الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المصلحة عند الطوفي:
سجل الطوفي رحمه الله رأيه في المصلحة في "شرح مختصر الروضة" 3/ 214 - 217 ثم في شرح الحديث الثاني والثلاثين (1) من كتابه "كتاب التعيين في شرح الأربعين" وكان تأليفه له بعد تأليف "شرح مختصر الروضة" وكان كلامه في المصلحة في "شرح مختصر الروضة" مقتضبًا.
ولعله نشأ في نفسه أن يوسع الكلام في المصلحة بعد تأليف "شرح مختصر الروضة" فاستغل فرصة شرحه للحديث الثاني والثلاثين من الأربعين النووية، فأفرغ فيه رأيه في المصلحة وأعاد الكلام وأبدأ وأطال جدًّا، واستغرق ما يقارب خمسين صفحة من 234 - 280.
والمتأمل لشرح هذا الحديث يخرج بنتائج:
أولًا: ساق الطوفي رحمه الله أدلة مجملة ومفصلة من الكتاب والسنة والإجماع والنظر على أن الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المضار وجعلها مدخلا لرأيه في المصلحة.
ثم قال: "إذا عرف هذا فمن المحال أن يراعي الله عز وجل مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام
(1) استلَّه الشيخ جمال الدين القاسمي ونشره ضمن مجموعة رسائل في الأصول بالاعتماد على نسخة واحدة مخطوطة، ثم محمد رشيد رضا في مجلة المنار العدد العاشر، ثم مصطفى زيد في رسالته المصلحة في التشريع الإسلامي بالاعتماد على نسختي دار الكتب المصرية، ثم الأستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصَّ فيه، ثم الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح باسم رسالة في رعاية المصلحة! وهو عنوان موهم.
الشرعية، إذ هي أهمُّ فكانت بالمراعاة أولى، ولأنها أيضًا من مصلحة معاشهم، إذ بها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم، فلا معاش لهم بدونها، فوجب القول بأنه راعاها لهم، وإذا ثبت رعايته إياها لم يجز إهمالها لها بوحه من الوجوه" ص 246.
وهذا أمر يوافقه عليه أهل العلم، ولا يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان.
ثانيا: انفرد عن أهل العلم وشَذَّ عنهم بجملة من الآراء:
منها: أنه يرى أن المصلحة أقوى أدلة الشرع، حيث قال:"إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع، لأن الأقوى من الأقوى أقوى" ص 239.
ومنها: أنه سَلَّط شبهات على أدلة الإجماع من الكتاب والسنة والنظر، ثم توصل إلى نتيجة خطيرة جدًّا حيث قال:"فظهر أن الإجماع ليس بحجة" ص 256 هكذا أطلق أن الإجماع ليس بحجة، وإطلاقه يشمل الإجماع في العبادات والمقدرات والإجماع في العادات والمعاملات، وإن كان له كلام يقيد فيه هذا الاطلاق، ويحصر الإجماع الذي ليس بحجة الإجماع في العادات والمعاملات في ص 250، وفي ص 259.
فحاصل كلامه -إن قيدنا مطلق كلامه بمقيده- أن الإجماع ليس بحجة في العادات والمعاملات.
ومنها: أنه يحمل مسئولية الخلاف والشقاق بين الأمة على النصوص الشرعية حيث قال: "إن النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلاف في
الأحكام المذموم شرعا، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه، ولا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعا، فكان اتباعه أولى" ص 259.
ومنها: أنه يقسم الشرع إلى عبادات، ومقدرات، ومعاملات، فما كان من العبادات والمقدرات يعتبر فيه النص والإجماع، وما كان من المعاملات يعتبر فيه المصلحة فحسب، فإن رأى منها مصلحة اتبعها من غير اعتبار شهادة الشرع لجنس هذه المصلحة أو لنوعها، قال:"واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة، على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام" إلى أن قال: "أما المعاملات ونحوها فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر" ص 274 - 277.
فإن وقع شيء من التعارض بين المصلحة التي استُخرجت بالعقول وبين النصوص والإجماع يُرفع هذا التعارض. مما قرره حيث قال: "وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها، فإن وافقاها فَبِهَا وَنِعْمَتْ، ولا نزاع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما، كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان.
وتقرير ذلك أن النص والإجماع إما أن لا يقتضيا ضررًا ولا مفسدة بالكلية،
أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضيا شيئًا من ذلك فهما موافقان لرعاية المصلحة، وإن اقتضيا ضررا فإما أن يكون مجموعَ مدلوليهما أو بعضَه، فإن كان مجموعُ مدلوليهما ضررًا فلا بد أن يكون من قبيل ما استثني من قوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار" وذلك كالحدود والعقوبات على الجنايات، وإن كان الضررُ بعضَ مدلوليهما فإن اقتضاه دليل خاص اتبع الدليل فيه، وإن لم يقتضه دليلٌ خاصٌ وجب تخصيصهما بقوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار" جمعا بين الأدلة.
وقد شعر المؤلف نفسه رحمه الله بهذا الشذوذ والإنفراد عن أهل العلم، إذ يقول: فإن قيل: هذه الطريقة التي سلكتها إما أن تكون خطأ فلا يلتفت إليها، أو صوابا فإما أن ينحصر الصواب فيها، أو لا، فإن انحصر لزم أن الأمة من أول الإسلام إلى حين ظهور هذه الطريقة على خطأ، إذ لم يقل بها أحد منهم، وإن لم ينحصر فهي طريق جائزة من الطرق، لكن طرق الأئمة التي اتفقت الأمة على اتباعها أولى بالمتابعة لقوله عليه الصلاة والسلام:"اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار".
