الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الرسالة الأولى: الطاعة سبب الخير والمعصية سبب الشر]
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام الأكرم فيصل بن تركي، سلمه الله وهداه، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(وبعد):
فالواجب علينا وعليكم التناصح في دين الله، والتذكير بنعم الله وأيامه، فإن في ذلك من المصالح الخاصة والعامة ما لا يحيط به إلا الله، وفي الحديث:"ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة".
ولله حق وعبودية على خلقه بحسب وسعهم وقدرتهم، ولذلك كان على ولاة الأمور، ورؤساء الناس المطاعين فيهم ما ليس على عامتهم وسوقتهم. وكل خير في الدنيا والآخرة إنما حصل بمتابعة الرسل وقبول ما جاؤوا به.
كل شر في الدنيا والآخرة إنما حدث ووقع بمعصية الله ورسله، والخروج عما جاؤوا به من النور والهدى، وهذه الجملة شرحها يطول وتفاصيلها لا يعلمها إلا الله الذي {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1. والسير والاعتبار، والاستقراء، والقصص، والأمثال، والشواهد النقلية والعقلية تدل على هذا، وترشد إليه، وبعض الأذكياء يعرف ذلك في نفسه وأهله وولده ودابته، قال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق أهلي ودابتي.
واللبيب يدرك من الأمور الجزئية والكلية ما لا يدركه الغبي الجاهل، ويكفي المؤمن قوله -تعالى-:{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 2، فهذه الآية يدخل فيها كل نعيم باطنا وظاهرا في الدنيا والآخرة، وفي البرزخ.
وقد قال -تعالى-: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ
1 سورة سبأ آية: 3.
2 سورة الانفطار آية: 13.
وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} 1 الآية. ويدخل في هذا كل شيء من المصائب والجزاء، حتى الشرك، والهم والحزن؛ لكن المؤمن يثاب على ذلك، ويكفر عنه بإيمانه كما دل على ذلك الحديث.
إذا عرف هذا، فكثير من الناس يعرف أن المصائب والابتلاء حصل بسبب الذنوب، ويقصد الخروج منها والتوبة، ولا يوفق - نعوذ بالله من ذلك -، وذلك لأسباب: منها: جهله بالذنوب، ومراتبها، وحالها عند الله. ومنها: جهله بالطريق التي تخلصه منها، وتنقذه من شؤمها وشرها وتبعتها. ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، وما يخلص منه إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما جاء به من الهدى ودين الحق إجمالا وتفصيلا؛ فإنه الواسطة بين العباد وبين ربهم في إبلاغ ما يحبه الرب ويرضاه، ويريده من عباده، ويوجب السعادة والنعيم والفلاح في الدنيا والآخرة، وفي إبلاغ ما يضرهم ويسخط ربهم، ويوجب الشقاوة، والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. فكل طريق غير طريقه مسدود على سالكيه، وكل عمل ليس عليه رسمه وتقريره، فهو رد على عامليه.
وقد عرفتم -أرشدكم الله تعالى- أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض قد عمتهم الجهالة، وغلبت عليهم الضلالة، عربيهم وعجميهم، إلا من شاء الله من بقايا أهل الكتاب.
فأول دعوته صلى الله عليه وسلم ورسالته، وقاعدة قبوله: رد الخلق إلى الله، وأمرهم بعبادته وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، والبراءة منهم؛ وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، وهو أول دعوة الرسل، وأول الواجبات والفرائض.
ومكث عليه الصلاة والسلام
1 سورة النساء آية: 123.
مدة من الدهر نحو العشر بعد النبوة يدعو إلى هذا ويأمر به، وينهى عن الشرك وينذر عنه، وفرض الفرائض وبقية الأركان بعد ذلك منجما.
إن هذا هو أهم الأمور وأوجبها على الخلق كما في حديث: "رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة، وذروة سنامه: الجهاد"1. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يبعث عماله، ويرسل رسائله إلى أهل الأرض، ويدعوهم إلى هذا يبدأ به قبل كل شيء، ولا يأمر بشيء من الأركان إلا بعد التزامه ومعرفته، كما دل عليه حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن، وغيره من الأحاديث.
