الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدخل في (لغة الفقهاء)
يكاد يتفق علماء اللغة على ان معرفة نشأة اللغة العربية وتطورها التاريخي قبل الاسلام من المسائل الشائكة التي تتسع فيها الاراء ويقبل فيها اختلاف وجهات النظر، وذلك العدة أسباب منها، أن اللهجات العربية القديمة المروية في الكتب العربية لا توجد آثارها جلية واضحة في الشعر الجاهلي، كما أننا نفتقر إلى نصوص مكتوبة أو آثار نستطيع أن نحدد على ضوئها تاريخ العربية قبل الاسلام.
لذلك نقول: إن اللغة التي نستخدمها اليوم في الكتابة والتأليف والادب، هي اللغة التي وصلتنا عن طريق الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والسنة النبوية.
لقد ضمن القرآن لهذه اللغة الخلود، وقد ساعدت تلاوة القرآن الكريم على ثبات تلك اللغة ولا سيما في جانبها الصوتي، وهو أكثر جوانب اللغة تعرضا " للغيير والانحراف والتشوية،
فضلا على أن الاسلوب القرآني ظل المقياس الامثل لرقي أساليب الكتاب والشعراء، حتى أن مكانة أي كاتب أو شاعر تقاس دائما بمقدار ما يقترب من مثالية الاسلوب القرآني، أو يبتعد عنه.
إلا أن هذا الذي قررناه حول ثبات اللغة العربية وخلودها لم يمنع من حدوث بعض التطورات في الاداء الصوتي من جانب، وفي المفردات والتراكيب الجانب الاخر، وهذا من طبائع الاشياء.
وحسبنا أن نقرأ نصا قديما "، ثم نقارنه بنص لكتاب معاصر حتى نلمس الفرق بين النصين، ولا بأس أن يكون هذا النص مما نحن بصدد الكتابة فيه: هذا البيضاوي (ت 685 هـ) يكتب مفسرا (1) قوله تعالى: * (وعلم آدم الاسماء كلها، ثم
(1) البيضاوي، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر (ت 685 هـ) / أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بتفسير البيضاوي ص 24.
مصور عن طبعة استنابول، المطبعة العثمانية، 1305 هـ.
عرضهم على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء: إن كنتم صادقين) * (1) : " (وعلم آدم الاسماء كلها) إما بخلق علم ضروري بها فيه أو إلقاء في روعه، ولا يفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل، والتعليم فعل يترتب عليه العلم غالبا "، ولذلك يقال: علمته فلم يتعلم.
و (آدم) اسم اعجمي كآزر وشالخ، عليه العلم غالبا "، ولذلك يقال: علمته فلم الاسوة، أو من أديم الارض
…
(والاسم) باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشئ ودليلا يرفعه إلى الذهن من الالفاظ والصفات والافعال واستعماله عرفا في اللفظ الموضوع لمعنى سواء كان مركبا " أو مفردا " مخبرا " عنه أو خبرا " أو رابطة بينهما، واصطلاحا " في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الازمنة الثلاثة، والمراد في الاية إما الاول أو الثاني، وهو يستلزم الاول لان العلم بالالفاظ من حيث الدلالة متوقف على العلم بالمعاني، والمعنى أنه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا " لا دراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات والهمه معرفة ذوات الاشياء وخواصها وأسمائها وأصول العلوم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها (ثم عرضهم على الملائكة) الضمير فيه للمسميات المدلول عليها ضمنا " إذ التقدير
أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه وعوض عنه عنه اللام كقوله تعالى: * (واشتعل الرأس شيبا) * لان العرض للسؤال عن اسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس الاسماء سيما إن أريد به الالفاظ والمراد به ذوات الاشياء، أو مدلولات الالفاظ وتذكيره لتغليب ما اشتغل عليه من العقلاء ".
أما سيد قطب (ت 1386 هـ) فكتب في شرح الاية الكريمة نفسها (2) : " ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - نشهد ما شهده الملائكة في الملا الاعلى
…
ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الالهي الذي أودعه الله هذا الكائن البشري، وهو يسلمه مقاليد الخلافة، سر القدرة على الرمز بالاسماء للمسميات، سر القدرة على الرمز بالاسماء للمسميات، سر القدرة على تسمية الاشخاص والاشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا " لتلك الاشخاص والاشياء المحسوسة.
وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الانسان على الارض، ندرك قيمتها حتى نتصور الصعوبة الكبرى، لو لم يوهب الانسان القدرة على الرمز بالاسماء للمسميات، والمشقة في التفاهم والتعامل حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الاخرين على شئ أن يستحضر هذا الشئ بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه
…
الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة! الشأن شأن
(1) البقرة: 31.
(2)
سيد قطب / في ظلال القرآن 1 / 67.
دار التراث العربي، بيروت ط، 1967 م.
جبل، فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل!
…
إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة! وإن الحياة ما كانت لمتضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالاسماء للمسميات.
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية، لانها لا ضرورة لها في وظيفتهم، ومن ثم لم توهب لهم، فلما علم علم الله آدم هذا السر، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الاسماء.
لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للاشياء والشخوص.
