الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القياس الشكلي
د. سعود غازي أبو تاكي
الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية - كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة الملك عبد العزيز
ملخص البحث
يتناول هذا البحث نوعاً هاماً من أنواع القياس هو"القياس الشكلي " لأن القياس قد أخذ طابعاً شكلياً، ولم يعد يعتمد على قياس الظواهر واستقراء مادتها.
وقد أراد النحاة بهذا القياس " الشكلي " استنباط شيء جديد من الصيغ والدلالات والتراكيب، نتيجة للحاجة الملحة إلى ألفاظ جديدة يعبّر بها عن المخترعات والمسميات الجديدة، واهتم بموجبه باشتقاق الجديد من الألفاظ والصيغ وإلحاقها بغيرها في الحكم النحوي في المجمعات اللغوية.
وقد استفاد النحاة بالمنطق الشكلي في إلحاق الصيغ بعضها ببعض في العمل والدلالة بحجة المشابهة في الشكل.
وقد مهد الباحث بشرح مفهوم القياس النحوي وبيان أهميته واتصاله بالمنطق الشكلي، ثم ما حدث بعد ذلك من التحول التام للقياس الشكلي، فالمفهوم الشكلي للقياس النحوي، إذ لم يعد الأمر يتعلق باطراد الظواهر واستقراء مادتها والقياس على ما شاع منها واطرد؛ بل تحول الأمر إلى مفهوم جديد للقياس النحوي هو مجاراة الشكل. ثم أجرى الباحث تطبيقاً عملياً للقياس الشكلي، محاولاً انتقاء المسائل التي يجري فيها القياس الشكلي كالحركة الإعرابية والحرف الإعرابي، والاتحاد في اللفظ والصيغة والاتحاد في اللفظ والمعنى معاً لكي لا تدخل على مسائل القياس الشكلي ما ليس منها من أنواع القياس الأخرى، ثم ختم البحث بذكر نتائجه وما يستفاد منه.
• • •
مفهوم القياس
يفهم القياس من قول ابن الأنباري: " إعلم أن القياس في وضع اللسان بمعنى التقدير، وهو مصدر قايست الشيء بالشيء مقايسة وقياساً: قدّرته، ومنه المقياس أي المقدار، وقَيْسَ رمح أي قَدْرَ رمح "(1) .
أما القياس في الاصطلاح، فمفهوم شامل يدل على مفهومات متعددة، فمنه" قياس الاستعمال" أو " القياس اللغوي " و " القياس النحوي" و "القياس المنطقي"، والذي يهمنا هنا هو النوع الأول والثاني، أما القياس الأول فيقوم به المتكلم وأما الثاني فيقوم به الباحث، وإذا كان القياس الأول هو " قياس الأنماط " فالثاني هو " قياس الأحكام"، وإذا كان الأول هو " الانتماء " فإن الثاني هو "النحو"، ولعل الذي دعا ابن سلام إلى وصف الحضرمي بأنه " مد القياس " (1) هو معرفته أن الحضرمي قد حول النحو من طابع الانتماء التطبيقي الذي رسمه علي بن أبي طالب بقوله:" انح هذا النحو يا أبا الأسود " إلى الطابع النظري الذي يتسم بقياس حكم غير المسموع على حكم المسموع الذي في معناه.
فلا بد لنا إذن أن نفرق بين هذين النوعين من القياس، " فالقياس اللغوي هو مقارنة كلمات بكلمات أو صيغ بصيغ أو استعمال باستعمال، رغبة في التوسع اللغوي، وحرصاً على اطراد الظواهر اللغوية "(2) وهذا القياس يقوم به المتكلم - كما قلنا - وهو الذي يلجأ إليه الأطفال عندما يقيسون ما لم يسمعوه من جمل أو صيغ على ما سمعوه من قبل وقد يحدث أن يخطئ الأطفال عندما يقيسون ما لم يسمعوه من جمل أو صيغ على ما سمعوه من قبل، يحدث هذا في مرحلة اكتساب اللغة، وهي مرحلة مبكرة جداً من عمر الإنسان، وقد يحدث أن يخطئ الطفل في قياسه، وهنا يبرز دور الأسرة في إرشاده إلى الاستعمال الصحيح، فالطفل يسمع مثلاً: كبير وكبيرة، وصغير وصغيرة، وطويل وطويلة فيظن أن الفرق بين المذكر والمؤنث ينحصر في " تاء التأنيث " فحسب، لذا يقيس على هذه الكلمات التي سمعها ما لم يسمعه فيقول: أحمر وأحمرة، وأعرج وأعرجة، وهذا ما يعرف بالقياس الخاطئ.
ويستمر هذا القياس مع ابن اللغة في مراحله المختلفة، فالكبير أيضاً يستخدم القياس فيقيس ما لم يسمعه من قبل على ما لديه من مخزون لغوي، فليس من المعقول أن يكون قد سمع كل الصيغ والجمل وطرق صياغتها وكذا الأسلوب لذا نراه يلجأ دائماً إلى القياس، وقد يحدث أن يخطئ أيضاً في قياسه.
ولا شك أن العربي القديم قبل الإسلام قد لجأ في كلامه إلى القياس، وأخطأ أيضاً في قياسه، ولكن قياسه لم يكن يوصف بأنه صواب أو خطأ في كثير من الأحيان، ولعل كثيراً من الصيغ والاستعمالات العربية التي نعدها - نحن الآن - فصيحة صحيحة قد كانت نتيجة هذا القياس الخاطئ.
حتى إذا جاء الإسلام وارتبطت العربية بالقرآن، لم يعد يسمح لهذا القياس بالانتشار، فوضعت القوانين والقواعد لحفظ الألسنة من اللحن خاصة بعد انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية، ولولا ارتباط العربية بهذا النص الخالد لتطورت كغيرها من اللغات نتيجة لهذا القياس.
وما تفعله المجامع اللغوية الآن من صياغة الجديد من المصطلحات والألفاظ قياساً على طرق الصياغة العربية - لهو نفسه "القياس الاستعمالي "،وذلك لمسايرة التقدم الحضاري وما يصحبه من ضرورة صياغة الجديد من الألفاظ والمصطلحات للاكتشافات والعلوم الجديدة التي لم تكن معروفة في أصل هذه اللغة.
بل إن أحد الباحثين (1) يرى أن أساليب الأدباء تجري على نوع من صوغ القياس (ويقصد به القياس الاستعمالي) فالمرء يكوّن أسلوبه بطريق القراءة وحفظ النصوص الأدبية ثم الكتابة مع محاولة تقليد ما قرأ وما حفظ، وبعد هذا الجهد يعجب المرء بطرق خاصة في رصف الجملة، وفي اختيار المفردات، بل وفي اختيار الزاوية التي ينظر فيها إلى الموضوع كذلك، عندئذ يبدأ في صياغة أسلوبه قياساً على هذه المثل الجمالية التعبيرية التي كونها لنفسه واختزنها في جهازه العصبي، ولكن أسلوب المرء لا يأتي والحالة هذه مطابقاً لأي أسلوب معين من الأساليب التي قرأها وحفظها بل يكون كنتيجة التفاعل الكيميائي بين مادتين مختلفتين، حيث تكّون هذه النتيجة مادة ثالثة، ليس لها صفات أيّ من هاتين المادتين.
فهذا النوع من القياس هو ما يقصده ابن جنى بقوله: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب "(2) وهو ما يقصده السيوطي عندما ينقل عن ابن الأنباري قوله: " اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس ولهذا قيل في حده النحو: علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب " فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو، ولا يُعْلَم أحد من العلماء أنكره، لثبوته بالدلالة القاطعة، وذلك أنا أجمعنا على أنه إذا قال العربي:
" كتب زيد " فإنه يجوز أن يسند هذا الفعل إلى كل اسم مسمى يصح منه الكتابة، نحو:" عمرو" و " أردشير" و"بشر" إلى مالا يدخل تحت الحصر، وإثبات مالا يدخل تحت الحصر بطريق النقل محال، وكذلك القول في سائر العوامل الداخلة على الأسماء والأفعال، الرافعة، والناصبة، والجارة، والجازمة،
…
فلو لم يجز القياس، واقتصر على ما ورد في النقل من الاستعمال لبقي كثير من المعاني لا يمكن التعبير عنها لعدم النقل، وذلك مناف لحكمة الوضع، فوجب أن يوضع وضعاً قياسياً عقلياً لا نقلياً.. (3)
أما النوع الثاني من القياس فهو "القياس النحوي " أو قياس الأحكام "، وهذا النوع يقوم به الباحث، ويعرّفه النحاة بأنه (1) حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معناه"، أو " هو قياس حكم شيء على حكم شيء آخر لسبب يوردونه.."، أو بعبارة أخرى " حمل غير المنقول على المنقول في حكم لعلة جامعة"، " أو حمل فرع على أصل لعلة وإجراء حكم الأصل على الفرع " أو " إلحاق الفرع بالأصل بجامع"، وهذا القياس هو المقابل النظري للقياس الاستعمالي، فإذا كان ما يرمي إليه القياس الاستعمالي " هو الصوغ العملي فإن ما يرمي إليه القياس النحوي هو الحمل النظري ويجب أن يكون الموقف من القياس النحوي منطلقاً من اللغة نفسها، ولا يحكم بمعايير غير لغوية في قياسه، وهذا ما حدث بالفعل في القرنين الأول والثاني الهجريين، ثم تحول موقف الباحث حيث بدأ يحكم معايير غير لغوية - وخاصة المنطقية منها - في دراسة اللغة.
" وهذا الحمل إما أن يكون مبنياً على علة أو غير مبني على علة، فإن لم يكن مبنياً على علة فهو ما يسمونه الشبه"، وهو أقرب أنواع القياس النحوي إلى القياس الاستعمالي، وإن لم يكن منه تماماً، ومثاله إعراب المضارع لشبهه باسم الفاعل أما إذا كان مبنياً على علة فإما أن تكون العلة مناسبة أو غير مناسبة، فإذا كانت العلة مناسبة سمي القياس " قياس العلة" ويلزم حينئذ أن يكون هناك أصل وفرع وعلة وحكم، فإذا كانت العلة غير مناسبة سمي " قياس الطرد" ومثال قياس العلة قياس رفع نائب الفاعل قياساً على الفاعل بعلة الإسناد في كل منهما، ومثال قياس الطرد أن " ليس " مبنية بسبب اطراد البناء في كل فعل غير متصرف، وكان الأفضل من هذه العلة أن يقال إنها مبنية لأن الأصل في الأفعال البناء فهذا يشكل علة مناسبة.." (1) وفي الحقيقة هذا التقسيم السابق للقياس النحوي إنما هو تقسيم عقلي محض، وبخاصة إذا علمنا أن أركان القياس الأساسية موجودة في جميع هذه الأنواع وخاصة العلة التي بني على أساسها هذا التقسيم، فأركان القياس متوفرة في قياس الشبه وهي أربعة: أصل وفرع وحكم وعلة فالأصل هو اسم الفاعل، والمضارع هو الفرع، والحكم هو الإعراب، وشبه الفرع بالأصل هي العلة. أو ليست اللام في قول الباحث
" لشبهه باسم الفاعل " هي لام التعليل؟ والنوع الثالث وهو ما سماه ابن الأنباري " قياس الطرد " فتتوفر فيه الأركان الأربعة كذلك، وهي: أصل وفرع وحكم وعلة.
