضها بدعوى تنزيه الله تعالى عن النقص، فلقد نزه الله سبحانه نفسه عن النقص في مواطن متعددة من كتابه وعلى لسان رسوله (فلو كان ما نفوه من الصفات هي صفات نقص في حقه لنزه الله نفسه عنها ولم يثبتها لنفسه وكذلك لو كانت صفات نقص لما عاب علىالأصنام عدم إتصافها بها.
النقطة الثانية: ((وهي أن لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به، بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة، فلا يعطل الصفة، ولا يغير اسمها ويعيرها اسماً آخر. كما يفعل المعطلة الذين لم يريدوا تنزيه الله ووصفه بالكمال وإنما أرادوا أن يحولوا بين القلوب وبين معرفة ربها، ولذلك سموا إثبات صفاته وعلوه فوق خلقه، واستواءه على عرشه: تشبيهاً وتجسيماً وحشواً، فنفروا عنه صبيان العقول، وسموا نزوله إلى سماء الدنيا وتكلمه بمشيئته، ورضاه بعد غضبه، وغضبه بعد رضاه وسمعه الحاضر لأصوات العباد، ورؤيته المقارنة لأفعالهم ونحو ذلك: حوادث. وسموا وجهه الأعلى، ويديه المبسوطتين وأصابعه التي يضع عليها الخلائق يوم القيامة: جوارح وأعضاء. مكراً منهم كُبّاراً بالناس. كمن يريد التنفير عن العسل فيمكر في العبارة ويقول: مائع أصفر يشبه العذرة المائعة. أو ينفر عن شيء مستحسن فيسميه بأقبح الأسماء فعل الماكر المخادع فليس مع مخالف الرسل سوى المكر في القول والفعل.
ولقد راج مكر هؤلاء المعطلة على أصحاب القلوب المظلمة الجاهلة بحقائق الإيمان وما جاء به الرسول (، فترتب على ذلك إعراضهم عن الله وعن ذكره ومحبته، والثناء عليه أوصاف كماله ونعوت جلاله، فانصرفت قوى حبها وشوقها وأنسها إلى سواه.
ومعلوم أنه لا يستقر للعبد قدم في المعرفة بل ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله، ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه، فالإيمان بالصفات وتعرفها: هو أساس الإسلام، وقاعدة الإيمان، وثمرة شجرة الإحسان. فمن جحد الصفات فقد هدم أساس الإسلام والإيمان وثمرة شجرة الإحسان، فضلا عن أن يكون من أهل العرفان وقد جعل الله سبحانه منكر صفاته سَيِّئ الظن به. وتوعده بما لم يتوعد به غيره من أهل الشرك والكفر والكبائر فقال تعالى {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداك فأصبحتم من الخاسرين} [فصلت 22] فأخبر سبحانه أن إنكارهم هذه الصفة من صفاته من سوء ظنهم به وأنه هو الذي أهلكهم وقد قال في الظانين به ظن السوء {عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً} [الفتح 6] ولم يجئ مثل هذا الوعيد في غير من ظن السوء به سبحانه، وجَحْدُ صفاته وإنكار حقائق أسمائه من أعظم ظن السوء به)) (1) .
((وطائفة المعطلة قد أساءت الظن بربها وبكتابه وبنبيه وبأتباعه: أما إساءة الظن بالرب: فإنها عطلت صفات كماله ونسبته إلى أنه أنزل كتاباً مشتملاً على ما ظاهره كفر وباطل، وأن ظاهره حقائقه غير مراده، وأما إساءة الظن بالرسول: فلأنه تكلم بذلك وقرره وأكده، ولم يبين للأمة أن الحق في خلافه وتأويله، وأما إساءة ظنها بأتباعه فنسبتهم لهم إلى التشبيه والتمثيل، والجهل والحشو)) (2) .
وطائفة المعطلة لما فهمت من الصفات الإلهية ما تفهمه من صفات المخلوقين فرَّتْ إلى إنكار حقائقها، وابتغاء تحريفها وسمته تأويلاً فشبهت أولاً وعطلت ثانياً وأساءت الظن بربها وبكتابه ونبيه وأتباعه.
فانظر إلى ما أدى إليه سوء فهم المعطلة لنصوص الأسماء والصفات ولم يكن المشبهة بأحسن حالاً من المعطلة فهم كذلك أدى بهم سوء فهمهم لنصوص الصفات إلى تشبيه الخالق سبحانه وتعالى بخلقه فقد فهموا منها مثل ما للمخلوقين وظنوا أن لا حقيقة لها سوى ذلك، وقالوا محال أن يخاطبنا الله سبحانه بما لا نعقله (1) . وهم بذلك عطلوا الله تبارك وتعالى عن كماله الواجب له حيث مثلوه وشبهوه بالمخلوق الناقص، وعطلوا كل نص يدل على نفي مماثلة الله لخلقه.
وقد هدى الله أصحاب سواء السبيل للطريقة المثلى فأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات ونفوا عنه مماثلة المخلوقات فكان مذهبهم مذهباً بين مذهبين وهدى بين ضلالتين.
فقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله (من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه ولا تمثيل بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل، ولا نقول ليس له يدان ولا وجه ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا قدرة، ولا استوى على عرشه.
ولا نقول له يدان كأيدي المخلوق ووجه كوجوههم وسمع وبصر، وحياة وقدرة واستواء، كأسماعهم وأبصارهم وحياتهم وقدرتهم واستوائهم.
بل نقول: له ذات حقيقة ليست كذوات المخلوقين وله صفات -حقيقة لا مجازاً- ليست كصفات المخلوقين، وكذلك قولنا في وجهه تبارك وتعالى، ويديه، وسمعه وبصره، وكلامه، واستوائه.
ولا يمنعنا ذلك أن نفهم المراد من تلك الصفات وحقائقها كما لم يمنع ذلك من أثبت لله شيئاً من صفات الكمال من فهم معنى الصفة وتحقيقها، فإن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة، وفهم معناهما فهكذا سائر الصفات المقدسة يجب أن تجري هذا المجرى وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها فإن الله سبحانه لم يكلف العباد ذلك ولا أراده منهم ولم يجعل لهم إليه سبيلا. بل كثير من مخلوقاته بل أكثرها لم يجعل لهم سبيلاً إلى معرفة كنهه وكيفيته وهذه أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان قد حجب عنهم معرفة كنهها وكيفيتها. وقد أخبرنا سبحانه عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم ولم يعرفوا كيفيته وكنهه فلا شك أن المسلمين يؤمنون أن في الجنة أنهاراً من خمر وأنهاراً من عسل وأنهاراً من لبن، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب، والعسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها، واللبن ما خرج من الضروع والحرير إلا ما خرج من فم دود القز، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلاً لما في الدنيا. قال ابن عباس رضي الله عنهما:((ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء)) (1) ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به في ذلك؛ فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم إنتفاء نظيرها في الدنيا ومثالها من فهم حقائقها ومعانيها بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته سبحانه لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن.
أحدها: قوله تعالى {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} [النحل 60] .
الثاني: قوله تعالى {وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الروم 27] .
الثالث: قوله تعالى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى 11] .
فنفى سبحانه المماثلة عن هذا المثل الأعلى وهو ما في قلوب أهل سمواته وأرضه من معرفته والإقرار بربويته وأسمائه وصفاته وذاته. فهذا المثل الأعلى هو الذي آمن به المؤمنون وأنس به العارفون وقامت شواهده في قلوبهم بالتعريفات الفطرية، المكملة بالكتب الإلهية، المقبولة بالبراهين العقلية. فاتفق على الشهادة بثبوته العقل والسمع والفطرة فإذا قال المثبت:((يا الله)) قام بقلبه رباً قيوماً قائماً بنفسه مستوياً على عرشه مكلماً متكلماً، سامعاً رائياً، قديراً سديدا فعالاً لما يشاء يسمع دعاء الداعين، ويقضي حوائج السائلين، ويفرج عن المكروبين، ترضيه الطاعات وتغضبه المعاصي تعرج الملائكة بالأمر إليه وتنزل بالأمر من عنده)) (1) .
النقطة الثالثة: وهي عدم تشبيهها أو تمثيلها بما للمخلوق. فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
فأما التمثيل: فهو اعتقاد المثبت أن ما أثبته من صفات الله تعالى مماثل لصفات المخلوقين.
وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى {ليس كمثله شيء} [الشورى 11] وقوله {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل 17] وقوله {هل تعلم له سميا} [مريم 65] وقوله {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص 4] وقوله تعالى {فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل 74] وقوله {ولله المثل الأعلى} [النحل 60] .
أما العقل: فمن وجوه:
الأول: أنه قد علم بالضرورة أن بين الخالق والمخلوق تبايناً في الذات وهذا يستلزم أن يكون بينهما تباين في الصفات لأن صفة كل موصوف تليق به كما هو ظاهر في صفات المخلوقات المتباينة في الذوات فقوة البعير مثلاً غير قوة الذرة، فإذا ظهر التباين بين المخلوقات مع اشتراكها في الإمكان والحدوث، فظهور التباين بينها وبين الخالق أجلى وأقوى (2) .
الثاني: أن يقال كيف يكون الرب الخالق الكامل من جميع الوجوه مشابهاً في صفاته للمخلوق المربوب الناقص المفتقر إلى ما يكمله، وهل اعتقاد ذلك إلا تنقص لحق الخالق فإن تشبيه الكامل بالناقص يجعله ناقصاً (1) .
الثالث: أننا نشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة والكيفية فنشاهد أن للإنسان يداً ليست كيد الفيل وله قوة ليست كقوة الجمل مع الاتفاق في الاسم، فهذه يد وهذه يد، وهذه قوة وهذه قوة وبينهما تباين في الكيفية والوصف فعلم بذلك أن الاتفاق في الاسم لايلزم منه الاتفاق في الحقيقة.
والتشبيه كالتمثيل وقد يفرق بينهما بأن التمثيل: التسوية في كل الصفات.
والتشبيه: التسوية في أكثر الصفات لكن التعبير بنفي التمثيل أولى لموافقة القرآن {ليس كمثله شيء} [الشورى 11] .
وفي هذا الباب يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ((الثالث: عدم تشبيهها بما للمخلوق، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فالعارفون به، المصدقون لرسله، المقرون بكماله: يثبتون له الأسماء والصفات وينفون عنه مشابهة المخلوقات فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه، وبين التنزيه وعدم التعطيل، فمذهبهم حسنة بين سيئتين، وهدى بين ضلالتين، فصراطهم صراط المنعم عليهم، وصراط غيرهم صراط المغضوب عليهم والضالين. قال الإمام أحمد: ((لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين)) (2) وقال: ((التشبيه: أن تقول يد كيدي)) (3) تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً)) (4) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((التشبيه الممتنع إنما هو مشابهة الخالق للمخلوق في شيء من خصائص المخلوق أو أن يماثله في شيء من صفات الخالق.
فإن الرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوق، أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله وكذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه)) (5) .
وقال أيضاً: ((وأما لفظ المشبهة، فلا ريب أن أهل السنة والجماعة والحديث من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم متفقون على تنزيه الله تعالى عن مماثلة الخلق، وعلى ذم المشبهة الذين يشبِّهون صفاته بصفات خلقه ومتفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله)) (1) .
النقطة الرابعة: وهي اليأس من إدراك كنهها وكيفيتها.
التكييف: هو أن يعتقد المثبت أن كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا من غير أن يقيدها بمماثل. وهذا اعتقاد باطل بدليل السمع والعقل.
أما السمع: فمنه قوله تعالى {ولايحيطون به علما} [طه 110] وقوله {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} [الإسراء 36] . ومن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفات ربنا لأنه تعالى أخبرنا عنها ولم يخبر عن كيفيتها فيكون تكييفنا قفوا لما ليس لنا به علم وقولاً بما لم يمكننا الإحاطة به.
وأما العقل: فلأن الشيء لا تعرف كيفية صفاته إلا بعد العلم بكيفية ذاته، أو العلم بنظيره المساوي له، أو بالخبر الصادق عنه، وكل هذه الطرق منتفية في كيفية صفات الله عز وجل فوجب بطلان تكييفها.
وأيضاً فإننا نقول: أيّ كيفية تقدرها لصفات الله تعالى؟
إن أيّ كيفية تقدرها في ذهنك فالله أعظم وأجل من ذلك.
وأيّ كيفية تقدرها لصفات الله تعالى فإنك ستكون كاذباً فيها لأنه لا علم لك بذلك.
وحينئذ يجب الكف عن التكييف تقديراً بالجنان أو تقريراً بالسان أو تحريراً بالبنان.
ولقد سار السلف جميعهم على منع التكييف في صفات الله تعالى، ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن قوله {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] كيف استوى؟ أطرق رحمه الله برأسه حتى علاه الرحضاء (العرق) ثم قال:((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)) (1) . وروى عن شيخه ربيعة أيضاً: ((الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول)) (2) . وقد مشى أهل العلم بعدهما على هذا الميزان. وإذا كان الكيف غير معقول ولم يرد به الشرع فقد انتفى عنه الدليلان العقلي والشرعي، فوجب الكف عنه.
فالحذر الحذر من التكييف ومحاولته فإنك إن فعلت وقعت في مفاوز لا تستطيع الخلاص منها، وإن ألقاه الشيطان في قلبك فاعلم أنه من نزغاته فالجأ إلى ربك فإنه معاذك وافعل ما أمرك به فإنه طبيبك، قال الله تعالى {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [الأعراف 200] )) (3) .
وقال ابن القيم: ((والعقل قد يئس عن تعرف كنه الصفة وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف ((بلا كيف)) أي بلا كيف يعقله البشر، فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟
ولا يقدح ذلك في الإيمان بها ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، وكما أنا لا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق. فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم.
فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كله، والجمال كله، والعلم كله، والقدرة كلها، والعظمة كلها والكبرياء كلها، من لو كُشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السموات والأرض وما فيها وما بينهما، وما وراء ذلك. الذي يقبض سمواته بيده، فتغيب كما تغيب الخردلة في كف أحدنا، ونسبة علوم الخلائق كلها إلى علمه أقل من نسبة نَقْرَة عصفور من بحار العلم الذي لو أن البحر -يمده من بعده سبعة أبحر- مداد، وأشجار الأرض - من حيث خلقت إلى يوم القيامة- أقلام: لفني المداد وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلماته. الذي لو أن الخلق من أول الدنيا إلى آخرها - انسهم وجنهم وناطقهم وأعجمهم- جعلوا صفاً واحداً: ما أحاطوا به سبحانه، الذي يضع السماوات على إصبع من أصابعه والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والأشجار على إصبع، ثم يَهْزُّهُنَّ، ثم يقول: أنا الملك.
