الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَوَاهِد الاستعاره
97 -
(لَدَى أشدٍ شاكي السِّلَاح مُقَذَّفِ
…
)
قَائِله زُهَيْر بن أبي سلمى من قصيدته السَّابِقَة فِي شَوَاهِد الإيجاز وَسَيَأْتِي كَامِلا فِيمَا بعد وَقَبله
(لعمري لِنعْمَ الحيُّ جَرَّ عليهمُ
…
بِمَا لَا يوايتهم حُصَيْنُ بن ضَمْضمِ)
(وكانَ طوَى كشحاً على مُسْتكنةٍ
…
فَلَا هُوَ أبداها وَلم يتقدَّمِ)
(وَقَالَ سأقضِي مأربي ثمَّ أتفي
…
عدوّى بألفٍ من ورائيَ مُلجِمِ)
(فشدَّ وَلم ينظر بيوتَّاً كَثِيرَة
…
لدي حَيْثُ ألقَتْ رَحْلها أم قَشْعَمِ)
وَبعده الْبَيْت وَالْقَصِيدَة طَوِيلَة يَقُول مِنْهَا أَيْضا
(سئمت تكاليفَ الْحَيَاة وَمن يَعِشْ
…
ثَمَانِينَ عَاما لَا أبالكَ يَسْأمِ)
(رَأَيْت المنايا خَبْطَ عَشْواء من تُصِب
…
تُمِتْهُ وَمن تُخْطئ يعمر فيهرم)
(وَمهما تكن عِنْد امْرِئ خَلِيقَة
…
وَإِن خالها تخفي على النَّاس تُعْلَمِ)
وشاكي السِّلَاح وشاكه وشائكه حديده والمقذف الَّذِي يقذف بِهِ كثيرا إِلَى الوقائع أَو الَّذِي رمى بِاللَّحْمِ رميا
وَالشَّاهِد فِيهِ الِاسْتِعَارَة التحقيقية فالأسد هُنَا مستعار للرجل الشجاع وَهُوَ أَمر مُتَحَقق حسا
98 -
(قَامَت تظللني من الشَّمْس
…
نفس أعز عَليّ من نَفسِي)
(قَامَت تظللني وَمن عجب
…
شمس تظللني مِنَ الشَّمْسِ)
البيتان لِابْنِ العميد وهما من الْكَامِل قالهما فِي غُلَام حسن قَامَ على رَأسه يظلله من الشَّمْس وَقَالَ ابْن النجار فِي تَارِيخه قَرَأت على إِسْمَاعِيل بن سعد الله أَنبأَنَا بكر بن عَليّ التَّاجِر قَالَ أنشدنا رزق الله بن عبد الْوَهَّاب التَّمِيمِي الْوَاعِظ فِي وَلَده أبي الْعَبَّاس لِأَنَّهُ كَانَ يقوم إِذا جَاءَت عَلَيْهِ الشَّمْس ويظله فَقَالَ
(قَامَت تظللني من الشَّمْس
…
نفس أعز عَليّ من نَفسِي)
(قَامَت تظللني وَمن عجب
…
شمس تظللني من الشَّمْس)
(لمَّا رَأيْتُ الشمسَ بارزةً
…
ستَّرتُ عين الشمسِ بالْخَمْسِ)
(ثمَّ اسْتَعنتُ على الَّتِي اختلست
…
منى الْفُؤَاد بِآيةِ الكرْسي)
وَقَالَ ياقوت فِي مُعْجم الأدباء كَانَ أَبُو إِسْحَاق الصابي وَاقِفًا بَين يَدي عضد الدولة وعَلى رَأسه غُلَام تركي جميل فَكَانَ إِذا رأى الشَّمْس عَلَيْهِ حجبها عَنهُ فَقَالَ للصابي هَل قلت شَيْئا يَا إِبْرَاهِيم فَقَالَ
(وَقَفتْ لتحجبُني عَن الشَّمْس
…
نفسٌ أعز عَليّ من نَفْسي)
(ظلَّتْ تظللني وَمن عجب
…
شمس تُغيِّبني عَن الشَّمْس)
فسُرَّ بذلك
وَالشَّاهِد فيهمَا أَن إِطْلَاق الْمُشبه بِهِ على الْمُشبه إِنَّمَا يكون بعد ادِّعَاء دُخُوله فِي جنس الْمُشبه بِهِ وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيكون اسْتِعْمَال الِاسْتِعَارَة فِي الْمُشبه
اسْتِعْمَالا فِيمَا وضعت لَهُ فَهُنَا لَوْلَا أَنه ادّعى لَهُ معنى الشَّمْس الْحَقِيقِيّ وَجعله شمساً لما كَانَ لهَذَا التَّعَجُّب معنى إِذْ لَا تعجب فِي أَن إنْسَانا حسانا يظلل إنْسَانا آخر
وَقَرِيب من معنى الْبَيْتَيْنِ مَا حكى أَن سيماء التركي غُلَام المعتصم كَانَ أحسن تركي على وَجه الأَرْض فِي وقته وَكَانَ المعتصم لَا يُفَارِقهُ وَلَا يصبر عَنهُ محبَّة لَهُ ووجداً بِهِ فاتفق أَن المعتصم دَعَا أَخَاهُ الْمَأْمُون ذَات يَوْم إِلَى دَاره فأجلسه فِي بَيت على سقفه جامات فَوَقع ضوء الشَّمْس من وَرَاء تِلْكَ الجامات على وَجه سيماء فصاح الْمَأْمُون لِأَحْمَد بن مُحَمَّد اليزيدي فَقَالَ انْظُر وَيلك إِلَى ضوء الشَّمْس على وَجه سيماء أَرَأَيْت أحسن من هَذَا قطّ وَقد قلت
(قد طَلَعت شمسٌ على شَمْس
…
وزَالَتِ الوحشة بالأنس) // السَّرِيع //
فأجز فَقَالَ البزيدي بعده
(قد كُنْتُ أشنْا الشَّمْسَ من قبل ذَا
…
فصِرْتُ أرتاحُ إِلَى الشَّمْس)
قَالَ وفطن المعتصم فعض شَفَتَيْه لِأَحْمَد قَالَ أَحْمد لِلْمَأْمُونِ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَئِن لم يعلم الْأَمِير حَقِيقَة الْأَمر مِنْك لأقعن مِنْهُ فِيمَا أكره فَدَعَاهُ الْمَأْمُون فَأخْبرهُ الْخَبَر فَضَحِك المعتصم فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون كثر الله يَا أخي فِي غلمانك مثله
وَيقرب من هَذَا مَا حُكيَ أَن الْمُعْتَمد بن عباد صَاحب إشبيلية جلس يَوْمًا وَبَين يَدَيْهِ جَارِيَة تسقيه فخطف الْبَرْق فارتاعت مِنْهُ فَقَالَ ابْن عباد فِي ذَلِك
(روَّعها البرقُ وَفِي كفِّها
…
برقٌ من الْقَهْوةَ لَمَّاعُ)
(عجبت مِنْهَا وهْيَ شمس الضُّحَى
…
من مثل مَا تحمل ترتاعُ) // السَّرِيع //
ثمَّ أنْشد الأول لعبد الْجَلِيل بن وهبون المرسي واستجازه فَقَالَ
(ولَنْ ترى أعجب من آنسٍ
…
من مثل مَا يُمْسِكُ يرتاع)
وَابْن العميد هُوَ أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن الْحُسَيْن عين الْمشرق ولسان الْجَبَل وعماد ملك آل بويه وَصدر وزرائهم قَالَ فِي حَقه أَبُو مَنْصُور الثعالبي كَانَ أوحد الْعَصْر فِي الْكِتَابَة وَكَانَ يدعى الجاحظ الآخر والأستاذ والرئيس وَيضْرب بِهِ الْمثل فِي البلاغة وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي الْإِشَارَة بالفصاحة والبراعة مَعَ حسن الترسل وجزالة الْأَلْفَاظ وسلاستها مَعَ براعة الْمعَانِي ونفاستها وَمَا أحسن وأصدق مَا قَالَه الصاحب وَقد سَأَلَهُ عَن بَغْدَاد عِنْد مُنْصَرفه عَنْهَا بَغْدَاد فِي الْبِلَاد كالأستاذ فِي الْعباد وَكَانَ يُقَال بدئت الْكِتَابَة بِعَبْد الحميد وختمت بِابْن العميد وَقد أجْرى ذكرهمَا مَعًا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد الخازن فِي قصيدة مدح بهَا الصاحب بن عباد حَيْثُ وصف بلاغته فَقَالَ
(دعوا الأقاصيصَ والأنباء نَاحيَة
…
فَمَا على ظهرهَا غير ابْن عبَّادِ)
(وَإِلَى بَيانٍ مَتى يُطْلق أعِنَّتَه
…
يدَعْ لِسَان إِيادٍ رهْنَ أقْيادِ)
(ومُورِدٌ كَلمَاتِ عَطَّلَتْ زهراً
…
على رياضٍ ودرَّاً فوقَ أجْيادِ)
(وتاركٌ أَولا عبدَ الحميدِ بهَا
…
وابنَ العميد أخيراً فِي أبي جاد) // الْبَسِيط //
وَلم يَرث ابْن العميد الْكِتَابَة عَن كَلَالَة بل كَانَ كَمَا قَالَ ذُو الرمة فِي وصف صائد حاذق
(أَلفى أَبَاهُ بِذَاكَ الْكسْب يكْتَسب
…
) // الْبَسِيط //
لِأَن أَبَاهُ أَبَا عبد الله الملقب بكله كَانَ فِي الرُّتْبَة الْكُبْرَى من الْكِتَابَة وَكَانَ قد تقلد ديوَان الرسائل للْملك نوح بن نصر وَكَانَ يحضر ديوَان الرسائل فِي محفة لسوء أثر النقرس فِي قدمه وَفِيه يَقُول أَبُو الْقَاسِم الإسكافي وَكَانَ يكْتب فِي ديوانه إِذْ ذَاك وَيرى نَفسه أَحَق مِنْهُ برتبته ويتمنى زَوَال أمره ليقوم مقَامه
(يَا ذَا الَّذِي ركب المحفة
…
جَامعا فِيهَا جهازهْ)
(أَتَرَى الإِله يُعِيشُني
…
حتَّى يرينيها جنازهْ) // الْكَامِل //
وَلم تطل الْأَيَّام حَتَّى أَتَت على أبي عبد الله منيته ووافت أَبَا الْقَاسِم أمْنِيته وَتَوَلَّى ديوَان الرسائل فَسبق من قبله وأتعب من بعده وَلم يزل أَبُو الْفضل هَذَا فِي حَيَاة أَبِيه وَبعد وَفَاته بِالريِّ وكورة الْجَبَل وَفَارِس يتدرج إِلَى الْمَعَالِي ويزداد فضلا وبراعة على الْأَيَّام والليالي حَتَّى بلغ مَا بلغ وَاسْتقر فِي الذرْوَة من وزارة ركن الدولة ورياسة الْجَبَل وخدمة الكبراء وانتجعه الشُّعَرَاء وَورد عَلَيْهِ أَبُو الطّيب المتنبي عِنْد صدوره من حَضْرَة كافور الأخشيدي فمدحه بِتِلْكَ القصيدة الْمَشْهُورَة الَّتِي مِنْهَا يَقُول
(من مبلغ الأعرابِ أنيَ بَعدها
…
شاهدت رسطاليس والاسكندرا)
(ومللت نحر عشارها فأضافني
…
من ينْحَر البِدَرَ النُّضار لمن قرى)
(وسمعتُ بطليموس دَارِسَ كتبِهِ
…
مُتملكاً متبدياً متحضرَا)
(ولقيتُ كلَّ الفاضلين كَأَنَّمَا
…
رَدَّ الإِلهُ نُفُوسهم والأعصرا) // الْكَامِل //
وَمِنْهَا
(نسقوا لنا نسق الْحساب مقدما
…
وأنى فَذَلِك إِذْ أتيت مؤخَّرَا)
(بِأبي وَأمي ناطقٌ فِي لفظهِ
…
ثمن تباعُ لَهُ الْقُلُوب وتشترَى)
(قطفَ الرجالُ القولَ قبلَ نَّبَاتهِ
…
وقطفتَ أنتَ القَوْل لما نوَّرَا) // الْكَامِل //
ومدحه الصاحب بن عباد بقصائد كَثِيرَة استفرغ فِيهَا جهده فَمِنْهَا قَوْله فِيهِ
(من الْقلب يهيم فِي كل وَادي
…
وقتيلٍ للحب من غير وَادي)
(إِنَّمَا أذكر الغوانيَ والمقصدُ سعدى تكثُّراً للسوَادِ
…
)
(وَإِذا مَا صدقتُ فَهْيَ مرامي
…
ومُرَادي وَرَوْضتي ومَرَادي)
(ونَدَى ابنِ العميد إِنِّي عميدٌ
…
من هَواهَا أليةَ الأمجادِ)
(لوْ دَرَى الدَهرُ أَنه من بنيهِ
…
لازَدْرى قدرَ سَائِر الْأَوْلَاد)
(أورأي الناسُ كَيفَ يهتزُّ للجود
…
لما عدَدوهُ فِي الأطواد) // الْخَفِيف //
وَله أَيْضا
(قَالُوا رَبيعك قد قَدِمْ
…
فلكَ البشارةُ بالنَّعَمْ)
(قلتُ الربيعُ أَخُو الشتَاء
…
أم الرّبيع أَخُو الْكَرم)
(قَالُوا الَّذِي بنواله
…
يَغْنَي المقلّ من العَدَمْ)
(قلتُ الرئيسُ ابنُ العميد إِذا فَقَالُوا لي نعم
…
) // الْكَامِل //
ولبعضهم فِيهِ عِنْد انْتِقَاله إِلَى قصر جَدِيد قد بناه وَهُوَ مستبدع
(لَا يعجبنَّكَ حسنُ الْقصر تنزلهُ
…
فَضِيلَة الشَّمْس ليستْ فِي منازلها)
(لَو زِيدتِ الشمسُ فِي أبراجها مائَة
…
مَا زَاد ذَلك شَيْئا فِي فضائلها)
وَهَذِه نبذة من محَاسِن نثره
فصل من رِسَالَة كتب بهَا إِلَى أبي الْعَلَاء السروي كتابي جعلني الله تَعَالَى فدَاك وَأَنا فِي جد وتعب مُنْذُ فَارَقت شعْبَان وَفِي جهد وَنصب من رَمَضَان وَفِي الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر من ألم الْجُوع وَوَقع الصَّوْم ومرتهن بتضاعف حر لَو أَن اللَّحْم يُصَلِّي بِبَعْضِه غريضا أَتَى أَصْحَابه وَهُوَ منضج وممتحن بهواجر يكَاد أوراها يذيب دماغ الضَّب وَيصرف وَجه الحرباء عَن التحنف ويزويه عَن التنصر وَيقبض يَده عَن إمْسَاك سَاق وإرسال سَاق
(وَيتْرك الجأبَ فِي شغل عَن الحقب
…
ويقدح النارَ بَين الْجلد والعصب)
ويغادر الْوَحْش قد مَالَتْ هواديها
(سجوداً لدَى الأرطي كأنَّ رؤسها
…
عَلَاها صداعٌ أَو فواقٌ يصورها) // الطَّوِيل //
كَمَا قَالَ الفرزدق
(ليَوْم أَتَى دون الظلال شموسه
…
تظل المها صُوراً جماجمُهَا تغلى) // الطَّوِيل //
وكما قَالَ مِسْكين الدَّارمِيّ
(وهاجِرَةٍ ظلت كأنَّ ظباءها
…
إِذا مَا اتقتها بالقُرون سجودُ)
(تلوذ بشؤْبوب من الشَّمْس فَوْقهَا
…
كَمَا لاذَ من وَخْزِ السنان طريد) // الطَّوِيل //
وممنو بأيام تحاكي ظلّ الرمْح طولا وليال كإبهام القطاة قصرا ونوم كلا وَلَا قلَّة وكحسو الطَّائِر من المَاء الثماد دقة وكتصفيقة الطَّائِر المستحرخفة
(كَمَا أبرقت قوما عِطَاشاً غَمَامَةٌ
…
فلمَّا رَأها أقشعتْ وَتجلتِ)
وكنقر العصافير وَهِي خائفة من النواطير يَانِع الْعِنَب وَأحمد الله تَعَالَى على كل حَال وأسأله أَن يعرفنِي بركته ويلقيني الْخَيْر فِي أَيَّامه وخاتمته وأرغب إِلَى الله أَن يقرب على الْقَمَر دوره وَيقصر سيره ويخفف حركته ويعجل نهضته وَينْقص مَسَافَة فلكه ودائرته ويزيل بركَة الطول من ساعاته وَيرد على غرَّة شَوَّال فَهِيَ أسر سَائِر الْغرَر عِنْدِي وأقرها لعَيْنِي ويسمعني النعرة فِي قفا شهر رَمَضَان ويعرض عَليّ هلاله أخْفى من السِّرّ وأظلم من الْكفْر وأنحف من مَجْنُون بني عَامر وأضنى من قيس
ابْن ذريح وأبلى من أَسِير الهجر ويسلط عَلَيْهِ الْحور بعد الكور وَيُرْسل على رقاقته الَّتِي يغشى الْعُيُون ضوءها ويحط من الْأَجْسَام نوءها كلفا يغمرها وكسوفاً يَسْتُرهَا ويرينيه مغمور النُّور مقمور الظُّهُور قد جمعه وَالشَّمْس برجٌ وَاحِد ودرجة مُشْتَركَة وَينْقص من أَطْرَافه كَمَا تنقص النَّار من أَطْرَاف الزند وَيبْعَث إِلَيْهِ الأرضة وَيهْدِي إِلَيْهِ السوس ويغري بِهِ الدُّود ويبليه بالفأر ويخترمه بالجراد ويبيده بالنمل ويجتحفه بالذر ويجعله من نُجُوم الرَّجْم وَيَرْمِي بِهِ مسترق السّمع ويخلصنا من معاودته ويريحنا من دوره ويعذبه كَمَا عذب عباده وخلقه وَيفْعل بِهِ فعله بالكتان ويصنع بِهِ صَنِيعه بالألوان ويقابله بِمَا تَقْتَضِيه دَعْوَة السَّارِق إِذا افتضح بضوئه وتهتك بطلوعه وَيرْحَم الله عبدا قَالَ آمينا وَأَسْتَغْفِر الله جلّ وَجهه مِمَّا قلته إِن كرهه وأستعفيه من توفيقي لما يذمه وأسأله صفحاً يفيضه وعفواً يسبغه وحالي بعد مَا شَكَوْت صَالِحَة وعَلى مَا تحب وتهوى جَارِيَة وَللَّه الْحَمد تقدست أسماؤه وَالشُّكْر