• • •
أهمية القياس
تتعلق بهذه القضية مسألة بالغة الأهمية تتمثل في مدى قدرتنا على الرؤية الشاملة لفهم وتحديد أهمية القياس، أو بعبارة أخرى الأمر الذي تثيره هذه المسألة يتعلق بتساؤل نطرحه على عجل عما يمكن أن يقدمه القياس باعتباره أصلاً من الأصول النحوية التي حكمت فكر النحاة في وضع القواعد واستنباط الأحكام حتى نستطيع تفسير وفهم موقف النحاة القدماء والمحدثين على حد سواء من تلك القضية التي جذبت انتباه القدماء بحثاً وتأليفاً، وشغلت خلد المحدثين وتضاربت فيها الآراء.
…
بداية وقبل أن نشرع في تحديد موقف النحاة القدماء والمحدثين لابد أن نقرر حقيقة غاية في الأهمية مؤداها أن الأصول النحوية عامة والقياس خاصة كالشمعة المضيئة التي تأبى أن تذوب إلا بعد أن تؤدي رسالتها وتنشر نورها في الآفاق، وهذا ما تقتضيه الحقائق التي تنبئ عنها دون التجارب العابرة التي تذهب بذهاب الأيام، ومما يؤكد ذلك ويقويه محاكاتنا وسيرنا على درب النحاة القدماء، وتطبيق القواعد التي ارتضوها، واحتذاؤنا عين مثالهم، والسير على مناولهم، إيماناً منا بأنهم جهابذة ينأون عن الخطأ، لأنهم اتخذوا القرآن الكريم بقراءاته، والشعر في عصر الاستشهاد مداداً لا ينضب، ووقوداً لا ينفذ لقواعدهم،.. وكوننا نستعمل قواعدهم ونطبقها فهو القياس بعينه، وعلى ذلك يكون القياس من الحقائق المتعالية التي لا يكون العلم علماً إلا به، وناهيك عن كثير من الادعاءات والترهات التي تحكم عليه بالتجمد والقصور، وكأنه رجس من عمل الشيطان فمن يخوض فيه يتبوأ مقعده من النار.
…
وإنه لمن التفاهة أن تردد مثل هذه الادعاءات التي لا تسمن ولا تغنى من جوع، لأنها نظرة قاصرة تحول دون التأمل وإعمال الفكر وهي بعيدة كل البعد عن الواقع اللغوي الذي يشهد بأهمية القياس باعتباره معياراً من معايير القبول والرفض، والحكم على الظاهرة بالصواب أو الخطأ.
ومما لا يدع مجالاً للشك أن لكل علم فلسفة لا تأتي إلا بعد اكتمال العلم وكذلك لكل علم أصول ومقومات لا يقوم إلا بها، فهي قوامه وعماده، التي لا غنى عنها ولا يتأتى إلا بها، ولا يكون العلم علماً إلا بها، وليس أدل على ذلك من موقف الكسائي الذي لم يكن يرى النحو إلا قياساً لذلك يؤثر عنه.
…
إنما النحو قياس يتبع
…
... وبه في كل أمر ينتفع (1)
…
وابن الأنباري أدرك تلك الأهمية لذلك يرى أن من أنكر القياس في النحو فقد أنكر النحو، لأن قولهم: نحن لا ننكر النحو لا نه ثبت استعمالاً ونقلاً لا قياساً وعقلاً، باطل لإجماع النحاة على أنه إذا قال العربي " كتب زيد " فإنه يجوز أن يسند هذا الفعل إلى كل اسم مسمى تصح منه الكتابة سواء كان عربياً أم أعجمياً نحو: زيد) و (عمرو) و (بشير) و (أرد شير) وإلى مالا يدخل تحت الحصر، وإثبات مالا يدخل تحت الحصر بطريق النقل محال، وكذلك القول في سائر العوامل الداخلة على الأسماء والأفعال الرافعة والناصبة والجازمة، فإنه يجوز إدخال كل عامل منها على مالا يدخل تحت الحصر فإنه يتعذر في النقل دخول كل عامل من العوامل على كل ما يجوز أن يكون معمولاً له (2) .
…
وخلاصة الأمر أنه يثبت أن النحو إذا بطل أن يكون رواية ونقلاً، وجب أن يكون قياساً وعقلاً، لأن عوامل الألفاظ يسيرة محصورة، والألفاظ كثيرة غير محصورة " فلو لم يجز القياس، واقتصر على ما ورد في النقل من الاستعمال لأدّى ذلك إلى ألا يفي ما تخص بما لا تخص وبقي كثير من المعاني لا يمكن التعبير عنها لعدم النقل، وذلك مناف لحكمه الوضع فلذلك وجب أن يوضع وضعاً قياسياً عقلياً لا نقلياً "(3) .
.. والقياس له عظيم الفائدة للغة وقواعدها فهو بمثابة شهادة ضمان للغة والدرع الواقي لقواعدها من اللحن والتحريف والزيغ وبه أغلقت الأبواب أمام عبث العابثين ولغو اللاغين، ولهو اللاهين، ونزق المستهزئين الذين يبذلون جهوداً ضخمة للتقليل من لغة القرآن لأنهم يدركون أن قوة الإسلام تكمن في لغته وبالتالي فهو بمثابة الضامن للغة حتى لانفتح أبواباً على اللغة من البلاء تسارع بها قدماً إلى الفناء، وقد وافق الدكتور إبراهيم أنيس المحدثين، وذهب إلى ما ذهب إليه المجددون من الباحثين الذين ينادون بإباحة القياس اللغوي للموثوق بهم من أدبائنا وشعرائنا، لا إلى جعل القياس في اللغة بأيدي الأطفال وعامة الناس كما هو الحال في كل لغة يترك أمرها لسنة التطور (1) .
…
ومن الحقائق التي لا ينكرها أحد أن القياس له عظيم الفائدة فهو أدعى إلى الاختصار والإيجاز باعتباره يقيس الظاهرة على ظاهرة أخرى ويحكم لها بحكمها، فتأخذ الظاهرة المقيسة حكم الظاهرة المقاس عليها، ولا أبالغ إذ أقول إن القياس يساعد النحوي ويمكنه من تقرير وإثبات القواعد بل وارتجالها ارتجالاً كأنه ينتشل من بحر لا من بئر تضطرب فيه الأرشية، وقد أدرك القدماء فائدته لذلك يقول أبو علي الفارسي " أخطئ في خمسين مسألة في اللغة، ولا أخطئ في واحدة من القياس "(2) ويقول عنه ابن جنى " مسألة واحدة من القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس "(3)
وأشار إلى أهمية القياس الشيخ محمد الخضر حسين، حيث يرى أن القياس طريق يسهل به القيام على اللغة بحيث يكون وسيلة تمكن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والجمل دون أن تقرع سمعه من قبل أو يحتاج إلى الوثوق من صحة عربيتها، إلى مطالعة كتب اللغة والدواوين الجامعة لمنثور العرب ومنظومها (4) .
بداية الإتصال بالمنطق الشكلي:
كانت بداية الاتصال بالثقافة الإغريقية في عهد المنصور (ت 136هـ) ، وكان هذا الاتصال ضعيفاً، فالترجمة حينذاك كانت تتسم بالفردية والترجمة غير المباشرة أما الاتصال الحقيقي بهذه الثقافة فقد بدأ بعصر المأمون (ت 198هـ) ، حيث العصر الذهبي للترجمة، فسمعنا بيوحنا بن ماسويه، وحنين بن إسحاق (ت 260هـ) وغيرهما من كبار مترجمي الثقافة الإغريقية عامة، والمنطق الأرسطي بصفة خاصة.
وقد كان لهذه الترجمة، وبخاصة ترجمة الفكر الإغريقي " أخطر الآثار وأعمقها في الفكر الإسلامي، فإن المتصلين بهذه الأفكار من المترجمين وتلاميذهم أدركوا بوضوح أنهم يقفون على فكر يختلف إلى أبعد غايات الاختلاف عن العلوم المختلفة التي تفرع إليها النشاط العلمي في العالم الإسلامي في المادة والمضمون معاً، ثم في المناهج التي تعالج هذه المادة وهذا المضمون جميعاً،
…
وما لبث هذا أن ميز بين اتجاهين أساسيين في القرن الثاني الهجري الاتجاه الأول يضم هؤلاء المترجمين وتلاميذهم ممن اتصلوا بالثقافات الأجنبية بعامة، وبالثقافة الإغريقية بصفة خاصة وبالمنطق اليوناني والفلسفة اليونانية على نحو أخص، والاتجاه الثاني يجمع أولئك الملتزمين بأصول العلوم الإسلامية كما قررتها القواعد الدينية وتفاصيلها وكما شكلتها الحاجات الاجتماعية وصاغتها التطورات الذاتية للثقافة الإسلامية.
و"
…
كان أهم ما التفت إليه المفكرون الإسلاميون في نقد المنطق اليوناني خلوه من ملاحظة المضمون جملة أي شكلية هذا المنطق (1)
…
ومرد هذا الموقف الحاسم من المفكرين الإسلاميين إلى أسباب كثيرة، ليس من بينها رفض الإفادة من التراث البشري الذي يعد ملكاً مشتركاً للحضارات الإنسانية بأسرها، بل يمتد هذا الموقف من المنطق اليوناني عن التحليل الدقيق له من وجهة النظر الإسلامية.
ومن تلك الأسباب:
1-
إنه مشكوك فيه إلى حد كبير، ويرجع هذا الشك إلى أسباب كثيرة، أهمها عدم قدرة المترجمين أنفسهم على الإحاطة بالتراث اليوناني..
2-
أنه يرتكز على دعامتين لا سبيل إلى تجريده منهما: ميتافيزيقا أرسطو، واللغة اليونانية التي ينبني المنطق في جانب كبير من تحليلاته للقضية عليها.
3-
شكلية هذا المنطق، فهو مجرد من كل عنصر مادي، بل مجرد ميزان صوري شكلي يراد به استعماله في العلوم على اختلافها، فهو ميزان عقلي صرف.
4-
أنه لا يتسم في ذاته - بالسلامة أيضاً.
ومن الطبيعي أن ينشب الصراع حاداً بين هاتين المدرستين في أواخر القرن الثاني الهجري، واستمر في بعض الحالات إلى القرن الرابع، وفي حالات أخرى طيلة القرن الخامس أيضاً (1) .