فقاتل الله الجهمية والمعطلة أين التشبيه ههنا؟ وأين التمثيل؟ لقد اضمحل ههنا كل موجود سواه، فضلاً ممن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال ويشابهه فيه. فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته، وولاها ما تولت من وقوفها مع الألفاظ التي لا حرمة لها، والمعاني التي لا حقائق لها)) (1) .
النقطة الخامسة: وهي الإيمان بما تقتضيه تلك الصفات من الآثار وما يترتب عليها من الأحكام.
أي الإيمان بما تضمنته من المعاني وبما ترتب عليها من مقتضيات وأحكام. فهذا ما جاء الأمر به والحثُّ عليه في القرآن والسنة.
فمن القرآن قوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف 180] ، والشاهد من الآية قوله {فادعوه بها} .
ووجه الاستشهاد أنَّ الله يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها فإن الدعاء بها يتناول:
دعاء المسألة: كقولك: ربي ارزقني.
ودعاء الثناء: كقولك سبحان الله.
ودعاء التعبد: كالركوع والسجود (2) .
ومن السنة قوله ش: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)) متفق عليه (1) .
الشاهد من الحديث: قوله ش: ((من أحصاها)) .
ووجه الاستشهاد: أن معنى من أحصاها: أي حفظها ألفاظاً، وفهم معانيها ومدلولاتها، وعمل بمقتضياتها وأحكامها.
فالعلم بأسماء الله وصفاته واعتقاد تسمي الله واتصافه بها هو من العبادة وإدراك القلب لمعانيها، وما تضمنته من الأحكام والمقتضيات، واستشعاره وتجاوبه لذلك بالقدر الذي يؤدي إلى سلامة تفكيره واستقامة سلوكه، هو عبادة أيضاً.
فأهل السنة يؤمنون بما دلَّت عليه أسماء الله وصفاته من المعاني، وبما يترتب عليها من مقتضيات وأحكام، بخلاف أهل الباطل الذين أنكروا ذلك وعطَّلوه.
ويجب تحقيق المقتضى والأثر لتلك الصِّفات، فلكُلِّ صفة عبوديةٌ خاصةٌ هي من موجباتها ومقتضياتها -أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها- فعلم العبد بتفرُّد الرَّبِّ بالخلق والرِّزق والإحياء والإماتة، يُثمر له عبودية ((التوكل)) .
وعلم العبد بجلال الله وعظمته وعزِّه، يُثمرُ له الخضوع والاستكانة والمحبة.
فالسَّلف يؤمنون بأسماء الله وصفاته، وبما دلَّت عليه من المعاني والأحكام، أما كيفيَّتها فيفِّوضون علمها إلى الله.
وهم برآء مما اتَّهمهم به المعطلة الذين زعموا أن السلف يؤمنون بألفاظ نصوص الأسماء والصِّفات، ويُفوِّضون معانيها.
وهذا الزعم جهلٌ على السَّلف، فإنهم كانوا أعظم النَّاس فهماً وتدبُّراً لآيات الكتاب وأحاديث النبي ش، خاصة فيما يتعلق بمعرفة الله تعالى، فكانوا يدرون معاني ما يقرأون ويحملون من العلم، ولكنَّهم لم يكونوا يتكلَّفون الفهم للغيب المحجوب، فلم يكونوا يخوضون في كيفيَّات الصِّفات شأن أهل الكلام والبدع، فإنهم حين خاضوا في ذات الله وصفاته وقعوا في التأويل والتَّعطيل، وإنما ألجأهم إلى ذلك الضيقُ الذي دخل عليهم بسبب التَّشبيه، فأرادوا الفرار منه فوقعوا في التعطيل، ولم يقع تعطيلٌ إلا بتشبيه، ولو أنهم نزَّهوا الله تعالى ابتداءً عن مشابهة الخلق، وأثبتوا الصِّفة مع نفي المماثلة لسَلموا ونجوا ولوافقوا اعتقاد السلف ولبان لهم أن السلف لم يكونوا حملة أسفار لا يدرون ما فيها.
ومن تدبَّر كلام أئمة السَّلف المشاهير في هذا الباب عَلِمَ أنهم كانوا أدقَّ النَّاس نظراً وأنهم أعلم النَّاس في هذا الباب وأن الذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، ولذلك صار أولئك الذين خالفوا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب، وقد قال تعالى {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة 176] .
ومن له اطلاع على أقوال السَّلف المدوَّنة في كتب العقيدة والتفسير والحديث عند الحديث عن نصوص الصِّفات يعلم أن السَّلف تكلموا في معاني الصِّفات وبيَّنوها ولم يسكتوا عنها، وهذه الأقوال هي أكبر شاهدٍ على فهم السَّلف لمعاني الصِّفات وإيمانهم بها والله أعلم (1) .
الفصل الثاني: طوائف المعطلة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات
المبحث الأول: الفلاسفة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات وفيه مطلبان:
المطلب الأولى: التعريف بهم.
((الفلاسفة، اسم جنس لمن يُحِبُ الحكمة ويُؤثِرُها. وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمه. وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو وهم المَشَّاؤُون خاصة وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها. وهي التي يعرفها، بل لا يعرفُ سواها المتأخرون من المتكلمين)) (1) .
والذي ينبغي معرفته أن الفلاسفة لا يؤمنون بوجود الله حقيقة، ولا يؤمنون بوحي ولا نبوة ولا رسالة، وينكرون كل غيب، فالمباديء الفلسفية جميعها تقوم على أصلين هما:
الأصل الأول: أن الأصل في العلوم هو عقل الإنسان، فهو عندهم مصدر العلم.
الأصل الثاني: أن العلوم محصورة في الأمور المحسوسة المشاهدة فقط.
فتحت الأصل الأول أبطلوا الوحي، وتحت الأصل الثاني أبطلوا الأمور الغيبية بما فيها الإيمان بالله واليوم الآخر.
وقد تسلط الفلاسفة على المسائل الاعتقادية وزعموا أنها مجرد أوهام وخيالات لا حقيقة ولا وجود لها في الخارج، فلا الله موجود حقيقة، ولا نبوة ولا نبي على التحقيق، ولا ملائكة، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا نشور.
فإيمانهم بالله تبارك وتعالى لا يكاد يتعدى الإيمان بوجوده المطلق، -أي بوجوده في الذهن والخيال دون الحقيقة- وأما ما عدا ذلك فلا يكادون يتفقون على شيء، فالمباحث العقدية عندهم من أسخف وأفسد ما قالوا به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((أما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعة، وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلاً عن أن تكون قضايا صادقة)) (2) .
ويتجلى فساد معتقد الفلاسفة في الله أكثر عندما نعرض لك بعض أقوالهم في ذات الله وصفاته.
فالفلاسفة يطلقون على الله مسمى (واجب الوجود) ، وتوحيد واجب الوجود عندهم يكفي مجرد تصوره للعلم الضروري بفساده.
فالتوحيد عندهم يقتضي تجريده من كل صفات الكمال اللازمة له، فهو ليس له حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام، ولا غير ذلك من الصفات، ويقولون بدلاً من ذلك:((إنه عاقل ومعقول وعقل، ولذيذ وملتذ ولذة، وعالم ومعلوم وعلم)) ، وجعلوا كل ذلك أموراً عدمية.
ودفعهم إلى ذلك زعمهم أن تعدد الصفات موجب للتركيب في حق الله، وفساد هذا القول جلي واضح، فالله وصف نفسه بالصفات، ووصفه بها رسوله ش وثبت ذلك في الكتاب والسنة نقلاً.
كما أن العقل يشهد بفساد قولهم، فإن تعدد الصفات لم تقل لغة ولا شرع ولا عقل سليم إنه يوجب تركيب الموصوف إلا عند الفلاسفة (1) .
ومن شنيع كلامهم كذلك زعمهم أن الله لا يعلم الجزئيات، فهو عندهم لا يعرف عين موسى، ولا عيسى، ولا محمدٍ عليهم الصلاة والسلام، فضلاً عن الوقائع التي قصها القرآن وغيرها من أمور المخلوقات. وفساد هذا القول واضح جلي في النقل والعقل. أما النقل فالله يقول {ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام 59] وكذا العقل أيضاً شاهد بفساد هذا المعتقد، فكيف يجهل الله أموراً سيرها بأمره وأجراها بقدره وأخبر عنها في كتابه.
ومن شنيع قولهم ما قالوه في قدرة الله من أنه فاعل بالطبع لا بالاختيار لأن الفاعل بالطبع يتحد فعله، والفاعل بالاختيار يتنوع فعله، وما دروا أنهم بهذا جعلوا الإنسان الفاعل بالاختيار أكمل من الله الفاعل بالطبع على حد زعمهم. وهذا القول مردود بقول الله {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص 28] ، ومردود بالعقل لأن الله هو أكمل الفاعلين فكيف يُشَبه فعله بفعل الجماد.
فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل.
((وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة، ولا يؤمنون بهم. وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبيُّ بزعمهم في نفسه من أشكال نُورانِية، هي العقول عندهم، وهي مجرَّدات ليست داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق السموات ولا تحتها، ولا هي أشخاص تتحرك، ولا تصعد، ولا تنزل، ولا تدبِّر شيئاً، ولا تتكلم، ولا تكتب أعمال العبد، ولا لها إحساس ولا حركة البتة ولا تنتقل من مكان إلى مكان، ولا تَصُفُّ عند ربها، ولا تصلي، ولا لها تصرف في أمر العالم البتة، فلا تقبض نفس العبد، ولا تكتب رزقه وأجله وعمله، ولا عن اليمين وعن الشمال قعيد، كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة.
وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام، فقال: الملائكة هي القوى الخَيِّرة الفاضلة التي في العبد، والشياطين هي القوى الشريرة الرَّديئة، هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل.
وأما الكتب فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك، فإنه ما قال شيئاً، ولا يقول، ولا يجوز عليه الكلام. ومن تقرب إليهم ممن ينتسب للمسلمين يقول: الكتب المنزلة فَيْضٌ فاضَ من العقل الفَعَّال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعاني، وتشكلت في نفسه بحيث توهم أصواتاً تخاطبه، وربما قَوِيَ الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه، وربما قوي ذلك حتى يُخَيِّلها لبعض الحاضرين، فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج.
وأما الرسل والأنبياء فللنبوة عندهم ثلاث خصائص، من استكملها فهو نبيُّ:
أحدها: قوة الحدس، بحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة.
الثانية: قوة التخيل والتخييل، بحيث يتخيل في نفسه أشكالاً نورانية تخاطبه، ويسمع الخطاب منها، ويخيلها إلى غيره.
الثالثة: قوة التأثير بالتصرف في هيولى العالم. وهذا يكون عنده بتجرد النفس عن العلائق، واتصالها بالمفارقات، من العقول والنفوس المجردة.
وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب. ولهذا طلبَ النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين، وابن هود وأضرابهم. والنبوة عند هؤلاء صنعةٌ من الصنائع، بل من أشرف الصنائع، كالسياسة، بل هي سياسة العامة، وكثير منهم لا يرضى بها، ويقول: الفلسفة نبوة الخاصة. والنبوة: فلسفة العامة.
وأما الإيمان باليوم الآخر فهم لا يقرون بانفطار السموات، وانتثار الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد عدمه.
فلا مبدأ عندهم، ولا معاد، ولا صانع، ولانبوة، ولا كتب نزلت من السماء، تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزلت بالوحي من الله تعالى.
فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير من دين هؤلاء.
وحَسبُكَ جهلاً بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب واستكمل بغيره. وحسبك خذلاناً، وضلالاً وعمى: السير خلف هؤلاء، وإحسان الظن بهم، وأنهم أو لو العقول)) (1) .
المطلب الثاني: قولهم في توحيد الأسماء والصفات.
الفلاسفة يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نَعْتَ، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السموات والأرض بعد عدمها، ولا له قدرة على فعل، ولا يعلم شيئاً. ولا شك أن الذي كان عند مشركي العرب من كفار قريش وغيرهم أهون من هذا، فعباد الأصنام كانوا يثبتون رباً خالقاً عالماً قادراً حياً، وإن كانوا يشركون معه في العبادة.
وفساد أقوال الفلاسفة في الله لا يضاهيها فساد، فهم ينفون جميع الأسماء والصفات، سواء كانوا أصحاب فلسفة محضة كالفارابي (2) ، أو فلسفة باطنية رافضية إسماعيلية قرمطية كابن سينا (3) ، وإخوان الصفا، أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: ((والتحقيق أن التجهم المحض وهو نفي الأسماء والصفات، كما يُحكي عن جهم والغالية من الملاحدة ونحوهم من نفي أسماء الله الحسنى، كفر بين مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول)) (1)
فهؤلاء جميعاً لا يثبتون الأسماء والصفات لله تعال. ويمنعون الإثبات بأي حال من الأحوال ولهم في النفي درجات:
الدرجة الأولى: درجة المكذبة النفاة: وهي التي عليها طائفة من الفلاسفة (2) كابن سينا وأمثاله (3) .
فهم يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون له إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان (4) فهؤلاء وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات (5) .
الدرجة الثانية: المتجاهلة الواقفة: الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي، وهذه الدرجة تنسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية المتفلسفة (6) .
فهؤلاء هم غلاة الغلاة (7) لأنهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول ش، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات (8) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فالقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، فلا يقال حي عالم ولا ليس بحي عالم، ولا يقال هو عليم قدير ولا يقال ليس بقدير عليم، ولا يقال هو متكلم مريد، ولا يقال ليس بمتكلم مريد، قالوا لأن في الإثبات تشبيهاً بما تثبت له هذه الصفات، وفي النفي تشبيه له بما ينفي عنه هذه الصفات)) (1) .
الدرجة الثالثة: المتجاهلة اللاأدرية: الذين يقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول: ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم.
ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه (2) .
الدرجة الرابعة: أهل وحدة الوجود: الذين لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق. فعلى سبيل المثال هم يقولون بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام وفي ذلك يقول ابن عربي:
ألا كل قول في الوجود كلامه
سواء علينا نثره ونظامه
يعم به أسماع كل مكون
فمنه إليه بدؤه وختامه (3)
فيزعمون أنه هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون:
{أنا ربُّكم الأعلى} [النازعات 24]{وما علمت لكم من إله غيري} [القصص 28] وبين القول الذي يسمعه موسى {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه 14] . بل يقولون: إنه الناطق في كل شيء، فلا يتكلم إلا هو ولا يسمع إلا هو، حتى قول مسيلمة الكذاب، والدجال، وفرعون، يصرحون بأن أقوالهم هي قوله)) (4) .
وهذا قول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين وابن الفارض، والعفيف التلمساني.
