الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَوَاهِد الْفَنّ الثَّالِث وَهُوَ علم البديع
114 -
(تردى ثِيَاب الْمَوْت حْمراً فَمَا أتىَ
…
لَهَا الليلُ إِلَّا وَهِي من سندس خُضْرُ)
الْبَيْت لأبي تَمام الطَّائِي من قصيدة من الطَّوِيل يرثي بهَا أَبَا نهشل مُحَمَّد بن حميد حِين اسْتشْهد وأولها
(كَذَا فليجلّ الْخطب وليفدح الْأَمر
…
وَلَيْسَ لعين لم يفض مَاؤُهَا عذر)
(تُوفيتِ الآمالُ بعد محمدٍ
…
فَأصْبح فِي شعل عَن السفَرِ السفْر)
(وَمَا كَانَ إِلَّا مالَ من قلَّ مالهُ
…
وذُخراً لمن أَمْسَى وليسَ لهُ ذُخرُ)
(وَمَا كانَ يدرى مَنْ بَلَا يُسْرَ كفهِ
…
إِذا مَا استهلَّتْ أنهُ خُلق العسرْ) // الطَّوِيل //
يَقُول فِيهَا
(غدَا غدْوَة والحمدُ نسجُ ردائهِ
…
فَلم ينصرفْ إِلَّا وأكفانهُ الأجرْ)
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(كأنَّ بني نَبهَان يومَ وفاتهِ
…
نجومُ سَمَاء خرَّ من بَينهَا البدرُ)
(يُعَزَّوْنَ عَن ثاوٍ تُعَزَّى بهِ العلَا
…
ويبكِي عَلَيْهِ الْبَأْس والجود والنصرُ)
(وأنِّي لَهُم صَبر عَلَيْهِ وَقد مضى
…
إِلَى الموتِ حَتَّى استشهَدَا هُوَ وَالصَّبْر) // الطَّوِيل //
وَمعنى الْبَيْت أَنه ارتدى الثِّيَاب الملطخة بِالدَّمِ فَلم ينْقض يَوْم قَتله وَلم
يدْخل فِي ليلته إِلَّا وَقد صَارَت الثِّيَاب خضرًا من سندس الْجنَّة
أَقُول وَلَو قَالَ أَبُو تَمام
(تردَّى ثِيَاب الْمَوْت حمرا فَمَا اختفى
…
عَن الْعين إِلَّا وَهِي من سندسٍ خضرُ)
لَكَانَ أبلغ فِي الْقَصْد وأبدع فَإِنَّهُ جعل غَايَة تبديلها بالسندس دُخُوله فِي اللَّيْل وَهَذَا لَيْسَ بِمَعْلُوم فَإِن الْمَيِّت إِذا غيب بالدفن عَن الْأَعْين تبدلت أَحْوَاله إِلَى خير أَو شَرّ وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى وَيشْهد لذَلِك مَا ورد أَن الْمَيِّت بِمُجَرَّد ستره عَن الْأَعْين يَأْتِيهِ ملكا السُّؤَال
وَفِي معنى بَيت أبي تَمام قَول القَاضِي الْفَاضِل عبد الرَّحِيم رحمه الله
(لهفي لمقتول تلاحظه
…
عيونُ الْبيض شَزْرَا)
(متضرّجاً بدَمٍ رَأَتْهُ ُالحورُ فِي الجناتَ عطرَا
…
)
(متكفنٌ بملابسٍ
…
حَمْرَاء وَهِي تعودُ خضرًا) // من مجزوء الْكَامِل //
يرْوى أَنه لما ورد نعي هَذَا المرثي غمس أَبُو تَمام طرف رِدَائه فِي مداد ثمَّ ضرب بِهِ كفيه وصدره وَأنْشد هَذِه القصيدة
وإِلى ذَلِك أَشَارَ ابْن زنجي الْكَاتِب المغربي فِي قَوْله يرثي الشَّيْخ أَبَا عَليّ ابْن خلدون
(لَوْلَا الحياءُ وَأَن أجيء بفعلةٍ
…
تنْضَى عليَّ بهَا سيوفُ ملامِ)
(وأكون مُتبعا لأشنعِ سنةٍ
…
قد سنّهَا فبلي أَبُو تمامِ)
(للبست لبس الثاكلات وَكنت فِي
…
سود الوجوهِ كأنني من حام) // الْكَامِل //
وَالشَّاهِد فِي الْبَيْت الطباق الْمُسَمّى بالتدبيج وَهُوَ أَن يذكر الشَّاعِر أَو الناثر فِي معنى من الْمَدْح أَو غَيره ألواناً لقصد الْكِنَايَة أَو التورية وَيُسمى
تدبيج الْكِنَايَة أَيْضا فَإِنَّهُ هُنَا ذكر لون الْحمرَة والخضرة وَالْمرَاد من الأول الْكِنَايَة عَن الْقَتْل وَمن الثَّانِي الْكِنَايَة عَن دُخُول الْجنَّة
وَمن طباق التدبيج قَول عَمْرو بن كُلْثُوم
(بأنَّا نوردُ الراياتِ بيضًا
…
ونصدرهن حمرا قد روينَا) // الوافر //
وَلَو اتّفق لَهُ أَن يَقُول
(منَ الأسل الظِّماء يردنَ بيضًا
…
ونصدرهن حمرا قد روينَا)
لَكَانَ أبدع بَيت للْعَرَب فِي الطباق لِأَنَّهُ يكون قد طابق بَين الْإِيرَاد والإصدار وَالْبَيَاض والحمرة والظمأ والري وَقد تمّ لأبي الشيص فَقَالَ
(فأورَدها بِيضاً ظماءً صدورُها
…
وأصدرَها بالريّ ألوانها حمرا) // الطَّوِيل //
فَصَارَ أَخذه مغفورا بِكَمَال مَعْنَاهُ وَمَا أحسن قَول ابْن حيوس
(وتملكِ العلياءَ بالسعي الَّذِي
…
أغناكَ عَن متعالم الأنسابِ)
(ببياض عِرْضٍ واحمرار صوارمٍ
…
وَسَوَاد نَقْع واخضرار رِحابِ)
(وأفخر بعمّ عمَّ جودُ نوالهِ
…
وأبٍ لأفعال الدنيةِ آبي) // الْكَامِل //
وَقَوله أَيْضا
(إنْ تردْ عِلمَ حَالهم عَن يقينٍ
…
فالْقَهُمْ فِي مكارمٍ أَو نزالِ)
(تلقَ بيضَ الْأَعْرَاض سمرَ مثار النَّقْع خضرَ الأكناف حمر النصال
…
) // الْخَفِيف //
وَقد أَخذه ابْن النبيه فقصر عَنهُ فِي قَوْله
(لهمْ بنانٌ طافحٌ بالندَى
…
فهنَّ إِمَّا دِيَمٌ أوْ بِحارْ)
(بيضُ الأيادي خضرُ رَوض الرُّبا
…
حُمْرُ المواضِي فِي العَجَاج المثار) // السَّرِيع //
وَقَول بَعضهم
(الغصنُ فوقَ المَاء تَحت شقائقٍ
…
مثلُ الأسنة خُضِّبَتْ بدماءِ)
(كالصَّعْدةِ السمراءِ تحتَ الرَّايَة الْحَمْرَاء
…
فوقَ الَّلأمة الخضراءِ) // الْكَامِل //
وَقَرِيب من لَفظه قَول الصّلاح الصَّفَدِي رَحمَه الله تَعَالَى
(مَا أبصرَتْ عيناكَ أحسنَ منْظرًا
…
فِيمَا يُرَى من سَائِر الأشياءِ)
(كالشامةِ الخضراءِ فَوق الوجنة الْحَمْرَاء
…
تحتَ المقلةِ السوداءِ) // الْكَامِل //
وَلابْن النبيه
(دَع النوحَ خلف حُدُوجِ الركائبْ
…
وَسلّ فؤادكَ عَن كل ذاهبْ)
(ببيضِ السوالف حمر المراشف صفر الترائبِ سود الذوائبْ
…
)
(فَمَا العيشُ إلَاّ إِذا مَا نظمتَ
…
ثغر الْحَبَاب ثنايا الحبائبْ) // المتقارب //
وَلابْن الساعاتي
(من معشر ويجلُّ قدرُ علائهِ
…
عَن أَن يقاَل لمثلهِ من معشرِ)
(بيض الْوُجُوه كَأَن زُرْقَ رماحهم
…
سر يحلُّ سَواد قلب الْعَسْكَر) // الْكَامِل //
وَلابْن دبوقاء الْعِمَاد من أَبْيَات
(أرَى العقدَ فِي ثغره محكما
…
يرينا الصِّحاح منَ الجوهرِ)
(وتكملَةُ الْحسن إيضاحُها
…
روينَاهُ عَن وَجهك الأزهرِ)
(ومنثورُ دَمعي غدَا أحمرَا
…
على آس عارضكَ الأخضرِ)
(وبعتُ رشادي بغيِّ الْهوى
…
لأجلكَ يَا طلعة المُشْتَرِي) // المتقارب //
وَلأبي الْحسن مُحَمَّد بن القنوع من أَبْيَات
(ويخترمُ الْأَرْوَاح والموتُ أحمرُ
…
بأبيضَ يتلوه لَدَى الطعْن أزرقُ) // الطَّوِيل //
وَمَا أحسن مَا قَالَ بعده
(وُيجْرِي عتاقَ الْخَيل قُبَّاً شوازباً
…
تبارى هبوبَ الرّيح بل هِيَ أسبقُ)
(إِذَا حفرت مِنْهَا الحوافرُ فِي الصَّفَا
…
محَاريبَ ظلتْ بالنجيع تخلق) // الطَّوِيل //
وَلأبي الْفَرح الببغاء فِي قريب من مَعْنَاهُ
(وكأنما نقشت حَوافرُ خيلهِ
…
للناظرين أهلةً فِي الجلْمَد) // الْكَامِل //
وَمَا أحسن قَوْله بعده
(وَكَأن طَرْفَ الشَّمْس مطروفٌ وقدْ
…
جعلَ الغبارُ لهُ مَكَان الأثمدِ)
وَلأبي سعيد الرستمي
(من النَّفر العالينَ فِي السّلم والوغى
…
وأهلِ الْمَعَالِي والعواليَ واللُّهَا)
(إِذا نزلُوا اخضرَّ الثرَى من نُزُولهَا
…
وَإِن نازلوا احمرَّ القنا منِ نزالها) // الطَّوِيل //
وَلابْن جَابر الأندلسي
(تَشْتَكِي الصفر من يَدَيْهِ وترضى السمر من راحتيه عِنْد الحروب
…
)
(أحمرُ السَّيْف أخضرُ السيب حَيْثُ الأَرْض غبراء من سَواد الخطوب
…
) // الْخَفِيف //
وَلأبي الْقَاسِم عبد الصَّمد بن عَليّ الطَّبَرِيّ من قصيدة
(حَمِّر يَدي بالكأس فالروضُ مخضرُّ الرُّبا قبل اصفرار البنان
…
) // السَّرِيع //
وَلأبي بكر الخالدي
(ومدامة صفراءَ فِي قارورةٍ
…
زَرقاء تحملهَا يدٌ بيضاءُ)
(فالراح ُشمسٌ والْحَبَاب كواكبٍ
…
والكفّ قُطْبٌ والإناءُ سَمَاء) // الْكَامِل //
ولنجم الدّين الْبَارِزِيّ فِي وصف قلم
(ومثقف للخَطّ يحْكى فعلَ سمرِ الْخط إِلَّا أَن هَذَا أصغرُ
…
)
(فِي رأسهِ المسودِّ إِن أجروه فِي المبيض للأعداء موت أَحْمَر
…
) // الْكَامِل //
وَمن المضحك فِيهِ قَول ابْن لنكك الْبَصْرِيّ يهجو أَبَا رياش وَكَانَ نهما شَرها على الطَّعَام
(يَطيرُ إِلَى الطَّعَام أَبُو رياشٍ
…
مُبَادرةً وَلَو واراهُ قبرُ)
(أصابعهُ من الحَلَواء صُفْرٌ
…
ولكنَّ الأخادِعَ مِنْهُ حمر) // الوافر //
وَكَانَ أَبُو رياش هَذَا باقعة فِي حفظ أَيَّام الْعَرَب وأنسابها وَأَشْعَارهَا غَايَة بل آيَة فِي هَذ دواوينها وسرد أَخْبَارهَا مَعَ فصاحة وَبَيَان وإعراب وإتقان وَلكنه كَانَ عديم الْمُرُوءَة وسخ اللبسة كثير التقشف قَلِيل التنظف وَفِيه يَقُول أَبُو عُثْمَان الخالدي
(كَأَنَّمَا قمْلُ أبي رياشٍ
…
مَا بينَ صِئْبَان قَفَاهُ الفاشي)
(وَذَا وَذَا قد لج فِي انْتِفاشِ
…
شهدانج يُذَرُّ فِي خشخاش) // الرجز //
وَفِيه يَقُول ابْن لنكك وَقد ولي عملا بِالْبَصْرَةِ
(قل للوَضيع أَبي رياش لَا تُبَلْ
…
بِهِ كلُّ تِيهكَ بالولايةِ والعَمَلْ)
(مَا ازْدَدتَ حِين ولِيَت إِلَّا خِسّةً
…
كَالْكَلْبِ أنجسُ مَا يكون إِذا اغْتسل) // الْكَامِل //
وَله فِيهِ أَيْضا
(نبئت أَن أَبَا رياش قَدْ حَوَى
…
علم اللُّغَات وفاقَ فِيمَا يَدِّعى)
(مَنْ مُخْبري عنهُ فَإِنِّي سائلٌ
…
من كَانَ حَنِّكهُ بإير الْأَصْمَعِي) // الْكَامِل //
وَله فِيهِ أَو فِي غَيره من الأدباء
(يَا مَنْ تَطَيَّبَ وَهُوَ من خَرْقِ اسْتِهِ
…
قَلِقٌ يكابِد كل داءٍ مُعْضِلِ)
(فشل الصيال وَمَا عهدنا دبره
…
مذ كَانَ بغشل عَن صيال الفيشل)
(وأراهُ فِي الكُتُبِ الجليلَةِ زاهداً
…
لَا يَسْتَجيد سوى كتابِ المَدْخَلِ)
(قَبِّلتهُ ولثمتُ فاهُ مُسَلماً
…
لثم الصّديقِ فَم الصّديق المجملِ)
(فدَنا إليَّ على المكانِ وقالَ لي
…
أفديكَ من مُتَعَشِّقٍ متعزل)
(إِن كنتَ تلثمني بودٍّ فاشْفِني
…
بلِسَانِ بطنِكَ فِي فمي من أسفلي) // الْكَامِل //
وَقد زاغ الْقَلَم وطاش بجريرة أبي رياش وَأَنا أسْتَغْفر الله من ذَلِك
115 -
(لَا تعجبي يَا سلم من رجل
…
ضحك المشيب بِرَأْسِهِ فَبَكى)
الْبَيْت لدعبل من قصيدة من الْكَامِل أَولهَا
(أينَ الشَّبَاب وأية سلكا
…
لَا أَيْن يطلَبُ ضَلِّ بل هَلكا)
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(يَا سَلْمَ مَا بالشيبِ مَنْقَصَةٌ
…
لَا سوقَةً يُبْقِي وَلَا ملِكا)
(قَصَرَ الْغَوايةَ عَن هَوَى قَمرٍ
…
أجِدُ السَّبيلَ إليهِ مُشتركا)
(يَا لَيْتَ شعري كَيْفَ نومكما
…
يَا صاحِبَيَّ إِذا دمي سُفِكا)
(لَا تأخذا بِظُلَامتي أحَداً
…
قلبِي وطَرْفي فِي دمي اشْتَركَا) // الْكَامِل //
حدث أَبُو هفان قَالَ قَالَ مُسلم بن الْوَلِيد
(مُستَعبر يبكي على دِمْنَةٍ
…
ورأسُهُ يضْحك فِيهِ المشيب) // السَّرِيع //
فسرقه دعبل فَقَالَ وأنشا الْبَيْت فجَاء بِهِ أَجود من قَول مُسلم فَصَارَ أَحَق بِهِ مِنْهُ
وَحدث أَبُو الْمثنى قَالَ كُنَّا فِي مجْلِس الْأَصْمَعِي فأنشده رجل لدعبل لَا تعجبي يَا سلم
…
. الْبَيْت فاستحسناه فَقَالَ الْأَصْمَعِي إِنَّمَا سَرقه من قَول الْحُسَيْن
ابْن مطير الْأَسدي
(أَيْن أهلُ القِبابِ بالدَهْناء
…
أَيْن جيرانُنا على الأحْسَاء)
(فارقونا وَالْأَرْض ملبسة نور
…
الأقاحي تُجَادُ بالأنْوَاءِ)
(كلَّ يَوْم بأقْحُوَانٍ جديدٍ
…
تضحَكُ الأرضُ من بكاء السَّمَاء) // الْخَفِيف //
وروى عَن أبي الْعَبَّاس الْمبرد أَنه قَالَ اخذ ابْن مطير قَوْله تضحك الأَرْض من بكاء السَّمَاء من قَول دُكَيْن الراجز
(جُنَّ النباتُ فِي ذُراها ورَكا
…
وضَحِكَ المزنُ بِهِ حَتَّى بَكَى) // الرجز //
وَقَالَ أَبُو هفان أنشدت يَوْمًا بعض الْبَصرِيين الحمقاء قَول دعبل ضحك المشيب بِرَأْسِهِ فَبكى فَجَاءَنِي بعد أَيَّام فَقَالَ قد قلت أحسن من الْبَيْت الَّذِي قَالَه دعبل فَقلت يَا هَذَا وَأي شَيْء قلت فتمنع سَاعَة ثمَّ قَالَ
(قَهْقَه فِي رأسِهِ القتير
…
) // الرجز //
وَقد تداول الشُّعَرَاء معنى بَيت دعبل فَمِنْهُ قَول الراضي الْقُرْطُبِيّ
(ضحك المشيب بِرَأْسِهِ
…
فَبَكى بأعينِ كأسِهِ)
(رجل تخونه الزَّمَان
…
ببُوسِهِ وببأسِهِ)
(فجرَى على غُلَوَائِهِ
…
طَلْقَ الجموحُ بفأسِهِ)
(أخذا بأوفَرِ حَظِّه
…
لرجائه من يأسه) // من مجزوء الْكَامِل //
وَمِنْه أَيْضا قَول ابْن نباتة الْمصْرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى
(تَبسُّمُ الشيب بذقْن الْفَتى
…
يوجِبُ سَحَّ الدمع من جَفْنهِ)
(حسبُ الْفَتى بعد الصبذلة
…
أَن يضْحك الشيب على ذقنه) // السَّرِيع //
ولمؤلفه رَحمَه الله تَعَالَى أَيْضا فِي هَذَا الْمَعْنى
(ضحك الشيب برأسي
…
فبكتْ عَيْني الشَّبَابا) // من مجزوء الرمل //
وَمن الْبكاء على الشَّبَاب وَهُوَ أبكى بَيت قيل فِي فَقده وينسب لأبي الْغُصْن الْأَسدي
(أتأَملُ رجْعَةَ الدُّنْيَا سَفَاهاً
…
وَقد سَار الشبابُ إِلَى الذهابِ)
(فَلَيْتَ الباكياتِ بكلِّ أرضٍ
…
جُمِعْنَ لنا فَنُحْن على الشبابِ) // الوافر //
وَمَا أحسن قَول أبي الْعَلَاء المعري فِيهِ أَيْضا
(وَقد تَعَوَّضْتُ عَن كلٍّ بمشْبهِهِ
…
فَمَا وجدتُ لأيام الصِّبَا عوضا) // الْبَسِيط //
وَقَول الآخر
(شَيآنِ لَو بكَتِ الدماءَ عَلَيهمَا
…
عينايَّ حَتَّى تُؤْذنا بذَهاب)
(لم تَبْلُغا المعشار من حَقِّيْهما
…
فَقْدُ الشَّبَاب وفُرْقَة الأحبابِ) // الْكَامِل //
وَلأبي بكر بن مجير
(رَحَلَ الشَّبَاب وَمَا سمعْتُ بعَبرَةٍ
…
تجْرِي لمثْلِ فِرَاقِ ذاكَ الرَّاحِلِ)
(قد كنت أُزْهَى بالشباب وَلم أخَلْ
…
أَن الشَّبيبَةَ كالخِضَاب الناصل)
(ظِلٌّ صفا لي ثمَّ زَالَ بسرعةٍ
…
يَا ويحَ مُغتُرٍ بِظِل زائل) // الْكَامِل //
وَلابْن حمديس فِي قريب من مَعْنَاهُ
(وَلم أرَ كالدنيا خَؤوناً لصَاحِبٍ
…
وَلَا كمصابي بالشَّباب مُصَابا)
(فَقَدْتُ الصِّبا فابيَضَّ مُسْودُّ لمتى
…
كأنَّ الصِّبَا للشيب كَانَ خضابا) // الطَّوِيل //
وَلأبي الْفَتْح البستي فِيهِ
(دعْ دموعي تَسيلُ سَيْلاً بدارا
…
وضُلوعي يَصْلَينَ بالوَجْدِ نَارا)
(قد أعادَ الأسىَ نهاريَ لَيْلاً
…
مذْ أعَاد المشيبُ ليلِي نَهَارا) // الْخَفِيف //
ولعلى بن مُحَمَّد الْكُوفِي فِي الْبكاء من المشيب والبكاء عَلَيْهِ
(بَكَى للشَّيْبِ ثمَّ بَكَى عَلَيه
…
فكانَ أعَزَّ من فَقْدِ الشبابِ)
(فَقلْ للشيب لَا تبرَحْ حميدا
…
إِذا نَادَى شَبَابِي بالذهاب) // الوافر //
وَمثله قَول مُسلم بن الْوَلِيد
(الشيب كُرْهٌ وكُرهٌ أَن يُفارقني
…
فاعجَبْ لشَيْء على البَغْضاء مَوْدُود)
(يمْضِي الشَّبَاب وَقد يَأْتِي لَهُ خَلفٌ
…
والشيب يذهَبُ مفقودا بمفقود) // الْبَسِيط //
وَقد أعَاد مُسلم بن الْوَلِيد هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ
(لَا يرحل الشيبُ عَن دَار أَقَامَ بهَا
…
حَتَّى يُرَحَّلُ عَنْهَا صاحِبُ الدَّار) // الْبَسِيط //
وَيُقَال إِن مُسلما أَخذ هَذَا الْمَعْنى من قَول بعض الْأَعْرَاب
(أسْتَغفر الله وأستَقِيله
…
مَا أَنا مِمَّن شَيبُهُ يَهُولهُ)
(أعظَم من حُلُوله رحيله
…
) // الرجز //
وَمثل قَول مُسلم قَول البحتري
(يعيبُ الغانياتُ علىَ شيبي
…
ومَنْ لي أَن أُمَّتَع بالمشيبِ)
(ووجْدِي بالشباب وَإِن تَقَضَّى
…
حميدا دونَ وجدي بالمشيب) // الوافر //
وَمَا أحسن قَول كشاجم الْكَاتِب
(تَفَكرْتُ فِي شَيبِ الْفَتى وشبابه
…
فأيقَنتُ أَن الْحق للشيب واجبُ)
(يصاحِبني شرخُ الشَّبَاب فَينْقَضي
…
وشيبي إِلَى حِين المماتُ مصاحب) // الطَّوِيل //
وبديع قَول الْغَزِّي
(ذهبَ الشَّبَاب ذهابَ سهم مارِقٍ
…
لَا يُسْتطاعُ مَعَ التأسُّفِ ردُّهُ)
(وأتى المشيب بقَضِّهِ وقَضيضهِ
…
وأشَدُّ من وجدانِ ذَلِك فَقْدهُ)
(أَنا فِي السُّرى والسَّير كالطِّفل الَّذِي
…
يجدُ السكونَ إِذا تحَرَّكَ مَهدُه)
(من يَقْتَدحْ زنداً بكف مَالهَا
…
زنْدٌ فَكيف ترَاهُ يقْدَح زنده) // الْكَامِل //
وبديع أَيْضا قَول حسن بن النَّقِيب رَحمَه الله تَعَالَى
(لَا تأسَفَنَّ على الشَّبَاب وفَقْده
…
فَعلى المشيب وفَقْده يُتأسَّف)
(هاذاك يخلُفه سواهُ إِذا انْقَضى
…
ومَضَى وَهَذَا إِن مضى لَا يخلف) // الْكَامِل //
وَقَوله أَيْضا
(عجبت للشيب كنت أكرَههُ
…
فأصبَحَ الْقلب وهوَ عاشقُهُ)
(وَكنت لَا أشْتَهي أرَاهُ وَقد
…
أصْبَحْتُ لَا أشتهي أفارقه) // المنسرح //
وَمَا أحسن قَول الصفي الْحلِيّ
(لَو تَيَقَّنْتُ أَن شَينَ بَيَاض الشيب يبْقى لما كَرهت البياضا
…
)
(غيرَ أنِّي علمت من ذلكَ الزائر
…
مَا يَقْتَضِي وَمَا يتقاضى) // الْخَفِيف //
وَلأبي الْفَتْح البستي رَحمَه الله تَعَالَى فِيهِ
(يَا شَيْبتي دومي وَلَا تترحَّلي
…
وتيَّقِني أَنِّي بوصلك مُولَع)
(قد كنت أجْزَعُ من حلولك مرّة
…
والآن من خوف ارتحالك اجزع) // الْكَامِل //
وَلأبي الْيمن الْكِنْدِيّ فِيهِ أَيْضا
(عَفا الله عَمَّا جرَّه اللَّهْو وَالصبَا
…
وَمَا مرَّ منْ قَالِ الشَّبَاب وقيله)
(زمانٌ صحبناه بأرغد عيشة
…
إِلَى أَن مضى مستكرهاً لسبيلهِ)
(وأعقَبَنَا من بعدهِ غير مُشْتَهي
…
مَشيباً نَفى عنَّا الكَرَى بحلُولهِ)
(لَئِن عَظَمتْ أحْزَانُنا بقُدومِهِ
…
فأعْظَمُ مِنْهَا خَوْفُنا من رحيله) // الطَّوِيل //
وَقد خَالف ابْن الرُّومِي حَيْثُ يَقُول
(من كانَ يبكي الشبابَ من أسَفِ
…
فَلَست أبْكِي عَلَيْهِ من أسَفِ)
(كيفَ وشَرْخُ الشَّبَاب عرَّضني
…
يومُ حِسَابي لِمَوْقفِ التَّلَفِ)
(لَا صُوحِبَتْ شِرَّةُ الشَّبَاب وَلَا
…
عدِمتُ مَا فِي المشيبِ مِنْ خَلَفِ) // المنسرح //
وَمثله قَول بَعضهم
(لم أقلْ للشباب فِي دعَة الله وَلَا حفظهِ غَدَاةَ اسْتَقَلَاّ
…
)
(زائر زارنا أَقَامَ قَليلاً
…
سَوَّدَ الصُّحْفَ بِالذنُوبِ وَولى) // الْخَفِيف //
وَمن الْجيد أَيْضا قَول الْعلوِي
(لَعَمْرُكَ لَلمشيبُ عليَّ مِمَّا
…
فَقَدْتُ من الشَّبَاب أجَلُّ فوتا)
(تمَليتُ الشَّبَاب فصارَ شيباً
…
ومُلِّيتُ المشيبَ فَصَارَ موتا) // الوافر //
وَمَا أحسن أَيْضا قَول الآخر
(والمرءُ إِن حَلَّ شَيْبٌ فِي مفارقه
…
فَمَا يفارِقُه أَو يرحلان مَعًا) // الْبَسِيط //
وَمَا أحسن قَول المعري فِي مدح الشيب
(خبرِيني مَاذَا كرِهْتِ من الشَّيْب فَلَا علم لي بذنبِ المشيب
…
)
(أضيِاَء النهارِ أم وضح اللُّؤْلُؤ
…
أم كونَهُ كثغر الحبيبِ)
(أَخْبِرِينِي فضلَ الشَّبَاب وماذا
…
فِيهِ من مَنْظر يَسُرُّ وطيبِ)
(غَدْره بالخليل أم حبهُ للغي أم كونهُ كعيش الأديب
…
) // الْخَفِيف //
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا أحسن قَول الْحَافِظ بن سهل بن غَانِم الْأَصْفَهَانِي وأصدقه
(من شابَ قد ماتَ وهوَ حَيٌّ
…
يمشي على الأرضِ مَشْيَ هالِكِ)
(لَو كانَ عمرُ الْفَتى حِساباً
…
لَكَانَ فِي شيْبه فَذَلِك) // من مخلع الْبَسِيط //
وَالشَّاهِد فِي الْبَيْت الْجمع بَين مَعْنيين غير مُتَقَابلين عبر عَنْهُمَا بلفظيين يتقابل معنياهما الحقيقيان فَإِنَّهُ هُنَا لَا تقَابل بَين الْبكاء وَظُهُور الشيب لكنه عبر
عَن ظُهُوره بالضحك الَّذِي يكون مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ مضاداً لِمَعْنى الْبكاء وَيُسمى إِيهَام التضاد لِأَن الْمَعْنيين الْمَذْكُورين وَإِن لم يَكُونَا مُتَقَابلين حَتَّى يكون التضاد حَقِيقِيًّا لكنهما قد ذكرا بلفظيين يوهمان التضاد نظرا إِلَى الظَّاهِر وَالْحمل على الْحَقِيقَة
وَمن الشواهد على إِيهَام التضاد قَول أبي تَمام الطَّائِي
(وتَنَظَّرِي خَبَبَ الركاب ينُّصها
…
مُحْيي القريض إِلَى مميت المَال) // الْكَامِل //
فَلَيْسَ بَين محيي ومميت هُنَا تضَاد بِالْمَعْنَى إِلَّا بِمَا يتَوَهَّم من اللَّفْظ لِأَن محيي القريض هُنَا كِنَايَة عَن مجيده وَيَعْنِي بِهِ نَفسه ومميت المَال كِنَايَة عَن مفنيه فِي الْكَرم وَلَيْسَ بَينهمَا تضَاد
وَمِنْه قَول الشَّاعِر
(يُبْدِي وِشاحاً أبيضاً من سَيْفه
…
والجوُّ قد لبس الرِّدَاء الأغبرا) // الْكَامِل //
فَإِن الْأَبْيَض لَيْسَ بضد الأغبر وَإِنَّمَا يُوهم بِلَفْظِهِ أَنه ضِدّه
ودعبل هُوَ ابْن على بن رزين بن سُلَيْمَان بن تَمِيم الْخُزَاعِيّ ويكنى أَبَا عَليّ وَهُوَ شَاعِر مطبوع مُتَقَدم هجاء خَبِيث اللِّسَان لم يسلم مِنْهُ أحد من الْخُلَفَاء وَلَا من وزرائهم وَلَا من أَوْلَادهم وَلَا ذُو نباهة أحسن إِلَيْهِ أَو لم يحسن وَلَا أفلت مِنْهُ كَبِير أحد
وَحدث أَبُو هفان قَالَ قَالَ لي دعبل قَالَ لي أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ مِم اشتق دعبل قلت لَا أَدْرِي قَالَ الدعبل النَّاقة الَّتِي مَعهَا أَوْلَادهَا
وَحدث مُحَمَّد بن أَيُّوب قَالَ دعبل اسْمه مُحَمَّد وكنيته أَبُو جَعْفَر ودعبل لقب لقب بِهِ
وَعَن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ قَالَ الدعبل الْبَعِير المسن
وَحدث دعبل قَالَ كنت جَالِسا مَعَ بعض أَصْحَابنَا ذَات يَوْم فَلَمَّا قُمْت سَأَلَ الرجل وَلم يعرفنِي أَصْحَابِي عني فَقَالُوا هَذَا دعبل قَالَ قُولُوا فِي جليسكم خيرا كَأَنَّهُ ظن اللقب شتماً
وَقَالَ دعبل صرع مَجْنُون مرّة فَصحت فِي أُذُنه دعبل ثَلَاث مَرَّات فأفاق
وَكَانَ سَبَب خُرُوجه من الْكُوفَة أَنه كَانَ يتشطر ويصحب الشطار فَخرج هُوَ وَرجل من أَشْجَع فِيمَا بَين الْعشَاء وَالْعَتَمَة فَجَلَسَا على طَرِيق رجل من الصيارفة كَانَ يروح كل لَيْلَة بكيسه إِلَى منزله فَلَمَّا طلع مُقبلا عَلَيْهِمَا وثبا عَلَيْهِ وجرحاه وأخذا مَا فِي كيسه فَإِذا هِيَ ثَلَاث رمانات فِي خرقَة وَلم يكن كيسه مَعَه ليلتئذ وَمَات الرجل فِي مَكَانَهُ واستتر دعبل وَصَاحبه وجد أَوْلِيَاء الرجل فِي طلبهما وجد السُّلْطَان أَيْضا فِي ذَلِك فطال على دعبل الاستتار فاضطر إِلَى أَن يهرب من الْكُوفَة فَمَا دَخلهَا حَتَّى كتب إِلَيْهِ أَهله أَنه لم يبْق من أَوْلِيَاء الرجل أحد
وَحدث أَحْمد بن أبي كَامِل قَالَ كَانَ دعبل يخرج فيغيب سِنِين يَدُور الدُّنْيَا كلهَا وَيرجع وَقد أَفَادَ وأثرى وَكَانَت الشراة والصعاليك يلفونه فَلَا يؤذونه ويؤاكلونه ويشاربونه ويبرونه وَكَانَ إِذا لَقِيَهُمْ وضع طَعَامه وَشَرَابه ودعاهم إِلَيْهِ ودعا بغلاميه نفنف وشنغف وَكَانَا مغنيين فأقعدهما يغنيان وسقاهم وَشرب مَعَهم وأنشدهم فَكَانُوا قد عرفوه وألفوه لِكَثْرَة
أَسْفَاره وَكَانُوا يواصلونه ويصلونه قَالَ وأنشدني دعبل لنَفسِهِ فِي بعض أَسْفَاره
(حللتُ محلا يَقْصُر البرْقُ دونهُ
…
ويعجز عَنهُ الطيفُ أَن يتجشما) // الطَّوِيل //
وَحدث مُحَمَّد بن عمر الْجِرْجَانِيّ قَالَ دخل دعبل الرّيّ فِي أَيَّام الرّبيع فَجَاءَهُمْ ثلج لم ير مثله فِي الشتَاء فجَاء شَاعِر من شعرائهم فَقَالَ شعرًا وَكتبه فِي رقْعَة وَهُوَ
(جاءَنا دِعبلٌ بثلج من الشّعْر فجادت سماؤنا بالثلوج
…
)
(نزل الرّيّ بعد مَا سكن الْبرد
…
وَقد أينعت رياضُ المروجِ)
(فكسانا بِبرْدِهِ لَا كَسَاه الله ثوبا من كرسفٍ محلوج
…
) // الْخَفِيف //
وَألقى الرقعة فِي دهليز دعبل فَلَمَّا قَرَأَهَا ارتحل عَن الرّيّ
وَحدث أَحْمد بن خَالِد قَالَ كُنَّا يَوْمًا عِنْد دَار رجل يُقَال لَهُ صَالح ابْن عَليّ ابْن عبد الْقَيْس بِبَغْدَاد ومعنا جمَاعَة من أَصْحَابنَا فَسقط على كَنِيسَة فِي سطحها ديك طَار من بَيت دعبل فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ قُلْنَا هَذَا صيد فأخذناه فَقَالَ صَالح مَا نصْنَع بِهِ قُلْنَا نذبحه فذبحناه وشويناه يَوْمنَا وَخرج دعبل فَسَالَ عَن الديك فَعرف أَنه سقط فِي دَار صَالح فَطَلَبه منا فجحدناه وشربنا يَوْمنَا فَلَمَّا كَانَ من الْغَد خرج دعبل فصلى الْغَدَاة ثمَّ جلس على بَاب الْمَسْجِد وَكَانَ ذَلِك الْمَسْجِد مجمع النَّاس يجْتَمع فِيهِ جمَاعَة من الْعلمَاء ونبهاء النَّاس فَجَلَسَ دعبل على بَاب الْمَسْجِد وَقَالَ
(أسَرَ المؤذِّنَ صالحٌ وضُيُوفُهُ
…
أسْرَ الكمىِّ هفا خلالَ المأقط)
(بَعثُوا عليهِ بناتهمْ وبنيهمُ
…
مَا بينَ ناتفةٍ وَآخر سامطِ)
(يتنازعون كَأَنَّهُمْ قد أوثقُوا
…
خاقَان أَو هزموا كتائب ناعطِ)
(نهشوه فانتزعتْ لَهُ أسنانهمْ
…
وتهشمتْ أقفاؤهمْ بِالْحَائِطِ) // الْكَامِل //
قَالَ فكتبها النَّاس عَنهُ ومضوا فَقَالَ لي أبي وَقد رَجَعَ إِلَى الْبَيْت وَيحكم ضَاقَتْ عَلَيْكُم المآكل فَلم تَجدوا شَيْئا تأكلونه سوى ديك دعبل ثمَّ أنشدنا الشّعْر وَقَالَ لي لَا تدع ديكاً وَلَا دجَاجَة تقدر عَلَيْهَا إِلَّا اشْتريت ذَلِك لدعبل وَبعثت بِهِ إِلَيْهِ وَإِلَّا أوقعتنا فِي لِسَانه فَفعلت ذَلِك
قَالَ وناعط قَبيلَة من هَمدَان وَأَصله جبل نزلُوا بِهِ فنسبوا إِلَيْهِ
وَقَالَ دعبل كُنَّا يَوْمًا عِنْد سهل بن هَارُون الْكَاتِب البليغ وَكَانَ شَدِيد الْبُخْل فأطلنا الحَدِيث واضطره الْجُوع إِلَى أَن دَعَا بغداء لَهُ فَأتى بقصعة فِيهَا ديك جاسٍ هرم لَا تخرقه سكين وَلَا يُؤثر فِيهِ ضرس فَأخذ كسرة خبز فَخَاضَ بهَا مرقته وقلب جَمِيع مَا فِي الْقَصعَة ففقد الرَّأْس فَبَقيَ مطرقا سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ للطباخ أَيْن الرَّأْس قَالَ رميت بِهِ فَقَالَ وَلم قَالَ ظننتك لَا تَأْكُله قَالَ بئس مَا ظَنَنْت وَالله إِنِّي لأمقت من يَرْمِي برجليه فَكيف من يَرْمِي بِرَأْسِهِ وَالرَّأْس رَئِيس وَفِيه الْحَواس الْأَرْبَع وَمِنْه يَصِيح وَلَوْلَا صَوته لما فضل وَفِيه فرقة الَّذِي يتبرك بِهِ وَفِيه عَيناهُ اللَّتَان يضْرب بهما الْمثل فَيُقَال شراب كعين الديك ودماغه عجب لوجع الكليتين وَلم ير عظم قد أهش من عظم رَأسه أَو مَا علمت أَنه خير من طرف الْجنَاح وَمن السَّاق وَمن الْعُنُق فَإِن كَانَ قد بلغ من نبلك أَنَّك لَا تَأْكُله فَإنَّا نأكله فَانْظُر أَيْن هُوَ قَالَ لَا أَدْرِي وَالله أَيْن هُوَ رميت بِهِ قَالَ لكني أَدْرِي أَيْن هُوَ رميت بِهِ فِي بَطْنك فَالله حسيبك
وَحدث إِبْرَاهِيم بن الْمُدبر قَالَ لقِيت دعبل بن عَليّ فَقلت لَهُ أَنْت
أخبر النَّاس عِنْدِي وأقدمهم حَيْثُ تَقول يَعْنِي فِي حق الْمَأْمُون
(إِنِّي من الْقَوْم الذينَ سيوفهمْ
…
قتلتْ أخاكَ وشرَّفتكَ بمقعدِ)
(رفعوا مَحَلِّكَ بعد طول خُمولهِ
…
واستنقذوكَ من الحضيض الأوهدِ) // الْكَامِل //
فَقَالَ لي يَا أَبَا إِسْحَاق أَنا أحمل خشبتي مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة فَلَا أجد من يصلبني عَلَيْهَا بعد
وَبَات دعبل لَيْلَة عِنْد صديق لَهُ من أهل الشأم وَبَات عِنْدهم رجل من أهل بَيت لهيان يُقَال لَهُ حوي بن عَمْرو السكْسكِي وَكَانَ جميل الْوَجْه فدب إِلَيْهِ صَاحب الْبَيْت وَكَانَ شَيخا كَبِيرا فانيا أَتَى عَلَيْهِ حِين فَقَالَ لَهُ دعبل
(لَوْلَا حويٌّ لبيت لهيان
…
مَا قامَ أيرُ العزب الفاني)
(لهُ دَواةُ فِي سراويلهِ
…
يليقها النازحُ والداني) // السَّرِيع //
وشاع هَذَا البيتان فهرب حوي من ذَلِك الْبَلَد وَكَانَ الشَّيْخ إِذا رأى دعبلاً سبه وَقَالَ فضحتني أخزاك الله
وَحدث مُحَمَّد بن الْأَشْعَث قَالَ سَمِعت دعبلاً يَقُول مَا كَانَت لأحد عِنْدِي منَّة قطّ إِلَّا تمنيت مَوته
وَكَانَ دعبل قد مدح مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات فأنشده مَا قَالَه فِيهِ وَهُوَ جَالس وَفِي يَده طومار قد جعله على فِيهِ كالمتكئ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالس فَلَمَّا فرغ أَمر لَهُ بِشَيْء قَلِيل لم يرضه فَقَالَ
(يَا منْ يقبلُ طوماراً ويلثمهُ
…
مَاذَا بقلبكَ من حُبّ الطواميرِ)
(فِيهِ مَشَابهُ من شَيْء تُسَرُّ بهِ
…
طولا بطولٍ وتدويراً بتدويرِ)
(لَو كنتَ تجمعُ أَمْوَالًا كجمعكها
…
إِذا جمعتَ بُيُوتًا من دَنَانِير) // الْبَسِيط //
وَقَالَ دعبل فِي الْفضل بن مَرْوَان
(نصحت فأخلصت النصحية فِي الفضلِ
…
وقلتُ فسيرت الْمقَالة فِي الفضلِ)
(أَلا إنّ فِي الْفضل بن سهلٍ لعبرةً
…
إِذَا اعتبرَ الْفضل بن مروانَ بالفضلِ)
(وللفضلِ فِي الْفضل بن يحيى مواعظٌ
…
إِذا فكرَ الفضلُ بن مَرْوَان فِي الفضلِ)
(فأبْقِ جميلاً من حديثٍ تَفزْ بهِ
…
وَلَا تدعِ الإحسانَ والأخذَ بالفضلِ)
(فإنكَ قدْ أصبحتَ للملكِ قَيْماً
…
وصرتَ مَكَان الفضلِ والفضلِ والفضلِ)
(وَلم أرَ أبياتاً منَ الشعرِ قبلهَا
…
جميعُ قوافيها على الفضلِ والفضلِ)
(وليسَ لَهَا عيْبٌ إِذا هِيَ أنشدت
…
سوى أنَّ نصحي الفضلَ كَانَ من الْفضل) // الطَّوِيل //
فَبعث إِلَيْهِ الْفضل بِدَنَانِير وَقَالَ لَهُ قد قبلت نصيحتك فَاكْفِنِي خيرك وشرك
