المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة - مجموع فتاوى ورسائل العثيمين - جـ ١٠

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

- ‌باب قول الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [

- ‌باب قول الله تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [

- ‌باب قول الله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [

- ‌باب قول الله تعالى:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [

- ‌باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله

- ‌باب ما جاء في الرياء

- ‌باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله

- ‌باب قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ

- ‌باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات

- ‌باب قول الله تعالى:{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [

- ‌باب قول الله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [

- ‌باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

- ‌باب قول: ما شاء الله وشئت

- ‌باب من سب الدهر فقد آذى الله

- ‌باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه

- ‌باب احترام أسماء الله

- ‌باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

- ‌باب قول الله تعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [

- ‌باب قول الله تعالى:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [

- ‌باب قول الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا

- ‌باب لا يقال: السلام على الله

- ‌باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت

- ‌باب لا يقول: عبدي وأمتي

- ‌باب لا يرد من سأل بالله

- ‌باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

- ‌باب النهي عن سب الريح

- ‌باب قول الله تعالى:{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌باب ما جاء في منكري القدر

- ‌باب ما جاء في المصورين

- ‌باب ما جاء في كثرة الحلف

- ‌باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ما جاء في الإقسام على الله

- ‌باب لا يستشفع بالله على خلقه

- ‌باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيدوسده طرق الشرك

- ‌باب ما جاء في قول الله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ

الفصل: ‌باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

‌باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

عن جابر؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يسأل بوجه الله إلا الجنة» (1) . رواه أبو داود

ــ

مناسبة هذا الباب للتوحيد: أن فيه تعظيم وجه الله عز وجل، بحيث لا يسأل به إلا الجنة.

قوله: «لا يسأل بوجه الله إلا الجنة» . اختلف في المراد بذلك على قولين:

القول الأول: أن المراد: لا تسألوا أحدا من المخلوقين بوجه الله، فإذا أردت أن تسأل أحدا من المخلوقين، فلا تسأله بوجه الله؛ لأنه لا يسأل بوجه الله إلا الجنة، والخلق لا يقدرون على إعطاء الجنة، فإذا لا يسألون بوجه الله مطلقا، ويظهر أن المؤلف يرى هذا الرأي في شرح الحديث، ولذلك ذكره بعد " باب لا يرد من سأل بالله ".

القول الثاني: أنك إذا سألت الله، فإن سألت الجنة وما يستلزم دخولها، فلا حرج أن تسأل بوجه الله، وإن سألت شيئا من أمور الدنيا، فلا تسأله بوجه الله؛ لأن وجه الله أعظم من أن يسأل به لشيء من أمور الدنيا.

فأمور الآخرة تسأل بوجه الله، كقولك مثلا: أسألك بوجهك أن تنجيني

(1) أبو داوود: كتاب الزكاة / باب كراهية المسالة بوجه الله

ص: 942

من النار، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بوجه الله لما نزل قوله تعالى:" {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} ، قال: أعوذ بوجهك، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} ، قال: أعوذ بوجهك، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] قال: هذه أهون أو أيسر ".

ولو قيل: إنه يشمل المعنيين جميعا، لكان له وجه.

وقوله: " بوجه الله ". فيه إثبات الوجه لله عز وجل، وهو ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف، فالقرآن في قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22] والآيات كثيرة.

والسنة كما في الحديث السابق: " أعوذ بوجهك ".

واختلف في هذا الوجه الذي أضافه الله إلى نفسه: هل هو وجه حقيقي، أو أنه وجه يعبر به عن الشيء الذي يراد به وجهه وليس هو الوجه الحقيقي، أو أنه يعبر به عن الجهة، أو أنه يعبر به عن الثواب؟

فيه خلاف، لكن هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فقالوا: إنه وجه حقيقي؛ لأن الله تعالى قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] ، ولما أراد الله غير ذاته، قال:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] ف" ذي " صفة لرب وليست صفة لاسم، و" ذو "

ص: 943

صفة لوجه وليست صفة لرب، فإذا كان الوجه موصوفا بالجلال والإكرام، فلا يمكن أن يراد به الثواب أو الجهة أو الذات وحدها؛ لأن الوجه غير الذات.