وفي أوقاتنا بعد العهد بآثار النبوة، وطال الزمن، وكاد يشبه زمن الفترة لغلبة الجهل، وشدة الغربة.
وقد من الله لهذه الأقطار بشيخ الإسلام رحمه الله، فقام في تجديد الدين وتمهيد قواعد الملة أتم قيام، حتى ظهر -بحمد الله- منار التوحيد والإسلام، ووازره على ذلك من أسلافكم وأعمامكم من وازره رحمة الله عليهم أجمعين.
وبعدهم حصل من الناس ما لا يخفى من الإعراض والإهمال، وعدم الرغبة والتنافس فيما أوجبه الرب من توحيده وفرضه على سائر عبيده، وقل الداعي إلى ذلك، والمذكر به، والمعلم له في القرى والبوادي، والتساهل في هذه الأمور العظام التي هي آكد مباني الإسلام، يوجب للرعية أن يشب صغيرهم، ويهرم كبيرهم على حالة جاهلية لا يعرف فيها الأصول الإيمانية، والقواعد الإسلامية. والله سائلنا وسائلك عن ذلك كل بحسب قدرته وطوقه. والجهل والظلم غالب على النفوس، ولها وللشيطان حظ كبير في ذلك، والنفوس الجاهلية المعرضة عن العلم النبوي يسرع إليها الشرك والتنديد أسرع من السيل إلى منحدره.
والواجب مراعاة هذا الأصل، والقيام فيه، وبعث الدعاة إليه، وجعل
1 الترمذي: الإيمان (2616)، وابن ماجه: الفتن (3973) ، وأحمد (5/ 231).
أموال الله التي بأيديكم آلة له ووقاية وإعانة؛ فإن هذا من أفرض الفرائض وألزمها، ولم تشرع الإمامة والإمارة إلا لأجل ذلك، والقيام به.
وبقاء الإسلام والإيمان في استقامة الولاة والأئمة على ذلك، وزوال الإسلام والإيمان وانقضاؤه بانحرافهم عن ذلك، وجعل الهمة والأموال والقوة مصروفة في غيره، مقصودا به سواه من العلو والرياسة والشهوات.
ولذلك وقع في آخر بني العباس ما وقع من الخلل والزلل، واشتدت غربة الإسلام، وظهرت البدع العظام، وأظهر الكفر أعلامه وشعاره، وبنيت المساجد على القبور، وأسرجت عليها السرج، وأرخيت عليها الستور، وهتف أكثر الناس في الشدة بسكان القبور، وذبحوا لها القرابين ونذرت لها النذور، وبنيت الهياكل للنجوم، وخاطبها بالحوائج كل مشرك ظلوم. وسرى هذا في الناس حتى فعله من يظن أنه من الأخيار والأكياس، وكثير منهم يظن أن هذا هو الإسلام، وأنه مما جاء به سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام. وهل وقع ذلك وصار على تطاول الدهر والأعصار إلا بسبب إهمال الرؤساء والملوك الذين استكبروا في الأرض، ولم يرفعوا رأسا بما جاءت به الأنبياء، وقنعوا بمجرد الاسم والانتساب من غير حقيقة.
قال الله -تعالى-: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} 1 الآية.
[واجب الولاة المحافظة على دين الرعية]
فأهم المهمات وآكد الأصول والواجبات، التفكر في هذا، وتفقد الرعية، الخاصة والعامة، البادية والحاضرة، لأنك مسؤول عنهم، والسؤال يقع -أولا- عن الدين قبل الدنيا، وفي الحديث:"كلكم راع وكل مسئول عن رعيته"2، وفي الحديث الصحيح: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما
1 سورة غافر آية: 47.
2 البخاري: الجمعة (893)، ومسلم: الإمارة (1829)، والترمذي: الجهاد (1705)، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) ، وأحمد (2/ 108).
هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي. وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول، أعطوهم حقهم، فإن الله عز وجل سائلهم عما استرعاهم عليه"1. 2 ففتش عقائدهم، وانظر في توحيدهم وإسلامهم خصوصا مثل أهل الأحساء والقطيف؛ اشتهر عنهم ما لا يخفاك من الغلو في أهل البيت، ومسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم التزام كثير من أصول الدين وفروعه، وكونهم يسرون ذلك ويخفونه مما لا يسقط عنك وجوب الدعوة، والتعليم، والنصح لله بظهور دينه، وإلزامهم به، وتعليم صغارهم وكبارهم؛ فإنك مسؤول عن ذلك، والحمل ثقيل، والحساب شديد.
وفي الطبراني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل بشر بن عاصم على صدقات هوازن، فتخلف بشر، فلقيه عمر، فقال: ما خلفك؟ أما لنا عليك سمع وطاعة؟ قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من ولي شيئا من أمر المسلمين أتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم؛ فإن كان محسنا نجا، وإن كان مسيئا انخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفا"، فرجع عمر كئيبا حزينا. جعلك الله من الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب.
ومن الدعوة الواجبة والفرائض اللازمة: جهاد من أبى أن يلتزم التوحيد ويعرفه، من البادية أو غيرهم، وكثير من بادية نجد يكفي فيهم المعلم، وأما من يليهم من المشركين مثل الضغير وأمثالهم فيجب جهادهم ودعوتهم إلى الله.
وقد أفلح من كان لله محياه ومماته، وخاف الله في الناس، ولم يخف
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3455)، ومسلم: الإمارة (1842)، وابن ماجه: الجهاد (2871) ، وأحمد (2/ 297).
2 الحديث في صحيح مسلم وفيه "أوفوا بيعة الأول فالأول" وليس في آخره كلمة عليه - وكتبه محمد رشيد رضا.
الناس في الله، وفي الحديث:"مثل المجاهد في سبيل الله، والله أعلم بمن يجاهد في سبيله، كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر وغنيمة"1. 2
[المحافظة على عقائد العامة]
وكذلك يجب على ولي الأمر أن يقدم على من نسب عنه طعن وقدح في شيء من دين الله ورسوله، أو تشبيه على المسلمين في عقائدهم ودينهم، مثل من ينهى عن تكفير المشركين، ويجعلهم من خير أمة أخرجت للناس، لأنهم يدَّعُون الإسلام، ويتكلمون بالشهادتين، وهذا الجنس ضرره على الإسلام -خصوصا على العوام- ضرر عظيم يخشى منه الفتنة. وأكثر الناس لا علم له بالحجج التي تنفي شبه المشبهين وزيغ الزائغين، بل تجده -والعياذ بالله- سلس القياد لكل من قاده أو دعاه، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا على ركن وثيق، أقرب شبها بهم الأنعام السارحة.
فإذا تيسر لكم -إن شاء الله- الاهتمام والقيام بهذا الأصل العظيم، فينظُر بعد هذا في أحوال الناس في الصلوات الخمس المفروضات؛ فإنها من آكد الفروض والواجبات، وفي الحديث:"أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة"، وكل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء، وقد قال -تعالى-:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} 3 الآية. فيلزم جعل نواب يأمرون بما أمر الله به ورسوله من إقام الصلاة في المساجد في أوقاتها، ويؤدبون من عرف منه
1 البخاري: الجهاد والسير (2787).
2 هذا لفظ البخاري وفي مسلم وغيره زيادة عليه.
3 سورة البينة آية: 5.
كسل، أو ترك، أو إهمال أدبا يردع أمثاله. وعلى أئمة المساجد تعليم ما يشترط لها، وما يجب فيها من الأعمال والأقوال.
وبعد هذا، يلتفت إلى النظر في أمر الزكوات الشرعية وجبايتها على الوجه الشرعي من الأنعام والثمار والنقود والعروض، ويكون مع كل عامل رجل له معرفة بالحدود الشرعية والأحكام الزكوية، ويحذر عن الزيادة عما شرعه الله ورسوله؛ فلا يؤخذ إلا مما وجبت فيه الزكاة، وتم نصابه، وحال حوله؛ وكثير من العمال يخرص جميع الثمار وإن لم تنصب. وأخذ الزكاة من شيء لم يوجبه الله ولا رسوله فيه ظلم بين وتعد ظاهر، حمانا الله وإياكم منه.