وَحدث مُحَمَّد بن حَاتِم الْمُؤَدب قَالَ فيل لِلْمَأْمُونِ إِن دعبلاً قد هجاك فَقَالَ وَأي عجب فِي هَذَا هُوَ يهجو أَبَا عباد فَلَا يهجوني أَنا وَمن أقدم على جُنُون أبي عباد أقدم على حلمي ثمَّ قَالَ لجلسائه من كَانَ فِيكُم يحفظ شعره فِي أبي عباد فلينشده فأنشده بَعضهم
(أولىَ الأمورِ بضيعةٍ وفسادِ
…
أمْرٌ يدبرُهُ أَبُو عبادِ)
(خرقٌ على جُلَسَائِهِ فكأنهمْ
…
حَضَرُوا لملحمة وَيَوْم جلادِ)
(يَسْطُو على كِتَابه بدواتهِ
…
فمضمخ بدمٍ ونضحِ مِدادِ)
(وَكَأَنَّهُ من دير هِرقل مفلت
…
خرد يجرُّ سلاسلَ الأقيادِ)
(فاشددْ أَميرَ الْمُؤمنِينَ وثاقهُ
…
فأصحُّ مِنْهُ بَقِيَّة الْحداد) // الْكَامِل //
قَالَ وَكَانَ بَقِيَّة هَذَا مَجْنُونا فِي المارستان فَضَحِك الْمَأْمُون وَكَانَ إِذا
نظر إِلَى أبي عباد يضْحك وَيَقُول لمن يقرب مِنْهُ وَالله مَا كذب دعبلٌ فِي قَوْله
وَحدث أَبُو نَاجِية قَالَ كَانَ المعتصم يبغض دعبلاً لطول لِسَانه وَبلغ دعبلاً أَنه يُرِيد اغتياله وَقَتله فهرب إِلَى الْجَبَل وَقَالَ يهجوه
(بَكَى لشتات الدّين مكتئبٌ صبٌّ
…
وفاضَ بفرط الدمعِ من عينهِ غَرْبُ)
(وقامَ إمامٌ لم يكنْ ذَا هدايةٍ
…
فليسَ لَهُ دينٌ وَلَيْسَ لهُ لبُّ)
(وَمَا كَانَت الأنباءُ تَأتي بمثلهِ
…
يُمَلَّكُ يَوْمًا أَو تدينُ لَهُ العُرْبُ)
(وَلَكِن كَمَا قَالَ الَّذين تتابعوا
…
من السّلف الْمَاضِي إِذا عظم الْخطب)
(ملوكُ بني العباسِ فِي الْكتب سبعةٌ
…
وَلم تأتيا عَن ثامنٍ لهمُ كتبُ)
(كذلكَ أهلُ الْكَهْف فِي العدّ سبعةٌ
…
خيارٌ إِذا عُدُّوا وثامنهم كلبُ)
(وَإِنِّي لأُعْلِي كلبهمْ عنكَ رفْعَة
…
لأنكَ ذُو ذنبٍ وليسَ لهُ ذَنبُ)
(لقد ضَاعَ ملكُ النَّاس إِذْ سَاس ملكهمْ
…
وصيفٌ وأشناسٌ وَقد عظم الكربُ)
(وفضلُ بنُ مَرْوان سيثلمُ ثلمةً
…
يظلّ لَهَا الإسلامُ ليسَ لهُ شعب) // الطَّوِيل //
وَلما مَاتَ المعتصم قَالَ ابْن الزيات يرثيه
(قد قلت إِذْ غيبوه وَانْصَرفُوا
…
فِي خير قبرٍ لخير مدفونِ)
(لنْ يجْبر الله أُمة فقدَتْ
…
مثلك إِلَّا بِمثل هرون) // المنسرح //
فَقَالَ دعبل يُعَارضهُ
(قد قلت إِذْ غيبوه وَانْصَرفُوا
…
فِي شرّ قَبرٍ لشرِّ مدفونِ)
(اذهبْ إِلَى النَّار وَالْعَذَاب فَما
…
خلتكَ إِلَّا من الشياطينِ)
(مَا زلتُ حَتَّى عقَدْتَ بيعةَ منْ
…
أضَرَّ بِالْمُسْلِمين وَالدّين) // المنسرح //
وَحدث مُحَمَّد بن جريرٍ قَالَ أَنْشدني عبد الله بن يَعْقُوب هَذَا الْبَيْت وَحده لدعبل يهجو بِهِ المتَوَكل وَمَا سَمِعت لَهُ غَيره فِيهِ
(ولستُ بقائلٍ بدعا ولكنْ
…
لأمرٍ مَا تعبدك العبيد) // الوافر //
قَالَ يرميه فِي هَذَا الْبَيْت بالأبنة
وَحدث مُحَمَّد بن جرير قَالَ كنت مَعَ دعبل بالصيمرة وَقد جَاءَنَا نعي المعتصم وَقيام الواثق فَقَالَ لي دعبل أَمَعَك مَا تكْتب فِيهِ قلت نعم فأخرجت قرطاساً فأملى عَليّ بديها
(الْحَمد لله لَا صبرٌ وَلَا جلدُ
…
وَلَا عزاءٌ إِذا أهلُ البلا رقدُوا)
(خليفةٌ ماتَ لم يحزن لَهُ أحد
…
وَآخر قامَ لم يفرح بِهِ أحدُ) // الْبَسِيط //
وَكَانَ الْمَأْمُون قد تطلب دعبلاً وجد فِي ذَلِك وَهُوَ طَائِر على وَجهه حَتَّى دس إِلَيْهِ قَوْله
(علم وتحكيمٌ وشيب مَفَارق
…
تطميسُ ريعان الشَّبَاب الرائقِ)
(وإمارةٌ فِي دولةٍ ميمونةٍ
…
كَانَت على اللَّذَّات أَشغبَ عائقِ)
(نَعَوُا ابْن شكلةَ بالعراقِ وأهلهِ
…
فَهَفَا إِلَيْهِ كلُّ أخرَقَ مائِق)
(أَنى يكونُ وَلَا يكونُ وَلم يكنْ
…
يرثُ الخلافةَ فاسقٌ عَن فاسقِ)
(إِن كَانَ إِبْرَاهِيم مضطلعاً بهَا
…
فلتصلُحَنْ من بعده الْمخَارِق) // الْكَامِل //
وَلما قَرَأَهَا الْمَأْمُون ضحك وَقَالَ قد صفحت عَن كل مَا هجانا بِهِ إِذْ قرن إِبْرَاهِيم بمخارق فِي الْخلَافَة وولاه عَهده ثمَّ إِنَّه كتب إِلَى دعبل أَمَانًا فَلَمَّا دخل وَسلم عَلَيْهِ تَبَسم فِي وَجهه وَقَالَ أَنْشدني
(مدارسُ آيَات خلت من تلاوةِ
…
)
فجزع فَقَالَ لَهُ لَك الْأمان فَلَا تخف وَقد رويتها وَلَكِنِّي أحب سماعهَا من فِيك فأنشده إِيَّاهَا إِلَى آخرهَا والمأمون يبكي حَتَّى اخضلت لحيته بدمعه ثمَّ إِنَّه أحسن إِلَيْهِ وانسر بِهِ حَتَّى كَانَ أول دَاخل إِلَيْهِ وَآخر خَارج من عِنْده ثمَّ عَاد إِلَى خباثته وشاعت لَهُ أَبْيَات بعْدهَا أَيْضا يهجو بهَا الْمَأْمُون
وَحدث دعبل قَالَ دخلت على عَليّ بن مُوسَى الرضي فَقَالَ أَنْشدني مِمَّا أحدثت فَأَنْشَدته
(مدارس آيَات خلت مِنْ تِلَاوَةٍ
…
ومنْزلُ وحْيٍ مُقْفرُ العَرَصاتِ) // الطَّوِيل //
حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى قولي فِيهَا
(إِذا وُتِرُوا مَدُّوا إِلَى واتِريهِمُ
…
أكُفّاً عَن الأوْتَارِ مُنقَبِضَاتِ)
قَالَ فَبكى عِنْده حَتَّى أُغمي عَلَيْهِ فَأَوْمأ إِلَى خَادِم كَانَ على رَأسه أَن أسكت فَسكت فَمَكثَ سَاعَة ثمَّ قَالَ لي عد فَأَعَدْت حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى هَذَا الْبَيْت فَأَصَابَهُ مثل الَّذِي أَصَابَهُ فِي الْمرة الأولى وَأَوْمَأَ الْخَادِم أَيْضا إِلَيّ أَن أسكت فَسكت ثمَّ مكث سَاعَة أُخْرَى ثمَّ قَالَ لي أعد فَأَعَدْت حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى آخرهَا فَقَالَ أَحْسَنت أَحْسَنت ثَلَاث مَرَّات ثمَّ أَمر لي بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم مِمَّا ضرب باسمه وَلم تكن دفعت إِلَى أحد بعد وَأمر لي من فِي منزله بحلى كثير أخرجه إِلَى الْخَادِم فَقدمت الْعرَاق فَبِعْت كل دِرْهَم مِنْهَا بِعشْرَة اشْتَرَاهَا مني الشِّيعَة فَحصل لي مائَة ألف دِرْهَم فَكَانَ أول مَال اعتقدته
ثمَّ إِن دعبلا استوهب من عَليّ بن مُوسَى الرضي رضي الله عنهما ثوبا قد لبسه ليجعله فِي أَكْفَانه فَخلع جُبَّة كَانَت عَلَيْهِ فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا وَبلغ أهل قُم خَبَرهَا فَسَأَلُوهُ أَن يبيعهم إِيَّاهَا بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم فَلم يفعل فَخَرجُوا عَلَيْهِ فِي طَرِيقه فَأَخَذُوهَا غصبا وَقَالُوا لَهُ إِن شِئْت أَن تَأْخُذ المَال فافعل وَإِلَّا فَأَنت أعلم فَقَالَ لَهُم إِنِّي وَالله لَا أُعْطِيكُم إِيَّاهَا طَوْعًا وَلَا تنفعكم غصبا وأشكوكم إِلَى الرضي فَصَالَحُوهُ على أَن أَعْطوهُ ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم وفردكم من بطانتها فَرضِي بذلك
وَحدث دعبل قَالَ لما هربت من الْخَلِيفَة بت لَيْلَة بنيسابور وحدي وعزمت على أَن أعمل قصيدة فِي عبد الله بن طَاهِر فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فَإِنِّي لفي ذَلِك إِذْ سَمِعت وَالْبَاب مَرْدُود عَليّ قَائِلا يَقُول السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أَأَلِجُ يَرْحَمك الله فاقشعر بدني من ذَلِك ونالني أَمر عَظِيم فَقَالَ لي لَا ترع فَإِنِّي رجل من إخوانك من الْجِنّ من سَاكِني الْيمن طَرَأَ علينا طَارِئ من أهل الْعرَاق فأنشدنا قصيدتك مدارس آيَات
…
إِلَى آخرهَا فَأَحْبَبْت أَن أسمعها مِنْك
قَالَ فَأَنْشَدته إِيَّاهَا فَبكى حَتَّى خر ثمَّ قَالَ يَرْحَمك الله أَلا أحَدثك بِحَدِيث فِي نيتك ويعينك على التَّمَسُّك بمذهبك قلت بلَى قَالَ مكثت حينا أسمع بِجَعْفَر بن مُحَمَّد رحمهمَا الله تَعَالَى فصرت إِلَى الْمَدِينَة المنورة فَسَمعته يَقُول حَدثنِي أبي عَن أَبِيه عَن جده رضي الله عنهم أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ (على وشيعته هم الفائزون) ثمَّ وَدعنِي لينصرف فَقلت يَرْحَمك الله إِن رَأَيْت أَن تُخبرنِي بِاسْمِك فافعل قَالَ أَنا ظبْيَان بن عَامر
وَحدث إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي قَالَ بُويِعَ إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي بِبَغْدَاد وَقد قل المَال عِنْده وَكَانَ قد لَجأ إِلَيْهِ أَعْرَاب من أَعْرَاب السوَاد وَغَيرهم من أوباش النَّاس وأوغادهم فاحتبس عَلَيْهِم الْعَطاء فَجعل إِبْرَاهِيم يسوفهم وهم لَا يرَوْنَ لوعده حَقِيقَة إِلَى أَن خرج رَسُوله إِلَيْهِم يَوْمًا وَقد اجْتَمعُوا وضجوا فَصرحَ إِلَيْهِم بِأَنَّهُ لَا مَال عِنْده فَقَالَ قوم من غوغاء أهل بَغْدَاد أخرجُوا إِلَيْنَا خليفتنا ليقي أهل هَذَا الْجَانِب ثَلَاثَة أصوات فَتكون عطاءهم وَلأَهل هَذَا الْجَانِب مثلهَا قَالَ إِسْحَاق فأنشدني دعبل بعد أَيَّام
(يَا مَعْشَر الأجْنَادِ لَا تَقْنَطُوا
…
وارّضوْا بمَا كاَن وَلَا تَسْخَطُوا)
(فَسَوْفَ تُعْطَونَ حنينية
…
يَلْتذَها الأمْرَدُ وَالأشْمَطُ)
(والمَعْبَدِيّاتُ لِقُوّادِكُمْ
…
لَا تَدْخُلُ الكِيسَ وَلَا تُرْبَطُ)
(وهَكَذَا يرزُقُ قُوَّادَه
…
خليفَةٌ مُصْحَفه البربط) // السَّرِيع //
وَدخل عبد الله بن طَاهِر على الْمَأْمُون فَقَالَ لَهُ أَي شَيْء تحفظ يَا عبد الله لدعبل قَالَ أحفظ أبياتاً لَهُ فِي أهل بَيت أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ هَاتِهَا فأنشده عبد الله قَوْله
(سقيا ورَعْياً لأيّام الصِّبَاباتِ
…
أيامَ أرفُلُ فِي أثْوَاب لَذَّاتي)
(أَيَّام غُصني رَطيبٌ مِنْ ليانتهِ
…
أصْبُو إِلَى غيْرِ جارَاتٍ وكنّاتِ)
(دعْ عنْكَ ذكر زمَانٍ فاتَ مطْلَبه
…
واقْذِف برجْلِكَ عَنْ متن الجَهَالَاتِ)
(واقْصِدْ بِكلِّ مديح أنْتَ قائِلهُ
…
نَحْوَ الهُدَاةِ بني بَيْتِ الكرامات) // الْبَسِيط //
فَقَالَ الْمَأْمُون إِنَّه وجد وَالله مقَالا فَقَالَ ونال بِبَعِيد ذكراهم مَا لَا يَنَالهُ فِي وصف غَيرهم ثمَّ قَالَ الْمَأْمُون لقد أحسن فِي وصف سفر سافره فطال ذَلِك السّفر عَلَيْهِ فَقَالَ فِيهِ
(ألم يأنِ لِلسّفْر الذِّينَ تَحَمّلوا
…
إِلَى وطَنٍ قبْلَ المَماتِ رُجُوعُ)
(فَقُلْتُ ولمْ أملك سوابق عِبْرَة
…
نَطَقْنَ بمَا ضُمّتْ عَلَيْه ضلُوعُ)
(تَبَّين فكَمْ دارٍ تَفَرَّقَ شَمْلُها
…
وَشَمْلٍ شَتيتٍ عادَ وهْوَ جمِيعُ)
(كَذَاك اللَّيَالي صَرْفُهُنّ كَمَا تَرَى
…
لِكلِّ أُناسِ جَدْبَةٌ وَرَبيعُ) // الطَّوِيل //
ثمَّ قَالَ الْمَأْمُون مَا سَافَرت قطّ إِلَّا كَانَت هَذِه الأبيات نصب عَيْني وهجيراى ومسليتي حَتَّى أَعُود
وَمن شعره يهجو
(رُفعَ الكلْبُ فاتَضَعْ
…
لَيْسَ فِي الكلبِ مُصطَنعْ)
(بَلَغَ الغايَةَ الَّتي
…
دُونَهَا كلُّ مَا ارْتفَعْ)
(إِنما قصر كل شَيْء
…
إِذا طَارَ أنْ يَقَعْ)
(لَعَنَ اللهُ نَخْوَةً
…
صارَ مِنْ بعْدهَا ضرع) // من مجزوء الْخَفِيف //
وَمن شعره يهجو أَيْضا
(سمت المَدِيحَ رجَالًا دون مَالهم
…
رَدٌّ قَبيحٌ وقَوْلٌ لَيْسَ بالحَسَن)
(فَلم أفُزْ مِنْهُم إِلَّا بمَا حَمَلتْ
…
رِجْلُ البَعُوضةِ مِنْ فَخَّاَرة اللَّبن) // الْبَسِيط //
وَمِنْه قَوْله فِيمَن استشفع بِهِ فِي حَاجَة فَاحْتَاجَ إِلَى شَفِيع يشفع لَهُ
(يَا عَجَباً لِلْمرتَجِي فَضْلَهُ
…
لَقَدْ رَجا مَا لَيْسَ بالنْافع)
(جئْنا بِهِ يَشْفَعُ فِي حَاجَة
…
فَاحْتَاجَ فِي الأذنِ إِلَى شَافِع) // السَّرِيع //
وَحدث دعبل قَالَ خرجت إِلَى الْجَبَل هَارِبا من المعتصم فَكنت أَسِير فِي بعض طريقي والمكاري يَسُوق بِي بغلاً تحتي وَقد أتعبني تعباً شَدِيدا فتغني المكاري بِقَوْلِي
(لَا تعجبي يَا سلم من رجل
…
ضحك المشيب بِرَأْسِهِ فَبكى) // الْكَامِل //
فَقلت لَهُ وَأَنا أُرِيد أَن أَتَقَرَّب إِلَيْهِ ليكف مَا يَسْتَعْمِلهُ من الْحَث للبغل لِئَلَّا يتعبني تعرف لمن هَذَا الشّعْر يَا فَتى قَالَ لمن ناك أمه وَغرم دِرْهَمَيْنِ فَمَا أَدْرِي من أَي أُمُوره أعجب أَمن هَذَا الْجَواب أم من قلَّة الْغرم على عظم الْجِنَايَة
وَحدث على بن عبد الله بن مسْعدَة قَالَ قَالَ لي دعبل وَقد أنشدته قصيدة بكر بن خَارِجَة فِي عِيسَى بن الْبَراء النَّصْرَانِي
(زُنَّارُه فِي خَصْرِهِ مَعقُود
…
كَأَنَّهُ مِنْ كَبِدِي مقدود) // الرجز //
وَالله مَا أعلم أَنِّي حسدت أحدا كَمَا حسدت بكرا على قَوْله كَأَنَّهُ من كَبِدِي مقدود وَكَانَ بكر هَذَا وراقاً ضيقا عيشه معاقراً للشراب فِي منَازِل الخمارين وحاناتهم وَكَانَ طيب الشّعْر مليحاً مطبوعاً حسنا مَاجِنًا خليعاً وَكَانَت الْخمْرَة قد أفسدت عقله فِي آخر عمره فَصَارَ يهجو ويمدح بالدرهم وَالدِّرْهَمَيْنِ وَنَحْو هَذَا فاطرح
وَحدث بعض الْكُوفِيّين قَالَ حَضَرنَا دَعْوَة ليحيى بن أبي يُوسُف القَاضِي وبتنا عِنْده ونمت فَمَا أنبهني إِلَّا صياح بكر يستغيث من الْعَطش فَقلت لَهُ مَالك قُم فَاشْرَبْ فالدار ملأى مَاء قَالَ أَخَاف قلت من أَي شَيْء قَالَ فِي الدَّار
كلب كَبِير فَأَخَاف أَن يظنني غزالاً فيثب عَليّ ويقطعني ويأكلني فَقلت لَهُ خرب الله بَيْتك أَنْت وَالله بالخنازير أشبه مِنْك بالغزلان قُم فَاشْرَبْ إِن كنت عطشانا وَأَنت آمن وَكَانَ عقله قد فسد من كَثْرَة الشّرْب
وَحدث أَحْمد بن عُثْمَان الطَّبَرِيّ قَالَ سَمِعت دعبل بن عَليّ يَقُول لما هاجيت أَبَا سعد المَخْزُومِي أخذت معي جوزاً ودعوت الصّبيان فأعطيتهم مِنْهُ وَقلت لَهُم صيحوا بِهِ قائلين
(يَا أَبَا سَعد قوصره
…
زاني الأخْتِ والمَرَهْ)
(لَو ترَاهُ مجيباً
…
خِلْتَهُ عقْدَ قَنْطرَهْ)
(أَو تَرَى الأير فِي استِهِ
…
قلت سَاق بمقطره) // من مجزوء الْخَفِيف //
فصاحوا بِهِ فغلبته
وَلأبي سعد المخزمي يهجو دعبلاً وَكَانَ قد دَعَاهُ إِلَى بَيته وأضافه
(لدعْبلٍ مِنّةٌ يَمُنُّ بهَا
…
فَلسْتُ حَتَّى الْمَمَات أَنْسَاهَا)
(أدخلنا بَيْتَهُ فَأَكْرَمَنَا
…
ودَسّ امْرَأَته فنكناها) // المنسرح //
وَحدث أَبُو سعد المَخْزُومِي واسْمه عِيسَى بن خَالِد الْوَلِيد قَالَ أنشدت الْمَأْمُون قصيدتي الدالية الَّتِي رددت فِيهَا على دعبل قَوْله
(ويَسومني المأمونُ خُطّة عَاجز
…
أَو مَا رأى بالْأَمْس رأسَ مُحَمَّد) // الْكَامِل //
وَأول قصيدتي
(أخَذَ َالمَشيبُ من الشَّبَاب الأغيد
…
والنَّائِباتُ من الْأَنَام بِمرْصَدِ) // الْكَامِل //
ثمَّ قلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ائْذَنْ لي أَن أجيئك بِرَأْسِهِ فَقَالَ لَا هَذَا رجل قد فَخر علينا فافخر عَلَيْهِ كَمَا فَخر علينا فَأَما قَتله فَلَا حجَّة فِيهِ
وَكَانَ الرشيد قد غنى بقول دعبل
(لَا تعجبي يَا سلم من رجل
…
... . الأبيات)
فطرب لَهَا وَسَأَلَ عَن قَائِلهَا فَقيل لدعبل غُلَام نَشأ من خُزَاعَة فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وخلعة من ثِيَابه ومركب من مراكبه وجهز لَهُ ذَلِك مَعَ خَادِم من خدمه إِلَى خُزَاعَة فَأعْطَاهُ الْجَائِزَة وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ وَسلم أمره بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ واستنشده الشّعْر فأنشده إِيَّاه فَاسْتَحْسَنَهُ وَأمره بملازمته وأجرى عَلَيْهِ رزقا سنياً فَكَانَ أول من حرضه على قَول الشّعْر ثمَّ إِنَّه مَا بلغه أَن أَن الرشيد مَاتَ حَتَّى كافأه على فعله بأقبح مُكَافَأَة وَقَالَ فِيهِ من قصيدة مدح بهَا أهل الْبَيْت رضي الله عنهم وهجا الرشيد
(وليْسَ حيٌّ من الْأَحْيَاء نَعلمه
…
من ذِي يَمانٍ وَلَا بكرٍ وَلَا مُضَرِ)
(إِلَّا وهم شُرَكَاء فِي دِمَائِهِمْ
…
كَمَا تشارك أيسارٌ على جُزُر)
(قتلٌ وأسْرٌ وتحريقٌ ومنهبة
…
فعلُ الْغُزَاة بِأَرْض الرّوم والخَزَرِ)
(أرى أُمية مَعذُورين إِن قتلوا
…
وَلَا أرَى لبني العَباس من عُذُرِ)
(أرْبع بطوس على القبْر الزِكي إِذا
…
مَا كنْتَ تربع من دير إِلَى وطر)
(قبْران فِي طوس خيرُ النَّاس كلهم
…
وقبر شرَّهم هَذَا من العِبَر)
(مَا ينفعُ الرِّجس من قرب الزكى وَلَا
…
على الزكى بِقرب الرِّجس من ضَرَر)
(هَيْهَات كل امرىء رَهْنٌ بِمَا كسبت
…
لَهُ يَدَاهُ فخُذْ مَا شِئْت أَو فذر) // الْبَسِيط //
يَعْنِي قبر الرشيد وقبر مُوسَى الكاظم ولعمري لقد هَذَا هَذَا ولنفسه ظلم وآذى
وَحدث أَبُو حَفْص النَّحْوِيّ مؤدب آل طَاهِر قَالَ دخل دعبل على عبد الله بن طَاهِر فأنشده وَهُوَ بِبَغْدَاد
(جئتُ بِلَا حُرْمةٍ ولَا سَبَب
…
إِلَيْك إِلَّا بحُرْمة الْأَدَب)
(فاقْضِ ذِمَامِي فإنني رَجُلٌ
…
غيرُ مُلِحٍّ عَلَيْك فِي الطلبِ) // المنسرح //
قَالَ فانتقل عبد الله وَدخل إِلَى الْحرم وَوجه إِلَيْهِ بصرة فِيهَا ألف دِرْهَم وَكتب إِلَيْهِ مَعهَا
(أعجلْتَنا فأتاك عاجلُ برنا
…
ولَو انتَظَرْتَ كثيرَهُ لم يقلل)
(فخُذِ القليلَ وَكن كأنّكَ لم تسل
…
ونكُون نحْنُ كأننا لم نَفْعل) // الْكَامِل //
وَكَانَ دعبل قد قصد مَالك بن طوق ومدحه فَلم يرض ثَوَابه فَخرج عَنهُ وَقَالَ فِيهِ
(إنّ ابنَ طوْق وَبني تغلب
…
لَو قُتلوا أَو جُرِحُوا قصره)
(لم يَأْخُذُوا من دِيَة درْهما
…
يَوْمًا وَلَا من أرْشِهِمْ بعْرَهْ)
(دِمَاؤُهُمْ لَيْسَ لَهَا طالبٌ
…
مطلولة مِثْل دم العذره)
(وجوهُهُم بيضٌ وأحسابهُمْ
…
سودٌ وَفِي آذانهمْ صفره) // السَّرِيع //
وَقَالَ فِيهِ أَيْضا
(سَأَلت عَنْكُم يَا بني مَالك
…
فِي نازح الأرْضِينَ والدانيه)
(طرّاً فَلم نَعْرِف لكم نِسْبَة
…
حَتَّى إِذا قلتُ بني الزّانيهْ)
(قَالُوا فَدعْ دَارا على يمنةٍ
…
وَتلك هادارهم ثَانِيَة) // السَّرِيع //
فبلغت الأبيات مَالِكًا فَطَلَبه فهرب فَأتى الْبَصْرَة وَعَلَيْهَا إِسْحَاق بن الْعَبَّاس ابْن مُحَمَّد بن عَليّ العباسي وَكَانَ قد بلغه هجاء دعبل وَعبد الله بن عُيَيْنَة نزاراً فَأَما ابْن عُيَيْنَة فَإِنَّهُ هرب مِنْهُ فَلم يظْهر بِالْبَصْرَةِ طول أَيَّامه وَأما دعبل فَإِنَّهُ حِين دخل الْبَصْرَة بعث إِلَيْهِ فَقبض عَلَيْهِ ودعا بالنطع وَالسيف ليضْرب عُنُقه فَحلف
بِالطَّلَاق على جَحدهَا وَبِكُل يَمِين تبرىء من الدَّم أَنه لم يقلها وَأَن عدوا لَهُ قَالَهَا إِمَّا أَبُو سعد المَخْزُومِي أَو غَيره ونسبها إِلَيْهِ ليغري بدمه وَجعل يتَضَرَّع إِلَيْهِ وَيقبل الأَرْض ويبكي بَين يَدَيْهِ فرق لَهُ فَقَالَ أما إِذا أعفيتك من الْقَتْل فَلَا بُد أَن أشهرك ثمَّ دَعَا لَهُ بِالْعِصِيِّ فَضَربهُ حَتَّى سلخ وَأمر بِهِ فألقي على قَفاهُ وَفتح فَمه فَرد سلحه فِيهِ والمقارع تَأْخُذ رجلَيْهِ وَهُوَ يحلف أَن لَا يكف عَنهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه ويبلعه أَو يقْتله فَمَا رفعت عَنهُ حَتَّى بلع سلحه كُله ثمَّ خلاه فهرب إِلَى الأهواز وَبعث مَالك بن طوق رجلا حصيفاً مقداماً وَأَعْطَاهُ سما وَأمره أَن يغتاله كَيفَ شَاءَ وَأَعْطَاهُ على ذَلِك عشرَة آلَاف دِرْهَم فَلم يزل يَطْلُبهُ حَتَّى وجده فِي قَرْيَة من نواحي السوس فاغتاله فِي وَقت من الْأَوْقَات بعد صَلَاة الْعَتَمَة فَضرب ظهر قدمه بعكاز لَهَا زج مَسْمُوم فَمَاتَ من الْغَد وَدفن بِتِلْكَ الْقرْيَة وَقيل بل حمل إِلَى السوس فَدفن فِيهَا
وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة ووفاته فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ
وَلما مَاتَ وَكَانَ صديق البحتري وَكَانَ أَبُو تَمام قد مَاتَ قبله رثاهما البحتري بقوله
(قدْ زادَ فِي كلفي وأوقدَ لوعتي
…
مَثْوَى حبيب يَوْم مَاتَ ودعبلِ)
(أخويّ لَا تزلِ السَّمَاء مخيلةَ
…
تغشاكما بسماء مزنٍ مُسْبلِ)
(جدثٌ على الأهواز يبعدُ دُونهُ
…
مسرَى النعيِّ ورمة بالموصل) // الْكَامِل //
ودعبل بِكَسْر الدَّال وَسُكُون الْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة
116 -
(مَا أحسن الدينَ والدُّنيا إِذا اجْتمعَا
…
وأقبح الْكفْر والأفْلَاسَ بالرَّجُلِ)
الْبَيْت من الْبَسِيط ويعزى لأبي دلامة
يحْكى أَن أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور سَالَ أَبَا دلامة عَن أشعر بَيت قالته الْعَرَب فِي الْمُقَابلَة فَقَالَ بَيت يلْعَب بِهِ الصّبيان قَالَ وَمَا هُوَ على ذَاك قَالَ قَول الشَّاعِر وأنشده الْبَيْت
قَالَ ابْن أبي الْأصْبع لَا خلاف فِي أَنه لم يقل قبله مثله فَإِنَّهُ قَابل بَين أحسن وأقبح وَالدّين وَالْكفْر وَالدُّنْيَا والأفلاس وَهُوَ من مُقَابلَة ثَلَاثَة بِثَلَاثَة وَكلما كثر عدد الْمُقَابلَة كَانَت أبلغ
وَأحسن من بَيت أبي دلامة قَول المتنبي
(فَلَا الجودُ يفني المالَ والجدّ مقبلٌ
…
وَلَا البخلُ يبقي المالَ والجدُّ مدبرِ) // الطَّوِيل //
وَمن الْمُقَابلَة قَول النَّابِغَة الْجَعْدِي
(فَتى تمّ فِيهِ مَا يَسْرُّ صديقَهُ
…
على أَن فِيهِ مَا يسوء الأعاديا) // الطَّوِيل //
وَقَول الفرزدق
(وَإِنَّا لنمضي بالأكف رماحنَا
…
إِذَا أُرعشتْ أَيْدِيكُم بالمعالق) // الطَّوِيل //
وَقَول عبد الله بن الزبير الْأَسدي
(فردّ شعورهنّ السودَ بيضًا
…
وَرَدّ وُجوههن الْبيض سُودًا) // الوافر //
وَقَول لأبي تَمام
(يَا أُمةً كَانَ قبحُ الْجور يسخطها
…
دَهراً فَأصْبح حسنُ الْعدْل يرضيها) // الْبَسِيط //
وَقَول البحتري
(فإِذا حَاربُوا أذلُّوا عَزِيزًا
…
وإِذَا سالموا أعزوا ذليلا) // الْخَفِيف //
وَقَول يزِيد بن مُحَمَّد المهلبي لِسُلَيْمَان بن وهب
(فمنْ كانَ للآثامِ والذُلِّ أرضهُ
…
فأرضكمُ للأجرِ والعزِّ مَعْقِلُ) // الطَّوِيل //
وَقَول الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف
(اليومُ مِثلُ الحولِ حَتَّى أرَى
…
وَجهكَ والساعة كالشهر) // السَّرِيع //
لِأَن السَّاعَة من الْيَوْم كالشهر من الْحول جُزْء من اثْنَي عشر
ولمؤلفه من أَبْيَات
(لَو كَانَ ذَا الكاشحُ فِي بلدتي
…
لم يستطعْ يُوِمضُنِي وَمْضاً)
(وكنتُ فِي العزِّ سماءَ لهُ
…
وكانَ لي مِنْ ذلة أَرضًا) // السَّرِيع //
وحسنٌ فِي الْمُقَابلَة قَول الشريف الموسوي
(ومنظرٍ كانَ بالسَّرَّاء يضحكُنِي
…
يَا قربَ مَا عادَ بالضرَّاء يبكيني) // الْبَسِيط //
وَقَول أبي عبد الله الغواص
(جَهْلُ الرئيسِ وحقّ الله يضحكنُا
…
وفعلهُ وإلهِ الناسِ يبُكينَا) // الْبَسِيط //
وَقَول ابْن شمس الْخلَافَة
(طالتِ الشّقوَةُ للمرْءِ إذَا
…
قَصُرَ الرزقُ وَطَالَ الْعُمر) // الرمل //
وَقَول السّري الرفاء
(وَصَاحب يقدَحُ لِي
…
نارَ السرُورِ بالقدَح)
(فِي رَوْضَة قد لبستْ
…
منْ لُؤْلُؤ الطلّ سبحْ)
(والجَوُّ فِي مُمسَّكٍ
…
طرازُهُ قوسُ قزَحْ)
(يبكي بِلَا حزنٍ كمَا
…
يضْحك من غير فَرح) // من مجزوء الرجز //
وَقَوله وَقد شرب لَيْلَة فِي زورق
(ومعتدلٍ يسْعَى إليَّ بكأسهِ
…
وَقد كادَ ضوءُ الصُّبْح بِاللَّيْلِ يفتكُ)
(وَقد حجبَ الغيمُ السَّمَاء كَأَنَّمَا
…
يُزَرُّ عَلَيْهَا منهُ ثوبٌ ممسّكُ)
(ظَلِلنا نبثُّ فِي الوجدَ والكأسُ دائرٌ
…
ونهتكُ أَسْتَار الْهوى فتهتَّكُ)
(ومجلسنا فِي المَاء يهوى ويَرْتقى
…
وإبرِيقنا فِي الكأس يبكي ويضحك) // الطَّوِيل //
وَقَول التمتام الْحداد الْمصْرِيّ
(أَما ترى الغيثَ كلما ضحكتْ
…
كمائمُ الزهرِ فِي الرياض بكىَ)
(كالحبّ يبكي لديهِ عاشقهُ
…
وَكلما فاضَ دَمعهُ ضحكَا) // المنسرح //
وَمَا أحسن قَول الأرجاني وأرشقه
(شبتُ أَنا والتَحى حبيبِي
…
حَتَّى برغمي سلوتُ عنهُ)
(وابيضّ ذَاكَ السوادُ مني
…
واسودّ ذَاكَ البياضُ مِنْهُ) // من مخلع الْبَسِيط //
وَمَا أصفى قَول الصفي الْحلِيّ
(مليحُ يغيرُ الغصنَ عِنْد اهتزازهِ
…
ويخجلُ بدرَ التمِّ عندَ شُروقهِ)
(فَمَا فيهِ معنى ناقصٌ غيرُ خَصرهِ
…
وَلَا فيهِ شيءٌ باردٌ غيرُ رِيقه) // الطَّوِيل //
وَمَا أشرق قَول الشَّمْس التلمساني
(فكم يتجافى خصرُه وَهُوَ ناحلٌ
…
وَكم يتحالى ريقهُ وَهُوَ باردُ)
(وَكم يَدعِي صَوتا وهذِي جفونهُ
…
بفَتْرتها للعاشقين تواعد) // الطَّوِيل //
وَمن مُقَابلَة خَمْسَة بِخَمْسَة قَول المتنبي
(أزُورُهم وسوادُ اللَّيْل يشفعُ لي
…
وأنثني وَبَيَاض الصُّبْح يغري بِي) // الْبَسِيط //
وَقد أَخذه بَعضهم أخذا مليحاً فَقَالَ
(أقلى النهارَ إِذا أَضَاء صَاحبه
…
وأظَلُّ أنْتَظر الظلامَ الدامسَا)
(فالصبح يَشْمت بِي فيقبلُ ضَاحِكا
…
والليلُ يَرثي لي فيدير عَابِسا) // الْكَامِل //
والمتنبي أَخذ معنى بَيته من مصراع بَيت لِابْنِ المعتز وَهُوَ قَوْله
(لَا تلقَ إِلَّا بليلٍ مَنْ تواعدُهُ
…
فالشمسُ نَمَّامةٌ والليلُ قواد) // الْبَسِيط //
إِلَّا أَن ابْن المعتز هجن هَذَا الْمَعْنى بِذكر نمامة وقواد وَأَبُو الطّيب سبكه أحسن سبك وأبدعه فَصَارَ أَحَق بِهِ مِنْهُ
وَقَالَ عبد الله بن خَمِيس من شعراء المغاربة
(باتتْ لَهُ الْأَهْوَاء أدهم سَابِقًا
…
وغدَتْ بِهِ الأيامُ أشهبَ كابي) // الْكَامِل //
فَأحْسن مَا شَاءَ لمقابلته الأدهم بالأشهب والسبق بالكابي على أَنه مَأْخُوذ من قَول ذِي الوزارتين أبي عبد الله بن أبي الْخِصَال رَحمَه الله تَعَالَى
(وَقد كنتُ أسرى فِي الظلام بأدهم
…
فها أَنا أغدو فِي الصبَاح بأشهَبِ) // الطَّوِيل //
وَفِي بَيت كل مِنْهُمَا زِيَادَة على الآخر
وَمن مُقَابلَة سِتَّة بِسِتَّة مَا أوردهُ الصاحب شرف الدّين مُسْتَوْفِي إربل وَهُوَ
(على رَأس عبدٍ تاجُ عِزٍّ يزينهُ
…
وَفِي رِجْلِ حرّ قيد ذُلٍّ يَشينهُ) // الطَّوِيل //
حكى غرس الدّين الأربلي أَن الصاحب الْمَذْكُور لما أنْشد لغيره هَذَا الْبَيْت قَالَ هُوَ بديهاً
(تسر لئيماً مكرماتٌ تزينهُ
…
وتبكي كَرِيمًا حادثات تهينه) // الطَّوِيل //
وَمن مُقَابلَة خَمْسَة بِخَمْسَة قَول الْقَائِل فِي ذِي أبنة
(يَأْتِي إِلَى الْأَحْرَار يجلسُ فوقهمْ
…
وينامُ من تَحت العبيد ويوتى) // الْكَامِل //
وَمن مُقَابلَة خَمْسَة بِخَمْسَة قَول النميري الغرناطي
(هنّ البدُورُ تغيرتْ لما رأتْ
…
شعرَاتِ رَأْسِي آذنَتْ بتغيرِ)
(رَاحت تحبُّ دُجى شباب مظلم
…
وغدَتْ تعاف ضحى مشيب نير) // الْكَامِل //
وَأَبُو دلامة اسْمه زند بن الجون وَأكْثر النَّاس يصحف اسْمه وَيَقُول زيد بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّة وَهُوَ خطأ وَإِنَّمَا هُوَ بالنُّون وَهُوَ كُوفِي أسود مولى لبني أَسد وَكَانَ أَبُو دلامة عبدا لرجل مِنْهُم يُقَال لَهُ قضاقض فَأعْتقهُ وَأدْركَ آخر أَيَّام بني أُميَّة وَلم يكن لَهُ فِيهَا نباهة ونبغ فِي أَيَّام بني الْعَبَّاس فَانْقَطع إِلَى السفاح والمنصور وَالْمهْدِي وَكَانُوا يقدمونه ويفضلونه ويستطيبون مُجَالَسَته ونوادره وَلم يصل لأحد من الشُّعَرَاء مَا وصل لأبي دلامة من الْمَنْصُور خَاصَّة وَكَانَ أَبُو دلامة فَاسد الدّين رَدِيء الْمَذْهَب مرتكباً للمحارم مجاهراً بذلك وَكَانَ يعلم هَذَا مِنْهُ وَيعرف بِهِ فيتجافى عَنهُ للطف مَحَله وَكَانَ أول مَا حفظ من شعره وأسنيت لَهُ الْجَائِزَة بِهِ قصيدة مدح بهَا أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور وَذكر قَتله أَبَا مُسلم وفيهَا يَقُول
(أَبَا مُسلم خوّفتني القتلَ فانْتَحَى
…
عليكَ بِمَا خوفتني الأسدُ الوَرد)
(أَبَا مُسلم مَا غير اللهُ نعْمَة
…
على عَبده حَتَّى يغيرها العبدُ) // الطَّوِيل //
وأنشدها الْمَنْصُور فِي محفل من النَّاس فَقَالَ لَهُ احتكم فَقَالَ لَهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم فَأمر لَهُ بهَا فَلَمَّا خلا بِهِ قَالَ لَهُ أما وَالله لَو تعديتها لقتلتك
وَكَانَ الْمَنْصُور قد أَمر أَصْحَابه بِلبْس السوَاد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها وَأَن يلْقوا السيوف فِي المناطق ويكتبوا على ظُهُورهَا {فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} فَدخل عَلَيْهِ أَبُو دلامة فِي هَذَا الزي فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر مَا حالك قَالَ شَرّ حَال وَجْهي فِي وسطي وسيفي فِي استي وَقد صبغت بِالسَّوَادِ ثِيَابِي ونبذت كتاب الله وَرَاء ظَهْري فَضَحِك مِنْهُ وأعفاه وحذره من ذَلِك وَقَالَ لَهُ إياك أَن يسمع مِنْك هَذَا أحد وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو دلامة
(وَكُنَّا نرجِّى منحةً من إمامنَا
…
فجاءتْ بطُولٍ زادهُ فِي القلانسِ)
(ترَاهَا على هام الرِّجَال كَأَنَّهَا
…
دنانُ يهود جُلِّلتْ بالبرانس) // الطَّوِيل //