وَمن فصوله الْقصار الْجَارِيَة مجْرى الْأَمْثَال قَوْله مَتى خلصت للدهر حَال من اعتوار أَذَى وَصفا فِيهِ شرب من اعْتِرَاض قذى خير القَوْل مَا أَغْنَاك جده وألهاك هزله الرتب لَا تبلغ إِلَّا بتدرج وتدرب وَلَا تدْرك إِلَّا بتجشم كلفة وتصعب الْمَرْء أشبه شئ بِزَمَانِهِ وَصفه كل زمَان منتسخة من سجايا سُلْطَانه الْمَرْء يبْذل مَاله فِي إصْلَاح أعدائه فَكيف يذهل الْعَاقِل عَن حفظ
أوليائه هَل السَّيِّد إِلَّا من يهابه إِذا حضر وتغتابه إِذا أدبر اجْتنب سُلْطَان الْهوى وَشَيْطَان الْميل المرح والهزل بَابَانِ إِذا فتحا لم يغلقا إِلَّا بعد الْعسر وفحلان إِذا لقحا لم ينتجا غير الشَّرّ
وَمِمَّا أخرج لَهُ من الشّعْر قَوْله
(آخ الرجالَ من الأباعد
…
والأقاربَ لَا تُقَارب)
(إِن الْأَقَارِب كالعقارب
…
بل أضرّ من العقارب) // الْكَامِل //
وَكتب إِلَى الْعلوِي
(يَا من تخلى وَولى
…
وصدّ عني وملَاّ)
(وأوسع الْعَهْد نَكْثاً
…
وأتبع العقد حلَا)
(مَا كَانَ عَهْدك إِلَّا
…
عهد الشبيبة ولى)
(أوْ طَائِفًا منْ خيالٍ
…
ألَمَّ ثُمَّ تَولَّى)
(أَو عَارضاً لاحَ حَتّى
…
إِذا دَنا فتَدلى)
(ألوَتْ بهِ نَسمات
…
من الصِّبا فَتجلَّى)
(أهْلاً بِما تَرْتضيهِ
…
فِي كلّ حالٍ وسَهلَا)
(ليَجزيَنّكَ وُدّي
…
بمثْل فعْلِكَ فعْلَا)
(إنْ شِئتَ هَجْراً فهَجراً
…
أَو شئتَ وَصْلاً فوَصلا)
(صَبَرْتَ عنَّيَ فانظْر
…
ظفرِتَ بالصَّبر أمْ لَا)
(إِني إِذا الخِلُّ ولَّى
…
ولَّيْتُهُ مَا تولى) // المقتضب //
وَكتب إِلَى أبي الْحسن بن هندو وأرسلها إِلَيْهِ صَبِيحَة عرسه
(أنعمْ أَبَا حَسَن صباحاً
…
وازْدَدْ بَزوْجتِكَ ارتياحَا)
(قَدْ رضْتَ طرْفَكَ خَالِيا
…
فَهل استَلنتَ لَهُ جِمَاحَا)
(وقدَحتَ زَنْدَك جاهِداً
…
فَهل استبَنْتَ لهُ انقِدَاحَا)
(وطَرَقتَ منغَلقاً فهلْ
…
سَنَّ الآله لَهُ انْفِتَاحَا)
(قَدْ كنت أرْسلت الْعُيُون
…
صَباحَ يوْمِكَ والرَّوَاحَا)
(وبعَثتُ مُصغيةً تبيت
…
لدَيْكَ تَرْتقِبُ النَّجَاحا)
(فَغَدْت عليّ بجُملةٍ
…
لم تُولني إِلَا افتِضاحَا)
(وشَكتْ إِليّ خلاخلاً
…
خرْساً وأوشجةً فِصاحا)
(مَنعت وساوسُها المسامع
…
مَعَ أَن تُحسَّ لكم صباحا) // الْكَامِل //
وللصاحب ابْن عباد فِي هَذَا الْمَعْنى إِلَّا أَنه أقرب فِي التَّصْرِيح
(قلبِي على الجمرَة يَا أَبَا الْعلَا
…
فَهَل فتَحتَ الموْضع المقفلا)
(وَهل فَككت الْخَتْم عَن كيسه
…
وَهل كحلت النَّاظر الأكحلا)
(إِن قُلت يَا هَذَا نعم صَادِقا
…
أبْعث نثاراً يمْلَأ المنْزلا)
(وإنْ تُجبني مِنْ حياءَ بِلَا
…
أبعَثْ إليْكَ الْقطن والمغزلا) // السَّرِيع //
وَلابْن العميد فِي المغنى الْقرشِي
(إِذا غناني الْقرشِي يَوْمًا
…
وعنَّاني برؤيتهِ وضربهْ)
(وَدِدْتُ لَوَ أنّ أُذني مثْلُ عَيْني
…
هنَاكَ وأنّ عيْني مثلُ قلبِهْ) // الوافر //
وللوزير المهلبي فِيهِ أَيْضا
(إِذا غناني الْقرشِي
…
دعوْتُ الله بالطَّرش)
(وَإِنْ أبصرْتُ طَلعتهُ
…
فَوالهفي على العَمَش) // من مجزوء الوافر //
وَاجْتمعَ عِنْد ابْن العميد يَوْمًا أَبُو مُحَمَّد بن هندو وَأَبُو الْقَاسِم بن أبي الْحُسَيْن وَأَبُو الْحُسَيْن بن فَارس وَأَبُو عبد الله الطَّبَرِيّ وَأَبُو الْحسن البديهي فحياه بعض الزائرين بأترجة حَسَنَة فَقَالَ لَهُم تَعَالَوْا نتجاذب أهداب وصفهَا فَقَالُوا إِن رأى سيدنَا أَن يَبْتَدِئ فعل فابتدأ وَقَالَ
(وأَتُرجَّةٍ فِيهَا طبائعُ أَربع
…
) // الطَّوِيل //
فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد
(وفيهَا فُنونُ اللَّهْو وَالشرب أجْمَعُ
…
) فَقَالَ أَبُو الْقَاسِم
(يُشبهُها الرَّائي سبيكةَ عَسجَدٍ
…
)
فَقَالَ أَبُو الْقَاسِم بن أبي الْحُسَيْن
(على أَنَّهَا منْ فَأرةِ المِسْكِ أضْوَعُ
…
)
فَقَالَ أَبُو عبد الله
(وَمَا اصفَرَّ منْها اللَّوْنُ للْعشق والهوى
…
)
فَقَالَ أَبُو الْحسن
(وَلَكِن أَرَاهَا لِلْمحبِّين تجْمَعُ
…
)
وَكَانَ ابْن العميد متفلسفاً مُتَّهمًا بِرَأْي الْأَوَائِل وَيُقَال إِنَّه كَانَ مَعَ فنونه لَا يدْرِي الشَّرْع فَإِذا تكلم أحد بِحَضْرَتِهِ فِي أَمر الدّين شقّ عَلَيْهِ وخنس ثمَّ
قطع على الْمُتَكَلّم فِيهِ وَكَانَ قد ألف كتابا سَمَّاهُ الْخلق والخلق وَلم يبيضه وَلم يكن الْكتاب بِذَاكَ وَلَكِن جعس الرؤساء خبيص وصنان الْأَغْنِيَاء ند
وَتُوفِّي فِي سنة ثلثمِائة وَسِتِّينَ
وَقَامَ ابْنه عَليّ أَبُو الْفَتْح ذُو الكفايتين مقَامه إِذْ هُوَ ثَمَرَة تِلْكَ الشَّجَرَة وشبل ذَلِك القسوره وَحقّ على ابْن الصَّقْر أَن يشبه الصقرا وَمَا أصدق قَول الشَّاعِر
(إِنَّ السَّرىّ إِذا سراره فبنَفْسِه
…
وابُن السَّرىِّ إِذا سرا أسراهما) // الْكَامِل //
وَكَانَ نجيباً ذكياً لطيفاً سخياً رفيع الهمة كَامِل الْمُرُوءَة تأنق أَبوهُ فِي تأديبه وتهذيبه وجالس بِهِ أدباء عصره وفضلاء وقته وَخرج حسن الترسل مُتَقَدم الْقدَم فِي النّظم آخِذا من محَاسِن الْأَدَب بأوفر الْحَظ وَلما قَامَ مقَام أَبِيه قبل الاستكمال وعَلى مدى بعيد من الاكتهال وَجمع تَدْبِير السَّيْف والقلم لركن الدولة بن بويه لقب بِذِي الكفايتين وَعلا شَأْنه وارتفع قدره وطاب ذكره وَجرى أمره أحسن مجْرى إِلَى أَن توفّي ركن الدولة وأفضت حَال أبي الْفَتْح إِلَى مَا سَيذكرُ إِلَى قَرِيبا بِمَشِيئَة الله تَعَالَى وعونه
وَمن طرف أخباره أَن أَبَاهُ كَانَ قد قيض جمَاعَة من ثقاته فِي السِّرّ يشرفون على وَلَده الْأُسْتَاذ أبي الْفَتْح فِي منزله ومكتبه ويشاهدون أَحْوَاله ويعدون أنفاسه وأفعاله وَينْهَوْنَ إِلَيْهِ جَمِيع مَا يَأْتِيهِ ويذره ويقوله ويفعله
فَرفع إِلَيْهِ بَعضهم أَن أَبَا الْفَتْح اشْتغل لَيْلَة بِمَا يشْتَغل بِهِ الْأَحْدَاث المترفون من عقد مجْلِس أنس واتخاذ الندماء وتعاطي مَا يجمع شَمل اللَّهْو فِي خُفْيَة شَدِيدَة واحتياط تَامّ وَأَنه فِي تِلْكَ الْحَال كتب رقْعَة إِلَى بعض أصدقائه فِي استهداء الشَّرَاب فَحمل إِلَيْهِم مَا يصلح لَهُم من المشروب وَالنَّقْل والمشموم فَدس أَبوهُ إِلَى ذَلِك الْإِنْسَان من أَتَاهُ بالرقعة فَإِذا فِيهَا بِخَطِّهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قد اغتنمت اللَّيْلَة أَطَالَ الله بقاك يَا سَيِّدي ومولاي رقدة من عين الدَّهْر وانتهزت فرْصَة من فرص الْعُمر وانتظمت مَعَ أَصْحَابِي فِي سمط الثريا فَإِن لم تحفظ علينا النظام باهداء المدام عدنا كبنات نعش وَالسَّلَام فاستطير الْأُسْتَاذ فَرحا وإعجاباً بِهَذِهِ الرقعة البديعة وَقَالَ الْآن ظهر لي أَمر براعته ووثقت بجريه فِي طريقي ونيابته منابي وَوَقع لَهُ بألفي دِينَار
وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس قَالَ كنت عِنْد الْأُسْتَاذ أبي الْفَتْح فِي يَوْم شَدِيد الْحر فرمت الشَّمْس بجمرات الهاجرة فَقَالَ لي مَا قَول الشَّيْخ فِي قلبه فَلم أحر جَوَابا لِأَنِّي لم أفطن لما أَرَادَ وَلما كَانَ بعد هنيَّة أقبل رَسُول وَالِده الْأُسْتَاذ يستدعيني إِلَى مَجْلِسه فَلَمَّا مثلت بَين يَدَيْهِ تَبَسم ضَاحِكا إِلَيّ وَقَالَ مَا قَول الشَّيْخ فِي قلبه فبهت وَسكت وَمَا زلت متفكراً حَتَّى تنبهت أَنه يُرِيد الخيش وَكَأن من يشرف على أبي الْفَتْح من جِهَة أَبِيه أَتَاهُ بِتِلْكَ اللَّفْظَة فِي تِلْكَ السَّاعَة فأفرط اهتزازه لَهَا وقرأت صحيفَة السرُور فِي وَجهه ثمَّ أخذت أتحفه بنكت نظمه ونثره فَكَانَ مِمَّا أعجب بِهِ واستضحك لَهُ رقْعَة لَهُ وَردت عَليّ وصدرها وصلت رقْعَة الشَّيْخ أَصْغَر من عنفقة بقة وأقصر من أُنْمُلَة نملة
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن وَجرى فِي بعض أيامنا ذكر أَبْيَات اسْتحْسنَ الرئيس الْأُسْتَاذ وَزنهَا واستحلى رويها وَأنْشد كل من الْحَاضِرين مَا حَضَره على ذَلِك وَهُوَ قَول الْقَائِل
(لَئِن كَفَفْتَ وَإلَاّ
…
شققتُ مِنْك ثِيَابِي) // المقتضب //
فأصغى الْأُسْتَاذ أَبُو الْفَتْح ثمَّ أنْشد فِي الْوَقْت وَقَالَ
(يَا مولَعاً بعذابي
…
أما رحمتَ شَبَابِي)
(تركت قلبِي قريحاً
…
نهب الأسى والتصابي)
(إِن كنتَ تُنْكِر مَا بِي
…
من ذِلّتي واكتئابي)
(فارفعْ قَلِيلا قَلِيلا
…
عَن العظامِ ثِيَابِي)
وَله من نوروزيه
(أبْشر بنورُوزٍ أتاكَ مبشراً
…
بسعادةٍ وزيادةٍ ودوامِ)
(واشرَبْ فقد حلَّ الربيعُ نقابَهُ
…
عَن منظرٍ متهللٍ بَسَّامِ)
(وهديَّتي شعر عَجِيب نظمُهُ
…
ومديحهُ يبْقى على الأيامِ)
(فاقبلْهُ وَأَقْبل عذرَ منْ لم يستطعْ
…
إهداءَ غير نتيجة الأفهام) // الْكَامِل //
وَمن بدائعه الْمَشْهُورَة قَوْله من قصيدة
(عُودي وماءُ شبيبتي فِي عودي
…
لَا تَعمدي لِمقَاتِل المعمودِ)
(وِصليهِ مَا دامتْ أَصائلُ عيشهِ
…
تُؤويه فِي ظلٍّ لهَا ممدودِ)
(مَا دَامَ من ليلِ الصِّبا فِي فاحمٍ
…
رجل الذرى متهدلِ العُنقودِ)
(قبلَ المشيب وطارقاتُ جنُودِه
…
يُبْدِلْنَهُ يَققا بسحم سود) // الْكَامِل //
وَمن شعره
(أَيْن لي من يَفِي بشكر اللَّيَالِي
…
إِذْ أضافتْ خيالهَا وخيالي)
(لم يكنْ لي على الزمانِ اقتراحٌ
…
غيرَها منية فجاد بهَا لِي) // الْخَفِيف //
وَمِنْه
(إِذا أَنا بُلِّغتُ الَّذِي كنت أشتهي
…
وأضعافَهُ ألفا فكِلْنِي إِلَى الْخمر)
(وَقل لنديمي قمْ إِلَى الدَّهْر واقترح
…
عَلَيْهِ الَّذِي يهوى وكلني إِلَى الدَّهْر) // الطَّوِيل //
يحْكى أَنه سر يَوْمًا وَطلب الندماء وهيأ مَجْلِسا عَظِيما بآلات الذَّهَب وَالْفِضَّة والمغاني والفواكه وَشرب بَقِيَّة يَوْمه وَعَامة ليلته ثمَّ عمل شعرًا وغنوه بِهِ وَهُوَ هَذَا
(دعوتُ الغِنا ودعوت المنى
…
فَلَمَّا أجابا دعوتُ القَدَحْ)
(إِذا بلغ المرءُ آمالَهُ
…
فَلَيْسَ لَهُ بعْدهَا مقترح) // المتقارب //
وَكَانَ ذَلِك بعد تَدْبيره على الصاحب وإبعاده عَن ركن الدولة وانفراده بالدست كَمَا سَنذكرُهُ ثمَّ طرب بالشعر وَشرب إِلَى أَن سكر وَقَالَ غطوا الْمجْلس لأصطبح عَلَيْهِ غَدا وَقَالَ لندمائه باكروني ثمَّ نَام فَدَعَاهُ مؤيد الدولة فِي السحر وَقبض عَلَيْهِ وَأخذ مَا يملكهُ ثمَّ قَتله وَكَانَ من خبر ذَلِك أَنه لما توفّي ركن الدولة وَقَامَ بعده وَلَده مؤيد الدولة مقَامه خَليفَة لِأَخِيهِ عضد الدولة أقبل من أَصْبَهَان إِلَى الرّيّ وَمَعَهُ الصاحب أَبُو الْقَاسِم بن عباد فَخلع على أبي الْفَتْح هَذَا خلع الوزارة وَألقى إِلَيْهِ مقاليد المملكة والصاحب على حَالَته فِي الْكِتَابَة لمؤيد الدولة والاختصاص بِهِ وَشدَّة الحظوة لَدَيْهِ فكره أَبُو الْفَتْح مَكَانَهُ وأساء بِهِ الظَّن فَبعث الْجند على أَن يشغبوا عَلَيْهِ وهموا بِمَا لم ينالوا مِنْهُ فَأمره مؤيد الدولة بمعاودة أَصْبَهَان وَأسر فِي نَفسه الموجدة على أبي الْفَتْح وانضاف إِلَى ذَلِك تغير عضد الدولة واحتقاده عَلَيْهِ أَشْيَاء كَثِيرَة فِي أَيَّام أَبِيه وَبعدهَا مِنْهَا ممايلته عز الدولة بختيار وَمِنْهَا ميل القواد إِلَيْهِ بل غلوهم فِي موالاته ومحبته وَمِنْهَا ترفعه عَن التَّوَاضُع لَهُ فِي مكاتباته وَاجْتمعَ رَأْي الْأَخَوَيْنِ على اعتقاله وَأخذ أَمْوَاله وَلما قبض عَلَيْهِ بدرت مِنْهُ كَلِمَات
أَيْضا نقلت إِلَى عضد الدولة فزادت فِي استيحاشه مِنْهُ وأنهض من حَضرته من طَالبه بالأموال وعذبه بأنواع الْعَذَاب وَيُقَال إِنَّه سمل إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَقطع أَنفه وجز لحيته
وَفِي تِلْكَ الْحَال يَقُول وَقد أيس من نَفسه وَاسْتَأْذَنَ فِي صَلَاة رَكْعَتَيْنِ ودعا بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس وَكتب
(بدِّلَ من صُورَتيَ المنظَرُ
…
لكنَّهُ مَا غُيرَ المخبرُ)
(ولسْتُ ذَا حُزْنٍ على فائتٍ
…
لَكِن على من باتَ يَسْتَعْبِرُ)
(وواله الْقلب لما مسني
…
مُسْتَخبرٌ عني وَلَا يخبر) // السَّرِيع //
وَحدث أَبُو جَعْفَر الْكَاتِب قَالَ كَانَ أَبُو الْفَتْح قبل النكبة الَّتِي أَتَت على نَفسه قد لهج بإنشاد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فِي أَكثر أوقاته وَلست أَدْرِي أهماله أم لغيره وهما
(سكنَ الدُّنيا أناسٌ قبلنَا
…
رَحلوا عَنْهَا وخلوها لنا)
(ونزلناها كَمَا قد نزلُوا
…
ونُخَلِّيهَا لقومٍ بَعدنَا) // الرمل //
وَلما تَيَقّن بهلاكه وَأَنه لَا ينجو مِنْهُم ببذل المَال مد يَده إِلَى جيب جُبَّة كَانَت عَلَيْهِ ففتقه عَن رقْعَة فِيهَا مَكْتُوب مَا لَا يُحْصى من ودائعه وكنوز أَبِيه وذخائره وَأَلْقَاهَا فِي كانون كَانَ بَين يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ للْمُوكل بِهِ الْمَأْمُور بقتْله اصْنَع مَا أَنْت صانع فوَاللَّه لَا يصل من أَمْوَالِي المستورة إِلَى صَاحبك الدِّرْهَم الْوَاحِد فَمَا زَالَ يعرضه على الْعَذَاب ويمثل بِهِ حَتَّى تلف
