المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرسالة الرابعة[الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان] - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - ط المنار - ٢/ ٢

[محمد رشيد رضا]

الفصل: ‌الرسالة الرابعة[الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان]

وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، تعالى الله عما يقول المحرفون المخرفون عن الحق علوًّا كبيرًا. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين.

‌الرسالة الرابعة

[الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان]

بسم الله الرحمن الرحيم

وسئل -قدس الله روحه-: ما الفرق بين الإسلام والإيمان؟ ومسألة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فأجاب بقوله:

(الجواب) وبالله التوفيق: قد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان في حديث جبرائيل، وفسر الإسلام في حديث ابن عمر، وكلاهما في الصحيح، فقال:"الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"1، وقال:"الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"

وقال في حديث ابن عمر: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت"3، وفي رواية "والحج، وصوم رمضان"4.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام؛ فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا كما دلت عليه الأحاديث. انتهى كلامه رحمه الله.

1 مسلم: الإيمان (8)، والترمذي: الإيمان (2610)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990)، وأبو داود: السنة (4695)، وابن ماجه: المقدمة (63) ، وأحمد (1/ 27،1/ 51).

2 البخاري: تفسير القرآن (4777)، ومسلم: الإيمان (10)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991)، وابن ماجه: المقدمة (64) ، وأحمد (2/ 426).

3 البخاري: الإيمان (8)، ومسلم: الإيمان (16)، والترمذي: الإيمان (2609)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) ، وأحمد (2/ 26).

4 البخاري: الإيمان (8)، ومسلم: الإيمان (16)، والترمذي: الإيمان (2609)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) ، وأحمد (2/ 120).

ص: 48

فإن قيل: قد فرق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل بين الإسلام والإيمان، والمشهور عن السلف وأئمة الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم.

فالجواب أن الأمر كذلك، وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان: الكتاب والسنة؛ أما من الكتاب فكقوله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 1، وأما من الحديث فكقوله في حديث أبي هريرة المتفق عليه:"الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان"2 وغير ذلك.

فمن زعم أن إطلاق الإيمان على الأعمال الظاهرة مجاز، فقد خالف الصحابة والتابعين والأئمة، إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه يجمع بين الأحاديث بأن أعمال الإسلام داخلة في مسمى الإيمان، شامل لها، ففسرت بالإسلام، وهي جزء مسمى الإيمان، لكون الإيمان شاملها، ولغيرها من الأعمال الباطنة والظاهرة.

فإذا أفرد الإيمان في آية أو حديث دخل فيه الإسلام، وإذا قرن بينهما فسر الإسلام بالأركان الخمسة، كما في حديث جبريل، فسر الإيمان بأعمال القلب، لأنها أصل الإيمان ومعظمه؛ وقوته وضعفه ناشئان عن قوة ما في القلب من هذه الأعمال أو ضعفها، وقد يضعف ما في القلب من الإيمان بالأصول الستة حتى يكون وزن ذرة، كما في الحديث الصحيح:"أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"3. فبقدر ما في القلب من الإيمان تكون الأعمال الظاهرة التي هي داخلة في مسماه، وتسمى

1 سورة الأنفال آية: 2.

2 مسلم: الإيمان (35)، والترمذي: الإيمان (2614)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005)، وأبو داود: السنة (4676)، وابن ماجه: المقدمة (57) ، وأحمد (2/ 379،2/ 414،2/ 445).

3 البخاري: الإيمان (22)، ومسلم: الإيمان (184) ، وأحمد (3/ 56).

ص: 49

إسلامًا وإيمانًا كما في حديث وفد عبد القيس حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "آمركم بالإيمان بالله وحده؛ أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله أعلم ورسوله، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنتم"1. فهذه الأعمال أُدخلت في الإيمان وهي الإسلام، لأن الإسلام اسم لجميع الأعمال الظاهرة والباطنة. فمن ترك شيئا من الواجبات، أو فعل شيئا من المحرمات نقص إيمانه بحسب ذلك، وهو دليل على نقصان أصل الإيمان، وهو إيمان القلب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الكلام على الإسلام، والإيمان، والإحسان، وما بين الثلاثة من العموم والخصوص: أما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان. والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام. فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين. انتهى.