وَحدث الجاحظ قَالَ كَانَ أَبُو دلامة وَاقِفًا بَين يَدي الْمَنْصُور أَو السفاح فَقَالَ لَهُ سلني حَاجَتك قَالَ أَبُو دلامة كلب صيد قَالَ أَعْطوهُ إِيَّاه قَالَ ودابة أتصيد عَلَيْهَا قَالَ أَعْطوهُ قَالَ وَغُلَام يَقُود الْكَلْب قَالَ أَعْطوهُ غُلَاما قَالَ وَجَارِيَة تصلح لنا الصَّيْد وتطعمنا مِنْهُ قَالَ أَعْطوهُ جَارِيَة قَالَ هَؤُلَاءِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عِيَال فَلَا بُد من دَار يسكنونها قَالَ أَعْطوهُ دَارا تجمعهم قَالَ وَإِن لم يكن لَهُم ضَيْعَة فَمن أَيْن يعيشون قَالَ قد أقطعتك مائَة جريب عامرة وَمِائَة جريب غامرة قَالَ وَمَا الغامرة قَالَ مَا لَا نَبَات فِيهِ من الأَرْض قَالَ قد أقطعتك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ خَمْسمِائَة ألف جريب غامرة من فيا فِي بني أَسد فَضَحِك وَقَالَ اجعلوا الْمِائَتَيْنِ كلهَا عامرة قَالَ فَأذن لي أَن أقبل يدك قَالَ أما هَذِه فدعها فَأنى لَا أفعل قَالَ وَالله مَا منعت عيالي شَيْئا أقل ضَرَرا عَلَيْهِم مِنْهَا
قَالَ الجاحظ فَانْظُر إِلَى حذقه بِالْمَسْأَلَة ولطفه فِيهَا حَيْثُ ابْتَدَأَ بكلب فسهل الْقَضِيَّة وَجعل يَأْتِي بِمَا يَلِيهِ على تَرْتِيب فكاهة حَتَّى نَالَ مَا لَو سَأَلَهُ بديهة لما وصل إِلَيْهِ
وَحدث الْهَيْثَم بن عدي قَالَ دخل أَبُو دلامة على الْمَنْصُور فأنشده قصيدته الَّتِي أَولهَا
(إنّ الخليط أجدَّ الْبَين فانتجعوا
…
وزودوك خبالاً بئس مَا صَنَعُوا) // الْبَسِيط //
إِلَى أَن قَالَ فِيهَا يهجو زَوجته
(لَا وَالَّذِي يَا أميرَ المؤمنينَ قَضىَ
…
لَك بالخلافة فِي أَسبَابهَا الرَّفَعُ)
(مَا زلتُ أخلصها كسبي فتأكلهُ
…
دوني وَدون عيالي ثمَّ تضطجعُ)
(شوهاء مَشْنِيَّة فِي بَطنهَا بجَرٌ
…
وَفِي المفاصل من أوصالها فدعُ)
(ذكرتها بِكِتَاب الله حرمتنَا
…
وَلم تكن بِكِتَاب الله ترتدعُ)
(فاخرَ نظمت ثمّ قالَتْ وَهِي مغضبةٌ
…
أَأَنْت تتلو كتاب الله يَا لُكَعُ)
(أخرجْ لتبغِ لنا مَالا ومزرعةً
…
كَمَا لجيراننا مالٌ ومُزْدَرَعُ)
(واخدعْ خليفتنا عَنَّا بمسألةٍ
…
إنَّ الْخَلِيفَة للسؤَّالِ ينخدعُ) // الْبَسِيط //
فَضَحِك الْمَنْصُور وَقَالَ أرضوها عَنهُ واكتبوا لَهَا سِتّمائَة جريب عامرة وغامرة فَقَالَ أَنا أقطعك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَرْبَعَة آلَاف جريب غامرة فِيمَا بَين الْحيرَة والنجف وَإِن شِئْت زدتك فَضَحِك وَقَالَ اجْعَلُوهَا كلهَا عامرة
وَشهد أَبُو دلامة لجارة لَهُ عِنْد ابْن أبي ليلى القَاضِي على أتان نازعها فِيهِ رجلٌ فَلَمَّا فرغ من الشَّهَادَة قَالَ لِابْنِ أبي ليلى اسْمَع مَا قلت قبل أَن آتِيك ثمَّ اقْضِ بِمَا شِئْت قَالَ هَات فأنشده
(إِن النَّاسُ غطوني تغطَّيت عنهمُ
…
وَإِن بَحثُوا عني ففيهم مَباحث)
(وَإِن حَفَروا بئري حفرت بئارهم
…
ليعلم يَوْمًا كَيفَ تِلْكَ النبائت) // الطَّوِيل //
فَأقبل القَاضِي على الْمَرْأَة وَقَالَ أتبيعينني الأتان قَالَت نعم قَالَ بكم قَالَت بِمِائَة دِرْهَم قَالَ ادفعوها إِلَيْهَا فَفَعَلُوا وَأَقْبل على الرجل فَقَالَ قد وهبتها لَك وَقَالَ لأبي دلامة قد أمضيت شهادتك وَلم أبحث عَنْك وابتعت مِمَّن شهِدت لَهُ ووهبت ملكي لمن رَأَيْت أرضيت قَالَ نعم وَانْصَرف
وَدخل أَبُو عَطاء السندي يَوْمًا إِلَى أبي دلامة فاحتبسه ودعا بِطَعَام وشراب فأكلا وشربا وَخرجت إِلَى أبي دلامة صبية لَهُ فحملها على كتفه فبالت عَلَيْهِ فنبذها عَن كتفه ثمَّ قَالَ
(بَللْتِ عليّ لأحُيِّيتِ ثَوبِي
…
فَبالَ علَيْكِ شيطانٌ رَجيمُ)
(فمَا وَلَدَتك مَرْيمُ أمُّ عيسىَ
…
وَلَا ربَّاكَ لُقْمَان الْحَكِيم) // الوافر //
ثمَّ الْتفت إِلَى أبي عَطاء فَقَالَ لَهُ أجزيا أَبَا عَطاء فَقَالَ
(صَدقتَ أَبَا دُلامةَ لَمْ تَلدْها
…
مُطهَّرَةٌ وَلَا فحلٌ كَريمُ)
(ولكِنْ قَدْ حَوَتهَا أمُّ سوءٍ
…
إِلَى لَبَّاتها وأبٌ لئيمُ) // الوافر //
فَقَالَ لَهُ أَبُو دلامة عَلَيْك لعنة الله مَا حملك على أَن بلغت بِي هَذَا كُله وَالله لَا أنازعك بَيت شعر أبدا فَقَالَ لَهُ أَبُو عَطاء يكون الَّذِي من جهتك أحب إِلَيّ ثمَّ غَدا أَبُو دلامة إِلَى الْمَنْصُور فَأخْبرهُ بِقصَّة ابْنَته وأنشده الأبيات ثمَّ انْدفع فأنشده بعْدهَا
(لَو كَانَ يقْعد فوْقَ الشمسِ مِنْ كَرَم
…
قَوْمٌ لَقيلَ اقْعُدُوا يَا آلَ عَبَّاسِ)
(ثمْ ارْتَقْوا فِي شُعاع الشّمسُ كلكُمُ
…
إِلَى السماءِ فأنتُمْ أكرَمُ النّاسِ)
(وقَدّمُوا القائمِ المَنْصُورَ رأسَكُمُ
…
فالعيْنُ والأنْف والأذنان فِي الراس) // الْبَسِيط //
فاستحسنها وَقَالَ بِأَيّ شَيْء تحب أَن أعينك على قبح ابْنَتك هَذِه
فَأخْرج خريطة قد خاطها من اللَّيْل وَقَالَ تملأ لي هَذِه دَرَاهِم فوسعت أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم
وَلما توفّي أَبُو الْعَبَّاس السفاح دخل أَبُو دلامة على الْمَنْصُور وَالنَّاس يعزونه فَأَنْشَأَ أَبُو دلامة يَقُول
(أمْسيتَ بالأنْبار يَا ابنَ مُحَمّدٍ
…
لم تَستطعْ عَن عُقرِها تحويلا)
(وَيليَ عَليكَ وَوَيل أهْلي كلِّهم
…
ويلاً وعَوْلا فِي الحَياةِ طَويلَا)
(فلتَبكِيَنَّ لكَ السّماءُ بِعَبْرَةٍ
…
ولتَبكيَنَّ لَكَ الرِّجالُ عويلا)
(ماتَ النَدى إِذْ مُتّ يَا ابنَ مُحَمّدٍ
…
فجعَلْتَهُ لكَ فِي التُّرَابِ عَدِيلا)
(إنِّي سألْتُ النّاسَ بَعْدَك كلَّهُمْ
…
فوَجَدْتُ أسمَحَ مَنْ سألتُ بخيلَا)
(ألِشَقْوَتي أُخِّرْتُ بَعْدَكَ لِّلتي
…
تَدَعُ العزِيزَ مِنَ الرِّجال ذليلَا)
(فلأحْلِفَنَّ يَمينَ حَقٍّ بَرّةً
…
بِاللَّه مَا أُعْطِيتُ بَعْدَكَ سولَا)
فأبكى النَّاس قَوْله وَغَضب الْمَنْصُور غَضبا شَدِيدا وَقَالَ لَئِن سَمِعتك تنشد هَذِه القصيدة لأقطعن لسَانك فَقَالَ أَبُو دلامة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن أَبَا الْعَبَّاس كَانَ لي مكرماً وَهُوَ الَّذِي جَاءَنِي من البدو كَمَا جَاءَ الله عز وجل بإخوة يُوسُف عليه السلام إِلَيْهِ فَقل أَنْت كَمَا قَالَ يُوسُف {لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ} فسرى عَن الْمَنْصُور وَقَالَ قد أقلناك يَا أَبَا دلامة فسل حَاجَتك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد كَانَ أَبُو الْعَبَّاس أَمر لي بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وَخمسين ثوبا
وَهُوَ مَرِيض وَلم أقبضها فَقَالَ الْمَنْصُور وَمن يعلم ذَلِك قَالَ هَؤُلَاءِ وَأَشَارَ إِلَى جمَاعَة مِمَّن حضر فَوَثَبَ سُلَيْمَان بن مجَالد وَأَبُو الجهم فَقَالَا صدق يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَنحْن نعلم ذَلِك فَقَالَ الْمَنْصُور لأبي أَيُّوب الخازن وَهُوَ مغيظ يَا سُلَيْمَان ادْفَعْ إِلَيْهِ وسيره إِلَى هَذَا الطاغية يَعْنِي عبد الله بن عَليّ وَكَانَ قد خرج بِنَاحِيَة الشَّام وَأظْهر الْخلاف فَوَثَبَ أَبُو دلامة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أُعِيذك بِاللَّه أَن أخرج مَعَهم فَإِنِّي وَالله لمشؤم فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور امْضِ فَإِن يمني يغلب شؤمك فَاخْرُج فَقَالَ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أحب لَك أَن تجرب ذَلِك مني على مثل هَذَا الْعَسْكَر فَإِنِّي لَا أَدْرِي أَيهمَا يغلب يمنك أَو شؤمي إِلَّا أَنِّي بنفسي أدرى وأوثق وَأعرف وأطول تجربة فَقَالَ دَعْنِي من هَذَا فَمَا لَك من الْخُرُوج بُد قَالَ فَإِنِّي أصدقك الْآن شهِدت وَالله تِسْعَة عشر عسكراً كلهَا هزمت وَكنت سَببهَا فَإِن شِئْت الْآن على بَصِيرَة أَن يكون عسكرك الْعشْرين فافعل فاستفرغ الْمَنْصُور ضحكاً وَأمره أَن يتَخَلَّف مَعَ عِيسَى بن مُوسَى بِالْكُوفَةِ
وَحدث أَبُو دلامة قَالَ أَتَى بِي إِلَى الْمَنْصُور أَو إِلَى الْمهْدي وَأَنا سَكرَان فَحلف ليخرجني فِي بعث حَرْب فَأَخْرجنِي مَعَ روح بن عدي بن حَاتِم المهلبي لقِتَال الشراة فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ قلت لروح أما وَالله لَو أَن تحتي فرسك وَمَعِي سِلَاحك لأثرت فِي عَدوك الْيَوْم أثرا ترتضيه مني فَضَحِك وَقَالَ وَالله الْعَظِيم لأدفعن ذَلِك إِلَيْك ولآخذنك بِالْوَفَاءِ بشرطك وَنزل عَن فرسه وَنزع سلاحه ودفعهما إِلَيّ ودعا لَهُ بِغَيْرِهِمَا فاستبدل بِهِ فَلَمَّا حصل ذَلِك فِي يَدي وزالت عني حلاوة الطمع
قلت لَهُ أَيهَا الْأَمِير هَذَا مقَام العائذ بك وَقد قلت بَيْتَيْنِ فاسمعهما فَقَالَ هَات فَأَنْشَدته
(إنِّي استَجَرْتكَ أَنْ أقدم الوَغى
…
لِتَطَاعُنٍ وتَنَازُل وَضِرَابِ)
(فَهَبِ السُّيُوفَ لما رَأَيْتُهَا مَشْهُورةً
…
فَتَركتُهَا ومَضَيْتُ فِي الهُرَّابِ)
(ماذَا تَقُولُ لِمَا يَجِيءُ وَلَا يُرَى
…
من وَاردَاتِ المَوْتِ فِي النشاب) // الْكَامِل //
فَقَالَ دع عَنْك هَذَا وستعلم فبرز رجل من الْخَوَارِج يطْلب المبارزة فَقَالَ اخْرُج إِلَيْهِ يَا أَبَا دلامة فَقلت أنْشدك الله أَيهَا الْأَمِير فِي دمي فَقَالَ وَالله لتخْرجن قلت أَيهَا الْأَمِير إِنَّه أول يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة وَآخر يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا وَأَنا وَالله جَائِع مَا تنبعث مني جارحة من الْجُوع فَمر لي بِشَيْء آكله ثمَّ أخرج فَأمر لَهُ بِرَغِيفَيْنِ ودجاجة فَأخذت ذَلِك وبرزت من الصَّفّ فَلَمَّا رَآنِي الشاري أقبل نحوي وَعَلِيهِ فرو قد أَصَابَهُ الْمَطَر فابتل وأصابته الشَّمْس فاقفعل وَعَيناهُ تقدان فأسرع إِلَيّ فَقلت على رسلك يَا هَذَا كَمَا أَنْت فَوقف فَقلت أتقتل من لَا يقاتلك قَالَ لَا قلت أفتستحل أَن تقتل رجلا على دينك قَالَ لَا قلت أفتستحل ذَلِك قبل أَن تَدْعُو من يقاتلك إِلَى دينك قَالَ لَا فَاذْهَبْ عني إِلَى لعنة الله فَقلت لَا أفعل أَو تسمع مني قَالَ قل قلت هَل كَانَ بَيْننَا عَدَاوَة قطّ أوترة أَو تعلم بَين أَهلِي وَأهْلك وترا قَالَ لَا وَالله قلت وَلَا أَنا وَالله لَك إِلَّا على جميل وَإِنِّي لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين بِدينِك
وَأُرِيد الشَّرّ لمن أَرَادَهُ لَك قَالَ يَا هَذَا جَزَاك الله خيرا فَانْصَرف قلت إِن معي زاداً وَأُرِيد أَن آكله وَأُرِيد مواكلتك لتتأكد الْمَوَدَّة بَيْننَا ونرى أهل العسكرين هوانهم علينا قَالَ فافعل فتقدمت إِلَيْهِ حَتَّى اخْتلفت أَعْنَاق دوابنا وجمعنا أَرْجُلنَا على معارفها وَجَعَلنَا نَأْكُل وَالنَّاس قد غلبوا ضحكاً فَلَمَّا اسْتَوْفَيْنَا وَدعنِي ثمَّ قلت لَهُ إِن هَذَا الْجَاهِل إِن أَقمت على طلب المبارزة ندبني لَك فتتعب وتتعبني فَإِن رَأَيْت أَن لَا تبرز الْيَوْم فافعل قَالَ قد فعلت ثمَّ انْصَرف وانصرفت فَقلت لروح أما أَنا فقد كفيتك قَرْني فَقل لغيري يَكْفِيك قرنه قَالَ ثمَّ خرج آخر يُرِيد البرَاز فَقَالَ اخْرُج إِلَيْهِ فَقلت
(إِني أعوذ بِروح أَن يُقدمني
…
إِلَى القتَال فتَخْزَي بِي بَنو أَسد)
(إنَّ البرَاز إِلَى الأقْرَان أعلَمُهُ
…
ممَّا يُفَرِّق بَين الرّوح والجسد)
(قَدْ حالَفَتْكَ المَنَايا إِذْ صَمَدْتَ لَهَا
…
وأصبَحَتْ لجَمِيع الخَلْق بالرّصد)
(إِنَ المُهَّلبَ حُبّ المَوْت أوْرثكم
…
وَمَا وِرثْتَ اختيارَ المَوت عَن أحد)
(لَو أَن لي مُهجةً أُخرى لجدتُ بهَا
…
لكِنّها خُلقَتْ فَرْداً فَلم أجد) // الْبَسِيط //
فَضَحِك وأعفاني
وعزم مُوسَى بن دَاوُد على الْحَج فَقَالَ لأبي دلامة احجج معي وَلَك عشرَة آلَاف دِرْهَم فَقَالَ هَاتِهَا فَدفعت إِلَيْهِ فَأَخذهَا وهرب إِلَى السوَاد فَجعل ينفقها هُنَاكَ وَيشْرب الْخمر وَطَلَبه مُوسَى فَلم يقدر عَلَيْهِ وخشي فَوَات الْحَج فَخرج فَلَمَّا شَارف الْقَادِسِيَّة إِذا هُوَ بِأبي دلامة خَارِجا من قَرْيَة إِلَى قَرْيَة أُخْرَى وَهُوَ سَكرَان فَأمر بِأَخْذِهِ وتقييده وَطَرحه فِي الْمحمل بَين يَدَيْهِ فَفعل بِهِ ذَلِك فَلَمَّا سَار غير بعيد أقبل أَبُو دلامة على مُوسَى وناداه بقوله
(يَا أيُّها النّاس قُولوا أجْمَعينَ مَعًا
…
صلّى الأله على مُوسَى بن دَاوُد)
(كَأَن ديباجتي خَدّيه منْ ذَهبٍ
…
إِذا بَدَا لكَ فِي أثْوَابه السُّود)
(إنِّي أعوُذُ بدَاوُدٍ وأعظُمه
…
مِنْ أَن أُكلَّفَ حجّاً يَا ابنَ دَاوُدِ)
(أنبِئْتُ أَن طَريق الحجِّ مَعْطَشَةٌ
…
منَ الشّراب وَمَا شُرْبي بتصريدُ)
(وَالله مَا فيّ منْ أجرٍ فَتطلبهُ
…
ولَا الثّناء على ديني بمحمود) // الْبَسِيط //
فَقَالَ مُوسَى ألقوه لَعنه الله عَن الْمحمل وَدعوهُ ينْصَرف فَألْقى وَعَاد إِلَى قصفه بِالسَّوَادِ حَتَّى نفدت الْعشْرَة آلَاف
وَدخل أَبُو دلامة يَوْمًا على الْمَنْصُور فأنشده
(رَأَيْتُك فِي المنَام كسوت جلدي
…
ثيَاباً جمَّةً وقَضَيْتَ دَيْني)
(وكانَ بنَفْسَجيُّ الْخَزّ فِيهَا
…
وساجٌ ناعمٌ فأتَّم زَيني)
(فَصَدِّق يَا فَدَتكَ النّفْسُ رُؤيا
…
رَأتهَا فِي المَنام كَذَاك عَيْني) // الوافر //
فَأمر بذلك وَقَالَ لَا عدت تتحلم عَليّ ثَانِيَة فَاجْعَلْ حلمك أضغاثاً وَلَا أحققه ثمَّ خرج من عِنْده وَمضى فَشرب فِي بعض الحانات فَسَكِرَ وَانْصَرف وَهُوَ ثمل فَلَقِيَهُ العسس فَأخذ فَقيل لَهُ من أَنْت وَمَا دينك فَقَالَ
(ديني عَلى دين بني العَبّاس
…
مَا ختم الطينُ على القرْطاس)
(إِذا اصطَبَحْتُ أرْبعاً بالكاس
…
فَقَدْ أدارَ شُرْبهُا براسي)
(فَهَلْ بمَا قُلْتُ لكُمْ من بَأْس
…
) // الرجز //
فَأَخَذُوهُ ومضوا بِهِ فخرقوا أثوابه وساجه وَأتوا بِهِ إِلَى الْمَنْصُور وَكَانَ يُؤْتى بِكُل من أَخذه العسس فحبسه مَعَ الدَّجَاج فِي بَيت فَلَمَّا أَفَاق جعل يُنَادي غُلَامه مرّة وجاريته مرّة فَلَا يجِيبه أحد وَهُوَ مَعَ ذَلِك يسمع صَوت الدَّجَاج وزقاء الديكة فَلَمَّا أَكثر قَالَ لَهُ السجان مَا شَأْنك قَالَ وَيلك من أَنْت وَأَيْنَ أَنا قَالَ فِي الْحَبْس وَأَنا فلَان السجان قَالَ وَمن حَبَسَنِي قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ وَمن خرق طيلساني قَالَ الحرس فَطلب مِنْهُ أَن يَأْتِيهِ بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاس فَفعل فَكتب إِلَى الْمَنْصُور
(أميرَ المؤمنينَ فدَتكَ نَفسِي
…
عَلى مَ حبستني وخَرَقْتَ ساجِي)
(أمِنْ صَهْباءَ صافيةِ المزَاجِ
…
كأنَّ شُعاعها لهبُ السِّرَاجِ)
(وَقد طبختْ بنارِ الله حَتَّى
…
لقد صارَتْ من النطفِ النضاجِ)
(تهشُّ لَهَا الْقُلُوب وتشتهيها
…
إِذا بَرزت تَرقرَقُ فِي الزجاجِ)
(أقاد إِلَى السجون بِغير جُرْمٍٍ
…
كأنِّي بعضُ عمالِ الخراجِ)
(وَلَو مَعَهم حُبستُ لكانَ سهلاً
…
وَلَكِنِّي حُبستُ معَ الدجاجِ)
(وَقد كَانَت تُخبرنِي ذنوبِي
…
بأنِّي من عقابكَ غيرُ نَاجِي)
(عَلَى أَنِّي وَإِن لَاقيُت شرَّاً
…
لخيركَ بعْدَ الشَّرّ راجي) // الوافر //
فَدَعَا بِهِ وَقَالَ لَهُ أَيْن حبست يَا أَبَا دلامة فَقَالَ مَعَ الدَّجَاج قَالَ فَمَا كنت تصنع قَالَ أقوقىء مَعَهم حَتَّى أَصبَحت فَضَحِك وخلى سَبيله وَأمر لَهُ بجائزة فَلَمَّا خرج قَالَ لَهُ الرّبيع إِنَّه شرب الْخمر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما سَمِعت قَوْله وَقد طبخت بِنَار الله يَعْنِي الشَّمْس فَأمر برده ثمَّ قَالَ لَهُ يَا خَبِيث شربت الْخمر قَالَ لَا قَالَ أفلم تقل طبخت بِنَار الله تَعْنِي الشَّمْس قَالَ لَا وَالله مَا عنيت إِلَّا نَار الله المؤصدة الَّتِي تطلع على فؤاد الرّبيع فَضَحِك وَقَالَ خُذْهَا يَا ربيع وَلَا تعاود التَّعَرُّض لَهُ
وَلما قدم الْمهْدي من الرّيّ دخل عَلَيْهِ أَبُو دلامة فَأَنْشَأَ يَقُول
(إِنِّي نذَرتُ لَئِن لقيتُكَ سالما
…
بِقُرى العرَاق وأنتَ ذُو وفرِ)
(لتصليَنَّ عَلى النبيّ محمدٍ
…
ولتملأنَّ دراهما حجري) // الْكَامِل //
فَقَالَ صلى الله على النَّبِي مُحَمَّد وَسلم وَأما الدَّرَاهِم فَلَا فَقَالَ لَهُ أَنْت أكْرم من أَن تفرق بَينهَا ثمَّ تخْتَار أسهلهما فَضَحِك وَأمر بِأَن يمْلَأ حجره دَرَاهِم
وَدخل أَبُو دلامة على أم سَلمَة زوج السفاح بعد مَوته فعزاها بِهِ وَبكى فَبَكَتْ مَعَه فَقَالَت أم سَلمَة لم أجد أحدا أُصِيب بِهِ غَيْرِي وَغَيْرك يَا أَبَا دلامة قَالَ وَلَا سَوَاء يَرْحَمك الله لَك مِنْهُ ولد وَمَا ولدت أَنا مِنْهُ قطّ فَضَحكت وَلم تكن ضحِكت مُنْذُ مَاتَ السفاح إِلَّا ذَاك الْوَقْت وَقَالَت لَهُ لَو حدثت الشَّيْطَان لأضحكته
وَدخل يَوْمًا على الْمهْدي وَهُوَ يبكي فَقَالَ لَهُ مَا لَك قَالَ مَاتَت أم دلامة وَأنْشد لنَفسِهِ فِيهَا
(وَكُنَّا كَزَوج من قَطاً فِي مفازةٍ
…
لدَى خَفْض عيشٍ مونِقٍ ناضِرٍ رغدِ)
(فأفرَدَني رَيب الزَّمَان بصرفهِ
…
وَلم أرَ شَيْئا قطُّ أوحشَ من فَرد) // الطَّوِيل //
فَأمر لَهُ بِطيب وَثيَاب ودنانير وَخرج فَدخلت أم دلامة على الخيزران وأعلمتها أَن أَبَا دلامة قد مَاتَ فأعطتها مثل ذَلِك وَخرجت فَلَمَّا التقى الْمهْدي والخيزران عرفا حيلتهما فَجعلَا يضحكان لذَلِك ويعجبان مِنْهُ
وَحدث الْمَدِينِيّ قَالَ دخل أَبُو دلامة على الْمهْدي وَعِنْده جمَاعَة من بني هَاشم فَقَالَ الْمهْدي لَهُ أَنا أعطي الله تَعَالَى عهدا لَئِن لم تهج وَاحِدًا مِمَّن فِي الْبَيْت لَأَضرِبَن عُنُقك فَنظر إِلَيْهِ الْقَوْم وغمزوه بِأَن عَلَيْهِم رِضَاهُ قَالَ أَبُو دلامة فَعلمت أَنِّي وَقعت وَأَنَّهَا عَزمَة من عزماته وَلَا بُد مِنْهَا فَلم أر أحدا أَحَق بالهجاء مني وَلَا أَدعِي إِلَى السَّلامَة من هجائي نَفسِي فَقلت
(إِلَّا أبلغْ لديكَ يَا أَبَا دلامة
…
فَلَيْسَ من الْكِرَام وَلَا كرامهْ)
(إِذا لبس الْعِمَامَة قلت قردٌ
…
وخنزيرٌ إِذا وضع العمامهْ)
(جمعت دمامةً وجمعت لؤماً
…
كَذَاك اللؤم تتبعهُ الدمامهْ)
(فإِن تكُ قد أصبتَ نَعيم دُنيا
…
فَلَا تفرحْ فقد دنت القيامهْ) // الوافر //
فَضَحِك الْقَوْم وَلم يبْق مِنْهُم أحد إِلَّا أجَازه
وَخرج الْمهْدي وَعلي بن سُلَيْمَان إِلَى الصَّيْد فسنح لَهما قطيع من ظباء فَأرْسلت الْكلاب وأجريت الْخَيل فَرمى الْمهْدي سَهْما فصرع ظَبْيًا وَرمى عَليّ بن سُلَيْمَان فَأصَاب كَلْبا فَقتله فَقَالَ فِي ذَلِك أَبُو دلامة
(قد رمى المهديُّ ظَبْيًا
…
شكّ بِالسَّهْمِ فؤادهْ)
(وعليٌّ بن سُلَيْمَان
…
رمى كَلْبا فصادهْ)
(فهنيئاً لَهما كلُّ امرىء يَأْكُل زَاده
…
) // من مجزوء الرمل //
فَضَحِك الْمهْدي حَتَّى كَاد يسْقط عَن سَرْجه وَقَالَ صدق وَالله أَبُو دلامة وَأمر لَهُ بجائزة ولقب عَليّ بن سُلَيْمَان بصائد الْكَلْب فعلق بِهِ
وَتوفيت حمادة بنت عِيسَى وَحضر الْمَنْصُور جنازتها فَلَمَّا وقف على حفرتها قَالَ لأبي دلامة مَا أَعدَدْت لهَذِهِ الحفرة قَالَ بنت عمك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حمادة بنت عِيسَى يجاء بهَا السَّاعَة فتدفن فِيهَا فَضَحِك الْمَنْصُور حَتَّى غلب وَستر وَجهه
وَحدث الْهَيْثَم بن عدي قَالَ حجت الخيزران فَلَمَّا خرجت صَاح أَبُو دلامة جعلني الله فدَاك الله الله فِي أَمْرِي فَقَالَت من هَذَا قَالُوا أَبُو دلامة قَالَت اسألوه مَا أمره قَالَ أدنوني من محملها فأدنى فَقَالَ أَيهَا السيدة إِنِّي شيخ كَبِير وأجرك فِي عَظِيم قَالَت فَمه قَالَ تهبين لي جَارِيَة من جواريك تؤنسني وترفق بِي وتريحني من عَجُوز عِنْدِي قد أكلت رفدي وأطالت كدي فقد عاف جلدي جلدهَا وتمنيت بعْدهَا وتشوقت فقدها فَضَحكت وَقَالَت سَوف آمُر لَك بِمَا سَأَلت فَلَمَّا رجعت تلقاها وأذكرها وَخرج مَعهَا إِلَى بَغْدَاد وَأقَام حَتَّى سئم ثمَّ دخل على عُبَيْدَة حاضنة مُوسَى وَهَارُون فَدفع إِلَيْهَا رقْعَة قد كتبهَا إِلَى الخيزران فِيهَا
(أبلغي سيدتي بِاللَّه يَا أم عبيدَهْ
…
)
(أَنَّهَا أرشدَها الله وَإِن كَانَت رَشيدهْ
…
)
(وَعدتني قبلَ أَن تخرج
…
لِلْحَجِّ وليدهْ)
(فتأتيت وَأرْسلت بِعشْرين قصيدهْ
…
)
(كلما أخلقنَ أخلفت لَهَا أُخْرَى جديده
…
)
(لَيْسَ فِي بَيْتِي لتمهيد فِرَاشِي من قعيدهْ
…
)
(غيرُ عجفاء عَجُوز
…
ساقُها مثل القديده)
(وَجههَا أقبح من حوت
…
طريٍّ فِي عصيده)
(مَا حَياتِي مَعَ أُنْثَى
…
مثل عِرْسِي بسعيده) // من مجزوء الرمل //
فَلَمَّا قُرِئت عَلَيْهَا الأبيات ضحِكت واستعادت قَوْله وَجههَا أقبح من حوت إِلَى آخِره وَجعلت تضحك ودعت بِجَارِيَة من جواريها فائقة فَقَالَت لَهَا خذي كل مَا لَك فِي قصري فَفعلت ثمَّ دعت بخادم وَقَالَت لَهُ سلمهَا إِلَى أبي دلامة فَانْطَلق الْخَادِم بهَا فَلم يصبهُ فِي منزله فَقَالَ لامْرَأَته إِذا رَجَعَ فادفعيها إِلَيْهِ وَقَوْلِي لَهُ تَقول لَك السيدة أحسن صُحْبَة هَذِه الْجَارِيَة فقد آثرتك بهَا فَقَالَت لَهُ نعم فَلَمَّا خرج دخل إِلَيْهَا ابْنهَا دلامة فَوجدَ أمه تبْكي فَسَأَلَهَا عَن خَبَرهَا فَأَخْبَرته وَقَالَت إِن أردْت أَن تبرني يَوْمًا من الدَّهْر فاليوم قَالَ قولي مَا شِئْت فَإِنِّي أَفعلهُ قَالَت تدخل عَلَيْهَا فتعلمها أَنَّك مَالِكهَا فتطؤها وتحرمها عَلَيْهِ وَإِلَّا ذهبت بعقله وجفاني وجفاك فَفعل وَدخل على الْجَارِيَة فَوَطِئَهَا ووافقها ذَلِك مِنْهُ وَخرج ثمَّ دخل أَبُو دلامة فَقَالَ لامْرَأَته أَيْن الْجَارِيَة فَقَالَت فِي ذَلِك الْبَيْت فَدخل إِلَيْهَا شيخ محطم ذَاهِب فَمد يَده إِلَيْهَا وَذهب ليقبلها فَقَالَت لَهُ مَا لَك وَيلك تَنَح عني وَإِلَّا لطمتك لطمة دققت بهَا أَنْفك فَقَالَ أَبِهَذَا أوصتك السيدة فَقَالَت إِنَّهَا بعثت بِي إِلَى فَتى من حَاله وهيئته كَيْت وَكَيْت وَقد كَانَ عِنْدِي آنِفا ونال مني حَاجته فَعلم أَنه قد دهى من أم دلامة وَابْنهَا فَخرج إِلَى دلامة فَلَطَمَهُ وتلبب بِهِ وَحلف أَنه لَا يُفَارِقهُ إِلَى الْمهْدي فَمضى بِهِ متلبباً حَتَّى وقف على بَاب الْمهْدي فَعرف خَبره وَأَنه قد جَاءَ بِابْنِهِ على تِلْكَ الْحَالة فَأمر بإدخاله فَلَمَّا دخل قَالَ لَهُ مَا لَك وَيلك قَالَ عمل هَذَا الْخَبيث ابْن الخبيثة مَا لم يعمله ولد بِأَبِيهِ وَلَا يرضيني إِلَّا أَن تقتله فَقَالَ وَيلك فَمَا فعل بك فَأخْبرهُ الْخَبَر فَضَحِك حَتَّى اسْتلْقى على قَفاهُ ثمَّ جلس فَقَالَ لَهُ أَبُو دلامة أعْجبك فعله فتضحك مِنْهُ فَقَالَ عَليّ بِالسَّيْفِ والنطع فَقَالَ لَهُ دلامة قد سَمِعت قَوْله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فاسمع حجتي قَالَ هَات قَالَ هَذَا الشَّيْخ أصفق النَّاس وَجها وَهُوَ ينيك أُمِّي مُنْذُ أَرْبَعِينَ مَا غضِبت نكت أَنا جَارِيَته مرّة وَاحِدَة فَغَضب وصنع بِي مَا ترى فَضَحِك الْمهْدي أَشد من ضحكه الأول ثمَّ قَالَ دعها لَهُ وَأَنا أُعْطِيك خيرا مِنْهَا قَالَ على أَن
تخبأها لي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَإِلَّا ناكها وَالله كَمَا ناك هَذِه فتعهد الْمهْدي إِلَى أبي دلامة أَن لَا يعاود دلامة مثل فعله وَحلف أَنه إِن عاود قَتله وَأمر لَهُ بِجَارِيَة أُخْرَى كَمَا وعده
وَدخل أَبُو دلامة على الْمهْدي وَسَلَمَة الوصيف وَاقِف فَقَالَ إِنِّي قد أهديت لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مهْرا لَيْسَ لأحد مثله فَإِن رَأَيْت أَن تشرفني بقبوله فَأمر بإدخاله إِلَيْهِ فَخرج أَبُو دلامة وَأدْخل فرسه الَّذِي كَانَ تَحْتَهُ فَإِذا هُوَ برذون محطم أعجف هرم فَقَالَ لَهُ الْمهْدي أَي شَيْء وَيلك هَذَا ألم تزْعم أَنه مهر فَقَالَ لَهُ أَو لَيْسَ هَذَا سَلمَة الوصيف بَين يَديك قَائِما تسميه الوصيف وَله ثَمَانُون سنة وَهُوَ بعد عنْدك وصيفاً فَإِن كَانَ سَلمَة وصيفاً فَهَذَا مهر فَجعل سَلمَة يشتمه وَالْمهْدِي يضْحك ثمَّ قَالَ لسَلمَة وَيحك إِن لهَذِهِ مِنْهُ أَخَوَات وَإِن أَتَى بِمِثْلِهَا فِي محفل يفضحك فَقَالَ أَبُو دلامة إِي وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لأفضحنه فَلَيْسَ فِي مواليك أحد إِلَّا وَقد وصلني غَيره فَإِنِّي مَا شربت لَهُ المَاء قطّ قَالَ فقد حكمت عَلَيْهِ أَن يَشْتَرِي نَفسه مِنْك بِأَلف دِرْهَم حَتَّى يتَخَلَّص من يدك قَالَ قد فعلت عَليّ أَن لَا يعاود قَالَ أفعل وَلَوْلَا أَنِّي مَا أخذت مِنْهُ شئيا قطّ مَا اسْتعْملت مَعَه مثل هَذَا فَمضى سَلمَة فحملها إِلَيْهِ وَسلمهُ إِيَّاهَا
وَجَاء دلامة يَوْمًا إِلَى أَبِيه وَهُوَ فِي محفل من جِيرَانه وعشيرته جَالِسا فَجَلَسَ بَين يَدَيْهِ ثمَّ أقبل عَليّ الْجَمَاعَة فَقَالَ لَهُم إِن شَيْخي كَمَا ترَوْنَ قد كبر سنه ودق عظمه وبنا إِلَى حَيَاته حَاجَة شَدِيدَة وَلَا أَزَال أُشير عَلَيْهِ بالشَّيْء يمسك رمقه ويبقي قوته فيخالفني وَإِنِّي أسالكم أَن تسألوه قَضَاء حَاجَة لي أذكرها بحضرتكم فِيهَا صَلَاح جِسْمه وَبَقَاء حَيَاته فأسعفوني بمسألته معي فَقَالُوا نَفْعل وحباً وكرامة ثمَّ أَقبلُوا على أبي دلامة بألسنتهم فتناولوه بالعتاب حَتَّى رَضِي ابْنه وَهُوَ سَاكِت فَقَالَ قُولُوا لهَذَا الْخَبيث فَلْيقل مَا يُرِيد فستعلمون أَنه لم يَأْتِ إِلَّا ببلية فَقَالُوا قل فَقَالَ إِن أبي مَا يقْتله إِلَّا كَثْرَة الْجِمَاع
فتعاونوني عَلَيْهِ حَتَّى أخصيه فَلَنْ يقطعهُ عَن ذَلِك غير الخصاء فَيكون أصح لجسمه وأطول لعمره فعجبوا مِمَّا أَتَى بِهِ وَعَلمُوا أَنه أَرَادَ أَن يبْعَث بِأَبِيهِ ويخجله حَتَّى يشيع ذَلِك عَنهُ ويرتفع لَهُ بِهِ ذكر فضحكوا مِنْهُ ثمَّ قَالُوا لأبي دلامة قد سَمِعت فأجب قَالَ قد سمعتهم أَنْتُم وعرفتم أَنه لم يَأْتِ بِخَير قَالُوا فَمَا عنْدك فِي هَذَا قَالَ قد جعلت أمه حكما بيني وَبَينه فَقومُوا بِنَا إِلَيْهَا فَقَامُوا بأجمعهم ودخلوا إِلَيْهَا وقص أَبُو دلامة الْقِصَّة عَلَيْهَا وَقَالَ قد حكمتك فَأَقْبَلت على الْجَمَاعَة فَقَالَت إِن ابْني هَذَا أبقاه الله فد نصح أَبَاهُ وبره وَلم يأل جهداً وَمَا أَنا إِلَى بَقَاء أَبِيه بأحوج مني إِلَى بَقَائِهِ وَهَذَا أَمر لم تقع بِهِ تجربة وَلَا جرت بِمثلِهِ عَادَة وَلَا أَشك فِي مَعْرفَته بذلك فليبدأ بِنَفسِهِ أَولا فليخصها فَإِذا عوفي ورأينا ذَلِك قد أثر عَلَيْهِ أثرا مَحْمُودًا اسْتَعْملهُ أَيْضا فَجعل أَبوهُ يضْحك مِنْهُ وخجل ابْنه دلامة وَانْصَرف الْقَوْم يَضْحَكُونَ ويعجبون من خبثهمْ جَمِيعًا واتفاقهم فِي ذَلِك الْمَذْهَب
وَكَانَ عِنْد الْمهْدي رجل من بني مَرْوَان قد جَاءَهُ مُسلما فَأتى الْمهْدي بعلج فَأمر المرواني أَن يضْرب عُنُقه فَأخذ السَّيْف وَقَامَ فَضَربهُ فنبا عَنهُ فَرمى بِهِ المرواني وَقَالَ لَو كَانَ من سُيُوفنَا مَا نبا فَسَمعَهَا الْمهْدي فَغَاظَهُ حَتَّى تغير وَجهه وَبَان فِيهِ فَقَامَ يَقْطِين فَأخذ السَّيْف وحسر عَن ذِرَاعَيْهِ ثمَّ ضرب العلج فَرمى بِرَأْسِهِ ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن هَذِه السيوف سيوف الطَّاعَة وَلَا تعْمل إِلَّا فِي أَيدي الْأَوْلِيَاء وَلَا تعْمل فِي أَيدي أهل الْمعْصِيَة ثمَّ قَامَ أَبُو دلامة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد حضرني بيتان أفأقول قَالَ قل فأنشده
(أبهَذَا الإمامُ سيْفُك َماضٍ
…
وَبِكَفِّ الوَليِّ غيْرُ كهَام)
(فإِذا مَا نبَا بِكَفٍّ عَلمْنَا
…
أَنه كَفُّ مبغض للْإِمَام) // خَفِيف //
فَقَامَ الْمهْدي من مَجْلِسه وسرى عَنهُ وَأمر حجابه بقتل المرواني فَقتل وَقَالَ ابْن النطاح دخل أَبُو دلامة على الْمهْدي فأنشده قصيدته فِي بغلته
الْمَشْهُورَة يهجوها وَيذكر معايبها فَلَمَّا أنْشدهُ قَوْله
(أتَاني خائِبٌ يَستَامُ منِّي
…
عريْقاً فِي الخَسارَةِ والضَّلال)
(فقالَ تبيعُهَا قُلْتُ ارتبِطْها
…
بِحُكمِكَ إِن بَيْعي غَيْرُ غالي)
(فأقْبَلَ ضَاحِكا نَحْوِي سرُوراً
…
وقالَ أراكَ سَهْلاً ذَا جَمَال)
(هَلُم إليَّ يخْلو بِي خِدَاعاً
…
وَمَا يَدْري الشَّقي لِمَنْ يُخالي)
(فقلْتُ بأرْبعينَ فقَالَ أحْسِنْ
…
إِليَّ فإنَّ مِثلكَ ذُو سِجَال)