وَفِيه يَقُول بعض الشُّعَرَاء المتعصبين لَهُ
(آلَ العميدِ وَآل برمك مالكم
…
قَلّ المُعينُ لكُمْ وقَلّ النَاصِرُ)
(كَانَ الزَّمَان يحبكم فبداله
…
إِنَّ الزَّمَان هُوَ المحبُّ الغادرُ)
ورثاه كثير من الشُّعَرَاء بغرر القصائد
99 -
(لَا تْعَجبوا مِنْ بلَى غِلَالَتهِ
…
قَدْ زُرَّ أزْرارهُ عَلَى القَمرِ)
الْبَيْت لأبي الْحسن بن طَبَاطَبَا الْعلوِي من المنسرح وَقَبله
(يَا منْ حكى فرطَ رِقَّتِهِ
…
وقلبهُ فِي قساوة الحجرِ)
(يَا ليتَ حظي كحظِّ ثوبكَ منْ
…
جسمكَ يَا وَاحِدًا من الْبشر) // المنسرح //
وَبعده الْبَيْت ورأيته بِلَفْظ
(قد زُرّ كِتَّانُهَا علىَ القمرِ
…
)
وَلَعَلَّه أبلغ فِي المُرَاد والغلالة بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة شعار يلبس تَحت الثَّوْب
وَالشَّاهِد فِيهِ مَا فِي الْبَيْت الَّذِي قبله لِأَنَّهُ لَو لم يَجعله قمرا حَقِيقِيًّا لما كَانَ للنَّهْي عَن التَّعَجُّب معنى لِأَن الْكَتَّان إِنَّمَا يسْرع إِلَيْهِ البلى بِسَبَب ملازمته للقمر الْحَقِيقِيّ لَا بِسَبَب مُلَابسَة إِنْسَان كَالْقَمَرِ حسنا ورد كَون الِاسْتِعَارَة مجَازًا عقلياً بَان ادِّعَاء دُخُول الْمُشبه فِي جنس الْمُشبه بِهِ لَا يَقْتَضِي كَونهَا مستعملة فِيمَا وضعت لَهُ للْعلم الضَّرُورِيّ بِأَنَّهَا مستعملة فِي الرجل الشجاع مثلا والموضوع لَهُ هُوَ السَّبَب الْمَخْصُوص وَأما التَّعَجُّب وَالنَّهْي عَنهُ فِي الْبَيْت وَالَّذِي قبله فللبناء على تناسي التَّشْبِيه قَضَاء لحق الْمُبَالغَة وَدلَالَة على أَن الْمُشبه بِحَيْثُ لَا يتَمَيَّز عَن الْمُشبه بِهِ أصلا حَتَّى إِن كل مَا يَتَرَتَّب على الْمُشبه بِهِ من التَّعَجُّب وَالنَّهْي عَنهُ يَتَرَتَّب على الْمُشبه أَيْضا
وَأَبُو الْحسن ابْن طَبَاطَبَا اسْمه مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم طَبَاطَبَا بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم وَهُوَ شَاعِر مفلق وعالم مُحَقّق مولده بأصبهان وَبهَا مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلاثمائة وَله عقب كثير بأصبهان فيهم عُلَمَاء
وأدباء ومشاهير وَكَانَ مَذْكُورا بالفطنة والذكاء وصفاء القريحة وَصِحَّة الدّهن وجودة الْمَقَاصِد
وَله من المصنفات كتاب عيار الشّعْر وَكتاب تَهْذِيب الطَّبْع وَكتاب الْعرُوض وَلم يسْبق إِلَى مثله
وَمن شعره قصيدة تِسْعَة وَثَلَاثُونَ بَيْتا لَيْسَ فِيهَا رَاء وَلَا كَاف أَولهَا
(يَا سيداً دَانتْ لهُ السادَاتُ
…
وَتَتَابَعَتْ فِي فعله الحسناتُ) // الْكَامِل //
يَقُول مِنْهَا فِي وصف القصيدة
(ميزانها عندَ الخليلِ مُعَدَّلٌ
…
متفاعلنْ متفاعلن فَعَلَاتٌ)
(لَو واصلُ بنُ عطاءِ الْبَانِي لَهَا
…
تُليَتْ تُوُهِّم أَنَّهَا آياتُ)
وَمن شعره يهجو أَبَا عَليّ الرستمي ويرميه
…
بالدعوة والبرص
(أنتَ أعطيتَ من دَلَائِل رُسل الله آياً بهَا علوتَ الرُّؤسَا
…
)
(جئتَ فردَاً بِلَا أَب وبيمناك
…
بياضٌ فأنتَ عِيسَى ومُوسَى) // الْخَفِيف //
وَمَا أحسن قَول أبي المطاوع نَاصِر الدولة ابْن حمدَان فِي معنى الْبَيْت المستشهد بِهِ
(ترَى الثيابَ من الْكَتَّان يلمحها
…
نُورٌ من الْبَدْر أَحْيَانًا فيُبْليها)
(فكيفَ تُنْكر أَن تَبْلَى معاجرُها
…
والبدرُ فِي كل وقتٍ طالعٌ فِيهَا) // الْبَسِيط //
وَقَالَ مَنْصُور البستي الْمَعْرُوف بالغزال فِيهِ من قصيدة يصف الساقي
(وَمَشى بكتانٍ فخلتُ عناكبا
…
نسجت على الْيَاقُوت ثوب قَتَامٍ)
(أعجِبْ ببدرٍ سالمٍ كتانُهُ
…
وَبِه يحرق أنفس الأقوام) // الْكَامِل //
وَمثله قَول الآخر
(كيفَ لَا تَبْلَي غلائلهُ
…
وَهْوَ بَدْرٌ وَهِي كتَّان) // المديد //
100 -
(فَإِن تعافُوا العدلَ والإِيمانَا
…
فإنَّ فِي إيمَانِنَا نِيرَاناً)
قَائِله بعض الْعَرَب من الرجز
وَالشَّاهِد فِيهِ ذكر الْقَرِينَة فِي الِاسْتِعَارَة لِأَنَّهَا مجَاز وَلَا بُد لَهَا من قرينَة مَانِعَة من إِرَادَة الْمَعْنى الْمَوْضُوع لَهُ وَهِي إِمَّا أَمر وَاحِد أَو أَكثر وَهُوَ هُنَا قَوْله تعافوا فَإِن تعلقه بِكُل من الْعدْل وَالْإِيمَان قرينَة دَالَّة على أَن المُرَاد بالنيران السيوف أَي سيوفاً تلمع كشعل النيرَان لدلالته على أَن جَوَاب هَذَا الشَّرْط تحاربون وتلجئون إِلَى الطَّاعَة بِالسُّيُوفِ
101 -
(وصاعقةٍ من نَصْله تَنْكَفي بهَا
…
على أرْؤُسِ الأقران حمسُ سَحائِبِ)
الْبَيْت للبحتري من قصيدة من الطَّوِيل أَولهَا
(هَبِيهِ لمنهلِّ الدُّمُوع السواكِبِ
…
وهَبَّاتِ شوقٍ فِي حَشَاه لَوَاعِبِ)
(وَإِلَّا فَرُدِّى نَظرَة فِيهِ تَعْجَبِي
…
لما فِيهِ أَولا تحفلي بالعجائب) // الطَّوِيل // وَهِي طَوِيلَة وَالرِّوَايَة فِيهِ وصاعقة فِي كَفه كَمَا فِي الدِّيوَان وَبعده
(يكَاد الندى مِنْهَا يفِيض على العدَا
…
لَدَى الْحَرْب فِي ثنيتي قِنَا وقَوَاضبِ)
والصاعقة الْمَوْت وكل عَذَاب مهلك وصيحة الْعَذَاب والمحراق الَّذِي بيد الْملك سائق السَّحَاب وَلَا يَأْتِي على شَيْء إِلَّا أحرقه أَو نَار تسْقط من السَّمَاء والانكفاء الانقلاب والأرؤس جمع رَأس والأقران جمع قرن وَهُوَ الْكُفْء
وَالشَّاهِد فِيهِ مَجِيء الْقَرِينَة مَعَاني ملتئمة مربوطة بَعْضهَا بِبَعْض يكون الْجَمِيع قرينَة لَا كل وَاحِد فههنا أَرَادَ بِخمْس سحائب أنامل الممدوح الْخمس الَّتِي هِيَ فِي الْجُود وَعُمُوم الْعَطاء سحائب أَي يصبهَا على أكفائه فِي الْحَرْب فيهلكهم بهَا وَأَرَادَ بأرؤس الأقران جمع الْكَثْرَة بِقَرِينَة الْمَدْح لِأَن كلا من صِيغَة جمع الْقلَّة وَالْكَثْرَة يستعار للْآخر فههنا لما اسْتعَار السحائب لأنامل الممدوح ذكر أَن هُنَاكَ صَاعِقَة وَبَين أَنَّهَا من نصل سَيْفه ثمَّ قَالَ على أرؤس الأقران ثمَّ قَالَ خمس فَذكر الْعدَد الَّذِي هُوَ عدد الأنامل فَظهر من جَمِيع ذَلِك أَنه أَرَادَ بالسحائب الْخمس الأنامل
102 -
(وإذَا احْتَبَى قَرَبُوسهُ بِعِنَانِهِ
…
)
قَائِله يزِيد بن مسلمة بن عبد الْملك بن مَرْوَان من قصيدة من الْكَامِل يصف فرسا لَهُ بِأَنَّهُ مؤدب وَأَنه إِذا نزل عَنهُ وَألقى عنانه فِي قربوس سَرْجه وقف مَكَانَهُ إِلَى أَن يعود إِلَيْهِ وَتَمَامه
(عَلكَ الشَّكيم إِلَى انْصِرَافِ الزائِرِ
…
)
والقربوس بِفَتْح الرَّاء وَلَا تسكن إِلَّا فِي ضَرُورَة الشّعْر وَهُوَ حنو السرج وهما قربوسان والعنان بِكَسْر الْعين سير اللجام الَّذِي تمسك
بِهِ الدَّابَّة والشكيم والشكيمة الحديدة المعترضة فِي فَم الْفرس فِيهَا الفأس وَأَرَادَ بالزائر نَفسه بِدَلِيل مَا قبله وَهُوَ
(عودته فِيمَا أَزور حبائبي
…
إهماله وكذاك كل مخاطر) // الْكَامِل //
وَالشَّاهِد فِيهِ الِاسْتِعَارَة الْخَاصَّة وَهِي الغريبة والغرابة قد تكون فِي نفس الشّبَه كَمَا فِي الْبَيْت فَإِنَّهُ شبه هَيْئَة وُقُوع الْعَنَان فِي موقعه من قربوس السرج ممتداً إِلَى جَانِبي فَم الْفرس بهيئة وُقُوع الثَّوْب موقعه من ركبة المحتبي ممتداً إِلَى جَانِبي ظَهره وساقيه بِثَوْب أَو غَيره كوقوع الْعَنَان فِي قربوس السرج فَجَاءَت الِاسْتِعَارَة غَرِيبَة كغرابة الْمُشبه
وَمن الاستعارات الغريبة قَول طفيل الغنوي
(وجَعَلْتُ كُوري فَوقَ ناجِيةٍ
…
يقْتَاتَ شَحْمَ سنامها الرحل) // الْكَامِل //
وَكَذَا قَول الْأُسْتَاذ ابْن المعتز
(حَتَّى إِذا مَا عَرَفَ الصَّيْدَ انْصَارْ
…
وأذنَ الصُّبحُ لنا بالأبصار) // الرجز //
وَقَول جرير
(تُحْيِي الرَّوَامِسُ رَبْعَهَا فَتُجِدُّهُ
…
بعدَ البِلَى وتميته الأمطار) // الْكَامِل //
وَقَول أبي نواس
(بِصَحْنِ خد لم يغض مَاؤُهُ
…
وَلم تخضه أعين النَّاس) // السَّرِيع //
وَقَوله أَيْضا
(فَإِذا بدا اقتادت محاسنه
…
قسرا إِلَيْهِ أعنه الحدق) // الْكَامِل //
103 -
(وسالت بأعناق الْمطِي الأباطِحُ
…
)
قَائِله كثير عزة من قصيدة من الطَّوِيل وصدره
(أَخذنَا بأطراف الْأَحَادِيث بينَنَا
…
)
وَقَبله
(وَلما قضينا من منى كل حَاجَة
…
وَمسح بالأركان من هُوَ ماسحُ)
(وشُدَّتْ على حُدْبِ المَهَارى رحالُنَا
…
وَلم ينظر الغادي الَّذِي هُوَ رائحُ)
وَقيل الأبيات لِابْنِ الطثرية وَذكر الشريف الرضي فِي كِتَابه غرر الفرائد قَالَ أَنْشدني ابْن الْأَعرَابِي للمضرب وَهُوَ عقبَة بن كَعْب بن زُهَيْر بن أبي سلمى رَحِمهم الله تَعَالَى
(وَمَا زلْتُ أَرْجُو نَفْعَ سَلْمى ووُدَّها
…
وتبْعُدُ حَتَّى ابْيَضَّ مني المسائحُ)
(وَحَتَّى رأيْتُ الشَّخْصَ يَزْدَادُ مِثْلُهُ
…
إليهِ وَحَتَّى نصْفُ رأسيَ واضحُ)
(عَلَا حاجبَيَّ الشيبُ حَتَّى كأنُهُ
…
ظباءٌ جَرَتْ مِنْهَا سَنيحٌ وبارحُ)
(وهَزَّةَ أظْعَانٍ علَيهِنَّ بهجَةٌ
…
طَلَبْتُ ورَيْعَانُ الصِّبَا بِي جامحُ)
(فَلَمَّا قضينا من منى كل حَاجَة
…
وَمسح بالأركان من هُوَ ماسح)
(أَخذنَا بأطراف الْأَحَادِيث بَيْننَا
…
وسالت بأعناق الْمطِي الأباطحُ)
(وشُدِّت على حُدْبِ المَهَارى رِحَالهَا
…
وَلم ينظر الغادي الَّذِي هُوَ رائحُ)
(قَفَلْنا على الخوصِ الْمَرَاسِيل وارْتَمَتْ
…
بِهِنَّ الصَّحَارى والصِّفَاح الصَّحَاصحُ)
والأباطح جمع بطح وَهُوَ مسيل وَاسع فِيهِ دقاق الْحَصَى
وَالْمعْنَى لما فَرغْنَا من أَدَاء مَنَاسِك الْحَج ومسحنا أَرْكَان الْبَيْت الشريف عِنْد طواف الْوَدَاع وشددنا الرّحال على المطايا وارتحلنا وَلم ينظر السائرون فِي الْغَدَاة السائرين فِي الرواح للاستعجال أَخذنَا فِي الْأَحَادِيث وَأخذت المطايا فِي سرعَة السّير
وَالشَّاهِد فِيهِ حُصُول الغرابة فِي الِاسْتِعَارَة العامية بِتَصَرُّف فِيهَا فَإِنَّهُ اسْتعَار سيلان السُّيُول الْوَاقِعَة فِي الأباطح لسير الْإِبِل سيراً عنيفاً حثيثاً فِي غَايَة السرعة الْمُشْتَملَة على لين وسلاسة والشبه فِيهَا ظَاهر عَامي لكنه تصرف فِيهِ بِمَا أَفَادَ اللطف والغرابة حِين أسْند الْفِعْل وَهُوَ سَالَتْ إِلَى الأباطح دون الْمطِي أَو أعناقها حَتَّى أَفَادَ أَنه امْتَلَأت الأباطح من الْإِبِل وَأدْخل الْأَعْنَاق فِي السّير لِأَن السرعة والبطء فِي سير الْإِبِل يظهران غَالِبا فِي الْأَعْنَاق ويتبين أَمرهمَا فِي الهوادي وَسَائِر الْأَجْزَاء يسْتَند إِلَيْهَا فِي الْحَرَكَة ويتبعها فِي الثّقل والخفة
وَمثل هَذِه الِاسْتِعَارَة فِي الْحسن وعلو الطَّبَقَة فِي هَذِه اللَّفْظَة بِعَينهَا قَول ابْن المعتز رَحمَه الله تَعَالَى حَيْثُ يَقُول
(سَالَتْ عَلَيْهِ شِعَابُ الحيِّ حِين دَعَا
…
أنصارهُ بوُجوهٍ كالدَّنانيرِ) // الْبَسِيط //
أَرَادَ أَنه مُطَاع فِي الْحَيّ وَأَنَّهُمْ يسرعون إِلَى نصرته كالسيل وكما أَن إِدْخَال الْأَعْنَاق فِي السّير أكد كلا من الرقة والغرابة فِي الأول أكده هُنَا تَعديَة الْفِعْل إِلَى ضمير الممدوح بعلى لِأَنَّهُ يُؤَكد مَقْصُوده من كَونه مُطَاعًا فِي الْحَيّ
وَكثير عزة هُوَ كثير بن عبد الرَّحْمَن بن أبي جُمُعَة الْأسود بن عَامر ابْن عُوَيْمِر أَبُو صَخْر الْخُزَاعِيّ الشَّاعِر الْمَشْهُور أحد عشاق الْعَرَب وَإِنَّمَا صغروه لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيد الْقصر حدث الوقاصي قَالَ رَأَيْت كثيرا يطوف بِالْبَيْتِ فَمن حَدثَك أَنه يزِيد على ثَلَاثَة أشبار فَلَا تصدقه وَكَانَ إِذا دخل على عبد الْملك ابْن مَرْوَان أَو أَخِيه عبد الْعَزِيز رحمهمَا الله تَعَالَى يَقُول لَهُ طأطئ رَأسك لِئَلَّا يُصِيبهُ السّقف وَكَانَ يلقب زب الذُّبَاب
وَعَن أبي عُبَيْدَة قَالَ كَانَ الحزين الْكِنَانِي قد ضرب على كل رجل من قُرَيْش دِرْهَمَيْنِ فِي كل شهر مِنْهُم ابْن أبي عَتيق فَجَاءَهُ لأخذ درهميه على حمَار لَهُ أعجف قَالَ وَكثير مَعَ ابْن أبي عَتيق فَأمر ابْن أبي عَتيق للحزين بِدِرْهَمَيْنِ فَقَالَ الحزين لِابْنِ أبي عَتيق من هَذَا الَّذِي مَعَك قَالَ أَبُو صَخْر كثير بن أبي جُمُعَة قَالَ وَكَانَ قَصِيرا دميماً فَقَالَ لَهُ الحزين أتأذن لي فِي أَن أهجوه بِبَيْت من الشّعْر قَالَ لعمري لَا آذن لَك أَن تهجو جليسي وَلَكِنِّي أَشْتَرِي عرضه مِنْك بِدِرْهَمَيْنِ ودعا لَهُ بهما فَأَخذهُمَا وَقَالَ لَا بُد لي من هجائه بِبَيْت قَالَ وأشترى ذَلِك مِنْك بِدِرْهَمَيْنِ آخَرين فَدَعَا لَهُ بهما فَأَخذهُمَا أَيْضا وَقَالَ مَا أَنا بتاركه حَتَّى أهجوه قَالَ وأشترى ذَلِك مِنْك بِدِرْهَمَيْنِ أَيْضا فَقَالَ لَهُ كثير