وكان النحو أحد العلوم العربية التي تأثرت في هذه المرحلة بالفكر الإغريقي بمعطياته الميتافيزيقية وقوانين المنطق فقد تأثر فيها التفكير النحوي في جملته ببعض الأفكار الفلسفية اليونانية كما تأثر بعض النحاة بالبناء المنطقي لهذا الفكر، وكان لهذا صداه الخافت أولاً في دراسات النحاة لظواهر اللغة التركيبية وتقنينهم لها، ثم تدخل آخر الأمر في مجال تقنين الظواهر وتفسيرها وتحديد أصولها جميعاً (2) .
ويمكن أن نلمس بذور التأثير المنطقي في القياس في هذه المرحلة، فقد كان هذا التأثير (على حد تعبير الدكتور أبو المكارم)" أشبه بتسلل الحذر منه باقتحام القادر "(3) ومع ذلك " فطن كثير من النحاة – وبخاصة في بداية هذه المرحلة – إلى أن الغزو الفكري يمكن أن يبدأ بالتسلل، فهاجموا الاتجاهات المنطقية نظراً وتطبيقاً.. لكن هذا الموقف ما لبث أن تغير في أخريات هذه المرحلة، إذ اكتفى النحاة برفض المنطق نظرياً في الوقت الذي قبلوا فيه بعض نتائجه تطبيقياً"(4) .
وأخذ تأثير المنطق الشكلي في القياس اللغوي في هذه المرحلة يظهر في بعض الأقيسة وبعض الحدود وبعض التعليلات حيث كانت البداية هي استخدام المنطق الأرسطي لتنمية الحصيلة اللغوية باشتقاق الجديد من الألفاظ والصيغ " فقد أحس اللغويون والنحاة بضرورة الأخذ بالقياس الشكلي الصوري المنطقي لتنمية الحصيلة اللغوية حتى تلاحق التطور الاجتماعي وتلبي احتياجاته المتعددة التي يقصر المحفوظ من اللغة عن التعبير عنها"(1) .
وهكذا تم إلحاق صيغ بأخرى في الحكم لمجرد المشابهة بينهما اعتماداً على المنطق الشكلي.
" ومن ثم ليس من شك في أن الأخذ بالقياس الشكلي في هذه المرحلة في مجال "الصيغ" و " الأحكام النحوية "، هو الذي مهد بصورة حاسمة لنمو التأثيرات المنطقية وتراكمها في البحوث النحوية في المرحلة التالية حتى أصبح الركيزة الأساسية " للحكم" النحوي، والمحور الرئيسي " للاستدلال " في كافة المجالات التي تفرع إليها البحث النحوي، بما في ذلك تلك الجوانب التي ظلت - طيلة هذه المرحلة - بمنأى عن التأثر بالقياس، وفي مقدمتها الأحكام النحوية التي تعتمد على " النصوص " المطردة، بعد أن أصبحت هذه الأحكام النحوية - وإن اعتمدت على النصوص - لا تثبت " بالنص " وإنما تثبت " بالعلة " (2)
وكما تأثر القياس في هذه المرحلة بالمنطق الشكلي تأثرت العلل النحوية أيضاً، حيث تغير هدفها من تسويغ "الموجود بالفعل" من الظواهر اللغوية و" المقنن في الواقع" من القواعد النحوية فأصبح التعليل " محور البحث النحوي "، بعد أن أصبحت العلة ركيزة الحكم في القياس بمفهومه الجديد المستمد من المنطق (3) .
وهكذا مهدت هذه المرحلة للسيطرة التامة للمنطق الشكلي في المرحلة التالية.
التحول التام للقياس الشكلي:
.. كانت نشأة العلوم اللغوية بعامة والنحو وأصوله بصفة خاصة نشأة إسلامية عربية خالصة استجابة للظروف التي أدت إلى هذه النشأة، واتبع النحاة منهجاً إسلامياً خالصاً، حتى كانت ترجمة الفكر الإغريقي عامة والمنطق بصفة خاصة في عهد المأمون (ت 198هـ) ، فتجاور المنهج الإسلامي مع المنهج المنطقي لكن المنهج الإسلامي كان هو الأغلب وتأثيره أقوى في النحو العربي وأصوله، وظل الأمر هكذا حتى كان منتصف القرن الرابع الهجري " فانعكس الوضع، فإن الخصائص المنطقية قد أصبح لها الغلبة على فكر النحاة وآثارهم، وصارت الخصائص الذاتية للمنهج الإسلامي من القلة والضآلة بحيث لم تعد ملموسة في الأصول العامة، وإنما يمكن أن تدرك آثارها في بعض جزئيات هذه الأصول "(1) .
…
" لقد كان تجاور النظريتين في الأصول العامة للتفكير النحوي فترة طويلة كافيّا لإحداث قدر من التلاحم بين النظريتين، بحيث لم يستطع النحاة التفرقة بين الخصائص الإسلامية والخصائص المنطقية في الأصول النحوية، وقد ساعد على ذلك - دون شك - الوحدة الشكلية لبعض الأصول النحوية منطقياً وإسلامياً، ففي الأصول الإسلامية قياس وفي المنطق قياس، وفي الأصول الإسلامية تعليل، وفي المنطق تعليل،
…
ولكن فات النحاة أن القياس والتعليل والتعريف في المنهج الإسلامي - كلاً - يختلف في خصائصه وشرائطه وغاياته عن نظيره في المنطق الإغريقي " (2) .
إذن بدأ هذا التحول من الفكر الإسلامي إلى المنطقي من النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وتظل خصائص هذا التحول " تمتد عبر القرون التالية حتى العصر الحديث، فإن الدراسات النحوية التقليدية المعاصرة تتبع في دقة اتجاهات النحاة في هذه المرحلة، وتلتزم بأصولهم عن وعي حيناً ودون إدراك أحياناً، ودون تمرد على هذه الأصول دائماً "(1) .. وقد بلغ القياس ذروته في هذه المرحلة (2) على يد أبي علي الفارسي (ت 377هـ)، وتلميذه ابن جني (ت 392هـ) فنادوا بذلك الرأي المشهور:" ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب "(3)، وقد بلغ من اعتزاز أبي علي بالقياس أن روي عنه أنه قال:" لأن أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية أحبّ إليّ من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية "(4) وهكذا نهض هذان الإمامان بالقياس نهضة لم يحظ بمثلها أحد قبلهما ولا بعدهما حتى اليوم.
أما الفارسي فقد عشق القياس الذي بهره وأخذ على فكره السبل، فصار يمتحن به كل مسألة تعرض له، وعلى رسومه يصدر فتواه ويعتقد آراءه.. فقد سأله ابن جني يوماً:" هل يجوز لنا في الشعر من الضرورة ما جاز للعرب أم لا؟ " فقال: " كما جاز أن نقيس منثورنا على منثورهم، فكذلك يجوز لنا أن نقيس شعرنا على شعرهم، فما أجازته الضرورة لهم أجازته لنا، وما حظرته عليهم حظرته علينا، وإذا كان كذلك فما كان من أحسن ضروراتهم فليكن من أحسن ضروراتنا، وما كان من أقبحها عندهم فليكن من أقبحها عندنا، وما بين ذلك بين ذلك "(5)
…
وقد سار ابن جنى على منهج أستاذه أبى على الفارسي في القياس، ويتضح ذلك من كثرة الآراء التي رواها عنه في كتابه " الخصائص"، كما أن ابن جنى قد خطا بالقياس إلى الأمام خطوات واسعة.
وممن أيدوا مذهب أبي علي الفارسي في القياس-الزمخشري (ت 538هـ) ، فقد كان يرى الاحتجاج بأقوال المولدين، والقياس عليها، مستشهداً في تفسيره ببيت لأبي تمام، لأنه يرى أنه ممن يوثق بقوله، وقد تبعه في هذا العلامة الرضي (ت 688هـ) فقد استشهد بشعر لأبي تمام في عدة مواضع من شرحه لكافية ابن الحاجب " (1)
ويرى الشيخ الطنطاوي في كتابه (نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة) أن استشهاد الرضي بأقوال المحدثين مما يؤخذ عليه فيقول، " إنما المؤاخذة عليه في استشهاده بشعر المحدثين، والنحاة لاينظرون إليه في اتخاذه اساساً للقوانين النحوية وقد ذكر منه مقداراً كبيراً سأذكر لك بعضاً منه.."(2) ثم يذكر بعض الأبيات ومنها استشهاده بقول بشار في باب" الحال ":
…
إذا أنكرتني بلدة أونكِرتها
…
... خرجت مع البازي عليّ سواد
وبقول أبي الطيب المتنبى:
…
قبلتها ودموعي مزج أدمعها
…
وقبلتني على خوف فماً لفم
وبقوله:
بدت قمراً وبانت خُوط بان
…
... وفاحت عنبراً ورنت غزالاً
وفي باب اسم الفاعل بقول ربيعة:
…
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
…
يزيد سليم والأغربن حاتم
تم يعقب بقوله:" ولا ريب أن استشهاده بالمحدثين إحدى الهنات الملاحظة عليه"(3)
إذا كان هذا موقف الشيخ الطنطاوي وأمثاله، نجد أحد الباحثين يرى أن هؤلاء الذين لايرون الاستشهاد بأقوال المولدين هم غلاة اللغويين وهم المتزمتون أو المحافظون الذين قسموا لنا الظواهر اللغوية أقساماً:
1-
المطرد في القياس والسماع.
2-
المطرد في السماع الشاذ في القياس.
3-
المطرد في القياس الشاذ في السماع.
4-
الشاذ قياساً وسماعاً.
وهؤلاء الذين يقصدهم الدكتور " أنيس " هم الذين تأثروا في أحكامهم التقعيدية والتعليمية معاً بخصائص الحكم الفلسفي، وبصفة خاصة بما يميز هذا الحكم من طرد الأحكام الممتدة عن بعض الظواهر إلى ظواهر أخرى، اكتفاء" بنوع من الاتساق النظري بينها دون الإعتماد على ركائز يقينية، وإنما تشيده التصورات الذهنية وحدها، بصرف النظر عن الوجود الواقعي لها، ومن ثم صح عند ابن جني أن يجعل من بين أقسام الكلام من حيث الاطراد والشذوذ: " ما كان مطرداً في السماع شاذاً في القياس، وما كان مطرداً في القياس شاذاً في السماع " دون أن يحس بتناقض هذا التفاوت في الحكم بين السماع والقياس، إذ لم يعد المسموع والمروي ذا قيمة مؤثرة في الفكر النحوي بعد أن أغنى عنهما الإدراك العقلي للنصوص اللغوية، ومن هنا فإن ما يبدو عجيباً من تناقض الأحكام مع الواقع اللغوي يبدو مبرراً منطقياً مع منهج البحث النحوي في هذه المرحلة (1) .
يتضح لنا إذن أن الصراع كان ناشباً بين المجددين والمحافظين، فينتصر المجددون حين تبرق بارقة من الحرية في القول، كتلك التي كانت على يد المعتزلة، وتخبو جذوتهم حين تشيع روح المحافظة كتلك التي كانت أيام المتوكل الذي نكل بالمعتزلة ومن على شاكلتهم، فقد كان لحرية الرأي في الأمور الفلسفية والاجتماعية صدى في البحوث اللغوية أيضاً (2) .