(فأتْرُكُ خَمْسةً مِنْهَا لِعلْمي
…
بِما فيهِ يَصيرُ مِنَ الخَبَالِ) // الوافر //
فَقَالَ لَهُ الْمهْدي لقد أفلت من بلَاء عَظِيم فَقَالَ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لقد مكثت شهرا أتوقع صَاحبهَا أَن يردهَا عَليّ قَالَ ثمَّ أنْشدهُ
(فأبدِلني بِهَا يَا رَبِّ طِرْفاً
…
يكُونُ جَمَالُ مَرْكبِهِ جَمَالي) // الوافر //
فَقَالَ الْمهْدي لصَاحب دوابه خَيره بَين مركبين من الاصطبل فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن كَانَ الِاخْتِيَار إِلَيّ وَقعت فِي شَرّ من البغلة وَلَكِن مره أَن يخْتَار لي فَقَالَ اختر لَهُ
وأخبار أبي دلامة كَثِيرَة وَقد أثبتنا مِنْهَا طرفا صَالحا
وَكَانَت وَفَاته سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَة رَحمَه الله تَعَالَى
117 -
(كَالْقِسِيِّ الْمُعَطِّفَاتِ بَلِ
…
الأسْهُم مَبْرِيَّةً بَلِ الأوْتَار
…
)
الْبَيْت للبحتري من قصيدة من الْخَفِيف يمدح بهَا أَبَا جَعْفَر بن حميد ويستوهبه غُلَاما وَمِنْهَا قَوْله
(أبُكَاءً فِي الدَّار بَعْدَ الدَّار
…
وَسُلوَّاً بِزَينَبٍ عَنْ نَوَار)
(لَا هَنَاكَ الشغْلُ الجديدُ بحُزْوَي
…
عَن رُسُوم برَامتين قفَارِ)
(مَا ظَنَنْتُ الْأَهْوَاء قَبلكَ تُمحي
…
فِي صُدُور العُشَّاق مَحْوَ الديار) // الْخَفِيف //
إِلَى أَن قَالَ مِنْهَا فِي وصف النوق
(يَتَرقْرَقْنَ كالسّرَاب وقَدْ خُضْنَ غماراً من السّراب الجَاري
…
)
وَبعده الْبَيْت وَالْقَصِيدَة طَوِيلَة يَقُول مِنْهَا فِي تشكيه من الْغُلَام الْأَجِير وَيسْأل مخدومه فِي هِبته غُلَاما ويصفه
(قَدْ مَللْنَاكَ يَا غلَامُ فغَادٍ
…
بِسلَامِ أوْ رائحٌ أوْ سَاري)
(سَرقات منِّي خُصُوصا فَهَلا
…
منْ عَدُو أوْ صاحبٍ أوْ جَار)
(أَنا مِنْ ياسرٍ وَسعْدٍ وَفتْح
…
لَسْتُ من عامرٍ وَلَا عَمْار)
(لَا أحبُّ النّظيرَ يُخْرِجهُ الشم
…
إِلَى الاحتْجاِج والافْتخار)
(فإذَا رُعتَهُ بِناحيَةِ السَّوْط
…
على الذنْبِ رَاعني بالفرار)
(مَا بأَرض العِرَاق يَا قَوْمُ حرٌّ
…
يشترَيني منْ خِدمةِ الْأَحْرَار)
(هلْ جوَاد بأبْيض من بني الأصفَر محْض الجُدُود محْض النِّجار
…
)
(لم يُرْم قَومهُ السِّرَايا وَلم يغْزُهُم غيْرُ جَحفَلٍ جرَّار
…
)
(فحوته الرِّماح أغيَدَ مجدولا
…
قصيرَ الزُّنار وافي الأزَار)
(فوْقَ ضعْفِ الصِّغار إِن وكِلَ الأمرْ إِلَيْهِ وَدون كبر الكِبار
…
)
(لَك من ثَغْره وخَدّيه مَا شئتَ من الأقحوَان والجُلّنار
…
)
(وكأنّ الذكاءَ يبْعَثُ مِنهُ
…
فِي سَوادِ الأمُور شعلَةَ نَار)
(يَا أَبَا جَعْفَر وَما أنْتَ بالمَدْ
…
عوِّ إِلَّا لِكلِّ أمرٍ كُبَار)
(ولعمْري للجود بِالنَّاسِ للنَّاس
…
سِواهُ بالثّوْبِ والدِّينَار)
(وقليلٌ إِلَّا لَدَيكَ بهذَا الْفَج أخْذُ الغلمان بالأشعار
…
) // الْخَفِيف //
وَمعنى الْبَيْت أَنه يصف إبِلا أنحلها السرى بِحَيْثُ صَارَت من الهزال كالقسي بل السِّهَام بل الأوتار
وَقد تداول الشُّعَرَاء هَذَا الْمَعْنى وتجاذبوا أَطْرَافه فَمن ذَلِك قَول الشريف الموسوي
(هُنّ القسيُّ مِنَ النُّحُول فإنْ سمَا
…
خَطْبٌ فهُنّ منَ النَّجَاء الأسهم) // الْكَامِل //
وَقد أَخذه ابْن قلاقس فَقَالَ أَيْضا
(خوض كأمثال القسيِّ نَوَاحلا
…
وَإِذا سَمَا خَطبٌ فهن سِهَام) // الْكَامِل //
وَقَالَ أَيْضا
(طرحنا الْعَجز عَن أعجاز عيس
…
توشحها على الحزم الحزاما)
(ونَدْفعُ بالسُّرَى مِنْها قِسياً
…
فتَقْذِفُ بِالنّوَى مِنْهَا سهاما) // الوافر //
وَقَالَ ابْن خفاجة أَيْضا
(وقِدْ مَا برَتْ مِنْها قِسيّاً يدُ السُّرَى
…
وفَوَّق منْها فَوْقَها المَجْدُ أسهُما) // الطَّوِيل //
وَقَالَ ابْن النبيه
(إنَ خَوْضَ الظَّلَماِء أطُيَبُ عنْدِي
…
مِنْ مَطايا أمْسَتْ تَشكي كَلَالَهْ)
(فَهْيَ مِثْلُ القِسيِّ شكْلاً ولكِنْ
…
هيَ فِي السّبْق أسهُمٌ لَا مَحَالَهْ) // الْخَفِيف //
وَالشَّاهِد فِي الْبَيْت مُرَاعَاة النظير وَيُسمى التناسب والتوافق والائتلاف والمؤاخاة وَهُوَ جمع أَمر وَمَا يُنَاسِبه مَعَ إِلْغَاء التضاد لتخرج الْمُطَابقَة فَهُوَ هُنَا قصد الْمُنَاسبَة بالأسهم والأوتار لما تقدم من ذكر القسي وَهَذِه الْمُنَاسبَة هُنَا معنوية لَا لفظية كَمَا فِي قَول مهيار
(ومُدبِر سيّانِ عيْنَاهُ والإبريقُ فَتْكاً ولحظُهُ والمدام
…
) // الْخَفِيف //
والإبريق هُنَا السَّيْف سمي بذلك لبريقه وَكَانَ يَصح أَن يُقَال سيان عَيناهُ والصمصام أَو الْهِنْدِيّ فَاخْتَارَ الإبريق لمناسبته لفظا للمدام إِذْ الإبريق يُطلق على إِنَاء الْخمر وَلَيْسَ هَذَا من الْمَعْنى فِي شَيْء وَإِنَّمَا هُوَ مُرَاعَاة مُجَرّد اللَّفْظ
وَمن أحسن مَا ورد فِي مُرَاعَاة النظير قَول ابْن خفاجة يصف فرسا وَهُوَ
(وأشْقَر تضرم منْهُ الوَغى
…
بشُعْلةٍ مِنْ شُعِل البَاس)
(منْ جلّنار ناضر خدُّهُ
…
وأذنُهُ مِنْ وَرَق الآسِ)
(تَطْلُعُ للغرِّةِ فِي وَجهه
…
جبابة تَضحكُ فِي الكاس) // السَّرِيع //
فالمناسبة هُنَا بَين الجلنار والآس والنضارة
وَقَول ابْن الساعاتي من أَبْيَات فِي وصف الثَّلج
(السُّحْبُ راياتٌ ولمعُ بُرُوقها
…
بيضُ الظُّبي والأرْضُ طِرْفُ أشهَبُ)
(والنَدُّ قَسطَلُه وَزَهرُ شمُوعنا
…
صُمُّ القَنا والفحْمُ نَبْلٌ مُذْهَبُ) // الْكَامِل //
وَمَا أبدع قَول بَعضهم فِي آل النَّبِي صلى الله عليه وسلم
(أنتُمْ بنُو طهَ ونَ والضُّحى
…
وبنوُ تَبارَك والكِتابِ المُحكَم)
(وَبَنُو الأبّاطِح والمَشاعرِ والصّفا
…
والركْن والبَيتِ الْعَتِيق وزمزم) // الْكَامِل //
فَإِنَّهُ أحسن فِي الْمُنَاسبَة فِي الْبَيْت الأول بَين أَسمَاء السُّور وَفِي الثَّانِي بَين الْجِهَات الحجازية وَمَا أعجب قَول السلَامِي
(أَو مَا ترى البروق تَوسطَتْ
…
أُفُقاً كأنَّ المُزنَ فِيهِ شُنُوفُ)
(واليَوْمُ مِنْ خَجَل الشَّقِيق مُضَرَّجٌ
…
خَجلٌ ومنْ مَرَض النّسيم ضعيفُ)
(والأرْضُ طِرْس والرِّياض سطُورُه
…
والزَّهْرُ شكْل بَيْنها وحروف) // الْكَامِل //
وَقَوله فِي وصف النارنج والسماريات فِي نهر طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس
(تَنَشطْ لِلصّبوح أَبَا عَليٍّ
…
على حُكْم المُنَى وَرضَا الصّدِيق)
(بِنَهْر لِلرِّياح علَيْهِ دِرْعٌ
…
يُذَهَّبُ بالغُرُوب وبالشُّرُوق)
(إِذا اصفَرّتْ علَيْهِ الشمْسُ صبَّتْ
…
عَلى أمْوَاجه ماءَ الخلوق)
(وقفت بِعْ فكمْ خَدٍّ رَقِيق
…
يُغازلُني على قَدٍّ رَشيق)
(وجَمْر شبّ فِي الأغْصان حَتَّى
…
أضاعَ المَاء فِي وهج الْحَرِيق)
(فهم الْحل فِي ميدان تبْرٍ
…
يُصاغ لَهَا كُراتٌ من عقيق) // الوافر //
وَقَوله أَيْضا فِي وصف الْحبّ
(الْحبّ كالدَهرْ يُعطينا ويرْتَجعُ
…
لَا اليأسُ يَصرفُنا عنْهُ وَلَا الطّمَعُ)
(صَحِبتُهُ والصِّبا تعزى الصَّبابة بِي
…
والوَصلُ طفْلٌ غريرٌ والهَوى يفَعُ)
(أيامَ لَا النّوْمُ فِي أجفَانِنا خلَسٌ
…
وَلَا الزّيارَةُ منْ أحْبابنا لمَعُ)
(إِذْ الشبيبة سَيْفي والهَوَى فَرسي
…
وَرايتي اللَهْوُ والَّلذاتُ لي شيع) // الْبَسِيط //
وَمَا أحسن قَول السّري الرفاء
(وغيْمٍ مُرْهفَاتُ البَرْقِ فيهِ
…
عَوَارٍ والرِّياضُ بِهَا كَوَاسي)
(وقَدْ سلت جيوش الفِطْر فِيهِ
…
عَلى شَهْرِ الصِّيام سُيُوفَ باسِ)
(ولاحَ لنا الهِلَالُ كَشَطْر طَوْقٍ
…
على لَباتِ زَرقاء اللبَاس) // الوافر //
وبديع قَول أبي طَالب الْبَغْدَادِيّ النَّحْوِيّ من أَبْيَات
(ومَهْمَةٍ سِرْتُ فِيهِ والبِساطُ دمٌ
…
والجَوُّ نَقْعٌ وهاماتُ الرِّجالِ رَبًّا) // الْبَسِيط //
وَقَول أبي حنيفَة الاسترابادي غَايَة هُنَا وَهُوَ
(هَلْ عثَرَتْ أقلَامُ خَطِّ العذار
…
فِي مشْقِها فالخَالُ نَضْخُ العِثَارْ)
(أَو استَدَارَ الخَطّ لما غَدَتْ
…
نُقْطَتُه مركَزَ ذاكَ المدَارْ)
(وَريقُه الخَمْرُ فَهَلْ ثَغْرُهُ
…
دُرُّ حباب نظمته الْعقار) // السَّرِيع //
وَقَوله وَهُوَ بديع
(إِذا الرميّ بسَهْم اللّحْظ إِذْ رشَقَا
…
فَلم تدَرّع من أصْدَاغِهِ الحلقا) // الْبَسِيط //
وَقَول أبي عَليّ الْحسن الباخرزي وَالِد صَاحب دمية الْقصر
(وذِي زَجَلٍ وَالِي سِهامَ رُهامه
…
وَولَّي فَألقَى قَوْسهُ فِي انهزامِهِ)
(ألم تَرَ خد الوَرْدِ مُدْمىَ لوَقعها
…
وأنْصُلها مَخْضوبةٌ فِي كمامه) // الطَّوِيل //
وَمَا أحسن قَول الْحُسَيْن بن عَليّ النميري من قصيدة
(رَوضٌ إذَا جَرَت الرياحُ مَرِيضَة
…
فِي زهرهِ استشفتْ بهِ مرضاهَا)
(وَإِذا تقابلت الندامى وسطهُ
…
سكر الصحَاة كَمَا صحَا سكراها) // الْكَامِل //
وَمَا أَزْهَر قَول بَعضهم يرثي فَقِيها حنفيا
(َروضة الْعلم قَطِّبي بعدَ بشرٍ
…
والْبَسِي من بنفسج جِلبَابَا)
(وَهبي النائحات منثورَ دَمعٍ
…
فشقيق النعمانِ بَان وغابا) // الْخَفِيف //
وَلأبي العصب الملحي
(ذَرَفتْ عينُ الغَمَامِ
…
فاستهلت بِسجامِ)
(وَبكى الإبريق فِي الكأس
…
بدمع من مدام)
(فاسقني دَمعاً بدمعٍ
…
من مُدَام وغمَامِ)
(واعْصِ من لامك فيهِ
…
لَيْسَ ذَا وَقت الملام) // من مجزوء الرمل //
وَلأبي الْعَلَاء المعري
(دَع اليراعَ لقومٍ يفخرون بهَا
…
وبالطوال الرُّدَيْنِيَّاتِ فافتخرِ)
(فهن أقلامكَ اللَّاتِي إذَا كتبت
…
مجداً أَتَت بمداد من دَم هدر) // الْبَسِيط //
وَمَا أحسن قَول الوأواء الدِّمَشْقِي
(سقيا ليومٍ غَدا قوسُ الغمَام بهِ
…
والشمسُ مشرقةٌ والبرقُ خلاسُ)
(كأنهُ قوسُ رَامٍ والبُرُوقُ لهُ
…
رَشقُ السِّهَام وَعين الشَّمْس برجاس) // الْبَسِيط //
وَمَا أبدع قَول السلَامِي
(وَقد خالطَ الفجرَ الظلامُ كَمَا التقى
…
علىَ رَوضةٍ خضراء وَردٌ وأدهمْ)
(وعهدي بهَا والليلُ ساقٍ ووصلنَا
…
عُقارٌ وَفْوها الكأسُ أَو كأسهَا الْفَم) // الطَّوِيل //
ولبعض شعراء الذَّخِيرَة
(بدارٍ سقتها ديمةٌ إِثْر ديمةٍ
…
فمالت بهَا الجدران شطراً على شطرِ)
(فَمن عارضٍ يسقى وَمن سقف مجلسٍ
…
يُغني وَمن بيتٍ يميلُ من السكر) // الطَّوِيل //
وَمن الغايات فِي هَذَا الْبَاب قَول البديع الهمذاني من قصيدة يصف فِيهَا طول السرى
(لكَ الله من عزم أجوبُ جيوبهُ
…
كأنيَ فِي أَجفان عين الردى كحلُ)
(كَأَن السرى ساقٍ كَأَن الْكرَى طلاً
…
كأنَّا لَهَا شَربٌ كَأَن المنى نَقْلُ)
(كأنا جياعٌ والمطيُّ لنا فمٌ
…
كَأَن الفلَا زادٌ كَأَن السرى أكلُ)
(كَأَن ينابيع الثرى ثدىُ مرضعٍ
…
وَفِي حجرها مِنِّي وَمن نَاقَتي طفلُ)
(كأَنا على أرجوحةٍ فِي مسيرنا
…
لِغَورٍ بِنَا تَهْوِى ونجدٍ بِنَا تعلوُ) // الطَّوِيل //
وَمِنْهَا فِي المديح وَلم يخرج عَن حسن الْمُنَاسبَة
(كَأَن فمي قوسٌ لساني لهُ يدٌ
…
مديحي لهُ نزعٌ بهِ أملي نبلُ)
((كَأَن دواتي مُطْفِلٌ حبشيةٌ
…
بناني لَهَا بعلٌ ونقشي لَهَا نسلُ)
(كَأَن يَدي فِي الطِّرْس غَوَّاص لجةٍ
…
بهَا كلمي دُرُّ بِهِ قيمتي تغلوُ) // الطَّوِيل //
وَله أَيْضا فِي قريب مِنْهُ يمدح الممدوح فِي القصيدة قبله وَهُوَ الْملك خلف ابْن أَحْمد صَاحب سجستان
(وليلٍ كذكراه كمعناه كاسمهِ
…
كَدين ابْن عباد كأدبار فائقِ)
(شققنا بأيدي العيس بُرْدَ ظلامهِ
…
وبتنا على وعدٍ من السّير صادقِ)
(تزجُّ بِنَا الأسفاُر فِي كل شاهقٍ
…
وَتَرْمِي بِنَا الآمال فِي كل حَالقِ)
(كَأَن مطايانا شفار كَأَنَّمَا
…
تمدُّ إليهنَّ الفلَا كفّ سارقِ)
(كَأَن نُجُوم اللَّيْل نَظَّارةٌ لنا
…
تعجب من آمالنا والعوائقِ)
(كَأَن نسيم الصُّبْح فرْصَة آيسٍ
…
كَأَن سراب القيظ خجلةُ وامقِ) // الطَّوِيل //
وَمن الْغَرِيب هُنَا قَول ابْن الرُّومِي يصف أينقا
(تطوى الفلَا وَكَأن الآلَ أرديةٌ
…
وَتارَة وكأنَّ اللَّيْل سيجانُ)
(كَأَنَّهَا فِي ضَحَاضيح الضُّحَى سفنٌ
…
وَفِي الغمار من الظلماء حيتان) // الْبَسِيط //
وَمَا أرشق قَول ابْن رَشِيق
(أصح وَأقوى مَا سمعناهُ فِي الندى
…
من الْخَبَر الْمَأْثُور مُنْذُ قديمٍ)
(أَحَادِيث ترْوِيهَا السُّيُول عَن الحيا
…
عَن الْبَحْر عَن كف الْأَمِير تَمِيم) // الطَّوِيل //
وَمن المستحسن فِي هَذَا النَّوْع قَول ابْن زيلاق فِي غُلَام مَعَه خَادِم يَحْرُسهُ
(وَمن عجَبٍ أَن يحرسوكَ بخادمٍ
…
وخدّامُ هَذَا الْحسن من ذاكَ أكثرُ)
(عذاركَ ريحانٌ وثغرك جوهرٌ
…
وخدُّكَ ياقوت وخَالكَ عنبر) // الطَّوِيل //
وَمَا أبدع قَول ابْن مطروح
(وَلَيْلَة وصلٍ خلَتْ
…
فيا عاذلي لَا تسَلْ)
(لبسنا ثِيَاب العناقِ
…
مزررة بالقبل) // من مجزوء المتقارب //
وَمثله قَول الْعِمَاد السلمامسي
(شَقَّتْ عليكَ يَد الأسىَ
…
ثوبَ الدُّمُوع إِلَى الذيول) // من مجزوء الْكَامِل //
وَعَجِيب قَول ابْن الخشاب فِي المستضئ وأجاد
(وَرَدَ الورى سلسال جودكَ فارتَوَوْا
…
وَوَقفت دون الوِرْد وَقفة حائمِ)
(ظمآن أطلبُ خفَّة من زحمةٍ
…
والوِرد لَا يزدَاد غير تزاحم) // الْكَامِل //
وَقَول بن شرف فِي اجْتِمَاع البعوض والذباب والبراغيث فِي مجْلِس مُخَاطبا لصَاحبه يستهزىء بِهِ
(لكَ مجلسٌ كملتْ ستارتنَا بهِ
…
للهو لَكِن تحتَ ذَاك حديثُ)
(غنَّى الذبابُ وظلّ يزمر حولهُ
…
فِيهِ البعوض ويرقص البرغوث) // الْكَامِل //
وَمن النهايات هُنَا قَول القَاضِي عبد الرَّحِيم الْفَاضِل
(فِي خدّه فخّ كعطفة صُدْغهِ
…
والخالُ حَبَّتهُ وقلبي الطائرُ) // الْكَامِل //
وَقَول مجير الدّين بن تَمِيم
(لَو كنت تَشْهَدُني وَقد حمىَ الوغَى
…
فِي موقفٍ مَا الْمَوْت عَنهُ بمعزلِ)
(لتَرى أنابيبَ الْقَنَاة علىَ يَدي
…
تجْرِي دَماً من تَحت ظلّ القسطل) // الْكَامِل //
وَقد أغرب الأديب بدر الدّين حسن الزغاري بقوله
(كَأَن السَّحَاب الغر لمَّا تجمعتْ
…
وَقد فرقتْ عَنَّا الهمومَ بجمعهَا)
(نياقٌ ووجهُ الأَرْض قعبٌ وثلجها
…
حَليبٌ وكف الرّيح حالب ضرْعهَا) // الطَّوِيل //
وَالْبَاب وَاسع وَلَا بُد من مُرَاعَاة الِاخْتِصَار هُنَا
118 -
(إِذا لم تستطع شَيْئا فَدَعْهُ
…
وجاوزه إِلَى مَا تَسْتَطِيع)
الْبَيْت لعَمْرو بن معدي كرب الزبيدِيّ من قصيدة من الوافر وأولها
(أمِنْ رَيحانةَ الدَّاعي السميعُ
…
يُؤَرْقني وأصحَابي هُجُوعُ)
(سبَاهَا الصمَّةُ الجشميُّ غصبا
…
كأنَّ بيَاضَ غرتها صديغ)
(وحَالت دونهَا فرسانُ قيسٍ
…
تكشفُ عَن سواعدها الدروع) // الوافر //
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(وصلهُ بِالزَّمَانِ فكلُّ أمرٍ
…
سمَا لكَ أَو سمَوتَ لهُ ولوعُ)
وَهِي طَوِيلَة
قَالَ الْمَدَائِنِي حَدثنِي رجل من قُرَيْش قَالَ كُنَّا عِنْد فلَان الْقرشِي فَجَاءَهُ رجلٌ بِجَارِيَة فغنته
(بِاللَّه يَا ظبيَ بني الحارثِ
…
هَلْ مَنْ وفى بالعهد كالناكث) // السَّرِيع // وغنته أَيْضا بغناء ابْن سُرَيج
(يَا طولَ ليلى وبتُّ لم أنمِ
…
وساديَ الهمُّ مبُطنٌ سقمي) // المنسرح //
فَأَعْجَبتهُ واستام مَوْلَاهَا فاشتط عَلَيْهِ فَأبى شراءها وأعجبت الْجَارِيَة بالفتى فَلَمَّا امْتنع مَوْلَاهَا من البيع إِلَّا بشطط قَالَ الْقرشِي فَلَا حَاجَة لنا فِي جاريتك فَلَمَّا قَامَت الْجَارِيَة للانصراف رفعت صَوتهَا تَقول
(إذَا لم تستطع شَيْئا فَدَعْهُ) الْبَيْت
قَالَ فَقَالَ الْفَتى الْقرشِي أفأنا لَا أَسْتَطِيع شراءك وَالله لأشترينك بِمَا بلغت قَالَت الْجَارِيَة فَذَلِك أردْت قَالَ الْقرشِي إِنِّي لَا أخيبك وابتاعها من سَاعَته
وَالشَّاهِد فِيهِ الإرصاد ويسميه بَعضهم التسهيم وَهُوَ أَن يَجْعَل قبل الْعَجز من الْفَقْرَة أَو الْبَيْت مَا يدل على الْعَجز إِذا عرف الروي وَهُوَ الْحَرْف الَّذِي تبنى عَلَيْهِ أَوَاخِر الأبيات أَو الْفقر وَيجب تكراره فِي كل مِنْهَا فَإِنَّهُ قد يكون مِنْهَا مَا لَا يعرف مِنْهُ الْعَجز لعدم مَعْرفَته حرف الروي كَقَوْل البحتري
(أحَلَّت دمي من غير جرم وحَرَّمت
…
بِلَا سَبَب يَوْم اللِّقَاء كَلَامي)
(فَلَيْسَ الَّذِي قد حللت بِمُحَلل
…
وَلَيْسَ الَّذِي قد حرمت بِحرَام) // الطَّوِيل //
فَإِنَّهُ لَو لم يعرف أَن القافية مثل سَلام وَكَلَام لربما توهم أَن الْعَجز بحرم وَقَول جنوب أُخْت عمرٍو ذِي الْكَلْب
(وخرق تجاوزت مجهوله
…
بوجناء حرف تشكَّى الكلالا)
(فَكنت النَّهَار بِهِ شمسه
…
وَكنت دجى اللَّيْل فِيهِ الهلالا) // المتقارب //
وَالْقَوْل فِيهِ كَالَّذي قبله
وَمِمَّا اختير من شَوَاهِد هَذَا النَّوْع قَول الرَّاعِي
(وَإِن وَزِنَ الْحَصَى فوزَنْتُ قومِي
…
وجدتُ حَصى ضريبتهم وزينا) // الوافر //
وَقد حكى أَن عمر بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي جلس إِلَى ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما فابتدأ ينشده
(تشطُّ غَدا دارُ جيرانِنا
…
)
فَقَالَ ابْن عَبَّاس رضي الله عنه
(وللَدارُ بعدَ غدٍ أبعدُ
…
)
وَكَانَ كَذَلِك وَلم يسمع غير الشّطْر الأول
وَكَذَلِكَ يحْكى عَن عدي بن الرّقاع أَنه أنْشد فِي صفة الظبية وَوَلدهَا
(تُزْجي أغَنَّ كَأَن إبرة روقه
…
) // الْكَامِل //
وغفل الممدوح عَنهُ فَسكت وَكَانَ جَرِيرًا حَاضرا فَقيل لَهُ مَا ترَاهُ يَقُول فَقَالَ جرير
(قلم أصابَ من الدواة مدادَها
…
)
وَأَقْبل عَلَيْهِ الممدوح فَقَالَ كَمَا قَالَ جرير لم يُغَادر حرفا
وَمِنْه قَول الخنساء
(ببيض الصفاح وَسمر الرماح
…
فبالبيض ضربا وبالسمر وخزا) // المتقارب //
وَقَول دعبل
(وَإِذا عاندنا ذُو قوةٍ
…
غضب الرّوح عَلَيْهِ فعرجْ)
(فعلى أَيْمَاننَا يجْرِي النَّدَى
…
وعَلى أسيافنا تجْرِي المهج) // الرمل //
وَمن جيده قَول بَعضهم
(وَلَو أنني أعطيتُ من دهريَ المنى
…
وَمَا كل من يُعْطَى المنى بمسَدِّدِ)
(لَقلت لأيامِ مضيْنَ أَلا ارجعي
…
وَقلت لأيام أتَيْنَ أَلا ابعدي) // الطَّوِيل //
وَمَا أحسن قَول البحتري
(أبكيكما دمعاً وَلَو أَنِّي على
…
قَدْرِ الجوى أبْكِي بكيتكما دَمَا) // الْكَامِل //
وَحدث إِبْرَاهِيم بن أبي مُحَمَّد اليزيدي قَالَ كنت عِنْد الْمَأْمُون يَوْمًا وبحضرته عريب فَقَالَت لَهُ على سَبِيل الولع يَا سلعوس وَكَانَت جواري الْمَأْمُون يلقبنني بذلك عَبَثا فَقلت
(وَقل لعريب لَا تَكُونِي مسلعسه
…
وكوني كتعريف وكوني كمؤنسه) // الطَّوِيل //
فَقَالَ الْمَأْمُون
(فَإِن كثرت مِنْك الْأَقَاوِيل لم يكن
…
هُنَالك شَيْء إِن ذَا مِنْك وسوسه)
فَقلت كَذَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أردْت أَن أَقُول وَعَجِبت من ذهن الْمَأْمُون وطبعه وفطنته
ولمؤلفه من أَبْيَات
(لَيْسَ التَّقَدُّم بِالزَّمَانِ مقدِّماً
…
أحدا وَلَا التَّأْخِير فِيهِ يؤخِّرُ)
(فَلِكُل عصر مستجد تُبَّعٌ
…
وَلكُل وَقت مقبل إسكندر) // الْكَامِل //
ومدح أَبُو الرَّجَاء الْأَهْوَازِي الصاحب ابْن عباد لما ورد الأهواز بقصيدة مِنْهَا
(إِلَى ابْن عبادٍ أبي الْقَاسِم الصاحب
…
إِسْمَاعِيل كَافِي الكفاة) // السَّرِيع //
فَاسْتحْسن جمعه بَين اسْمه ولقبه وكنيته وَاسم أَبِيه فِي بَيت وَاحِد ثمَّ ذكر وُصُوله إِلَى بَغْدَاد وَملكه إِيَّاهَا فَقَالَ
(ويشربُ الجندُ هَنِيئًا بهَا
…
)
فَقَالَ لَهُ ابْن عباد أمسك امسك أَتُرِيدُ أَن تَقول
(من بعد مَاء الرّيّ مَاء الفراة
…
)
فَقَالَ هَكَذَا وَالله أردْت وَضحك
وَعَمْرو بن معدي كرب هُوَ أَبُو عبد الله وَقيل أَبُو ربيعَة بن عبد الله بن عَمْرو بن عَاصِم بن عَمْرو بن زبيد يَنْتَهِي نسبه لقحطان ويكنى أَبَا ثَوْر وَأمه وَأم أَخِيه عبد الله امْرَأَة من جرهم فِيمَا ذكر وَهِي مَعْدُودَة من المنجبات وَعَن أبي عُبَيْدَة قَالَ عَمْرو بن معدي كرب فَارس الْيمن وَهُوَ مقدم على زيد الْخَيل فِي الشدَّة والبأس
وَعَن زيد بن قحيف الْكلابِي قَالَ سَمِعت أشياخنا يَزْعمُونَ أَن عَمْرو بن معدي كرب كَانَ يُقَال لَهُ مائق بني زبيد فَبَلغهُمْ أَن خثعم تريدهم فتأهبوا لَهُم وَجمع معدي كرب بني زبيد فَدخل عَمْرو على أُخْته فَقَالَ لَهَا أشبعيني إِنِّي غَدا آتِي الكتيبة فجَاء معدي كرب فَأَخْبَرته ابْنَته فَقَالَ هَذَا المائق يَقُول ذَلِك قَالَت نعم قَالَ فسليه مَا يشبعه فَسَأَلته فَقَالَ فرق من ذرة وعنز ربَاعِية قَالَ وَكَانَ الْفرق يَوْمئِذٍ ثَلَاثَة آصَع فَصنعَ لَهُ ذَلِك وَذبح العنز وهيأ الطَّعَام قَالَ فَجَلَسَ عَمْرو عَلَيْهِ فسلته جَمِيعًا وأتتهم خثعم الصَّباح فلقوهم وَجَاء عَمْرو فَرمى بِنَفسِهِ ثمَّ رفع رَأسه فَإِذا لِوَاء أَبِيه قَائِم فَوضع رَأسه ثمَّ رَفعه فَإِذا هُوَ قد زَالَ فَقَامَ كَأَنَّهُ سرحة محرقة فَتلقى أَبَاهُ وَقد انْهَزمُوا فَقَالَ لَهُ انْزِلْ عَنْهَا فَقَالَ إِلَيْك يَا مائق فَقَالَ بَنو زبيد خله أَيهَا الرجل وَمَا يُرِيد فَإِن قتل كفيت مُؤْنَته وَإِن ظهر فَهُوَ لَك فَألْقى إِلَيْهِ سلاحه ثمَّ ركب فَرمى خثعم بِنَفسِهِ حَتَّى خرج من
بَين أظهرهم ثمَّ كرّ عَلَيْهِم وَفعل ذَلِك مرَارًا وحملت عَلَيْهِم بَنو زبيد فانهزمت خثعم وقهروا فَقيل لَهُ يَوْمئِذٍ فَارس بَنو زبيد
وَكَانَ من خبر إِسْلَام عَمْرو بن معدي كرب الزبيدِيّ مَا حَكَاهُ الْمَدَائِنِي عَن أبي الْيَقظَان عَن جوَيْرِية بن أَسمَاء قَالَ أقبل النَّبِي صلى الله عليه وسلم من غزَاة تَبُوك يُرِيد الْمَدِينَة فَأدْرك عَمْرو بن معدي كرب الزبيدِيّ فِي رجال من بني زبيد فَتقدم عَمْرو ليلحق برَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأمْسك عَنهُ حَتَّى أودن بِهِ فَلَمَّا تقدم وَرَسُول الله يسير قَالَ حياك إلهك أَبيت اللَّعْن فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (إِن لعنة الله وَمَلَائِكَته وَالنَّاس أَجْمَعِينَ على الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَآمن بِاللَّه يُؤمنك الله يَوْم الْفَزع الْأَكْبَر) فَقَالَ عَمْرو ابْن معدي كرب وَمَا الْفَزع الْأَكْبَر قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (أَنه فزع لَيْسَ كَمَا تحسب وتظن إِنَّه يصاح بِالنَّاسِ صَيْحَة لَا يبْقى حَيّ إِلَّا مَاتَ إِلَّا مَا شَاءَ الله تَعَالَى من ذَلِك ثمَّ يصاح بِالنَّاسِ صَيْحَة لَا يبْقى ميت إِلَّا نشر ثمَّ تلج تِلْكَ الأَرْض بدوي تنهد مِنْهُ الأَرْض وتخر مِنْهُ الْجبَال وتنشق السَّمَاء انْشِقَاق الْقبْطِيَّة الجديدة مَا شَاءَ الله من ذَلِك ثمَّ تبرز النَّار فَينْظر إِلَيْهَا حَمْرَاء مظْلمَة قد صَار لَهَا لِسَان فِي السَّمَاء ترمي بِمثل رُؤُوس الْجبَال من شرر النَّار فَلَا يبْقى ذُو روح إِلَّا انخلع قلبه وَذكر ذَنبه أَيْن أَنْت يَا عَمْرو فَقَالَ إِنِّي أسمع أمرا عَظِيما فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (يَا عَمْرو أسلم تسلم) فَأسلم وَبَايع لِقَوْمِهِ على الْإِسْلَام وَذَلِكَ منصرف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من تَبُوك وَكَانَت فِي رَجَب سنة تسع
وَعَن أبي عُبَيْدَة قَالَ لما ارْتَدَّ عَمْرو ابْن معدي كرب مَعَ من ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام من مذْحج استجاش فَرْوَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَوجه إِلَيْهِم خَالِد
ابْن سعيد بن الْعَاصِ وخَالِد بن الْوَلِيد وَقَالَ لَهما إِذا اجْتَمَعْتُمْ فعلي بن أبي طَالب أميركم وَهُوَ على النَّاس وَوجه عليا رضي الله عنه فَاجْتمعُوا بِكَسْر من أَرض الْيمن فَاقْتَتلُوا وَقتل بَعضهم وَنَجَا بعض فَلم تزل جَعْفَر وزبيد وأدد بَنو سعد الْعَشِيرَة بعْدهَا قَليلَة يرْوى أَنه لما بلغ عَمْرو ابْن معدي كرب قرب مكانهم أقبل فِي جمَاعَة من قومه فَلَمَّا دنا مِنْهُم قَالَ دَعونِي حَتَّى آتِي هَؤُلَاءِ الْقَوْم فَإِنِّي لم أسم لأحد قطّ إِلَّا هابنى فَلَمَّا دنا مِنْهُم نَادَى أَنا أَبُو ثَوْر أَنا عَمْرو ابْن معدي كرب فَابْتَدَرَهُ عَليّ وخَالِد وَكِلَاهُمَا يَقُول لصَاحبه خَلِّنِي وإياه ويفديه بابيه وَأمه فَقَالَ عَمْرو إِذْ سمع قَوْلهمَا الْعَرَب تفزع مني وَأرَانِي لهَؤُلَاء جزراً فَانْصَرف عَنْهُمَا ثمَّ رَجَعَ إِلَى الإٍسلام وَفِي هَذَا الْوَجْه وَقعت الصمصامة إِلَى آل سعيد وَكَانَ سَبَب وُقُوعهَا إِلَيْهِم أَن رَيْحَانَة بنت معدي كرب وَهِي المعنية أول القصيدة سبيت يَوْمئِذٍ فأفداها خَالِد وأثابه عَمْرو الصمصامة فَصَارَ إِلَى أَخِيه سعيد فَوجدَ سعيد جريحاً يَوْم قتل عُثْمَان رضي الله عنه حِين حصر أَي فِي الدَّار وَقد ذهب السَّيْف والغمد ثمَّ وجد الغمد فَلَمَّا قَامَ مُعَاوِيَة جَاءَهُ أَعْرَابِي بِالسَّيْفِ بِغَيْر غمد وَسَعِيد حَاضر فَقَالَ سعيد هَذَا سَيفي فَجحد الْأَعرَابِي مقَالَته فَقَالَ سعيد الدَّلِيل على أَنه سَيفي أَن تبْعَث إِلَى غمده فتغمده فَيكون كفافه فَبعث مُعَاوِيَة إِلَى الغمد فَأتى بِهِ من منزل سعيد فَإِذا هُوَ عَلَيْهِ فَأقر الْأَعرَابِي أَنه أَصَابَهُ يَوْم الدَّار فَأَخذه سعيد مِنْهُ وأثابه فَلم يزل عِنْدهم حَتَّى أصعد الْمهْدي من الْبَصْرَة
فَلَمَّا كَانَ بواسط فَأرْسل إِلَى آل سعيد فِيهِ فَقَالُوا إِنَّه للسبيل فَقَالَ خَمْسُونَ سَيْفا قَاطعا أغْنى من سيف وَاحِد فَأَعْطَاهُمْ خمسين ألف دِرْهَم وَأَخذه
وَعَن الشّعبِيّ أَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه فرض لعَمْرو بن معدي كرب فِي الْفَيْء أَلفَيْنِ فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ألف هَهُنَا وَأَوْمَأَ إِلَى شقّ بظنه الْأَيْمن وَألف هَهُنَا وَأَوْمَأَ إِلَى شقّ بَطْنه الْأَيْسَر فَمَا يكون هَهُنَا وَأَوْمَأَ إِلَى وسط بَطْنه فَضَحِك عمر من كَلَام عَمْرو رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا وزاده خَمْسمِائَة
وَقَالَ أَبُو الْيَقظَان قَالَ عَمْرو بن معدي كرب لَو سرت بظعينة وحدي على مياه معد كلهَا مَا خفت أَن أغلب عَلَيْهَا مالم يلقني حراها وعبداها فَأَما الحران فعامر بن الطُّفَيْل وعتيبة بن الْحَارِث بن شهَاب وَأما العبدان فأسود بني عبس يَعْنِي عنترة والسليك بن السلكة وَكلهمْ لقِيت فَأَما عَامر بن الطُّفَيْل فسريع الطعْن على الصَّوْت وَأما عتيبة بن الْحَرْث فَأول الْخَيل إِذا غارت وَآخِرهَا إِذا آبت وَأما عنترة فقليل النُّبُوَّة شَدِيد الْكَلْب وَأما السليك فبعيد الْغَارة كالليث الضاري
وَعَن قيس أَن عمر رضي الله عنه كتب إِلَى سعد بن أبي وَقاص إِنِّي قد أمددتك بألفي رجل عَمْرو بن معدي كرب وطليحة بن خويلد وَهُوَ طليحة الْأَسدي فشاورهما فِي الْحَرْب وَلَا تولهما شَيْئا
وَعنهُ قَالَ شهِدت الْقَادِسِيَّة وَكَانَ سعد على النَّاس فجَاء رستم فَجعل يمر بِنَا وَعَمْرو بن معدي كرب الزبيدِيّ يمر على الصُّفُوف ويحض النَّاس وَيَقُول يَا معشر الْمُهَاجِرين كونُوا أسداً أَعنِي عباساً فَإِنَّمَا الْفَارِسِي تَيْس بعد أَن
يلقى يبرك قَالَ وَكَانَ مَعَ رستم أسوار لَا تسْقط لَهُ نشابة فَقيل لَهُ يَا أَبَا ثَوْر اتَّقِ ذَلِك فَإنَّا لنقول لَهُ ذَلِك إِذْ رَمَاه رمية فَأصَاب فرسه وَحمل عَلَيْهِ عَمْرو فاعتنقه ثمَّ ذبحه وسلبه سوارى ذهبٍ كَانَا عَلَيْهِ وقباء ديباج قَالَ غير قيس وَرجع بسلبه وَهُوَ يَقُول
(أَنا أَبُو ثَوْر وسيفي ذُو النونْ
…
أضربهم ضربَ غلامٍ مجنونْ)
(يالَ زَبيدٍ إِنَّهُم يموتون
…
) // الرجز //
وَفِي رِوَايَة عَن أبي زيد أَن عمرا شهد الْقَادِسِيَّة وَهُوَ ابْن مائَة وست سِنِين وَقيل بل ابْن مائَة وَعشر وَلما قتل العلج عبر نهر الْقَادِسِيَّة هُوَ وَقيس ابْن مكشوح الْمرَادِي وَمَالك بن الْحَارِث الأشتر وَكَانَ عَمْرو آخِرهم وَكَانَت فرسه ضَعِيفَة فَطلب غَيرهَا فَأتى بفرس فَأخذ بعكوة ذَنبه وأخلد بِهِ إِلَى الأَرْض فأقعى الْفرس فَرده وأتى بآخر فَفعل بِهِ مثل ذَلِك فتحلحل وَلم يَقع فَقَالَ هَذَا على كل حَال أقوى من ذَلِك وَقَالَ لأَصْحَابه إِنِّي حاملٌ وعابرٌ الجسر فَإِن أسرعتم بِمِقْدَار جزر الْجَزُور وجدتموني وسيعني بيَدي أقَاتل بِهِ تِلْقَاء وَجْهي وَقد عقرني الْقَوْم وَأَنا قَائِم بَينهم وَقد قتلت وجردت وَإِن أبطأتم وجدتموني قَتِيلا بَينهم وَقد قتلت وجردت ثمَّ انغمس فَحمل فِي الْقَوْم فَقَالَ بَعضهم يابني زبيد على م تدعون صَاحبكُم وَالله مَا نرى أَن تدركوه حَيا فحملوا فَانْتَهوا إِلَيْهِ وَقد صرع عَن فرسه وَقد أَخذ بِرَجُل فرس رجل من الْعَجم فَأَمْسكهَا وَإِن الْفَارِس