وقال أهل التعطيل: أن الوجه عبارة عن الذات أو الجهة أو الثواب، قالوا: ولو أثبتنا لله وجها للزم أن يكون جسما، والأجسام متماثلة، ويلزم من ذلك لإثبات المثل لله عز وجل، والله تعالى يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وإثبات المثل تكذيب للقرآن، وأنتم يا أهل السنة تقولون: إن من اعتقد أن لله مثيلا فيما يختص به فهو كافر، فنقول لهم:

أولا: ما تعنون بالجسم الذي فررتم منه، أتعنون به المُركَّب من عظام وأعصاب ولحم ودم بحيث يفتقر كل جزء منه إلى الآخر؟ إن أردتم ذلك، فنحن نوافقكم أن الله ليس على هذا الوجه ولا يمكن أن يكون كذلك، وإن أردتم بالجسم الذات الحقيقية المتصفة بصفات الكمال، فلا محذور في ذلك، والله تعالى وصف نفسه بأنه أحد صمد، قال تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1 - 2]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الصمد: الذي لا جوف له. (1)

ثانيا: قولكم: إن الأجسام متماثلة قضية من أكذب القضايا، فهل جسم الدب مثل جسم النملة؟ فبينهما تباين عظيم في الحجم والرقة واللين وغير ذلك.

فإذا بطلت هذه الحجة بطلت النتيجة وهي استلزام مماثلة الله لخلقه.

ونحن نشاهد البشر لا يتفقون في الوجوه، فلا تجد اثنين متماثلين من كل وجه ولو كانا توءمين، بل قالوا: إن عروق الرجل واليد غير متماثلة من شخص إلى آخر.

(1) ابن جرير (30/ 742) .

ص: 944

ويلاحظ أن التعبير بنفي المماثلة أولى من التعبير بنفي المشابهة؛ لأنه اللفظ الذي جاء به القرآن، ولأنه ما من شيئين موجودين إلا ويتشابهان من وجه ويفترقان من وجه آخر، فنفي مطلق المشابهة لا يصح، وقد تقدم.

وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله خلق آدم على صورته» ، ووجه الله لا يماثل أوجه المخلوقين، فيجاب عنه:

بأنه لا يراد به صورة تماثل صورة الرب عز وجل بإجماع المسلمين والعقلاء؛ لأن الله عز وجل وسع كرسيه السماوات والأرض، والسماوات والأرضون كلها بالنسبة للكرسي - موضع القدمين - كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة، فما ظنك برب العالمين؟ فلا أحد يحيط به وصفا ولا تخيلا، من هذا وصفه لا يمكن أن يكون على صورة آدم ستون ذراعا، وإنما يراد به أحد معنيين:

الأول: أن الله خلق آدم على صورة اختارها وجعلها أحسن صورة في الوجه، وعلى هذا، فلا ينبغي أن يقبح أو يضرب لأنه لما أضافه إلى نفسه اقتضى من الإكرام ما لا ينبغي معه أن يقبح أو أن يضرب.

الثاني: أن الله خلق آدم على صورة الله عز وجل ولا يلزم من ذلك المماثلة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أضوأ كوكب في السماء» ، ولا يلزم أن يكون على

ص: 945

ــ

صورة نفس القمر؛ لأن القمر أكبر من أهل الجنة، وأهل الجنة يدخلونها طول أحدهم ستون ذراعا، وعرضه سبعة أذرع كما في بعض الأحاديث.

وقال بعض أهل العلم: على صورته، أي: صورة آدم، أي: أن الله خلق آدم أول مرة على هذه الصورة، وليس كبنيه يتدرج في الإنشاء نطفة ثم علقة ثم مضغة.

لكن الإمام أحمد رحمه الله أنكر هذا التأويل، وقال: هذا تأويل الجهمية، ولأنه يفقد الحديث معناه، وأيضا يعارضه اللفظ الآخر المفسر للضمير وهو بلفظ:«على صورة الرحمن» .

ص: 946

فيه مسائل:

• الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب. الثانية: إثبات صفة الوجه.