وكذلك ما يتبع الزكاة من النائبة قد أغنى الله عنها، وجعل فيما أحل غناء عما منع وحرم؛ ومن الواجبات على ولي الأمر ترك ذلك لله، وفي بيت المال ما يكفي الضيف ونحوه إن حصل تسديد، ومنّ الله بتوفيق من عنده.
وكذلك ما يؤخذ من المسلمين في ثغر القطيف من الأعشار لا يليق، ولا يجوز التعشير في أموال المسلمين؛ ويلزم ولي الأمر -أيده الله- أن يلزم التجار الزكوات الشرعية قهرا، ويدع ما لا يحل.
ومن الواجب تمييز الأموال الداخلة على ولي الأمر، فإن الله ميزها في كتابه وقسمها؛ فلا يحل تعدي ذلك وخلطها بحيث لا يمكن تمييز الزكاة من الفيء والغنائم، فإن لهذا مصرفا ولهذا مصرفا؛ ويجب على ولي الأمر صرف كل شيء في محله، وإعطاء كل ذي حق حقه، أهل الزكاة من الزكاة، وأهل الفيء من الفيء، ويعين ذلك في الأوامر التي تصدر من الإمام لوكيل بيت المال.
ويجب تفقد من في بلاد المسلمين من ذوي القربى في الفيء والغنيمة
فإن هذا من آكد الحقوق وألزمها لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بهم من عرف التوحيد والتزمه، وأهل الإسلام ما صالحوا (؟) من عاداهم إلا بسيف النبوة وسلطانها، خصوصا دولتكم فإنها ما قامت إلا بهذا، وهذا أمر يعرفه كل عالم، وفي الحديث:"إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق ليس له يوم القيامة إلا النار"1. عافانا الله وإياكم من النار، وأعمال أهل النار.
[حرمة أموال الناس ودمائهم]
وكل من أخذ مالا يستحقه من الولاة والأمراء والعمال فهو غال، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره، حتى قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها أعار 2، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة
1 مسلم: الزكاة (1035)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2463)، والنسائي: الزكاة (2531،2601،2602،2603) ، وأحمد (3/ 434)، والدارمي: الزكاة (1650) والرقاق (2750).
2 كذا في الأصل والمعروف في الروايات، وكتب اللغة يعار بالياء المضمومة يعرث الشاة أو العنز تيعر - وفي صحيح مسلم وغيره (لها ثغاء) بالمثلثة المضمومة وهو صوت الشاة من الضان.
على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد بلغتك".
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هدايا العمال غلول، فقال:"هدايا العمال غلول"1. فينبغي التفطن لهذه الأمور لئلا يقع فيها وهو لا يدري.
وكذلك ينبغي تفقد أمر الناس في الحج، والقيام على من تركه وهو يستطيعه، وهو ركن من أركان الإسلام؛ ويذكر عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أضع الجزية على من ترك الحج. وبعض السلف يكفر من تركه، وأمر الرعية بذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا يسع أحدا تركه.
وكذلك القيام على الناس (ومنعهم) عن التعدي في الدماء والأموال وقطع السبيل، فهذا من الفساد في الأرض، والمحاربة لله ورسوله؛ فإن لم ينتهوا إلا بغزوهم لزم الإمام أن يبعث السرايا لحربهم. ولما تعرض الفجاء السلمي للناس يأخذ ويقتل من مسلم وكافر، بعث أبو بكر رضي الله عنه جيشا فظفروا به فأحرقه بالنار. ويذكر عن حسان أنه قال:
وما الدين إلا أن تقام شريعة
…
وتأمن سبل بيننا وشعاب
وكذلك ما حدث من الدفنان للبادية إذا أخذوا المسلمين، وقتلوا لما فيه من ترك حقوق المسلمين في الدماء والأموال مع القدرة على استيفائها، والقيام بالعدل الذي أمر الله به ورسوله كما قال -تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ} 2 الآية.
فتأمل هذه الموعظة، وما ختمها به من هذين الوصفين العظيمين وقال -تعالى-:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 3 الآية.