ليضْرب الْفرس فَلَا تقدر أَن تتحرك من يَده فَلَمَّا غشينا رمى الأعجمي بِنَفسِهِ وخلى فرسه فَرَكبهُ عَمْرو وَقَالَ أَنا أَبُو ثَوْر كدتم وَالله تفقدونني قَالُوا أَيْن فرسك قَالَ رمى بنشابة فشب فصرعني وعار
وَعَن أبان بن صَالح قَالَ قَالَ عَمْرو بن معدي كرب يَوْم الْقَادِسِيَّة ألزموا خراطيم الفيلة السيوف فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا مقتل إِلَّا خراطيمها ثمَّ شدّ على رستم وَهُوَ على الْفِيل فَضرب فيله فجذم عرقوبيه فَسقط وَحمل رستم على فرس وَسقط من تَحْتَهُ خرج فِيهِ أَرْبَعُونَ ألف دِينَار فحازه الْمُسلمُونَ وَسقط رستم بعد ذَلِك عَن فرسه فَقتله وَانْهَزَمَ الْمُشْركُونَ وَقيل إِن الخرج سقط عَلَيْهِ فَقتله
وَعَن الشّعبِيّ قَالَ جَاءَت زِيَادَة من عِنْد عمر يَوْم الْقَادِسِيَّة فَقَالَ عَمْرو بن معدي كرب لطليحة أما ترى أَن هَذِه الزعانف تزاد وَلَا نزاد انْطلق بِنَا إِلَى هَذَا الرجل حَتَّى نكلمه فَقَالَ هَيْهَات وَالله لَا أَلْقَاهُ فِي هَذَا أبدا فَلَقَد لَقِيَنِي فِي بعض فجاج مَكَّة فَقَالَ يَا طليحة أقتلت عكاشة فتوعدني وعيداً ظَنَنْت أَنه قاتلي وَلَا آمنهُ قَالَ عَمْرو ولكنني أَلْقَاهُ قَالَ أَنْت وَذَاكَ فَخرج إِلَى الْمَدِينَة فَقدم على عمر رضي الله عنه وَهُوَ يغدي النَّاس وَقد جفن لعشرة
عشرَة فأقعده عمر مَعَ عشرَة فَأَكَلُوا ونهضوا وَلم يقم عَمْرو فَأقْعدَ مَعَه تَكْمِلَة عشرَة حَتَّى أكل مَعَ ثَلَاثِينَ ثمَّ قَامَ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه كَانَت لي مآكل فِي الْجَاهِلِيَّة مَنَعَنِي مِنْهَا الْإِسْلَام وَقد صررت فِي بَطْني صرتين وَتركت بَينهمَا هَوَاء فسده فَقَالَ عَلَيْك حِجَارَة من حِجَارَة الْحرَّة فسده بهَا يَا عَمْرو إِنَّه بَلغنِي أَنَّك تَقول إِن لي سَيْفا يُقَال لَهُ الصمصامة وَعِنْدِي سيف اسْمه المصمم وَإِنِّي إِن وَضعته بَين أذنيك لم أرفعه حَتَّى يخالط أضراسك
وَحدث يُونُس وَأَبُو الْخطاب قَالَا لما كَانَ يَوْم فتح الْقَادِسِيَّة أصَاب الْمُسلمُونَ أسلحة وتيجاناً ومناطق ورقاباً فبلغت مَالا عَظِيما فعزل سعد الْخمس ثمَّ فض الْبَقِيَّة فَأصَاب الْفَارِس سِتَّة آلَاف والراجل أَلفَانِ وَبَقِي مَال دثر فَكتب إِلَى عمر رضي الله عنه بِمَا فعل فَكتب إِلَيْهِ أَن رد على الْمُسلمين الْخمس وَأعْطِ من لحق بك مِمَّن لم يشْهد الْوَقْعَة فَفعل فأجراهم مجْرى من شهد وَكتب إِلَى عمر بذلك فَكتب إِلَيْهِ أَن فض مَا بَقِي على حَملَة الْقُرْآن فَأَتَاهُ عَمْرو بن معد كرب فَقَالَ بِهِ سعد مَا مَعَك من كتاب الله فَقَالَ عَمْرو إِنِّي أسلمت بِالْيمن ثمَّ غزوت فشغلت عَن حفظ الْقُرْآن قَالَ مَا لَك فِي هَذَا المَال نصيب وَأَتَاهُ بشر بن ربيعَة الْخَثْعَمِي وَصَاحب جباية بشر
فَقَالَ مَا مَعَك من كتاب الله قَالَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَضَحِك الْقَوْم وَلم يُعْطه شَيْئا فَقَالَ عَمْرو فِي ذَلِك
(إِذا قتلنَا وَلَا يبكي لنا أحد
…
قَالَت قُرَيْش أَلا تِلْكَ الْمَقَادِير)
(نعطي السوية من طعن لَهُ نفذ
…
وَلَا سوية إِذْ تُعْطى الدَّنَانِير) // الْبَسِيط //
وَقَالَ بشر بن ربيعَة
(أنخت بياب الْقَادِسِيَّة نَاقَتي
…
وسعدُ بن وَقاص عليَّ أميرُ)
(وسعدٌ أميرٌ شرُّهُ دونَ خيرهِ
…
وخيرُ أميرٍ بالعراق جَريرُ)
(وعندَ أَمِير الْمُؤمنِينَ نوافلٌ
…
وعندَ المثَّنى فضةٌ وحَريرُ)
(تذكر هداكَ اللهُ وَقع سُيُوفنَا
…
ببابِ قديس والمكرُّ عسيرُ)
(عشيةَ ودَّ القومُ لَو أَن بعضهمْ
…
يُعار جناحَيْ طائرٍ فيطيرُ)
(إذَا مَا فَرغْنَا من قراع كتيبةٍ
…
دَلفنا لأخرى كالجبال تسيرُ)
(ترَى الْقَوْم فِيهَا واجمين كَأَنَّهُمْ
…
جمال بأجمال لَهُنَّ زفير) // الطَّوِيل //
فَكتب سعد إِلَى عمر رضي الله عنه بِمَا قَالَ لَهما وَمَا ردا عَلَيْهِ وبالقصيدتين فَكتب أَن أعطهما على بلائهما فَأعْطى لكل وَاحِد مِنْهُمَا ألفي دِرْهَم
وَعَن ابْن قُتَيْبَة أَن سَعْدا كتب إِلَى عمر رضي الله عنه يثني على عَمْرو ابْن معدي كرب فَسَأَلَ عمر عمرا عَن سعد فَقَالَ هُوَ لنا كَالْأَبِ أَعْرَابِي فِي نمرته أَسد فِي تامورته يقسم بِالسَّوِيَّةِ ويعدل فِي الْقَضِيَّة وينفر فِي السّريَّة وينقل إِلَيْنَا حَقنا كَمَا تنقل الذّرة فَقَالَ عمر رضي الله عنه لشد مَا تقارضتما الثَّنَاء
وَجَاء رجل وَعَمْرو بن معدي كرب وَاقِف بالكناسة على فرس لَهُ فَقَالَ لأنظرن مَا بَقِي من قُوَّة أبي ثَوْر فَأدْخل يَده بَين سَاقه وَبَين السرج فَفطن عَمْرو فَضمهَا عَلَيْهِ وحرك فرسه فَجعل الرجل يعدو مَعَ الْفرس لَا يقدر أَن ينْزع يَده حَتَّى إِذا بلغ مِنْهُ قَالَ يَا ابْن أخي مَا لَك قَالَ يَدي تَحت ساقك فخلى عَنهُ وَقَالَ يَا ابْن أخي إِن فِي عمك لبَقيَّة بعد
وَكَانَ عَمْرو مَعَ شجاعته ومواقفه مَشْهُورا بِالْكَذِبِ فَحدث الْمبرد قَالَ كَانَت الْأَشْرَاف بِالْكُوفَةِ يخرجُون إِلَى ظهرهَا يتناشدون الْأَشْعَار وَيَتَحَدَّثُونَ ويتذاكرون أَيَّام النَّاس فَوقف عَمْرو إِلَى جَانب خَالِد بن الصَّقْعَب النَّهْدِيّ فَأقبل عَلَيْهِ يحدثه وَيَقُول أغرت على بني نهد فَخَرجُوا إِلَى مسترعفين بِخَالِد بن الصَّقْعَب يقدمهم فطعنته طعنة فَوَقع وضربته بالصمصامة حَتَّى فاضت نَفسه فَقَالَ لَهُ الرجل يَا أَبَا ثَوْر إِن مقتولك الَّذِي تذكره هُوَ الَّذِي تحدثه فَقَالَ اللَّهُمَّ غفراً إِنَّمَا أَنْت مُحدث فاستمع إِنَّمَا نتحدث بِمثل هَذَا وأشباهه لنرهب هَذِه المعدية
وَقَالَ مُحَمَّد بن سَلام أَبَت الْعَرَب إِلَّا أَن عمرا كَانَ يكذب قَالَ وَقلت لخلف الْأَحْمَر وَكَانَ مولى للأشعريين وَكَانَ يتعصب لليمانية أَكَانَ عَمْرو يكذب قَالَ كَانَ يكذب بِاللِّسَانِ وَيصدق بالفعال
وَعَن زِيَاد مولى سعد قَالَ سَمِعت سَعْدا يَقُول وبلغه أَن عَمْرو بن معدي كرب وَقع فِي الْخمر وَأَنه قد دله لقد كَانَ لَهُ موطن صَالح يَوْم الْقَادِسِيَّة عَظِيم الْغناء شَدِيد النكاية لِلْعَدو فَقيل لَهُ فقيس بن مكشوح فَقَالَ هَذَا أبذل لنَفسِهِ من قيس وَإِن قيسا لشجاع
وَعَن أبي مُحَمَّد المرهبي قَالَ كَانَ شيخ يُجَالس عبد الْملك بن عُمَيْر فَسَمعته يحدث قَالَ قدم عُيَيْنَة بن حصن الْكُوفَة فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا ثمَّ قَالَ وَالله مَا لي بِأبي ثَوْر عهد مُنْذُ قدمنَا هَذَا الْغَائِط يَعْنِي بَابي ثَوْر عَمْرو بن معدي كرب أَسْرج لي يَا غُلَام فاسرج لَهُ فرسا أُنْثَى من خيله فَلَمَّا قربهَا إِلَيْهِ ليرْكبَهَا قَالَ لَهُ وَيحك أرأيتني ركبت أُنْثَى فِي الْجَاهِلِيَّة فأركبها فِي الْإِسْلَام فأسرج لي حصاناً فأسرجه فَرَكبهُ وَأَقْبل إِلَى محلّة بني زبيد فَسَأَلَ عَن محلّة عَمْرو بن معدي كرب فأرشد إِلَيْهَا فَوقف بِبَابِهِ ونادى أَي أَبَا ثَوْر اخْرُج إِلَيْنَا فَخرج عَلَيْهِ مؤتزراً كَأَنَّمَا كسر وجبر فَقَالَ انْعمْ صباحاً أَبَا مَالك قَالَ أَو لَيْسَ قد أبدلنا الله بِهَذَا السَّلَام عَلَيْكُم قَالَ دَعْنَا مِمَّا لَا نَعْرِف انْزِلْ فَإِن عِنْدِي كَبْشًا شناحاً فَنزل فَعمد إِلَى الْكَبْش فذبحه ثمَّ كشط جلده عَنهُ وعضاه وألقاه فِي قدر جماع وطبخه حَتَّى إِذا أدْرك جَاءَ بِجَفْنَة عَظِيمَة فثرد فِيهَا وَألقى الْقدر عَلَيْهَا فقعدا فأكلاه ثمَّ قَالَ لَهُ أَي الشَّرَاب أحب إِلَيْك اللَّبن أم مَا كُنَّا نتنادم عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة قَالَ أَو لَيْسَ قد حرمهَا الله عز وجل علينا فِي الْإِسْلَام قَالَ أَنْت أكبر سنا أم أَنا قَالَ أَنْت قَالَ أفأنت اقدم إسلاماً أم أَنا قَالَ أَنْت قَالَ فَإِنِّي قد قَرَأت مَا بَين دفتي الْمُصحف فوَاللَّه مَا وجدت لَهَا تَحْرِيمًا إِلَّا أَنه قَالَ {فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} فَقُلْنَا لَا فَسكت وسكتنا فَقَالَ لَهُ أَنْت أكبر سنا وأقدم ِإسلاماً فجَاء بهَا فَجَلَسَا يتنادمان ويشربان ويذكران أَيَّام الْجَاهِلِيَّة حَتَّى أمسيا فَلَمَّا أَرَادَ عُيَيْنَة
الِانْصِرَاف قَالَ عَمْرو بن معدي كرب وَلَئِن انْصَرف أَبُو مَالك بِغَيْر حباء إِنَّهَا لوصمة عَليّ فَأمر بِنَاقَة لَهُ أرحبية كَأَنَّهَا جبيرَة لجين فارتحلها وَحمله عَلَيْهَا ثمَّ قَالَ يَا غُلَام هَات المزود فجَاء بمزود فِيهِ أَرْبَعَة آلف دِرْهَم فوضعها بَين يَدَيْهِ فَقَالَ أما المَال فوَاللَّه لَا قبلته قَالَ فوَاللَّه إِنَّه لمن حباء عمر بن الْخطاب رضي الله عنه فَلم يقبله عُيَيْنَة وَانْصَرف وَهُوَ يَقُول
(جُزيتَ أَبَا ثورٍ جزَاء كرَامةٍ
…
فنعمَ الْفَتى المُزْدَارُ والمتضيِّف)
(قَريتَ فأكرَمتَ القِرَى وأفدتنَا
…
خَبيةَ عِلمٍ لم تكنْ قطُّ تُعرَفُ)
(وقلتَ حلالٌ أَن نُدِيرَ مدامةً
…
كلونِ انعقاق البْرق والليلُ مسدفُ)
(وقدَّمتَ فِيهَا حجَّة عَرَبِيَّة
…
ترد إِلَى الإنصَاف من لَيْسَ ينصفُ)
(وأنتَ لنا وَالله ذِي العرشِ قدوةٌ
…
إِذا صدَّنا عَن شربهَا المتكلفُ)
(نقولُ أَبُو ثورٍ أحَلَّ حرامها
…
وَقَول أبي ثَوْر أسَدُّ وأعرَفُ) // الطَّوِيل //
وغزا عَمْرو بن معدي كرب هُوَ وَأبي الْمرَادِي فَأَصَابُوا غَنَائِم فَادّعى أبي أَنه قد كَانَ مسانداً فَأبى عَمْرو أَن يُعْطِيهِ شَيْئا وَبلغ عمرا أَنه يتوعده فَقَالَ عَمْرو فِي ذَلِك قصيدة أَولهَا
(أعاذِل شكتي بدني ورُمحي
…
وكل مقلِّص سَلسِ القيادِ)
(أعاذل إِنَّمَا أفنى شَبَابِي
…
وأقرحَ عَاتِقي ثقلُ النِّجادِ)
(تَمَنَّاني ليلقانِي أبيٌّ
…
وددت وأينما منى ودادي)
(وَلَو لاقيتني وَمَعِي سلاحي
…
تكشَّفَ شحمُ قَلْبك عَن سَواد)
(أُرِيد حَيَاته وَيُرِيد قَتْلِي
…
عذيرَك من خَلِيلك من مُرَاد) // الوافر //
وَهَذَا الْبَيْت كَانَ يتَمَثَّل بِهِ على بن أبي طَالب رضي الله عنه إِذا أعْطى النَّاس وَرَأى ابْن ملجم قَاتله الله
وَكَانَ سَبَب موت عَمْرو بن معدي كرب مَا حَكَاهُ ابْن قُتَيْبَة وَغَيره قَالُوا كَانَت مغازي الْعَرَب إِذْ ذَاك الرّيّ ودمستي فَخرج عَمْرو مَعَ شباب من مذْحج حَتَّى نزل الخان الَّذِي دون روذة فتعذى الْقَوْم ثمَّ نَامُوا وَقَامَ كل رجل مِنْهُم لقَضَاء حَاجته وَكَانَ عَمْرو إِذا أَرَادَ الْحَاجة لم يجترىء أحد أَن يَدعُوهُ وَإِن أَبْطَأَ فَقَامَ النَّاس للرحيل وترحلوا إِلَّا من كَانَ فِي الخان الَّذِي فِيهِ عَمْرو فَلَمَّا أَبْطَأَ صحنا بِهِ يَا أَبَا ثَوْر فَلم يجبنا وَسَمعنَا علزا شَدِيدا ومراساً فِي الْموضع الَّذِي دخله فقصدناه وَإِذا بِهِ محمرة عَيناهُ مائلا شدقه مفلوجاً فحملناه على فرس وأمرنا غُلَاما شَدِيد الذِّرَاع فارتدفه ليعدل ميله فَمَاتَ بروذة وَدفن على قَارِعَة الطَّرِيق فَقَالَت امْرَأَته الجعفية ترثية
(لقد غادر الركبُ الَّذين تحملوا
…
بروذة شخصا لَا ضَعِيفا وَلَا غمرَا)
(فَقل لزبيد بل لمذحج كلِّها
…
فقدْتُمْ أَبَا ثَوْر سنانكم عَمْرَا)
(فإِن تجزعوا لَا يُغْنِ ذَلِك عَنْكُم
…
وَلَكِن سلوا الرَّحْمَن يعقبكم صبرا) // الطَّوِيل //
119 -
(قَالُوا اقترح شَيْئا نجد لَك طبخه
…
قلت اطبخوا لي جُبَّةً وقميصا)
الْبَيْت من الْكَامِل وقائله أَبُو الرقعمق يرْوى أَنه قَالَ كَانَ لي إخْوَان أَرْبَعَة وَكنت أنادمهم أَيَّام الْأُسْتَاذ كافور الإخشيدي فَجَاءَنِي رسولهم فِي يَوْم بَارِد وَلَيْسَت لي كسْوَة تحصنني من الْبرد فَقَالَ إخوانك يقرأون عَلَيْك السَّلَام وَيَقُولُونَ لَك قد اصطبحنا الْيَوْم وذبحنا شَاة سَمِينَة فاشته علينا مَا نطبخ لَك مِنْهَا قَالَ فَكتبت إِلَيْهِم
(إخواننَا قصدُوا الصبوحَ بسحرة
…
فَأتى رسولُهُمُ إليَّ خُصُوصا)
(قَالُوا اقترح شَيْئا نجد لَك طبخه
…
قلت اطبخوا لي جُبَّة وقميصا) // الْكَامِل //
قَالَ فَذهب الرَّسُول بالرقعة فَمَا شَعرت حَتَّى عَاد وَمَعَهُ أَربع خلع وَأَرْبع صرر فِي كل صرة عشرَة دَنَانِير فَلبِست إِحْدَى الْخلْع وصرت إِلَيْهِم
وَالشَّاهِد فِيهِ المشاكلة وَهِي ذكر الشَّيْء بِلَفْظ غَيره لوُقُوعه فِي صحبته تَحْقِيقا أَو تَقْديرا وَهِي هُنَا قَوْله اطبخوا فَإِنَّهُ أَرَادَ خيطوا فَذكر خياطَة الْجُبَّة والقميص بِلَفْظ الطَّبْخ لوقوعها فِي صُحْبَة طبخ الطَّعَام
وَمثل الْبَيْت قَول ابْن جَابر الأندلسي
(قَالُوا اتخذ دُهناً لقلبك يَشْفِهِ
…
قلتُ ادهنوه بخدها المتوردِ) // الْكَامِل //
وَذكرت باشتهاء أبي الرقعمق قَول بَعضهم
(قَالَ لي عُوَّدي غَدَاة أَتَوْنِي
…
مَا الَّذِي تشتهيه واجتهدوا بِي)
(قلتُ مُغْلًى فِيهِ لسانُ وشاةٍ
…
قطعوه فِيهِ بضع عَجِيب)
(وَأُضيفت إِلَيْهِ كبْدُ حسودٍ
…
فُقِئت فَوْقهَا عُيُون الرقيبِ) // الْخَفِيف //
وَقَول الآخر
(عِنْدِي لكم يَوْم التواصُل فرحةٌ
…
يَا معشر الجلساء والندماء)
(أشوي قلوبَ الحاسدينَ بهَا وَألسنةَ الوشاة وأعين الرقباء
…
) // الْكَامِل //
وَمن أَمْثِلَة المشاكلة قَول عَمْرو بن كُلْثُوم فِي معلقته
(أَلا لَا يجهلنْ أحدٌ علينا
…
فنجهل فَوقَ جهل الجاهلينَا) // الوافر //
أَرَادَ فنجازيه على جَهله فَجعل لَفْظَة فنجهل مَوضِع فنجازيه لأجل المشاكلة
وَمثل الأول مَا حُكيَ عَن عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر أَنه كَانَ يشرب فِي متنزه وَعِنْده ماني الموسوس فَقَالَ عبيد الله
(أرى غيما تؤلفه جنوبٌ
…
وأحسب أَن ستأتينا بهطلِ)
(فحزمُ الرَّأْي أَن تَأتي برطلِ
…
فتشربهُ وتأتيني برطل) // الوافر //
فَقَالَ مَا هَكَذَا قَالَ الشَّاعِر وَإِنَّمَا هُوَ
(أرَى غيماً تؤلفهُ جنوبٌ
…
أرَاهُ على مساءتنا حَريصَا)
(فَحرم الرَّأْي أَن تَأتي برطلٍ
…
فتشربهُ وتكسوني قميصَا)
وَأَبُو الرقعمق هُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَنْطَاكِي الشَّاعِر الْمَشْهُور ذكره الثعالبي فِي الْيَتِيمَة فَقَالَ هُوَ نادرة الزَّمَان وَجُمْلَة الْإِحْسَان مِمَّن تصرف بالشعر الجزل فِي أنواح الْجد والهزل وأحرز قصبات الْفضل وَهُوَ أحد المداح المجيدين وَالشعرَاء الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ بِالشَّام كَابْن حجاج بالعرق ومدح مُلُوك مصر ووزراءها فَمن غرر شعره قَوْله يمدح الْوَزير يَعْقُوب بن كلس
(قد سمعنَا مقالهُ واعتذارهُ
…
وأقلناهُ ذنبهُ وعثارَهْ)
(والمعاني لمنْ عنيتُ ولكنْ
…
بك عرَّضتُ فاسمعي يَا جَاره) // الْخَفِيف // مِنْهَا
(سَحَرتني ألحاظهُ وَكَذَا كلُّ مليحٍ عيونهُ سَحَّارهْ
…
)
(مَا عَلىَ مؤثرِ التباعدِ والإعراض لَو آثرَ الرِّضَا والزيارَهْ
…
)
وَهِي طَوِيلَة وَأكْثر شعره جيد على هَذَا الأسلوب مثل صريع الدلاء والقصار وَمن شعره على طَرِيق ابْن حجاج قَوْله
(كتبَ الحصيرُ إِلَى السرير
…
أَن الفصيلَ ابنُ البعيرِ)
(فلأمنعنَّ حِمَارَتي
…
سنتَيْن من أكل الشّعير)
(لاهم إِلَّا أَن تطير
…
من الهزَال مَعَ الطُّيُور)
(ولأخبرَنكَ قصتِي
…
فلقدْ سَقَطت على الخبيرِ)
(إنّ الَّذين تصافَعُوا
…
بالقرعِ فِي زَمن القشُورِ)
(أسِفوا عَلَيَّ لأنهمْ
…
حَضَرُوا وَلم أكُ فِي الحضورِ)
(لَوْ كنتُ ثمّ لقيل هَلْ
…
منْ آخذٍ بيدِ الضريرِ)
(وَلَقَد دخلت على الصّديق الْبَيْت فِي الْيَوْم المطير
…
)
(متشمراً متبختِراً
…
للصفع بالدَّلوِ الْكَبِير)
(فأدرت حِين تبَادرُوا
…
دلوي فَكَانَ على المدير)
(يَا للرجالِ تَصَافعوا
…
فالصفعُ مفتاحُ السرورِ)
(هُوَ فِي الْمجَالِس كالبخور
…
وكالقلائدِ فِي النحورِ) // من مجزوء الْكَامِل //
وَله قصيدة طَوِيلَة مَشْهُورَة أَولهَا
(وقوققى وقوققى
…
هَدِيَّة فِي طبقِ)
(أما ترَوْنَ بَيْنكُم
…
تيْساً طَوِيل الْعُنُق) // من مجزوء الرجز //
وَكَانَت وَفَاته سنة تسع وَتِسْعين وثلثمائة
120 -
(إِذا مَا نهى النَّاهي فلَج بِي الْهوى
…
أصاختْ إِلَى الواشي فلَجَّ بهَا الهجْرُ)
الْبَيْت للبحتري من قصيدة من الطَّوِيل فِي الْفَتْح بن خاقَان أَولهَا
(مَتى لَاحَ برقٌ أَو بدا طللٌ قفرُ
…
جرى مُسْتَهِلٌّ لَا بطىء وَلَا نَزْرُ)
(وَمَا الشوق إِلَّا لوعةٌ بعد لوعةٍ
…
وغُزْر من الآماق تتبعُها غزرُ)
(فَلَا تذكرا عهْدَ التصابي فَإِنَّهُ
…
تقضَّي وَلم يشعرْ بِهِ ذَلِك الْعَصْر)
إِلَى أَن يَقُول فِيهَا
(هَل الْعَيْش إِلَّا أَن تساعفنا النَّوَى
…
بوَصْل سُعَاد أَو يساعدَنا الدهرُ)
إِلَى أَن يَقُول فِيهَا
(على أَنَّهَا مَا عِنْدهَا لمُوَاصِلٍ
…
وصالٌ وَلَا عَنْهَا لمصطبرٍ صبرُ)
وَبعده الْبَيْت وَهِي طَوِيلَة يَقُول مِنْهَا فِي المخلص
(لعمرَّكَ مَا الدُّنْيَا بناقصة الْجَدَا
…
إِذا بقىَ الفَتحُ بن خاقَان والقطر) // الطَّوِيل //
وَمعنى أصاخت استمعت والواشي النمام الَّذِي يشي حَدِيثه ويزينه وَالشَّاهِد فِيهِ المزاوجة وَهِي أَن يزاوج الْمُتَكَلّم بَين مَعْنيين فِي الشَّرْط وَالْجَزَاء فَهُنَا زواج بَين نهي الناهي وإصاختها إِلَى الواشي الواقعين فِي الشَّرْط وَالْجَزَاء فِي أَن يَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا لجاج شَيْء
وَمثله قَوْله أَيْضا
(إِذا احتربت يَوْمًا فَفَاضَتْ دماؤُها
…
تذكرت الْقُرْبَى فَفَاضَتْ دموعُها) // الطَّوِيل //
فزاوج بَين الاحتراب وتذكر الْقُرْبَى الواقعين فِي الشَّرْط وَالْجَزَاء فِي ترَتّب فيضان شَيْء عَلَيْهِمَا
وَمن المزاوجة قَول أبي تَمام
(وَكُنَّا جمعيا شَرِيكي عنان
…
رضيعى لبان خليلى صفاء) // المتقارب //
وَفِي معنى صدر الْبَيْت قَول أبي نواس
(دَعْ عَنْكَ لومي فَإِن اللَّوْمَ إغراءُ
…
ودَاوِنِي بِالَّتِي كَانَت هِيَ الدَّاء) // الْبَسِيط //
وَقَول ابْن زُرَيْق الْبَغْدَادِيّ
(لَا تَعْذِليه فإنَّ العذل يُولِعُه
…
قد قلتِ حَقَّاً وَلَكِن لَيْسَ يسمعهُ) // الْبَسِيط //
وَقَول ابْن شرف القيرواني
(قلْ للعذول لَو اطَّلَعت على الَّذِي
…
عاينتهُ لعناكَ مَا يعنيني)
(أتصدُّني أم للغرَام ترُدُّني
…
وتلومني فِي الحبّ أمْ تُغْرِينِي)
(دَعنِي فلستَ مُعَاقباً بجنايتِي
…
إِذْ ليسَ دينكَ لي وَلَا لَك ديني) // الْكَامِل //
وَقَول الصابي
(أَيهَا اللائم والمضيق صَدْرِي
…
لَا تلمني فكثرةُ اللوم تُغْرِي)
(قَدْ أقامَ القَوَامُ حجَّة عشقي
…
وأبانَ العذارُ فِي الحبّ عُذْري) // الْخَفِيف //
12 -
(قِفْ بالديار الَّتِي لم يعفها القدمُ
…
بلىَ وغيرَها الأرواحُ والدِّيَمُ)
الْبَيْت من الْبَسِيط وَهُوَ أول قصيدة لزهير بن أبي سلمى يمدح بهَا هرم بن سِنَان وَبعده
(لَا الدارُ غيرَها بعد ُالأنيسُ ولَا
…
بالدارِ لَو كَلَّمَتْ ذَا حَاجَة صممُ)
(دارٌ لأسماء بالغمرَين ماثلةٌ
…
كالوحي لي لَهَا من أَهلهَا أرِمُ)
يَقُول مِنْهَا فِي مدحه
(إِن الْبَخِيل ملوم حَيْثُ كَانَ ولكنّ
…
الجوادَ على علاته هرم)
(هُوَ الجوادُ الَّذِي يعطيكَ نائلهُ
…
عفوا ويظلمُ أَحْيَانًا فيظَّلِمُ)
(فإِن أتاهُ خليلٌ يومَ مسألةٍ
…
يقولُ لَا غَائِب مَالِي وَلَا حرم) // الْبَسِيط //
وَهِي طَوِيلَة
والأرواح جمع ريح وَيجمع على أرياح أَيْضا ورياح وريح بِكَسْر الرَّاء وَفتح الْيَاء والديم جمع دِيمَة وَهِي الْمَطَر الدَّائِم فِي سُكُون
وَالشَّاهِد فِي الْبَيْت الرُّجُوع وَهُوَ الْعود إِلَى الْكَلَام السَّابِق بِالنَّقْضِ والإبطال لنكتة فَهُنَا دلّ صدر الْبَيْت على أَن تطاول الزَّمَان وتقادم الْعَهْد لم يعف الديار ثمَّ عَاد إِلَيْهِ ونقضه فِي عجز الْبَيْت بِأَنَّهُ قد غيرتها الرِّيَاح والأمطار لنكتة وَهِي هُنَا إِظْهَار الكآبة والحزن والحيرة والدهش كَأَنَّهُ أخبر أَولا بِمَا لم يتَحَقَّق ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ عقله وأفاق بعض الْإِفَاقَة فنقض كَلَامه السَّابِق
وَمثله قَول الشَّاعِر
(فأفٍّ لهَذَا الدَّهْر لَا بلْ لأهلهِ
…
) // الطَّوِيل //
وَقَول ابْن الطثرية
(أليسَ قَلِيلا نظرةٌ إِن نظرتها
…
إِلَيْك وكلاّ ليسَ مِنْك مِنْك قَلِيل) // الطَّوِيل //
وَقَول أبي الْبَيْدَاء
(ووالي انتصارٌ إِن غدَا الدهرُ جائراً
…
عليّ بلَى إِن كَانَ من عندكَ النصرُ) // الطَّوِيل //
وَقَول المتنبي
(لِجنِّيَّةٍ أم غادةٍ رُفعَ السجفُ
…
لِوَحشيةٍ لاما لوحشية شنف) // الطَّوِيل //
وَمَا أحسن قَول أبي بكر الْخَوَارِزْمِيّ فِي شمس الْمَعَالِي قَابُوس بن وشكمير صَاحب جرجان
(لم يبْق فِي الأَرْض من شَيْء أهابُ لهُ
…
فَلِمْ أهاب انكسار الجفن ذِي السقمِ)
(أسْتَغْفر الله من قولي غلطتُ بلىَ
…
أهابُ شمسُ الْمَعَالِي أمة الْأُمَم) // الْبَسِيط //
وَله فِيهِ أَيْضا
(إذَا مَا ظمئتُ إِلَى ريقهِ
…
جعلتُ المدامَةَ منهُ بديلَا)
(وأينَ المدامةُ من ريقهِ
…
وَلَكِن أُعللُ قلبا عليلا) // المتقارب //
وبديع قَول السرواندي
(كالبدر بلْ كَالشَّمْسِ بلْ ككليهما
…
كالليث بلْ كالغيث هطالِ الديم) // الْكَامِل //
وَمَا ألطف قَول ابْن سناء الْملك
(ومليةٍ بالْحسنِ يسخرُ وجههَا
…
بالبدر يهزأ رِيقهَا بالقَرْقَفِ)
(لَا أرتضي بالشمس تَشْبِيها لَهَا
…
والبدرِ بل لَا أكتفي بالمكتفي) // الْكَامِل //
وَهُوَ من قَول ابْن المعتز
(واللهِ لَا كلمتها لَو أَنَّهَا
…
كالبدر أَو كَالشَّمْسِ أَو كالمكتفى) // الْكَامِل //
122 -
(إِذا نزل السَّمَاء بِأَرْض قوم
…
رعيناه وَإِن كَانُوا غضابا)
نسب غَالب شارخي التَّلْخِيص هَذَا الْبَيْت لجرير وَهُوَ من قصيدة من الوافر أَولهَا
(أقلي اللومَ عاذِلَ والعتابَا
…
وَقَوْلِي إِن أصبتُ لَقد أصابَا)
(أجدَّك مَا تذكر عهدِ نجدٍ
…
وحَيّاً طالما انتظروا الإيابَا)
(بلىَ فارفضَّ دمْعُكَ غير نَزْرٍ
…
كَمَا عَيَّنْتَ بالسرَب الطبابَا)
(وهاجَ الْبَرْق ليلةَ أذرعاتٍ
…
هوى مَا تَسْتَطِيع لهُ طلابا) // الوافر //
وَهِي طَوِيلَة وَالسَّمَاء الْغَيْث
وَنسبه الْمفضل فِي اختياراته لمعاوية بن مَالك بن جَعْفَر معود الْحُكَمَاء وَسَاقه فِي قصيدة طَوِيلَة أَولهَا
(أجدّ القلبُ من سلمى اجتنابَا
…
وأقصرَ بعد مَا شابَتْ وشابَا)
(وشابَ لِدَاتهُ وعدلنَ عنهُ
…
كَمَا أنضيتُ من لُبْسٍ ثيابَا)
(فَإِن يكُ نبلها طاشتْ ونبلي
…
فقد نرمي بهَا حقباً صيابا)
(فتصطادُ الرجالَ إذَا رمتهمْ
…
وأصطادُ المخبأةَ الكعابَا)
مِنْهَا
(وكنتُ إذَا الْعَظِيمَة أفزعَتْهُمْ
…
نهضتُ وَلَا أدبُّ لَهَا دبابَا)
(بحمدِ الله ثمَّ عَطاء قَومٍ
…
يفكونَ الغنائمَ والرقابَا)
(إذَا نزل السَّمَاء بِأَرْض قومٍ
…
رَعيناهُ وَإِن كَانُوا غضابا)
(بِكلّ مُقَلصٍ عَبْلٍ شَوَاهُ
…
إذَا وُضعتْ أعنتهنّ ثابا) // الوافر //
وَيدل على أَن هَذَا الْبَيْت من هَذِه القصيدة أَنه لم يُوجد فِي قصيدة جرير على اخْتِلَاف رُوَاة ديوانه
وَالشَّاهِد فِيهِ الِاسْتِخْدَام وَهُوَ أَن يُرَاد بلفظٍ لَهُ مَعْنيانِ أَحدهمَا ثمَّ يُرَاد بضميره الآخر أَو يُرَاد بِأحد ضميريه أَحدهمَا ثمَّ يُرَاد بِالْآخرِ الآخر فَالْأول كَمَا فِي الْبَيْت هُنَا فَإِنَّهُ أَرَادَ بالسماء الْغَيْث وبالضمير الرَّاجِع إِلَيْهِ من رعيناه النبت
وَجَرِير هُوَ ابْن عَطِيَّة بن الخطفي وَهُوَ لقبه واسْمه حُذَيْفَة بن بدر بن سَلمَة بن عَوْف بن كُلَيْب بن يَرْبُوع بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم ابْن مرّة يَنْتَهِي نسبه لنزار ويكنى أَبَا حزرة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي وَفتح الرَّاء وَبعدهَا هَاء سَاكِنة وَهِي الْمرة الْوَاحِدَة من الحزر
هُوَ والفرزدق والأخطل المقدمون على شعراء الْإِسْلَام الَّذين لم يدركوا الْجَاهِلِيَّة جَمِيعًا ومختلفٌ فِي أَيهمْ الْمُقدم وَلم يبْق أحد من شعراء عصرهم إِلَّا تعرض لَهُم فافتضح وَسقط
وَكَانَ أَبُو عَمْرو يشبه جَرِيرًا بالأعشى والفرزدق بزهير والأخطل بالنابغة
وَقد حكم مَرْوَان بن أبي حَفْصَة بَين الثَّلَاثَة بقوله
(ذهب الفرَزْدقُ بالفخار وَإِنَّمَا
…
خلو الْكَلَام ومرهُ لجرير)
(وَلَقَد هجا فأمَضَّ أَخطلُ تغلبٍ
…
وحَوَى الُّلهى بمديحه المشهورِ)
(كلُّ الثلاثةِ قد أبر بمدحه بمدحهِ
…
وهجاؤُه قد سارَ كلَّ مسيرِ) // الْكَامِل //
فَهُوَ كَمَا ترَاهُ حكم للفرزدق بالفخار والأخطل بالمدح والهجاء وبجميع فنون الشّعْر لجرير
وَقَالَ أَبُو الْعَلَاء بن جرير الْعَنْبَري وَكَانَ شَيخا قد جَالس النَّاس إِذا لم يَجِيء الأخطل سَابِقًا فهر سكيتٌ والفرزدق لَا يَجِيء سَابِقًا وَلَا سكيتاً وَجَرِير يَجِيء سَابِقًا ومصلياً وسكيتاً
وَحدث مولى لبني هَاشم قَالَ امترى أهل الْمجْلس فِي جرير والفرزدق أَيهمَا
أشعر فَدخلت على الفرزدق فَمَا سَأَلَني عَن شَيْء حَتَّى نَادَى يَا نوار أدْركْت برنيتك يَا نوار قَالَت قد فعلت أَو كَادَت قَالَ فابعثي بدرهم فاشتري لَحْمًا فَفعلت وَجعلت تشرحه وتلقيه على النَّار وَيَأْكُل ثمَّ قَالَ هَات برنيتك فَشرب قدحاً ثمَّ ناولني وَشرب آخر ثمَّ ناولني ثمَّ قَالَ هَات حَاجَتك يَا ابْن أخي فَأَخْبَرته فَقَالَ أعن ابْن الخطفي تَسْأَلنِي ثمَّ تنفس حَتَّى انشقت حيازيمه ثمَّ قَالَ قَاتله الله فَمَا أحسن نَاجَيْته وأشرد قافيته وَالله لَو تَرَكُوهُ لأبكى الْعَجُوز على شبابها والشابة على أحبابها وَلَكنهُمْ هروه فوجدوه عِنْد الهراش نابحاً وَعند الْجد قادحاً وَلَقَد قَالَ بَيْتا لِأَن أكون قلته أحب إِلَيّ مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وَهُوَ
(إِذا غضِبت عَلَيْك بَنو تَمِيم
…
لقِيت القومَ كلهمُ غضابا) // الوافر //
وَقَالَ إِسْحَاق بن يحيى بن طَلْحَة قدم علينا جرير الْمَدِينَة فحشدنا لَهُ فَبينا نَحن عِنْده ذَات يَوْم إِذْ قَامَ لِحَاجَتِهِ فجَاء الْأَحْوَص فَقَالَ أَيْن هَذَا فَقُلْنَا قَامَ آنِفا مَا تُرِيدُ مِنْهُ قَالَ أخزيه وَالله إِن الفرزدق لأشعر مِنْهُ وأشرف فَأقبل جرير علينا وَقَالَ من الرجل قُلْنَا الْأَحْوَص بن مُحَمَّد بن عَاصِم بن ثَابت ابْن أبي الْأَفْلَح قَالَ هَذَا الْخَبيث بن الطّيب ثمَّ أقبل عَلَيْهِ فَقَالَ قد قلت
(يقر بعيني مَا يقر بِعَينهَا
…
وَأحسن شَيْء مَا بِهِ الْعين قرت) // الطَّوِيل //
فَإِنَّهُ يقر بِعَينهَا أَن يدْخل فِيهَا مثل ذِرَاع الْبكر أفيقر ذَلِك بِعَيْنِك قَالَ وَكَانَ الْأَحْوَص يَرْمِي بالأبنة فَانْصَرف وَأرْسل إِلَيْهِ بِتَمْر وَفَاكِهَة
وَكَانَ راعي الْإِبِل الشَّاعِر يقْضِي للفرزدق على جرير ويفضله وَكَانَ راعي الْإِبِل قد ضخم أمره وَكَانَ من أشعر النَّاس فَلَمَّا أَكثر من ذَلِك خرج جرير إِلَى رجال من قومه فَقَالَ هَل تعْجبُونَ لهَذَا الرجل الَّذِي يقْضِي للفرزدق عَليّ وَهُوَ يهجو قومه وَأَنا أمدحهم قَالَ جرير فَضربت رَأْيِي فِيهِ ثمَّ خرج جرير ذَات يَوْم يمشي وَلم يركب دَابَّة وَقَالَ وَالله مَا يسرني أَن يعلم أحد وَكَانَ لراعي الْإِبِل والفرزدق وجلسائهما حَلقَة بالمربد بِالْبَصْرَةِ يَجْلِسُونَ فِيهَا قَالَ فَخرجت أتعرض إِلَيْهِ لعَلي أَلْقَاهُ على حياله حَيْثُ كنت أرَاهُ يمر إِذا انْصَرف من مَجْلِسه وَمَا يسرني أَن يعلم أحد حَتَّى إِذا هُوَ قد مر على بغلة لَهُ وَابْنه جندل يسير وَرَاءه على مهر لَهُ أحوى مَحْذُوف الذَّنب وإنسان يمشي مَعَه يسْأَله عَن بعض النسيب فَلَمَّا استقبلته قلت مرْحَبًا بك يَا أَبَا جندل وَضربت بشمالي على معرفَة بغلته ثمَّ قلت لَهُ يَا أَبَا جندل إِن قَوْلك يستمع وَإنَّك تفضل الفرزدق عَليّ تَفْضِيلًا قبيحا وَأَنا أمدح قَوْمك وَهُوَ يهجوهم وَهُوَ ابْن عمي دُونك وَيَكْفِيك عَن ذَلِك إِذْ ذكرنَا أَن تَقول كِلَاهُمَا شَاعِر كريم وَلَا تحْتَمل مني وَلَا مِنْهُ لائمة قَالَ فَبينا أَنا مَعَه وَهُوَ كَذَلِك وَاقِفًا عَليّ وَمَا رد عَليّ بذلك شَيْئا حَتَّى لحق ابْنه جندل فَرفع كرمانية مَعَه فَضرب بهَا عجز بغلته ثمَّ قَالَ لَا أَرَاك وَاقِفًا على كلب من كُلَيْب كَأَنَّك تخشى مِنْهُ شرا أَو ترجو مِنْهُ خيرا وَضرب البغلة ضَرْبَة فرمحتني رمحة وَقعت مِنْهَا قلنسوتي فوَاللَّه مَا عرج عَليّ الرَّاعِي فَيَقُول سَفِيه عوى يَعْنِي جندلاً ابْنه وَلَكِن لَا وَالله مَا عاج عَليّ فَأخذت قلنسوتي فمسحتها ثمَّ أعدتها على رَأْسِي ثمَّ قلت