ايذن لَهُ وَمَا عَسى أَن يَقُول فِي بَيت وَاحِد قَالَ فَأذن لَهُ ابْن عَتيق فَقَالَ
(قَصيرُ القَميصِ فاحِشٌ عندَ بَيْتِهِ
…
يَعَضُّ القُرَادُ باسْتِهِ وَهُوَ قَائِم) // الطَّوِيل //
قَالَ فَوَثَبَ إِلَيْهِ كثير فلكزه فَسقط عَن الْحمار فخلص ابْن أبي عَتيق بَينهمَا وَقَالَ لكثير قبحك الله أتأذن لَهُ وتسفه عَلَيْهِ فَقَالَ كثير وَأَنا مَا ظَنَنْت أَن يبلغ بِي فِي بَيت وَاحِد هَذَا كُله
وَكَانَ كثير يَقُول بتناسخ الْأَرْوَاح وَكَانَ يدْخل على عمَّة لَهُ يزورها فتكرمه وتطرح لَهُ وسَادَة يجلس عَلَيْهَا فَقَالَ لَهَا يَوْمًا لَا وَالله مَا تعرفينني وَلَا تكرمينني حق كَرَامَتِي قَالَت بلَى وَالله إِنِّي لأعرفك قَالَ فَمن أَنا قَالَت فلَان بن فلَان وَابْن فُلَانَة وَجعلت تمدح أَبَاهُ وَأمه فَقَالَ قد علمت أَنَّك لَا تعرفينني قَالَت فَمن أَنْت قَالَ أَنا يُونُس بن مَتى وَكَانَ يقْرَأ {فِي أَي صُورَة مَا شَاءَ ركبك} وَكَانَ يُؤمن بالرجعة وَدخل عَلَيْهِ عبد الله بن حسن بن حسن ين عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنهم يعودهُ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ كثير أبشر فكأنك بِي بعد أَرْبَعِينَ لَيْلَة قد طلعت عَلَيْك على فرس عَتيق فَقَالَ لَهُ عبد الله بن حسن رضي الله عنه مَالك عَلَيْك لعنة الله فوَاللَّه لَئِن مت لَا أشهدك وَوَاللَّه لَا أعودك وَلَا أُكَلِّمك أبدا وَكَانَ شِيعِيًّا غالياً فِي التَّشَيُّع وَكَانَ يَأْتِي ولد حسن بن حسن رضي الله عنهم إِذا أَخذ الْعَطاء فيهب لَهُم الدَّرَاهِم وَيَقُول بِأبي الْأَنْبِيَاء
الصغار
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رحمهمَا الله تَعَالَى إِنِّي لأعرف صَالح بني هَاشم من فاسدهم بحب كثير من أحبه مِنْهُم فَهُوَ فَاسد وَمن أبغضه فَهُوَ صَالح لِأَنَّهُ كَانَ خشبياً يُؤمن بالرجعة
وَحدث رجل من مزينة قَالَ ضفت كثيرا لَيْلَة وَبت عِنْده ثمَّ تحدثنا وَنِمْنَا فَلَمَّا طلع الْفجْر تضور ثمَّ قُمْت فَتَوَضَّأت وَصليت وَكثير نَائِم فِي لِحَافه فَلَمَّا طلع قرن الشَّمْس تضور ثمَّ قَالَ يَا جَارِيَة اسجري لي مَاء أَي سخني قَالَ فَقلت تَبًّا لَك سَائِر الْيَوْم وَبعده وَركبت رَاحِلَتي وَتركته
وَكَانَ كثير عاقاً لِأَبِيهِ وَكَانَ أَبوهُ قد أَصَابَته قرحَة فِي أصْبع من أَصَابِع يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ كثير أَتَدْرِي لم أصابتك القرحة فِي أصبعك قَالَ لَا أَدْرِي قَالَ مِمَّا ترفعها إِلَى الله فِي يَمِين كَاذِبَة
وَعَن طَلْحَة بن عبيد الله قَالَ مَا رَأَيْت أَحمَق من كثير دخلت عَلَيْهِ فِي نفر من قُرَيْش وَكُنَّا كثيرا مَا نهزأ بِهِ وَكَانَ يتشيع تشيعاً قبيحاً فَقلت لَهُ كَيفَ تجدك يَا أَبَا صَخْر وَهُوَ مَرِيض فَقَالَ أجدني ذَاهِبًا فَقلت كلا فَقَالَ هَل سَمِعْتُمْ النَّاس يَقُولُونَ شَيْئا قلت نعم يتحدثون بأنك الدَّجَّال قَالَ أما إِذْ قلت ذَاك فَإِنِّي لأجد فِي عَيْني هَذِه ضعفا مُنْذُ أَيَّام
وَعَن عبد الْعَزِيز بن عمر رحمهمَا الله أَن أُنَاسًا من أهل الْمَدِينَة المنورة كَانُوا يهزأون بِكَثِير فَيَقُولُونَ وَهُوَ يسمع إِن كثيرا لَا يلْتَفت من تيهه فَكَانَ الرجل يَأْتِيهِ من وَرَائه فَيَأْخُذ رِدَاءَهُ فَلَا يلْتَفت من الْكبر ويمضي فِي قَمِيص
وَكَانَ عبد الْملك بن مَرْوَان معجباً بِشعرِهِ قَالَ لَهُ يَوْمًا كَيفَ ترى شعري يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ أرَاهُ يسْبق السحر ويغلب الشّعْر
وَقَالَ عبد الْملك لَهُ يَوْمًا من أشعر النَّاس يَا أَبَا صَخْر قَالَ من يروي أَمِير الْمُؤمنِينَ شعره فَقَالَ لَهُ عبد الْملك إِنَّك لمنهم
وَحدث كثير قَالَ مَا قلت الشّعْر حَتَّى قولته قيل لَهُ وَكَيف ذَاك قَالَ بَينا أَنا نصف النَّهَار أَسِير على بعير لي بالغميم أَو بقاع حمْرَان إِذْ رَاكب قد دنا إِلَيّ حَتَّى صَار إِلَى جَنْبي فتأملته فَإِذا هُوَ من صفر وَهُوَ يجر نَفسه فِي الأَرْض جراً فَقَالَ لي قل الشّعْر وألقاه عَليّ قلت من أَنْت قَالَ قرينك من الْجِنّ فَقلت الشّعْر
وَكَانَ أول أمره مَعَ عزة الَّتِي يتعشقها أَنه مر بنسوة من بني ضَمرَة وَمَعَهُ جلب غنم فأرسلن إِلَيْهِ عزة وَهِي صَغِيرَة فَقَالَت لَهُ يقلن لَك النسْوَة بعنا كَبْشًا من هَذِه الْغنم وأنسئنا بِثمنِهِ إِلَى أَن ترجع فَأَعْطَاهَا كَبْشًا وأعجبته فَلَمَّا رَجَعَ جَاءَتْهُ امْرَأَة مِنْهُنَّ بدراهمه فَقَالَ وَأَيْنَ الصبية الَّتِي أخذت مني الْكَبْش قَالَت وَمَا تصنع بهَا هَذِه دراهمك قَالَ لَا آخذ دراهمي إِلَّا مِمَّن دفعت إِلَيْهِ وَولى وَهُوَ يَقُول
(قَضى كلُّ ذِي دَينِ فَوَفَّى غَريمَهُ
…
وعَزةُ ممطُولٌ مُعنَّى غريمها) // الطَّوِيل //
فَقُلْنَ لَهُ أَبيت إِلَّا عزة وأبرزنها لَهُ وَهِي كارهة ثمَّ إِنَّهَا أحبته بعد ذَلِك أَشد من حبه لَهَا
وَعَن الْهَيْثَم بن عدي أَن عبد الْملك سَأَلَ كثيرا عَن أعجب خبر لَهُ مَعَ عزة فَقَالَ حججْت سنة من السنين وَحج زوج عزة بهَا وَلم يعلم أحد منا بِصَاحِبِهِ فَلَمَّا كُنَّا بِبَعْض الطَّرِيق أمرهَا زَوجهَا بابتياع سمن يصلح بِهِ طَعَاما لأجل رفقته فَجعلت تَدور الْخيام خيمة خيمةً حَتَّى دخلت إِلَيّ وَهِي لَا تعلم أَنَّهَا خَيْمَتي وَكنت أبري سَهْما لي فَلَمَّا رَأَيْتهَا جعلت أبري وَأنْظر إِلَيْهَا وَلَا أعلم حَتَّى بريت ذراعي وَأَنا لَا أشعر بِهِ وَالدَّم يجْرِي فَلَمَّا تبينت ذَلِك دخلت إِلَيّ فَأَمْسَكت بيَدي وَجعلت تمسح الدَّم بثوبها وَكَانَ عِنْدِي نحيٌ من سمن فَحَلَفت لتأخذنه فَجَاءَت بِهِ إِلَى زَوجهَا فَلَمَّا رأى الدَّم سَأَلَهَا عَن خَبره قَالَ فكاتمته حَتَّى حلف عَلَيْهَا لتصدقنه فَلَمَّا أخْبرته ضربهَا وَحلف لتشتمني فِي وَجْهي فوقفت عَليّ وَهُوَ مَعهَا فَقَالَت لي يَا ابْن الزَّانِيَة وَهِي تبْكي ثمَّ انصرفا فَذَلِك حَيْثُ أَقُول
(أسِيئِي بِنا أَو أحسني لَا مَلومةً
…
لدَينا وَلَا مَقْليَّةً إِن تَقَلّت)
(هَنِيئاً مَريئاً غيْرَ داءٍ مخامرٍ
…
لعَزَّةَ منْ أعراضنا مَا استحلتِ) // الطَّوِيل //
وَمِنْه قَوْله فِيهَا أَيْضا
(وددْت وحَقَّ الله أَنَّك بكْرَةٌ
…
وأنِّي هَجانٌ مُصْعَبٌ ثمّ نَهْرب)
(كِلَانَا بِه عرٌّ فَمن يرَنا يقلْ
…
على حسنِها جرباء تُعْدِى وأجْرَب)
(نَكُون لذِي مالٍ كثير مغَفّلٍ
…
فَلَا هوَ يرعانا وَلَا نَحْنُ نُطْلَب)
(إِذا مَا وردْنا منْهلاً صَاح أَهله
…
علينا فَمَا ننفك نرمى ونضرب) // الطَّوِيل //
يحْكى أَن عزة لما بلغَهَا ذَلِك وَحضر إِلَيْهَا أنشدته الأبيات وَقَالَت لَهُ وَيحك لقد أردْت بِي الشَّقَاء أما وجدت أُمْنِية أوطأ من هَذِه فَخرج من عِنْدهَا خجلاً
وأسوأ من هَذِه الأمنية أُمْنِية الْفَزارِيّ حَيْثُ قَالَ
(منْ حبَّها أتمنّى أنْ يُلاقَيِنِي
…
منْ نَحْو بلدنها ناعٍ فيَنْعاها)
(كَيْمَا أَقُول فراقٌ لَا لِقَاء لَهُ
…
وتضمرَ النفْس يأساً ثمَّ تَسلاها) // الْبَسِيط //
وَلكنه استدرك بعد ذَلِك فَقَالَ
(وَلَو تَموتُ ورَاعتْني لَقلت لَهَا
…
يَا بؤْسِ للمْوت لَيتَ الدَّهر أبقاها) // الْبَسِيط //
وَقَالَ الآخر
(تمَنّيت من حبيِّ بثينةَ أننا
…
وئِدْنا جَمِيعًا ثمَّ تَحيا وَلَا أَحْيَا)
(فَترْجع دنياها عَلَيْهَا وإنني
…
بساعة ضَمِّيها رَضيتُ من الدُّنْيَا) // الطَّوِيل //
وكل امْرِئ أمانيه تلِيق بمعاليه قيل للْإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ مَا تتمنى قَالَ سنداً عَالِيا وبيتاً خَالِيا وَقيل لبَعض الوراقين مَا تتمنى قَالَ قَلما مشاقاً وحبراً براقاً وجلوداً وأوراقا وَقيل لبَعض الصُّوفِيَّة مَا تتمنى قَالَ دقنا ودلقا وَلَا أُرِيد رزقا وَقَالَ بَعضهم
(لَو قَالَ لي خَالِقي تَمنى
…
قلْت لهُ سَائِلاً بصِدْق)
(أُريدُ فِي صُبحِ كلِّ يوْمٍ
…
فُتُوحَ خيْر يَأْتِي برزْقِ)
(كف حشيش وَرِطل لحم
…
ومَنّ خبز ونيك علق) // من مخلع الْبَسِيط //
وَقَول الآخر
(لَو قيل مَا تَتَمَنَّى قلت فِي عجَل
…
أَخا صدُوقا أَمينا غيرَ خوّان)
(إِذا فَعَلت جَميلاً ظلّ يشكرني
…
وَإن أسأتُ تَلَقّاني بغفران) // الْبَسِيط //
وَمَا أحسن قَول ابْن سارة فِي الْأَمَانِي
(أمانِيّ منْ ليلى حسان كَأَنَّمَا
…
سقني بهَا ليلِي على ظمإِ برْدَا)
(مُنىً إِن تكن حقّاً تكن أحسَنَ المنى
…
وَإِلَّا فَقَدْ عِشْنَا بهَا زَمنا رغدا) // الطَّوِيل //
وبديع قَول الْوَزير مؤيد الدّين الطغرائي رَحمَه الله تَعَالَى
(أعَلِّلَ النفسَ بالآمال أَرْقبها
…
مَا أَضيَقَ العَيْشَ لوْلا فُسْحَةُ الأمل) // الْبَسِيط //
وَقد أَخذه الْعِمَاد الْكَاتِب فَقَالَ
(وَمَا هذِهِ الْأَيَّام إلَاّ صحائفٌ
…
نؤرخُ فِيهَا ثمَّ تُمْحَى وَتُمْحق)
(وَلم أرَ عَيْشًا مِثلَ دَائرَةِ المنى
…
توسِّعُها الآمالُ والعيش ضيق) // الطَّوِيل //
وَقَالَ الْعَفِيف إِسْحَاق بن خَلِيل كَاتب الْإِنْشَاء للناصر دَاوُد
(لَوْلَا مواعيدُ آمالٍ أعيشُ بهَا
…
لُمتُّ يَا أهلَ هَذَا الحيِّ من زَمنِ)
(وَإِنَّمَا طِرْفُ آمالي بِهِ مرحٌ
…
يَجْرِي بِوَعد الْأَمَانِي مطلقَ الرسن) // الْبَسِيط //
وَقَالَ آخر
(فِي المنى راحةٌ وَإِن عللتنا
…
مِنْ هَوَاها بِبَعْض مَا لَا يكون) // الْخَفِيف //
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد بن زيدون أَيْضا
(أمَّا مُنَى قلبِي فأنتِ جميعُهُ
…
يَا لَيْتَني أصبحتُ بعضَ مُناكِ)
(يُدني مزارَك حِين شط بِهِ النَّوَى
…
وهْمٌ أكادُ بِهِ أقبلُ فاكِ) // الْكَامِل //
وَمن هُنَا أَخذ الحاجري قَوْله
(يمِّثُلَك الشوقُ الشديدُ لناظري
…
فَأَطْرَقَ إجلالا كَأَنَّك حَاضر) // الطَّوِيل //
وَقَالَ ابْن رزين من شعراء الذَّخِيرَة
(لأسَرِّحَنَّ نواظري
…
فِي ذَلِك الروضِ النَّضِير)
(ولآكلنَّكَ بالمنى
…
ولأشْرَبَنَّكَ بالضمير) // من مجزوء الْكَامِل //
وَقَالَ علم الدّين أيدمر المحيوي
(كم لَدَيْنَا أمانياً
…
قد حَوَتْ مُحكم العملْ)
(فارغاتٍ من الدَّنا
…
نيرِ مَلأى من الأمل) // من مجزوء الْخَفِيف //
وَهُوَ عكس قَول الآخر
(وإنَّ رَجَاء كامناً فِي نواله
…
لكالمالِ فِي الأكياسِ تَحت الْخَوَاتِم) // الطَّوِيل //
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الجزار
(لَيْت شعري مَا العذرُ لَوْلَا قَضَاء الله فِي رزقِهِ وَفِي حرماني
…
)
(وَلَقَد كدت أَن أهيمَ بِحمْل الْهم لَوْلَا تعللي بالأماني
…
) // الْخَفِيف //
وَله أَيْضا
(حَسْبُ الْفَتى حسن الْأَمَانِي إِنَّه
…
لَا يَعْتَرِيه مدى الزَّمَان زَوَال) // الْكَامِل //
وَقَالَ أَبُو البركات مُحَمَّد بن الْحسن الخاتمي
(لي حبيب لَو قيل مَا تتمنى
…
مَا تعدَّيْتُه وَلَو بالمنوِن)
(أشتهي أَن أحلَّ فِي كل طَرْفٍ
…
فَأرَاهُ بِلحظ كل الْعُيُون) // الْخَفِيف //
وَقَالَ غَيره
(أُعلل بالمنى قلبِي لِأَنِّي
…
أُفرجُ بالأماني الهمَّ عني)
(وَأعلم أَن وصلك لَا يرجَّى
…
وَلَكِن لَا أقل من التَّمَنِّي) // الوافر //
وَقَالَ الآخر وَهُوَ أصرح مِمَّا قبله
(إِذا مَا عَن ذكرك فِي ضميري
…
وقابلني محيَّاكَ الجميلُ)
(أصير لفرط أشواقي أيوراً
…
لِعلمي أنَّ نيكك مُسْتَحِيل) // الوافر //
وَهُوَ يشبه قَول الصفي الْحلِيّ أَيْضا
(إِذا صدَّ الحبيب لغير ذنبٍ
…
وقاطعني وَأعْرض عَن وصالي)
(أمثله وأنكسح عِنْد صلحي
…
بأيْرِ الْفِكر فِي ثقُب الخيال) // الوافر //
وَقد سد ابْن المعتز بَاب المنى بقوله
(لَا تأسفنَّ من الدُّنْيَا على أمل
…
فَلَيْسَ بَاقِيه إِلَّا مثل ماضيه) // الْبَسِيط //
وَتَابعه الخالدي فَقَالَ
(وَلَا تكن عبد المنى فالمني
…
رُءُوس أَمْوَال المفاليس) // السَّرِيع //
وَقَالَ الآخر
(من نَالَ من دُنْيَاهُ أُمْنِية
…
أسقطت الْأَيَّام مِنْهَا الْألف) // السَّرِيع //
وَقَالَ شرف الدّين القيرواني أَيْضا
(غلف تمنوا فِي الْبيُوت أمانياً
…
وجميعُ أعمارِ اللئامِ أمانِي) // الْكَامِل //
وَقَالَ الآخر
(أَلا يَا نفسُ إِن تَرْضَي بقوتٍ
…
فَأَنت عزيزة أبدا غنيَّهْ)
(دعِي عَنْك المطامع والأماني
…
فكم أمنيةٍ جلبت مَنِيَّهْ) // الوافر //
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الجزار
(أَنا فِي راحةٍ من الآمال
…
أيْنَ من همتي بلوغُ الْمَعَالِي)