فالواجب على من نصح نفسه أن لا يحكم إلا بحكم الله ورسوله، فإن لم
1 أحمد (5/ 424).
2 سورة النساء آية: 58.
3 سورة النساء آية: 65.
يفعل وقع في خطر عظيم من تقديم الآراء والأهواء على شرع الله ورسوله، قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
والله ما خوفي الذنوب فإنها
…
لعلى طريق العفو والغفران
لكنني أخشى انسلاخ القلب من
…
تحكيم هذا الوحي والقرآن
ورضا بآراء الرجال وخرصها
…
لا كان ذاك بمنة الرحمن
[تفقد الإمام لدين رعيته]
ومما يجب على ولي الأمر: تفقد الناس من الوقوع فيما نهى الله عنه ورسوله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بإزالة أسبابها، وكذلك بخس الكيل والميزان، والربا؛ فيجعل في ذلك من يقوم به، من له غيرة لدين الله وأمانة.
وكذلك مخالطة الرجال للنساء، وكف النساء عن الخروج إذا كانت المرأة تجد من يقضي حاجتها من زوج أو قريب أو نحو ذلك، وكذلك تفقد أطراف البلاد في صلاتهم، وغير ذلك مثل أهل النخيل النائية، لأنه ربما يقع فيها فساد ما يدري عنه، وأكثر الناس ما يبالي، ولو فعل ما نهي عنه، وفي الحديث:"ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء"1، وفي الحديث -أيضا-:"ما ظهرت الفاحشة في قوم إلا ابتلوا بالطواعين والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا"2. نعوذ بالله من عقوبات المعاصي ونسأله العفو والعافية في الدنيا والأخرة.
وكذلك التوسع في لبس الحرير، وما زاد على المباح؛ وهو مما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ونص على تحريمه، ولا يجوز تتبع الرخص 3.
1 البخاري: النكاح (5096)، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740،2741)، والترمذي: الأدب (2780) ، وأحمد (5/ 200،5/ 210).
2 ابن ماجه: الفتن (4019).
3 لعله ذكر الرخص هنا لما روي من ترخيص النبي (ص) بلبس الحرير لذي العمل والحكمة، وترجيحه أن العشرة من الصحابة الذين روي عنهم لبس الحرير كانوا مترخصين به لأعذار لهم.
ومن الأصول التي تدور عليها الأحكام حديث: "إنما الأعمال بالنيات"1، وحديث "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"2، وحديث:"الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه"3 فكل أمر ينبغي لذوي العقول أن يتركوا ما تشابه منه، قد يقع فيه خلاف من بعض العلماء، فلا ينبغي أن يرخص لنفسه في أمر قد ظهرت فيه أدلة التحريم، فاجتنابه من تقوى الله وخوفه، وتركه مخافة الله من الأعمال الصالحة، التي تكتب له حسنات.
ومما يجب النهي عنه: الإسبال، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح:"ما أسفل من الكعبين من الإزار 4 فهو في النار"، وفي الحديث:"بينما رجل يجر إزاره خيلاء، أمر الله الأرض أن تأخذه؛ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة"5.
وكذلك التشبه باليهود والمجوس في ترك الشوارب، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحفائها مخالفة لليهود والمجوس، فقال صلى الله عليه وسلم "احفوا الشوارب واعفوا اللحى، وخالفوا اليهود". والذي فيه دين ورغبة
1 البخاري: بدء الوحي (1)، ومسلم: الإمارة (1907)، والترمذي: فضائل الجهاد (1647)، والنسائي: الطهارة (75) والأيمان والنذور (3794)، وأبو داود: الطلاق (2201)، وابن ماجه: الزهد (4227) ، وأحمد (1/ 25،1/ 43).
2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/ 240،6/ 270).
3 البخاري: الإيمان (52)، ومسلم: المساقاة (1599)، والترمذي: البيوع (1205)، والنسائي: البيوع (4453)، وأبو داود: البيوع (3329)، وابن ماجه: الفتن (3984) ، وأحمد (4/ 269)، والدارمي: البيوع (2531).