ولكن السمة الغالبة على هذه الفترة كانت الخضوع التام والتبعية الكاملة للمنطق في كافة البحوث النحوية، ويظهر أثر ذلك بإلقاء نظرة فاحصة على النتاج الثقافي اللغوي والنحوي منه بصفة خاصة، وقد رأينا كيف دفع ذلك ابن جنى إلى تقسيم الظواهر اللغوية إلى أربعة أقسام لا وجود لها في الواقع اللغوي، لكن القسمة العقلية المنطقية تقتضي ذلك حتى أننا نجده يذكر لنا النوع الرابع الشاذ قياساً وسماعاً ويذكر له بعض الكلمات القليلة وينسبها إلى بعض البغداديين ولم يسمّ أحداً منهم، ولست أدرى كيف يكون من اللغة ذلك الشاذ في القياس والسماع كليهما، وكيف يعد قسماً من أقسام الظواهر اللغوية؟!
…
وقد عقد الدكتور أبو المكارم في كتابه" تقويم الفكر النحوي " فصلاً كاملاً تناول فيه صور التأثير الإغريقي في النحو العربي، ويهمنا هنا ما يتعلق بمادة هذا البحث، وهو التأثير الإغريقي في مجال القياس، فيقول:
" وتتجلي تلك التبعية وهذا الالتزام في امتداد خصائص القياس النحوي في هذه المرحلة عن الخصائص المميزة للقياس المنطقي "(1) .
.. فشكلية القياس النحوي واضحة في تحليل المقيس، وبصورة خاصة في مجال قياس الظواهر، حيث يلحق النحاة ما يشاءون من الأحكام بما يشاءون منها، ويعتبرون ما يلحقونه به أصلاً وما يلحقونه فرعاً، ولا يتحرجون في هذا المجال من أن يقيسوا ما ثبت من الأحكام على ما اختلف في ثبوته، كما لا يترددون في إلحاق ما يشكون فيه بما يشكون فيه أيضاً، دون أن يستندوا في كل ذلك إلى سند موضوعي أو يعتمدوا على أساس من الملاحظة الدقيقة المستوعبة للظواهر، ومن ثم فإن القياسات النحوية لم تبدأ بما كان ينبغي أن تبدأ منه بتصنيف الظواهر وتحديد علاقاتها لاكتشاف مقوماتها وبلورة خصائصها مما كان يقدم أساساً مقبولاً للتعامل المباشر مع الظواهر من حيث إلحاق بعضها ببعض، ومن ثم امتداد الأحكام من بعضها إلى بعض، وإنما على العكس من ذلك بدأت بنقل الأحكام من ظاهرة إلى أخرى بتطبيق القواعد الشكلية للإلحاق، فقفزت إلى النتائج دون أن تلم بالمؤثرات الموضوعية التي أسلمت إليها.
…
وشكلية القياس النحوي جلية أيضاً في المقيس عليه، وبشكل بارز في القياس على القليل وعلى الشاذ.
.. " وإذا كانت شكلية القياس المنطقي قد أحدثت آثارها في الأقيسة النحوية، فإن ميتافيزيقية القياس المنطقي قد تركت صداها في الأقيسة النحوية أيضاً، وأهم المجالات التي تتضح فيها هذه المتيافيزيقية هي الحكم، ذلك أن الحكم النحوي لا ينبني في تصور النحاة على النصوص التي تحمله، ولا يعتمد على الظواهر التي تؤيده، وإنما يمتد عن الفكرة الذهنية للقياس النحوي المستمدة في جوهرها من الصورة الميتافيزيقية للقياس المنطقي، ومحور هذه الصورة تجريد الحكم من مقوماته المادية التي ينبني عليها، وجعله مرتبطاً ارتباطاً ذهنياً صرفاً عن طريق التلازم العقلي بالقضايا والأشكال
…
ومن ثم يصح عندهم نقله من مجاله الموضوعي الذي وردت به النصوص والظواهر معاً إلى مجالات لم ترد لها نصوص ولم تشر إليها ظواهر، بل أمكن عندهم نتيجة لهذا التصور الذهني نقل الحكم إلى حيث تناقضه الظواهر والنصوص جميعاً " (1) .
ثم ينتهي من هذا كله إلى نتيجتين على قدر كبير من الأهمية تَرَكَهُمَا الأخذُ بخصائص القياس المنطقي في القياس النحوي وهما: إهمال النصوص، وتناقض الأحكام.
…
ويرى أن ذلك كان وراء كثير من صور التعارض بين الأدلة في التراث النحوي، مما اضطر النحاة إلى ابتكار وسائل جديدة لترجيح الأحكام من ناحية، وتأييدها بالنصوص من ناحية أخرى، فكان أن استعاروا من المنهج الإسلامي ما تحدد في علم أصول الفقه من أساليب لترجيح الأدلة حين تتعارض (2) .
واستمر الأمر هكذا حتى كانت مبشرات النهضة الحديثة أواخر القرن الماضي.
المفهوم الشكلي للقياس النحوي:
شهد أواخر القرن الثالث الهجري وبدايات القرن الرابع تحولاً في مفهوم القياس، فلم يعد يعنى باطراد الظواهر واستقراء مادتها والقياس على ما شاع منها واطرد، بل بدأ يأخذ طابعاً شكليا يعتمد على حمل فرع على أصل لعلة جامعة بينهما، سواء أكان هذا الحمل هو حمل المسموع على مسموع، أو مفترض على مسموع أو حكم نحوي على آخر (1) . ولم يكن هذا التحول فجأة، بل إن من النحاة من أنكره ولم يسلم به، وتشبث بما درج عليه الأوائل من فهم له، ولا أدل على ذلك من الفصل الذي عقده ابن الأنباري " في شُبَه تورد على القياس " تمثلت فيما يأتي (2) :
1-
لو جاز حمل الشيء على الشيء بحكم الشبه لما كان حمل أحدهما على الآخر بأولى من صاحبه، فإنه ليس حمل الاسم المبني لشبه الحرف على الحرف في البناء بأولى من حمل الحرف لشبه الاسم على الاسم في الإعراب
2-
إذا كان القياس حمل الشيء بضرب من الشبه، فما من شيء يشبه شيئاً من وجه إلا ويفارقه من وجه آخر فإذا كان وجه المشابهة يوجب الجمع، فوجه المفارقة يوجب المنع.
3-
" لو كان القياس جائزاً لكان ذلك يؤدي إلى اختلاف الأحكام لأن الفرع قد يأخذ شبهاً من أصلين مختلفين فإذا حمل على كل واحد منهما وجد التناقض في الحكم وذلك لا يجوز، فإن (أن) الخفيفة المصدرية تشبه (أنّ) المشددة من وجه، وتشبه (ما) المصدرية من وجه، و (أنّ) المشددة معمله و (ما) المصدرية غير معمله، فلو حملنا (أن) الخفيفة على (أنّ) المشددة في العمل، وعلى (ما) المصدرية في ترك العمل لأدى ذلك إلى أن يكون الحرف الواحد معملا وغير معمل في حال واحدة، وذلك محال "(3) .
وهذه الاعتراضات لمنكر القياس قد أجاب عنها ابن الأبناري بما يثبت تأييده للقياس والرد على من أنكره وهى تعبير عن رفض فئة من النحاة للقياس بمفهومه الشكلي، ولقد بلغ هذا المفهوم الشكلي للقياس قمة نضجه واكتماله على يد ابن الأنباري، ثم السيوطي من بعده، فقد تحددت عندهما حدوده، وأنواعه، وأقسامه، واعتمدا في كثير مما جاءا به على ما كتبه ابن جني في الخصائص. فقال:" أعلم أن القياس في وضع اللسان بمعنى التقدير، وهو مصدر قايست الشيء بالشيء مقايسة وقياساً، أي قدرته، ومنه المقياس أي المقدار وهو في عرف العلماء عبارة عن تقدير الفرع بحكم الأصل، وقيل هو حمل فرع على أصل بعلة تقتضي إجراء حكم الأصل على الفرع، وقيل: هو ربط الأصل بالفرع بجامع، وقيل: هو اعتبار الشيء بالشيء بجامع، وهذه الحدود كلها متقاربة"(1) " وهذه المحاولة - بما تسعى إليه من إخفاء صفة الأصالة وبما فعلته من الربط بين المدلولين: اللغوي والاصطلاحي - قد وقعت في خطأين بارزين:
أولهما: أن تلمُّس الصلة بين هذين المعنيين قد أبعد النحاة عن مقتضيات الدقة العلمية، إذ لو كان لفظ القياس قد أخذ هذا المدلول الجديد عليه في البحث النحوي، لعرف به من قديم، ولترك آثاره في التفكير النحوي وفي البحث النحوي معا، وذلك غير صحيح.
والثاني: أن اعتبارهم المعنى اللغوي أساس المعنى الاصطلاحي جعلهم ينصرفون عن تحليل المؤثرات الحقيقية في المعنى الجديد للقياس وتقويم آثارها فيما أصابه من تطور ومن ثم ظلت أسباب هذا التطور ومصادره بعض النقاط الغامضة في البحث النحوي (2) .
ولعل ملامح هذا القياس الشكلي تتضح بالوقوف على أركانه التي يقوم عليها وقد حددها ابن الأنباري بأربعة أركان ثم ذكر مثالاً تتحقق الأركان الأربعة فيه، فقال:" ولا بد لكل قياس من أربعة أشياء: أصل وفرع وعلة وحكم وذلك مثل أن تركب قياساً في الدلالة على رفع ما لم يسم فاعله فتقول: اسم أسند الفعل إليه مقدما عليه، فوجب أن يكون مرفوعاً قياساً على الفاعل، فالأصل هو الفاعل والفرع ما لم يسم فاعله، والعلة الجامعة هي الإسناد، والحكم هو الرفع، والأصل في الرفع أن يكون للأصل الذي هو الفاعل، وإنما أجري على الفرع الذي هو ما لم يسم فاعله بالعلة الجامعة التي هي الإسناد. وعلى هذا النحو تركيب كل قياس من أقيسة النحو "(1) . ونعرض الآن لهذه الأركان:
1-
المقيس عليه: وهو الأصل الثابت بداهة أو بحكم الثابت ولا خلاف عليه.
2-
المقيس: وهو الفرع أو الشيء المجهول الذي نقيم القياس لنلحقه بالمقيس عليه.
3-
العلة: وهي الشيء الذي أدّى بنا إلى إلحاق المقيس " الفرع " بالمقيس عليه " الأصل " للإشتراك بينهما.
4-
الحكم: وهو النتيجة التي نخرج بها إلى إلحاق المقيس بالمقيس عليه للعلة الجامعة المشتركة بينهما.
وحتى لا يطول الحديث في تفصيل تلك الأركان التي تطرق لها عدد ليس بقليل من الباحثين والمؤلفين، فإننا نتحول إلى التطبيق على القياس الشكلي الذي أدت إليه الحاجة لاستنباط شيء جديد في صورة صيغ أو دلالات أو تراكيب للتعبير بها عن الحياة الجديدة.