(ليَ عجز أراح قلبِي من الْهم وَمن طول فكرتي فِي الْمحَال
…
)
(مَا لِبَاس ُالحرير مِمَّا أرجيِّه فيُرْجَى وَلَا ركوبُ البغال
…
)
(رَاحَة السِّرّ فِي التَّخَلُّف عَن كل محلٍّ أضحى بعيدَ المنال
…
) // الْخَفِيف //
وَقَالَ بَعضهم
(وَأكْثر مَا تلقى الْأَمَانِي كواذبا
…
فإِن صدقت جَازَت بصاحبها القدرا) // الطَّوِيل //
(وَقَالَ آخر
(ولي من تمنِّي النفسِ دُنْيَا عريضةٌ
…
ومستفتيح يَغْدُو عليَّ ويَطْرُقُ)
(فقدت المنى لَا النفسُ تلهو عَن المنى
…
لتجربةٍ مِنْهَا وَلَا هِيَ تصدُقُ) // الطَّوِيل //
وَقَالَ الصّلاح الصَّفَدِي
(أَلا فاطَّرِح عَنْك التَّمَنِّي وَلَا تَبِتْ
…
بكاساته نَشْوَان غير مُفيقِ)
(فإنْ كَانَ مِمَّا لَا غِنَى عَنهُ فَلْيَكُن
…
وفاةَ عدوٍّ أَو حياةَ صديق) // الطَّوِيل //
وَقد أكثرنا فِي طول الأمل وضده فلنرجع إِلَى أَخْبَار كثير عزة
يحْكى أَنه خرج فِي الْحَج بجمل يَبِيعهُ فَمر بسكينة بنت الْحُسَيْن رضي الله عنهما وَمَعَهَا عزة وَهُوَ لَا يعرفهَا فَقَالَت لَهَا سكينَة هَذَا كثير سوميه بالجمل فسامته فاستام بِمِائَتي دِرْهَم فَقَالَت ضع عَنَّا كَذَا وَكَذَا لشَيْء قَلِيل فَأبى فدعَتْ لَهُ بِتَمْر وزبد فَأكل فَقَالَت لَهُ ضع عَنَّا كَذَا وَكَذَا لشَيْء قَلِيل فَأبى أَيْضا فَقَالَتَا لَهُ قد أكلت بِأَكْثَرَ مِمَّا نَسْأَلك فَقَالَ مَا أَنا بواضع شَيْئا فَقَالَت سكينَة اكشفوا فكشفوا عَنْهَا وَعَن عزة فَلَمَّا رَآهَا استحيا وَانْصَرف وَهُوَ يَقُول هُوَ لكم هُوَ لكم
وَحدث مُحَمَّد بن سَلام قَالَ كَانَ كثير يتقول وَلم يكن عَاشِقًا وَكَانَ جميلا صَادِق الصبابة والعشق وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة كَانَ جميل يصدق فِي حبه وَكَانَ كثير يكذب فِي حبه
ويروى أَنه نظر ذَات يَوْم إِلَى عزة وَهِي تميس فِي مشيتهَا فَلم يعرفهَا فاتبعها وَقَالَ لَهَا يَا سيدتي قفي لي أُكَلِّمك فَإِنِّي لم أر مثلك قطّ فَمن أَنْت قَالَت وَيحك وَهل تركت عزة فِيك بَقِيَّة لأحد فَقَالَ بِأبي أَنْت لَو أَن عزة أمة لوهبتها لَك قَالَت فَهَل لَك فِي المخاللة قَالَ وَكَيف لي بذلك قَالَت وَكَيف بِمَا قلته فِي عزة قَالَ أقلبه كُله وأحوله إِلَيْك فَكشفت عَن وَجههَا وَقَالَت أغدراً يَا فَاسق وَإنَّك لهكذا فَأبْلسَ وَلم ينْطق وبهت فَلَمَّا مَضَت أنشأ يَقُول
(أَلا لَيْتَني قبل الَّذِي قلتُ شِيبَ لي
…
من السم جرعاتٌ بِمَاء الذَّرارحِ)
(
(فمتُّ وَلم تعلم عليَّ خِيَانَة
…
وَكم طَالب للربح لَيْسَ برابحِ)
(أبوءُ بذنبي إِنَّنِي قد ظلمتُها
…
وَإِنِّي بباقي سِرِّها غير بائح) // الطَّوِيل //
وَكَانَ كثير بِمصْر وَعزة بِالْمَدِينَةِ المنورة فاشتاق إِلَيْهَا فسافر ليلقاها فصادفها فِي الطَّرِيق وَهِي متوجهة إِلَى مصر فَجرى بَينهمَا كَلَام طَوِيل الشَّرْح ثمَّ إِنَّهَا
انفصلت عَنهُ وقدمت مصر ثمَّ عَاد كثير إِلَى مصر فوافاها توفيت وَالنَّاس منصرفون عَن جنازتها فَأتى قبرها وأناخ رَاحِلَته وَمكث سَاعَة ثمَّ رَحل وَهُوَ يَقُول أبياتاً مِنْهَا قَوْله
(أقولُ ونِضْوي وَاقِف عِنْد قبرها
…
عَلَيْك سَلام الله والعينُ تسفحُ)
(وَقد كنت أبْكِي من فراقك حَيَّة
…
فأنتِ لعَمري الْآن أنأى وأنزحُ) // الطَّوِيل //
وَقَالَ لَهُ عبد الْملك بن مَرْوَان يَوْمًا بِحَق عَليّ بن أبي طَالب هَل رَأَيْت أحدا أعشق مِنْك قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو أنشدتني بحقك لأخبرتك بَيْننَا أَنا أَسِير فِي بعض الفلوات إِذْ أَنا بِرَجُل قد نصب حبالته فَقلت لَهُ مَا حَبسك هَا هُنَا فَقَالَ أهلكني وَأَهلي الْجُوع فَنصبت حبالتي هُنَا لأصيب لَهُم شَيْئا يكفينا ويعصمنا يَوْمنَا هَذَا قلت أَرَأَيْت إِن أَقمت مَعَك فَأَصَبْت صيدا تجْعَل لي جُزْءا مِنْهُ قَالَ نعم فَبينا نَحن كَذَلِك وَقعت ظَبْيَة فِي الحبالة فخرجنا نَبْتَدِر فبدرني إِلَيْهَا قحلها وأطلقها فَقلت مَا حملك على هَذَا قَالَ دخلتني لَهَا رقة لشبهها بليلى وَأَنْشَأَ يَقُول
(أيا شِبه ليلى لَا تُرَاعِي فإنني
…
لَكِ الْيَوْم من وحشَّيةٍ لصديقُ)
(أقولُ وَقد أطلقتُها من وِثاقِها
…
فَأَنت لليلىَ مَا حييت طليقُ) // الطَّوِيل //
وَحدث عبد الرَّحْمَن بن عبد الله الزُّهْرِيّ قَالَ بَكَى بعض آل كثير عَلَيْهِ حِين نزل بِهِ الْمَوْت فَقَالَ لَهُ كثير لَا تبك فَكَأَنِّي بك بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا تسمع خشفة نَعْلي من تِلْكَ الشعبة رَاجعا إِلَيْكُم
وَحدث يزِيد ين عُرْوَة رَحِمهم الله تَعَالَى قَالَ مَاتَ كثير وَعِكْرِمَة رَحمَه الله تَعَالَى فِي يَوْم وَاحِد فَقيل مَاتَ الْيَوْم أعلم النَّاس وأشعر النَّاس وَلم تتخلف امْرَأَة وَلَا رجل عَن جنازتيهما وَغلب النِّسَاء على جَنَازَة كثير يبكينه ويذكرن عزة فِي ندبهن فَقَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ افرجوا لي عَن جَنَازَة كثير لأرفعها
قَالَ فَجعلنَا ندفع عَنْهَا النِّسَاء وَجعل مُحَمَّد بن عَليّ رضي الله عنهما يضربهن بكمه وَيَقُول تنحين يَا صويحبات يُوسُف فانتدبت لَهُ امْرَأَة مِنْهُنَّ فَقَالَت يَا ابْن رَسُول الله لقد صدقت إننا لصويحباته وَقد كُنَّا خيرا مِنْكُم لَهُ فَقَالَ أَبُو جَعْفَر لبَعض موَالِيه احتفظ بهَا حَتَّى تجيئني بهَا إِذا انصرفنا فَلَمَّا انْصَرف أَتَى بِتِلْكَ الْمَرْأَة كَأَنَّهَا شرر النَّار فَقَالَ لَهَا أَيَّة أَنْت القائلة إنكن ليوسف خيرٌ منا قَالَت نعم تؤمنني غضبك يَا ابْن رَسُول الله قَالَ أَنْت آمِنَة من غَضَبي فأبيني قَالَت نَحن يَا ابْن رَسُول الله دعوناه إِلَى اللَّذَّات من الْمطعم وَالْمشْرَب والمتمتع والمتنعم وَأَنْتُم معاشر الرِّجَال ألقيتموه فِي الْجب وبعتموه بأبخس الْأَثْمَان وحبستموه فِي السجْن فأينا كَانَ عَلَيْهِ أحن وَبِه أرأف فَقَالَ لَهَا مُحَمَّد لله دَرك لن تغالب امْرَأَة إِلَّا غلبت ثمَّ قَالَ أَلَك بعل فَقَالَت لي من الرِّجَال من أَنا بعله فَقَالَ لَهَا مَا أصدقك مثلك من تملك زَوجهَا وَلَا يملكهَا فَلَمَّا انصرفت قَالَ رجل من الْقَوْم هَذِه ربيبة فُلَانَة بنت معيقب الْأَنْصَارِيَّة
وَكَانَت وَفَاة كثير سنة خمس وَمِائَة فِي ولَايَة يزِيد بن عبد الْملك رَحِمهم الله تَعَالَى
104 -
(قَتَلَ البُخْلَ وَأَحْيَا السَّماحا
…
)
هُوَ لِابْنِ المعتز من قصيدته السَّابِقَة فِي التَّشْبِيه وصدره
(جُمع الحقُّ لنا فِي إمامِ
…
)
وَبعده قَوْله
(إِن عَفا لم يُلْغِ لله حقَاً
…
أَو سَطَا لم يخْش مِنْهُ جنَاحا)
(ألف الهيجاء طفْلا وكهلاً
…
يحسبُ السيفَ عَلَيْهِ وشاحا)
وَالشَّاهِد فِيهِ مدَار قرينَة الِاسْتِعَارَة التّبعِيَّة على الْمَفْعُول فَإِن الْقَتْل والإحياء الحقيقيين لَا يتعلقان بالبخل والجود
105 -
(نَقْرِيهُمُ لَهْذَمِيَّاتِ)
قَائِله الْقطَامِي وَلَفظه
(نقريهمُ لهذميات نَقُدُّ بهَا
…
مَا كانَ خاطَ عَلَيْهِم كلُّ زَرَّادِ)
وَهُوَ من قصيدة من الْبَسِيط يمدح بهَا زفر بن الْحَارِث الْكلابِي أَولهَا
(مَا اعْتادَ حُبُّ سُلَيْمَى غير مُعتادِ
…
وَلَا تَقَضَّى بوافي دْينهْا الطَّادِي)
(بَيْضَاء مَحْطُوطَةٌ المتْنَينِ بهْكَنَةٌ
…
ريَّا الرَّوادِف لم تمغلْ بأولادِ)
(مَا للكَواعِبِ ودَّعْنَ الحياةَ كَمَا
…
ودَّعْنَني واتَّخَذْنَ الشَّيب ميعادِي)
(أبصارُهُنَّ إِلَى الشبانِ مائِلةٌ
…
وَقد أراهُنَّ عني غيرَ صُدَّادِ)
(إِذْ باطلِيِ لم تَقَشَّعْ جاهِلِيَّتهُ
…
عني وَلم يترُكِ الخُلَاّنُ تَقْوادِي)
(كَنِيَّةِ الحيِّ مِنْ ذِي اليَقْظَة احْتملوا
…
مُسْتَحْقبينَ فؤاداً مَا لَهُ فادي)
(باتوا وَكَانَت حَيَاتي فِي اجتماعِهِمُ
…
وَفِي تَفَرُّقهمْ قَتْلِي وإقصَادِي)
(يَقْتُلْنَنا بحديثٍ ليسَ يُعلمهُ
…
من يتقين وَلَا مكنونه بَادِي)
(فهن ينبذن من قَول يصبن بِهِ
…
مواقع المَاء من ذِي الْغلَّة الصادي) // الْبَسِيط //
وَهِي طَوِيلَة
واللهذم الْقَاطِع من الأسنة وَأَرَادَ بلهذميات طعنات منسوبة إِلَى الأسنة القاطعة أَو أَرَادَ نفس الأسنة والتشبيه للْمُبَالَغَة وَالْقد الْقطع والزراد صانع الدروع
وَالشَّاهِد فِيهِ أَن مدَار قرينَة الِاسْتِعَارَة التّبعِيَّة فِي الْفِعْل وَمَا يشتق مِنْهُ على الْفَاعِل أَو الْمَفْعُول كَمَا هُنَا فَإِن الْمَفْعُول الثَّانِي وَهُوَ اللهذميات قرينَة على أَن نقريهم اسْتِعَارَة
وَقد تقدم ذكر الْقطَامِي فِي شَوَاهِد الْقلب وَالله أعلم
106 -
(غمْرُ الرِّداء إِذا تَبَسم ضَاحِكا
…
)
هُوَ من الْكَامِل وَتَمَامه
(غلِقَتْ لضحْكَتِهِ رقابُ المالِ
…
)
وَهُوَ من قصيدة لكثير عزة وَأَرَادَ بغمر الرِّدَاء كثير الْعَطاء
وَالشَّاهِد فِيهِ الِاسْتِعَارَة الْمُجَرَّدَة وَهِي مَا قرنت بملائم الْمُسْتَعَار لَهُ فَإِنَّهُ اسْتعَار الرِّدَاء للعطاء لِأَنَّهُ يصون عرض صَاحبه كَمَا يصون الرِّدَاء مَا يلقى عَلَيْهِ ثمَّ وَصفه بالغمر الَّذِي يلائم الْعَطاء دون الرِّدَاء تجريداً للاستعارة والقرينة سِيَاق
الْكَلَام وَهُوَ قَوْله إِذا تَبَسم ضَاحِكا أَي شَارِعا فِي الضحك آخِذا فِيهِ غلقت لضحكته رِقَاب المَال يُقَال غلق الرَّهْن فِي يَد الْمُرْتَهن إِذا لم يقدر على انفكاكه وَهُوَ يُرِيد فِي الْبَيْت أَن ممدوحه إِذا تَبَسم غلقت رِقَاب أَمْوَاله فِي أَيدي السَّائِلين
وَمن اسْتِعَارَة الرِّدَاء قَوْله
(يُنَازعني رِدَائي عَبْدُ عمرٍو
…
رُويْدَكَ يَا أَخا عمرِو بن بكرِ)
(لِيَ الشطْرُ الَّذِي مَلَكت يَمِيني
…
فدونك فاعتجز مِنْهُ بِشَطْر) // الوافر //
فَإِنَّهُ اسْتعَار الرِّدَاء للسيف وَأثبت لَهُ الاعتجاز وَهُوَ من صفة الرِّدَاء
وَمَا أحسن اسْتِعَارَة الرِّدَاء فِي قَول أبي الْوَلِيد بن الْجنان الشاطبي وَهُوَ
(فَوقَ خَدِّ الوَرْدِ دَمْعٌ
…
من عيونِ السُّحْبِ يَذْرِفْ)
(برداء الشَّمْس أضْحَى
…
بعدَ مَا سالَ يُجَفَّفْ) // من مجزوء الرمل //
وَفِي معنى عجز الْبَيْت قَول امرىء الْقَيْس
(غلقن بَرَهْنٍ من حَبيبٍ بِهِ ادَّعَتْ
…
سُليمى فأضْحَى حَبلُها قد تبترا) // الطَّوِيل //
وَقَول زُهَيْر
(وفارَقَتكَ برَهنٍ لَا فكاكَ لَهُ
…
يومَ الوداعِ فأمْسَى الرهنُ قد غلقا) // الْبَسِيط //
وَقَول الْوَلِيد
(وَمن يَكُ رهنا للحوادث يغلق
…
) // الطَّوِيل //
وَقَول عمر بن أبي ربيعَة
(وَكم من قَتيلٍ لَا يُبَاءُ بهِ دَمٌ
…
وَمن غلق رهن إِذا ضمه مبْنى) // الطَّوِيل //
وَقَول أبي جَعْفَر بن مسلمة بن وضاح يُخَاطب ساجع حمام من أَبْيَات
(وهاجَ مَبْكاك ببُسْتَان إبراهيمَ للنَّجْدِيِّ ذكْرَ القَطِينْ
…
)
(فرج فَساعِدْني على لوْعتي
…
فإنَّ رهني غَلِقٌ فِي الرهونْ) // السَّرِيع //
وَقَول أبي نصر السَّاجِي
(تَشْكُو إِلَيْك جُمْلتي مَا نالها
…
فيا لهَا إِن صَبَرَتْ ويالها)
(لِأَنَّهَا مرْهونْةٌ بحُبكم
…
طُوبَى لَهَا إِن غَلِقَتْ طُوبَى لَهَا) // الرجز //
وَمَا ألطف قَول الصّلاح الصَّفَدِي مَعَ زِيَادَة إِبْهَام وإيهام الطباق
(سهامُ لحظِكِ أصْمَتْ
…
قَلبي وَلم تَتَرفَّقْ)
(مَا تَفتحُ الجفن إِلَاّ
…
وَرهن قلبِي يغلق) // المجتث //
(لَدَى أَسد شاكي السِّلاحِ مُقذَّفِ
…
لَهُ لبد أظْفَارُهُ لم تقُلَم)
تقدم قَرِيبا أَن قَائِله زُهَيْر بن أبي سلمى من قصيدة من الطَّوِيل
واللبد بِالْكَسْرِ شعر زبرة الْأسد وكنيته أَبُو لبد والتقليم مُبَالغَة الْقَلَم وَهُوَ قطع الْأَظْفَار
وَالشَّاهِد فِيهِ اجْتِمَاع التَّجْرِيد والترشيح فِي الِاسْتِعَارَة فالتجريد قد عرف قبله والترشيح هُوَ مَا قرن بملائم الْمُسْتَعَار مِنْهُ فَقَوله هُنَا لَدَى أَسد شاكي السِّلَاح تَجْرِيد لِأَنَّهُ وصف يلائم الْمُسْتَعَار لَهُ وَهُوَ الرجل الشجاع وَبَاقِي الْبَيْت ترشيح لِأَنَّهُ وصف يلائم الْمُسْتَعَار مِنْهُ وَهُوَ الْأسد الْحَقِيقِيّ
وَمعنى الْبَيْت أَخذه زُهَيْر من قَول أَوْس بن حجر حَيْثُ قَالَ
(لَعَمْرُكَ إِنَّا والأحاليفَ هؤلا
…
لفي حِقْبَةِ أظفارها لم تُقَلم) // الطَّوِيل //
أَي نَحن فِي حَرْب وَكَذَلِكَ أَخذه النَّابِغَة حَيْثُ قَالَ أَيْضا
(وَبَنُو قُعَينِ لَا محَالة إِنَّهُم
…
آتوكَ غير مُقَلمي الأظفارِ) // الْكَامِل //
107 -
(ويَصْعَدُ حَتَّى يَظُنَّ الجَهُولُ
…
بأنَّ لهُ حاجَةً فِي السَّمَاء)
الْبَيْت لأبي تَمام الطَّائِي من قصيدة من المتقارب يرثي بهَا خَالِد بن يزِيد الشَّيْبَانِيّ وَيذكر أَبَاهُ وأولها
(نَعَاِء إِلَى كلِّ حَيٍّ نَعاء