وأصل مذهبهم: أن كل واحد من وجود الحق، وثبوت الخلق يساوى الآخر ويفتقر إليه وفي هذا يقول ابن عربي:
فيعبدني وأعبده
ويحمدني وأحمده (1)
ويقول: إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات، وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب، وإنهما شيء واحد إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت (2) فهو الموصوف عندهم بجميع صفات النقص والذم والكفر والفواحش والكذب والجهل، كما هو الموصوف عندهم بصفات المجد والكمال فهو العالم والجاهل، والبصير والأعمى، والمؤمن والكافر، والناكح والمنكوح، والصحيح والمريض، والداعي والمجيب، والمتكلم والمستمع، وهو عندهم هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم، وقد يقولون لا هو العالم ولا غيره، وقد يقولون: هو العالم أيضا وهو غيره، وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها في المعنى بين النقيضين مع سلب النقيضين (3) .
وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس له اسم ولا صفة ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له.
ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون يرى هو في الأشياء وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين:
عين ما ترى ذات لا ترى
وذات لا ترى عين ما ترى
وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود. (4) .
وفي هذا يقول ابن عربي:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً
وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً
وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً
وكنت إماماً في المعارف سيداً
فمن قال بالإشفاع كان مشركاً
ومن قال بالإفراد كان موحداً
فإياك والتشبيه إن كنت ثانياً
وإياك والتنزيه إن كنت مفرداً
فما أنت هو بل أنت هو وتراه
في عين الأمور مسرحا ومقيداً (1)
خلاصة أقوال غلاة المعطلة:
كلام غلاة المعطلة المتقدم ذكره يدور على أحد أصلين:
1-
الأصل الأول:
النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه، بأن جعلوا الحق لا وجود له، ولا حقيقة له في الخارج أصلاً وإنما هو أمر مطلق في الأذهان. وهذا الذي عليه المكذبة النفاة، والمتجاهلة الواقفة، والمتجاهلة اللاأدرية.
2-
الأصل الثاني:
أن يجعلوا الحق عين وجود المخلوقات، فلا يكون للمخلوقات خالق غيرها أصلاً، ولا يكون رب كل شيء ولا مليكه. وهذا الذي عليه حال أهل وحدة الوجود الاتحادية في أحد حاليهم فهذا حقيقة قول القوم وإن كان بعضهم لا يشعر بذلك.
ولذلك كان الغلاة من القرامطة والباطنية والفلاسفة والاتحادية نسخة للجهمية الذين تكلم فيهم السلف والأئمة، مع كون أولئك كانوا أقرب إلى الإسلام. فقد كان كلام الجهمية يدور أيضاً على هذين الأصلين فهم يظهرون للناس والعامة أن الله بذاته موجود في كل مكان، أو يعتقدون ذلك.
وعند التحقيق يصفونه بالسلب الذي يستوجب عدمه كقولهم: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ومحايث، ولا متصل به ولا منفصل عنه، وأشباه هذه السلوب.
فكلام أولهم وآخرهم يدور على هذين الأصلين:
1-
إما النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه.
2-
وإما الإثبات الذي يقتضي أنه هو المخلوقات. أو جزء منها أو صفة لها.
وكثير منهم يجمع بين هذا النفي وهذا الإثبات المتناقضين، وإذا حوقق في ذلك قال: ذاك السلب مقتضى نظري. وهذا الإثبات مقتضى شهودي وذوقي. ومعلوم أن العقل والذوق إذا تناقضا لزم بطلانهما أو بطلان أحدهما (2) .
وهذا حالهم يترددون بين هذا النفي العام المطلق، وهذا الإثبات العام المطلق، وهم في كليهما حائرون ضالون لا يعرفون الرب الذي أمروا بعبادته (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((نفاة الصفات تارة يقولون بما يستلزم الحلول والاتحاد، أو يصرحون بذلك. وتارة بما يستلزم الجحود والتعطيل، فنفاتهم لا يعبدون شيئاً، ومثبتتهم يعبدون كل شيء.)) (2) .
ولا ريب أن هؤلاء المعطلة بصنيعهم هذا قد أعرضوا عن أسمائه وصفاته وآياته وصاروا جهالاً به، كافرين به، غافلين عن ذكره، موتى القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته، وهذا هو غاية القرامطة الباطنية والمعطلة الدهرية أنهم يبقون في ظلمة الجهل وضلال الكفر، لا يعرفون الله ولا يذكرونه (3) .
المبحث الثاني: أهل الكلام وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات.
وفيه مطلبان:
المطلب الأولى: التعريف بهم.
وأما أهل الكلام فقد شاركوا الفلاسفة في بعض أصولهم، وأخذوا عنهم القواعد المنطقية والمناهج الكلامية، وتأثروا بها إلى درجة كبيرة. وسلكوا في تقرير مسائل الاعتقاد المسلك العقلاني على حد زعمهم، وهم وإن كانوا يخالفون الفلاسفة في قولهم: إن هذه الحقائق مجرد وهم وخيال، إلا أنهم شاركوهم في تشويه كثير من الحقائق الغيبية، فلا تجد في كتب أهل الكلام على اختلاف طوائفهم تقريراً لمسائل الاعتقاد كما جاءت بها النصوص الصحيحة، فبدل أن تسمع أو تقرأ قال الله أو قال رسوله ش أو قال الصحابة، فإنك لا تجد في كتبهم إلا قال الفضلاء، قال العقلاء، قال الحكماء، ويعنون بهم فلاسفة اليونان من الوثنيين، فكيف جاز لهم ترك كلام الله وكلام رسوله ش والأخذ بكلام من لا يعرف الله ولا يؤمن برسوله.
والمطلع على كتب أهل الكلام يدرك عظم الضرر الذي جَنَتْهُ على الأمة المسلمة، إذ تسببت تلك الكتب في حجب الناس عن المعرفة الصحيحة لله ورسوله ولدينه، وجُعِلَ بدل ذلك مقالات التعطيل والتجهيل والتخييل.
وأهل الكلام ليسوا صنفاً واحداً بل هم عدة أصناف، وأشهرهم:
1-
الجهمية. 2- المعتزلة. 3- الكلابية. 4- الأشاعرة. 5- الماتريدية.
وهذه الأصناف الخمسة كل له قوله ورأيه بحسب الشبه العقلية التي استند إليها.
أولاً: الجهمية، وهم أتباع جهم بن صفوان الذي أخذ عن الجعد بن درهم مقالة التعطيل عندما التقى به بالكوفة (1) وقد نشر الجهم مقالة التعطيل وامتاز عن شيخه الجعد بمزية المغالاة في النفي وكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه نظراً لماكان عليه من سلاطة اللسان وكثرة الجدال والمراء.
من أشهر معتقداتهم:
1-
إنكارهم لجميع الأسماء والصفات كما سيأتي تفصيله.
2-
إنهم في باب الإيمان مرجئة، يقولون: إن الإيمان يكفي فيه مجرد المعرفة القلبية، وهذا شر أقوال المرجئة.
3-
إنهم في باب القدر جبرية، ينكرون قدرة العبد واختياره في فعله.
4-
ينكرون رؤية الخلق لله يوم القيامة.
5-
يقولون:إن القرآن مخلوق.
6-
يقولون بفناء الجنة والنار.
إلى غير ذلك من المعتقدات الباطلة التي قال بها الجهمية.
ثانياً: المعتزلة، وهم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وهم فرق كثيرة يجمعها ما يسمونه بأصولهم الخمسة وهي:
1-
التوحيد. 2- العدل. 3- الوعد والوعيد. 4- المنزلة بين المنزلتين. 5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والاعتزال في حقيقته يحمل خليطاً من الآراء الباطلة التي كانت موجودة في ذلك العصر، فقد جمع المعتزلة بين أفكار الجهمية، والقدرية، والخوارج، والرافضة.
فقد شاركوا الجهمية في بعض أصولهم، فوافقوهم في إنكار الصفات، فزعموا أن ذات الله لا تقوم بها صفة ولا فعل، كما سيأتي تفصيله. وقالوا بإنكار رؤية الله يوم القيامة وقالوا: إن القرآن مخلوق إلى غير ذلك.
كما شاركوا القدرية في إنكارهم لقدرة الله في أفعال العباد، وأخذوا عنهم القول بأن العباد يخلقون أفعالهم.
كما شاركوا الخوارج في مسألة الإيمان، وقالوا بقولهم إن الإيمان قول، واعتقاد، وعمل، لا يزيد ولا ينقص، وإنه إذا ذهب بعضه زال الإيمان.
وبناءً على ذلك شاركوهم في مسألة مرتكب الكبيرة، فالمعتزلة وإن قالوا بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، لكنهم وافقوا الخوارج في قولهم بأن مرتكب الكبيرة في الآخرة خالد مخلد في النار.
وأخذوا كذلك عن الخوارج رأيهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما أنهم شاركوا الروافض في الطعن في أصحاب النبي ش، فقد كان من كلام واصل بن عطاء في أهل صفين قوله:((إن كليهما فاسق لا بعين)) وقوله عن علي ومعاوية رضي الله عنهما: ((لو أن كليهما جاء عندي يشهد على حزمة بقل ما قبلت شهادتهما)) ، وأواخر المعتزلة كانوا أقرب إلى التشيع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وقدماء الشيعة كانوا مخالفين للمعتزلة بذلك (يعني مسائل الصفات والقدر) ، فأما متأخروهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك، فإنهم سار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم، والمعتزلة شيوخ هؤلاء إلى ما يوجد في كلام ابن النعمان المفيد وصاحبيه أبي جعفر الطوسي، والملقب بالمرتضى ونحوهم هو من كلام المعتزلة، وصار حينئذ في المعتزلة من يميل إلى نوع من التشيع إما تسوية علي بالخليفتين، وإما تفضيله عليهما، وإما الطعن في عثمان، وإن كانت المعتزلة لم تختلف في إمامة أبي بكر وعمر. وقدماء المعتزلة كعمرو بن عبيد وذويه كانوا منحرفين عن علي حتى كانوا يقولون: لو شهد هو وواحد من مقاتليه شهادة لم نقبلها، لأنه قد فسق أحدهما لا بعينه. فهذا الذي عليه متأخروا الشيعة والمعتزلة خلاف ما عليه أئمة الطائفتين وقدماؤهم)) (1) .
كما أخذوا عن الشيعة الرافضة أكثر آرائهم الخاصة بالإمامة.
وعلى هذا فأفكار المعتزلة إنما هي خليط من آراء الفرق المخالفة في عصرهم.
وأفكار المعتزلة يحملها اليوم كل من: الرافضة الإمامية، والزيدية، والإباضية، وكذلك من يسمون بالعقلانيين.
ثالثاً: متكلمة الصفاتية (الكلابية - الأشاعرة - الماتريدية) .
(1)
- الكلابية، وهم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان (1)(ت 243هـ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((كان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين:
فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها.
والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.
فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري وغيرهما.
وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله. (2)
فهذا النهج الذي أحدثه ابن كلاب هو ما صار يعرف فيما بعد بمنهج متكلمة الصفاتية لأن ابن كلاب كان في طريقته يميل إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكن كان في طريقته نوع من البدعة، لكونه أثبت قيام الصفات بذات الله، ولم يثبت قيام الأمور الاختيارية بذاته.
وقد كانت له جهود في الرد على الجهمية (3) ولكنه ناظرهم بطريق قياسية سلم لهم فيها أصولاً هم واضعوها من امتناع تكلمه تعالى بالحروف، وامتناع قيام الصفات الاختيارية بذاته مما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال والكلام وغير ذلك (4) فأصبح بعد ذلك قدوة وإماماً لمن جاء بعده من هذا الصنف الذين أثبتوا الصفات وناقضوا نفاتها، لكن شاركوهم في بعض أصولهم الفاسدة التي أوجبت فساد بعض ما قالوه من جهة المعقول ومخالفته لسنة الرسول.)) (5)
فابن كلاب أحدث مذهباً جديداً، فيه ما يوافق السلف وفيه ما يوافق المعتزلة والجهمية. وبذلك يكون قد أسس مدرسة ثالثة وهي مدرسة «الصفاتية» التي اشتهرت بمذهب الإثبات، لكن في أقوالهم شيء من أصول الجهمية (1)
وقد سار على هذا النهج القلانسي، والأشعري، والمحاسبي، وغيرهم، وهؤلاء هم سلف الأشعري والأشاعرة القدماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقته هو وأئمة أصحابه، كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي، وأبي سليمان الدمشقي، وأبي حاتم البستي)) (2)
فابن كلاب هو إمام الأشعرية الأول، وكان أكثر مخالفة للجهمية، وأقرب إلى السلف من الأشعري (3) .
ولكن هذا النهج الكلابي ابتعد شيئاً فشيئاً عن منهج السلف، وأصبح يقرب أكثر فأكثر إلى نهج المعتزلة وذلك على يد وارثيه من الأشاعرة.
فابن كلاب كما أسلفنا كان أقرب إلى السلف من أبي الحسن الأشعري، وأبو الحسن الأشعري أقرب إلى السلف من القاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي أبو بكر وأمثاله أقرب إلى السلف من أبي المعالي الجويني وأتباعه (4)
ولهذا يوجد في كلام الرازي والغزالي ونحوهما من الفلسفة مالا يوجد في كلام أبي المعالي الجويني وذويه، ويوجد في كلام الرازي والغزالي والجويني من مذهب النفاة المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وقدماء أصحابه، ويوجد في كلام أبي الحسن الأشعري من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقه.
ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة. وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل إلى هذا المآل والسعيد من لزم السنة (5) .
وقد تلاشت الكلابية كفرقة، لكن أفكارها حملت بواسطة الأشاعرة، فقد احتفظ الأشعري وقدماء أصحابه بأفكار الكلابية ونشروها، وبذلك اندرست المدرسة الكلابية الأقدم تاريخاً والأسبق ظهوراً في الأشعرية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والكلابية هم مشايخ الأشعرية، فإن أبا الحسن الأشعري إنما اقتدى بطريقة أبي محمد بن كلاب، وابن كلاب كان أقرب إلى السلف زمناً وطريقة. وقد جمع أبو بكر بن فورك (ت406هـ) كلام ابن كلاب والأشعري وبين اتفاقهما في الأصول)) (1) .
فالكلابية أسبق في الظهور من الأشاعرة والماتريدية، فقد نشأت الكلابية في منتصف القرن الثالث، وهي أول الفرق الكلامية بعد الجهمية والمعتزلة، فقد توفي ابن كلاب سنة (243هـ)، وفي أول القرن الرابع الهجري نشأت بقية فرق أهل الكلام وهم الأشاعرة المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة (324هـ) والماتريدية: أتباع أبي منصور الماتريدي المتوفى سنة (333هـ) وهي الفرق القائمة حتى زماننا هذا.