التطبيق على القياس الشكلي:
ونتطرق للتطبيق على القياس الشكلي من خلال المسائل التالية:
1-
قياس النصب على الجر:
فإنه من المسلم به في اللغة العربية أن المثنى يرفع بالألف، نحو: حضر الزيدان، وينصب ويجر بالياء، نحو: أكرمت الطالبين، ونظرت إلى الرجلين. وجمع المذكر السالم يرفع بالواو، نحو صام المسلمون، وينصب ويجر بالياء كالمثنى نحو: هنأت المسلمين بقدوم العيد، وسررت من المسلمين. فالمثنى وجمع المذكر السالم ينصبان ويجران بالياء إلا أن النصب فيهما محمول على الجر، أما في المثنى، فلا يمكن أن يكون النصب بالألف، لئلا يقع في الكلام لبس فإذا دخل عامل الجر على المثنى، قلبت الألف ياء لأجل المناسبة، وبقيت الفتحة قبلها إشعاراً بكونها ألفاً في الأصل. فكان حمل النصب على الجر، ذلك أن المنصوب والمجرور متآخيان في أشياء: منها أن كلاً منهما فضلة، يجيئان بعد تمام الكلام، ومنها اتفاق ضميرهما في الغيبة والخطاب، كقولك: كتابك وكتابه، ومنها اتفاقهما في المعنى واتفاقهما في المخرج، فالفتح من أقصى الحلق، والكسر من وسط الفم. لهذه المناسبة والمشابهة بين المنصوب والمجرور حمل النصب على الجر في المثنى " لأن الجر أخف من الرفع، فلما أرادوا الحمل على أحدهما كان الحمل على الأخف أولى من الحمل على الأثقل، وهو الرفع (1)) . وكذلك حمل النصب على الجر في جمع المذكر، لأنه لو قلبت الواو ألفاً في النصب، لأدى ذلك إلى الالتباس بالمثنى المرفوع،" فكان الحمل على الجر بالياء أولى من غيره، لأن دلالة الياء على الجر أشبه من دلالتها على النصب، لأن الياء من جنس الكسرة، والكسرة تدل في الأصل على الجر فكذلك ما أشبهها (46) ".
هذا وقد جاء نصب جمع المؤنث بالكسرة حملاً على جره بها، كما حمل النصب على الجر في جمع المذكر إجراء للفرع على وتيرة الأصل.
هكذا رأينا أن النصب بالياء في المثنى وجمع المذكر جاء محمولاً على الجر بها كما أن النصب بالكسرة في جمع المؤنث جاء محمولاً على الجربها أيضاً، وكل ذلك من قبيل حمل الفرع على الأصل.
2-
قياس الجمع على المفرد إعلالاً وتصحيحاً
…
من مواضع قلب الواو ياء " وقوعها عينا لجمع صحيح اللام، وقبلها كسرة وهي في المفرد معلة. وذلك نحو: دار وديار، وقيمة وقيم، وديمة وديم (1) ". الأصل دور وقوم ودوم، فقد أعلت الواو في الجمع قياساً على إعلالها في المفرد، فإذا صحت عين المفرد صحت عين جمعه قياساً عليه، فصحت عين "طوال " لصحتها في عين مفرده طويل. وصحت عين الجمع في نحو أسواط وأحواض لعدم كسر ما قبلها، وصحت عين الجمع في ثورة وزوجة قياساً على صحتها في المفرد ثور وزوج" هكذا: أعلت عين الجمع حين أعلت عين مفرده، وصحت حين صحت عين مفرده، فقد حمل الجمع على المفرد إعلالا وتصحيحا حمل فرع على أصل، لأن الجمع فرع على الإفراد، وقد تساويا في علة الإعلال، كما تساويا في علة الصحة (2) ".
3-
قياس الحذف للنصب على الحذف للجزم:
كل فعل مضارع اتصل به ألف الاثنين، أو واو الجماعة، أو ياء المخاطبة، نحو: يضربان وتضربان ويضربون وتضربون وتضربين، فإنه يرفع بثبوت النون وينصب ويجزم بحذفها.
" بيد أن الحذف في حالة النصب مقيس على الحذف في حالة الجزم، لأن الحذف للجزم أصل (3) " وإنما كان أصلاً لمناسبة الحذف للسكون الذي هو الأصل الأصيل في الجزم، لذلك كان حمل النصب على الجزم في الحذف من قبيل حمل الفرع على الأصل.
4-
قياس الصفة المشبهة على اسم الفاعل:
يجوز في الصفة المشبهة أن تعمل الرفع والنصب والجر، فالرفع على الفاعلية والنصب على التشبيه بالمفعول به إن كان معرفة، وعلى التمييز إن كان نكرة، والجر على الإضافة، وذلك في نحو: قولك: هذا الحسن الوجه.
" فالوجه يجوز رفعه على الفاعلية، ونصبه على التشبيه بالمفعول به، وجره بإضافته إلى الحسن (4) ".
ولكن سيبويه أجاز للجر وجهاً آخر، " وهو أن يكون جره بالحمل على جر الرجل في قولهم: هذا الضارب الرجل (1)) "، كما أجازوا - أيضاً - النصب في قولهم: هذا الحسن الوجه، حملا له منهم على " هذا الضارب الرجل ". فقد حمل النحاة - حينئذ - نصب الوجه في الصفة المشبهة، على وجه النصب في اسم الفاعل بيد أن سيبويه حمل وجه الجر في الصفة المشبهة على وجه الجر في اسم الفاعل. " وهذا من قبيل حمل الفرع على الأصل، لأن الصفة المشبهة فرع على اسم الفاعل في العمل، لذلك قصرت عنه فلم تعمل في متقدم ولا في غير سببي (2) ".
5-
قياس الفعل المعتل على الصحيح:
الفعل الماضي مبني اتفاقا، وبناؤه على الفتح نحو: أكل وشرب، ما لم يتصل به واو الجماعة فيضم نحو: أكلوا وشربوا، أو ضمير رفع متحرك فيسكن نحو: أكلت وأكلنا، وشربت وشربنا.
والمضارع معرب، ما لم تتصل به نون التوكيد أو نون النسوة. فمثال نون التوكيد المباشرة: تقرأنّ؟ ، فالفعل معها مبنى على الفتح.
ومثال نون النسوة، قوله تعالى:{والوالدات يرضعن} (3) ، والفتيات يلعبن، فالفعل معها مبني على السكون. أما الفعل الأمر فقد أختلف في بنائه: فذهب الكوفيون إلى أن فعل الأمر معرب مجزوم بلام الأمر المقدرة، وأصلة: لتضرب فحذفت اللام تخفيفا، فصار: تضرب، ثم حذف حرف المضارعة قصداً للفرق بين هذا وبين المضارع غير المجزوم عند الوقف عليه، فاحتيج بعد حذف حرف المضارعة إلى همزة الوصل توصلا للنطق بالساكن، فصار: اضرب واستدلوا على أنه معرب مجزوم بلام مقدرة، أنك تقول في المعتل: اغز، ارم، اخش، فتحذف الواو والياء والألف كما تقول: لم يغز، لم يرم، لم يخش، بحذف حرف العلة، فدل ذلك على أنه مجزوم بلام مقدرة.
" أما البصريون فقد ذهبوا إلى أن فعل الأمر مبني على السكون في نحو: اضرب لأنه صحيح الآخر، ومبنى على حذف حرف العلة في نحو: اغز، اخش، ارم، لأنه معتل الآخر. فقد حذفت الواو والألف والياء من هذه الأفعال للبناء لا للإعراب. وتم هذا الحذف قياساً للفعل المعتل على الصحيح، وذلك أنه لما استوى الفعل المجزوم وفعل الأمر الصحيح في قولك: لم يخرج، واخرج في سكون الآخر، وإن كان أحدهما مجزوما والآخر مبنياً، سوي بينهما في الفعل المعتل بحذف حرف العلة.
" وإنما وجب حذفها في الجزم، لأن هذه الأحرف التي هي الواو والألف والياء جرت مجرى الحركات لشبهها بها فكما أن الحركات تحذف للجزم، فكذلك هذه الأحرف، فلما وجب حذف هذه الأحرف في المعتل للجزم، فكذلك يجب حذفها من المعتل للبناء، فحذفت فيهما حملا للمعتل على الصحيح، لأن الصحيح هو الأصل، والمعتل فرع عليه، فحذفت حملا للفرع على الأصل (1) . والخلاصة أن المضارع والأمر المعتلين حملا - في حذف حرف العلة - على المضارع والأمر الصحيحين حمل فرع على أصل، للتشابه بين حروف العلة والحركات في أن كلا منهما يحذف عند وجود المقتضى.
وقد ساق ابن جني رأيا لطيفا فذكر أنه إذا كان المراعى هو جانب الحركات والحروف، بغض النظر عن الصحة والاعتلال، كان من قبيل حمل الأصل على الفرع، لأن الحركات زوائد والحروف أصول (2) .
6-
قياس الجر على النصب:
…
الكسرة هي العلامة الأصلية للجر، والفتحة هي العلامة الأصلية للنصب، تقول: مررت بزيد، وأكرمت زيداً. ولكن مالا ينصرف من الأسماء جر بالفتحة نيابة عن الكسرة، فجر مالا ينصرف - حينئذ - بالفتحة مقيس على نصبه أى أن الجر فيما لا ينصرف - والجر خاص بالأسماء أصيل فيها - حمل على النصب المشترك بين الأسماء والأفعال (3) .
فالفتحة علامة فرعية للجر، والكسر علامة أصلية، وقد جر بالفتح ما حقه أن يجر بالعلامة الأصلية. لهذا كان حمل الجر على النصب فيما لا ينصرف من باب حمل الأصل على الفرع " وعلة الحمل هنا، هو أن المجرور والمنصوب فضلتان في الكلام فلما لم يكن من الحمل بد، حمل أحدهما على الآخر، كما في المثنى والمجموع، ولما كانت الفتحة إلى الكسرة أقرب من الضمة إليها، حمل على الأقرب منه، وهو الفتحة، حمل أصل على فرع، بخلاف حمل النصب على الجر في التثنية والجمع لأنه حمل فرع على أصل. وقد سمى النحاة حمل الجر على النصب فيما لا ينصرف وحمل النصب على الجر في التثنية والجمع سموه بالتقارض. وذكر ابن جني أن النحاة شبهوا الأصل بالفرع في المعنى الذي أفاده ذلك الفرع من ذلك الأصل، لأنهم " لما شبهوا الفعل المضارع بالاسم فأعربوه تمموا على المعنى بينهما بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فاعملوه (1) ".
" وكما حمل النصب على الجر في التثنية والجمع الذي على حد التثنية، كذلك حمل الجر على النصب فيما لا ينصرف، لأن " العرب إذا شبهت شيئاً بشيء فحملته على حكمه عادت أيضاً فحملت الآخر على حكم صاحبه، تثبيتاً لهما، وتتميماً لمعنى الشبه بينهما (2) "، وذلك يدلك على قوة تداخل هذه اللغة واتصال أجزائها وترابطها.