…
فَتى العَرَب اخْتَطَّ ربْعَ الفناءِ)
(أُصِبْنا جَمِيعًا بسهمِ النِّضال
…
فَهلا أصبنَا بِسَهْم الغِلَاءِ)
(أَلا أَيهَا الموْتُ فَجْعَتنا
…
بماءِ الحياةِ وماءِ الحياءِ)
(فَمَاذَا حَبَوتَ بِهِ حَاضرا
…
وماذا خَبأتَ لأهلِ الخِباء)
(نعاء نعاء شَقيقَ النِّدَى
…
إِلَيْهِ نعيَّاً قَليلَ الجَدَاءِ)
(وَكَانَا زَماناً شريكَيْ عِنانٍ
…
رضيعى لبان خليلى صفاء) // المتقارب //
إِلَى أَن قَالَ يُخَاطب وَلَده
(أَبَا جَعْفَر ليعزك الزَّمَان
…
عزّاً ويكْسُكَ طول البَقاء)
(فَمَا مُزْنُكَ المرْتَجَى بالجَهَام
…
وَلَا ريحنُا منكَ بالجِرْبِيَاء)
(فَلَا رجعَتْ فِيك تِلْكَ الظنون
…
حيارَى وَلَا انْسَدَّ شِعْبُ الرَّجَاء)
(وَقد نُكِسَ الثُغْر فَابْعَثْ لهُ
…
صُدُور القنا فِي ابْتِغَاء الشَّقَاء)
(فقَدْ ماتَ جَدُّك جد الملوكِ
…
ونجمُ أبيكَ حَدِيثُ الضياء)
(وَلم يَرْض قَبضَتهُ للحسام
…
وَلَا حَمْل عَاتِقه لِلِّواء)
(فَمَا زَالَ يقرع تِلْكَ العُلَا
…
مَعَ النَّجْم مرتديا بالعماء) // المتقارب //
وَبعده الْبَيْت وَهِي قصيدة طَوِيلَة وَهَذَا الْبَيْت فِي مدح أَبِيه وَذكر علوه
وَالشَّاهِد فِيهِ أَن مبْنى الترشيح على تناسي التَّشْبِيه حَتَّى إِن المرشح يبْنى على علو الْقدر الَّذِي يستعار لَهُ علو الْمَكَان مَا يبْنى على علو الْمَكَان والارتقاء إِلَى السَّمَاء فلولا أَن قَصده أَن يتناسى التَّشْبِيه ويصر على إِنْكَاره فَيَجْعَلهُ صاعداً فِي السَّمَاء من حَيْثُ الْمسَافَة المكانية لما كَانَ لهَذَا الْكَلَام وَجه
وَمثله قَول بشار
(أتَتني الشمسُ زائرَةً
…
وَلم تَكُ تبرَحُ الفلكا) // من مجزوء الوافر //
وَقَول ابْن الرُّومِي يمدح بِهِ بني نوبخت
(شافهتمُ البدرَ بالسؤال عَن الْأَمر
…
إِلَى أنْ بلغتمُ زحلا) // المنسرح //
وَقَول أبي الطّيب المتنبي أَيْضا
(كبَرْتُ حَوْلَ ديارهمْ لما بدَتْ
…
مِنْهَا الشموس وَلَيْسَ فِيهَا الْمشرق) // الْكَامِل //
وَقَول الآخر
(وَلم أرَ قبلي مَنْ مشي البدرُ نحوهُ
…
وَلَا رَجلاً قامتْ تعْانقُهُ الأسْدُ) // الطَّوِيل //
وَقد اتّفق عُلَمَاء البديع على تَقْدِيم الِاسْتِعَارَة المرشحة على غَيرهَا فِي هَذَا الْبَاب وَأَنه لَيْسَ فَوق رتبتها رُتْبَة ولنذكر نبذة مِنْهَا وَمن غَيرهَا فَمن محَاسِن مَا ورد فِيهَا قَول أبي جَعْفَر الشقري
(يَا هلْ ترَى أظرَفَ منْ يَوْمنا
…
قلدَ جِيدَ الأفقِ طَوْقَ العقيقْ)
(وأنقَ الْوَرق بِعِيدانِهِ
…
مُرْقصةً كل قضيبٍ وَريقْ)
(والشمسُ لَا تشرَبُ خمرَ الندَى
…
فِي الرَّوْض إِلَّا بكؤوس الشَّقِيق) // السَّرِيع //
وَمثله فِي الرشاقة قَول ابْن رَشِيق
(باكِرْ إِلَى اللَذَات واركَبْ لَهَا
…
سَوَابقَ اللهوِ ذواتِ المزَاحْ)
(من قبل أَن ترْشفَ شمسُ الضُّحَى
…
رِيقَ الغَوادي من ثغور الأقاح) // السَّرِيع //
ولطيف قَول بَعضهم أَيْضا
(شَرَابُنَا الرَيقُ وكاساتُنا
…
شفاهُنا والقُبَلُ النَّقْلُ) // السَّرِيع //
وَيقرب من الْبَيْت الأول من قَول ابْن رَشِيق قَول ابْن المعتز
(وقدْ رَكضتْ بِنَا خيلُ الملَاهي
…
وَقد طِرْنا بأجنحةِ السُّرُورِ) // الوافر //
وبديع أَيْضا قَول ابْن وَكِيع
(غَرّدَ الطيرُ فَنَبُهْ من نعَسْ
…
وأدِرْ كأسكَ فالعيشُ خُلسْ)
(سُلْ سيفُ الْفجْر من غِمْد الدجى
…
وتعرّى الصبحُ من ثَوب الغَلَسْ)
(وانجَلي عنْ حُلَلٍ فضَّيةٍ
…
نالها من ظُلَم اللَّيْل دنس) // الرمل //
وَقَول أبي نواس
(بِصَحْنِ خد لم يغض مَاؤُهُ
…
وَلم تخصه أعين النَّاس) // السَّرِيع //
وَقَوله أَيْضا
(فَإِذا بدا اقتادت محاسنه
…
قسرا إِلَيْهِ أَعِنَّة الحدق) // الْكَامِل //
وَقَوله أَيْضا وَهُوَ عَجِيب هُنَا
(مَا زلتُ أستَلُّ رُوحَ الزْقّ فِي لَطَفٍ
…
وأستقي دَمَهُ من جَفنِ مجْروحِ)
(حَتَّى انثنيت ْولي رُوحانِ فِي جَسَدِي
…
وَالزِّقّ مُنطرحٌ جسم بِلَا روح) // الْبَسِيط //
وَقَول الْبَدْر الذَّهَبِيّ وأجاد
(مَا نظرت مُقلتي عجيباً
…
كاللوز لما بدَا نَوّارُهُ)
(اشتعلَ الرأسُ منهُ شيباً
…
واخضَرَّ من بعد ذَا عذاره) // من مخلع الْبَسِيط //
وَقَول ابْن خفاجة الأندلسي
(وَقد جالَ من حولِ الغمامة أدهمٌ
…
لهُ البرقُ سوطٌ والشَّمالُ عِنانُ)
(وضمخَ درعُ الشَّمْس نحرَ حديقةٍ
…
عَلَيْهِ من الطلّ السقيط جُمَانُ)
(ونَمّتْ بأسرار الرياض خميلةٌ
…
لَهَا النَّوْرُ ثغرٌ والنسيم لسانُ) // الطَّوِيل //
وَقَول ابْن قرناص
(قد أَتَيْنَا الرياضَ حِين تجلَّتْ
…
وتحلَّتْ من الندى بجُمَانِ)
(ورأَينا خواتمَ الزهر لما
…
سقطتْ من أنامل الأغصان) // الْخَفِيف //
وبديع أَيْضا قَول ابْن نباتة السَّعْدِيّ
(خرَقنا بأطراف القنا لظهورهم
…
عيُونا لَهَا وقعُ السيوف حواجبُ)
(لقوا نبلنَا مرْدَ الْعَوَارِض وانْثَنَوا
…
لأوجُههم مِنْهَا لحي وشوارب) // الطَّوِيل //
وَقَول الشريف أبي الْحسن الْعقيلِيّ
(وفرّق تيجانَ نَوْارهِ
…
فَلم ينسَ من غُصْن مفرقا) // المتقارب //
وَقَوله أَيْضا
(إِذا أبدَى مُؤامرَةَ التجني
…
أقمتُ لهُ وُجوه الاحتمالِ)
وَقَوله أَيْضا
(خَلَصْ بجاه الوصلِ قلب متيم
…
غمر الصّدُودُ عَلَيْهِ أعوانَ الضنى) // الْكَامِل //
وَقَوله أَيْضا
(كلما لاحَ وَجههُ بمكانٍ
…
كثرت زحمةُ الْعُيُون عَلَيْهِ) // الْخَفِيف //
وَقَوله أَيْضا
(فَلَمَّا تبدّى لنا وَجهه
…
نبهنا محاسنه بالعيون) // المتقارب //
وَقَول السّري الرفاء فِي يَوْم بَارِد من أَبْيَات
(متلون يبدى لنا
…
طرفا بأطراف النهارِ)
(فهواه منكسب الرِّدَاء
…
وغيمهُ جافي الإِزارِ)
(يبكي فيجمدُ دمعهُ
…
والبرقُ يكحله بنارِ) // من مجزوء الْكَامِل //
وَقَول أبي الْقَاسِم الدينَوَرِي
(من عذيري من بديع الْحسن
…
ذِي قدٍّ رشيقِ)
(أنبتَتْ فِي فمهِ اللُّؤْلُؤ
…
أرضٌ من عقيقِ) // من مجزوء الرمل //
وَمَا ألطف قَول أبي زَكَرِيَّاء المغربي من قصيدة أَولهَا
(نامَ طفلُ النبتِ فِي حجرِ النعامى
…
لاهتزاز الطلّ فِي مهد الخزامى) // الرمل //
يَقُول فِيهَا
(كحّلَ الفجرُ لَهُم جفنَ الدّجى
…
وغدَا فِي وجنة الصُّبْح لثامَا)
(تحسبُ البدرَ مُحَيَّا ثَمِلٍ
…
قد سقتهُ راحةُ الْفجْر مدامَا)
وَقَول السلَامِي وَهُوَ بديع
(والكأسْ للسََّكِر التبريِّ صائغةٌ
…
وَالماء للحَبَبِ الدرّي نَظَّامُ)
(بتنا نكفكفُ بالكاسات أدمُعَنا
…
كأننا فِي حجور الرَّوْض أيتامُ) // الْبَسِيط //
وَمَا أبدع قَوْله أَيْضا
(تبسطنا عَلى الآثامِ لمّا
…
رأيْنَا العَفْوَ مِنْ ثَمَر الذُّنُوبِ) // الوافر //
قيل كَانَ الصاحب بن عباد يستحسن هَذَا الْبَيْت وَكَانَ يستشهد بِهِ كثيرا وَيَقُول مَا درى قَائِله أَي درة رمى بهَا وَأي غرَّة سَيرهَا وخلدها
وَقَول التنوخي وَهُوَ من غَرِيب الاستعارات
(وَريَاضٍ حَاكَتْ لَهُنّ الثُّرَيا
…
حُلَلاً كانَ غَزْلُها لِلرُّعودِ)
(نثَرَ الغَيْثُ دُرَ دَمْع عَلَيْهَا
…
فتخلت بمِثْل دُرّ العُقُودِ)
(أقحوانُ مُعانقُ لشقيقٍ
…
كثغورٍ تعض ورد الخدود)
(وعيونٌ من نرجسٍ تتراأى
…
كعيونٍ مَوْصُولَة التسهيد)
(وَكَأن الشَّقِيق حِين تبدّى
…
ظلمةُ الصدغ فِي خدود الغيدِ)
(وكأنّ الندَى عَلَيْهَا دموعٌ
…
فِي عيونٍ مفجوعةٍ بفقيد) // الْخَفِيف //
وَقَول السَّيِّد أبي الْحسن عَليّ بن أبي طَالب الْبَلْخِي من أَبْيَات
(وكَمْ قد مضى ليلٌ على أبرُقِ الحِمَى
…
مُضِيء ويومٌ بالمشذرق مُشْرِقُ)
(تسرَّقْتُ فِيهِ اللهوَ أَملس نَاعِمًا
…
وأطيَبُ أنس الْمَرْء مَا يتسرَّقُ)
(وَيَا حُسْنَ طيفٍ قد تعرَّض مَوْهناً
…
وقلبُ الدُّجى من صَوْلَةٍ الصُّبْح يخْفق) // الطَّوِيل //
وَقَول ابْن الساعاتي
(وَلَوْلَا وُشاةٌ بل رُواةٌ تَخَرَّصوا
…
أحاديثَ ليستْ فِي سماعِ وَلَا نقلِ)
(لثْمتُ ثغورَ النَّوْر فِي شَنَب الندَى
…
خلالَ جبين النَّهر فِي طرر الظل) // الطَّوِيل //
وَقَول القَاضِي كَمَال الدّين بن النبيه
(تبسّمَ ثغرُ الروضِ عَن شَنبِ القَطْرِ
…
وَدَبّ عِذارُ الظلّ فِي وَجْنَةِ النهرِ) // الطَّوِيل //
وَقَوله أَيْضا
(والنهرُ خدٌّ بالشعاعِ مُوَرّدُ
…
قد دَبّ فِيهِ عذارُ ظلّ البَانِ)
(وَالْمَاء فِي سُوقِ الغصون خلاخلٌ
…
من فضةٍ والزهرُ كالتيجان) // الْكَامِل //
وَقَول ابْن قرناص أَيْضا
(لقد عقدَ الربيعُ نطاقَ زهرٍ
…
يضمُّ بغصنه خصراً نحيلَا)
(ودبَّ مَعَ العشيّ عذارُ ظلّ
…
على نهرٍ حكى خَدَّاً أسيلا) // الوافر //
وَكلهمْ قد أخذُوا الْوَجْه والعذار من ابْن خفاجة حَيْثُ قَالَ
(وَإِنِّي وَإِن جئتُ المشيبَ لمولعٌ
…
بطُرَة ظلّ فَوق وَجه غَدِير) // الطَّوِيل //
وَمَا أحسن قَول الشهَاب مَحْمُود الْوراق
(إِذا الْكرَى ذرَّ فِي أجفاننا سِنَةً
…
من النعاس نفضناها عَن الهدب) // الْبَسِيط //
وَقَول ابْن نباتة الْمصْرِيّ أَيْضا
(وَلما جنى طرفى رياضَ جمَالكمْ
…
جعلتُ سُهادي فِي عُقُوبَة مَنْ جَنَى)
(أأحبابَنَا إِن عفتمُ السفحَ منزلا
…
وأخليتمُ من جَانب الْجذع موطنّا)
(فقد حزتم دمعي عقيقاً ومهُجتي
…
غَضىً وسكنتم من ضلوعي منحنى) // الطَّوِيل //
وَقَوله أَيْضا
(هذِي الحمائم فِي مَنَابِر أيكها
…
تُمْلي الْغِنَا والطلُّ يكتبُ فِي الورَقْ)
(والقَضبُ تخْفض للسلام رُؤوسها
…
والزهرُ يرفعُ زائريه على الحدق) // الْكَامِل //
وَهُوَ أحسن من قَول الْأَمِير مجير الدّين بن تَمِيم
(إِنِّي لأشهدُ للحِمَى بفضيلةٍ
…
من أجلهَا أصبحتُ من عشاقهِ)
(مَا زارَهُ أيامَ نرجسهِ فَتى
…
إِلَّا وأجلسهُ على أحداقهِ) // الْكَامِل //
وَقَول مجد الدّين الأربلي
(أصْغِي إِلَى قَول العذولِ بجملتي
…
مستفهماً عَنْكُم بِغَيْر ملالِ)
(لتلقُّطِي زهرات وَردٍ حديثكمْ
…
من بَين شوك مَلامةِ العذّالِ) // الْكَامِل //
وَقَول ماني الموسوس
(دعتني إِلَى وَصلهَا جَهْرَةً
…
وَلم تدر أَنِّي لَهَا أعشقُ)
(فقمتُ وللسكر من مفرقي
…
إِلَى قدمي ألسنٌ تنطق) // المتقارب //
وَمَا أَجود قَول أبي طَاهِر الْبَغْدَادِيّ فِي نَار الْقرى
(خطرتْ فكادَ الوُرقُ تَسْجَعُ فَوْقهَا
…
إِن الحمامَ لمولعٌ بالبانِ)
(من معشرٍ نَشَرُوا على تَاج الريا
…
للطارقين ذوائبَ النيرانِ) // الْكَامِل //
وَهُوَ مَأْخُوذ من قَول الأول
(يبيتُونَ فِي المَشْتَى خِماصاً وعندُهمْ
…
من الزَّاد فضلَاتٌ تعدُّ لمن يقْرَى)
(إِذا ضلَّ عَنْهُم طارقٌ رفعوا لَهُ
…
من النَّار فِي الظلماء ألوية حمرا) // الطَّوِيل //
وَقَول صر در فِيهَا
(قومٌ إِذا حَيا الضيوفُ جفانَهُمْ
…
رَدَّتْ عَلَيْهِم ألسنُ النيرَان) // الْكَامِل //
وَمِنْه قَول التهامي
(نادَته ُنارُكَ وهيَ غيرُ فصيحةٍ
…
وَهنا بخَفْقٍ ذوائب النيرَان) // الْكَامِل //
وَقد بَالغ مهيار الديلمي فِي قَوْله
(ضرَبوا بمَدْرَجة الطريقِ قِبَابهمْ
…
يتقارعونَ على قرِى الضيفانِ)
(ويكادُ موقدُهمْ يَجُودُ بنفسهِ
…
حُبّ القرَى طَرَباً على النيرَان) // الْكَامِل //
وَمَا أحسن قَول ابْن سكرة وَهُوَ صَاحب الْبَيْتَيْنِ الجامعين لكافات الشتَاء
(قيلَ مَا أعددتَ للبرد
…
فقد جَاءَ بشدّهْ)
(قلتُ دُرّاعةَ عُرْيٍ
…
تحتهَا جُبة رعْدَهْ) // من مجزوء الرمل //
وَمَا ألطف قَول ابْن عمار
(أدرِ الزجاجة فالنسيم قد انبرَى
…
والنجمُ قد صرف العِنَانَ عَن السُّرَى)
(والصبحُ قد أهْدى لنا كافورهُ
…
لما اسْتردَّ الليلُ منَّا العنبرا) // الْكَامِل //
وَمن بديع الِاسْتِعَارَة على سخفه ومجونه قَول سعيد بن سناء الْملك
(يَا هَذِه لَا تَسْتَحي
…
مني قد انْكَشَفَ المُغَطَّى)
(إِن كَانَ كُسُّكِ قد تثاءب
…
إِن أبري قد تمطى) // من مجزوء الْكَامِل //
فاستعارة التثاؤب والتمطي هُنَا من أحسن الاستعارات قَالَ ابْن جبارَة أَنْشدني هَذَا ابْن سناء الْملك وَزَاد فِي الْإِعْجَاب بِهِ فَلَمَّا عدت إِلَى الْبَيْت أخذت جُزْءا من البصائر والذخائر لأبي حَيَّان التوحيدي فَوجدت فِيهِ أَن بغدادية قَالَت لأخرى خرجت الْيَوْم إِلَى الْعِيد قَالَت إِي وحياتك قَالَت لَهَا فَمَا رَأَيْت قَالَت أحراحاً تتثاءب وأيوراً تتمطى فَلَمَّا اجْتمعت بِهِ قلت لَهُ قد عرفت وعثرت على الْكَنْز الَّذِي انتهبته وحكيت لَهُ الْحِكَايَة قَالَ سيدنَا يفتش عَن أَمْرِي
وَمن ظريف الاستعارات قَول الْأَمِير مجير الدّين بن تَمِيم
(كيفَ السبيلُ لأنْ أُقَبلَ خَدَّ مَنْ
…
أَهوى وَقد نَامَتْ عيونُ الحرّسِ)
(وأَصابعُ المنثور تُومِي نحوَنا
…
حسداً وتغمزها عُيُون النرجس) // الْكَامِل //
وبديع قَول السلَامِي أَيْضا فِي وصف الْحَرْب
(وَالنَّقْع ثوبٌ بالنُّسُورِ مُطَرَّزٌ
…
والأرضُ فَرْشٌ بالجياد مخيلِ)