ــ

فيه مسائل:

· الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.

تؤخذ من حديث الباب، وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم، لكن على تقدير صحته، فإن من الأدب أن لا تسأل بوجه الله إلا ما كان من أمر الآخرة: الفوز بالجنة، أو النجاة من النار.

· الثانية: إثبات صفة الوجه. وقد سبق الكلام عليه.

ص: 947

باب ما جاء في ال (لو)

ــ

قوله: في " اللو ".

دخلت " أل " على " لو " وهي لا تدخل إلا على الأسماء، قال ابن مالك:

بالجر والتنوين والندا وأل

ومسند للاسم تمييز حصل

لأن المقصود بها اللفظ، أي: باب ما جاء في هذا اللفظ.

والمؤلف رحمه الله جعل الترجمة مفتوحة ولم يجزم بشيء؛ لأن " لو " تستعمل على عدة أوجه:

الوجه الأول: أن تستعمل في الاعتراض على الشرع، وهذا محرم، قال تعالى:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 18] في غزوة أحد حينما تخلف أثناء الطريق عبد الله بن أُبي في نحو ثلث الجيش، فلما استشهد من المسلمين سبعون رجلا اعترض المنافقون على تشريع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لو أطاعونا ورجعوا كما رجعنا ما قتلوا، فرأينا خير من شرع محمد، وهذا محرم يصل إلى الكفر.

الثاني: أن تستعمل في الاعتراض على القدر، وهذا محرم أيضا، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156] أي: لو أنهم بقوا ما قتلوا، فهم يعترضون على قدر الله.

الثالث: أن تستعمل للندم والتحسر، وهذا محرم أيضا؛ لأن كل شيء يفتح الندم عليك فإنه منهي عنه؛ لأن الندم يكسب النفس حزنا وانقباضا، والله يريد من أن نكون في انشراح وانبساط، قال صلى الله عليه وسلم:«احرص على ما ينفعك»

ص: 948

ــ

«واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان» .

مثال ذلك: رجل حرص أن يشتري شيئا يظن أن فيه ربحا فخسر، فقال: لو أني ما اشتريته ما حصل لي من خسارة، فهذا ندم وتحسر، ويقع كثيرا، وقد نُهي عنه.

الرابع: أن تستعمل في الاحتجاج بالقدر على المعصية، كقول المشركين:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] وقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] وهذا باطل.

الخامس: أن تستعمل في التمني، وحكمه حسب المتمنى: إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الأربعة قال أحدهم:«لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان» فهذا تمنى خيرا، وقال الثاني:«لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان» ، فهذا تمنى شرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأول:«فهو بنيته، فأجرهما سواء» ، وقال في الثاني:«فهو بنيته، فوزرهما سواء» . (1)

السادس: أن تستعمل في الخبر المحض.

وهذا جائز، مثل: لو حضرت الدرس لاستفدت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم» ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو علم أن هذا الأمر سيكون من الصحابة ما ساق الهدي ولأحل،

(1) الإمام أحمد (4/230،231)

ص: 949

وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] .

ــ

وهذا ظاهر لي: وبعضهم قال: إنه من باب التمني، كأنه قال: ليتني استقبلت من أمري ما استدبرت حتى لا أسوق الهدي.

لكن الظاهر: أنه لما رأى من أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتمنى شيئا قدر الله خلافه.

وقد ذكر المؤلف في هذا البيت آيتين:

الآية الأولى قوله تعالى: يَقُولُونَ. الضمير للمنافقين.

قوله: مَا قُتِلْنَا. أي: ما قتل بعضنا، لأنهم لم يقتلوا كلهم، ولأن المقتول لا يقول.

قوله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ} . " لو ": شرطية، وفعل الشرط:" كان "، وجوابه: مَا قُتِلْنَا ولم يقترن الجواب باللام؛ لأن الأفصح إذا كان الجواب منفيا عدم الاقتران، فقولك: لو جاء زيد ما جاء عمرو أفصح من قولك: لو جاء زيد لما جاء عمرو، وقد ورد قليلا اقترانها مع النفي، كقول الشاعر:

لو نعطى الخيار لما افترقنا

ولكن لا خيار مع الليالي

قوله: هَاهُنَا. أي: في أُحد.

قوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} . هذا رد عليهم، فلا يمكن أن يتخلفوا عما أراد الله بهم.

ص: 950

وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168] .

ــ

وقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . هذا من الاعتراض على الشرع، لأنهم عتبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم حين خرج بدون موافقتهم، ويمكن أن يكون اعتراضا على القدر أيضا، أي: لو كان لنا من حسن التدبير والرأي شيء ما خرجنا فنقتل.

قوله: وَقَعَدُوا. الواو إما أن تكون عاطفة والجملة معطوفة على قَالُوا، ويكون وصف هؤلاء بأمرين:

- بالاعتراض على القدر بقولهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} .

- وبالجبن عن تنفيذ الشرع " الجهاد " بقولهم: وَقَعَدُوا، أو تكون الواو للحال والجملة حالية على تقدير " قد "، أي: والحال أنهم قد قعدوا، ففيه توبيخ لهم حيث قالوا مع قعودهم، ولو كان فيهم خير لخرجوا مع الناس، لكن فيهم الاعتراض على المؤمنين وعلى قضاء الله وقدره.

قوله: " لإخوانهم ". قيل: في النسب لا في الدين، وقيل في الدين ظاهرا؛ لأن المنافقين يتظاهرون بالإسلام، ولو قيل لهم: إنه شامل للأمرين، لكان صحيحا.

قوله: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} . هذا غير صحيح، ولهذا رد الله عليهم بقوله:{قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وإن كنتم قاعدين، فلا تستطيعون أيضا أن تدرءوا عن أنفسكم الموت.

فهذه الآية والتي قبلها تدل على أن الإنسان محكوم بقدر الله كما أنه يجب أن يكون محكوما بشرع الله.

ص: 951

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا، لكان كذا وكذا، لكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»

ــ

· مناسبة الباب للتوحيد:

أن من جملة أقسم (لو) الاعتراض على القدر، ومن اعترض على القدر، فإنه لم يرضَ بالله ربا، ومن لم يرضَ بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا، فإنه لم يحقق توحيد الربوبية.

والواجب أن ترضى بالله ربًا، ولا يمكن أن تستريح إلا إذا رضيت بالله ربًا تمام الرضا، وكأن لك أجنحة تميل بها حيث مال القدر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن: إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خير له» ، ومهما كان، فالأمر سيكون على ما كان، فلو خرجت مثلا في سفر ثم أصبت في حادث، فلا تقل: لو أني ما خرجت في السفر ما أصبت؛ لأن هذا مقدر لا بد منه.

قوله: " وفي الصحيح " أي: " صحيح مسلم "، وانظر ما سبق في: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله (146) .

ص: 952

والمؤلف رحمه الله حذف منه جملة، وأتى بما هو مناسب للباب، والمحذوف قوله:«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» .

قوله: " القوي ". أي: في إيمانه وما يقتضيه إيمانه، ففي إيمانه، يعني: ما يحل في قلبه من اليقين الصادق الذي لا يعتريه شك، وفيما يقتضيه، يعني: العمل الصالح من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحزم في العبادات وما أشبه ذلك.

وهل يدخل في ذلك قوة البدن؟

الجواب: لا يدخل في ذلك قوة البدن إلا إذا كان في قوة بدنه ما يزيد إيمانه أو يزيد ما يقتضيه؛ لأن " القوي " وصف عائد على موصوف وهو المؤمن، فالمراد: القوي في إيمانه أو ما يقتضيه، ولا شك أن قوة البدن نعمة، إن استعملت في الخير فخير، وإن استعملت في الشر فشر.

قوله: " خير وأحب إلى الله ". خير في تأثيره وآثاره فهو ينفع ويقتدى به وأحب إلى الله باعتبار الثواب.

قوله: " ومن المؤمن الضعيف ". وذلك في الإيمان أو فيما يقتضيه لا في قوة البدن.