7-
قياس التثنية على الجمع:
من قبيل حمل الأصل على الفرع قياسهم تثنية الممدود على جمعه في قلب همزته واواً إذا كانت للتأنيث فقالوا في تثنية صحراء وحمراء: صحراوان وحمراوان قياساً على قلبها واواً في الجمع حيث قالوا: حمراوات وصحراوات. وإنما قلبت همزة الممدود واواً في الجمع لأن بقاءها دون قلب يؤدى إلى اجتماع شبه ثلاث ألفات لوقوعها بين ألفين لأن الهمزة من مخرج الألف، وخصت بالقلب واوا، لأن الياء قريبة من الألف، فلو قلبت ياء لأدى إلى اجتماع شبه ثلاث ألفات كذلك، لهذا اختير قلبها واواً لبعد شبهها بالألف وإنما كان حمل المثنى على الجمع من قبيل حمل الأصل على الفرع، لأن المثنى أقرب إلى الواحد وأبعد عن الجمع، فقربه من الواحد جعله أصلاً كما أن بعد الجمع عن الواحد جعله فرعاً (1) .
8-
قياس بعض الآحاد على المثنى والمجموع
للإعراب علامات أصلية، وعلامات فرعية. فالآحاد تعرب بعلامات أصلية وهي الحركات، نحو: هذا عالم فاضل ورأيت عالماً فاضلاً، واستمعت إلى عالم فاضل. والتثنية والجمع يعربان بالحروف - وهي علامات فرعية - نحو: جاء الزيدان، وأكرمت الزيدين، ومررت بالزيدين. وأيضاً صام المسلمون، واحترمت المسلمين، وسررت من تآزر المسلمين، ولكن بعض الآحاد جاء معرباً بالحروف نحو: هذا أخوك، واحترم أباك، وجلست مع حميك قياساً للمفرد على التثنية والجمع. وهو حمل للأصل على الفرع (2) لأن ما حقه أن يعرب بالحركات، جاء معرباً بالحروف.وهذا على المشهور في إعراب الأسماء الستة وهو أسهل المذاهب وأبعدها عن التكلف بخلاف ما ذهب إليه سيبويه والفارسي وجمهور البصريين من أنها معربة بحركات مقدرة على الحروف (3) "، فإن فيه تكلف وبُعد.
9-
قياس الظاهر على المضمر في استواء النصب والجر
" النصب والجر يستويان في المظهر المثنى والمجموع نحو: كافأت الطالبين، وسررت من الطالبين، وشجعت الصائمين، وسررت من الصائمين. كما تساويا في المضمر نحو: رأيتكما ومررت بكما، ورأيتكم ومررت بكم. فقد جاء المنصوب بلفظ المجرور، لأن المضمر مبني، فهو خال من الإعراب، فلا يظهر أثر فيه، بخلاف المظهر لأنه معرب، لذلك قاسوه على المضمر في التثنية نصباً وجراً، مع أنه أصل، لهذا كان حمل المظهر على المضمر في التثنية حمل أصل على فرع، من حيث أن المظهر معرب، والإعراب أصل في الأسماء. والمضمر مبني، والبناء فرع على الإعراب، فالمراعى حينئذ هو أمر الإعراب والبناء، وليس شيئاً آخر.
10-
قياس المصدر على الفعل
من أنواع ما حمل فيه الأصل على الفرع، قياس المصدر على فعله. وهذا القياس قد يكون في العمل، كما يكون في الإعلال أو التصحيح، وهذا هو البيان:
أولاً: القياس في العمل: ذهب البصريون إلى أن المصدر أصل المشتقات لكونه بسيطا لأنه يدل على الحدث فقط والفعل مشتق منه وفرع عليه، لأن الفعل يدل على الحدث والزمن، وكل فرع يتضمن الأصل وزيادة عليه، فثبتت فرعية الفعل وأصلية المصدر لأنه دل على بعض ما يدل عليه الفعل. وذهب الكوفيون إلى أن الفعل أصل، والمصدر مشتق من الفعل وفرع عليه لأن المصدر يجيء بعده في التصريف، نحو: ضرب ضرباً وقام قياما (1) . ومما يدل على أصالة الفعل أن المصدر يصح لصحة الفعل ويعتل لاعتلاله وأن الفعل يعمل في المصدر، فوجب أن يكون فرعا له، لأن رتبة العامل قبل رتبة المعمول. وأن المصدر يذكر تأكيداً للفعل، ولا شك أن رتبة المؤكَّد قبل رتبة المؤكّد، فدل ذلك على أن الفعل أصل، والمصدر فرع.
والصحيح مذهب البصريين، لأن من شأن الفرع أن يكون فيه ما في الأصل وزيادة، والفعل والوصف بالنسبة إلى المصدر كذلك. إذ المصدر يدل على مجرد الحدث، والفعل يدل على المصدر والزمان، والوصف يدل على المصدر والفاعل وبناء على ذلك يكون عمل المصدر عمل فعله من قبيل حمل الأصل "المصدر" على فرعه "الفعل". فإن كان فعله المشتق منه لازماً فهو لازم، وإن كان متعديا فهو متعد إلى ما يتعدى إليه بنفسه أو بحرف الجر. وقد عمل المصدر عمل فعله وحمل عليه في ذلك بسبب قوة مشابهته للفعل، لأنه أصل للفعل وفيه حروفه، وهو يعمل عمل فعله على ضروبه الثلاثة، مضافا كان أو مجردا أو مقترنا بأل (1)) ".
ولا يخفى أن عمل المصدر عمل فعله "عند الكوفيين" يكون من قبيل حمل الفرع على الأصل، لأن المصدر عندهم مشتق من الفعل وفرع عليه.
ثانياً: قياس المصدر على الفعل في الصحة والاعتلال: يقاس المصدر على الفعل في الصحة. وفي الاعتلال، فقد صحت عين المصدر في الحول والعور والغيد والجوار قياساً على الفعل: حول، وعور، وغيد، وجاور. كما أعلت عينه في نحو: صيام وقيام، والأصل: صّوام وقوام، قياساً على إعلالها في الفعل في: صام وقام، والأصل: صوم وقوم.
وعلى ذلك فقد صحت عين المصدر حين صحت عين فعله، واعتلت حين اعتلت عين فعله، فقد قيس المصدر على فعله صحة واعتلالا.
بيد أنه لا يخفى أن هذا القياس من قبيل حمل الأصل على الفرع عند البصريين، خلافا للكوفيين الذين يرون أنه من قبيل حمل الفرع على الأصل بناء على أن الفعل أصل المشتقات والمصدر فرع عليه.
ومنه عدم إضافة اسم الفاعل إلى فاعله قياساً على عدم إضافته إلى فاعله المضمر حيث إن الأصل في اسم الفاعل عدم إضافته إلى فاعله مضمراً كان أو مظهراً إلا إذا كان غير متعد، وقصد ثبوت معناه، فإنه يعامل معاملة الصفة المشبهة، وتسوغ إضافته إلى مرفوعة، نحو: زيد قائم الأب، برفع الأب ونصبه وجره على حد قولهم: زيد حسن الوجه، أى أنه يعامل معاملة الصفة المشبهة في رفع السببي ونصبه وجره بالإضافة. ولما كان الأصل في اسم الفاعل منع إضافته إلى فاعله مطلقا، مضمراً أو مظهراً، على رأى الجمهور، فإن عدم إضافته إلى المظهر مقيس على المنع في المضمر لأن المضمر أقوى حكما في باب الإضافة من المظهر، لذلك قيس المظهر عليه وإن كان هو الأصل لقوته ووفور صورته (1) .
كان هذا من قبيل حمل الأصل على الفرع بناء على أن المراعى هنا هو أمر الإعراب والبناء، فالمضمرات مبنية، والبناء فرع الإعراب في الأسماء. فحين يقاس المظهر على المضمر يكون من باب حمل الأصل على الفرع، ومنه أيضاً إضافة المصدر إلى الفاعل الظاهر قياساً على جواز إضافته إليه مضمراً، حيث إن إضافة المصدر إلى الفاعل الظاهر قد جازت قياساً على جواز إضافته إلى فاعله المضمر، من قبل أن " المضمر أقوى حكما في باب الإضافة من المظهر لأن المظهر بلطفه، وقوة اتصاله، مشابه للتنوين بلطفه وقوة اتصاله". ولذلك لا يجتمعان في نحو: ضاربانك وقاتلونه، أي لا يجتمع التنوين والإضافة، ولكنك تثبت التنوين مع المظهر لقوته فتقول: ضاربان زيداً. وكانت إضافة المصدر إلى فاعله المظهر مقيسة على إضافته إلى فاعله المضمر. وإن كان المظهر هو الأصل، لأن المراعى هنا أمر الإعراب والبناء وليس الأصالة والفرعية.
لذلك كان جواز قياس إضافة المصدر إلى فاعله الظاهر، على أضافته إلى فاعله المضمر، من قبيل حمل الأصل على الفرع. إلا إذا روعي أصالة المضمر في مشابهته التنوين، وفرعية المظهر عليه في ذلك، فإنه يكون من قبيل حمل الفرع على الأصل (1) .
11-
قياس الحرف على نظيره
…
من أنواع القياس الشكلي، قياس الحرف على نظيره، وهذا مثل نون (عنتر) ، فإن الدليل يقضى بكونها أصلاً لأنها مقابلة للعين في (جعفر) الذي هو على وزن فعلل، وهذا الوزن موجود في أمثلتهم (2)) " أما إذا لم يقم الدليل فأنت في هذه الحالة محتاج إلى النظير، وهذا كالواو والياء من كلمة (عِزوِيت) فإنه لما لم يقم دليل على أنهما أصلان لجأت إلى التعليل بالنظير، وحملته على (فِعْلِيت) لوجود النظير وهو: عِفْرِيت ونِفْرِيت، لأن الحمل على ماله نظير أولى من الحمل على غيره.
ومنعت أن يكون على (فعويل) لعدم النظير، لأن (فعويلاً) بناء لم يجئ في الأمثلة الأصيلة، ولا في المزيد فيها فلا يجوز أن تجعله (فعويلاً) لأنه يترتب عليه كون الواو أصلاً في ذوات الأربعة غير مكررة، وهي لا تكون أصلاً في ذوات الأربعة إلا مع التكرار كالوصوصة والوجوجة والوحوحة. فإذا لم يجز أن يكون على الوزنين الأخيرين (فعويل فعليل) ثبت أنه على وزن (فعليت) فالواو حينئذ لام الكلمة مثل عفريت، والتاء هي الحرف الزائد.