(أجندلُ مَا تقولُ بَنو نميرٍ
…
إِذا مَا الأيْرُ فِي استِ أبيكِ غابَا) // الوافر //
فَسمِعت الرَّاعِي قَالَ لِابْنِهِ أما وَالله لقد طرحت قلنسوته طرحة مشؤومة قَالَ جرير وَلَا وَالله مَا القلنسوة بأغيظ أمره لي لَو كَانَ عاج عَليّ فَانْصَرف جرير غَضْبَان حَتَّى إِذا صلى الْعشَاء ومنزله فِي علية لَهُ قَالَ ارْفَعُوا لي باطية من نَبِيذ وأسرجوا لي فأسرجوا لَهُ وأتوه بباطية من نَبِيذ قَالَ فَجعل يهينم فَسمِعت صَوته عَجُوز فِي الدَّار فاطلعت فِي الدرجَة فَنَظَرت إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ يحبو على الْفراش عُريَانا لما هُوَ فِيهِ فانحدرت فَقَالَت ضيفكم مَجْنُون رَأَيْت مِنْهُ كَذَا وَكَذَا فَقَالُوا لَهَا اذهبي لطيتك فَنحْن أعلم بِهِ وَبِمَا يمارس فَمَا زَالَ كَذَلِك حَتَّى كَانَ السحر ثمَّ إِذا هُوَ يكبر قد قَالَهَا ثَمَانِينَ بَيْتا يهجو بني نمير فَلَمَّا خَتمهَا بقوله
(فغض الطّرف إِنَّك من نمير
…
فَلَا كَعْبًا بلغت وَلَا كلابا)
كبر ثمَّ قَالَ أخزيته وَرب الْكَعْبَة ثمَّ اصبح حَتَّى علم أَن النَّاس قد أخذُوا مجَالِسهمْ بالمربد وَكَانَ يعرف مَجْلِسه ومجلس الفرزدق دَعَا بدهن فادهن وكف رَأسه وَكَانَ حسن الشّعْر ثمَّ قَالَ يَا غُلَام أَسْرج لي فأسرج لَهُ حصاناً ثمَّ قصد مجلسهم حَتَّى إِذا كَانَ موقع السَّلَام قَالَ يَا غُلَام وَلم يسلم قل لِعبيد بَعَثْتُك نسوتك تكسبهن المَال بالعراق أما وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لترجعن إلَيْهِنَّ بميرة تسوءهن وَلَا تسرهن ثمَّ انْدفع فِيهَا فأنشدها فَنَكس الفرزدق وراعى الْإِبِل وأزم الْقَوْم حَتَّى إِذا فرغ مِنْهَا وَسَار وثب راعي الْإِبِل ساعتئذ فَركب بغلته وَبشر وعر وخلا الْمجْلس حَتَّى أوفى إِلَى الْمنزل الَّذِي ينزله ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه ركابكم ركابكم فَلَيْسَ لكم هُنَا مقَام فضحكم وَالله جرير فَقَالَ لَهُ بعض الْقَوْم ذَاك شؤمك وشؤم ابْنك قَالَ فَمَا كَانَ إِلَّا ترحلهم فَسَارُوا إِلَى أهلهم سيراً مَا ساره أحد وهم بالشريف وَهُوَ أَعلَى دَار بني نمير فَيحلف بِاللَّه راعي الْإِبِل إِنَّا وجدنَا فِي أهلنا
(فغض الطّرف إِنَّك من نُميرٍ
…
)
وَأقسم بِاللَّه مَا بلغه إنسي قطّ وَإِن لجرير لأشياعاً من الْجِنّ فتشاءمت بِهِ بَنو نمير وسبوه وَابْنه فهم يتشاءمون بِهِ إِلَى الْآن
وَحدث أَبُو عُبَيْدَة قَالَ التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان فَقَالَ الفرزدق لجرير
(فإِنك لاقٍ بالمنازل من مِنىً
…
فَخَاراً فخبرني بمَنْ أنتَ فاخر) // الطَّوِيل //
قَالَ لَهُ جرير لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك قَالَ فَكَانَ أَصْحَابنَا يستحسنون هَذَا الْجَواب من جرير ويتعجبون مِنْهُ
وَعَن الْعُتْبِي قَالَ قَالَ جرير مَا عشقت قطّ وَلَو عشقت لنسبت نسيباً فتسمعه الْعَجُوز فتبكي على مَا فاتها من شبابها وَإِنِّي لأروي من الرجز أَمْثَال آثَار الْخَيل فِي الثرى وَلَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَن يستفزغني لأكثرت مِنْهُ
وَعَن أبي عُبَيْدَة قَالَ رَأَتْ أم جرير وَهِي حَامِل بِهِ كَأَنَّهَا ولدت حبلاً من شعر أسود فَلَمَّا خرج مِنْهَا جعل ينزو فَيَقَع فِي عنق هَذَا فيقتله وَفِي عنق هَذَا فيخنقه حَتَّى فعل ذَلِك بِرِجَال كثيرين فانتبهت فزعة فأولت الرُّؤْيَا فَقيل لَهَا تلدين غُلَاما أسود شَاعِرًا ذَا شدَّة وَشر وشكيمة وبلاء على النَّاس فَلَمَّا وَلدته سمته جَرِيرًا باسم الْحَبل الَّذِي رَأَتْ أَنه خرج مِنْهَا قَالَ والجرير الْحَبل
وَحدث بِلَال بن جرير أَن رجلا قَالَ لجرير من أشعر النَّاس قَالَ قُم حَتَّى أعرفك الْجَواب فَأخذ بِيَدِهِ وَجَاء بِهِ إِلَى أَبِيه عَطِيَّة وَقد أَخذ عَنْزًا لَهُ فاعتقلها وَجعل يمص ضرْعهَا فصاح بِهِ اخْرُج يَا أَبَت فَخرج شيخ دميم رث الْهَيْئَة وَقد سَالَ لبن العنز على لحيته فَقَالَ أَتَرَى هَذَا قَالَ نعم قَالَ أَو تعرفه قَالَ لَا قَالَ هَذَا أبي أفتدري لم كَانَ يشرب لبن العنز قلت لَا قَالَ مَخَافَة أَن يسمع صَوت الْحَلب فيطلب مِنْهُ لبن ثمَّ قَالَ أشعر النَّاس
من فاخر بِمثل هَذَا الْأَب ثَمَانِينَ شَاعِرًا وقارعهم بِهِ فَغَلَبَهُمْ جَمِيعًا
وَحدث الْمَدَائِنِي قَالَ كَانَ جرير من أعق النَّاس بِأَبِيهِ وَكَانَ ابْنه بِلَال أعق النَّاس بِهِ فراجع جرير بِلَالًا الْكَلَام فَقَالَ لَهُ بِلَال الْكَاذِب مني ومنك ناك أمه فَأَقْبَلت أمه عَلَيْهِ فَقَالَت لَهُ يَا عَدو الله أَتَقول هَذَا لأَبِيك فَقَالَ جرير دعيه فوَاللَّه لكَأَنِّي أسمعها وَأَنا أقولها لأبي
وَنَظِير ذَلِك مَا حكى عَن يُونُس بن عبد الله الْخياط أَنه مر بِهِ رجل وَهُوَ يعصر حلق أَبِيه وَكَانَ عاقاً بِهِ فَقَالَ لَهُ وَيحك أتفعل هَذَا بأبيك وخلصه من يَده ثمَّ أقبل على الْأَب يعزيه ويسكنه فَقَالَ لَهُ الْأَب أخي لَا تلمه وَاعْلَم أَنه ابْني حَقًا وَالله لقد خنقت أبي فِي هَذَا الْموضع الَّذِي خنقني فِيهِ فَانْصَرف الرجل وَهُوَ يضْحك ولأبيه يَقُول
(مَا زَالَ بِي مَا زَالَ بِي
…
طَعْنُ أبي فِي النسبِ)
(حَتَّى تربيتُ وَحَتَّى
…
سَاءَ ظَنِّي بأبى) // الرجز //
وَنَشَأ ليونس ولد يُقَال لَهُ دُحَيْم فَكَانَ أعق النَّاس بِهِ فَقَالَ يُونُس فِيهِ
(جلا دُحيمٌ عماية الريبِ
…
والشكَّ مني والظنَّ فِي نسبي)
(مَا زَالَ بِي الطن والتشكك حَتَّى عقتى مثل مَا عققت أبي
…
) // المنسرح //
وَقَالَ يُونُس بن عبد الله الْخياط جِئْت يَوْمًا إِلَى أبي وَهُوَ جَالس وَعِنْده أَصْحَاب لَهُ فوقفت عَلَيْهِم لأغيظه وَقلت أَلا أنْشدكُمْ شعرًا قلته بالْأَمْس قَالُوا بلَى فأنشدتهم
(يَا سائليَ مَن أَنا أَو مَن يناسبُني
…
أَنا الَّذِي لَا لَهُ أصلٌ وَلَا نسبُ)
(الْكَلْب يختال فَخْراً حِين يُبْصرني
…
وَالْكَلب أكرمُ مني حِين ينتسب)
(لَو قَالَ لي النَّاس طرّاً أَنْت أَلأمنا
…
مَا وهمَ النَّاس فِي ذاكم وَلَا كذبُوا) // الْبَسِيط //
قَالَ فَوَثَبَ إِلَى أبي ليضربني وعدوت من بَين يَدَيْهِ فَجعل يَشْتمنِي وَأَصْحَابه يَضْحَكُونَ
رَجَعَ إِلَى بَقِيَّة أَخْبَار جرير
حدث أَبُو العراف قَالَ قَالَ الْحجَّاج لجرير والفرزدق وَهُوَ فِي قصره بجرين الْبَصْرَة ائتياني بلباس أبيكما فِي الْجَاهِلِيَّة فَلبس الفرزدق الديباج والخز وَقعد فِي قبَّة وشاور جرير دهاة بني يَرْبُوع فَقَالُوا لَهُ مَا لِبَاس آبَائِنَا إِلَّا الْحَدِيد فَلبس جرير درعاً وتقلد سَيْفا وَأخذ رمحاً وَركب فرسا لعباد بن الْحصين يُقَال لَهُ المنحاز وَأَقْبل فِي أَرْبَعِينَ فَارِسًا من بني يَرْبُوع وَجَاء الفرزدق فِي هيبته فَقَالَ جرير
(لبست سلاحي والفرزدق لعبة
…
عَلَيْهِ وشاحاً كُرَّجٍ وجلاجلُهْ)
(أعِدَّ مَعَ الْحلِيّ المَلَابَ فَإِنَّمَا
…
جرير لكم بعل وانتم حلائله) // الطَّوِيل //
ثمَّ رجعا فَوقف جرير فِي مَقْبرَة بني حصن ووقف الفرزدق فِي المربد ونعى الفرزدق إِلَى المُهَاجر بن عبد الله وَجَرِير عِنْده فَقَالَ
(مَاتَ الفرزدق بَعْدَمَا جدعنه
…
لَيْت الفرزدق كَانَ عَاشَ قَلِيلا) // الْكَامِل //
فَقَالَ لَهُ المُهَاجر بئس لعمر الله مَا قلت فِي ابْن عمك أتهجو مَيتا أما وَالله لَو رثيته لَكُنْت أكْرم الْعَرَب وأشعرها فَقَالَ إِن رأى الْأَمِير أَن يكتمها عَليّ فَإِنَّهَا سوءة ثمَّ قَالَ من وقته الْبَيْتَيْنِ السَّابِقين فِي تَرْجَمَة الفرزدق فِي شَوَاهِد نجمنا وَاحِدًا وكل وَاحِد منا مَشْغُول بِصَاحِبِهِ وقلما مَاتَ ضد أَو صديق إِلَّا تبعه صَاحبه فَكَانَ كَذَلِك مَاتَ بعد سنة
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ مَاتَ سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَة وَكَانَت وَفَاته بِالْيَمَامَةِ وَعمر نيفاً وَثَمَانِينَ سنة وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة فِي المعارف إِن أمه حملت بِهِ سَبْعَة أشهر
123 -
(فَسقَى اْلغَضَا والساكِنِيهِ وَإِن هُمُ
…
شبُّوهُ بينَ جوانِحٍ وقلوبِ)
الْبَيْت للبحتري وَهَكَذَا هُوَ فِي ديوانه وَإِن كَانَ فِي كثير من نسخ التَّلْخِيص بل وَفِي كثير من كتب هَذَا الْفَنّ بِلَفْظ بَين جوانحي وضلوعي وَهُوَ من قصيدة من الْكَامِل أَولهَا
(كم بالكثيب من اعْتِرَاض كثيبِ
…
وقوام غصنٍ فِي الثِّيَاب رطيبِ)
(تأبى المنازلُ أَن تجيبَ ومِن جَوَى
…
يَوْم الديارِ دعوتُ غير مُجيب) // الْكَامِل //
وَبعده الْبَيْت وَهِي طَوِيلَة
والغضا شجر مَعْرُوف واحدته غضاة وَأَرْض غضيانة كثيرته
وَالشَّاهِد فِيهِ الِاسْتِخْدَام أَيْضا فَإِنَّهُ أَرَادَ بِأحد الضميرين الراجعين إِلَى الغضا وَهُوَ الْمَجْرُور فِي الساكنيه الْمَكَان وَهُوَ ارْض لبني كلاب وواد بِنَجْد وبالآخر وَهُوَ الْمَنْصُوب فِي شبوه النَّار أَي أوقدوا فِي جوانحي نَار الغضا يَعْنِي نَار الْهوى الَّتِي تشبه نَار الغضا وَخص الغضا دون غَيره لِأَن جمره بطيء الانطفاء
وَقد استخدم كثير من الشُّعَرَاء لَفْظَة الغضا فَقَالَ ابْن أبي حَصِينَة
(أما وَالَّذِي حَجَّ الملَبُّونَ بَيتهُ
…
فمِنْ ساجِدٍ لله فِيهِ وراكعِ)
(لقد جَرَّعتني كأس بَيْنٍ مَرِيرةً
…
من البُعْد سلمى بَين تلكَ الأجارع)
(وحَلَّتْ بأكنافِ الغَضَا فَكَأَنَّمَا
…
حَشَتْ نارهُ بَين الحشى والأضالع) // الطَّوِيل //
وَقَالَ ابْن جَابر الأندلسي
(إنَّ الغَضَا لسْتُ أنسى أهلَهُ فَهُمُ
…
شَبُّوهُ بَين ضلوعي يومَ بيْنِهمِ)
(جَرَى العقيق بقلبي بَعْدَما رَحَلوا
…
وَلَو جَرَى من دموع الْعين لم أُلَمِ) // الْبَسِيط //
وَقَالَ ابْن قلاقس الاسكندري
(حَلتْ مطاياهم بمُلْتَفِّ الغضا
…
فَكَأَنَّمَا شَبُّوهُ فِي الأكباد) // الْكَامِل //
وبديع قَول الْبَدْر بن لُؤْلُؤ الذَّهَبِيّ
(أحمَّامَةَ الْوَادي بشَرْقيِّ الغضا
…
إِن كْنِت مُسْعِدَة الكئيب فَرَجعِي)
(وَلَقَد تَقَاسمنا الغضا فَغُصُونُهُ
…
فِي راحَتَيْكِ وجمْرُهُ فِي أضلُعي) // الْكَامِل //
ولمؤلفه من قصيدة
(وحقِّكِ إِنِّي للرِّياح لحاسِدٌ
…
فَفِي كلِّ حِين بالأحبةِ تخطُرُ)
(تمرُّ الصَّبا عفوا على سَاكِني الغضا
…
وَفِي أضلعي نيرانهُ تَتسَعَّرُ)
(فتذكِرني عهْدَ العقيق وأدمُعي
…
تُسَاقطهُ وَالشَّيْء بالشَّيْء يذكَرُ)
(ويورِث عَيْني السَّفْحَ حَتَّى ترى بِهِ
…
مَعَالم بالأحْبَابِ تزهو وتزهر) // الطَّوِيل //
وَمن الِاسْتِخْدَام البديع قَول المعري يرثي فَقِيها حنفيا
(وفقيهٌ ألفاظُهُ شِدْنَ للنُّعمان مَا لم يَشدْهُ شعرُ زيادِ
…
) // الْخَفِيف //
وَقَوله أَيْضا يصف درعا
(نثرةٌ من ضَمَانهَا للقنا الخطي عِنْد اللِّقَاء نثر الكعوب
…
)
(مثل وَشَيْء الْوَلِيد لانت إِن كَانَت من الصُّنع مثلَ وشي حبيب
…
)
(تِلْكَ ماذية وَمَا لذبابِ السيفِ والصيفِ عِنْدهَا من نَصيبِ
…
) // الْخَفِيف //
فاستخدم لفظ الذُّبَاب فِي معنييه الأول طرف السَّيْف وَالثَّانِي الطَّائِر الْمَعْرُوف
وَلابْن جَابر الأندلسي فِيهِ
(فِي القَلب من حبكُمْ بَدْرٌ أَقَامَ بِهِ
…
فالطّرّفُ يزدادُ نورا حينَ يُبْصِرُهُ)
(تَشَابه العقد حُسْناً فَوقَ لَبتهِ
…
والثَّغْرُ مِنْهُ إِذا مَا لَاحَ جوهره) // الْبَسِيط //
وَمن ظريف الِاسْتِخْدَام قَول السراج الْوراق
(دعِ الهَويني وانتَصبْ واكتَسبْ
…
واكدَح فنَفسُ الْمَرْء كدَّاحهْ)
(وَكن عَن الراحةِ فِي مَعْزِلٍ
…
فالصَّفْعُ مَوْجُود مَعَ الرَّاحَة) // السَّرِيع //
استخدم الرَّاحَة فِي معنييها الأول من الاسْتِرَاحَة وَالثَّانِي من الْيَد
وبديع قَول الصفى الحلى
(لَئِن لم أُبرقع بالحيا وجْهَ عفتي
…
فَلَا أَشْبَهتهُ راحتي فِي التكرمِ)
(وَلَا كنت مِمَّن يكسر الجفن فِي الوغى
…
إِذا أَنا لم أغضضه عَن رَأْي محرم) // الطَّوِيل //
وَمن الاستخدامات البديعة قَول ابْن نباتة الْمصْرِيّ يمدح النَّبِي صلى الله عليه وسلم
(إِذا لم تفض عَيْني العَقيقَ فَلَا رَأَتْ
…
مَنازله بالقُرْبِ تبْهى وتبهرُ)
(وَإِن لم توَاصلْ عادَةَ السفح مُقلتي
…
فَلَا عادها عيشٌ بمغناهُ أَخْضَر) // الطَّوِيل //
وَمِنْهَا
(سَقى الله أكنافَ الغضا سائلَ الحيا
…
وَإِن كنتُ أُسْقي أدمعاً تَتَحَدّرُ)
(وعيشاً نَضَى عنهُ الزَّمَان بياضَهُ
…
وخلّفهُ فِي الرَّأْس يزهر ويزهَرُ)
(تغيرَ ذَاك اللونُ مَعْ من أُحبُّهُ
…
وَمن ذَا الَّذِي يَا عَزُّ لَا يتغيرُ)
(وَكَانَ الصِّبَا لَيْلًا وكنتُ كَحَالم
…
فيا أسَفي والشيب كالصُّبْحِ يُسْفِرُ)
(يُعللني تحْتَ العمامَةِ كتْمَهُ
…
فَيعتادُ قَلبي جسرة حِين أحْسِرُ)
(وتنكرني لَيْلَى وَمَا خِلتُ أَنه
…
إِذا وضع الْمَرْء الْعِمَامَة ينكرُ)
وَمن الِاسْتِخْدَام أَيْضا قَول الْعَلامَة عمر بن الوردي رَحمَه الله تَعَالَى
(وَربَّ غَزالةٍ طَلعتْ
…
بِقلبي وَهْوَ مَرعاهَا)
(نَصبتُ لهَا شِباكاً مِنْ
…
لُجينٍ ثمّ صِدْناها)
(وقالتْ لِي وقدْ صِرْنا
…
إِلَى عَينِ قَصَدْناها)
(بذلْتَ العْينَ فاكْحلها
…
بِطلْعتها ومجراها) // من مجزوء الوافر //
وَمِنْه قَول ابْن مليك رَحمَه الله تَعَالَى
(فَكم ردّ مِنْ عَيْنٍ وجادَ بِمثلها
…
ولوْلاهُ مَا ضاءَتْ ولمْ تكُ تَعذُبُ) // الطَّوِيل //
وَقَوله من قصيدة أُخْرَى نبوية
(كمْ ردَّ مِنْ عين وجاد بهاوكم
…
ضاءَتْ بهِ وَسَقَى بِها منْ صادِي) // الْكَامِل //
وَمِنْه قَول الرشيد الفارقي
(إنَّ فِي عيْنيْكِ معْنَى
…
حدَّثَ النَرْجِسُ عنهُ)
(ليتَ لِي منْ غُصنهِ سَهماً فَفِي قلبيَ مِنهُ
…
) // من مجزوء الرمل //
وَقد أَخذه الشهَاب مَحْمُود وَلم يحسن الْأَخْذ فَقَالَ
(نازَعتْ عيناهُ قلبِي حبّةً
…
لم تكُنْ تقْبلُ قَبْلُ الإِنْقِساما)
(يالقومي هلْ عَلمتُم قبْلها
…
أنَّ للأعينِ فِي الْقلب سهاما) // الرمل //
124 -
(كَيْفَ أسْلُو وَأنْتِ حِقْفٌ وَغُصْنٌ
…
وغزَالٌ لْحَظاً وقَدَّاً وَرِدْفَا)
الْبَيْت من الْخَفِيف وَهُوَ مَنْسُوب لِابْنِ حيوس وَلم أره فِي ديوانه وَلَعَلَّه ابْن حيوس الإشبيلي
والحقف بِكَسْر الْحَاء الرمل الْعَظِيم المستدير
وَالشَّاهِد فِيهِ اللف والنشر وَهُوَ ذكر مُتَعَدد على التَّفْصِيل أَو الْإِجْمَال ثمَّ ذكر مَا لكل وَاحِد من آحَاد المتعدد من غير تعْيين ثِقَة بِأَن السَّامع يرد مَا لكل من آحَاد المتعدد إِلَى مَا هُوَ لَهُ ثمَّ الَّذِي على سَبِيل التَّفْصِيل ضَرْبَان لِأَن النشر إِمَّا على تَرْتِيب اللف وَإِمَّا على غير ترتيبه كَمَا فِي الْبَيْت هُنَا وَهُوَ ظَاهر
وَمِمَّا جَاءَ على التَّرْتِيب قَول ابْن الرُّومِي
(آراؤُكمْ وَوُجوهُكمْ وَسيُوفُكمْ
…
فِي الحادِثاتِ إذَا دَجوْنَ نُجومُ)
(فِيها مَعالِم لِلهدَى وَمصابحٌ
…
تَجلو الدُّجَى والأُخْرَياتُ رجومُ)
وَقَول بَعضهم
(ألستَ أنتَ الَّذِي مِن ْوِرْدِ نعمتهِ
…
وَوِرْدِ رَاحتهِ أَجني وأغترف) // الْبَسِيط //
وَمَا أبدع قَول ابْن شرف القيرواني
(جاوِرْ عَليّاً ولَا تَحْفلْ بِحادثةٍ
…
إذَا ادرعيت فلَا تَسألْ عنِ الأسَلِ)
(سلْ عنهُ وانْطقْ بهِ وانْظرْ إليهِ تَجدْ
…
مِلء الْمَسَامِع والأفوَاهِ والمُقلِ) // الْبَسِيط //
(وَقد أَخذه تَاج الدّين الذَّهَبِيّ فَقَالَ
(بدْرٌ سمَا للمُجتلي ثَمرٌ نَمَا
…
للمُجتني بَحْرٌ طَما للمُجتدِي)
(سلْ عنهُ وادْنُ إليهِ واستْمسِكَ تَجدْ
…
مِلءَ المسَامِع والنَّواظرِ وَالْيَد) // الْكَامِل //
وَمَا أَزْهَر قَول الْبَهَاء زُهَيْر
(ولي فيهُ قلبٌ بالغَرَامِ مقيدٌ
…
لهُ خَبَرٌ يرويهِ طرفىَ مطلقَا)
(ومنْ فرط وجدى فِي لمَاهُ وثغرهِ
…
أعللُ قلبِي بالعُذَيْبِ وبالنَّقَا) // الطَّوِيل //
وَمَا أحلى قَول ابْن نباتة الْمصْرِيّ مَعَ زِيَادَة التورية
(لَا تخَفْ عَيْلَةً وَلَا تخش فقرا
…
يَا كثيرَ المحاسن المختالهْ)
(لكَ عينٌ وقامةٌ فِي البرايا
…
تلكَ غَزَّالةٌ وذى عساله) // الْخَفِيف //
وَقَوله أَيْضا
(سألتهُ عَن قومهِ فانْثنى
…
يعجبُ من إسرافِ دَمعي السخِي)
(وأبصَرَ المسكَ وبدرَ الدُّجى
…
فقالَ ذَا خَالِي وَهَذَا أخي) // السَّرِيع //
وبديع قَول ابْن مكنسة
(والسكرُ فِي وجنتهِ وطرفهِ
…
يفتحُ وَرْداً ويغض نرجسا) // الرجز //
وَقد جَاءَ اللف والنشر بَين ثَلَاثَة فَأكْثر فَمِنْهُ قَول ابْن حيوس
(ومُقَرْطقٍ يَغْنَى النديمُ بوجههِ
…
عَن كأسهِ الملأى وَعَن إبريقهِ)
(فعلُ المدام ولونهَا ومذَاقُهَا
…
من مقلتيهِ ووجنتيه وريقه) // الْكَامِل //
وَقَول حمدة الأندلسية
(وَلما أَبى الوشوان إلاّ فرَاقَنَا
…
وَمَا لهُمُ عِنْدِي وعندكَ من ثارِ)
(وشَنّوا على أسماعنا كلّ غارَةٍ
…
وقَلّ حُمَاتي عِنْد ذاكَ وأنصارِي)
(غَزَوْتُهُمُ من مقلتيكَ وأدمُعِي
…
وَمن نَفَسي بِالسَّيْفِ والسيلِ والنارِ) // الطَّوِيل //
وَقَول ابْن نباتة وأجاد إِلَى الْغَايَة
(عَرْجَ عَلَى حرم المحبوب منتصباً
…
لقبلة الحسنِ واعذرنِي على السهرِ)
(وَانْظُر إِلَى الْخَال فوقَ الثغْر دُونَ لمىً
…
تَجِد بلَالاً يُراعي الصبحَ فِي السحر) // الْبَسِيط //
وبديع قَول بَعضهم
(وَرْدٌ وَمسكٌ وَدُرٌّ
…
خدٌّ وخالٌ وثغرُ)
(الْحَظ وجفنٌ وغنجٌ
…
سيفٌ ونبل وسحر)
(غُصْن وَبدر وليل
…
قد وَوجه وَشعر) // المجتث //
وَمِنْه بَين أَرْبَعَة وَأَرْبَعَة قَول الشَّاعِر
(ثغْرٌ وخدٌّ ونهدٌ واحمرَارُ يدٍ
…
كالطلعِ والوَرد والرّمان والبلَحِ) // الْبَسِيط //
وَمثله قَول الشَّاب الظريف مُحَمَّد بن الْعَفِيف
(رَأى جَسَدِي والدّمعَ والقلبَ والحشى
…
فأضنَى وأفنىَ واستمالَ وَتَيَّمَا) // الطَّوِيل //
وَلأبي جَعْفَر الأندلسي الغرناطي بَين خَمْسَة وَخَمْسَة
(ملكٌ يَجيءُ بِخَمْسَة من خمسةٍ
…
لقى الحسودَ بهَا فماتَ لما بهِ)
(منْ وَجههُ وَوَقارهِ وجوادهِ
…
وَحسامه بيديهِ يومَ ضِرَابهِ)
(قمرٌ على رضوى تسيرُ بهِ الصِّبَا
…
وَالبرقُ يلمَعُ من خلال سحَابهِ) // الْكَامِل //
وَلابْن جَابر الأندلسي بَين سِتَّة وَسِتَّة
(إِن شئتَ ظَبْيًا أَو هلَالاً أَو دُجى
…
أَو زهرَ غُصْن فِي الْكَثِيب الأملدِ)
(فللَحظهَا ولِوَجههَا ولشَعْرهَا
…
ولخدّها والقدّ والردف اقصد) // الْكَامِل //
ولنجم الدّين الْبَارِزِيّ بَين سَبْعَة وَسَبْعَة
(يُقَطِّعُ بالسكين بطيخةً ضحى
…
على طبقٍ فِي مجلسٍ لأصَاحِبهْ)
(كبدرٍ ببرقٍ قَدَّ شمْساً أهِلَّةً
…
لدَى هَالة فِي الْأُفق بَين كواكبه) // الطَّوِيل //
وَسَبقه إِلَى ذَلِك ابْن قلاقس فَقَالَ
(أتانَا الغلامُ ببطيخةٍ
…
وسكينة أحكموها صقالَا)
(فقسَّمَ بالبرْق شمسَ الضُّحَى
…
وَأعْطى لكلّ هِلَال هلالا) // المتقارب //
وَمثله قَول محَاسِن الشواء وأجاد
(وَغُلَام يحزُّ بطيخةً فِي اللَّوْن مثلي وَفِي المذَاقة مثلَهْ
…
)
(لأنَاسٍ غُرٍّ عَلى طبقٍ فِي
…
مجلسٍ مشرقٍ يشابهُ أهلَهْ)
(قَدّ بدرٌ شمساً بأفقٍ شهدتُ الليلَ فِي هَالة ببرقٍ أَهله
…
) // الْخَفِيف //
وَقَول الآخر
(وَلما بدا مَا بَيْننَا منية النَّفس
…
يحززُ بالسكين صفراء كالْوَرْسِ)
(توَّهْمُت بدر التِّمِّ قدّ أهلةً
…
على أنجم بالبرق من كرَةِ الشمسِ) // الطَّوِيل //
وَقَول الآخر
(خلنَاهُ لما حزّزَ البطيخَ فِي
…
أطباقه بصقيلةِ الصفحاتِ)
(بَدْرًا يقدُّ من الشموس أهلةً
…
بالبرْقِ بَين الشُّهْبِ فِي الهالاتِ) // الْكَامِل //
وَقَول البديع الدِّمَشْقِي فِي غُلَام يقطع بطيخاً بسكين نصابها اسود
(انظرْ بعينكَ جوهراً متلالئاً
…
سحرًا لفرط بَيَانه وجمالهِ)
(قمرُّ يقدُّ من الشموس أهلةً
…
بظلامِ هجْرَته وفجر وصاله) // الْكَامِل //
وَالسَّابِق إِلَى فتح هَذَا الْبَاب العسكري حَيْثُ يَقُول
(وجامعةٍ لأصناف الْمعَانِي
…
صلحنَ لوقت إكثارٍ وَقلَّهْ)
(فَمن أُدمٍ ورَيحانٍ ونَقْلٍ
…
فَلم يُرَ مثلُها سَدّاً لخلَّهْ)
(فَمِنْهَا مَا تَشَبهُهُ بُدُوراً
…
فإِن قَطَّعتها رجعت أهلهْ) // الوافر //
وَلابْن مقَاتل بَين ثَمَانِيَة وَثَمَانِية
(خدُودٌ وأصداغ وقدٌّ ومقلةٌ
…
وثغرٌ وأرياقٌ ولحنٌ ومعربُ)
(وُرُودٌ وسوسانٌ وبانٌ ونرجسٌ
…
وكأسٌ وجِرْيَالٌ وجَنكٌ ومطرب) // الطَّوِيل //
وللصفي الْحلِيّ
(وظبي بقفرٍ فوقَ طِرْفٍ مُفَوّقٌ
…
بقوسٍ رمى النَّقْع وحشاً بأسهمِ)
(كَبدرٍ بأفقِ فوْقَ برْقٍ بكفهِ
…
هلالٌ رمى فِي اللَّيْل جنا بأنجم) // الطَّوِيل //
ولبعضهم بَين عشرَة وَعشرَة
(شَعْرٌ جَبِينٌ محيّاً معطفٌ كَفَلٌ
…
صدغٌ فمٌ وجناتٌ ناظرٌ ثَغْرُ)
(ليلٌ صباحٌ هلالٌ بانةٌ ونَقاً
…
آسٌ أقاحِ شقيقٌ نرجسٌ در) // الْبَسِيط //
وَلابْن جَابر بَين اثْنَي عشر واثني عشر
(فرُوعٌ سنَا قدٌّ كلامٌ فمٌ لَمىً
…
حُلىً عُنُقٌ ثغرٌ شَذاً مقلةٌ خَدُّ)
(دُجىً قمرٌ غصنٌ جَنىً خَاتم طلاً
…
نجومٌ رشَاً دُرٌّ صبا نرجسٌ وردُ) // الطَّوِيل //
وَجل الْقَصْد هُنَا أَن يكون اللف والنشر فِي بَيت وَاحِد خَالِيا من الحشو وعقادة التَّرْكِيب جَامعا بَين سهولة اللَّفْظ والمعاني المخترعة
وَابْن حيوس بحاء مُهْملَة وياء تحتية مُشَدّدَة مَضْمُومَة وواو سَاكِنة بعْدهَا سين مُهْملَة هُوَ أَبُو الفتيان مُحَمَّد بن سُلْطَان بن مُحَمَّد بن حيوس الملقب بمصطفى الدولة الشَّاعِر الْمَشْهُور وَهُوَ أحد الشُّعَرَاء الشاميين الْمُحْسِنِينَ وفحولهم المجيدين وَله ديوَان شعر كَبِير لَقِي جمَاعَة من الْمُلُوك والأكابر ومدحهم وَأخذ جوائزهم وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى بني مرداس أَصْحَاب حلب وَله فيهم القصائد الفائقة وقصته مَعَ الْأَمِير جلال الدولة وصمصامها نصر بن مَحْمُود بن شبْل الدولة نصر بن صَالح بن مرداس مَشْهُورَة فَإِنَّهُ كَانَ قد مدح أَبَاهُ مَحْمُودًا فَأَجَازَهُ ألف دِينَار فَلَمَّا مَاتَ وَقَامَ مقَامه وَلَده نصرٌ الْمَذْكُور قَصده ابْن حيوس الْمَذْكُور بقصيدة رائية يمدحه بهَا ويعزيه عَن أَبِيه أَولهَا
(كفَى الدينَ عِزّاً مَا قضاهُ لكَ الدهرُ
…
فَمن كَانَ ذَا نذرٍ فقد وَجب النّذر) // الطَّوِيل //
مِنْهَا
(صَبرنَا على حكم الزَّمَان الَّذِي سطَا
…
على أنهُ لولاكَ لم يكنِ الصبرُ)
(غزَانا ببؤسي لَا يماثلها الأسى
…
تقارنُ نعمى لَا يقومُ بهَا الشكرُ)
(تَباعدتُ عَنْكُم حِرْفَة لَا زهادةً
…
وسرتُ إِلَيْكُم حِين مَسَّنِيَ الضرُّ)
(فلَاقيتُ ظلّ الْأَمْن مَا عنهُ حاجزٌ
…
يصدّ وَبَاب الْعِزّ مَا دونهُ سترُ)
(وطَالَ مُقامي فِي إسار جميلكم
…
فَدامت معاليكم ودام ليَ الأسْرُ)
(وأنجزَ لي ربُّ السَّمَوَات وعدهُ الكريمَ بأنَّ الْعسر يتبعهُ اليسرُ
…
)
(فجاد أَبُو نصر بِأَلف تصرمت
…
وَإِنِّي عليم أَن سيخلفها نصر)
(لقدْ كنتَ مأمولاً ترجى لمثلهَا
…
فَكيف وطوعاً أَمرك النهيُ وَالأمرُ)
(وَمَا بِي إِلَى الإِلحاح والحرص حَاجَة
…
وَقد عرف المبتاعُ وانفصل السعرُ)
(وَإِنِّي بآمالي لديكم مخيم مخيمٌ
…
وَكم فِي الورى ثاوٍ وآمالهُ سَفْرُ)
(وعهدكَ مَا أبغي بِقَوْلِي تصنعاً
…
بأيسرِ مَا توليهِ يستبعد الْحر) // الطَّوِيل //
فَلَمَّا فرغ من إنشادها قَالَ الْأَمِير نصر وَالله لَو قَالَ عوض قَوْله سيخلفها نصر سيضعفها لأضعفتها لَهُ وَأَعْطَاهُ ألف دِينَار فِي طبق فضَّة
وَكَانَ اجْتمع على بَاب الْأَمِير نصر جمَاعَة من الشُّعَرَاء وامتدحوه وتأخرت صلته عَنْهُم وَنزل بعد ذَلِك الْأَمِير نصر إِلَى دَار بولص النَّصْرَانِي وَكَانَت لَهُ عَادَة بغشيان منزله وَعقد مجْلِس الْأنس عِنْده فَأَتَت الشُّعَرَاء الَّذين تَأَخَّرت
جوائزهم إِلَى بَاب بولص وَفِيهِمْ ابْن الدويدة المعري الشَّاعِر الْمَعْرُوف فَكَتَبُوا ثَلَاثَة أَبْيَات اتَّفقُوا على نظمها وَقيل بل نظمها ابْن الدويدة المعري الْمَذْكُور وصيروا الورقة إِلَيْهِ وفيهَا الأبيات وَهِي
(عَلى بابِكَ المَحْرُوسِ مِنّا عِصَابةٌ
…
مَفاليسُ فانْظُرْ فِي أُمُور المَفَاليس)
(وَقدْ قَنعتْ مِنك َالجَمَاعةُ كُلُّها
…
بِعُشْرٍ الَّذِي أعطَيْتَهُ لِابْنِ حَيُّوس)
(وَمَا بَيْنَنا هذَا التَفَاوُتُ كُلُّهُ
…
ولكِنْ سَعيدٌ لَا يُقاسُ بِمنحوس) // الطَّوِيل //
فَلَمَّا وقف عَلَيْهَا الْأَمِير نصر أطلق لَهُم مائَة دِينَار وَقَالَ وَالله لَو قَالُوا بِمثل الَّذِي أَعْطيته لِابْنِ حيوس لأعطيتهم مثله
وَكَانَ الْأَمِير نصر سخياً وَاسع الْعَطاء تملك حلب بعد وَفَاة أَبِيه مَحْمُود سنة سبع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة وَلم تطل مدَّته حَتَّى ثار عَلَيْهِ جمَاعَة من جنده فَقَتَلُوهُ ثَانِي شَوَّال سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَكَانَ ابْن حيوس الْمَذْكُور قد أثرى وحصلت لَهُ نعْمَة ضخمة من بني مرداس فَبنى دَارا بِمَدِينَة حلب وَكتب على بَابهَا من شعره
(دارٌ بَنيْنَاها وعِشْنا بِها
…
فِي نِعمةٍ مِنْ آلِ مِرْداس)
(قَومٌ نَفواْ بُؤْسي وَلم يتْركُوا
…
عَليّ للأَيام مِنْ باسِ)
(قُلْ لِبني الدُّنيا أَلا هكذَاَ
…
فَليفْعِل الناسُ مَعَ الناسِ) // السَّرِيع //
وَقيل إِن الأبيات لِابْنِ أبي حَصِينَة الْحلَبِي وَهُوَ الصَّحِيح
وَحكى الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فِي تَارِيخ دمشق قَالَ أنشدنا أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن
إِبْرَاهِيم الْعلوِي من حفظه سنة سبع وَخَمْسمِائة قَالَ أَخذ الْأَمِير أَبُو الفتيان ابْن حيوس بيَدي وَقَالَ أروعني هَذَا الْبَيْت وَهُوَ فِي شرف الدولة مُسلم ابْن قُرَيْش
(أَأَنْت الَّذِي نفق الثنَاءُ بِسُوقهِ
…
وَجَرَى النَّدَى بِعرُوقهِ قَبْلَ الدَّم) // الْكَامِل //
وَهَذَا الْبَيْت فِي غَايَة الْمَدْح
وَمن غرر قصائده السائرة قَوْله
(هُو ذاكَ رَبعُ العَامرية فارْبَعِ
…
واسأَلْ مَصيفاً عافياً عَنْ مَرْبع)
(وَاستَسْقِ لِلدِّمَن الخَوالي بِالحمى
…
غُرَّ السحَائب واعْتَذرْ عَن أَدْمُعِي)
(فَلَقد غدوتُ أمامَ دَانٍ هَاجرٍ
…
فِي قُرْبه وَوَراءَ ناءٍ مُزْمع)
(لَوْ تُخبرُ الرُّكبَانُ عنِّي حدّثُوا
…
عَنْ مُقلةٍ عَبْرَى وقَلبٍ مُوجعَ)
(رُدِّى لنا زَمنَ الكَثيبِ فإنّهُ
…
زَمنٌ مَتى يَرْجع وصالُك يَرْجع)
(لوْ كنت عَالِمَة بأذني لَوْعتي
…
لرَدَدْتِ أقْصَى نيلكِ المُسْتَرْجَعِ)
(بَل لوْ قَنعتِ منَ الغرَام بمُظْهر
…
عَنْ مُضمر بينَ الحَشى والأضلُعِ)
(أُعْتَبْتِ إِثْرَ تعتُّبٍ وَوصلْتِ
…
غِبَّ تجنُّبٍ وبذلْتِ بَعْدَ تمنّع)
(وَلَو أنني أنْصَفتُ نَفسِي صُنتُها
…
عَنْ أَن أكُونَ كَطَالبٍ لم يَنْجَع)
(إِنِّي دعَوْتُ نَدَى الغرام فلَم يُجب
…
فَلَا شُكْرَنَّ نَدَى أجَاب وَمَا دُعى)
(ومنَ العَجَائبِ والعجائبُ جمَّةٌ
…
شكْرٌ بَطيءٌ عَنْ ندَى مُتَسرّع)
وَمن شعره يمدح سَابق بن مَحْمُود
(يزْدادُ إِن قَصُرَ الخَطْىُّ عَن غَرض
…
طُولاً وَيمضي إِذا حد الحسام نبا)
(حلّ السِّماكَ وَمَا حُلّتْ تَمائِمهُ
…
عَنْ جِيدِه وحبَا العافِينَ مُنذُ حَبَا)
(حوَى منَ الفَضْل موْلوداً بِلَا طلب
…
أَضْعَاف مَا أعجَزَ الطُّلَاّبَ مُكتَسبا)
(طلْقُ المحيّا إِذا مَا زُرْتَ مجْلِسهُ
…
حُزْتَ الْغنى والعُلَا والبأس والأدبا) // الْبَسِيط //
ومحاسنه كَثِيرَة
وَكَانَ أَحْمد بن مُحَمَّد الْخياط الشَّاعِر قد وصل إِلَى حلب سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة وَبهَا يَوْمئِذٍ ابْن حيوس الْمَذْكُور فَكتب إِلَيْهِ ابْن الْخياط يَقُول
(لم يبْقَ عِندِي مَا يُباعُ بدرْهَم
…
وكَفَاكَ مِنِّي مَنظَري عنْ مَخْبَري)
(إِلَا بَقيَّةُ ماءِ وَجهٍ صنتها
…
عَن أَن تُبَاعَ وأينَ أينَ المُشْتَرِي) // الْكَامِل //
فَقَالَ لَو قَالَ وَنعم أَنْت المُشْتَرِي لَكَانَ أحسن