(2)
- الأشعرية:
يُعَدُّ أبو الحسن الأشعري إمتداداً للمذهب الكلابي فأبو الحسن الأشعري الذي عاش في الفترة ما بين (260هـ-324هـ) كان معتزلياً إلى سن الأربعين، حيث عاش في بيت أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في البصرة، ثم رجع عن مذهب المعتزلة وسلك طريقة ابن كلاب وتأثر بها مدة طويلة، ولعل السبب في ذلك أنه وجد في كتب ابن كلاب وكلامه بغيته من الرد على المعتزلة وإظهار فضائحهم وهتك أستارهم، وكان ابن كلاب قد صنف مصنفات رد فيها على الجهمية والمعتزلة وغيرهم. ولكن فات الأشعري أن ابن كلاب وإن رد على المعتزلة وكشف باطلهم وأثبت لله تعالى الصفات اللازمة، لكنه وافقهم في إنكار الصفات الاختيارية التي تتعلق بمشيئته تعالى وقدرته، فنفى كما نفت المعتزلة أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته. كما نفى أيضاً الصفات الاختيارية مثل الرضى، والغضب، والبغض، والسخط وغيرها.
وقد مضى الأشعري في هذا الطور نشيطاً يؤلف ويناظر ويلقي الدروس في الرد على المعتزلة سالكاً هذه الطريقة.
ثم التقى بزكريا بن يحيى الساجي فأخذ عنه ما أخذ من أصول أهل السنة والحديث (1) ، وكان الساجي شيخ البصرة وحافظها (2) ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى وذلك بآخر أمره.
ولكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة واعتقد أنه يمكنه الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة، كما فعل في مسألة الرؤية والكلام، والصفات الخبرية وغير ذلك (3) .
وقال عنه السجزي: ((رجع في الفروع وثبت في الأصول)) (4) أي أصول المعتزلة التي بنوا عليها نفي الصفات، مثل دليل الأعراض وغيره (5) .
وقال ابن تيمية: ((أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَاّب البصري، وأبو الحسن الأشعري كانا يخالفان المعتزلة ويوافقان أهل السنة في جمل أصول السنة. ولكن لتقصيرهما في علم السنة وتسليمهما للمعتزلة أصولاً فاسدة، صار في مواضع من قوليهما مواضع فيها من قول المعتزلة ما خالفا به السنة، وإن كانا لم يوافقا المعتزلة مطلقاً)) (6) .
وقال أيضاً: ((والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الأجسام، وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشأها ويختارها، وأمثال ذلك)) (7) وقد مرت الأشعرية بأطوار ومراحل كان أولها زيادة المادة الكلامية، ثم الجنوح الكبير للمادة الاعتزالية، ثم خلط هذه العقيدة بالمادة الفلسفية.
((فالأشعرية المتأخرة مالوا إلى نوع من التجهم بل الفلسفة وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه)) (8) .
فقدماء الأشاعرة يثبتون الصفات الخبرية بالجملة، كأبي الحسن الأشعري وأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي إسحاق الاسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي وغير هؤلاء (1) .
لكن المتأخرين من أتباع أبي الحسن الأشعري كأبي المعالي الجويني وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية، وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما.
ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى الله تعالى.
وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه. فهؤلاء يقولون تأويلها بما يقتضي نفيها تأويل باطل، فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة (2) .
وهذا الاضطراب في العقيدة الأشعرية بين المتقدمين والمتأخرين سببه ما أسلفنا من ميل الأشاعرة بأشعريتهم إلى الاعتزال أكثر فأكثر بل إنهم خلطوا معها الفلسفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فالأشعرية وافق بعضهم المعتزلة في الصفات الخبرية، وجمهورهم وافقهم في الصفات الحديثية، وأما الصفات القرآنية فلهم قولان:
فالأشعري والباقلاني وقدماؤهم يثبتونها، وبعضهم يقر ببعضها، وفيهم تجهم من جهة أخرى.
فإن الأشعري شرب كلام الجبائي شيخ المعتزلة، ونسبته في الكلام إليه متفق عليها عند أصحابه وغيرهم.
وابن الباقلاني أكثر إثباتاً بعد الأشعري، وبعد ابن الباقلاني ابن فورك، فإنه أثبت بعض ما في القرآن.
وأما الجويني ومن سلك طريقته فمالوا إلى مذهب المعتزلة فإن أبا المعالي كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم، قليل المعرفة بالآثار، فأثر فيه مجموع الأمرين (3) .
فما إن جاء أبوبكر الباقلاني (ت403هـ) ، فتصدى للإمامة في تلك الطريقة وهذبها ووضع لها المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية من حيث وجوب الإيمان بها (1) وأسهم إلى حد كبير في تنظير المذهب الأشعري الكلامي وتنظيمه مما أدى إلى تشابه منهجي بين المذهب الأشعري والمذهب المعتزلي فقد كان الأشعري يجعل النص هو الأساس والعقل عنده تابع، أما الباقلاني فالعقيدة كلها بجميع مسائلها تدخل في نطاق العقل (2) ويعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري (3) .
ثم جاء بعده إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) فاستخدم الأقيسة المنطقية في تأييد هذه العقيدة، وخالف الباقلاني في كثير من القواعد التي وضعها. وإن كان الجويني قد استفاد أكثر مادته الكلامية من كلام الباقلاني، لكنه مزج أشعريته بشيء من الاعتزال استمده من كلام أبي هاشم الجبائي المعتزلي على مختارات له، وبذلك خرج عن طريقة القاضي وذويه في مواضع إلى طريقة المعتزلة.
وأما كلام أبي الحسن الأشعري فلم يكن يستمد منه، وإنما ينقل كلامه مما يحكيه عنه الناس (4) وعلى طريقة الجويني اعتمد المتأخرون من الأشاعرة، كالغزالي (ت505هـ) وابن الخطيب الرازي (ت606هـ) وخلطوا مع المادة الاعتزالية التي أدخلها الجويني مادة فلسفية، وبذلك ازدادت الأشعرية بعداً وانحرافاً.
فالغزالي مادته الكلامية من كلام شيخه الجويني في "الإرشاد" و"الشامل" ونحوهما مضموماً إلى ما تلقاه من القاضي أبي بكر الباقلاني. ومادته الفلسفية من كلام ابن سينا، ولهذا يقال أبو حامد أمرضه الشفا، ومن كلام أصحاب رسائل إخوان الصفا ورسائل أبي حيان التوحيدي ونحو ذلك.
وأما الرازي فمادته الكلامية من كلام أبي المعالي والشهرستاني فإن الشهرستاني أخذه عن الأنصاري النيسابوري عن أبي المعالي، وله مادة اعتزالية قوية من كلام أبي الحسين البصري (ت436هـ) . وفي الفلسفة مادته من كلام ابن سينا والشهرستاني ونحوهما (1) والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام وجبرية في باب القدر، وأما الصفات فليسوا جهمية محضة بل فيهم نوع من التجهم، ولا يرون الخروج على الأئمة بالسيف موافقة لأهل الحديث وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى أهل السنة والحديث (2) .
والأشاعرة يخالفون أهل السنة في الكثير من مسائل الاعتقاد ومنها على سبيل المثال:
1-
أن مصدر التلقي عندهم في قضايا الإلهيات (أي التوحيد) والنبوات هو العقل وحده، فهم يقسمون أبواب العقيدة إلى ثلاثة أبواب: إلهيات، نبوات، سمعيات، ويقصدون بالسمعيات ما يتعلق بمسائل اليوم الآخر من البعث والحشر والجنة والنار وغير ذلك. وسموها سمعيات لأن مصدرها عندهم النصوص الشرعية وأما ما عداها أي الإلهيات والنبوات فمصدرهم فيها العقل.
2-
زعمهم أن الإيمان هو مجرد التصديق، فأخرجوا العمل من مسمى الإيمان.
3-
بناءً على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا توحيد الألوهية من تقسيمهم للتوحيد، فالتوحيد عندهم هو أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا نظير له. وهذا التعريف خلا من الإشارة إلى توحيد الألوهية، فلذلك فإن أي مجتمع أشعري تجد فيه توحيد الإلهية مختلاً، وسوق الشرك والبدعة رائجة لأن الناس لم يعلموا أن الله واحد في عبادته لا شريك له.
4-
وبناءً -كذلك- على تعريفهم للإيمان فقد أخرجوا الاتباع من تعريفهم للإيمان بالنبي ش فحصروا الإيمان بالنبي في الأمور التصديقية فقط، ومن أجل ذلك انتشرت البدع في المجتمعات الأشعرية.
5-
خالفوا أهل السنة في أسماء الله وصفاته وهذا سيأتي بيانه.
6-
خالفوا أهل السنة في باب القدر، فقولهم موافق لقول الجبرية.
7-
خالفوا أهل السنة في مسألة رؤية الله من جهة كونهم يقولون يرى لا في مكان.
8-
خالفوا أهل السنة في مسألة الكلام، فهم لا يثبتون صفة الكلام على حقيقتها بل يقولون بالكلام النفسي.
إلى غير ذلك من أنواع المخالفات.
(3)
- الماتريدية:
تعد الماتريدية شقيقة الأشعرية، وذلك لما بينهما من الائتلاف والإتفاق حتى لكأنهما فرقة واحدة، ويصعب التفريق بينهما. ولذلك يصرح كل من الأشاعرة والماتريدية بأن كلاً من أبى الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي هما إماما أهل السنة على حد تعبيرهم (1) .
ولعل هذا التوافق مع كونه يرجع إلى سبب رئيس هو توافق أفكار الفرقتين وقلة المسائل الخلافية بينهما خاصة مع الأشعرية المتأخرة، هناك أسباب مهمة يرجع إليها يجب اعتبارها وأخذها في الحسبان ولعل أهمها التزامن في نشأة الفرقتين مع كون كل فرقة استقلت بأماكن نفوذ لم تنازعها فيها الفرقة الأخرى. فالماتريدية انتشرت بين الأحناف الذين كانوا متواجدين في شرق العالم الإسلامي وشماله فقل أن تجد حنفياً على عقيدة الأشاعرة إلا ما ذكر من أن أبا جعفر السمناني وهو حنفي، كان أشعرياً.
بينما نجد الأشعرية قد انتشرت بين الشافعية والمالكية وهم اليوم يتواجدون في وسط وغرب وجنوب وجنوب شرق العالم الإسلامي، فجل الشافعية والمالكية على الأشعرية.
والماتريدية تنسب إلى أبي منصور محمد بن محمد بن محمود بن محمد الماتريدي المتوفى سنة (333هـ)(2) كان معدوداً في فقهاء الحنفية، وكان صاحب جدل وكلام ولم يكن له دراية بالسنن والآثار (3) ، وقد نهج منهجاً كلامياً في تقرير العقيدة يشابه إلى حد كبير منهج متأخري الأشاعرة، وعداده في أهل الكلام من الصفاتية من أمثال ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأمثالهما.
وقد تابع الماتريدي ابن كلاب في مسائل متعددة من مسائل الصفات وما يتعلق بها (4) .
ومن المعلوم أن الأحناف وأهل المشرق عموماً كانوا من أسبق الناس تأثراً بعلم الكلام، فقد كانت بداية الجهم من تلك الجهات، وفي هذا يقول الإمام أحمد في معرض كلامه عن الجهم:((وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة..)) (1) .
فبشر بن غياث المريسي (228هـ) والقاضي أحمد بن أبي دؤاد (240هـ) وغيرهما كانوا من الأحناف، فلا غرابة أن يكون الماتريدي الحنفي من أولئك الذين ناصروا علم الكلام وسعوا في تأسيسه وتقعيده، إلى أن أصبح علماً من أعلامه وصاحب إحدى مدارس الكلام التي صارت فيما بعد تعرف باسمه.
فالماتريدي لا يبعد كثيراً عن أبي الحسن الأشعري (في طوره الثاني) فهو خصم لدود للمعتزلة، إلا أنه كان متأثراً بالمنهج الكلامي على طريقة ابن كلاب من الاعتماد على المناهج الكلامية في تقرير المسائل الاعتقادية شأنه في ذلك شأن أبي الحسن الأشعري، فكلاهما يُعَدُّ امتداداً لمدرسة ابن كلاب التي عرفت كمدرسة ثالثة بعد أن كان الخلاف دائراً بين أهل السنة والجماعة من جهة، والجهمية والمعتزلة من جهة أخرى، فجاء ابن كلاب وأحدث منهجاً ثالثاً حاول فيه التلفيق بين النصوص الشرعية والمناهج الكلامية كما سبق الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن الكلابية.
فالمذهب الكلابي كان له وجوده في العراق والري وخراسان وكان له انتشار في بلاد ما وراء النهر التي كانت تغص بمختلف الطوائف والفرق (2) .
ولم تتعرض الماتريدية للتطور الذي حصل على العقيدة الأشعرية والذي سبق بيانه في الحديث عن الأشعرية فالماتريدية بقيت على ما كانت عليه.
المطلب الثاني: مواقفهم من توحيد الأسماء والصفات.
1 الجهمية:
أتباع الجهم بن صفوان وهم ينفون جميع الأسماء والصفات
أما في أسماء الله عز وجل فقد عرف عن الجهم بن صفوان أنه له مسلكان:
الأول: نفيه جميع الأسماء الحسنى عن الله عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((جهم كان ينكر أسماء الله تعالى فلا يسميه شيئاً لا حيا ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز)) (1)
الثاني: أن الله يسمى باسمين فقط هما "الخالق" و"القادر".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((كان الجهم وأمثاله يقولون: إن الله ليس بشيء، وروي عنه أنه قال: لا يسمى باسم يسمى به الخلق، فلم يسمه إلا "بالخالق" و"القادر" لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له)) (2) .
وقال رحمه الله: ((ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمى الله بشيء، ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمى بها الخلق: كالحي، والعالم، والسميع، والبصير، بل يسميه قادراً خالقاً، لأن العبد عنده ليس بقادر، إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية)) (3) .
وأما في صفات الله عز وجل فالجهمية ينفون جميع الصفات ولا يصفون الله إلا بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون له إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان (4) فهؤلاء وصفوه بالأسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات (5) .
2 المعتزلة ومن وافقهم:
ومعهم النجارية والضرارية والرافضة الإمامية والزيدية والإباضية وابن حزم وغيرهم. وهؤلاء مشتركون مع الجهمية والفلاسفة في نفي الصفات (6) وإن كان بين الفلاسفة والمعتزلة نوع فرق (7) فالمعتزلة تجمع على غاية واحدة وهي نفي إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها. ولكنهم سلكوا طريقين في موقفهم من الصفات.
الطريق الأول: الذي عليه أغلبيتهم وهو نفيها صراحة فقالوا: إن الله عالم بذاته لا بعلم وهكذا في باقي الصفات.