قوله: " وفي كل خير ". أي: في كل من القوي والضعيف خير، وهذا النوع من التذييل يسمى عند البلاغيين بالاحتراس حتى لا يظن أنه لا خير في الضعيف.

فإن قيل: إن الخيرية معلومة في قوله: " خير وأحب "؛ لأن الأصل في اسم التفضيل اتفاق المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف؟

فالجواب: أنه قد يخرج عن الأصل، كما في قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] مع أن أهل النار لا خير في مستقرهم.

ص: 953

كذلك الإنسان إذا سمع هذه الجملة: " خير وأحب " صار في نفسه انتقاص للمؤمن المفضل عليه، فإذا قيل:" وفي كل خير " رفع من شانه، ونظيره قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] .

قوله: «احرص على ما ينفعك» . الحرص: بذلُك الجهد لنيل ما ينفع من أمر الدين أو الدنيا.

وأفعال العباد بحسب السَّبر والتقسيم لا تخلو من أربع حالات:

1.

نافعة، وهذه مأمور بها.

2.

ضارة وهذه محذر منها.

3.

فيها نفع وضرر.

4.

لا نفع فيها ولا ضرر، وهذه لا يتعلق بها أمر ولا نهي، لكن الغالب أن لا تقع إلا وسيلة إلى ما فيه أمر أو نهي، فتأخذ حكم الغاية؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.

فالأمر لا يخلو من نفع أو ضرر، إما لذاته أو لغيره، فحديثنا العام قد لا يكون فيه نفع ولا ضرر، لكن قد يتكلم الإنسان ويتحدث لأجل إدخال السرور على غيره فيكون نفعا، ولا يمكن أن تجد شيئا من الأمور والحوادث ليس فيه نفع ولا ضرر، إما ذاتي، أو عارض إنما ذكرناه لأجل تمام السبر والتقسيم.

والعاقل يشح بوقته أن يصرفه فيما لا نفع فيه ولا ضرر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خير أو ليصمت» .

ص: 954

واتصال هذه الجملة بما قبلها ظاهر جدا؛ لأن من القوة الحرص على ما ينفع.

و" ما ": اسم موصول بفعل " ينفع "، والاسم الموصول يحول بصلته إلى اسم فاعل، كأنه قال: احرص على النافع، وإنما قلت ذلك لأجل أن أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالحرص على النافع، ومعناه أن نقدم الأنفع على النافع؛ لأن الأنفع مشتمل على أصل النفع وعلى الزيادة، وهذه الزيادة لا بد أن نحرص عليها؛ لأن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب ما يشتمل عليه تأكد ذلك الوصف، فإذا قلت: أنا أكره الفاسقين كان كل من كان أشد في الفسق إليك أكره، فنقدم الأنفع على النافع لوجهين:

1.

أنه مشتمل على النفع وزيادة.

2.

أن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب تأكد ذلك الوصف وقوته.

يؤخذ من الحديث وجود الابتعاد عن الضار؛ لأن الابتعاد عنه انتفاع وسلامة لقوله: " «احرص على ما ينفعك» .

قوله: " واستعن بالله ". الواو تقتضي الجمع فتكون الاستعانة مقرونة بالحرص، والحرص سابق على الفعل، فلابد أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل من أوله.

والاستعانة: طلب العون بلسان المقال، كقولك:" اللهم أعني، أو: لا حول ولا قوة إلا بالله " عند شروعك بالفعل.

أو بلسان الحال، وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربك عز وجل أن يعينك على هذا الفعل، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز وعورة.

ص: 955

أو طلب العون بهما جميعا، والغالب أن من استعان بلسان المقال، فقد استعان بلسان الحال.

لو احتاج الإنسان إلى الاستعانة بالمخلوق كحمل صندوق مثلا، فهذا جائز، ولكن لا تشعر نفسك أنها كاستعانتك بالخالق، وإنما عليك أن تشعر أنها كمعونة بعض أعضائك لبعض، كما لو عجزت عن حمل شيء بيد واحدة، فإنك تستعين على حمله باليد الأخرى وعلى هذا، فالاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه كالاستعانة ببعض أعضائك، فلا تنافي قوله صلى الله عليه وسلم:" استعن بالله ".