وَكَانَ مولد ابْن حيوس سنة أَربع وَتِسْعين وثلثمائة بِدِمَشْق وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وَابْن حيوس الإشبيلي ذكره ابْن فضل الله فَقَالَ لَا يخف لَهُ ضرع خاطر
وَلَا يجِف لَهُ نوء سَحَاب ماطر لَو مس بقريحته الصلد لتفجر أَو الجهام لَا ثعنجر وحسبك من مرمى غَرَضه الْبعيد مَا ذكره لَهُ ابْن سعيد وَأورد لَهُ فِي المرقص قَوْله فِي أشتر الْعين لَا تُفَارِقهُ الدمعة
(شترت فقُلنا زوْرقٌ فِي لُجَّةٍ
…
مَالت بإِحدَى دفّتيهِ الرِّيحُ)
(فكأنمَا إنسانُهَا ملاّحهُا
…
قد خافَ مِنْ غرقٍ فظل يميح) // الْكَامِل //
125 -
(إِنَّ الشَّبَابَ والفَرَاغَ والْجِدَهْ
…
مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهْ)
الْبَيْت لأبي الْعَتَاهِيَة من أرجوزته المزدوجة الَّتِي سَمَّاهَا ذَات الْأَمْثَال يُقَال إِن لَهُ فِيهَا أَرْبَعَة آلَاف مثل فَمِنْهَا
(حسبُكَ مِمَّا تبتفيه القُوتُ
…
مَا أكثَرَ القُوتَ لِمنْ يمُوتُ)
(الفقرُ فيمَا جاوزَ الكَفافا
…
مِن اتّقى اللهَ رَجا وَخافا)
(هيَ المَقَاديُر فلُمني أَو فذرْ
…
إِن كنْتُ أخطأتُ فَمَا أخطا القَدَر)
(لِكُلّ مَا يُؤذي وَإِن قَلّ ألم
…
مَا أطوَل اللَّيْلَ على مَنْ لم ينم)
(مَا انتَفَعَ المرءُ بِمثلْ عقلهِ
…
وخيْرُ ذُخْرِ المرءِ حُسْنُ فِعلهِ)
(إِن الفَساد ضدّهُ الصَلَاحُ
…
ورُبّ جدٍّ جَرّهُ المُزَاحُ)
(مَنْ جعلَ النَّمَّامَ عبنأً هلكاَ
…
مُبلغُكَ الشّرّ كباغيهِ لَكا)
وَبعده الْبَيْت وَبعده
(يُغْنِيك عَن كل قَبِيح تَركُهُ
…
يرتهن الرأيَ الأصيلَ شكّهُ)
(مَا عَيْشُ مَنْ آفته بَقَاؤُهُ
…
نغض عَيشاً كلَّهُ فناؤُهُ)
(يَا رب من أسخطنَا بِجْهدِهِ
…
قد سرَّنا الله بغيرِ حَمْدِهِ)
(مَا تطلعُ الشَّمْسُ وَلَا تعيب
…
إِلَّا لأمرٍ شأنهُ عَجيبُ)
(لِكلِّ شَيْء قدرٌ وجوهرُ
…
وأوسط وأصغر وأكبرُ)
(فكلُّ شَيْء لاحقٌ بجوهرهْ
…
أصغرهُ متّصِلٌ بأكبرهْ)
(مَنْ لكَ بالمحْضْ وكلُّ مُمتزجْ
…
وساوسٌ فِي الصَّدْر مِنْك تختلج)
(مَا زالتِ الدُّنيا لنا دارَ أَذَى
…
مَمزُوجةَ الصفوِ بأنواع القَذَى)
(الخيْرُ والشّرُّ بِها أزواجُ
…
لذَا نتاجٌ ولِذَا نِتاجُ)
(مَنْ لكَ بالمحْضْ وَلَيْسَ مَحْضُ
…
يخبُثُ بَعضٌ وَيطيبُ بعضُ)
(لِكُلِّ إنسانٍ طبيعتَانِ
…
خيْرٌ وشَرٌّ وُهما ضِدَّانِ)
(والخيرُ والشرُّ إِذا مَا عُدّا
…
بَينهُما بَوْنٌ بعيدٌ جدَّا)
(إنّكَ لَو تَستنشقُ الشحيحا
…
وَجدتَهُ أنتنَ شَيءٍ ريحًا)
(عجِبْتُ حَتَّى ضمَّني السُّكوتُ
…
صِرْتُ كأنِّي حائرٌ مَبْهُوتُ)
(كذَا قَضى اللهُ فكَيْفَ أصنعُ
…
والصمْتُ إِن ضاقَ الكلامُ أوسعُ)
وَهِي طَوِيلَة جدا وَهَذَا الأنموذج كَاف مِنْهَا
وَالْجدّة الِاسْتِغْنَاء والمفسدة الْخلَّة الداعية إِلَى الْفساد
وَالشَّاهِد فِيهِ الْجمع وَهُوَ الْجمع بَين مُتَعَدد فِي حكم وَهُوَ ظَاهر فِي الْبَيْت وَمَا أحسن قَول الصفي الْحلِيّ فِيهِ
(أرَاؤُهُ وَعَطاياهُ ونِعمتُهُ
…
وعفوُهُ رحمَةٌ للنَّاس كلهم) // الْبَسِيط //
وَمِنْه قَول ابْن حجَّة مَعَ تَسْمِيَة النَّوْع
(آدابهُ وعَطاياه ورأفَتُهُ
…
سجيةٌ ضمن جَمْع فِيهِ ملتئم) // الْبَسِيط //
وَقَول ابْن جَابر الأندلسي
(قد أحْرَز السَّبق والإحسانَ فِي نَسقٍ
…
والعِلم والحِلم قَبلَ الدَّرك للحلم) // الْبَسِيط //
وَأَبُو الْعَتَاهِيَة هُوَ إِسْمَاعِيل بن الْقَاسِم بن سُوَيْد بن كيسَان مولى عنزة وكنيته أَبُو إِسْحَاق وَأَبُو الْعَتَاهِيَة كنية غلبت عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يحب الشُّهْرَة والمجون فكنى لعتوه بذلك وَقيل إِن الْمهْدي قَالَ لَهُ يَوْمًا أَنْت إِنْسَان متعته متحذلق فاستوت لَهُ من ذَلِك كنيته وَيُقَال للرجل المتحذلق عتاهية وَفِيه يَقُول أَبُو قَابُوس النَّصْرَانِي وَقد بلغه أَنه فضل عَلَيْهِ العتابي
(قُلْ لِلْمُكني نَفْسهُ
…
مُتخيراً بِعتاهِيةْ)
(والمُرْسلِ الْكَلم القَبيح وعنهُ أذنٌ وَاعيهْ
…
)
(إِن كنتَ سِرّاً سؤتني
…
أَو كانَ ذَاكَ عَلَانِيهْ)
(فَعليك لعنَةُ ذِي الْجلَال
…
وأُمُّ زيدٍ زانيهْ) // الْكَامِل //
وَأم زيد هِيَ أم أبي الْعَتَاهِيَة ومنشأه بِالْكُوفَةِ وَكَانَ فِي أول أمره يتخنث وَيحمل زاملة المخنثين ثمَّ كَانَ يَبِيع الفخار بِالْكُوفَةِ ثمَّ قَالَ الشّعْر فبرع فِيهِ وَتقدم وَيُقَال أطبع النَّاس بالشعر بشار وَالسَّيِّد الْحِمْيَرِي وَأَبُو الْعَتَاهِيَة وَمَا قدر
أحد قطّ على جمع شعر هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة بأسره لكثرته وَكَانَ غزير الْبَحْر كثير الْمعَانِي لطيفها سهل الْأَلْفَاظ كثير الافتنان قَلِيل التَّكَلُّف إِلَّا أَنه كثير السَّاقِط المرذول مَعَ ذَلِك وَأكْثر شعره فِي الزّهْد والأمثال وَكَانَ قوم من أهل عصره ينسبونه إِلَى القَوْل بِمذهب الفلاسفة مِمَّن لَا يُؤمن بِالْبَعْثِ والنشور ويحتجون بِأَن شعره إِنَّمَا هُوَ فِي ذكر الْمَوْت والفناء دون النشور والمعاد
وَحدث الْخَلِيل بن أَسد النوشجاني قَالَ أَتَانَا أَبُو الْعَتَاهِيَة إِلَى منزلنا فَقَالَ زعم النَّاس أنني زنديق وَالله مَا ديني إِلَّا التَّوْحِيد فَقُلْنَا لَهُ قل شَيْئا نتحدث بِهِ عَنْك فَقَالَ
(أَلا إِنَّنَا كلَّنا بائدُ
…
وأيُّ بني آدمٍ خالِدُ)
(وبَدؤُهُم كانَ من رَبِّهم
…
وكُلٌّ إِلَى رَبِّهِ عَائدُ)
(فَيا عَجَباً كيفَ يُعصي الإلهُ أم كيفَ يجحدهُ الجاحد
…
)
(وَفِي كلِّ شَيْء لَهُ آيةٌ
…
تَدُلُّ على أَنهُ وَاحِد) // المتقارب //
وَكَانَ من أبخل النَّاس مَعَ يسَاره وَكَثْرَة مَا جمعه من الْأَمْوَال
وَحدث مُحَمَّد بن عِيسَى الْخرقِيّ قَالَ وقف عَلَيْهِ ذَات يَوْم سَائل من العيارين الظرفاء وَجَمَاعَة من جِيرَانه حواليه فَسَأَلَهُ دونهم فَقَالَ لَهُ صنع الله لَك فَأَعَادَ السُّؤَال فَرد عَلَيْهِ فَأَعَادَ الثَّالِثَة فَغَضب وَقَالَ لَهُ أَلَسْت الَّذِي يَقُول
(كلُّ حَيّ عِنْد ميتتهِ
…
حظُّهُ من مَاله الْكَفَن) // المديد //
قَالَ نعم قَالَ فبالله عَلَيْك أَتُرِيدُ أَن تعد مَالك كُله لثمن كفنك قَالَ لَا قَالَ فبالله كم قدرت لكفنك قَالَ خَمْسَة دَنَانِير قَالَ فاعمل على أَن دِينَارا من الْخَمْسَة وضيعته قِيرَاط وادفع إِلَيّ قيراطاً وَاحِدًا وَإِلَّا فَوَاحِدَة أُخْرَى قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ الْقُبُور تحفر بِثَلَاث دَرَاهِم فَأعْطِنِي درهما وأقيم لَك كَفِيلا بِأَن أحفر لَك بِهِ
قبرك مَتى مت وتربح دِرْهَمَيْنِ لم يَكُونَا فِي حِسَابك فَإِن لم أحفر رَددته على وَرثتك أَو رده كفيلي عَلَيْهِم فَخَجِلَ أَبُو الْعَتَاهِيَة وَقَالَ اغرب لعنك الله وَغَضب عَلَيْك وَضحك جَمِيع من حضر وَمر السَّائِل يضْحك فَالْتَفت إِلَيْنَا أَبُو الْعَتَاهِيَة وَقد اغتاظ فَقَالَ من أجل هَذَا وَأَمْثَاله حرمت الصَّدَقَة فَقُلْنَا لَهُ وَمن حرمهَا وَمَتى حرمت فَمَا رَأَيْت أحدا ادّعى أَن الصَّدَقَة حرمت قبله وَلَا بعده
وَقَالَ قلت لأبي الْعَتَاهِيَة أتزكى مَالك فَقَالَ وَالله مَا أنْفق على عيالي إِلَّا من زَكَاة مَالِي فَقلت لَهُ سُبْحَانَ الله إِنَّمَا يَنْبَغِي لَك أَن تخرج زَكَاة مَالك للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين فَقَالَ لي لَو انْقَطَعت عَن عيالي زَكَاة مَالِي لم يكن فِي الأَرْض أفقر مِنْهُم
وَحدث أَيْضا قَالَ كنت جاراً لأبي الْعَتَاهِيَة وَكَانَ لَهُ جَار يلتقط النَّوَى ضَعِيف سيء الْحَال متجمل عَلَيْهِ ثِيَاب فَكَانَ يمر بِأبي الْعَتَاهِيَة طرفِي النَّهَار فَيَقُول أَبُو الْعَتَاهِيَة اللَّهُمَّ أعنه على مَا هُوَ بسبيله شيخ ضَعِيف سيءالحال عَلَيْهِ ثِيَاب متجمل اللَّهُمَّ اصْنَع لَهُ اللَّهُمَّ بَارك فِيهِ فَبَقيَ على هَذَا إِلَى أَن مَاتَ الشَّيْخ نَحوا من عشْرين سنة لَا وَالله إِن تصدق عَلَيْهِ بِدِرْهَمَيْنِ وَلَا دانق قطّ وَمَا كَانَ زَاده على الدُّعَاء شَيْئا فَقلت لَهُ يَا أَبَا إِسْحَاق إِنِّي أَرَاك تكْثر الدُّعَاء لهَذَا الشَّيْخ وتزعم أَنه فَقير معيل فَلم لَا تَتَصَدَّق عَلَيْهِ بِشَيْء فَقَالَ أخْشَى أَن يعْتَاد الصَّدَقَة وَهِي آخر مكاسب العَبْد وَإِن فِي الدُّعَاء خيرا كثيرا
وَقَالَ الجاحظ حَدثنِي ثُمَامَة بن أَشْرَس قَالَ دخلت يَوْمًا على أبي الْعَتَاهِيَة فَإِذا هُوَ يَأْكُل خبْزًا بِلَا شَيْء فَقلت لَهُ كالمنكر كَأَنَّك رَأَيْته يَأْكُل خبْزًا وَحده فَقَالَ لَا وَلَكِنِّي رَأَيْته يتأدم بِلَا شَيْء فَقلت وَكَيف ذَلِك فَقَالَ رَأَيْت قدامه خبْزًا يَابسا من دقاق فطير وَقَدحًا فِيهِ حليب فَكَانَ يَأْخُذ الْقطعَة من الْخبز فيغمسها فِي اللَّبن ويخرجها فَلم تتَعَلَّق مِنْهُ بِقَلِيل وَلَا كثير فَقلت لَهُ كَأَنَّك اشْتهيت أَن تتأدم بِلَا شَيْء وَمَا رَأَيْت أحدا قبله تأدم بِلَا شَيْء
وَقَالَ ثُمَامَة أَنْشدني أَبُو الْعَتَاهِيَة
(إِذا الْمَرْء لم يُعتِق منَ المَال نفسَهُ
…
تمَلّكَهُ المالُ الَّذِي هُوَ مالكُهْ)
(أَلا إِنَّمَا مَالِي الَّذي أَنا مُنفِقٌ
…
ولَيسَ ليَ المَالُ الَّذِي أَنا تاركُهْ)
(إِذا كُنتَ ذَا مَال فبادر بِهِ الَّذي
…
يحقُّ وَلَا استهلكته مهالكه) // الطَّوِيل //
فَقلت لَهُ من أَيْن قضيت بِهَذَا قَالَ من قَوْله صلى الله عليه وسلم (إِنَّمَا لَك من مَالك مَا أكلت فأفنيت أَو لبست فأبليت أَو أَعْطَيْت فأمضيت) فَقلت أتؤمن بِأَن هَذَا قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنه الْحق قَالَ نعم قلت فَلم تحبس عنْدك سبعا وَعشْرين بدرة فِي دَارك لَا تَأْكُل مِنْهَا وَلَا تشرب وَلَا تزكي وَلَا تقدمها ذخْرا ليَوْم فقرك وفاقتك قَالَ يَا أَبَا معن وَالله إِن مَا قلت لحق وَلَكِنِّي أَخَاف الْفقر وَالْحَاجة إِلَى النَّاس قلت وَمَا يزِيد حَال من افْتقر على حالك وَأَنت دَائِم الْحزن لَا تَأْكُل وَلَا تشرب مِنْهَا دَائِم الْجمع شحيح على نَفسك لَا تشتري اللَّحْم إِلَّا من عيد إِلَى عيد فَترك جَوَاب كَلَامي كُله ثمَّ قَالَ لي وَالله لقد اشْتريت فِي يَوْم عَاشُورَاء لَحْمًا وتوابله وَمَا يتبعهُ بِخَمْسَة دَرَاهِم فَلَمَّا قَالَ لي هَذَا القَوْل أضحكني حَتَّى أذهلني عَن جَوَابه ومعاتبته وَأَمْسَكت عَنهُ وَعلمت أَنه لَيْسَ مِمَّن شرح الله صَدره لِلْإِسْلَامِ
وَقيل لَهُ مَا لَك تبخل بِمَا رزقك الله تَعَالَى فَقَالَ وَالله مَا بخلت بِمَا رَزَقَنِي الله قطّ قيل لَهُ فَكيف ذَاك وَفِي بَيْتك من المَال مَا لَا يُحْصى قَالَ لَيْسَ ذَلِك رِزْقِي وَلَو كَانَ رِزْقِي لأنفقته
وَحدث أَبُو الْعَتَاهِيَة قَالَ أخرجني الْمهْدي مَعَه إِلَى الصَّيْد فوقعنا مِنْهُ على شَيْء كثير وتفرق أَصْحَابه فِي طلبه وَأخذ هُوَ فِي طَرِيق آخر غير طريقهم فَلم يلتفتوا وَعرض لنا وادٍ جرار عَظِيم وتغيمت السَّمَاء وبدأت بمطر فتحيرنا وأشرفنا على الْوَادي وَإِذا فِيهِ ملاح يعبر النَّاس فلجأنا إِلَيْهِ وسألناه
عَن الطَّرِيق فَجعل يضعف رَأينَا ويعجزنا فِي بذل أَنْفُسنَا فِي ذَلِك الْغَيْم والمطر للصَّيْد حَتَّى أبعدنا ثمَّ أدخلنا كوخا لَهُ وَكَانَ الْمهْدي يَمُوت بردا فَقَالَ لَهُ أغطيك بجبتي هَذِه الصُّوف فَقَالَ نعم فغطاه بهَا فتماسك قَلِيلا ونام وافتقده غلمانه وتبعوا أَثَره حَتَّى جاؤونا فَلَمَّا رأى الملاح كثرتهم على أَنه الْخَلِيفَة فهرب وتبادر الغلمان فنحوا الْجُبَّة عَنهُ وألقوا عَلَيْهِ الْخَزّ والوشي فَلَمَّا انتبه قَالَ لي وَيحك مَا فعل الملاح فوَاللَّه لقد وَجب حَقه علينا فَقلت وَالله هرب خوفًا مِمَّا خاطبنا بِهِ قَالَ إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَالله لقد أردْت أَن أغنيه وَبِأَيِّ شَيْء خاطبنا نَحن وَالله مستحقون لأضعاف مَا خاطبنا بِهِ بحياتي عَلَيْك إِلَّا مَا هجوتني فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كَيفَ تطيب نَفسِي بِأَن أهجوك قَالَ وَالله لتفعلن فإنني ضَعِيف الرَّأْي مغرم بالصيد فَقلت
(يَا لابِسَ الوَشْي على ثَوبهِ
…
مَا أقبَحَ الأشيب بِالرَّاحِ) // السَّرِيع //
فَقَالَ زِدْنِي بحياتي عَلَيْك فَقلت
(لَو شئتَ أَيْضا جُلْتَ فِي خامةٍ
…
وَفِي وِشَاحَيْنِ وأوضاحِ)
فَقَالَ وَيلك هَذَا معنى سوء يرويهِ عَنْك النَّاس وَأَنا أستأهل زِدْنِي شَيْئا آخر فَقلت أَخَاف أَن تغْضب فَقَالَ لَا وَالله فَقلت
(كم من عَظِيم القَدْرِ فِي نَفْسهِ
…
قد نامَ فِي جُبَّةِ مَلَاّحِ)
فَقَالَ معنى سوء عَلَيْك لعنة الله وقمنا فَرَكبْنَا وانصرفنا
وَعَن الْحسن بن عَابِد قَالَ كَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة يحجّ فِي كل سنة فَإِذا قدم أهْدى لِلْمَأْمُونِ بردا قطرياً ونعلاً سَوْدَاء ومساويك أراكٍ فيبعث إِلَيْهِ بِعشْرين ألف دِرْهَم فأهدى لَهُ مرّة كَمَا كَانَ يهدي كل سنة إِذا قدم فَلم يثبه وَلَا بعث إِلَيْهِ بالوظيفة فَكتب إِلَيْهِ أَبُو الْعَتَاهِيَة يَقُول
(خبروني أنّ مِنْ ضرب السّنة
…
حددا بيضًا وصُفْراً حسنهْ)
(أحدثت لكني لم أرَها
…
مثلَ مَا كنتُ أرى كل سنة) // الرمل //
قَالَ فَأمر الْمَأْمُون بِحمْل الْعشْرين ألفا إِلَيْهِ وَقَالَ أغفلناه حَتَّى أذكرنا
وَحدث أَبُو عِكْرِمَة قَالَ كَانَ الرشيد إِذا رأى عبد الله بن معن بن زَائِدَة يتَمَثَّل بقول أبي الْعَتَاهِيَة
(أُختُ بني شيبانَ مرّتْ بِنَا
…
ممشوطة كوراً على بغلِ) // السَّرِيع //
وَهَذَا الْبَيْت من أَبْيَات لأبي الْعَتَاهِيَة يهجو بهَا عبد الله الْمَذْكُور وَبعده
(تكنى أَبَا الْفضل وَمن ذَا رأى
…
جَارِيَة تكنى أَبَا الْفضل)
(قد نقطت فِي وَجههَا نقطةً
…
مخافةَ الْعين من الْكحل)
(إِن زُرتموها قَالَ حُجابها
…
نحنُ عَن الزُّوَّار فِي شُغلِ)
(مولَاتُنَا مَشْغُولَة عندَها
…
بعلٌ وَلَا إِذنَ على البعلِ)
(يَا بنتَ معنِ الخيرِ لَا تجهلِي
…
وأينَ تقصيرٌ عَن الجهلِ)
(أتجلدُ الناسَ وأنتَ امرُؤٌ
…
تُجلَدُ فِي دُبرِكَ والقبلِ)
(مَا يَنْبَغِي للناسِ أَن ينسُبُوا
…
من كانَ ذَا جودٍ إِلَى البخلِ)
(يبذلُ مَا يمنعُ أهلُ الندَى
…
هَذَا لعمرِي مُنْتَهَى البذلِ)
(مَا قلتُ هَذَا فيكَ إِلَّا وقَدْ
…
جَفَّتْ بهِ الأقلامُ من قبلي) // السَّرِيع //
قَالَ فَبعث إِلَيْهِ عبد الله بن معن فَأتى بِهِ فَدَعَا بغلمان لَهُ ثمَّ أَمرهم أَن يرتكبوا مِنْهُ الْفَاحِشَة فَفَعَلُوا ذَلِك ثمَّ أجلسه وَقَالَ لَهُ قد جزيتك على قَوْلك فَهَل لَك بعد هَذَا فِي الصُّلْح وَمَعَهُ مركب وَعشرَة آلَاف دِرْهَم أَو تقيم على الْحَرْب وَمَا ترى قَالَ بل الصُّلْح قَالَ فأسمعني مَا تَقوله فِي معنى الصُّلْح فَقَالَ
(مَا لِعذالي ومالِي
…
أمرُونِي بالضلاِل)
(عذَلوني فِي اغتفارِي
…
لِابْنِ مَعنٍ واحتمالِي)
(إِن يكن مَا كانَ منهُ
…
فَبجرْمِي وفعالِي)
(أَنا مِنْهُ كنتُ أسوا
…
عِشْرَةً فِي كل حالِ)
(قل لمن يعجبُ من حسن
…
رجوعي ومقالِي)
(رُبّ ودّ بعدَ صَدّ وَهوى بعدَ الرِّجَال
…
)
(قد رَأينَا ذَا كثيرا
…
جَارِيا بَين الرّجالِ)
(إِنما كَانَت يمينِي
…
لطمتْ مِني شمَالي) // الرمل //
وَكَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة فِي حداثته يهوى امْرَأَة من أهل الْحيرَة نائحة لَهَا حسن ودماثة يُقَال لَهَا سعدى وَكَانَ مِمَّن يهواها أَيْضا عبد الله بن معن وَكَانَت مولاة لَهُم وَكَانَت صَاحِبَة حبائب وَكَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة مُولَعا بِالنسَاء فَقَالَ فِيهَا
(أَلا يَا ذَوَات السحق فِي الغرب والشرقِ
…
أفقنَ فَإِن النيكَ أشهى من السحق)
(أفقنَ فإنّ الْخبز بِالْأدمِ يشتهَى
…
وَلَيْسَ يسوغُ الْخبز بالخبز فِي الْحلق)
(أراكنَّ ترقعنَ الخرُوق بِمِثْلِهَا
…
وأيّ لبيبٍ يرقعُ الْخرق بالخرقِ)
(وَهل يصلحُ المهراسُ إِلَّا بعودهِ
…
إذَا احتيجَ مِنْهُ ذَاتَ يَوْم إِلَى الدقّ) // الطَّوِيل //
وَقَالَ فِيهَا أَيْضا
(قلتُ للقلب إِذْ طوى وصلَ سُعَدى
…
لهواه الْبَعِيدَة الأسبابِ)
(أنتَ مثل الَّذِي يفرُّ من القَطرِ حِذَارَ الندى إِلَى الْمِيزَاب
…
) // الْخَفِيف // فَغَضب ابْن معن لسعدى فَضرب أَبَا الْعَتَاهِيَة مائَة فَقَالَ فِيهِ
(جَلَدَتْنِي بكفها
…
بنتُ معن بن زَائِدَة)
(جلدتني بكفها
…
بِأبي تِلْكَ جالدهْ)
(وتراها مَعَ الخصيِّ
…
على الْبَاب قاعدهْ)
(تتكَنّى كني الرِّجَال
…
لعمدٍ مُكايدهْ)
(جَلدَتْنِي وبالغت
…
مائَة غير واحده)
(اجلديني اجلدي اجلدي
…
إِنَّمَا أنتِ وَالِده) // من مجزوء الْخَفِيف //
وَقَالَ فِي ضربه إِيَّاه أَيْضا
(ضربتني بكفها بنتُ معنٍ
…
أوجعت كفها وَمَا أوجعتني)
(ولعمري لَوْلَا أَذَى كفها إِذْ
…
ضربتني بِالسَّوْطِ مَا تَرَكتنِي) // الْخَفِيف //
وَحدث أَحْمد بن أبي فنن قَالَ كُنَّا عِنْد ابْن الْأَعرَابِي فَذكر قَول يحيى بن نَوْفَل فِي عبد الْملك بن عُمَيْر القَاضِي وَهُوَ
(إِذا كلمتهُ ذاتُ دَلٍّ لحاجةٍ
…
فهمَّ بِأَن يقْضِي تنحنح أَو سعل) // الطَّوِيل //
وَأَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ تركني وَالله وَإِن السعلة لتعرض لي فِي الْخَلَاء فأذكر قَوْله فأهاب أَن أسعل قَالَ فَقلت هَذَا ابْن معن بن زَائِدَة يَقُول لَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَة
(فصُغْ مَا كنت حَلَّيْتَ
…
بِهِ سيفكَ خَلخالا)
(فَمَا تصنعُ بالسيفِ
…
إِذا لم تَكُ قتالا) // الهزج //
فَقَالَ عبد الله مَا لبست السَّيْف قطّ فلمحني إِنْسَان إِلَّا قلت يحفظ شعر أبي الْعَتَاهِيَة فِي فَينْظر إِلَيّ بِسَبَبِهِ فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي اعجبوا لهَذَا العَبْد يهجو مَوْلَاهُ وَكَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة من موَالِي بني شَيبَان
وَحدث الْمَدَائِنِي قَالَ اجْتمع أَبُو نواس وَأَبُو الشمقمق فِي بَيت ابْن أذين وَجَاء أَبُو الْعَتَاهِيَة وَكَانَ بَينه وَبَين أبي الشمقمق شَرّ فخبأه من أبي الْعَتَاهِيَة فِي بَيت وَدخل أَبُو الْعَتَاهِيَة فَنظر إِلَى غُلَام عِنْدهم فِيهِ تَأْنِيث فَظَنهُ جَارِيَة فَقَالَ لِابْنِ أذين مَتى استظرفت هَذِه الْجَارِيَة قَالَ قَرِيبا يَا أَبَا إِسْحَاق فَقل فِيهَا مَا حضر فَمد أَبُو الْعَتَاهِيَة يَده إِلَيْهِ وَقَالَ
(مددتُ كَفِّي نحوكم سَائِلًا
…
مَاذَا تردُّون على السَّائِل) // السَّرِيع //
فَلم يلبث أَبُو الشمقمق حَتَّى ناداه من دَاخل الْبَيْت بِهَذَا الْبَيْت
نرد فِي كفك ذَا فَيْشَةٍ
…
يشفي جَوّى فِي استك من دَاخل)
فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة أَبُو الشمقمق وَالله وَقَامَ مغضبا
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة حَبَسَنِي الرشيد لما تركت قَول الشّعْر فأدخلت السجْن وأغلق الْبَاب عَليّ فدهشت كَمَا يدهش مثلي لذَلِك الْحَال فَإِذا أَنا بِرَجُل جَالس فِي جَانب الْحَبْس مُقَيّد فَجعلت أنظر إِلَيْهِ سَاعَة ثمَّ تمثل وَقَالَ
(تعوَّدْتُ مَسَّ الضّر حَتَّى ألفتُهُ
…
وأسلمني حسنُ العزاء إِلَى الصَّبْر)
(وصيرني يأسي من النَّاسِ راجياً
…
لحسن صَنِيع الله من حَيْثُ لَا أَدْرِي) // الطَّوِيل //
فَقلت لَهُ أعد أعزّك الله هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فَقَالَ لي وَيلك يَا أَبَا الْعَتَاهِيَة مَا أَسْوَأ أدبك وَأَقل عقلك دخلت عَليّ الْحَبْس فَمَا سلمت تَسْلِيم الْمُسلم على الْمُسلم
وَلَا سَالَتْ مَسْأَلَة الْحر للْحرّ وَلَا توجعت توجع المبتلي للمبتلي حَتَّى إِذا سَمِعت بَيْتَيْنِ من الشّعْر الَّذِي لَا فضل فِيك غَيره لم تصبر عَن استعادتهما وَلم تقدم قبل مسألتهما عذرا لنَفسك فِي طلبهما فَقلت يَا أخي إِنِّي دهشت لهَذَا الْحَال فَلَا تعذلني واعذرني متفضلاً بذلك فَقَالَ وَالله أَنا أولى بالدهش والحيرة مِنْك لِأَنَّك حبست فِي أَن تَقول الشّعْر الَّذِي بِهِ ارْتَفَعت وَبَلغت مَا بلغت فَإِذا قلت أمنت وَأَنا مَأْخُوذ بِأَن أدل على ابْن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليقْتل أَو أقتل دونه وَوَاللَّه لَا أدل عَلَيْهِ أبدا والساعة يدعى بِي فأقتل فأينا أَحَق بالدهش فَقلت أَنْت وَالله أولى سلمك الله وَكَفاك وَلَو علمت أَن هَذِه حالك مَا سَأَلتك فَقَالَ لَا نبخل عَلَيْك إِذن ثمَّ أعَاد الْبَيْتَيْنِ حَتَّى حفظتهما فَسَأَلته من هُوَ قَالَ أَنا حَاضر دَاعِيَة عِيسَى بن زيد وَابْنه أَحْمد وَلم نَلْبَث أَن سَمِعت صَوت الأقفال فَقَامَ فسكب عَلَيْهِ مَاء كَانَ عِنْده فِي جرة وَلبس ثوبا نظيفاً وَدخل الحرس والجند مَعَهم الشمع فأخرجنا جَمِيعًا وَقدم قبلي إِلَى الرشيد فَسَأَلَهُ عَن أَحْمد بن عِيسَى فَقَالَ لَا تَسْأَلنِي عَنهُ واصنع مَا أَنْت صانع فَلَو أَنه تَحت ثوبي هَذَا مَا كشفت عَنهُ فَأمر بِضَرْب عُنُقه فَضربت ثمَّ قَالَ لي أَظُنك ارتعت يَا إِسْمَاعِيل فَقلت دون مَا رَأَيْته تسيل مِنْهُ النُّفُوس فَقَالَ ردُّوهُ إِلَى محبسه فَرددت وانتحلت الْبَيْتَيْنِ وزدت فيهمَا
(إِذا أَنا لم أقبلْ من الدَّهْر كل مَا
…
تَكَرَّهْتُ مِنْهُ طَال عَتْبي على الدَّهْر) // الطَّوِيل //
وَكَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة مشتهراً بحب عتبَة جَارِيَة الْمهْدي وَأكْثر نسيبه فِيهَا فَمن ذَلِك قَوْله وَكتب بِهِ إِلَى الْمهْدي يعرض بهَا
(نَفسِي بِشَيْء من الدُّنْيَا مُعَلَّقَةٌ
…
وَالله والقائم المهديُّ يَكفْيها)
(إِنِّي لَا يأس مِنْهَا ثمَّ يُطْمعني
…
فِيهَا احتقارك للدنيا وَمَا فِيهَا) // الْبَسِيط //
فهم الْمهْدي بِدفع عتبَة إِلَيْهِ فَخرجت وَقَالَت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَعَ حرمتي وخدمتي أفتدفعني إِلَى قَبِيح المنظر بَائِع جرارٍ ومكتسب بالعشق فأعفاها وَكَانَ قد كتب الْبَيْتَيْنِ على حَوَاشِي ثوب مُطيب وَوَضعه فِي برنية ضخمة فَقَالَ الْمهْدي املأوا لَهُ البرنية مَالا فَقَالَ للْكتاب أَمر لي بِدَنَانِير قَالُوا مَا ندفع إِلَيْك ذَلِك وَلَكِن إِن شِئْت أعطيناك الدَّرَاهِم إِلَى أَن يفصح بِمَا أَرَادَ فَاخْتلف فِي ذَلِك حولا فَقَالَت عتبَة لَو كَانَ عَاشِقًا كَمَا يزْعم لم يكن يخْتَلف مُنْذُ حول فِي التَّمْيِيز بَين الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَقد أضْرب عَن ذكري صفحاً
وَجلسَ أَبُو الْعَتَاهِيَة يَوْمًا يعذل أَبَا نواس ويلومه على اسْتِمَاع الْغناء ومجالسته لأَصْحَابه فَقَالَ أَبُو نواس
(أَترَانِي يَا عتاهي
…
تَارِكًا تِلْكَ الملاهي)
(أَترَانِي مُفْسِدا بالنُّسْكِ عِنْد الْقَوْم جاهي) // من مجزوء الرمل //
فَوَثَبَ أَبُو الْعَتَاهِيَة وَقَالَ لَا بَارك الله عَلَيْك وَجعل أَبُو نواس يضْحك
وَحدث مُخَارق قَالَ جَاءَنِي أَبُو الْعَتَاهِيَة يَوْمًا فَقَالَ لي قد عزمت على أَن أتزود مِنْك يَوْمًا تهبه لي فَمَتَى تنشط لذَلِك فَقلت مَتى شِئْت قَالَ أَنا أَخَاف أَن تقطع بِي فَقلت لَا وَالله وَلَو طلبني الْخَلِيفَة فَقَالَ يكون ذَلِك فِي غَد فَقلت افْعَل فَلَمَّا كَانَ من الْغَد باكرني رَسُوله فَجِئْته فَأَدْخلنِي بَيْتا لَهُ نظيفاً فِيهِ فرش نظيف ثمَّ دَعَا بمائدة وَعَلَيْهَا خبز سميد سميذ وخل وبقل وملح وجدي مشوي قَالَ فأكلنا مِنْهَا حَتَّى اكتفينا ثمَّ دَعَا بسمك مشوي فأصبنا مِنْهُ أَيْضا ثمَّ دَعَا بفراخ ودجاج وفراريج مشوية فأكلنا مِنْهَا حَتَّى اكتفينا ثمَّ أتونا بحلواء فأصبنا مِنْهَا وغسلنا أَيْدِينَا ثمَّ جَاءُونَا بفاكهة وَرَيْحَان وألوان من الأنبذة فَقَالَ
لي اختر مَا يصلح لَك فاخترت وشربت وصب قدحاً ثمَّ قَالَ غن لي قولي
(أحمدٌ قَالَ لي وَلم يَدْرِ مَا بِي
…
أتحبُّ الفتاة عتبَة حَقًا) // الْخَفِيف //
فغنيته فَشرب أقداحاً وَهُوَ يبكي أحر بكاء ثمَّ قَالَ غَنِي فِي قولي
(ليسَ لمن ليستْ لهُ حيلةٌ
…
موجودةٌ خيرٌ من الصبرِ) // السَّرِيع //
فغنيته وَهُوَ ينتحب ويبكي ثمَّ قَالَ غنني فديتك فِي قولي
(خليلي مَالِي لَا تزَال مُضرتِي
…
تكونُ مَعَ الأقدار حَتْماً من الحتمِ) // الطَّوِيل //
فغنيته إِيَّاه وَمَا زَالَ يقترح عَليّ كل صَوت غَنِي بِهِ فِي شعره وَيَقُول غنني بِهِ فأغنيه وَيشْرب ويبكي ثمَّ صَارَت الْعَتَمَة فَقَالَ لي أحب أَن تصبر حَتَّى ترى مَا أصنع فَجَلَست فَأمر ابْنه وَغُلَامه فكسرا كل مَا كَانَ بَين أَيْدِينَا من النَّبِيذ وآلات الملاهي ثمَّ أَمر بِإِخْرَاج كل مَا كَانَ فِي بَيته من النَّبِيذ وآلاته فَمَا زَالَ يكسرهُ وَيصب النَّبِيذ وَهُوَ يبكي حَتَّى لم يبْق من ذَلِك شَيْء ثمَّ نزع ثِيَابه واغتسل وَلبس ثِيَاب بَيَاض من الصُّوف ثمَّ عانقني وَبكى وَقَالَ عَلَيْك السَّلَام يَا حَبِيبِي وفرحي من النَّاس كلهم سَلام الْفِرَاق الَّذِي لَا لِقَاء بعده وَجعل يبكي وَيَقُول هَذَا آخر عَهْدك بِي فِي حَال تعاشر أهل الدُّنْيَا فَظَنَنْت أَنَّهَا بعض حماقاته فَانْصَرَفت فَمَا لَقيته زَمَانا ثمَّ تشوقته قأتيته فاستأذنت عَلَيْهِ فَأذن لي فَدخلت فَإِذا هُوَ قد أَخذ قوصرتين وثقب إِحْدَاهمَا وَأدْخل رَأسه وَيَديه فِيهَا وأقامها مقَام الْقَمِيص وثقب أُخْرَى وَأخرج رجلَيْهِ مِنْهَا وأقامها مقَام السَّرَاوِيل فَلَمَّا رَأَيْته نسيت مَا كَانَ عِنْدِي من الْغم عَلَيْهِ والوحشة لعشرته وضحكت وَالله ضحكاً مَا ضحِكت مثله قطّ فَقَالَ لي من أَي شَيْء تضحك
لَا ضحِكت فَقلت اسخن الله عَيْنَيْك أَي شَيْء هُوَ من بلغك عَنهُ أَنه فعل مثل هَذَا من الْأَنْبِيَاء أَو الزهاد أَو الصَّحَابَة أَو التَّابِعين أَو المجانين انْزعْ عَنْك هَذَا يَا سخين الْعين فَكَأَنَّهُ استحيا مني ثمَّ بَلغنِي عَنهُ أَنه جلس حجاماً فجهدت أَن أرَاهُ بِتِلْكَ الْحَالة فَلم أره ثمَّ مرض فبلغني أَنه اشْتهى أَن أغنيه فَأَتَيْته عَائِدًا فَخرج إِلَى رَسُوله يَقُول إِن دخلت جددت لي حزنا وتاقت نَفسِي إِلَى سماعك وَإِلَى مَا قد غلبتها عَلَيْهِ وَأَنا أستودعك الله وأعتذر إِلَيْك من ترك الالتقاء ثمَّ كَانَ آخر عهدي بِهِ
وَقيل لأبي الْعَتَاهِيَة عِنْد الْمَوْت مَا تشْتَهي فَقَالَ أشتهي أَن يَجِيء مُخَارق فَيَضَع فَمه عِنْد أُذُنِي ثمَّ يغنيني
(ستعرضُ عَن ودي وتنسى مودتِي
…
ويحدثُ بعدِي للخليل خليلُ)
(إِذا مَا انْقَضتْ عني من الدَّهْر مدّتي
…
فإنَّ غَنَاء الباكيات قَلِيل) // الطَّوِيل //
وَحدث مُحَمَّد بن أبي الْعَتَاهِيَة قَالَ آخر شعر قَالَه أبي فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ
(إلهي لَا تعذبني فَإِنِّي
…
مقرٌّ بِالَّذِي قد كانَ مني)
(فَمَا ليَ حيلةٌ إِلَّا رجائي
…
لعفوكَ إِن عَفَوْت وحُسْنَ ظَنِّي)
(وَكم مِنْ زَلْةٍٍ لي فِي الْخَطَايَا
…
وَأَنت عليَّ ذُو فضل ومَنِّ)
(إِذا فكرتُ فِي نَدَمي عَلَيْهَا
…
عضضت أناملي وقَرَعْتُ سني)
(أجنُّ بزهرة الدُّنْيَا جنوناً
…
وأقطعُ طولَ عمري بالتمني)
(وَلَو أنِّي صدقتُ الزهدَ عَنْهَا
…
قلبتُ لأَهْلهَا ظهرَ المجنِّ)
(يظنُّ الناسُ بِي خيرا وَإِنِّي
…
لَشَرُّ النَّاس إِن لم تعف عني) // الوافر //
ومحاسنه كَثِيرَة
وَكَانَ الْأَصْمَعِي يستحسن قَوْله
(أنتَ مَا استغنيتَ عَن صَاحبك
…
الدهرَ أخوهُ)
(فَإِذا احتجتَ إِلَيْهِ
…
سَاعَة مجك فوه) // من مجزوء الرمل //
وَحدث ابْن الْأَنْبَارِي أَبُو بكر قَالَ أرْسلت زبيدة أم الْأمين إِلَى أبي الْعَتَاهِيَة أَن يَقُول على لسانها أبياتاً بعد قتل الْأمين يستعطف بهَا الْمَأْمُون فَأرْسل إِلَيْهَا هَذِه الأبيات
(أَلا إنّ صرف الدَّهْر يُدْنِي ويُبْعِدُ
…
ويمتع بالآلاف طوراً ويفقدُ)
(أصَابت بريبِ الدَّهْر مني يَدي يدِي
…
فسلمتُ للأقدار واللهَ أَحمدُ)
(وقلتُ لريب الدّهر إنْ هلكَتْ يدٌ
…
فقد بقيت والحمدُ لله لي يدُ)
(إذَا بَقِي المأمونُ لي فالرّشيدُ لي
…
ولي جعفرٌ لم يفتقد ومحمدُ) // الطَّوِيل //