(وسطورُ خيلكَ إِنَّمَا ألفِاتهَا
…
سمْرٌ تنقط بالدماء وتشكل) // الْكَامِل //
وأجاد الْبَدْر بن يُوسُف الذَّهَبِيّ بقوله
(هلمّ يَا صَاح إِلَى روضةٍ
…
يجلو بهَا العاني صداهمه)
(نسيمها يَعثر فِي ذيلهِ
…
وزَهرها يضحكُ فِي كمه) // السَّرِيع //
وَمن ظريف الِاسْتِعَارَة أَيْضا قَول ابْن الغويرة
(عاينتُ حبةَ خالهِ
…
فِي رَوضةٍ من جُلَّنارِ)
(فغدا فؤادِي طائراً
…
فاصطاده شركُ العذار) // من مجزوء الْكَامِل //
وَمَا أبدع أَيْضا قَول الشريف الرضي الموسوي
(أرسى النسيمُ بواديكمْ وَلَا برِحتْ
…
حواملُ المزنِ فِي أجداثكم تضعُ)
(وَلَا يزالُ جَنِين النبت ترْضِعه
…
على قبوركُمُ العرَّاضةُ الهمع) // الْبَسِيط //
وَقد أَخذه ابْن أسعد الْموصِلِي فَقَالَ من قصيدة يتشوق فِيهَا إِلَى دمشق
(سقى دمشقَ وأياماً مضتْ فِيهَا
…
حواملُ السُّحب باديهَا وعادِيهَا)
(وَلَا يزَال جَنِين النبت تُرضعهُ
…
حواملُ المزن فِي أحشا أراضيها) // الْبَسِيط //
ومحاسن هَذَا الْبَاب كَثِيرَة والاقتصار على هَذِه النبذة أولى
108 -
(هيَ الشَّمْسُ مَسكنها فِي السَّمَاء
…
فعزِّ الفؤادَ عَزاءَ جميلَا)
(فلنْ تستطيعَ إِلَيْهَا الصُّعودَ
…
ولنْ تستطيعَ إليكَ النزولَا)
البيتان للْعَبَّاس بن الْأَحْنَف من المتقارب
وَالشَّاهِد فيهمَا جَوَاز الْبناء على الْفَرْع وَهُوَ الْمُشبه بِهِ مَعَ جحد الأَصْل وَهُوَ الْمُشبه لِأَنَّهُ هُنَا طوى ذكر الأَصْل وَجعل الْكَلَام خلوا مِنْهُ وَيُسمى هَذَا الْمجَاز الْمُفْرد وَمِنْه قَول الفرزدق
(أَبى أحمدُ الغيثين صعصعة الَّذِي
…
مَتى تبخلِ الجوزاءُ والدَّلْو يُمْطِرِ) // الطَّوِيل //
وَقَول عدي بن الرّقاع يصف حِمَارَيْنِ وحشيين
(يتعاوَرانِ من الغبارِ مُلَاءةً
…
بَيْضَاء محكمَة إِذا نسجاهَا)
(تُطوَى إِذا وَرَدَا مَكَانا محزناً
…
وَإِذا السنابكُ أسهلت نشراها) // الْكَامِل //
وَقَول سعيد الْكَاتِب التسترِي النَّصْرَانِي
(قلتُ زوري فأرسلتْ
…
أَنا آتِيك سُحرَهْ)
(قلتُ فالليلُ كَانَ أخْفى وَأدنى مسرّه
…
)
(فأجَابتْ بحجةٍ
…
زَادتِ القلبَ حسرَهْ)
(أَنا شمْسٌ وإِنَما
…
تطلعُ الشَّمْس بكرَة) // من مجزوء الْخَفِيف //
وَله فِي مَعْنَاهُ أَيْضا
(وعدَ البدرُ بالزيارة لَيْلًا
…
فَإِذا مَا وفى قضيتُ نذورِي)
(قلت يَا سَيِّدي فَلِمْ تُؤثر الليلَ على بهْجةٍ النَّهَار المنيرِ
…
)
(قَالَ لي لَا أحبُّ تَغْيِير رسمي
…
هَكَذَا الرَّسمُ فِي طُلُوع البدور) // الْخَفِيف //
وَقَالَ فِي مَعْنَاهُ أَيْضا
(قلتُ للبدر حينَ أعتبَ زرني
…
واشمت الوصلَ بالقلا والتجافي)
(قالَ إِنِّي معَ الْعشَاء سآتي
…
فانتظرني وَلَا تخفْ من خلافِ)
(قلتُ يَا سَيِّدي فزرني نَهَارا
…
فَهُوَ أدنى لقربةِ الإيلافِ)
(قالَ لَا أستطيعُ تغييرَ رسمي
…
إِنَّمَا البدرُ فِي الظلام يوافي) // الْخَفِيف //
وَقد جمع أَبُو الْعَلَاء المعري الْمَعْنيين فِي قَوْله
(هِيَ قَالَت لما رَأَتْ شيبَ رَأْسِي
…
وأرادتْ تنكراً وازورارَا)
(أَنا بدرٌ وَقد بدا الصبحُ من شيبكَ وَالصُّبْح يطرد الأقمارَا
…
)
(قلتُ لَا بل أراكِ فِي الْحسن شمساً
…
لَا تَرَى فِي الدُّجى وتبدو نَهَارا) // الْخَفِيف //
109 -
(وَإِذا الْمنية انشبت أظفارَهَا
…
ألفيتَ كل تميمةٍ لَا تنفعُ)
الْبَيْت لأبي ذُؤَيْب الْهُذلِيّ من قصيدة من الْكَامِل قَالَهَا وَقد هلك لَهُ خمس بَنِينَ فِي عَام وَاحِد وَكَانُوا فِيمَن هَاجر إِلَى مصر فرثاهم بِهَذِهِ القصيدة وأولها
(أمنَ المنونِ وَرَيبها تتوجَعُ
…
والدهر لَيْسَ بمعتب مَنْ يَجْزعُ)
(قالتْ أُمامةُ مَا لجسمكَ شاحباً
…
منذُ ابتذلتَ ومثلُ مالكَ ينفعُ)
(أَمْ مَا لجسمكَ لَا يلائم مضجعاً
…
إِلَّا أقضَّ عليكَ ذَاك المضجعُ)
(فأجبتها أمّا لجسميَ أنهُ
…
أودَى بَنِيّ من الْبِلَاد فودّعُوا)
(أوَدى بَنِيّ فأعقبوني حسرةً
…
عِنْد الرّقاد وعَبْرةً لَا تُقْلعُ)
(فالعينُ بعدُهمُ كأنّ حداقَهَا
…
كحلت بشوك فَهِيَ عور ثدمع)
(فَغَبَرْتُ بعدهمْ بعيش ناصبٍ
…
وإِخالُ أَنِّي لَاحق مستتبع)
(سبقوا هَوَىّ وأعنقوا لهواهمُ
…
فتُخُرّموا وَلكُل جنبٍ مَصْرعُ)
(وَلَقَد حرصتُ بِأَن أُدافعَ عنهمُ
…
فإذَا الْمنية أقبلتْ لَا تُدْفَعُ)
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(وتجلُّدِي للشامتين أُريهُم
…
أَنِّي لريب الدهرِ لَا أتضعضعُ)
(حَتَّى كَأَنِّي للحوادث مَرْوَةٌ
…
بصفا المشِّرق كلَّ يومِ تُقْرعُ)
(والدّهرُ لَا يبْقى على حَدثانهِ
…
جَونُ السّراةِ لَهُ جدائد أربعُ) // الْكَامِل //
يرْوى أَن عبد الله ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما اسْتَأْذن على مُعَاوِيَة فِي مرض مَوته ليعوده فادهن واكتحل وَأمر أَن يقْعد ويسند وَقَالَ ائذنوا لَهُ وليسلم قَائِما ولينصرف فَلَمَّا سلم عَلَيْهِ وَولى أنْشد مُعَاوِيَة قَول الْهُذلِيّ فِي هَذِه القصيدة وتجلدي للشامتين
…
الْبَيْت فَأَجَابَهُ ابْن عَبَّاس على الْفَوْر وَإِذا الْمنية أنشبت
…
. . الْبَيْت ثمَّ مَا خرج من دَاره حَتَّى سمع الناعية عَلَيْهِ
وَالشَّاهِد فِيهِ الِاسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ والاستعارة التخييلية فَهُوَ هُنَا شبه فِي نَفسه الْمنية بالسبع فِي اغتياله النُّفُوس بالقهر وَالْغَلَبَة من غير تَفْرِقَة بَين نفاع وَضِرَار وَلَا رقة لمرحوم فَأثْبت لَهَا الْأَظْفَار الَّتِي لَا يكمل الاغتيال فِي السَّبع بِدُونِهَا تَحْقِيقا للْمُبَالَغَة فِي التَّشْبِيه فتشبيه الْمنية بالسبع اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ وَإِثْبَات الْأَظْفَار لَهَا اسْتِعَارَة تخييلية
وَأَبُو ذُؤَيْب اسْمه خويلد بن خَالِد بن محرث بن زبيد بن مَخْزُوم يَنْتَهِي نسبه لنزار وَهُوَ أحد المخضرمين مِمَّن أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَلم تثبت لَهُ رُؤْيَة
وَحدث أَبُو ذُؤَيْب قَالَ بلغنَا أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عليل فاستشعرت حزنا وَبت بأطول لَيْلَة لَا ينجاب ديجورها وَلَا يطلع نورها فظللت أقاسي طولهَا حَتَّى إِذا كَانَ قرب السحر أغفيت فَهَتَفَ بِي هاتفٌ وَهُوَ يَقُول
(خطبٌ أجلَ أناخَ بِالْإِسْلَامِ
…
بَين النخيل ومغقدِ الآطامِ)
(قبضَ النبيُّ محمدٍ فعيوننَا
…
تُذْرِي الدُّموعَ عَلَيْهِ بالتسجام) // الْكَامِل //
قَالَ أَبُو ذُؤَيْب فَوَثَبت من نومي فَزعًا فَنَظَرت إِلَى السَّمَاء فَلم أر إِلَّا سعد الذَّابِح فتفاءلت بِهِ ذبحا يَقع فِي الْعَرَب وَعلمت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد قبض فركبت نَاقَتي وسرت فَلَمَّا أَصبَحت طلبت شَيْئا أزْجر بِهِ فَعَن لي شيهمٌ يَعْنِي الْقُنْفُذ قد قبض على صل يَعْنِي الْحَيَّة فَهِيَ تلتوي عَلَيْهِ والشيهم يقضمها حَتَّى أكلهَا فزجرت ذَلِك وَقلت شيهم شَيْء مُهِمّ والتواء الصل التواء النَّاس عَن الْحق على الْقَائِم بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ أولت أكل الشيهم إِيَّاهَا غَلَبَة الْقَائِم بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الْأَمر فحثثت نَاقَتي حَتَّى إِذا كنت بِالْغَابَةِ زجرت الطَّائِر فَأَخْبرنِي بوفاته وَنهب غراب سانح فَنَطَقَ بِمثل ذَلِك فتعوذت بِاللَّه من شَرّ مَا عَن
لي فِي طريقي وقدمت الْمَدِينَة المنورة وَلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إِذا انطوى بِالْإِحْرَامِ فَقلت مَه قَالُوا قبض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَجئْت إِلَى الْمَسْجِد فَوَجَدته خَالِيا فَأتيت بَيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأَصَبْت بَابه مرتجاً وَقيل هُوَ مسجي وَقد خلا بِهِ أَهله فَقلت أَيْن النَّاس فَقيل فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة صَارُوا إِلَى الْأَنْصَار فَجئْت إِلَى السَّقِيفَة فَوجدت أَبَا بكر وَعمر وَأَبا عُبَيْدَة بن الْجراح وسالماً وَجَمَاعَة من قُرَيْش وَرَأَيْت الْأَنْصَار فيهم سعد بن عبَادَة وَفِيهِمْ شعراؤهم حسان بن ثَابت وَكَعب بن مَالك وملأ مِنْهُم فأويت إِلَى قُرَيْش وتكلمت الْأَنْصَار فَأَطَالُوا الْخطاب وَأَكْثرُوا الصَّوَاب وَتكلم أَبُو بكر فَللَّه دره من رجل لَا يُطِيل الْكَلَام وَيعلم مَوَاضِع فصل الْخِصَام وَالله لقد تكلم بِكَلَام لَا يسمعهُ سامع إِلَّا مَال إِلَيْهِ وانقاد لَهُ ثمَّ تكلم عمر بعده بِكَلَام دون كَلَامه وَمد يَده فَبَايعهُ وَبَايَعُوهُ وَرجع أَبُو بكر وَرجعت مَعَه فَشَهِدت الصَّلَاة على سيدنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَشهِدت مدفنه صلى الله عليه وسلم ثمَّ أنشأ أَبُو ذُؤَيْب يبكي النَّبِي صلى الله عليه وسلم
(لما رأيتُ النَّاس فِي عسلَانهم
…
مَا بَين ملحودٍ لَهُ ومُضَرَّحِ)
(متنابذين لشرجع بأكفهمْ
…
نصّ الرّقاب لفقد أَبيض أروحِ)
(فهناك صرتُ إِلَى الهموم ومَنْ يبتْ
…
جَار الهموم يبيتُ غير مروّحِ)
(كسفتْ لمصرعه النجومُ وبدرها
…
وتضعضعت آطامُ بطن الأبطحِ)
(وتزعزعتْ أجبالُ يثرب كلُّها
…
ونخيلها لحلول خطبٍ مفدحِ)
(ولقدْ زَجرتُ الطيرَ قبل وفاتهِ
…
بمُصابهِ وزجرتُ سعد الأذبحِ)
(وزَجرتُ أَن نَعَبَ المشحجُ سانحاً
…
متفائلاً فِيهِ بفألٍ أقبح) // الْكَامِل //
ثمَّ اصرف أَبُو ذُؤَيْب رَحمَه الله تَعَالَى إِلَى باديته فَأَقَامَ بهَا
وَقَالَ مُحَمَّد بن سَلام كَانَ أَبُو ذُؤَيْب شَاعِرًا فحلاً لَا غميزة فِيهِ وَلَا وهق وَسُئِلَ حسان بن ثَابت من أشعر النَّاس قَالَ أَحْيَا أم رجلا قَالُوا حَيا قَالَ أشعر النَّاس حَيا هُذَيْل وأشعر هُذَيْل غير مدافع أَبُو ذُؤَيْب وَقَالَ مُحَمَّد بن معَاذ الْعمريّ فِي التَّوْرَاة مَكْتُوب أَبُو ذُؤَيْب مؤلف زوراء وَكَانَ اسْم الشَّاعِر بالعبرانية مؤلف زوراء فَأخْبرت بذلك بعض أَصْحَاب العبرانية وَهُوَ كثير بن إِسْحَاق فَعجب مِنْهُ وَقَالَ قد بَلغنِي ذَلِك
وَكَانَ أَبُو ذُؤَيْب يهوى امْرَأَة يُقَال لَهَا أم عَمْرو وَكَانَ يُرْسل إِلَيْهَا خَالِد ابْن زُهَيْر فخانه فِيهَا وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُو ذُؤَيْب فعل بِرَجُل يُقَال لَهُ عُوَيْمِر ابْن مَالك بن عُوَيْمِر وَكَانَ رَسُوله إِلَيْهَا فَلَمَّا علم أَبُو ذُؤَيْب بِمَا فعل خَالِد صرمها فَأرْسلت تترضاه فَلم يفعل وَقَالَ فِيهَا
(تُريدين كَيْمَا تجمعيني وخالداً
…
وهلْ يُجمعُ السيفان ويحكِ فِي غمدِ)
(أخالدُ مَا راعيتَ من ذِي قرابةٍ
…
فتحفظني بِالْغَيْبِ أَو بعض مَا تبدِى)
(دعاكَ إِلَيْهَا مقلتاها وجيدها
…
قملت كَمَا مالَ المحبّ على عمدِ)
(وَكنت كرقراق السرابِ إِذا جرى
…
لِقومٍ وَقد بَات المطيّ بهم تَخْدِى)
(فآليتُ لَا أنفكُّ أحذو قصيدةً
…
تكون وَإِيَّاهَا لَهَا مثلا بعدِي) // الطَّوِيل //
وَقَالَ أَبُو زيد عَمْرو بن شيبَة تقدم أَبُو ذُؤَيْب جَمِيع شعراء هُذَيْل بقصيدته العينية يَعْنِي قصيدته المثبتة قَرِيبا
وَعَن ابْن عَيَّاش بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّة والشين الْمُعْجَمَة قَالَ لما مَاتَ جَعْفَر الْأَكْبَر بن مَنْصُور مَشى فِي جنَازَته من الْمَدِينَة إِلَى مَقَابِر قُرَيْش وَمَشى النَّاس أَجْمَعُونَ مَعَه حَتَّى دَفنه ثمَّ انْصَرف إِلَى قصره فَأقبل على الرّبيع فَقَالَ يَا ربيع انْظُر من فِي أَهلِي ينشدني
(أمنَ الْمنون وَرَيبها يتوجعُ
…
)
حَتَّى أَتَسَلَّى عَن مصيبتي قَالَ الرّبيع فَخرجت إِلَى بني هَاشم وهم بأجمعهم حُضُور فسألتهم عَنْهَا فَلم يكن فيهم أحد يحفظها فَرَجَعت فَأَخْبَرته فَقَالَ وَالله لمصيبتي بِأَهْل بَيْتِي أَلا يكون فيهم أحد يحفظ هَذِه القصيدة لقلَّة رغبتهم فِي الْأَدَب أعظم وَأَشد عَليّ من مصيبتي بِابْني ثمَّ قَالَ انْظُر هَل فِي القواد والعوام من يعرفهَا فَإِنِّي أحب أَن اسمعها من إِنْسَان ينشدها فَخرجت فاعترضت النَّاس فَلم أجد أحدا ينشدها إِلَّا شَيخا مؤدباً قد انْصَرف من تأديبه فَسَأَلته هَل يحفظ شَيْئا من الشّعْر قَالَ نعم شعر أبي ذُؤَيْب فَقلت أَنْشدني
فابتدأ بِهَذِهِ القصيدة العينية فَقلت أَنْت بغيتي فأوصلته إِلَى الْمَنْصُور فأنشده إِيَّاهَا فَلَمَّا قَالَ
(والدَّهرُ لَيْسَ بمعتب من يجزعُ
…
)
قَالَ صدق وَالله فأنشدني هَذَا الْبَيْت مائَة مرّة لتردد هَذَا المصراع عَليّ فأنشده ثمَّ مر فِيهَا فَلَمَّا انْتهى إِلَى قَوْله
(والدهر لَا يبْقى على حدثانِهِ إِلَخ. .