والطريق الثاني: الذي عليه بعضهم وهو إثباتها اسماً ونفيها فعلاً فقالوا: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته وهكذا بقية الصفات، فكان مجتمعاً مع الرأي الأول في الغاية وهي نفي الصفات.
والمقصود بنفي الصفات عندهم: هو نفي إثباتها حقيقة في الذات ومتميزة عنها، وذلك أنهم يجعلونها عين الذات فالله عالم بذاته بدون علم أو عالم بعلم وعلمه ذاته (1) .
وهناك آراء أخرى للمعتزلة لكنها تجتمع في الغاية مع الرأيين الأولين، وهو التخلص من إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها (2) .
وهذه الآراء للمعتزلة حملها عنهم الزيدية والرافضة الإمامية (3) والإباضية. وابن تومرت (4) ، وابن حزم (5) .
فالمعتزلة يرون امتناع قيام الصفات به، لاعتقادهم أن الصفات أعراض، وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه فقالوا حينئذ إن القرآن مخلوق، وإنه ليس لله مشيئة قائمة به، ولا حب ولا بغض ونحو ذلك.
وردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف من غير قيام معنى به (6) .
3 النجارية:
وهم أتباع حسين بن محمد بن عبد الله النجار المتوفى سنة (220هجرية) تقريباً.
وكان يزعم أن الله سبحانه لم يزل جواداً بنفي البخل عنه، وأنه لم يزل متكلماً بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام، وأن كلام الله سبحانه محدث مخلوق، وكان يقول بقول المعتزلة في التوحيد، إلا في باب الإرادة والجود، وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء (7) .
4 الضرارية:
وهم أتباع ضرار بن عمرو الغطفاني المتوفى سنة (190هجرية) تقريباً وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر أنه ليس بجاهل ولا عاجز وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه)) (8) .
فكل من النجارية والضرارية يحملون النصوص الثبوتية على المعاني السلبية، كما قال البغدادي عنهم:((من غير إثبات معنى أو فائدة سوى نفي الوصف بنقيض تلك الأوصاف عنه)) (9) .
وكان الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية هم خصوم أهل السنة زمن فتنة القول بخلق القرآن (1) .
5 الكلابية وقدماء الأشاعرة ومن وافقهم (نفاة الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة) .
وهو قول الكلابية: أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وقول الحارث المحاسبي (2) وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري في طوره الثاني، وقدماء الأشاعرة كأبي الحسن الطبري والباقلاني وابن فورك، وأبي جعفر السمناني ومن تأثر بهم من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني والتميميين وغيرهم (3) .
وهؤلاء يُسَمُّون الصفاتية لأنهم يثبتون صفات الله تعالى خلافاً للمعتزلة، لكنهم لم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته (4) .
وأصلهم الذي أصَّلوه في هذا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته (5) لا فعل ولا غير فعل (6) .
والفرق بينهم وبين المعتزلة:
أن المعتزلة تقول: ((لا تحله الأعراض والحوادث)) فالمعتزلة لا يريدون [بالأعراض] الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات. ولا يريدون [بالحوادث] المخلوقات، ولا الأحداث المحيلة للمحل ونحو ذلك -مما يريده الناس بلفظ الحوادث- بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها فلا يجيزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان ولا مجيء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه.
ولكن ابن كلاب ومن وافقه خالفوا المعتزلة في قولهم: " لا تقوم به الأعراض" وقالوا: " تقوم به الصفات ولكن لا تسمى أعراضاً ".
ووافقوا المعتزلة على ما أرادوا بقولهم: لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته (7) .
ففرقوا بين الأعراض -أي الصفات- والحوادث -أي الأمور المتعلقة بالمشيئة (8) .
فالكلابية ومن تبعهم ينفون صفات أفعاله (1)، ويقولون: "لو قامت به لكان محلاً للحوادث. والحادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به (2) .
ولتوضيح قولهم نقول: إن المضافات إلى الله سبحانه في الكتاب والسنة لا تخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: إضافة الصفة إلى الموصوف
كقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء مِن علمه} [البقرة 255]، وقوله:{إن الله هو الرَّزَّاق ذو القوَّة} [الذاريات 58] ، فهذا القسم يثبته الكلابية ولا يخالفون فيه أهل السنة، وينكره المعتزلة.
والقسم الثاني: إضافة المخلوق إلى الله.
كقوله تعالى: {ناقة الله وسقياها} [الشمس 13]، وقوله تعالى:{وطهر بيتي للطائفين} [الحج 26] ، وهذا القسم لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق.
والقسم الثالث: -وهو محل الكلام هنا- ما فيه معنى الصفة والفعل.
كقوله تعالى: {وكلَّم الله موسى تكليما} [النساء 164]، وقوله تعالى:{إن الله يحكم ما يريد} [المائدة 1]، وقوله تعالى:{فَبَاءُوا بغضب على غضب} [البقرة 90] .
فهذا القسم الثالث لا يثبته الكلابية ومن وافقهم على زعم أن الحوادث لا تحل بذاته. فهو على هذا يلحق عندهم بأحد القسمين قبله فيكون:
1-
إما قديماً قائماً به.
2-
وإما مخلوقاً منفصلاً عنه.
ويمتنع عندهم أن يقوم به نعت أو حال أو فعل ليس بقديم ويسمون هذه المسألة: (مسألة حلول الحوادث بذاته)(3) وذلك مثل صفات الكلام، والرضا، والغضب، والفرح، والمجيء، والنزول والإتيان، وغيرها. وبالتالي هم يؤولون النصوص الواردة في ذلك على أحد الوجوه التالية:
1-
إرجاعها إلى الصفات الذاتية واعتبارها منها، فيجعلون جميع تلك الصفات قديمة أزلية، ويقولون: نزوله، ومجيئه وإتيانه، وفرحه، وغضبه، ورضاه، ونحو ذلك: قديم أزلي (4) وهذه الصفات جميعها صفات ذاتية لله، وإنها قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته واختياره (5) .
2-
وإما أن يجعلوها من باب «النسب» و «الإضافة» المحضة بمعنى أن الله خلق العرش بصفة تحت فصار مستوياً عليه، وأنه يكشف الحجب التي بينه وبين خلقه فيصير جائياً إليهم ونحو ذلك. وأن التكليم إسماع المخاطب فقط (1) .
فهذه الأمور من صفات الفعل منفصلة عن الله بائنة وهي مضافة إليه، لا أنها صفات قائمة به. ولهذا يقول كثير منهم: "إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات، وينكرون على من يقول آيات الصفات وأحاديث الصفات (2) .
3-
أو يجعلوها «أفعالاً محضة» في المخلوقات من غير إضافة ولا نسبة (3)
مثل قولهم في الاستواء إنه فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم بالله فعل اختياري (4) .
وكقولهم في النزول إنه يخلق أعراضاً في بعض المخلوقات يسميها نزولاً (5) .
ونفاة الصفات الاختيارية يثبتون الصفات التي يسمونها عقلية وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة، والسمع، والبصر والكلام. واختلفوا في صفة البقاء.
ويثبتون في الجملة الصفات الخبرية كالوجه، واليدين، والعين ولكن إثباتهم لها مقتصر على بعض الصفات القرآنية على أن بعضهم إثباته لها من باب التفويض.
وأما الصفات الخبرية الواردة في السنة كاليمين، والقبضة، والقدم، والأصابع فأغلب هؤلاء يتأولها (6) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه: كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي إسحاق الاسفرائيني، وأبي بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري وأبي بكر البيهقي، وغير هؤلاء. فما من هؤلاء إلا من يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله تعالى. وعماد المذهب عندهم: إثبات كل صفة في القرآن.
وأما الصفات التي في الحديث فمنهم من يثبتها ومنهم من لا يثبتها. (1) .
6-
متأخرو الأشاعرة والماتريدية (من يقول بإثبات سبع صفات فقط أو ثمان ونفي ما عداها.)
وهذا قول المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية الذين لم يثبتوا من الصفات إلا ما أثبته العقل فقط، وأما ما لا مجال للعقل فيه عندهم فتعرضوا له بالتأويل والتعطيل.
ولا يستدل هؤلاء بالسمع في إثبات الصفات، بل عارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات.
وهذا القول لمتأخري الأشاعرة إنما تلقوه عن المعتزلة، لما مالوا إلى نوع التجهم، بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه، الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل، بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع، ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، وأثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع بل ما جعله معاضداً له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل.
وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة أصحابه في هذا وهذا، فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات، وعارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات (2) .
فالصفات الثبوتية عند متأخري الأشاعرة هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام (3) وزاد الباقلاني وإمام الحرمين الجويني صفة ثامنة هي الإدراك (4) .
والصفات الثبوتية عند الماتريدية (5) هي ثمان: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام والتكوين (6) وهم قد خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها، لأنها هي التي دل العقل عليها عندهم، وأما غيرها من الصفات فإنه لا دليل عليها من العقل عندهم، فلذا قالوا بنفيها (7) .
وهؤلاء لا يجعلون السمع طريقاً إلى إثبات الصفات ولهم فيما لم يثبتوه طريقان.
1-
منهم من نفاه.
2-
ومنهم من توقف فيه فلم يحكم فيه بإثبات ولا نفي ويقولون بأن العقل دلّ على ما أثبتناه ولم يدل على ما توقفنا فيه (8) .
وبهذا يعلم أنه ليس عند هؤلاء من الإثبات إلا الصفات السبع التي يسمونها صفات المعاني وهي، الحياة، والعلم والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام وما عداها من الصفات الثبوتية لا يثبتونها ولهم في نصوصها أحد طريقين إما التأويل أو التفويض وفي هذا يقول قائلهم:
وكل نص أوهم التشبيها
أوِّله أو فوِّض ورم تنزيها (1)
فنصوص الصفات التي وردت في إثبات ما عدا الصفات السبع التي يثبتونها، يسمونها نصوصاً موهمة للتشبيه، فهم يصرفونها عن ظاهرها، ولكنهم تارة يعينون المراد كقولهم استوى: استولى، واليد: بمعنى النعمة والقدرة؛ وتارة يفوضون فلا يحددون المعنى المراد ويكلون علم ذلك إلى الله عز وجل. ولكنهم يتفقون على نفي الصفة لأن ناظمهم يقول: (ورم تنزيهاً) وشارح الجوهرة يقول: (أو فوض) أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوض المراد من النص الموهم إليه تعالى (2) .
فهم بذلك متفقون على نفي تلك الصفات، ويخيرون في تحديد المعنى المراد أو السكوت عن ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات -أي الصفات الخبرية- موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان:
أحدهما: تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد.
والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في "الرسالة النظامية" وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب.
ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات. ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي)) (3) .
الفصل الثالث: المشبهة وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: من عرف بالتشبيه وبيان أقوالهم
من المعلوم أن توحيد الأسماء والصفات له ضدان هما:
1-
التعطيل
…
... 2- التمثيل
ولذلك ذم السلف والأئمة، المعطلة النفاة للصفات، وذموا المشبهة أيضاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((إن السلف والأئمة كثر كلامهم في ذم الجهمية النفاة للصفات، وذموا المشبهة أيضاً وذلك في كلامهم أقل بكثير من ذم الجهمية، لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه)) .
وتقوم عقيدة أهل التمثيل على دعواهم أن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة، فشبهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، فقالوا له يد كيدي، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
لكن المشبهة لا يمثلون الخالق بالمخلوق من كل وجه وإنما قالوا بإثبات التماثل من وجه والاختلاف من وجه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وقدم كقدمي، وبصر كبصري، مقالة معروفة، وقد ذكرها الأئمة كيزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وغيرهم، وأنكروها وذموها، ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله. ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الأجسام، بل ببعضها، ولابد مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه، لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات كانوا مبطلين على كل حال)) (1) .
وأكثر من عرف بمقالة التشبيه
أولاً: قدماء الرافضة:
فأول من تكلم في التشبيه هم طوائف من الشيعة (2) وإن التشبيه والتجسيم المخالف للعقل والنقل لا يُعرف في أحد من طوائف الأمة أكثر منهم في طوائف الشيعة.
وهذه كتب المقالات كلها تخبر عن أئمة الشيعة المتقدمين من المقالات المخالفة للعقل والنقل في التشبيه والتجسيم بما لا يعرف نظيره عن أحد من سائر الطوائف.
وقدماء الإمامية ومتأخروهم متناقضون في هذا الباب، فقدماؤهم غلو في التشبيه والتجسيم، ومتأخروهم غلو في النفي والتعطيل)) (3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فهذه المقالات التي نقلت في التشبيه والتجسيم لم نر الناس نقلوها عن طائفة من المسلمين أعظم مما نقلوها عن قدماء الرافضة. ثم الرافضة حُرِموا الصواب في هذا الباب كما حُرِموه في غيره، فقدماؤهم يقولون بالتجسيم الذي هو قول غلاة المجسمة، ومتأخروهم يقولون بتعطيل الصفات موافقة لغلاة المعطلة من المعتزلة ونحوهم، فأقوال أئمتهم دائرة بين التعطيل والتمثيل، لم تعرف لهم مقالة متوسطة بين هذا
وهذا)) (1) .
وأما قدماؤهم فهم:
1-
البيانية: من غلاة الشيعة وهم أتباع بيان بن سمعان التيمي الذي كان يقول: إن الله على صورة الإنسان وإنه يهلك كله إلا وجهه، وادعى بيان أن يدعو الزُهَرَة فتجيبه، وأنه يفعل ذلك بالاسم الأعظم، فقتله خالد بن عبد الله القسري (2) .
2-
المغيرية: وهم أصحاب المغيرة بن سعيد، ويزعمون أنه كان يقول إنه نبي وإنه اسم الله الأكبر وإن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج، وله من الأعضاء والخلق مثل ما للرجل، وله جوف وقلب تنبع منه الحكمة، وإن حروف (أبي جاد) على عدد أعضائه، قالوا: والألف موضع قدمه لاعوجاجها، وذَكَرَ الهاءَ فقال: لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمراً عظيما يعرِّض لهم بالعورة وبأنه قد رآه، لعنه الله وأخزاه (3) .
3-
الهشامية: ويسمون بالهشامية نسبة إلى هشام بن الحكم الرافضي وأحياناً تنسب إلى هشام بن سالم الجواليقي وكلاهما من الإمامية المشبهة والجدير بالذكر أن الرافضة الإمامية كان ينتشر فيهم التشبيه وهذا في أوائلهم (4) .
4-
الجواربية: أتباع داود الجواربي الذي وصف معبوده بأن له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية (5) .
وقال: ((اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك)) (6) . تعالى الله عما يقوله علواً كبيراً.
وقال الأشعري في المقالات: ((وقال داود الجواربي: إن الله جسم، وإن له جُثةً وإنه على صورة الإنسان له لحم ودم وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين، وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره)) (1) .