قَالَ فَلَمَّا قَرَأَهَا الْمَأْمُون استحسنها وَسَأَلَ عَن قَائِلهَا فَقيل لَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَة فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وَعطف على زبيدة وَزَاد فِي تكرمتها وَقضى حوائجها جَمِيعًا
وَحدث عمر بن أبي شيبَة قَالَ مر عَابِد براهب فِي صومعة فَقَالَ لَهُ عظني قَالَ أعظك وَعَلَيْكُم نزل الْقُرْآن ونبيكم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم قريب الْعَهْد بكم قلت نعم قَالَ فاتعظ بِبَيْت من شعر شاعركم أبي الْعَتَاهِيَة حَيْثُ يَقُول
(تجرّد من الدُّنيا فَإنَّكَ إِنَّمَا
…
وقعْتَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنت مُجَرّد) // الطَّوِيل //
وَمن شعر أبي الْعَتَاهِيَة قَوْله
(بَادر إِلَى اللذّات يَوْمًا أمكنت
…
بحلولهنّ بَوَادِر الآفاتِ)
(كم من مُؤَخِّرِ لذةٍ قد أمكنتْ
…
لغدٍ وَلَيْسَ غدٌ لهُ بِمُوَاتِ)
(حَتَّى إِذا فَاتَت وفاتَ طلابها
…
ذَهبت عَلَيْهَا نفسهُ حسرَاتِ)
(تَأتي المكارهُ حِين تَأتي جملَة
…
وَأرى السُّرور يَجِيء فِي الفلتات) // الْكَامِل //
وَمِنْه قَول بَعضهم
(أيُّ شَيْء يكونُ أعجبَ أمرا
…
إِن تنكرتَ من صُرُوف الزمانِ)
(عارضاتُ السُّرُور توزنُ فيهِ
…
والبلايَا تكال بالقفزان) // الْخَفِيف //
وَمن شعره أَيْضا قَوْله
(وإذَا انْقَضى هَمُّ امْرِئ فقد انْقَضى
…
إنّ الهموم أشدُّهنّ الأحدث) // الْكَامِل //
ويومئ إِلَى هَذَا الْمَعْنى قَوْله أَيْضا وَهُوَ عَجِيب فِي مَعْنَاهُ
(إِنَّمَا أنتَ طولَ عمركَ مَا عمرتَ فِي السَّاعَة الَّتِي أَنْت فِيهَا
…
) // الْخَفِيف //
وَمن هَذَا قَول من قَالَ
(وكما تبلىَ وُجوهٌ فِي الثرَى
…
فَكَذَا يبلىَ عليهنَّ الحَزَنْ) // الرمل //
وَمن شعره أَيْضا قَوْله
(كأنّ عائبكم يُبْدِي محاسنكمْ
…
مِنْكُم فيمدحكمْ عِنْدِي فيغرينِي)
(إِنِّي لأعجبُ من حبِّ يقرِّبني
…
مِمَّا يباعدني عَنهُ ويقصيني) // الْبَسِيط //
وَمثل الأول قَول عُرْوَة بن أذينة
(كَأَنَّمَا عائبها جاهداً
…
زينها عِنْدِي يتزيين) // السَّرِيع //
وَكَذَا قَول أبي نواس
(كَأَنَّهُمْ أْثَنْوا وَلم يعلَمُوا
…
عليكَ عِنْدِي بِالَّذِي عابوا) // السَّرِيع //
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة لابنته رقية فِي علته الَّتِي مَاتَ فِيهَا قومِي يَا بنية فارثي أَبَاك واندبيه بِهَذِهِ الأبيات فَقَامَتْ فندبته بقوله
(لعب البلا بمعالمي ورسومي
…
وقُبِرْتُ حَيا تحتَ رَدم همومِي)
(لزمَ البلَا جسمي فأوهى قوَّتي
…
إنَّ البلَا لموكَّلٌ بلزومي) // الْكَامِل //
وَكَانَ مولده سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة ووفاته فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ لثمان من جُمَادَى الأولى وَقيل لثلاث من جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَقيل سنة ثَلَاث عشرَة وَدفن حِيَال قنطرة الزياتين فِي الْجَانِب الغربي بِبَغْدَاد وَأمر أَن يكْتب على قَبره
(إنَّ عَيْشًا يكونُ آخِره الْمَوْت
…
لَعيشٌ معجَّلُ التنغيصِ) // الْخَفِيف //
وَقيل أوصى أَن يكْتب عَلَيْهِ
(أُذْنَ حَيٍّ تَسَمَّعِي
…
واسمعي ثمَّ عِي وَعِي)
(أَنا رهنٌ بمضجعي
…
فاحذروا مثل مَصْرَعي)
(عِشْت تسعين حِجَّةً
…
أسلمَتْنِي لمضجعي)
(كم ترى الْحَيّ ثَابتا
…
فِي ديار التزعزُع)
(لَيْسَ زادٌ سوى التقى
…
فَخذي مِنْهُ أَو دَعِي) // من مجزوء الْخَفِيف //
وَلما مَاتَ رثاه ابْنه مُحَمَّد فَقَالَ
(يَا أبي ضَمَّكَ الثرى
…
وطوى الموتُ أجْمَعَكْ)
(لَيْتَني متُّ يَوْم صرت
…
إِلَى حُفْرَة مَعَك)
(رحم الله مصرعك
…
بَرَّدَ الله مضجعك) // من مجزوء الْخَفِيف //
126 -
(مَا نوالُ الْغَمَام وَقْتَ رَبيعٍ
…
كنوالِ الْأَمِير يَوْم سخاءِ)
(فنوالُ الْأَمِير بدْرَةُ عَيْنٍ
…
ونوالُ الْغَمَام قَطْرَةُ ماءِ)
البيتان لرشيد الدّين الوطواط الشَّاعِر من الْخَفِيف
والنوال الْعَطاء والبدرة كيس فِيهِ ألف دِينَار أَو عشرَة آلَاف دِرْهَم أَو سَبْعَة آلَاف دِرْهَم أَو سَبْعَة آلَاف دِينَار وَالْعين هُنَا المَال
وَالشَّاهِد فيهمَا التَّفْرِيق وَهُوَ إِيقَاع تبَاين بَين أَمريْن من نوع فِي الْمَدْح أَو فِي غَيره فَمن ذَلِك قَول بَعضهم
(حسبْتُ جمالَهُ بَدْرًا منيراً
…
وَأَيْنَ الْبَدْر من ذَاك الْجمال) // الوافر //
وَقَول قَوْله الآخر
(قاسوك بالغصن فِي التَّثَنِّي
…
قياسَ جهل بِلَا انتصاف)
(هذاك غُصْن الْخلاف يُدْعَى
…
وَأَنت غُصْن بِلَا خلاف) // من مخلع الْبَسِيط //
وَمَا أحسن قَول الْموصِلِي مَعَ تَسْمِيَة النَّوْع
(قَالُوا هُوَ الْبَحْر والتفريق بَينهمَا
…
إِذْ ذَاك غَمٌّ وَهَذَا فَارق الغمم) // الْبَسِيط //
وَقد تلاعب الشُّعَرَاء بِمَعْنى الْبَيْتَيْنِ المستشهد بهما فللوأواء الدِّمَشْقِي
(من قَاس جدواك بالغمام فَمَا
…
انصف فِي الحكم بَين شكلين)
(أَنْت إِذا جُدْتَ ضَاحِك أبدا
…
وَهُوَ إِذا جاد باكي الْعين) // المنسرح //
ولبعضهم فِيهِ أَيْضا وأجاد جدا
(من قَاس جَدْوَاكَ يَوْمًا
…
بالسُّحْب أَخطَأ مدحك)
(السحبُ تُعْطِي وتبكي
…
وَأَنت تُعْطِي وتضحك) // المجتث //
وَلأبي الْفَتْح البستي وأجاد
(يَا سيد الْأُمَرَاء يَا مَنْ جُودُه
…
أوْفَى على الْغَيْث الْمَطير إِذا هَمَى)
(الغيثُ يُعْطي باكياً متجهِّماً
…
ونراك تُعْطِي ناصرا مُتَبَسِّمًا) // الْكَامِل //
وَمثله لأبي مَنْصُور البوشنجي
(وذلكَ ضاحكٌ أبدا بجُودٍ
…
وَجودك لَيْسَ يمطرُ غيرَ باكي) // الوافر //
وَقَول الأديب يَعْقُوب النَّيْسَابُورِي فِي الْأَمِير أبي الْفضل الميكالي
(رأيتُ عُبيدَ الله يضحكُ معطياًُ
…
ويبكي أخُوهُ الغيثُ عِنْد عطائهِ)
(وَكم بينَ ضَحُاكٍ يجُودُ بمالهِ
…
وآخَرَ بكَّاءٍ يَجودُ بمائه) // الطَّوِيل //
ولشرف الدّين السنجاري فِي مَعْنَاهُ
(مَا قستُ بالغيث العطايا منكَ إِذْ
…
يبكي وتضحك أَنْت إِذْ تُولى النّدَا)
(وَإِذا أَفَاضَ على الْبَريَّة جودُهُ
…
مَاء تفيضُ لنا يَمِينك عسجدا) // الْكَامِل //
وَمَا أبدع قَول البديع الهمذاني مَعَ زِيَادَة الْمَعْنى وَالْمُبَالغَة فِي الغلو
(يكادُ يحكيكَ صوبُ الْغَيْث منسكباً
…
لَو كَانَ طَلْقَ المحيَّا يمطرُ الذهَبَا)
(والدهرُ لَو لم يخنْ وَالشَّمْس لَو نطقتْ
…
والليثُ لَو لم يُصَدْ والبحرُ لَو عذبا) // الْبَسِيط //
وَقَول ابْن بابك يمدح نظام الْملك
(يقولونَ إنّ المزن يحكيك صوبهُ
…
مجاملةً هَا قد شهِدت وَغابَا)
(وَكم عزمةٍ عمّ البريةَ بؤسها
…
فَهَل نَاب فِيهَا عَن نداك مَنابَا)
(هَمَتْ ذَهَبا فِيهَا يداك عَلَيْهِم
…
وضنت يَدَاهُ أَن ترش ذَهَابًا) // الطَّوِيل //
وَقَول ابْن اللبانة فِي الْمُعْتَمد على الله بن عباد
(سألتُ أخاهُ الْبَحْر عنهُ فَقَالَ لِي
…
شقيقيَ إِلَّا أَنه الباردُ العذبُ)
(لنا دِيمَتَاً مَاء وَمَال فديمتي
…
تَمَاسَكُ أحيانَاً وديمَتُه سَكْبُ)
(إِذا نشأت بَرِّية فلهُ الندَى
…
وَإِن نشأت بحريّة فلي السحبُ) // الطَّوِيل //
وَينظر إِلَى مَعَاني مَا مر وَلم يكن بَعيدا مِنْهَا قَول بَعضهم
(يَا عيونَ السَّمَاء دمعُكِ يفنى
…
عَن قَريب وَمَا لدمعي فناءُ)
(أَنا أبْكِي طَوْعًا وتبكين كرها
…
ودموعي دِماً ودمعك ماءُ) // الْخَفِيف //
وَلم أَقف على تَرْجَمَة الوطواط الشَّاعِر لَكِن رَأَيْت ابْن فضل الله ذكره فِي المسالك فِي معرض تراجم فَاثْبتْ مَا رَأَيْته قَالَ فِي تَرْجَمَة الشَّمْس بن دانيال إِنَّه كَانَ بَينه وَبَين الوطواط مَا يكون بَين الأدباء ويدب بَين الأحباء فعرضت للوطواط رمدة تكدر بهَا صفيحه وتكنى لَهُ فِيهَا صَرِيحه فَقيل لَهُ لَو طلبت ابْن دانيال فَقَالَ ذَاك لَا يسمح بذرة يَعْنِي من كحله فَبلغ ابْن دانيال فَقَالَ فِي ذَلِك
(وَلم أَقطع الوطواط بُخْلاً بِكَحْلِهِ
…
وَلَا أَنا من يعييه يَوْمًا تردد)
(وَلكنه ينبو عَن الشَّمْس طرفه
…
فَكيف بِهِ لي قدرَة وَهُوَ أرمد) // الطَّوِيل //
وَقَالَ فِي تَرْجَمَة شَافِع بن عَليّ بن عَبَّاس الْكَاتِب وَمن قَوْله فِي الوطواط الشَّاعِر
(كم على دِرْهَم يلوح حَرَامًا
…
يَا لئيم الطباع سرّاً تواطى)
(دَائِما فِي الظلام تمشي مَعَ النَّاس
…
وهذي عوائد الوطواط) // الْخَفِيف //
وَقَوله فِيهِ
(قَالُوا نرى الوطواط فِي شدَّة
…
من تَعب الكد وَمن ويل)
(فَقلت هَذَا دأبه دَائِما
…
يسْعَى من اللَّيْل إِلَى اللَّيْل) // السَّرِيع //
ثمَّ إِنِّي رَأَيْت المرحوم الْجلَال السُّيُوطِيّ ذكره فِي طَبَقَات النُّحَاة فَقَالَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الْجَلِيل بن عبد الْملك بن مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن يحيى بن مرْدَوَيْه بن سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ
الْمَعْرُوف بالرشيد الوطواط قَالَ ياقوت كَانَ من نَوَادِر الزَّمَان وعجائبه وأفراد الدَّهْر وغرائبه أفضل أهل زَمَانه فِي النّظم والنثر وَأعلم النَّاس بدقائق كَلَام الْعَرَب وأسرار النَّحْو وَالْأَدب طَار فِي الْآفَاق صيته وَسَار فِي الأقاليم ذكره وَكَانَ ينشئ فِي حَالَة وَاحِدَة بَيْتا بِالْعَرَبِيَّةِ من بَحر وبيتاً بِالْفَارِسِيَّةِ من آخر ويمليها مَعًا وَله من التصانيف حدائق السحر فِي دقائق الشّعْر أَسْفَاره رِسَالَة بالعربي ورسالة بالفارسي وَغير ذَلِك مولده ببلخ وَمَات بخوارزم سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة
فَتبين بِهَذَا أَن الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا لَيْسَ هُوَ
وَمن رسائله مَا كتبه إِلَى الْعَلامَة جَار الله الزَّمَخْشَرِيّ ليستأذنه فِي حُضُور مَجْلِسه والاستفادات من سؤالاته
(لقد حَاز جَار الله دَامَ جماله
…
فَضَائِل فِيهَا لَا يشق غُبَاره)
(تجدّدَ رسم الْفضل بعد اندراسه
…
بأيام جَار الله فَالله جَاره) // الطَّوِيل //
أَنا مُنْذُ لفظتي الأقدار من أوطاني ومعاهد أَهلِي وجيراني إِلَى هَذِه الخطة الَّتِي هِيَ الْيَوْم بمَكَان جَار الله أدام الله جماله جنَّة للكرام وجنة من نكبات الْأَيَّام كَانَت قصوى منيتي وقصارى بغيتي أَن أكون أحد الملازمين لسدته الشَّرِيفَة الَّتِي هِيَ مجثم السِّيَادَة ومقبل أَفْوَاه السَّادة فَمن ألْقى بهَا عَصَاهُ حَاز فِي الدَّاريْنِ مناه ونال فِي المحلين مبتغاه وَلَكِن سوء التَّقْصِير أَو مَانع التَّقْدِير حرمني مُدَّة تِلْكَ الْخدمَة وَحرم تِلْكَ النِّعْمَة والآن أَظن وَظن الْمُؤمن لَا يُخطئ أَن آفل جدي هم بالإشراق وذابل إيراقي
تحرّك للإيراق فقد أجد فِي نَفسِي نورا مجددا يهديني إِلَى جنته وَمن شوق دَاعيا موفقاً يدعوني إِلَى عتبته ويقرع سَمْعِي كل سَاعَة لِسَان الدولة أَن اخلع نعلك واطرح بالواد الْمُقَدّس رحلك وَلَا تحفل بِقصد قَاصد وحسد حَاسِد فَإِن حَضْرَة جَار الله أوسع من أَن تضيق على رَاغِب فِي فَوَائده وَأكْرم من أَن تستثقل وَطْأَة طَالب لعوائده وَمَعَ هَذَا أَرْجُو إِشَارَة تصدر عَن مَجْلِسه المحروس إِمَّا بِخَطِّهِ الشريف فَإِن فِي ذَلِك شرفاً لي يَدُوم مدى الدَّهْر وَالْأَيَّام وفخراً يبْقى على مر الشُّهُور والأعوام وَإِمَّا على لِسَان من يوثق بِصدق مقَالَته ويعتمد على تَبْلِيغ رسَالَته من المنخرطين فِي سلك خدمته والراتعين فِي رياض نعْمَته ورأيه فِي ذَلِك أَعلَى وأصوب
وَكتب إِلَيْهِ يهنئه بالعيد الأعياد عرف الله سيدنَا جَار الله بركَة قدومها وورودها وَجعل لَهُ الْحَظ الْأَكْمَل والقسط الأجزل من ميامنها وسعودها فرائد قلائد الْأَيَّام وغرر جبهات الأعوام لَكِنَّهَا رَاحِلَة لَا تقوم وزائلة لَا تدوم ولقاء جَار الله أدام الله مجده لنا معشر خدمه والمرتضعين در فَضله وَكَرمه عيدٌ لَا زَالَ الْعِيد لَهُ كتصحيفه بَاقِيَة محاسنه دائمة ميامنه يهدي كل سَاعَة إِلَى أبصارنا نورا وَإِلَى أَرْوَاحنَا رَاحَة وسروراً فَكيف نهنئ عيداً هَذِه حَاله بعيد لَا يُؤمن زَوَاله
(أَتَى العيدُ جارَ الله وَهُوَ مجدّدٌ
…
بخدمته عهدَ الْمُهَيْمِن تجديداً)
(فلستُ بعيدٍ لَا يدومُ مهنئاً
…
لصدر محياه يدومُ لنا عيدا) // الطَّوِيل //
127 -
(وَلَا يقيمُ على ضَيْمٍ يرادُ بهِ
…
إِلَّا الأذلان غير الْحَيّ والْوَتِدُ)
(هَذَا على الخسفِ مربوطٌ برُمَّتِهِ
…
وذَا يُشجُّ فَلَا يَرْثِي لهُ أحدُ)
البيتان من الْبَسِيط وقائلهما المتلمس من أَبْيَات وَهِي
(إنَّ الهوَانَ حمارُ الْأَهْل يعرفهُ
…
وَالْحر ينكرهُ والرسلة الأجدُ)
(كونُوا كَسَامَة إِذْ ضنك منازلهُ
…
إِذْ قيل جيشٌ وجيشٌ حافظٌ عتدُ)
(شدَّ المطية بالأنْسَاعِ فانْحَرَفَتْ
…
عَرض التَّنُوفَةِ حَتَّى مَسهَا النَّجَدُ)
(كونُوا كبكر كَمَا قد كَانَ أولكم
…
وَلَا تَكُونُوا كَعبد الْقَيْس إِذْ قعدُوا)
(يُعْطُونَ مَا سئلوا والبحرُ محتدُهم
…
كَمَا أكبَّ على ذِي بَطْنِهِ الفهد) // الْبَسِيط //
وَبعده البيتان وبعدهما قَوْله
(وَفِي الْبِلَاد إِذا مَا خِفْتَ ثائرة
…
مَشْهُودَة عَن وُلاة السوء تنتقدُ)
والضيم الظُّلم وَالْعير بِفَتْح الْمُهْملَة الْحمار وَغلب على الوحشي وَالْمُنَاسِب هُنَا الأهلي والخسف النقيصة والإذلال تحميل الْإِنْسَان مَا يكره وَحبس الدَّابَّة بِلَا علف والرمة بِضَم الرَّاء وتكسر قِطْعَة من حَبل والشج الْكسر والدق وَالِاسْتِثْنَاء فِي إِلَّا الأذلان اسْتثِْنَاء مفرغ وَقد أسْند إِلَيْهِ فعل الْإِقَامَة فِي الظَّاهِر وَإِن كَانَ مُسْندًا فِي الْحَقِيقَة إِلَى الْعَام الْمَحْذُوف
وَالشَّاهِد فيهمَا التَّقْسِيم وَهُوَ ذكر مُتَعَدد ثمَّ إِضَافَة مَا لكل إِلَيْهِ على التَّعْيِين فَإِنَّهُ ذكر العير والوتد ثمَّ أضَاف إِلَى الأول الرَّبْط مَعَ الْخَسْف وَإِلَى الثَّانِي الشج على التَّعْيِين
وَمِمَّا ورد فِي التَّقْسِيم قَول زُهَيْر بن أبي سلمى السَّابِق فِي شَوَاهِد الإيجاز والإطناب
(وَأعلم علم الْيَوْم والأمْس قبلهُ
…
ولكنني عَن علم مَا فِي غَدِ عَمِي) // الطَّوِيل //
وَقد نقل أَبُو نواس هَذَا التَّقْسِيم من الْجد إِلَى الْهزْل فَقَالَ
(أمرُ غدٍ أنتَ منهُ فِي لَبْسِ
…
وأمس قد فاتَ فالهُ عَن أمْسِ)
(وَإِنَّمَا الشأنُ شأنُ يَوْمك َذَا
…
فبَاكِر الشَّمْس بابنةِ الشمسِ) // المنسرح //
وَقد نَقله بَعضهم أَيْضا فَقَالَ
(تمتّع من الدُّنْيَا بِساعتكَ الَّتِي
…
ظفرتَ بهَا مَا لم تَعُقْكَ العوائقُ)
(فَلَا يومكَ الْمَاضِي عليكَ بعائدٍ
…
وَلَا يومكَ الْآتِي بِهِ أَنْت واثق) // الطَّوِيل //
وَمن التَّقْسِيم قَول بشار بن برد
(وراحوا فريقٌ فِي الإسَارِ ومثلهُ
…
قتيلٌ ومثلٌ لَاذَ بالبحر هاربه) // الطَّوِيل //
وَمثله قَول الصفي الْحلِيّ
(أفنى جيوش العدا غزواً فلست ترى
…
سوى قتيلٍ ومأسورٍ ومنهزم) // الْبَسِيط //
وَهُوَ مَأْخُوذ من قَول عمر بن الْأَيْهَم
(اشربا مَا شربتما فَهُدَيلٌ
…
من قتيلٍ أَو هاربٍ أَو أَسِير) // الْخَفِيف //
وَمِنْه وَزعم قومٌ أَنه أفضل بَيت وَقع فِيهِ تَقْسِيم قَول نصيب
(فقالَ فريقُ الْقَوْم لَا وفريقهم
…
نعم وفريقٌ أيمنُ الله مَا نَدْرِي) // الطَّوِيل //
وَزعم أَبُو العيناء أَن خير تَقْسِيم قَول عمر بن أبي ربيعَة
(تهيمُ إِلَى نعم فَلَا الشملُ جامعٌ
…
وَلَا الحبلُ موصولٌ وَلَا القلبُ مُقْصِرُ)
(وَلَا قربُ نعم إِن دَنت لكَ نافعٌ
…
وَلَا نأيها يُسْلِي وَلَا أَنْت تصبر) // الطَّوِيل //
وَاخْتَارَ آخَرُونَ قَول الحاركي وَقَالُوا إِنَّه أفضل
(فَلَا كمدى يفني وَلَا لَكِ رقةٌ
…
وَلَا عَنْك إقصارٌ وَلَا فيكِ مطمعُ) // الطَّوِيل //
وبديع قَول الْأَمِير السُّلَيْمَانِي
(وصلتَ فَلَمَّا أَن مَلَكْتَ حُشَاشتي
…
هجرت فجد وَارْحَمْ فقد مسني الضرُّ)
(فليت الَّذِي قد كَانَ لي منكَ لم يكن
…
وليتكَ لَا وصلٌ لديكَ وَلَا هجرُ)
(فَلَا عَبْرَتِي ترقَا وَلَا فيكَ رقة
…
وَلَا مِنْك إِلْمَام وَلَا عنكَ لي صَبر) // الطَّوِيل //
وَقد ألم بِنَحْوِ هَذَا التَّقْسِيم الشهَاب مَحْمُود حَيْثُ قَالَ
(وَإِنِّي لفي نَظَرِي نحوهَا
…
وَقد ودَّعَتْنِي قُبَيْلَ الفراقِ)
(وَلَا صبرَ لي فأطيقَ الْهوى
…
وَلَا طمعٌ إِن نأت فِي اللحاق)
(وَلَا أملٌ يرتَجى فِي الرُّجُوع
…
وَلَا حكم فِي ردّ تِلْكَ النياقِ)
(كمُضْنيً يودّعُ رُوحاً غَدَتْ
…
يَراها على رغمه فِي السِّيَاق) // المتقارب //
وَمن مليح التَّقْسِيم قَول دَاوُد بن مُسلم
(فِي بَاعه طولٌ وَفِي وجههِ
…
نورٌ وَفِي العِرْنِينِ منهُ شمم) // السَّرِيع //
وَكَانَ مُحَمَّد بن مُوسَى المنجم يحب التَّقْسِيم فِي الشّعْر وَكَانَ معجباً بقول الْعَبَّاس ابْن الْأَحْنَف
(وصالكم صرمٌ وحبكم قِلاً
…
وعطفكم صد وسلمكم حَرْب) // الطَّوِيل //
وَيَقُول أحسن وَالله فِيمَا قسم حَيْثُ جعل حِيَال كل شَيْء ضِدّه وَالله إِن هَذَا التَّقْسِيم لأحسن من تقسيمات إقليدس
وَمن جيد التَّقْسِيم قَول أبي تَمام
(فَمَا هُوَ إِلَاّ الْوَحْي أوحدُّ مرهفٍ
…
تميلُ ظبَاهُ الحدَّ عَن كل مائلِ)
(فَهَذَا دواءُ الدَّاء من كل عالمٍ
…
وَهَذَا دواءُ الدَّاء من كل جاهلِ) // الطَّوِيل //
وَذكر الجاحظ أَن قُتَيْبَة بن مُسلم لما قدم خُرَاسَان خطب النَّاس فَقَالَ من كَانَ فِي يَده من مَال عبد الله بن حَازِم شيءٌ فلينبذه وَإِن كَانَ فِي فَمه فليلفظه وَإِن كَانَ فِي صَدره فلينفثه قَالَ فَعجب النَّاس من حسن مَا فصل وَقسم
ووقف أَعْرَابِي على حَلقَة الْحسن فَقَالَ رحم الله من تصدق من سَعَة أَو واسى من كفاف أَو آثر من قوت
وَلَقَد أَجَاد ابْن حيوس فِي التَّقْسِيم بقوله
(ثمانيةٌ لم تَفْتَرِق مُذْ جمعتها
…
فَلَا افْتَرَقت مَا ذبَّ عَن ناظرٍ شَفْرُ)
(ضَميرُك وَالتَّقوى وكفك والندى
…
ولفظك وَالْمعْنَى وسيفك والنصر) // الطَّوِيل //
وَمَا أحسن قَول أبي ربيعَة المَخْزُومِي
(وهَبْهَا كشيء لم يكن أَو كنازح
…
عَنِ الدَّار أَو من غيبته الْمَقَابِر) // الطَّوِيل //
وَعَجِيب هُنَا قَول أبي تَمام فِي مَجُوسِيّ أحرق فِي النَّار
(صَلَّى لَهَا حيّاً وَكَانَ وقودَها
…
مَيتا ويدخلها مَعَ الفجّارِ) // الْكَامِل //
وَمَا أعذب قَول الشَّيْخ شرف الدّين بن الفارض
(يَقُولُونَ لي صِفْهَا فأنتَ بوصفها
…
خبيرٌ أجلْ عِنْدِي بأوصافها علمُ)
(صفاءٌ وَلَا ماءٌ ولُطْفٌ وَلَا هوَى
…
ونورٌ وَلَا نَار وروحٌ وَلَا جسم) // الطَّوِيل //
وَقَول مُحَمَّد بن دراج القسطلي وأجاد
(عطاءٌ بِلَا منّ وَحكم بِلَا هوَى
…
وَملك بِلَا كبرٍ وعزٌّ بِلَا عجب) // الطَّوِيل //
وَقَول الآخر أَيْضا
(بَنِي جعفرٍ أَنْتُم سَمَاء رياسةٍ
…
مناقِبكمْ فِي أُفقها أنجمٌ زهرُ)
(طريقتكمْ مثلى وهديكمُ رِضىً
…
ومذهبكم قصدٌ ونائلكم غَمْرُ)
(عطاءٌ وَلَا منٌّ وحكمٌ وَلَا هوى
…
وحلمٌ وَلَا عجزٌ وعزٌ وَلَا كبرُ) // الطَّوِيل //
وبديع قَول بَعضهم أَيْضا
(قوسٌ وَلَا وتَرٌ سهمٌ وَلَا قودٌ
…
عينٌ وَلَا نظر نحلٌ وَلا عسلُ) // الْبَسِيط //
وَقَول بَعضهم أَيْضا
(تسربْلَ وَشْياً من خُزُوزٍ تطرَّزتْ
…
مطارفهَا طرزاً من الْبَرْق كالتبرِ)
(فوشْيٌ بِلَا رقمٍ ورقمٌ بِلَا يدٍ
…
ودمعٌ بِلَا عينٍ وضحكٌ بِلَا ثغر) // الطَّوِيل //
وَقَول الرستمي
(فَتى خازرق المجدِ من كل جانبٍ
…
إليهِ وخَلَّى كاهلَ الشكرِ ذَا ثُقْلٍ)
(بِعَفْوٍ بِلَا كدٍّ وصفوٍ بِلَا قَذىً
…
ونقدٍ بِلَا وعدٍ ووعدٍ بِلَا مطل) // الطَّوِيل //
وَمَا أشرف قَول ابْن شرف
(لمختلفي الحاجاتِ جمعٌ ببَابهِ
…
فَهَذَا لهُ فنٌّ وَهَذَا لهُ فنُّ)
(فللخامل العليَا وللمعدمٍ الغنىَ
…
وللمذنبِ الْعُتْبِي وللخائف الْأَمْن) // الطَّوِيل //
وَقَول بَعضهم أَيْضا
(نرجو سُلُوا فِي رسُومٍ بَيْنها الأغصانُ
…
سكْرَى والحمامُ مُتَيَّمُ)
(هَذِي تميلُ إِذا تَنَسَّمَتِ الصِّبَا
…
والوُرقُ تذكُرُ شَجْوَها فترَنَّمُ) // الْكَامِل //
وَلابْن جَابر الأندلسي
(لقد عَطَفَتني على حُبِّهَا
…
بوَجْهٍ تبدَّى على عَطْفِهِ)
(فَهَذَا هُوَ البدرُ فِي أُفْقِهِ
…
وَهَذَا هُوَ الغُصْنُ فِي حِقْفِهِ) // المتقارب //
وَلأبي الْحُسَيْن الجزار
(وزيرٌ مَا تَقَلَد قطُّ وزْرَاً
…
وَلَا داناهُ فِي مَثْوَى أنامُ)
(وجُلُّ فعالهِ صاداتُ برّ
…
صِلَاتٌ أَو صَلَاةٌ أَو صِيَام) // الوافر //
ولشيخ شُيُوخ حماة
(لنا مَلِكٌ واجدٌ مَا اشْتَهَى
…
ولكنهُ لم يجِدْ مثلَهُ)
(ملاذي بِهِ ومثولي لديهِ
…
ومَيْلي إِلَيْهِ ومدحي لَهُ) // المتقارب //
وَمثله قَول بَعضهم مجونا
(وبديعُ الجمالِ مُعتَدِلُ الْقَامَة
…
كالغصنِ حنَّ قلبِي إليهِ)
(أشتهى أَن يكونَ عنْدِي وَفِي بَيْتي وبَعْضي فيهِ وكلي عَلَيْهِ
…
) // الْخَفِيف //
وَمن المضحك فِيهِ قَول السراج الْوراق
(رأتْ حَالي وقَدْ حالَتْ
…
وَقد غال الصِّبَا فَوْتُ)
(فَقَالَتْ إِذْ تَشاجَرْنا
…
وَلم يُخْفَضْ لنا صَوْتُ)
(أشيخ مفلسٌ يهْوَى
…
ويَعْشَقُ فاتكَ الفَوْتُ)
(فَلَا خيرٌ وَلَا ميرٌ
…
وَلَا إيرٌ فَذا موت) // من مجزوء الوافر //
ولطيف قَول بَعضهم
(وَفِي أَربع منِّي حَلَتْ منكَ أرْبَعٌ
…
فَمَا منهُ أَدْرِي أيُّها هاجَ لي كربي)
(أوجهنك فِي عَيْني أم الرِّيقُ فِي فمي
…
أم النُّطْق فِي سمْعي أم الحُبُّ فِي قلبِي) // الطَّوِيل //
وَقد سمع يَعْقُوب بن إِسْحَاق الْكِنْدِيّ هَذَا فَقَالَ هُوَ تَقْسِيم فلسفي وَقد أَخذه الحمايني الْعلوِي فَجعله خَمْسَة فَقَالَ
(وَفِي خمسَةٍ مني حَلَتْ مِنْك خمسَةٌ
…
فريقكَ مِنْهَا فِي فمي طَيِّبُ الرَّشْف)
(ووجهكَ فِي عَيْني ولمسكَ فِي يَدي
…
ونُطْقكَ فِي سَمْعِي وعَرْفُك فِي أنفي) // الطَّوِيل //
والمتلمس أُسَمِّهِ جرير بن عبد الْمَسِيح الضبعِي وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة المقلين الَّذين اتّفق الْعلمَاء بالشعر على أَنه أشعرهم وهم المتلمس وَالْمُسَيب بن علس وحصين بن الْحمام ولقب بالمتلمس لقَوْله
(وذاكَ أوانُ العِرْض طَنَّ ذبابُهُ
…
زنابيرُهُ والأزرق المتلمس) // الطَّوِيل //
وَكَانَ هُوَ وطرفة بن العَبْد يتنادمان مَعَ عَمْرو بن هِنْد ملك الْحيرَة وَكَانَ سيء الْخلق شديده وَكَانَ قد حرق من تَمِيم مائَة رجل فهجوه وَكَانَ مِمَّا هجاه بِهِ المتلمس قَوْله
(إِن الخيانَةَ والمغَالةَ والخنا
…
والغَدْرَ نترُكه ببَلَدةِ مُفْسِدِ)
(ملكٌ يلاعبُ أمهُ وقَطينَهَا
…
رِخْوُ المفاصل بطْنُهُ كالمزْوَدِ)
(فَإِذا حَللتُ فَدُونَ بَيْتِي غَارةٌ
…
فابرُقْ بأرْضِك مَا بدا لَك وأرعد) // الْكَامِل //
وهجاه طرفَة بِمَا تقدم فِي تَرْجَمته فِي شَاهد التَّكْمِيل فاستحيا أَن يقتلهما بِحَضْرَتِهِ وَبَينه وَبَينهمَا إدلال المنادمة فَكتب لَهما صحيفتين وختمهما لِئَلَّا يعلمَا مَا فيهمَا وَهُوَ أول من ختم الْكتاب وَقَالَ لَهما اذْهَبَا إِلَى عَامِلِي بِالْبَحْرَيْنِ فقد أَمرته أَن يصلكما بالجوائز فذهبا فمرا فِي طريقهما بشيخ يحدث وَيَأْكُل من خبز بِيَدِهِ ويتناول الْقمل من ثِيَابه فيقصعه فَقَالَ المتلمس مَا رَأَيْت شَيخا كَالْيَوْمِ أَحمَق من هَذَا فَقَالَ الشَّيْخ مَا رَأَيْت من حمقي أخرج الدَّاء وَأدْخل الدَّوَاء وأقتل الْأَعْدَاء ويروى أطرح خبيثاً وَأدْخل طيبا وأقتل عدوا أَحمَق وَالله مني من يحمل حتفه بِيَدِهِ فاستراب المتلمس بقوله فطلع عَلَيْهِمَا غُلَام من أهل الْحيرَة من كتاب الْعَرَب فَقَالَ لَهُ المتلمس أَتَقْرَأُ يَا غُلَام قَالَ نعم ففك حِينَئِذٍ الصَّحِيفَة فَإِذا فِيهَا إِذا أَتَاك المتلمس فاقطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ وادفنه حَيا فَقَالَ لطرفة ادْفَعْ إِلَيْهِ صحيفتك فَإِن فِيهَا مثل هَذَا فَقَالَ طرفَة كلا لم يكن ليجترىء عَليّ وَكَانَ غراً صَغِير السن فقذف المتلمس بصحيفته فِي نهر الْحيرَة وَقَالَ
(قَذَفْتُ بهَا بالثني من جَنْبِ كافرٍ
…
كَذَلِك أفتى كلَّ قِطٍّ مُضَلّلٍ)
4 -
(رضيتُ بهَا لما رأيْتُ مدادها
…
يجولُ بِهِ التيارُ فِي كل جدول) // الطَّوِيل //
وَأخذ نَحْو الشَّام وَقَالَ
(ألْقَي الصحيفَة كي يخفِّفَ رَحْلهُ
…
والزَّادَ حَتَّى نعْلُه أَلْقَاهَا) // الْكَامِل //
يُرِيد أَنه تخفف للفرار وَألقى مَا يثقل وَمَا لَا بُد للسَّفر مِنْهُ
وَأما طرفَة فَإِنَّهُ وصل الى الْبَحْرين وَقتل كَمَا مر فِي تَرْجَمته وَهلك المتلمس فِي الْجَاهِلِيَّة وَقَالَ ابْن فضل الله فِي حَقه هُوَ رجل نبيه الذّكر مَعْرُوف بِصِحَّة الْفِكر وَهُوَ الَّذِي يضْرب الْمثل بصحيفته وَمن شعره
(ألم تَرَ أَن المرْءَ رَهْنُ مَنيةٍ
…
صَرِيعاً لعافي الطّيرِ أَو سَوْفَ يرْمَسُ)
(فَلَا تقبلَنْ ضَيماً حِذاَر منيةٍ
…
ومُوتَنْ بهَا خُرَّاً وجلدُك أملسُ)
(فَمن حذر الأوتار مَا حزَّ أنفهُ
…
قصيرٌ وخاض الموْت بِالسَّيْفِ بيهسُ)
(وَمَا النَّاس إِلَّا مَا رأوْا وتحدثوا
…
وَمَا الْعَجز إِلَّا أَن يُضاموا فيجلسوا)
(فَاتَ تُقْبِلوا بالود نُقْبِلْ بِمثلِهِ
…
وإلاّ فَإنَّا نَحن آبى وأشمسُ) // الطَّوِيل //
وَمن شعره أَيْضا
(تعيرني أُمِّي رجال وَلَا أرى
…
أَخا كَرَمٍ إِلَّا بِأَن يتكرما)
(أحارِثُ إنَّا لَو تُسَاط دماؤُنا
…
تزَيَّلْنَ حَتَّى لَا يمسَّ دمٌ دَمًا)
(لذِي الْحلم قبل الْيَوْم مَا تُقْرَعُ الْعَصَا
…
وَمَا عُلِّمَ الإنسانُ إِلَّا ليعلْمَا)
(وَمَا كُنتُ إِلَّا مثلَ قَاطع كفهِ
…
بكَفٍّ لَهُ أُخْرَى فَأصْبح أجْذَما)
(يَدَاهُ أصابَتْ هَذِه حتْفَ هَذِه
…
فَلم تجدِ الْأُخْرَى عَلَيْهَا مُقَدَّما)
(فأطْرَقَ إطراقَ الشُّجَاعِ وَلَو يرى
…
مسَاغاً لنابهِ الشُّجاعُ لصممَا)
(إِذَا مَا أديمُ القومِ أنَهَجهُ البِلَى
…
تفرِّي وَإِن كَتَّبْتَهُ وتخرما) // الطَّوِيل //
وَمِمَّا يتَمَثَّل بِهِ من شعره قَوْله
(وَأعلم عِلم حق غير ظنٍّ
…
لَتقوَى اللهِ مِنْ خير العَتادِ)
(وَحِفظُ المالِ خيرٌ مِن ضَياع
…
وضَرْبٍ فِي البِلَاد بِغَيْر زادِ)
(وإصلَاحُ القَليلِ يَزيدُ فيهِ
…
وَلَا يبْقى الْكثير مَعَ الْفساد) // الوافر //
وَهَذِه الأبيات من قصيدة لَهُ مطْلعهَا
(صَبَا من بَعدِ سلوتِهِ فُؤادي
…
وأسمَحَ للقَرِينةِ بِالقيادِ)
وَقد ضمنه بَعضهم فِي الهجاء فَقَالَ
(يُحصِّنُ زادهُ عَن كلِّ ضِرْس
…
ويُعملُ ضِرسَهُ فِي كلِّ زَاد)
(وَلَا يَرْوى منَ الأشعارِ شَيْئا
…
سِوى بيتٍ لأبْرَهة الإِيادي)
(قليلُ المالِ تُصلحُهُ فَيبقى
…
وَلَا يبْقى الْكثير مَعَ الْفساد) // الوافر //
وَشطر هَذَا الْبَيْت رِوَايَة فِي شطر الْبَيْت السَّابِق وَأَخذه ابْن وَكِيع فَقَالَ
(مالٌ يخلفُهُ الْفَتى
…
للشامتينَ منَ العِدَا)
(خيرٌ لَهُ مِنْ قَصْده
…
إخوانهُ مُستَرْفدا) // من مجزوء الْكَامِل //
وَيُقَال إِن حاتماً الطَّائِي لما سمع قَول المتلمس هَذَا قَالَ مَاله قطع الله لِسَانه يحمل النَّاس على الْبُخْل والتباخل أَلا كَانَ يَقُول
(وَمَا البذْلُ يُفني المالَ قبلَ فنائهِ
…
وَلَا البُخلُ فِي مَال الشحيح يَزيدُ)
(فلَا تلتَمسْ فَقْراً بِعيْش فإِنهُ
…
لكلِّ غدٍ رزْقٌ يَعُودُ جديدُ)
(ألم تَدْر أنَّ المالَ غادٍ ورَائحٌ
…
وأنَّ الَّذِي يُعطيك لَيْسَ يبيدُ) // الطَّوِيل //
انْتهى
وَقد قَالَ البلغاء فِي معنى الأول إِن فِي إصْلَاح مَالك جمال وَجهك وَبَقَاء عزك ونقاء عرضك وسلامة دينك وَطيب عيشك وَبِنَاء مجدك فأصلحه إِن أردْت هَذَا كُله وَفِي الْمثل احفظ مَا فِي الْوِعَاء بشد الوكاء يضْرب فِي الْحَث على أَخذ الْأَمر بالحزم وَقيل من أصلح مَاله فقد صان الأكرمين الدّين وَالْعرض وَقيل التَّدْبِير يُثمر التَّيْسِير والتبذير يبرد الْكثير وَلَا جود مَعَ تبذير وَلَا بخل مَعَ اقتصاد والاعتدال فِي الْجُود أحسن من الاعتداء على الْمَوْجُود والرزق مقسوم مَحْدُود فمرزوق ومحدود وَالله أعلم بالوجود
قد تمّ بِحَمْد الله تَعَالَى وعونه الْجُزْء الثَّانِي من معاهد التَّنْصِيص ويليه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْجُزْء الثَّالِث مفتتحا بشواهد الْجمع مَعَ التَّفْرِيق نَسْأَلهُ سُبْحَانَهُ الْإِعَانَة على إكماله والتوقيق إِلَى إِتْمَامه