فالجواب أنها ليست خطأ، لما ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصر فيها قطعا، بل ظنا واحتهادا، وذلك يوجب المصير إليها، إذ الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها، وما يلزم على هذا من خطأ الأمة فيما قبله لازم على رأي كل ذي قول أو طريقة انفرد بها غير مسبوق إليها، والسواد الأعظم الواجب اتباعه هو الحجة والدليل الواضح، وإلا لزم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم، لأن العامة أكثر، وهو السواد الأعظم. والله عزَّ وجلَّ
أعلم بالصواب.
ثالثًا: وقع المؤلف رحمه الله في بعض التناقضات في شرح الحديث، ولعل مرد هذه التناقضات إلى سرعته في التأليف، وعجلته في الإنجاز، ولو تأنى في التأليف وتأمل ما كتبه لسلم من الوقوع في وهدة التناقضات.
من هذه التناقضات: أن أدلة رعاية المصلحة عند المؤلف من الكتاب والسنة والإجماع والنظر. ص 243 وقد أخرج الإجماع عن دائرة الحجية في المعاملات والعادات، وحصره في العبادات والمقدرات، وحصر المصلحة في المعاملات والعادات، فكيف يكون ما أخرجه عن الحجية في المعاملات والعادات دليلا على ما حصره في المعاملات والعادات؟ فكأن معنى كلامه: إن الإجماع دليل على المصلحة، ولا يصح أن يكون الإجماع دليلا على المصلحة.
ومنها: أنه قَرَّرَ أن الله راعي مصلحة العباد، وما من آية من كتاب الله عز وجل إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح، والسنة كذلك لأنها بيان الكتاب، والبيان على وفق المبين. ص 243 - 244 ثم تراه يرمى النصوص الشرعية بالإبهام في دلالتها على المصلحة، ويُجَوِّزُ إن لا تؤدي إلى المصلحة، حيث قال:"ثم إن الله عز وجل جعل لنا طريقا إلى معرفة مصالحنا عادة، فلا نتركه لأمر مبهم (يقصد النصوص الشرعية) يحتمل أن يكون طريقا إلى المصلحة، ويحتمل أن لا يكون" ص 272.
ومنها: أنه يَرجع الخلافَ والشقاق بين الأمة إلى النصوص، فهي مختلفة متعارضة عنده، وهي سبب الخلاف المذموم شرعًا، ولا خروج من دوامة
الخلاف والشقاق إلا إلى الرجوع إلى المصلحة فهي غير مختلفة ولا متعارضة، فهي إذن سبب الوفاق والاتفاق المطلوب شرعا ص 259 - 260.
ثم إذا هو يُحيلنا إلى النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات. ص 274.
فكيف يقول: إنها مختلفة متعارضة، ثم يحيلنا إليها في أهم القضايا العبادات والمقدرات؟
هذا ما أردت التنبيه إليه في هذه العجالة، والله أعلم (1).
(1) وقد ناقش المؤلِّفَ فيما توصل إليه الدكتور مصطفى زيد في رسالته "المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي" والدكتور حسين حامد حسان في رسالته "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي".
فمن أراد الوقوف على هذه المناقشات فعليه بالكتابين المذكورين.
اسم هذا الشرح ونسبته إلى المؤلف:
نسب المؤرخ الأديب صلاح الدين الصفدي، وقاضي القضاة عز الدين ابن جماعة، والحافظ ابن رجب، والحافظ ابن حجر، والعليمي في كتبه الثلاثة الأنس الجليل، والدر المنضد، والمنهج الأحمد، وحاجي خليفه في كشف الظنون شرحًا للأربعين النووية للطوفي، ولم يذكروا اسمه.
وأما النسخ الخطية التي وقفت عليها ففي لوحة العنوان لنسخة (أ) و (ب)"شرح الأربعين" ولنسخة (س)"كتاب شرح الأربعين".
وأما نسخة (م) ففي اللوحة الثانية من لوحات العنوان "كتاب التعيين في شرح الأربعين" وفي اللوحة الثالثة من لوحات العنوان "التعيين في شرح الأربعين" فأثبتُّ هذا الاسم "كتاب التعيين في شرح الأربعين" للكتاب.
وأما نسبته إلى المؤلف فهو ثابت النسبة إليه، فقد نُسب إليه في جميع النسخ التي وقفت عليها.
وقد نقل الحافظ ابن رجب في كتاب الذيل على طبقات الحنابلة
2/ 368 نصا ذكر أنه قاله الطوفي في شرح الأربعين للنووي، وهذا النص في ص 266 مطابق لما نقله الحافظ ابن رجب.
ونقل من شرحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، أربعة مواضع في شرح حديث "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب"(11/ 350، 351، 352، 353 طبعة الريان) انظر كتاب التعيين ص 318، 319، 320، 321.
ونقل أيضًا السخاوي في رسالته "غنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن
الحجاج" عن الطوفي في شرح الأربعين له ما يأتي، قال السخاوي: "والحكم باستواء الصحيحين وعدم ترجيح أحدهما على الآخر قول ثالث في المسألة قاله التوربشتي، وحكاه الطوفي في شرح الأربعين له" (1).
وما نقله السخاوي عن الطوفي تجده في ص 27 من هذا الكتاب.
(1) لوحة 9 من نسخة دار الكتب المصرية.