وحكي عن داود الجواربي أنه كان يقول: إنه أجوف من فِيهِ إلى صدره، مُصْمَتٌ ما سوى ذلك (2) .
قال أبو الحسن الأشعري في كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين": ((اختلف الروافض وأصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق:
فالفرقة الأولى: (الهشامية) ، أصحاب هشام بن الحكم الرافضي.
يزعمون أن معبودهم جسم، وله نهاية وحَدٌ، طويل، عريض، عميق، طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، لا يُوفي بعضه على بعض، وزعموا أنه نور ساطع، له قدر من الأقدار، في مكان دون مكان، كالسبيكة الصافية، يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها، ذو لون وطعم، ورائحة، ومجسَّة، لونه هو طعمه، وطعمه هو رائحته)) وذكر كلاماً طويلاً.
وذكر عن هشام أنه قال في ربه في عام واحد خمسة أقاويل، زعم مرة أنه كالبلورة، وزعم مرة أنه كالسبيكة، وزعم مرة أنه غير صورة، وزعم مرة أنه بشبر نفسه سبعة أشبار ثم رجع عن ذلك وقال: هو جسم لا كالأجسام.
الفرقة الثانية: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام، وإنما يذهبون في قولهم: إنه جسم، إلى أنه موجود، ولا يثبتون الباري ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف.
الفرقة الثالثة: من الرافضة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، ويمنعون أن يكون جسماً.
الفرقة الرابعة: من الرافضة (الهشامية) أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً ودماً ويقولون هو نور ساطع يتلألأ بياضاً، وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان، له يد، ورجل وأنف، وأذن، وعين، وفم، وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عنده، وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وَفْرَة (1) سوداء وأن ذلك نور أسود.
الفرقة الخامسة: يزعمون أن لرب العالمين ضياءً خالصاً، ونوراً بحتاً، وهو كالمصباح الذي من حيث جئته يلقاك بأمر واحد، وليس بذي صورة ولا أعضاء، ولا اختلاف في الأجزاء، وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان.
الفرقة السادسة: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس، وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج، وهؤلاء قوم من متأخريهم، فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه.
قال شيخ الإسلام: ((وأما متأخروهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم)) (2) .
وقال أيضاً: ((وكتب الشيعة مملوءة بالاعتماد في ذلك -يعنى مسائل الصفات والقدر- على طرق المعتزلة وهذا كان في أواخر المائة الثالثة، وكثر في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي والطوسي.
وأما قدماء الشيعة فالغالب عليهم ضد هذا القول، كما هو قول الهشامية وأمثالهما.
فالرافضة الإمامية وكذلك الزيدية على عقيدة المعتزلة في مسائل الصفات إلى يومنا هذا.
ثانياً:غلاة المتصوفة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((قال الأشعري: وفي الأمة قوم ينتحلون النسك، يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام، وإذا رأوا شيئاً يستحسنونه قالوا: لا ندري، لعله ربنا.
ومنهم من يقول: إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال، فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن.
ومنهم من يجوِّز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا، ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض: لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح.
وكان من الصوفية رجل يُعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه، ويغتم ويحزن إذا عَصَوْهُ.
وفي النسَّاك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم فيها العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم - من الزنا وغيره - مباحات لهم. وفيهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يروا الله، ويأكلوا من ثمار الجنة ويعانقوا الحور العين في الدنيا، ويحاربوا الشياطين.
ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين (1) .
قلت: هذه المقالات التي حكاها الأشعري -وذكروا أعظم منها- موجودة في الناس قبل هذا الزمان. وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة، ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله، ومن هؤلاء من يسجد للأمرد. ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام، لكنه يتعبد بمظاهر الجمال، لما في ذلك من اللذة له فيتخذ إلهه هواه، وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف. ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقاً ولا يعيِّن الصورة الجميلة، بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة. ومنهم من يقول: إن المواضع المخضرَّة خطا عليها، وإنما اخضرت من وطئه عليها، وفي ذلك حكايات متعددة يطول وصفها. وأما القول بالإباحة وحل المحرمات -أو بعضها- للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول، فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة، ولهذا يُضرب بهم المثل فيقال: فلان يستحل دمي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع، وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام، وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء، موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر.
ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة، وهي - وأشنع منها- موجودة في الشيعة.
وكثير من النسَّاك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم، وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار ما يغيب به عن حسه الظاهر، حتى يظن أن ذلك شيء يراه بعينه الظاهرة، وإنما هو موجود في قلبه.
ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية ويخاطبها أيضاً بذلك، ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه، وإنما هو موجود في نفسه، كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله. فهذه الأمور تقع كثيراً في زماننا وقبله، ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج.
وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان، ويرى نوراً أو عرشاً أو نوراً على العرش، ويقول: أنا ربك. ومنهم من يقول: أنا نبيك، وهذا قد وقع لغير واحد. ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك، ويكون المخاطب له جنيا، كما قد وقع لغير واحد. لكن بسط الكلام على ما يُرى ويُسمع وما هو في النفس والخارج، وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه، وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع. وكثير من الجهَّال أهل الحال وغيرهم يقولون: إنهم يرون الله عياناً في الدنيا، وأنه يخطو خطوات)) (1) .
((فأدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله، حتى قالوا: إنه يُرى في الدنيا بالأبصار، ويصافح، ويعانق، وينزل إلى الأرض، وينزل عشية عرفة راكباً على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان، وقال بعضهم: إنه يندم ويبكى ويحزن وعن بعضهم أنه لحم ودم، ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين. والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين، وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص، والله تعالى منزَّه عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال، وليس له مثل في شيء من صفات الكمال، فهو منزه عن النقص مطلقاً، ومنزه في الكمال أن يكون له مثل، كما قال تعالى {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يلد ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص 1-4] ، فبين أنه أحدٌ صمدٌ، واسمه الأحد يتضمن نفي المثل، واسمه الصمد يتضمن جميع صفات الكمال كما قد بيَّنا ذلك في الكتاب المصنَّف في تفسير قل هو الله أحد)) (2) .
وهذه القول توضح بجلاء تخبط بعض المتصوفة في هذا الباب، وهذا الشر إنما دخل على أكثرهم بسبب المنهج الباطني الذي تقوم عليه المبادئ الصوفية، والتي يُهمل فيها الجانب العلمي المعتمد على النصوص الشرعية، فالتصوف في مبادئه يقوم على الجانب العملي المنحرف عن نصوص الوحي، والمعتمد على بعض الرياضات النفسية والجسمية التي أحدثها أرباب هذا المنهج، والتي يتولد عنها الكثير من الأمور الفاسدة، كزعمهم رؤية الله عياناً وسقوط الشرائع والأحكام عنهم وغير ذلك مما تقدم ذكره، وذلك في حقيقته إنما هو من استدراج الشيطان لهم فهو الذي يخيل لهم مثل تلك الأمور، ولو كان عند هؤلاء فقه في دين الله ومعرفة للنصوص لعلموا أن ذلك لا صحة له.
المبحث الثاني: من نُسب إلى التشبيه
وفيه مطلبان
المطلب الأول: الفرق بين التشبيه والتجسيم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام، والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر.
فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وبصر كبصري، وقدم كقدمي.
وقد قال تعالى: {ليس كمثله شيء} [الشورى 11]، وقال تعالى: {ولم يكن له كفواً
أحد} [الإخلاص 4]، وقال:{هل تعلم له سميا} [مريم 65]، وقال تعالى:{فلا تجعلوا لله أنداداً} [البقرة 22] ، وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض، وأما الكلام في الجسم والجوهر، ونفيهما أو إثباتهما، فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك نفياً ولا إثباتاً.
والنزاع بين المتنازعين في ذلك: بعضه لفظي، وبعضه معنوي. أخطأ هؤلاء من وجه وأخطأ هؤلاء من وجه.
فإن كان النزاع مع من يقول: هو جسم أو جوهر، إذا قال: لا كالأجسام ولا كالجواهر، وإنما هو في اللفظ.
فمن قال: هو كالأجسام والجواهر، يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى.
فإن فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى، كان قوله مردوداً.
وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فكل قول تضمن هذا فهو باطل.
وإن فسر قوله: جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر، مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين، كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه.
فلابد أن يلحظ في هذا إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أو لا، وذلك مثل أن يقول: أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر، كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات، وبين كل حي عليم سميع بصير، وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات، وإلا فلو قال الرجل: هو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين، وعليم لا كالعلماء، وسميع لا كالسمعاء، وبصير لا كالبصراء، ونحو ذلك، وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين، فقد أصاب.
وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك، مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه وهو من صفات كماله، فقد أخطأ.
إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته، يقع من جهة المعنى في شيئين: أحدهما: أنهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين.
فمن قال بتماثلها، قال: كل من قال: إنه جسم لزمه التمثيل.
ومن قال إنها لا تتماثل، قال: إنه لا يلزمه التمثيل.
ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة، بحسب ما ظنوه لازماً لهم، كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة، حتى سموا جميع المثبتة للصفات مشبهة ومجسمة وحشوية، وغثاء، وغثراء، ونحو ذلك، بحسب ما ظنوه لازماً لهم.
لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم، لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له، سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة، بل إن كانت لازمة مع فسادها، دل على فساد قوله)) (1) .
ومن كلام شيخ الإسلام هذا يفهم الفرق بين اللفظين، فلفظ التمثيل والتشبيه نفيه ثابت في الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة.
أما لفظ التجسيم فإنه من الألفاظ المحدثة المجملة التي لا بد من الاستفصال عن مراد صاحبها قبل الحكم عليها كما بيَّن شيخ الإسلام هنا.
ويترتب على ذلك أن بعض الفرق التي رميت بالتجسيم قد لا يكون مقصودها التشبيه والتمثيل المذموم ولذلك لا يصح رميها بالتمثيل والتشبيه، فهي لا تذم من هذا الوجه، وإن كان الذم قد يلحقها من وجه آخر كتوسعها في استعمال هذه الألفاظ المحدثة، وهذا ما سيأتي بيانه في المطلب التالي.
المطلب الثاني: من نسب إلى التشبيه
1-
الكرامية (1) هم أتباع محمد بن كرام بن عراق بن حزبة السجستاني المتوفى سنة (255هـ) .
وهم في باب الصفات يثبتونها ولكنهم خالفوا أهل السنة في مسألتين:
المسألة الأولى:
أنهم يبالغون في الإثبات ويخوضون في شأن الكيفية، ودخل عليهم ذلك من جهة إطلاقهم لألفاظ مبتدعة كلفظ (الجسم) و (المماسة) .
ومن بدع الكرامية أنهم يقولون في المعبود إنه جسم لا كالأجسام (2) .
ومن بدعهم قولهم: إن الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكنا (3) .
ويقولون: إن الله جسم قديم أزلي، وإنه لم يزل ساكناً ثم تحرك لما خلق العالم، ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة، فهي تقبل الاجتماع والافتراق، ولا تخلو من اجتماع وافتراق، وهي أعراض حادثة لا تخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق، ولكنه لم يزل ساكناً. والسكون عندهم أمر عدمي، وهو عدم الحركة عمَّا من شأنه أن يتحرك، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة. وهؤلاء يقولون: إن الباري لم يزل خالياً من الحوادث حتى قامت به، بخلاف الأجسام المركَّبة من الجواهر المفردة، فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق (4) .
ويقولون: إن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم، ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك (1) .
ويقول ابن كرام: إن الله مماس للعرش من الصفحة العليا (2) .
ويقول كذلك: له حد من الجانب الذي ينتهي إلى العرش ولا نهاية له (3) .
وقد غالى أتباع ابن كرام في شأن الكيفية فزعم بعضهم أنه تعالى على بعض أجزاء العرش (4) .
وادعى بعضهم أن العرش امتلأ به بحيث لا يزيد على عرشه من جهة المماسة، ولا يفضل منه شيء على العرش (5) .
المسألة الثانية:
إن الكرامية يثبتون الصفات بما فيها أن الله تعالى تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك عندهم حادث بعد أن لم يكن، أنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا: لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها، فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.
فعندهم أن الله يتكلم بأصوات تتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه تقوم به الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته، لكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأن الله في الأزل لم يكن متكلماً إلا بمعنى القدرة على الكلام، وأنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك (6) .
ومعلوم أن عقيدة السلف تقوم على إثبات جميع الصفات الذاتية منها والفعلية، وأثبتوا أن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة (7) .
2-
مقاتل بن سليمان (8)
نُسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر أنه من المشبهة وذكروا أنه هو الذي قال فيه الإمام أبو حنيفة: أتانا من المشرق رأيان خبيثان؛ جهم معطل، ومقاتل مشبه)) (9) .
وقال ابن حبان: ((كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي وافق كتبهم، وكان يشبه الرب بالمخلوقات وكان يكذب في الحديث)) (10) .
وقال أبو الحسن الأشعري في "المقالات": ((وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان: إن الله جسم وإنه جثة على صورة الإنسان لحمٌ ودمٌ وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره)) (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله. والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان، فلعلهم زادوا في النقل عنه، أو من نقلوا عنه، أو نقلوا عن غير ثقة، وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد. وقد قال الشافعي: من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل (2) ، ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث -بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة- لكن لا ريب في علمه في التفسير وغيره واطلاعه، كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء وأنكروها عليه، فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه، وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه، وهي كذب عليه قطعاً، مثل مسألة الخنزير البري ونحوها وما يبعد أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب)) (3) .
• • •
الخاتمة:
دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وقد عُرف عن أهل السنة وسطيتهم في جميع أمور الدين بما في ذلك مسائل العقيدة، والتي من بين أهم مسائلها مسألة الإيمان بأسماء الله وصفاته، وقد تبين من خلال ما تقدم عرضه في ثنايا البحث وسطية أهل السنة في هذا الباب بين الغلاة من المشبهة، والجفاة من المعطلة. الأمر الذي يشهد لمنهج أهل السنة والجماعة بأنه المنهج الأسلم والأعلم والأحكم، وذلك لموافقته لنصوص الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح من هذه الأمة. وبحمد الله كان متمسك أهل السنة في هذا الباب وغيره من مسائل الدين بهذه الأصول الثابتة التي بها يفصل النزاع بين الناس، فالناس لا يفصل بينهم النزاع إلا الشرع المنزل، فلا يمكن الفصل بينهم بالرد إلى عقولهم وأهوائهم، إذ لكل واحد منهم عقله وهواه، ولو تركوا لعقولهم لزعم كل واحد منهم أن عقله أداه إلى ما ينازعه فيه الآخر.
