المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرسالة العاشرة[من لوازم ما دلت عليه لا إله إلا الله] - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - ط المنار - ٢/ ٢

[محمد رشيد رضا]

الفصل: ‌الرسالة العاشرة[من لوازم ما دلت عليه لا إله إلا الله]

‌الرسالة العاشرة

[من لوازم ما دلَّت عليه لا إله إلا الله]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

من عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام المكرم أكرمه الله بالتوحيد، وحماه من شبه أهل الشرك والإلحاد والتنديد. سلام عليك ورحمة الله وبركاته.

(وبعد):

فاعلم أن "لا إله إلا الله" لها معنى عظيم، تستضيء به قلوب أهل الإسلام والإيمان، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم وخلقهم لأجله. والقرآن من أوله إلى آخره يبين معنى هذه الكلمة؛ ونذكر بعض ما دل عليه القرآن من معناها، وما ذكره العلماء من أئمة الإسلام، فدونك كلام العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1.

ذكر أن هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص، وأن قريشا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ويعبدون إلهه سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمره فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال:{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} 2 يعني من الأصنام والأنداد، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 3 وهو الله وحده؛ ولهذا كان كلمة الإسلام:"لا إله إلا الله محمد رسول الله". والمشركون يعبدون غير الله.

(قلت): فدلت هذه السورة الكريمة على البراءة من عبادة أصنام المشركين وأوثانهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يتبرأ من أوثان المشركين

1 سورة الكافرون آية: 1.

2 سورة الكافرون آية: 2.

3 سورة الكافرون آية: 3.

ص: 93

وأصنامهم التي كانت موجودة في الخارج: اللات والعزى ومناة وغيرها. وقد أخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه: {مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} 1 إلى قوله: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 2، فصرح بعداوة أصنامهم بأعيانها وهي موجودة في الخارج، واستثنى من معبوداتهم رب العالمين، لأنهم كانوا يعبدون الله، لكنهم يعبدون معه الأصنام؛ فاستثنى المعبود الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له.

فأخبر تعالى عنه أنه قال لقومه: {أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} 3، وأخبر عنه أنه قال لقومه:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 4 وهي: "لا إله إلا الله" بإجماع أهل الحق؛ فعبر عنها بالبراءة من معبوداتهم التي كانوا يعبدونها في الخارج. فقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 5 هو معنى النفي في قوله: "لا إله"، وقوله:{إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} 6 هو معنى "إلا الله"، وهذا كاف في البيان لمثلك الذي قد عرفه معنى "لا إله إلا الله".

وهذا المعنى في هذه الكلمة يعرفه حتى المشركون كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 7. عرفوا أن "لا إله إلا الله" علم على ترك عبادة آلهتهم التي كانوا يعبدونها من أوثانهم وأصنامهم، وكل الفرق يعرفون معناها، حتى أعداء الرسل كما قالت عاد: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 8، فعرفوا على شدة كفرهم أنه أراد منهم ترك عبادة ما كان يعبده آباؤهم.

[ما نفته لا إله إلا الله]

فتبين بهذا أن "لا إله إلا الله" نفت كل ما كان يعبد من دون الله من صنم ومن وثن، من حين حدث الشرك في قوم نوح إلى أن تقوم الساعة.

1 سورة الشعراء آية: 70.

2 سورة الشعراء آية: 75.

3 سورة الصافات آية: 86.

4 سورة الزخرف آية: 26.

5 سورة الزخرف آية: 26.

6 سورة الزخرف آية: 26.

7 سورة الصافات آية: 35.

8 سورة الأعراف آية: 70.

ص: 94

وهذا المعنى أكثر أهل العلم يسلمونه ويعرفونه، حتى الخوارج والرافضة والمعتزلة والمتكلمون، من كل أشعري وكرامي وماتريدي؛ وإنما اختلفوا في العمل بلا إله إلا الله. فبعضهم يظن أن هذا في حق أناس كانوا فبانوا، فخفي عليهم حقيقة الشرك. وأما الفلاسفة وأهل الاتحاد فإنهم لا يقولون بهذا المعنى ولا يسلمونه، بل يقولون: إن المنفي ب "لا إله إلا الله" كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد وهو الله، فهو المنفي وهو المثبت بناء على مذهبهم الذي صاروا به أشد الناس كفرا، وهو قولهم: إن الله هو الموجود المطلق. فلم يخرجوا من ذلك صنما ولا وثنا.

ويشبه قولهم هذا أهل وحدة الوجود القائلين بأن الله تعالى هو الموجود بعينه، فيقولون: إن المنفي كلي، والمثبت بقوله "إلا" هو الوجود بعينه. ولا فرق عند الطائفتين بين الخالق والمخلوق، ولا بين العابد والمعبود، كل شيء عندهم هو الله، حتى الأصنام والأوثان، وهو حقيقة قول هذا الرجل سواء. فخذ قولي واقبله -وفقك الله-.

فلقد عرفت -بحمد الله- ما أرادوه من قولهم: إن المنفي كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. ويدعي هذا مثل ما ادعته هذه الطائفة أن تقدير خبر "لا": موجود. وهذه الكلمة لم توضع لتقرير الوجود، وإنما وضعت لنفي الشرك، والبراءة منه، وتجريد التوحيد، كما دلت عليه الآيات المحكمات البينات، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم.

وتقدير خبر "لا" بموجود لا يجري إلا على مذهب الطائفتين -لعنهم الله- على قولهم: إن الله هو الوجود، فلا موجود إلا الله. فهذا معنى قوله: إنه كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد. فغير المعنى الذي دلت عليه "لا إله إلا الله" من نفي جميع المعبودات التي تعبد من دون الله، والمنفي إنما هو حقيقتها كما قال المسيح عليه السلام: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي

ص: 95

أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} 1.

[كل معبود سوى الله باطل]

ولا ريب أن كل معبود سوى الله فهو باطل، والمنفي بـ"لا إله" هي المعبودات الباطلة، والمستثنى بـ"إلا" هو سبحانه، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة الحج:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} 2، وقال في آخر السورة:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 3، وقال في سورة لقمان:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} 4.

فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} 5 هو المستثنى بـ"إلا الله"؛ وهو الحق، وقوله:{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} 6 هو المنفي بـ"لا إله"، وما بعد هذا إلا التلبيس على الجهال، وإدخال الشك عليهم في معنى كلمة الإخلاص؛ فكابر المعقول والمنقول بدفعه ما جاء به كل رسول.

نسأل الله لنا ولكم علما نستضيء به من جهل الجاهلين، وضلال المضلين، وزيغ الزائغين، وفي الحديث:"رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني"7. وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ في الركعة الأخيرة بعد المغرب: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 8. وهذا -بحمد الله- كاف في بيان الحق، وبطلان الباطل. وصلى الله على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما.

1 سورة المائدة آية: 116.

2 سورة الحج آية: 6.

3 سورة الحج آية: 62.

4 سورة لقمان آية: 30.

5 سورة الحج آية: 6.

6 سورة الحج آية: 62.

7 أبو داود: الأدب (5061).

8 سورة آل عمران آية: 8.

ص: 96