قوله: " ولا تعجزن ". فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة، و" لا " ناهية، والمعنى لا تفعل فعل العاجز من التكاسل وعدم الحزم والعزيمة، وليس المعنى لا يصيبك عجز؛ لأن العجز عن الشيء غير التعاجز، فالعجز بغير اختيار الإنسان، ولا طاقة له به، فلا يتوجه عليه نهي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«صَلِّ قائما، فإن لم تستطع، فقاعدا، فإن لم تستطع، فعلى جنب» .

فإذا اجتمع الحرص وعدم التكاسل، اجتمع في هذا صدق النية بالحرص والعزيمة بعدم التكاسل.

لأن بعض الناس يحرص على ما ينفعه ويشرع فيه، ثم يتعاجز ويتكاسل ويدعه، وهذا خلاف ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فما دمت عرفت أن هذا نافع، فلا تدعه، لأنك إذا عجَّزت نفسك خسرت العمل الذي عملت ثم عوَّدت نفسك التكاسل والتدني من حال النشاط والقوة إلى حال العجز والكسل، وكم من إنسان بدأ العمل - لا سيما النافع - ثم أتاه الشيطان فثبطه؟

ص: 956

لكن إذا ظهر في أثناء العمل أنه ضار، فيجب الرجوع عنه؛ لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

وذكر في ترجمة الكسائي أنه بدأ في طلب علم النحو ثم صعب عليه، فوجد نملة تحمل طعاما تريد أن تصعد به حائطا، كلما صعدت قليلا سقطت، وهكذا حتى صعدت، فأخذت درسا من ذلك، فكابد حتى صار إماما في النحو.

قوله: «إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا» .

هذه هي المرتبة الرابعة مما ذكر في هذا الحديث العظيم إذا حصل خلاف المقصود.

فالمرتبة الأولى: الحرص على ما ينفع.

والمرتبة الثانية: الاستعانة بالله.

والمرتبة الثالثة: المضي في الأمر والاستمرار فيه وعدم التعاجز.

وهذه المراتب إليك.

المرتبة الرابعة: إذا حصل خلاف المقصود، فهذه ليست إليك، وإنما هي بقدر الله، ولهذا قال:" وإن أصابك. "، ففوض الأمر لله.

قوله: " وإن أصابك شيء ". أي: مما لا تحبه ولا تريده ومما يعوقك عن الوصول إلى مرامك فيما شرعت فيه من نفع.

فمن خالفه القدر ولم يأت على مطلوبه لا يخلو من حالين:

الأول: أن يقول: لو لم أفعل ما حصل كذا.

الثاني: أن يقول: لو فعلت كذا لأمر لم يفعله لكان كذا.

مثال الأول قول القائل: لو لم أسافر ما فاتني الربح.

ومثال الثاني أن يقول: لو سافرت لربحت.

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثاني دون الأول؛ لأن الإنسان عامل فاعل، فهو

ص: 957

يقول: لو أني فعلت الفعل الفلاني دون هذا الفعل لحصلت مطلوبي، بخلاف الإنسان الذي لم يفعل وكان موقفه سلبيا من الأعمال.

قوله: " كذا ". كناية عن مبهم، وهي مفعول لفعلت.

قوله: " لكان كذا " فاعل كان، والجملة جواب لو.

قوله: " قدر الله ". خبر لمبتدأ محذوف، أي هذا قدر الله.

وقدر بمعنى مقدور؛ لأن الله يطلق على التقدير الذي هو فعل الله، ويطلق على المقدور الذي وقع بتقدير الله، وهو المراد هنا؛ لأن القائل يتحدث عن شيء وقع عليه، فقدر الله أي مقدوره، ولا مقدر إلا بتقدير؛ لأن المفعول نتيجة الفعل.

والمعنى إن هذا الذي وقع قدر الله وليس إلى أما الذي إلى فقد بذلت ما أراه نافعا كما أمرت، وهذا فيه التسليم التام لقضاء الله عز وجل وان الإنسان إذا فعل ما أمر به على الوجه الشرعي، فإنه لا يلام على شيء، ويفوض الأمر إلى الله.