…
)
قَالَ سلا أَبُو ذُؤَيْب عِنْد هَذَا القَوْل ثمَّ أَمر الشَّيْخ بالانصراف فاتبعته فَقلت أَمر لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ بِشَيْء قَالَ نعم وَأرَانِي صرة فِي يَده فِيهَا مائَة دِرْهَم
وَعَن الزبير بن بكار قَالَ حَدثنِي عمي قَالَ كَانَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ خرج فِي جند عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عَامر بن لؤَي إِلَى إفريقية سنة سِتّ وَعشْرين غازياً فِي زمن عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه وَبعث مَعَه نَفرا مِنْهُم أَبُو ذُؤَيْب فَفِي عبد الله يَقُول
(وصاحِبِ صِدقٍْ كَسِيدِ الضراء
…
ينهضُ فِي الغزوِ نهضا نجيحا) // المتقارب //
فِي قصيدة لَهُ فَلَمَّا قدمُوا إِلَى مصر مَاتَ أَبُو ذُؤَيْب بهَا
وَعَن أبي عَمْرو عبد الله بن الْحَارِث الْهُذلِيّ من أهل الْمَدِينَة المنورة قَالَ خرج أَبُو ذُؤَيْب مَعَ ابْنه وَابْن أَخ لَهُ يُقَال لَهُ أَبُو عبيد حَتَّى قدمُوا على عمر
ابْن الْخطاب رضي الله عنه فَقَالَ أَي الْعَمَل أفضل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله قَالَ قد فعلت فأيه أفضل بعده قَالَ الْجِهَاد فِي سَبِيل الله قَالَ ذَلِك كَانَ عَمَلي وَلَا أَرْجُو جنَّة وَلَا أَخَاف نَارا ثمَّ خرج فغزا أَرض الرّوم مَعَ الْمُسلمين قَلما قَفَلُوا أَخذه الْمَوْت فَأَرَادَ ابْنه وَابْن أَخِيه أَن يتخلفا عَلَيْهِ جَمِيعًا فمنعهما صَاحب السَّاقَة وَقَالَ ليتخلف عَلَيْهِ أَحَدكُمَا وليعلم أَنه مقتول فكلاهما أَرَادَ أَن يتَخَلَّف عَلَيْهِ فَقَالَ لَهما أَبُو ذُؤَيْب اقترعاً فطارت الْقرعَة لأبي عبيد فَتخلف عَلَيْهِ وَمضى ابْنه مَعَ النَّاس فَكَانَ أَبُو عبيد يحدث قَالَ قَالَ لي أَبُو ذُؤَيْب يَا أَبَا عبيد احْفِرْ ذَلِك الجرف برمحك ثمَّ اعضد من الشّجر بسيفك ثمَّ اجررني إِلَى هَذَا النَّهر فَإنَّك لَا تفرغ حَتَّى أفرغ فاغسلني وكفني بكفني ثمَّ اجْعَلنِي فِي حفيرتي وانثل على الجرف برمحك وألق عَليّ الغصون وَالْحِجَارَة ثمَّ اتبع النَّاس فَإِن لَهُم رهجة ترَاهَا فِي الْأُفق إِذا أمسيت كَأَنَّهَا جهامة قَالَ فَمَا أَخطَأ مِمَّا قَالَ شَيْئا وَلَوْلَا نَعته لم أهتد لأثر الْجَيْش وَقَالَ وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ
(َأبا عُبيدٍ رُفعَ الكتابُ
…
واقترَب الموعودُ وَالحسابُ)
(وعندَ رِجلي جملٌ نحاب
…
أحمرُ فِي حارِكِه انْصِبَابُ) // الرجز //
ثمَّ مضيت حَتَّى لحقت بِالنَّاسِ فَكَانَ يُقَال إِن أهل الْإِسْلَام أبعدوا الْأَثر فِي بِلَاد الرّوم فَمَا كَانَ وَرَاء قبر أَبُو ذُؤَيْب قبر يعلم لأحد من الْمُسلمين وَهَذَا يُخَالف رِوَايَة الزبير بن بكار السَّابِقَة وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ
110 -
(وَلَئِن نطقتُ بشكرِ بِرِّكَ مفْصِحا
…
فلسانُ حَالي بالشِّكايةِ أنطَقُ)
الْبَيْت من الْكَامِل وَلَا أعرف قَائِله
وَالشَّاهِد فِيهِ مَا فِي الْبَيْت قبله فَإِنَّهُ شبه الْحَال بِإِنْسَان مُتَكَلم فِي الدّلَالَة على الْمَقْصُود وَهَذَا هُوَ الِاسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ فَأثْبت لَهَا اللِّسَان الَّذِي بِهِ قوام الدّلَالَة فِي الْإِنْسَان الْمُتَكَلّم وَهَذِه الِاسْتِعَارَة التخييلية
وَقَرِيب من مَعْنَاهُ قَول ابْن الخيمي
(أبدا أحِنُّ إِلَى محيَّاك الَّذِي
…
يُصبي الْبعيد إِلَيْهِ نورٌ مشرقُ)
(وأرومُ شكوى موجعات الْحبّ لَا استحظا بهَا لَكِن لَعَلَّك تشفقُ
…
)
(فَأرى لساني بالصبابة أخرساً
…
ولسانُ حَالي بالشكاية ينطقُ)
(وأفوه بِاسْمِك والمسافة بَيْننَا
…
قصوى فيضحي الجو طيبا يعبق) // الْكَامِل //
111 -
(صَحا القلبُ عَن سلمى وأقصر باطلُهْ
…
وعرّى أَفْرَاس الصِّبَا ورواحلُهْ)
الْبَيْت لزهير بن أبي سلمى وَهُوَ أول قصيدة من الطَّوِيل وَبعده
(وأقصرتُ عَمَّا تعلمين وُسدِّدتْ
…
عليَّ سوى قصد السَّبِيل معادِ لَهُ) // الطَّوِيل //
إِلَى أَن يَقُول فِيهَا
(فَقُلْنَا لَهُ أبْصر وسَدِّد طريقهُ
…
وَمَا هُوَ فِيهِ عَن وَصاتيَ شاغلُه)
(وَقلت تعلم أَن فِي الصَّيْد غِرَّةً
…
وَإِن لَا تضيعه فَإنَّك قاتلُه)
(فأتبع آثَار الشياه وليدُنا
…
كشؤبوب غيث يحفش الأكْمَ وابلُه)
(نظرت إِلَيْهِ نظرة فرأيته
…
على كل حَال مرّة وَهْوَ حامله) // الطَّوِيل //
وَهِي طَوِيلَة
يُقَال أقصر عَن الشَّيْء بِمَعْنى انْتهى أَو عجز عَنهُ
وَالشَّاهِد فِيهِ مَا فِي الْبَيْت قبله أَيْضا فَإِنَّهُ أَرَادَ أَن يبين أَنه ترك مَا كَانَ يرتكبه من الْمحبَّة زمن الْجَهْل والغي وَأعْرض عَن معاودته فبطلت آلاته فَشبه فِي نَفسه الصِّبَا بِجِهَة من جِهَات الْمسير كَالْحَجِّ وَالتِّجَارَة قضى مِنْهَا الوطر فأهملت آلاتها
وَوجه الشّبَه الِاشْتِغَال التَّام بِهِ وركوب المهامه والمسالك الصعبة غير مبال بمهلكة وَلَا متحرز عَن معركة
وَهَذَا التَّشْبِيه الْمُضمر فِي النَّفس اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ أثبت لَهُ بعض مَا يخْتَص بِتِلْكَ الْجِهَة وَهِي الأفراس والرواحل الَّتِي بهَا قوام السّير وَالسّفر فإثبات الأفراس والرواحل اسْتِعَارَة تخييلية وَالصبَا على هَذَا من الصبوة بِمَعْنى الْميل إِلَى الْجَهْل والفتوة وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ بالأفراس والرواحل دواعي النَّفس وشهواتها والقوى الْحَاصِلَة لَهَا فِي اسْتِيفَاء اللَّذَّات أَو أَرَادَ بهَا الْأَسْبَاب الَّتِي قَلما تتَّخذ فِي اتِّبَاع الغي إِلَّا أَوَان الصِّبَا وعنفوان الشَّبَاب فَتكون اسْتِعَارَة الأفراس والرواحل تحقيقية لتحَقّق مَعْنَاهَا عقلا إِذا أُرِيد بهَا الدَّوَاعِي وحساً إِذا أُرِيد بهَا اتِّبَاع أَسبَاب الغي
112 -
(والطاعنينَ مَجَامعَ الأضغانِ
…
)
هُوَ من الْكَامِل وَلَا أعرف قَائِله وصدره
(الضاربينَ بِكُل ابيض مخذمٍ
…
)
والمخذم بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة السَّيْف والأضغان جمع ضغن وَهُوَ الحقد
وَالشَّاهِد فِيهِ الْقسم الأول من أَقسَام الْكِنَايَة وَهُوَ أَن يكون الْمَطْلُوب بهَا غير صفة وَلَا نِسْبَة وَتَكون لِمَعْنى وَاحِد كَمَا هُنَا وَتَكون لمجموع معَان فَقَوله بِمَجَامِع الأضغان معنى وَاحِد كِنَايَة عَن الْقُلُوب
وَنَحْوه قَول البحتري
(فأتبعتها أُخْرَى فأضْلَلْتُ نَصْلها
…
بحيثُ يكون اللبُّ والرعب والحقد) // الطَّوِيل //
113 -
(
(إِن السماحة والمروءة والندى
…
فِي قبةٍ ضُرِبت على ابْن الحشرج)
الْبَيْت لزياد الْأَعْجَم من أَبْيَات من الْكَامِل قَالَهَا فِي عبد الله بن الحشرج وَكَانَ قد وَفد عَلَيْهِ وَهُوَ أَمِير على نيسابور فَأمر بإنزاله وألطفه وَبعث إِلَيْهِ بِمَا يَحْتَاجهُ فغدا إِلَيْهِ فأنشده الْبَيْت وَبعده
(ملك أغر متوجٌ ذُو نائلٍ
…
للمعتفِينَ يمينُهَ لم تشنج)
(يَا خَيْرَ من صعد المنابر بالتُّقَى
…
بعد النَّبِي الْمُصْطَفى المتحرِّج)
(لما أَتَيْتُك راجياً لنوالكم
…
ألفَيْتُ بَاب نوالكم لم يرتج) // الْكَامِل //
فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم
والمروءة كَمَال الرجولية
وَالشَّاهِد فِيهِ الْقسم الثَّالِث من أَقسَام الْكِنَايَة وَهُوَ أَن يكون الْمَطْلُوب بهَا إِثْبَات أَمر لأمر أَو نَفْيه عَنهُ فَهُوَ هُنَا أَرَادَ أَن يثبت اخْتِصَاص ممدوحه بِهَذِهِ الصِّفَات وَترك التَّصْرِيح باختصاصه بهَا إِلَى الْكِنَايَة بِأَن جعلهَا فِي قبَّة ضربت
عَلَيْهِ تَنْبِيها على أَن محلهَا ذُو قبَّة وَهِي تكون فَوق الْخَيْمَة يتخذها الرؤساء قَالَ أَبُو تَمام
(لَوْلَا بَنو جُشَمَ بْن بكر فيكمُ
…
كَانَت خيامكم بغيرِ قباب) // الْكَامِل //
وَإِنَّمَا احْتَاجَ فِي هَذَا الْبَيْت إِلَى هَذَا لوُجُود ذَوي قباب فِي الدُّنْيَا كثيرين فَأفَاد إِثْبَات الصِّفَات الْمَذْكُورَة لَهُ لِأَنَّهُ إِذا أثبت الْأَمر فِي مَكَان الرجل وحيزه فقد أثْبته لَهُ
وَفِي معنى الْبَيْت قَول زِيَاد أَيْضا فِي مرثية الْمُغيرَة بن الْمُهلب
(إِن السماحة والمروءة ضُمِّنَاً
…
قبراً بمَرْوَ على الطَّرِيق الْوَاضِح) // الْكَامِل //
وَقَرِيب مِنْهُ قَول ابْن خَلاد يمدح ابْن العميد
(لقد شهدَتْ عقولُ الْخلق طراً
…
وحسْبك بالبصائر من شُهُود)
(بِأَن محاسنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا
…
بأفْنِيَةِ الرئيس ابْن العميد) // الوافر //
وَقَول الآخر
(والمجدُ يَدْعُو أَن يَدُوم بجيدِهِ
…
عقدٌ مساعِي ابْن العميد نظامه) // الْكَامِل //
وَابْن الحشرج الممدوح اسْمه عبد الله وَكَانَ سيداً من سَادَات قيس وأميراً من أمرائها ولي كثيرا من أَعمال خُرَاسَان وَمن أَعمال فَارس وكرمان وَكَانَ جواداً ممدوحاً وَفِيه يَقُول زِيَاد أَيْضا
(إِذا كنت مرتاد السماحة والندى
…
فسائل تُخَبَّرْ عَن ديار الأشاهب) // الطَّوِيل //
وَكَانَ عبد الله كثير الْعَطاء أعْطى بخراسان حَتَّى أعْطى فرَاشه ولحافه فَقَالَت لَهُ امْرَأَته لشد مَا تلاعب بك الشَّيْطَان وصرت من إخوانه مبذراً كَمَا قَالَ الله
تَعَالَى {إِن المبذرين كَانُوا إخْوَان الشَّيَاطِين} فَقَالَ عبد الله بن الحشرج لِرفَاعَة ابْن درى النَّهْدِيّ وَكَانَ أَخا لَهُ وصديقاً أَلا تسمع مَا تَقول هَذِه النوكى وَمَا تَتَكَلَّم بِهِ فَقَالَ لَهُ رِفَاعَة صدقت وَالله وبرت وَإنَّك لمبذر وَإِن المبذرين لإخوان الشَّيَاطِين فَقَالَ ابْن الحشرج فِي ذَلِك
(مَتى يأتنا الْغَيْث المغيث تجدْ لنا
…
مَكَارِم مَا تعيي بِأَمْوَالِنَا التُّلْدِ)
(مَكَارِم قد جد نابها إِذْ تمنعت
…
رجالٌ وضنت فِي الرخَاء وَفِي الْجهد)
(أردنَا بِمَا جُدْنَا بِهِ من تِلادنا
…
خلافَ الَّذي يَأْتِي خِيَار بني نَهد)
(تلوم على إتلافيَ المَال خُلَّتي
…
ويُسْعدها نهد بن زيد على الزّهْد)
(أنَهْدَ بن زيدٍ لست مِنْكُم فتُشْفقوا
…
عليَّ وَلَا مِنْكُم غوائي وَلَا رشدي)
(أتيتُ صَغِيرا ناشئاً مَا أردتم
…
وكهلاً وَحَتَّى تُبصرونيَ فِي اللَّحْد)
(سأبذل مَالِي إنَّ مَالِي ذخيرة
…
لِعقْبي وَمَا أجني بِهِ ثَمَر الْخلد)
(وَلست بمبكاء على الزَّاد باسل
…
يهر على الأزواد كالأسَدِ الوَرْدِ)
(ولكنَّني سَمْحٌ بِمَا حزت باذلٌ
…
لما كلفت كفاي فِي الزَّمن الْجَحْدِ)
(بذلك أَوْصَانِي الرقاد وَقَبله
…
أَبوهُ بِأَن أعْطى وأُوفِىَ بالعهد) // الطَّوِيل //
والرقاد كَانَ أحد عمومته وَكَانَ سيداً جواداً