ومن المعلوم أن العقل المجرد لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات على وجه التفصيل، فوجب الرجوع في علم ذلك على النصوص القرآن والسنة.
فمن فضل الله ونعمته أن تَعَرَّف لعباده عن طريق ما أخبر به من أسمائه وصفاته الواردة في القرآن والسنة، فهما مليئان بالنصوص الصريحة الدالة على أسمائه وصفاته، وتلك النصوص هي من الوضوح والكثرة بمكان بحيث يستحيل إنكارها وتأويلها والتلاعب بنصوصها. وكلما ازداد المسلم إطلاعاً ومعرفة بتلك النصوص وما دلت عليه، لم يزده إنكار أهل الباطل لها إلا احتقاراً لهم ويقيناً بفساد معتقدهم وبطلانه.
ولقد جاءت رسالة النبي (بإثبات الأسماء والصفات إثباتاً مفصلاً على وجه أزال الشبهة وكشف الغطاء، وحصل العلم اليقيني، ورفع الشك والريب فثلجت به الصدور، واطمأنت به القلوب، واستقر الإيمان في نصابه، ففصلت الأسماء والصفات والنعوت والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي، وقررت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ.
وهذه الأصول الكلية هي التي ميزت عقيدة أهل السنة عن عقائد خصومهم، فضمنت لهم بحمد الله صحة المعتقد وسلامة المنهج. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:((لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم)) (1) .
وما ضل من ضل في هذا الباب وغيره إلا بتركه لتلك الأصول الكلية التي يجب الرجوع إليها في جميع مسائل الدين كبيرها وصغيرها، فالسعيد من لزم السنة وتمسك بكتاب الله وسنة نبيه محمد (وفهم السلف الصالح.
قال الإمام أحمد: ((اعلم رحمك الله أن الخصومة في الدين ليست من طريق أهل السنة، وأن تأويل من تأول القرآن بلا سنة تدل على معنى ما أراد الله منه، أو أُثر عن أصحاب رسول الله (، ويعرف ذلك بما جاء عن النبي (أو عن أصحابه فهم شاهدوا النبي (، وشهدوا تنزيله، وما قصه الله له في القرآن، وما عنى به، وما أراد به أَخاص هو أم هو عام.
فأما من تأوله على ظاهره بلا دلالة من رسول الله (ولا أحد من الصحابة، فهذا تأويل أهل البدع؛ لأن الآية قد تكون خاصة ويكون حكمها حكماً عاماً، ويكون ظاهرها على العموم، وإنما قصدت لشيء بعينه، ورسول الله (هو المعبر عن كتاب الله وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر وما أريد بذلك)) (2) .
فهذه العبارة وما حوته من قواعد رسمت منهج أهل السنة والجماعة، ذلك المنهج الذي لم يتغير باختلاف المسائل ومرور العصور وتعدد الأجيال.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحواشي والتعليقات
وسطية أهل السنة بين الفرق ص 92-94، وكتاب لزوم الجماعة ص 276-277.
تفسير ابن كثير 1/390.
قال شيخ الإسلام: ((ولا ريب أنهم (أي الرافضة) أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم أنا سني فإنما معناه لست رافضي)) . مجموع الفتاوى 3/356.
منهاج السنة 2/221 ط: جامعة الإمام محمد بن سعود.
بيان فضل علم السلف على الخلف لابن رجب (ص150-152) ، وأصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 1/9-10.
معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات ص 54.
انظر الحجة في بيان المحجة 1/321.
مجموع الفتاوى 3/338-339 بتصرف.
انظر تفصيل هذه المسألة في كتاب وسطية أهل السنة والجماعة بين الفرق للدكتور/ محمد باكريم.
التحريف لغة: التغير والتبديل. والتحريف في باب الأسماء والصفات هو: تغيير ألفاظ نصوص الأسماء والصفات أو معانيها عن مراد الله بها.
التعطيل لغة: مأخوذ من العطل الذي هو الخلو والفراغ والترك، والتعطيل في باب الأسماء والصفات هو: نفي أسماء الله وصفاته أو بعضها.
التكييف لغة: جعل الشيء على هيئة معينة معلومة، والتكييف في صفات الله هو: الخوض في كنه وهيئة الصفات التي أثبتها الله لنفسه.
التمثيل لغة: من المثيل وهو الند والنظير، والتمثيل في باب الأسماء والصفات هو: الاعتقاد في صفات الخالق أنها مثل صفات المخلوق.
راجع في معاني هذه الألفاظ كتاب (معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات)) (ص70-81) .
لمعة الاعتقاد ص 9.
منهاج السنة 2/523.
منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 25.
رسالة في العقل والروح لابن تيمية 2/46-47 (ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) .
الاقتصاد في الاعتقاد لأبي حامد الغزالي ص 132-133، وقال في كتابه المستصفى 2/137-138:
((كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال، إذ الأدلة العقلية يستحيل نسخها وتكذيبها، فإن ورد دليل سمعي على خلاف العقل، فإما أن لا يكون متواتراً فيعلم أنه غير صحيح، وإما أن يكون متواتراً فيكون مؤولاً ولا يكون متعارضاً)) .
انظر منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 21-22.
انظر منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات ص 19-20.
انظر معارج القبول 1/326-327.
بدائع الفوائد 1/168.
شأن الدعاء 111-113.
لوامع الأنوار البهية 1/124.
المحلى 1/29.
بدائع افوائد 1/168.
معالم التنزيل 3/307.
فتح الباري 11/221.
المحلى 1/29.
مجموع الفتاوى 6/199.
أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/391، 452، وابن حبان، انظر: موارد الظمآن ح2472، والحاكم في المستدرك 1/509، والطبراني في الكبير ح10352.
شفاء العليل ص277.
المصدر السابق ص276 (بتصرف) .
أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/391، 452، وابن حبان، انظر: موارد الظمآن ح2472، والحاكم في المستدرك 1/509، والطبراني في الكبير ح10352.
شفاء العليل ص 277 (بتصرف) .
مجموع الفتاوى 6/186.
شفاء العليل ص 277.
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص274.
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص277.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/211.
شفاء العليل ص277.
مجموع الفتاوى 6/205.
قال ابن القيم: ((أسماء الله الحسنى هي أعلام وأوصاف، والوصف بها لا ينافي العلمية، بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي علميتهم، لأن أوصافهم مشتركة فنافتها العلمية المختصة، بخلاف أوصافه تعالى)) بدائع الفوائد 1/162.
شفاء العليل ص271.
الإيمان لابن تيمية ص175.
بدائع الفوائد 1/162، جلاء الأفهام ص138، القواعد المثلى ص8.
بدائع الفوائد 1/162.
جلاء الأفهام ص 133، 134.
الرد على المريسي ص365.
مجموع الفتاوى 5/26.
مجموع الفتاوى 12/113، 114.
انظر تفاصيل هذه المسألة في كتاب ((معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى)) .
مدارج السالكين 1/417.
تفسير ابن كثير 2/573، ط: دار المعرفة.
تفسير القرطبي 10/119، وقد ذكر القرطبي فائدة جليلة هي:((فإن قيل كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه وقد قال {فلا تضربوا لله الأمثال} فالجواب أن قوله {فلا تضربوا لله الأمثال} أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص؛ أي فلا تضربوا له مثلاً يقتضي نقصاً وتشبيهاً بالخلق، والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير)) .
الصواعق المنزلة 3/1031، 1032 ((بتصرف)) .
دلالة القرآن على الأمور ((نوعان)) :
أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به.
الثاني: دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية لأن الشرع دل عليها، وأرشد إليها. وعقلية لأنها تعلم صحتها بالعقل، ولا يقال: إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر.
وإذا أخبر الله بالشيء، ودل عليه بالدلالات العقلية: صار مدلولاً عليه بخبره، ومدلولاً عليه بدليله العقلي الذي يعلم به فيصير ثابتاً بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى ((الدلالة الشرعية)) . مجموع الفتاوى 6/71، 72.
مجموع الفتاوى 6/71-73 ((بتصرف)) .
متفق عليه: البخاري 13/90، ومسلم 18/59.
اربعوا: أي ارفقوا (النهاية 2/187) .
أخرجه البخاري 13/372 ح 7386.
مدارج السالكين 3/347-350 ((بتصرف)) .
مدارج السالكين 3/360.
الصواعق المرسلة 2/425.
أخرجه ابن جرير في تفسيره 1/174.
وأبو نعيم في صفة الجنة 1/160 رقم 14-125.
وأورده ابن كثير في تفسيره 1/91.
والسيوطي في الدر المنثور 1/96.
الصواعق المنزلة 2/425، 430 ((بتصرف)) .
القواعد المثلى ص 26.
المصدرالسابق.
إبطال التأويلات 1/44 رقم 6.
إبطال التأويلات 1/44 رقم 6.
مدارج السالكين 3/359.
كتاب الصفدية 1/100.
منهاج السنة النبوية 2/523.
أخرجه اللآكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/398.
وابن قدامة في إثبات صفة العلو ص 28.
أخرجه اللاكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/398.
والبيهقي في الأسماء والصفات 2/151.
والعجلي في تاريخ الثقات ص 158 رقم 431.
وابن قدامة في إثبات صفة العلو ص 164.
وأورده الذهبي في العلو ص 198.
القواعد المثلى ص 25-28.
مدارج السالكين 3/360.
مدارج السالكين 1/420.
أخرجه البخاري في صحيحه. انظر: فتح الباري 13/377، ح 7392، وأخرجه مسلم في صحيحه 8/63.
معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات ص 103-104.
إغاثة اللهفان (2/257) .
الرد على المنطقيين (ص114) .
الرد على المنطقيين ص 314.
إغاثة اللهفان (2/261-262) .
منهاج السنة (2/523، 524) .
شرح العقيدة الأصفهانية (ص76) .
النبوات (ص198) .
مجموع الفتاوى (3/7-8) .
الصفدية (1/299، 300) .
مجموع الفتاوى (3/7) ، شرح الأصفهانية (ص51،52) .
مجموع الفتاوى (3/8) .
شرح العقيدة الأصفهانية (ص76) .
مجموع الفتاوى (3/100) .
مجموع الفتاوى (3/7-8) .
شرح العقيدة الأصفهانية (ص76) .
الصفدية (1/96،98) .
الفتوحات المكية (4/141) ط: دار صادر، بيروت.
بغية المرتاد (ص349) .
فصوص الحكم (1/83) .
بغية المرتاد (ص397، 398) .
بغية المرتاد (ص408) .
بغية المرتاد (ص473) .
بغية المرتاد (ص527) .
بغية المرتاد (ص410،411) .
نقض تأسيس الجهمية (2/467) .
مجموع الفتاوى (6/39) .
مجموع الفتاوى (6/48) بتصرف.
مختصر تاريخ دمشق (6/50) ، والبداية (9/350) .
نقض تأسيس الجهمية (1/54-55) .
مجموع الفتاوى (5/555) .
درء تعارض العقل والنقل (2/1) .
مجموع الفتاوى (12/366) .
مجموع الفتاوى (12/376) .
مجموع الفتاوى (12/366) .
مجموع الفتاوى (12/206) .
منهاج السنة (2/327) .
مجموع الفتاوى (12/202،203) .
مجموع الفتاوى (12/203) .
بغية المرتاد (ص451) .
الاستقامة (1/105) .
مجموع الفتاوى (5/386) ، تذكرة الحفاظ (2/907) .
العلو (ص150) ، تذكرة الحفاظ (2/907) .
مجموع الفتاوى (12/204) .
الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص168) .
موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/367) .
الاستقامة (1/212) .
درء تعارض العقل والنقل (7/97) .
المصدر السابق.
مجموع الفتاوى (4/147، 148) .
منهاج السنة (2/223، 224) .
منهاج السنة (2/223،224) .
مقدمة ابن خلدون (ص465)، ط: مصطفى محمد.
مقدمة التمهيد للباقلاني (ص15) ، بتحقيق الخضيري وأبو ريدة.
نشأة الأشعرية وتطورها (ص320) .
بغية المرتاد (ص448، 451) ، بتصرف.
بغية المرتاد (ص448) ، بتصرف.
مجموع الفتاوى (6/55) .
مفتاح السعادة (2/151،152) تأليف: طاش كبرى زاده
انظر ترجمته في كتاب الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات (1/209) للدكتور شمس الدين الأفغاني.
العقيدة السلفية في كلام رب البرية (ص279) تأليف: عبد الله بن يوسف الجديع.
مجموع الفتاوى (7/433) ، كتاب الإيمان (ص414) ، منهاج السنة (2/362) .
الرد على الجهمية (ص103-105) .
انظر أحسن التقاسيم للمقدسي (ص323) .
مجموع الفتاوى (12/311) .
منهاج السنة (2/526، 527) ، الانساب للسمعاني (2/133) .
درء تعارض العقل والنقل (5/187) ، مجموع الفتاوى (8/460) .
مجموع الفتاوى (3/7) ، شرح الأصفهانية (ص51،52) .
مجموع الفتاوى (3/8) .
مجموع الفتاوى (13/131) .
مجموع الفتاوى (6/51) .
المعتزلة وأصولهم الخمسة (ص100) .
المصدر السابق (ص101) .
لم يكن في قدماء الرافضة من يقول بنفي الصفات بل كان الغلو في التجسيم مشهوراً عن شيوخهم هشام بن الحكم وأمثاله، شرح الأصفهانية (ص68) .
كان أبو عبد الله محمد بن تومرت على مذهب المعتزلة في نفي الصفات، شرح الأصفهانية (ص23) .
درء تعارض العقل والنقل (5/249،250) .
مجموع الفتاوى (6/147،148،359) .
مقالات الإسلاميين (1/341-342) ، وانظر الفرق بين الفرق (ص207) ، والملل والنحل (1/89،90) .
مقالات الإسلاميين 1 (/339) .
الفرق بين الفرق (ص215) .
مجموع الفتاوى (14/351،352) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وكان الحارث المحاسبي يوافقه -أي يوافق ابن كلاب- ثم قيل إنه رجع عن موافقته؛ فإن أحمد ابن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك، كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقى بعض كلام الحارث؛ فذكروا أن الحارث رحمه الله تاب من ذلك. وكان له من العلم والفضل والزهد والكلام في الحقائق ما هو مشهور وحكى عنه أبوبكر الكلاباذي صاحب (مقالات الصوفية) : (أنه كان يقول إن الله يتكلم بصوت)، وهذا يوافق قول من يقول: إنه رجع عن قول ابن كلاب)) . مجموع الفتاوى (6/521،522) .
مجموع الفتاوى (5/411، 6/52،53، 4/147) ، شرح الأصفهانية (ص 78) .
مجموع الفتاوى (6/520) .
مجموع الفتاوى (6/524) .