ومن ذلك أيضاً - أرنب وأفكل فإنه لمّا لم يقم الدليل على أصالة الهمزة أو زيادتها لجأت إلى الحكم بزيادة الهمزة فيهما لوجود النظير بكثرة زيادتها فيما علم اشتقاقه كقولهم: أفضل، أشرف، أمجد، أحمد. " وهكذا فإن هذا النوع من الحمول لا يلجأ إليه إلا عند فقد الدليل، كما أن تحقيق النظير بعد قيام الدليل نوع من الإيناس فقط (3)) "
12-
قياس اللفظ على نظيره
قياس النظير على النظير جعله السيوطي من القياس المساوي (1) ، كما إنه ارتأى أن يحمل النظير على النظير في اللفظ، أو في المعنى، أو فيهما، فمن أمثلة الأول بناء حذام على الكسر تشبيها له بدراك وتَرَاكِ ونَزَالِ، وبناء حاشا الاسمية لشبهها في اللفظ بحاشا الحرفية (2)) . ومن أمثلة الثاني إهمال أن المصدرية مع المضارع حملا على ما المصدرية وقد أشار إلى ذلك ابن مالك بقوله:
…
وبعضهم أهمل أن حملا على
…
ما أختها حيث استحقت عملا
ونحو: غير قائم الزيدان، قياساً على ما قام الزيدان، لأنه في معناه. ومنه قياس اسم التفضيل على فعل التعجب في رفع الظاهر بشروط (3) ، وذلك لشبهه بأفعل التعجب وزناً وأصلاً وإفادة للمبالغة. وكذلك قياس الكوفيين "أفعل" في التعجب على "اسم التفضيل" فأجازوا تصغيره لأنه اسم عندهم، وقد أشبه اسم التفضيل في الوزن والأصالة والدلالة على المبالغة.
وفيه فروع كثيرة نذكر منها:
(أ) كلمة مروان: يحتمل أن يكون وزنها فعلانا، أو مفعالا، أو فعوالا. فالأخيران مثالان لم يجيئا، والأول له نظير فيحمل عليه، لأن الحمل على ماله نظير أولى، فوزن " مروان" حينئذ - فعلان (4) .
(ب) ألف كلا: هذه الألف ليست زائدة، لئلا يبقى الاسم الظاهر على حرفين، وليس ذلك في كلامهم أصلاً. فحمل الألف على الأصالة، حمل على ماله نظير وهو عصاً ورحاً. بخلاف القول بأنها زائدة للتثنية لأنه حمل على ما ليس له نظير (5) .
(ج) كلتا: ذهب سيبويه إلى أن التاء فيها بدل من لام الكلمة، كما أبدلت منها في بنت وأخت، وألفها للتأنيث، ووزنها (فعلى) كذكرى" (6) .
والتاء فيها ليست متخصصة للتأنيث، بل فيها رائحة منه، وإنما لم تتمخض التاء فيها للتأنيث لعدم فتح ماقبلها، ولأنها لم تقلب في الوقف هاء. وذهب الجرمى إلى أن التاء في (كلتا) للتأنيث، والألف فيها لام الكلمة، كالألف في كلا ووزنها على (فعتل) .
والحق ماذهب إليه سيبويه لأنه حمل على النظير، وهو (ذكرى) ووزنهما معاً (فعلى) . وما ذهب إليه الجرمى ليس له نظير، لأنه ليس في الأسماء (فعتل) كما أنه لم يعهد أن تكون تاء التأنيث حشواً في كلمة واحدة.
(د) الأسماء الستة: هي عند البصريين معربة من مكان واحد، والواو والألف والياء هي حروف الإعراب، وعند الكوفيين معربة من مكانين، فالضمة والواو علامة للرفع والفتحة والألف علامة للنصب والكسرة والياء علامة للجر (1) . وما ذهب إليه البصريون هو الصحيح، لأنه له نظير في كلام العرب، فإن كل معرب في كلامهم له إعراب واحد، فلا حاجة إلى جمع الإعرابين في كلمة واحدة لأن أحدهما يقوم مقام الآخر.
أما ما ذهب إليه الكوفيون من الجمع بين علامتي إعراب فهو فاسد، لأن ذلك لا نظير له في كلامهم، والمصير إلى ماله نظير أولى من المصير إلى ما ليس له نظير (2) .
(هـ) التثنية والجمع: ذهب البصريون إلى أن الألف والواو والياء في التثنية والجمع حروف إعراب، نابت عن الضمة والفتحة والكسرة. وذهب أبو عمر الجرمي إلى أن انقلابها هو الإعراب، وهذا الرأي فاسد لأنه يؤدى إلى أن الإعراب بغير حركة ولا حرف، وهذا لا نظير له في كلامهم.
(و) صفة اسم (لا) المبني: يجوز فتح صفة اسم (لا) المبني في نحو: لا رجل ظريف في الدار، وفي هذه الحالة تكون فتحة الصفة فتحة بناء، لأن الموصوف والصفة جعلا كالشيء الواحد، فهما بمنزلة العدد المركب نحو: خمسة عشر. ثم دخلت "لا" عليها بعد التركيب، ولا يجوز أن تكون دخلت عليهما وهما معربان فبنيا معها، لأنه يؤدي إلى جعل ثلاثة أشياء كشيء واحد، وذلك لا نظير له (3)) .
(ز) حمل فعل التعجب على اسم التفضيل: إذا كان فعل التعجب معتل العين نحو: ما أطول زيدا، وأطول به، وجب تصحيح عينه في الصيغتين قياساً على اسم التفضيل، لأنه نظيره في الوزن والدلالة على المزية. حيث قالوا: هذا المثال أبين من غيره وأقوم منه، بصحة عينه وعدم إعلالها. فقد رأيت أن عين فعلا التعجب صحت حملا على صحتها في عين اسم التفضيل الذي صحت عينه لكونه اسما أشبه المضارع في الوزن والزيادة وما كان كذلك لا يعل.
(ح) صرف الجمع الذي له نظير في الآحاد: مما يمنع من الصرف الجمع الذي على صيغة منتهى الجموع، نحو: مساجد ودراهم ومصابيح لأن الجمع متى كان بهذه الصفة كان فيه فرعية اللفظ بخروجه عن صيغ الآحاد العربية، وفرعية المعنى بالدلالة على الجمعية، فاستحق المنع من الصرف بسبب هاتين العلتين الفرعيتين، أي أن المانع من صرف ما جاء على مفاعل، أو مفاعيل هو عدم النظير في الآحاد. أما الجمع الذي له نظير في الآحاد فيصرف نحو: أفعل وأفعال وأفعلة، فأفعل مثل: أفرس وأكلب نظيره في فتح أوله وضم ثالثه ما جاء على مثال تفعل مثل (تتفل وتنضب)(1) .
أما " أفعال " فمثل: أفراس وأجمال، ونظيره في فتح أوله وزيادة ألف رابعة تفعال نحو: تجوال وتطواف، وفعلال نحو: صلصال وخزعال، وفاعال نحو: ساباط وخاتام (2) . وأما افعله فنظيره في فتح أوله وكسر ثالثه وزيادة هاء التأنيث في آخره، تفعلة نحو: تذكرة وتبصرة.
فقد رأيت أن الجمع الذي له نظير في الآحاد، يوازية في الهيئة وعدد الحروف يكون مصروفا، لهذا صرف ما جاء من المجموع على وزن أفعل وأفعال وأفعلة لوجود النظير. ومنع صرف ما ليس له نظير في الآحاد مثل ما جاء على صيغة منتهى الجموع.
13-
قياس بعض الأفعال على بعض:
(أ) قياس رضيَ على سخط (3) : الأصل في الفعل (رضي) أن يتعدى ب (عن) تقول: رضي الله عن أبى بكر كما أن الفعل (سخط) يتعدى ب" على " تقول:
سخطت على الجهل. وقد يحمل الفعل رضي على سخط فيتعدى ب"على" حملا للشيء على نقيضه، لأن الرضى ضد السخط.
وقد استحسن الفارسي قول الكسائي في قول الشاعر:
…
إذا رضيت علي بنو قشير
…
لعمر الله أعجبني رضاها
لما كان " رضيت " ضد " سخطت " عدى رضيت بعلى حملا للشىء على نقيضه، كما يجعل على نظيره، لأن التصرف في الأفعال أولى من التصرف في الحروف.
(ب) قياس شكر على كفر في التعدية بالباء: يتعدى الفعل " شكر " بنفسه وباللام وبالياء، بيد أن التعدي بالباء جاء حملا على ضده "كفر " الذي يتعدى بنفسه وبالباء فيقال: كفر نعمة الله، وكفر بها (1) .
فقد حمل الفعل " شكر " على الفعل "كفر" في التعدي بالباء، حمل نقيض على نقيضه، والشيء يجري مجرى نقيضه كما يجري مجرى نظيره، لأن الذهن ينتبه لهما معاً بذكر أحدهما.
(ج) حمل بعض على كل: كلمة "كل" لفظها مفرد مذكر، ومعناها بحسب ما تضاف إليه، فإن أضيفت إلى نكرة وجب مراعاة معناها (2) . لذلك جاء الضمير مفرداً مذكراً في قوله تعالى:{وكلُّ شيءٍ فعلُوه في الزُّبُر} (3) ومفرداً مؤنثاً في قوله تعالى: {كُلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ} (4) ومجموعاً مذكراً في قوله تعالى: {كل حزب بما لديهم فرحون} (5) .
أما إذا أضيفت إلى معرفة فإنه لا يلزم مراعاة المعنى، بل يجوز مراعاة لفظ "كل" في الإفراد والتذكير، فتقول: كلهم ذاهب، ومراعاة المعنى فتقول: كلهم ذاهبون. هذا وقد حمل النحاة " بعضاً " على "كل " في عدم التثنية والجمع لأنه نقيض وحكم النقيض أن يجري على نقيضه، لذلك منع تثنية بعض وجمعها. قال النحاس:" لا يثنى بعض ولا يجمع حملا على كل لأنه نقيض، وحكم النقيض أن يجري على نقيضه"(6) .
• • •
نتائج البحث
بعد أن قدم الباحث تصوراً موجزاً للقياس في النحو العربي، بعامة والقياس الشكلي بخاصة يأتي لسرد أهم النتائج التي توصل إليها وهي:
1-
يعتبر القياس الشكلي تطوراً للتشبيه وما التشبيه إلا أولى مراحل القياس.
2-
تحول مفهوم القياس في أواخر القرن الثالث الهجري، وبدايات القرن الرابع الهجري، فلم يعد يعنى باطراد الظواهر واستقراء مادتها والقياس على ما شاع منها واطُّرد - وهو القياس الاستقرائي - بل بدأ يأخذ طابعاً شكلياً يعتمد على حمل فرع على أصل لعلة جامعة بينهما - وهو القياس الشكلي.
3-
لابد من التفرقة بين " القياس اللغوي" أو " قياس الأنماط" الذي يقوم به المتكلم، " وبين القياس النحوي أو" قياس الأحكام " الذي يقوم به الباحث.
4-
" القياس اللغوي " لابد منه لمسايرة التقدم الحضاري، وهو يختلف عن " القياس النحوي " الذي يتم فيه إلحاق حكم شيء بآخر لعلة جامعة بينهما.