4 سقط من الأصل كلمة (من الإزار)، وهي في نص البخاري، ولا يصح المعنى إلا بها، والمراد من الإزار موضعه، وقد نص الشافعي على أن تحريم هذه الزيادة في الإزار ونحوه مخصوص بما إذا قصد به الخيلاء، فإن لم يكن للخيلاء كره تنزيها، كما في شروح البخاري، وهذا التخصيص أخذه الشافعي من حديث جر الإزار.
5 أحمد (2/ 493).
في الخير ما يرضى لنفسه أن يخالف ما أمر الله به ورسوله، ويقتدي باليهود والمجوس والمتكبرين.
[السمع والطاعة لله ولرسوله]
وكل ما أمر الله به ورسوله فينبغي للعبد أن يمتثل ويسمع ويطيع لما في ذلك من المنافع الكثيرة، وما في خلافه من الإثم، قال -تعالى-:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} 1. فعلى الإمام أن يأمر النواب من رأوه تاركا للأمر أن يقوموا عليه، ويلزموه الطاعة؛ حتى تظهر طاعة الله ورسوله في المسلمين، ويمتازون بذلك عمن خالفهم في الدين من أهل الجفاء والغلظة والغفلة والإعراض. نسأل الله العفو والعافية، فإنها قد عمت البلوى بهذا بكثير، لما قام بقلوبهم من ضعف الإيمان، وعدم الرغبة فيه.
[من واجبات الإمام إعانة طالب العلم]
وكذلك يجب على الإمام: النظر في أمر العلم، وترغيب الناس في طلبه، وإعانة من تصدى للطلب لقلة العلم وكثرة الجهل. وإن كان قد قام ببعض الواجب فينبغي له أن يهتم بهذا الأمر لفضيلة العلم، وكثرة ثواب من قام به وأعان عليه؛ فإن أكثر من يطلب العلم فقراء، ويحتاجون إلى الإعانة على فقرهم لما يكون لهم فيه سعة. وطلب العلم اليوم من الفرائض كما لا يخفى على الإمام وغيره، وفي الحديث الصحيح:"الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم"2. وهذا ما يحصل إلا باعتناء الإمام، وتأليفه للطالب؛ فإذا كثر العلم وقل الجهل بسببه حصل له من الخير والحسنات ما لا يحصيه إلا الله إن قبله الله؛ وبالغفلة عن طلبه العلم تضعف هممهم، ويقل طلبهم.
وفي مناقب عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه إذا أراد أن يحيي سنة أخرج من العطاء مالا كثيرا، فإذا نفروا من هذا رغبوا إلى
1 سورة الأحزاب آية: 36.
2 الترمذي: الزهد (2322)، وابن ماجه: الزهد (4112).
هذا، فلله دره رحمه الله ما أحسن نظره لنفسه، ولمن ولاه الله عليهم.
وهذا الذي ذكرنا من الأمور البينة التي ينبغي التنبه عليها بخصوصها؛ وأما الأمور التي بين الله وبين العبد التي فيها صلاح القلوب ومغفرة الذنوب من إتعاب النفس فيما يحبه الله ويرضاه مما يقع له وعليه. فهذا باب واسع، ولا يدرك هذا إلا من جعل الله له رغبة في تدبر كتابه، ومعرفة صفة أهل الإيمان والتقوى الذين أعد الله لهم الجنة، ويجاهد نفسه على ذلك فعلا وتركا.
وعلى كل من نصح نفسه أن يحذر من كبائر القلوب التي هي من أعظم الذنوب، ولا يأمن مكر الله، وليكن لنفسه أشد مقتا منه لغيره. وليكن معظما للأمر والنهي، مفكرا فيما يحبه الله ويرضاه، متدبرا لكتابه محبة لربه ورغبة في ثوابه، وخوفا من غضبه وعقابه.
ومن الواجب على كل أحد أن يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله، ويوالي في الله، ويحب أولياء الله أهل طاعته، ويعادي أعداء الله أهل معصيته. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
صنف هذه الرسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مجدد دين الله في نجد وغيرها في القرن الثاني عشر من الهجرة، صنفها في شدة مرضه؛ إعذارا وإنذارًا لإمام وقته فيصل بن تركي آل سعود رحمة الله عليهم أجمعين.