مجموع الفتاوى (6/522) .
مجموع الفتاوى (6/520،521) .
مجموع الفتاوى (6/525) .
وتتميماً للفائدة فإن الخلاف في هذه المسألة على أربعة أقوال:
قول المعتزلة ومن وافقهم: أن الله لا يقوم به صفة ولا أمر يتعلق بمشيئته واختياره وهو قولهم: (لا تحله الأعراض ولا الحوادث) .
قول الكلابية ومن وافقهم: التفريق بين الصفات والأفعال الاختيارية فأثبتوا الصفات، ومنعوا أن يقوم به أمر يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا غير فعل.
قول الكرامية ومن وافقهم: يثبتون الصفات ويثبتون أن الله تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأنه يصير موصوفا بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث، ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.
قول أهل السنة والجماعة: أثبتوا الصفات والأفعال الاختيارية وأن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة. وهذا هو الصحيح. مجموع الفتاوى (6/520،525،149) .
الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، أو التي تنفك عن الذات: كالاستواء، والنزول، والضحك، والإتيان والمجيء، والغضب والفرح. مجموع الفتاوى (6/68، 5/410) .
مجموع الفتاوى (6/69) ، وانظر الرد على هذه الشبهة (6/105) .
مجموع الفتاوى (6/144،147) .
مجموع الفتاوى (5/412) .
مجموع الفتاوى (5/410) .
مجموع الفتاوى (6/149) .
مجموع الفتاوى (5/411،412) .
مجموع الفتاوى (6/149) .
مجموع الفتاوى (5/437) ، الأسماء والصفات للبيهقي (ص517) .
مجموع الفتاوى (5/386) .
مجموع الفتاوى (6/52) ، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/1034،1036) .
مجموع الفتاوى (4/147،148) .
درء تعارض العقل والنقل (7/97) .
مجموع الفتاوى (6/358، 359) .
تحفة المريد (ص76) ، وبعض الأشاعرة توقف فيها والبعض نفاها.
انظر إشارات المرام (ص107، 114) ، جامع المتون (1208) ، نظم الفرائد (ص24) ، الماتريدية دراسة وتقويم (ص239) .
أثبت الماتريدية صفة التكوين وعليه فهي صفة قديمة قائمة بذاته تعالى. وأما الأشاعرة فقد نفوها. انظر تحفة المريد (ص75) .
الماتريدية دراسة وتقويم (ص239) .
شرح الأصفهانية ص9، مجموع الفتاوى (6/359) .
تحفة المريد (ص91) .
تحفة المريد (ص91)
درء تعارض العقل والنقل (5/249) .
درء تعارض العقل والنقل (4/145) .
نقض تأسيس الجهمية (1/54) ، ومنهاج السنة (2/217) .
منهاج السنة (2/103) .
منهاج السنة (2/242-243) .
مقالات الإسلاميين (ص5) ، منهاج السنة (2/502) .
مقالات الإسلامين (ص7) ، منهاج السنة (2/503-504) .
شرح الأصفهانية (ص65) .
الفرق بين الفرق (ص228) ، مقالات الإسلاميين (1/183) ، ودرء تعارض العقل والنقل (4/145) .
الملل والنحل للشهرستاني (1/105) .
المقالات (1/209) .
منهاج السنة (2/618) .
الوفرة، الشعر المجتمع على الرأس، أو ما سال على الأذنين، أو ما جاوز شحمة الأذن. المصباح المنير ص 667 مادة: وفر.
نقض تأسيس الجهمية (1/54) .
مقالات الإسلاميين ص 288-289.
منهاج السنة (2/622-625) .
منهاج السنة (2/528-530) .
درء تعارض العقل والنقل 4/145-148.
يبلغ عدد طوائف الكرامية اثنتي عشرة فرقة وأصولها ستة هي:
1-
العابدية، 2- النونية، 3 - الزرينية، 4- الإسحاقية، 5- الواحدية، 6- الهيصمية.
(وهم في باب الإيمان مرجئة يقولون: إن الإيمان هو القول فقط فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقراً بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذباً بقلبه كان منافقاً مؤمناً من أهل النار، وبعض الناس يحكي عنهم أنه من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون إنه مؤمن كامل الإيمان وإنه من أهل النار) . انظر مجموع الفتاوى (13/56) .
وانظر الكلام عن الكرامية في الفصل لابن حزم (4/45،204-205) ، لسان الميزان (5/353-356) ، والفرق بين الفرق (ص130-137) ، والملل والنحل (1/180-193) .
لسان الميزان (5/354) .
درء تعارض العقل والنقل (3/6) .
درء تعارض العقل والنقل (7/227) .
المصدر السابق (5/246) .
الفرق بين الفرق (ص198) ، والملل والنحل (1/108-109) .
التبصير في الدين (ص112) .
الملل والنحل (1/109) .
الفرق بين الفرق (ص199) ، وأصول الدين للبغدادي (ص73،112) ، والملل والنحل (1/109) .
انظر مجموع الفتاوى (6/524-525) ، ودرء تعارض العقل والنقل (2/76) .
انظر مجموع الفتاوى (6/149،520-525) .
هو أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير، الأزدي بالولاء، البلخي، الخراساني، المروزي، أصله من بلخ وانتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدث بها. ذكره الذهبي في آخر ترجمة ابن حيان (تذكرة الحفاظ 1/174) وقال:(فأما مقاتل بن سليمان المفسر فكان في هذا الوقت، وهو متروك الحديث، وقد لطخ بالتجسيم مع أنه كان من أوعية العلم بحراً في التفسير) . وقد توفي بالبصرة سنة (150هـ) . وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب (10/279-285) ، ميزان الاعتدال (3/196-197) ، تاريخ بغداد (13/160-169) ، وفيات الأعيان (4/341-343) .
لسان الميزان (10/281) .
ميزان الاعتدال (4/175) .
المقالات (ص209) .
وجاء في "وفيات الأعيان" في ترجمة مقاتل بن سليمان: ((حكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة، على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام)) وفيات الأعيان (4/341) .
منهاج السنة (2/618-620) .
منهاج السنة 5/83.
كتاب الإيمان لابن تيمية ص373-374.
المصادر والمراجع
أحسن التقاسيم -محمد بن أحمد المقدسي- ط 1، 1906م، ليدن.
الأسماء والصفات -أحمد بن حسين البيهقي- تحقيق عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي للتوزيع، جدة المملكة العربية السعودية، ط1، 1413هـ/1993م.
أصول الدين -البغدادي أبو منصور عبد القاهر بن طاهر- طبعة مصورة من الطبعة الأولى بإسطمبول، 1346هـ.
الأنساب -عبد الكريم بن محمد السمعاني- تحقيق الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي، مصورة مكتبة المثنى بغداد، العراق، 1970م.
الاستقامة -أحمد بن عبد الحليم بن تيمية- تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ط1، 1403هـ.
إشارات المرام من عبارات الإمام -كمال الدين أحمد البياضي الحنفي- تحقيق يوسف عبد الرزاق، ط 1، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، مصر.
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان -ابن قيم الجوزية- مكتبة المعارف، الرياض.
الإيمان -شيخ الإسلام ابن تيمية- ضمن مجموع الفتاوى.
الاقتصاد في الاعتقاد -أبو حامد الغزالي- دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
بدائع الفوائد -محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية- دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد -شيخ الإسلام ابن تيمية- تحقيق موسى الدويش، مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية.
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (نقض تأسيس الجهمية) -شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم- مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، ط1، 1391هـ.
بيان فضل علم السلف على الخلف -ابن رجب الحنبلي- تحقيق: محمد بن ناصر العجمي، الدار السلفية.
تاريخ بغداد -أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي- دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين -أبو المظفر الإسفراييني- تحقيق كمال يوسف الحوت عالم الكتب، بيروت، لبنان، ط1، 1403هـ.
تحفة المريد بشرح جوهرة التوحيد -إبراهيم اللقاني- دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
تذكرة الحفاظ -محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي- تحقيق عبد الرجمن المعلمي اليماني، حيدر آباد، الهند، 1958.
تفسيرالقرآن العظيم -أبو الفداء إسماعيل بن كثير- دار المعرفة، بيروت، لبنان.
تهذيب التهذيب -أحمد بن علي بن حجر العسقلاني- مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، ط1، 1325.
جامع المتون في حق أنواع الصفات الإلهية والعقائد الماتريدية -أحمد ضياء الدين بن مصطفى- ط 1 على الحجر دار الطباعة العامرة، الآستانة، 1273هـ.
الجامع لأحكام القرآن -القرطبي- دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
جلاء الأفهام -ابن قيم الجوزية- دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
درء تعاض العقل والنقل -أحمد بن عبد الحليم بن تيمية- تحقيق د/ محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، المملكة العرببة السعودية.
الرد على الجهمية والزنادقة في ما شكوا فيه من متشابه القرآن -الإمام أحمد ابن حنبل الشيباني، منشأة المعارف، الإسكندرية، مصر، 1971.
الرد على المنطقيين -شيخ الإسلام ابن تيمية- إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان.
الرد على بشر المريسي -عثمان بن سعيد الدارمي- ضمن مجموعة عقائد السلف، منشأة المعارف، الإسكندرية.
الرد على من أنكر الحرف والصوت -أبو نصر عبيد الله بن سعيد السجزي- تحقيق محمد باكريم با عبد الله مطبوعات المجلس العلمي، الجامعة الإسلامية، المدينة النبوية.
رسالة العقل والروح -شيخ الإسلام ابن تيمية- مطبوعة ضمن الرسائل المنبرية
شأن الدعاء -أبو سليمان الخطابي- تحقيق: أحمد يوسف الدقاق، دار المأمون، القاهرة، مصر.
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -أبو القاسم اللالكائي- تحقيق: أحمد سعد الغامدي، دار طيبة، الرياض.
شرح العقيدة الأصفهانية -شيخ الإسلام ابن تيمية- دار الكتب الإسلامية، مصر.
شفاء العليل -ابن القيم الجوزية- دار المعرفة، بيروت، لبنان.
صحيح مسلم بشرح النووي -مسلم بن الحجاج القشيري- دار الفكر، بيروت، لبنان، ط2، 1399هـ.
الصفدية -شيخ الإسلام ابن تيمية- تحقيق محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، المملكة العرببة السعودية.
الصواعق المرسلة -ابن قيم الجوزية- تحقيق: علي محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض.
الصواعق المنزلة -ابن قيم الجوزية- تحقيق: علي ناصر فقيهي، وأحمد عطية الغامدي، طبعة الجامعة الإسلامية المدينة المنورة.
العقيدة السلفية في كلام رب البرية -عبد الله بن يوسف الجديع-.مطابع دار السياسة، الكويت.
العلو للعي الغفار -أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي- المكتبة السلفية، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية.
فتح الباري شرح صحيح البخاري -ابن حجر العسقلاني- دار الفكر، بيروت، لبنان.
الفتوحات المكية -محيي الدين ابن عربي- دار صادر، بيروت لبنان.
الفرق بين الفرق -عبد القاهر بن طاهر البغدادي- تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت لبنان.
الفصل في الملل والأهواء والنحل -أبو محمد، علي بن أحمد بن حزم الظاهري، مكتبة الخانجي، مصر.
فصوص الحكم -ابن عربي- تحقيق محمود غراب، مطبعة زيد بن ثابت، 1405هـ.
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة -ابن تيمية- تحقيق: ربيع بن هادي المدخلي، دار لينة.
القاموس المحيط.-الفيروزآبادي- عيسى البابي الحلبي، مصر، ط2.
القواعد المثلى -محمد بن صالح العثيمين- مكتبة الكوثر.
لسان الميزان -علي بن حجر العسقلاني- مصورة عن طبعة دائرة المعارف بالهند، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت، لبنان، ط2، 1390هـ.
لوامع الأنوار البهية -محمد بن أحمد الفارييني- مطبعة المدني.
الماتريدية دراسة وتقويم -أحمد بن عوض الله الحربي- دار العاصمة، ط 1، 1413هـ.
الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات د شمس الدين الأفغاني- مكتبة الصديق، الطائف، ط 1 1413هـ.
مجموع الفتاوى -شيخ الإسلام ابن تيمية- جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، دار العربية، بيروت لبنان.
المحلى -ابن حزم الأندلسي- مكتبة الجمهورية، القاهرة، مصر.
مدارج السالكين -ابن قيم الجوزية- تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1972م.
المستدرك على الصحيحين -الحاكم النيسابوري- دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
المستصفى -أبو حامد الغزالي- دار المعرفة، بيروت لبنان.
المسند -الإمام أحمد بن حنبل- دار صادر، بيروت لبنان.
معارج القبول -حافظ بن أحمد الحكمي- المطبعة السلفية.
معالم التنزيل -الحسين بن مسعود البغوي- دار المعرفة، بيروت لبنان.
المعتزلة وأصولهم الخمسة - عواد بن عبد الله المعتق- دار العاصمة، الرياض، ط1، 1409هـ.
معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله الحسنى -د/ محمد خليفة التميمي- دار إيلاف الدولية، الكويت، ط1 1417هـ.
معتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات -د/ محمد خليفة التميمي- دار إيلاف الدولية، الكويت ط1، 1417هـ.
المعجم الكبير -سليمان بن أحمد الطبراني- تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، الدار العربية بغداد.
مقالات الإسلاميين -أبو الحسن، علي بن إسماعيل الأشعري- تحقيق محمد محيي الدين، مكتبة النهضة، مصر 1389هـ.
مقدمة ابن خلدون -مصطفى محمد- دار الفكر، بيروت لبنان.
مقدمة التمهيد -الباقلاني- تحقيق الخضيري وأبو ريدة.
الملل والنحل -أبو الفتح، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني- تحقيق محمد سيد الكيلاني، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهر، مصر، 1387.
منهاج السنة -شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية- تحقيق محمد رشاد سالم، طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، المملكة العربية السعودية.
منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات - محمد الأمين الشنقيطي- طبعة الجامعة الإسلامية.
موارد الضمآن في زوائد ابن حبان، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
موقف ابن تيمية من الأشاعرة -عبد الرحمن المحمود- مكتبة الرشد الرياض.
ميزان الاعتدال -محمد بن أحمد عثمان الذهبي- تحقيق علي البجاوي، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
النبوات -شيخ الإسلام ابن تيمية- دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
نشأة الأشعرية وتطورها -جلال موسى- دار الكتاب اللبناني، بيروت لبنان، ط 1، 1395هـ.
نظم الفرائد وجمع الفوائد -عبد الرحيم بن علي شيخ زاده- المطبعة الأدبية، القاهرة، ط 1، 1317هـ.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان -أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان- تحقيق: إحسان عباس. دار صادر بيروت، لبنان.