وهذا يبين ما قررناه، فحينئذ يتبين الإيمان الكامل الذي صاحبه يستحق عليه دخول الجنة والنجاة من النار، هو فعل الواجبات، وترك المحرمات، وهو الذي يطلق على من كان كذلك بلا قيد، وهو الإيمان الذي يسميه العلماء: الإيمان المطلق. وأما من لم يكن كذلك، بل فرط في بعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات، فإنه لا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: مؤمن ناقص الإيمان، لكونه ترك بعض واجبات الإيمان، كما في حديث أبي هريرة:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"2 أي ليس موصوفا بالإيمان الواجب الذي يستحق صاحبه

1 البخاري: المغازي (4368)، ومسلم: الإيمان (17)، والترمذي: الإيمان (2611)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031)، وأبو داود: الأشربة (3692).

2 البخاري: المظالم والغصب (2475)، ومسلم: الإيمان (57)، والترمذي: الإيمان (2625)، والنسائي: قطع السارق (4870،4871)، وأبو داود: السنة (4689)، وابن ماجه: الفتن (3936) ، وأحمد (2/ 317،2/ 386)، والدارمي: الأشربة (2106).

ص: 50

الوعد بالجنة والمغفرة والنجاة من النار، بل هو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه على ترك ما وجب عليه من الإيمان، وارتكابه الكبيرة. وقيل: هذا يوصف بالإسلام دون الإيمان، ولا يسمى مؤمنا إلا بقيد، وهذا الذي يسميه العلماء مطلق الإيمان، أي أنه أتى بالأركان الخمسة، وعمل بها باطنًا وظاهرًا.

وهذا الذي قلنا من معنى الإسلام والإيمان هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وطائفة من السلف والمحققين، وذهبت طائفة من أهل السنة أيضا إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد وهو الدين، فسمي إسلاما وإيمانا، فهما اسمان لمسمى واحد، والأول أصح، وهو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، فلا نلتفت إلى ما يخالف هذين القولين، والله أعلم.

[شد الرحل إلى قبر النبي]

وأما قول السائل: هل يحرم شد الرحل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟

فالجواب: إن بعض العلماء قد قال: يجوز السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين. وهذا القول لصاحب المغني، وبعض المتأخرين من الحنابلة والشافعية، وهؤلاء يحتجون بقوله:"فزوروها". وأما ما يحتج به بعض من لا يعرف الحديث من قوله: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي". فهذا الحديث لا تقوم به حجة عند من له معرفة بعلل الحديث. وأما ما يقوله بعض الناس إنه حديث "من حج فلم يزرني فقد جفاني". فهذا لم يروه أحد من العلماء، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله عليه-، ومثله حديث "من زارني ضمنت له على الله الجنة". قال الشيخ: وهذا باطل أيضا باتفاق العلماء -رحمهم الله تعالى-. قال: والصحيح ما ذهب إليه المتقدمون كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفا ابن عقيل، وطوائف من المتقدمين من أن

ص: 51

هذا السفر منهي عنه، لا تقصر فيه الصلاة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وحجتهم ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا"1.

وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته، والعمل به في الجملة. فلو نذر الرجل أن يصلي في مسجد، أو مشهد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق العلماء. ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد -رحمهم الله تعالى-، كما نص عليه شيخ الإسلام.

إذا عرفت أقوال العلماء في هذه المسألة، فاعلم أن الزائر إذا نوى بالزيارة التي فيها شد الرحل لسفر زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم صار ذلك به سفر طاعة بإجماع العلماء رحمهم الله، ويحصل له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم تبعا إذا وصل المسجد، وفعل ما هو المشروع من البداءة بتحية المسجد، ثم سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والزيارة والسلام على صاحبيه رضي الله عنهما، وذلك لا محذور فيه بوجه، بل هو مصلحة محضة. فأي محذور في تحصيل المصلحة المطلوبة على وجه صحيح بالإجماع؟ والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

1 البخاري: الجمعة (1197) والصوم (1996)، ومسلم: الحج (827)، والترمذي: الصلاة (326)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) ، وأحمد (3/ 78).

ص: 52