5-
في " القياس النحوي " يجب ألا تتم عملية إلحاق الظواهر لمجرد المشابهة الشكلية بل تقوم على استقراء الظواهر في نصوصها اللغوية، ثم تتم عملية الإلحاق عند وجود علة الأصل في الفرع.
6-
نشأت فكرة القياس نشأة إسلامية عربية خالصة، ثم تأثرت بعد ذلك بالأفكار الفلسفية والمنطقية.
7-
أنه يجب إدراج النتاج الثقافي للعلماء ذوي السليقة السليمة في عصرنا الحاضر وما قبله من عصور، أمثال: أبي تمام والمتنبي والمعري وشوقي والمنفلوطي.. وأمثالهم، يجب إدراجها تحت " المقيس عليه " الذي يصح لنا أن نحاكيه.
8-
للقياس الشكلي أهمية كبرى أثبتها الواقع اللغوي باعتباره معياراً من معايير القبول والرفض والحكم على الظاهرة بالصواب أو الخطأ.
9-
للقياس الشكلي أهمية كبرى لأن المتكلم لن يسمع كل ما يقوله العرب وإنما يسمع أمثلة ويقيس على شاكلتها. وهذا سوف يؤدي إلى توسيع اللغة والنحو، ويجعل اللغة وسيلة للنطق بآلاف الكلم. دون أن تقرع السمع أو يحتاج إلى التثبت من صحة عربيتها.
10-
القياس الشكلي هو بمثابة شهادة ضمان للغة العربية، وهو الدرع الواقي لقواعدها من اللحن والتحريف والزيغ بل أغلق الباب أمام عبث العابثين ولغو اللاغين.
11-
يعتبر القياس الشكلي بالغ الأهمية لمسايرة التطورات والحاجة الملحة إلى ألفاظ جديدة كتسمية بعض المخترعات، وإلحاق الصيغ بغيرها في العمل والدلالة وحمل بعضها على بعض في الحكم النحوي.
الحواشي والتعليقات
(1)
لمع الأدلة - تحقيق سعيد الأفغاني 93
(2)
طبقات الشعراء، المقدمة
(3)
من أسرار اللغة، أنيس، 9
(4)
اللغة بين المعياريّه والوصفيّة 31 وما بعدها.
(5)
الخصائص 1/357، 2/25
(6)
الاقتراح 71
(7)
انظر: الاقتراح 70، ولمع الأدلة 93، وفي أصول النحو 68 و 69
(8)
الأصول، ص 168-169 ولمع الأدلة ص 105 وما بعدها.
(9)
الشاهد وأصول النحو 230 وأخبار النحويين البصريين 32-33
(10)
لمع الأدلة في أصول النحو 99
(11)
السابق نفس الصفحة
(12)
أنظر من أسرار اللغة 28-29
(13)
الخصائص 2/88 وأنظر الشاهد وأصول النحو 231
(14)
السابق، الصفحة نفسها وأنظر في أصول النحو 86
(15)
الشاهد وأصول النحو 430، وانظر دراسات في اللغة العربية وتاريخها 25
(16)
تقويم الفكر النحوي 53
(17)
السابق 57 - 61 (بتصرف)
(18)
السابق 78
(19)
السابق 83
(20)
السابق، نفس الصفحة.
(21)
السابق، نفس الصفحة.
(22)
السابق 85
(23)
انظر: السابق 90 وما بعدها.
(24)
السابق 105
(25)
السابق 102
(26)
السابق 93
(27)
انظر في ذلك: من أسرار اللغة، ص 13، وفي أصول النحو، ص 76 وما بعدها.
(28)
الخصائص 1/357 و 2/25
(29)
الخصائص 2/ 88
(30)
الخصائص 1/329.
(31)
من أسرار اللغة 14
(32)
نشأة النحو 149 - 151.
(33)
السابق 151
(34)
من أسرار اللغة 15
(35)
تقويم الفكر النحوي 114 - 115
(36)
السابق 107
(37)
السابق 116 - 117
(38)
السابق 117
(39)
أصول التفكير النحوي 13
(40)
لمع الأدلة 100
(41)
لمع الأدلة ص 49 - 50
(42)
الخصائص ص 1/301
(43)
أصول التفكير النحوي 76
(44)
لمع الأدلة 93
(45)
الحمل في لغة العرب 281
(46)
السابق: 281
(47)
الاقتراح 101
(48)
الحمل في لغة العرب 283
(49)
حاشية الصبان على شرح الاشموني للألفية 95.
(50)
الخصائص: 1/208
(51)
الكتاب 1/195
(52)
الحمل في لغة العرب 282
(53)
سورة البقرة: 233
(54)
الإنصاف في مسائل الخلاف 311
(55)
انظر الخصائص 1/310
(56)
انظر الخصائص 1/306، والأشباه والنظائر 1/195
(57)
الخصائص 1/300-312 (باب من غلبة الفروع على الأصول)
(58)
السابق: 1/308
(59)
الأشباه والنظائر 1/196
(60)
انظر الخصائص 1/309
(61)
الخصائص: 2/255
(62)
الإنصاف: المسألة 28
(63)
الأشباه والنظائر 1/197
(64)
الخصائص 2/355
(65)
الخصائص 2/ 355
(66)
الاقتراح 105 والخصائص 1/197.
(67)
الحمل في لغة العرب 349
(68)
الاقتراح 105
(69)
هذه الشروط هي: أن يسبقه نفى، وأن يكون مرفوعة أجنبياً مفضلاً على نفسه
(70)
الأشباه والنظائر 1/175
(71)
الأشباه والنظائر 2/83
(72)
الكتاب 3/364
(73)
نفسه 3/364 وأنظر الأشباه والنظائر 2/83
(74)
الإنصاف المسألة (2)
(75)
الإنصاف مسألة رقم (2) 1/21
(76)
الأشباه والنظائر 1/176
(77)
التتفل: ولد الثعلب، والتنضب: شجر يتخذ سهاماً.
(78)
الخاتام: لغة في الخاتم.
(79)
الخصائص 2/311
(80)
أنظر الأشباه والنظائر 2/123
(81)
أنظر الأشباه والنظائر 2/120
(82)
سورة القمر 52
(83)
سورة آل عمران 185
(84)
سورة الروم 32
(85)
الأشباه والنظائر 1/191
المصادر والمراجع
1-
أخبار النحويين البصريين، السيرافي، تحقيق محمد إبراهيم البنا، دار الاعتصام، الطبعة الأولى 1985م.
2-
الأشباه والنظائر في النحو، السيوطي، راجعه فايز ترحيني، دارالكتاب العربي، الطبعة الأولى 1984م.
3-
الأصول في النحو، أبو بكر بن السراج (ت 316هـ) ، تحقيق عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الثانية 1988م.
4-
الأصول، دراسة بستمولوجيا الفكر اللغوي عند العرب، د. تمام حسان، الهيئة المصرية العامة 1982م.
5-
أصول التفكير النحوي، د. علي أبو المكارم، منشورات الجامعة الليبية - كلية التربية.
6-
أصول النحو العربي، محمد عيد، عالم الكتب ط: 1410م.
7-
أصول النحو القياسية دراسة ونقد، غريب عبد المجيد نافع، دكتوراه، كلية اللغة العربية - جامعة الأزهر 1970م.
8-
أمالي ابن الشجري، هبة الله بن علي بن حمزة الحسنى العلوي (ت 542هـ) تحقيق محمود محمد الطناحي، مكتبة الخانجي بالقاهرة.
9-
الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، لأبى البركات الأنباري (ت 616هـ) ، المكتبة العصرية – صيدا – بيروت.
10-
إنباه الرواة على أنباه النحاة، القفطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة دار الكتب المصرية - القاهرة 1972م.
11-
بين أصول النحو وأصول الفقه، محمود أحمد نحلة، دار العلوم العربية للطباعة والنشر - بيروت - لبنان 1987م.
12-
تقويم الفكر النحوي - أبو المكارم، بيروت، دار الثقافة.
13-
حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، دار إحياء الكتب العربية.
14-
الحمل في لغة العرب، دردير أبو السعود، الطبعة الأولى 1985م. وهو موجود في دار الكتب المصرية تحت رقم 16719هـ.
15-
خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر البغدادي (ت 1093هـ)
تحقيق وشرح عبد السلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
16-
الخصائص، ابن جني، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986م.
17-
الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه، خديجة الحديثي، مطبوعات جامعة الكويت 1974م.
18-
شرح جمل الزجاجي، ابن عصفور، تحقيق صاحب أبو جناح، دار الكتب - جامعة الموصل بالعراق.
19-
شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
20-
طبقات النحويين واللغويين، الزبيدي (ت 379هـ) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 1954م.
21-
الفهرست، ابن النديم، مطبعة الاستقامة، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة 1978م.
22-
في أدلة النحو، عفاف حسنين، المكتبة الأكاديمية، الطبعة الأولى 1996م وهو موجود بمكتبة القاهرة الكبرى برقم 1 و 415.
23-
في أصول النحو، سعيد الأفغاني، مطبعة الجامعة السورية، الطبعة الثانية 1951م.
24-
القاموس المحيط، الفيروزابادي، مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية 1952م.
25-
الاقتراح في علم أصول النحو، السيوطي، تحقيق أحمد محمد قاسم، مطبعة السعادة 1976م.
26-
القياس في النحو من الخليل إلى ابن جنى، دكتوراه بكلية الآداب جامعة القاهرة، إشراف خليل نامي 1975 إعداد صابر بكر أبو السعود.
27-
الكتاب، سيبويه، (ت 180هـ) ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي - القاهرة.
28-
لسان العرب، ابن منظور (ت 711هـ) ، دار بيروت للطباعة - بيروت 1955م.
29-
لمع الأدلة، ابن الأنباري - تحقيق: سعيد الأفعاني - سوريا مطبعة الجامعة السورية.
30-
مجلة الحصاد في اللغة والأدب - جامعة الكويت، العدد الأول السنة الأولى 1401هـ.
31-
المدارس النحوية، شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة ط6.
32-
مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو، مهدي المخزومي، دار المعرفة - بغداد 1955م.
33-
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، تحقيق مازن المبارك وآخرون،دار الفكر - بيروت ط3 1972م.
34-
المقتضب، المبرد (ت 285هـ) ، تحقيق محمد عبد الخالق، عالم الكتب - بيروت.
35-
من أسرار اللغة إبراهيم أنيس، القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية ط /1975م.
36-
نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء، الأنباري (ت 577هـ) ، تحقيق إبراهيم السامرائي، مكتبة الأندلس - بغداد ط2 1970م.
37-
النحو العربي والدرس الحديث، بحث في المنهج، عبده الراجحي، دار النهضة العربية - بيروت 1979م.
38-
اللغة بين المعيارية والوصفية، تمام حسان، القاهرة - مكتبة الانجلو المصرية 1958م.
39-
نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة، الشيخ الطنطاوي، القاهرة. دار المنار سنه 1412هـ.
40-
همع الهوامع السيوطي صححه السيد/ محمد بدرالدين الافغاني. مكتبة الكليات الأزهرية ط 1327هـ.