قوله: " وما شاء الله فعل ". جملة مصدرة بـ " ما " الشرطية، " وشاء ": فعل الشرط، وجوابه:" فَعَل "، أي: ما شاء الله أن يفعله فعله؛ لأن الله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، قال تعالى:{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41] ، وقد سبق ذكر قاعدة، وهي أن كل فعل لله معلق بالمشيئة، فإنه مقرون بالحكمة، وليس شيء من فعله معلقا بالمشيئة المجردة؛ لأن الله لا يشرع ولا يفعل إلا الحكمة، وبهذا التقرير نفهم أن المشيئة يلزم منها وقوع المشاء، ولهذا كان المسلمون يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وأما الإرادة ووقوع المراد ففيه تفصيل:

ص: 958

فالإرادة الشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، وهي التي بمعنى المحبة، قال تعالى {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] بمعنى يحب، ولو كانت بمعنى يشاء لتاب الله علي جميع الناس.

والإرادة الكونية يلزم منها وقوع المراد، كما قال الله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] .

قوله: «فإن لو تفتح عمل الشيطان» . " لو ": اسم إن قصد لفظها، أي؛ فإن هذا اللفظ يفتح عمل الشيطان.

وعمله: ما يلقيه في قلب الإنسان من الحسرة والندم والحزن، فإن الشيطان يحب ذلك، وقال تعالى {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: 10] ، حتى في المنام يريه أحلاما مخيفة ليعكر عليه صفوه ويشوش فكره، فحينئذ لا يتفرغ للعبادة على ما ينبغي، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حال تشوش الفكر؛ فقال صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان» ، إذا رضي الإنسان بالله ربا، وقال: هذا قضاء الله وقدره، وأنه لا بد أن يقع، اطمأنت نفسه وانشرح صدره.

ويستفاد من الحديث:

1.

إثبات محبة الله عز وجل، لقوله:" خير وأحب ".

2.

اختلاف الناس في قوة الإيمان وضعفه، لقوله:«" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» .

3.

زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن القوة زيادة والضعف نقص، وهذا هو

ص: 959

القول الصحيح الذي عليه عامة أهل السنة.

وقال بعض أهل السنة: يزيد ولا ينقص؛ لأن النقص لم يرد في القرآن، قال تعالى:{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]، وقال تعالى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] .

والراجح القول الأول؛ لأنه من لازم ثبوت الزيادة ثبوت النقص عن الزائد، وعلى هذا يكون القرآن دالا على ثبوت نقص الإيمان بطريق اللزوم، كما أن السنة جاءت به صريحة في قوله صلى الله عليه وسلم:«ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن» ، يعني: النساء.

والإيمان يزيد بالكمية والكيفية، فزيادة الأعمال الظاهرة زيادة كمية، وزيادة الأعمال الباطنة كاليقين زيادة كيفية، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] .

والإنسان إذا أخبره ثقة بخبر، ثم جاء آخر فأخبره نفس الخبر، زاد يقينه، ولهذا قال أهل العلم: إن المتواتر يفيد العلم اليقيني، وهذا دليل على تفاوت القلوب بالتصديق، وأما الأعمال، فظاهر، فمن صلى أربع ركعات أزيد ممن صلى ركعتين.

4 -

أن المؤمن وإن ضعف إيمانه فيه خير؛ لقوله: " وفي كل خير ".

5 -

أن الشريعة جاءت بتكميل المصالح وتحقيقها، لقوله:«احرص على ما ينفعك» ، فإذا امتثل المؤمن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عبادة وإن كان ذلك النافع أمرا دنيويا.

ص: 960

6 -

أنه لا ينبغي للعاقل أن يمضي جهده فيما لا ينفع، لقوله:«احرص على ما ينفعك» .

7 -

أنه ينبغي للإنسان الصبر والمصابرة، لقوله:" ولا تعجزن ".

8 -

أن ما لا قدرة للإنسان فيه فله أن يحتج عليه بالقدر، لقوله:«ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل» ، وأما الذي يمكنك، فليس لك أن تحتج بالقدر.

وأما محاجة آدم وموسى حيث لام موسى آدم عليهما الصلاة والسلام؛ وقال له: «لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال: أتلومني على شيء قد كتبه الله عليّ» فهذا احتجاج بالقدر.

فالقدرية الذين ينكرون القدر يكذبون هذا الحديث؛ لأن من عادة أهل البدع أن ما خالف بدعتهم إن أمكن تكذيبه كذبوه، وإلا حرفوه، ولكن هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب، فموسى لم يحتج على آدم بالمعصية التي هي سبب الخروج، بل احتج بالخروج نفسه.

معناه أن فعلك صار سببا لخروجنا، وإلا فإن موسى عليه الصلاة والسلام أبعد من أن يلوم أباه على ذنب تاب منه واجتباه ربه وهداه، وهذا ينطبق على الحديث.

وذهب ابن القيم رحمه الله إلى وجه آخر في تخريج هذا الحديث، وهو أن آدم احتج بالقدر بعد أن مضى وتاب من فعله، وليس كحال الذين يحتجون

ص: 961

ــ

على أن يبقوا في المعصية ويستمروا عليها، فالمشركون لما قالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] كذبهم الله، لأنهم لا يحتجون على شيء مضى ويقولون: تبنا إلى الله، ولكن يحتجون على شيء مضى ويقولون: تبنا إلى الله، ولكن يحتجون على البقاء في الشرك.

9 -

أن للشيطان تأثيرا على بني آدم، لقوله:«فإن لو تفتح عمل الشيطان» ، وهذا لا شك فيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» .

فقال بعض أهل العلم: إن هذا يعني الوساوس التي يلقيها في القلب فتجري في العروق.

وظاهر الحديث: أن الشيطان نفسه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله عز وجل، كما أن الروح تجري مجرى الدم، وهي جسم، إذا قبضت تكفن وتحنط وتصعد بها الملائكة إلى السماء.

ومن نعمة الله أن للشيطان ما يضاده، وهي لمة الملك، فإن الشيطان في قلب ابن آدم لمة وللملك لمة، ومن وفق غلبت عنده لمة الملك لمة الشيطان، فهما دائما يتصارعان نفس مطمئنة ونفس أمارة بالسوء، وأما النفس اللوامة فهي وصف للنفسين جميعا.

10 -

حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حين قرن النهي عن قول " لو " ببيان علته، لتتبين حكمة الشريعة، ويزداد المؤمن إيمانا وامتثالا.

ص: 962

فيه مسائل:

الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران. الثانية: النهي الصريح عن قول " لو " إذا أصابك شيء. الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.

ــ

فيه مسائل: الأولى تفسير الآيتين في آل عمران. وهما:

الأولى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} .

الثانية: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ، أي: ما أُخرجنا وما قتلنا، ولكن الله تعالى أبطل ذلك بقوله:{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} ، والآية الأخرى:{لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} ، فأبطل الله دعواهم هذه بقوله:{قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، أي: إن كنتم صادقين في البقاء وأن عدم الخروج مانع من القتل، فادرءوا عن أنفسكم الموت، فإنهم لن يسلموا من الموت، بل لابد أن يموتوا، ولكن لو أطاعوهم وتركوا الجهاد، لكانوا على ضلال مبين.

الثانية: النهي الصريح عن قول " لو " إذا أصابك شيء. لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا» .

الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان. فالنهي عن قول " لو " علتها أنها تفتح عمل الشيطان وهو الوسوسة، فيتحسر الإنسان بذلك ويندم ويحزن.

ص: 963

الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن. الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله. السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز.

ــ

الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن. ويعني قوله: «ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل» .

الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله. لقوله صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله» .

السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز. لقوله:" ولا تعجزن "، فإن قال قائل: العجز ليس باختيار الإنسان، قد يصاب بمرض فيعجز، فكيف نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر لا قدرة للإنسان عليه؟

أجيب: بأن المقصود بالعجز هنا التهاون والكسل عن فعل الشيء؛ لأنه هو الذي في مقدور الإنسان.

ص: 964