وجهروا أمام هذا العجز بتبيح ربهم،
والاعتراف بعجزهم، والاقرار بحدود علمهم، وهو ما علمهم " - فاللفظ عند البيضاوي ذو معنى يناسب عصره، يجمع بين التفسير والتأويل، ويقرر الادلة على أصول أهل السنة.
ودلالة ألفاظه تعكس ما كان يتسلح به مفسرو القرآن الكريم من قوة العقل، وسعة الافق والنظر، والمشاركة في مختلف العلوم من نحو وصرف وبلاغه ومنطق وجدل وفقه ورواية وفلسفة وطبيعيات، مع ما نجد من بعض التكلف والاغراب من نحو (سابقة اصطلاح ليتسلسل)(1) و (الاسم باعتبار الاشتقاق) ، أي بالمعنى اللغوي، ونحن لا نستعمل هذه اللفظة في هذا المعنى الان.
والجملة تميل إلى التفريع والاستطراد مع اتجاه فكرى ينزع إلى أساليب الفلاسفة، وإعلاء قضايا العقل من نحو (لا دراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات)(2) .
وله في استعمال الادوات، أقصد: الحروف وما هو في وظيفتها، نهج ونظم خاص، واستعمال غريب من استعمالنا اليوم، فعبارة البيضاوي (إما بخلق علم ضروري بها فيه) .
(إما، بها، فيه) - أي بما أودع الله سبحانه قلب آدم معرفة الاسماء، وفتق لسانه بها فكان يتكلم بتلك الاسماء كلها - قد جرت على نهج خاص لا نعرفه نحن اليوم.
أما النص الذي اخترناه لسيد قطب فهو يقدم لنا خصائص لغتنا المعاصرة، فأسلوبه مسترسل بأناقة يفيض بالطاقات، الشعورية والاحاسيس، وألفاظه ذات موسيقى جميلة، دون تكلف، أو لجوء إلى الحذف والتضمين.
(1) التسلسل: ترتيب أمور غير متناهية (تعريفات الجرجاني) .
(2)
المتخيلة: هي القوة التي تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني الجزئية المتنزعة وتصرفها، أما الموهومات فهي قضايا يحكم بها الوهم في أمور غير محسوسة (كله عن تعريفات الجرجاني) .
- 2 -
ليس معنى هذا أن المتأخرين يخترعون الالفاظ، أو يخلقون لغة من العدم، فالمادة الاولية للغة ثابتة، ولكن اشكالها متجددة، وأي باحث يدرك بأدنى تأمل أن الاشكال اللغوية لا تثبت على حال، فهناك صيغ تولد لم يكن الناس يعرفوفها من ذي قبل - كما ولدت كلمات سوكرة، وتأمين، وتأميم
…
وغيرها - فتشيع وتنتشر وتأخذ مكانها في الاستعمال إلى أمد ثم لا يلبث بعضها أن يذبل، أو يموت لتخلف مكانها كلمة أخرى، كما كانت كلمة " النشيطة " وحل محلها كلمة " صفي " أو تموت لا إلى خلف كما ماتت كلمات: المرباع، والمكس، والاتاوة، والحلوان بمعنى الاجر
…
وغيرها من مئات الكلمات (1) .
ولكن السؤال الان: ما الذي يدعو إلى مثل هذا التطور في عناصر اللغة ومدلولات ألفاظها؟ - 3 - لن نفصل القول في الاسباب التي تدعو إلى ولادة بعض الالفاظ في اللغة، لان تفصيل القول يخرجنا عما نحن فيه من هذا المدخل في (لغة الفقهاء) بين يدي معجمنا هذا الذي يختص بسبب معين لبيان التطور الدلالي الذي لحق (العربية) في أصواتها ومفرداتها وأساليب دلالالتها، فاللغة مرآة تنعكس عليها حضارة الامة، ونظمها، وعقائدها، واتجاهاتها العقلية.
ونرى أن أهم عامل أدى إلى طروء مثل هذا التبدل في (العربية) كان انتقال العرب من خشونة البداوة إلى لين الحضارة.
فبعد الفتوحات الاسلامية دعت مرافق العمران من زراعة وصناعة وتجارة وملاحة وحياكة وطراز وهندسة وبناء
…
وما أشبه ذلك من الحرف والفنون إلى الاخذ عن الامم الاخرى عادات ومصطلحات ومسميات جديدة في المأكل والمشرب والملبس والفرش والزينة والحلي والاواني والادوات والاسلحة والاجهزة والطب والصيدله، ولما لم يعهد العرب التعبير عن هذه المستحدثات في حياتهم الاولى، فقد أخذوا في نقل قسم من ألفاظها الاعجمية بعد تعريبها والتصرف بها، كما لجأوا إلى الاشتقاق والتوسع في الكناية والمجاز أيضا "، وهكذا تولدت ألفاظ
جديدة
(1) انظر السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) المزهر في علوم اللغة وأنواعها 2 / 296 ط دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
تحقيق محمد أحمد جاد المولى وآخرون.
ونذكر على سبيل المثال هذه الفاظ.
إبريسم: للحرير الخالص، فارسي دخيل.
أردب: مكيال تقدر به الحبوب، آرامي دخيل.
أزميل: شفرة الحذاء أو حديدة في طرف رمح لصيد بقر الوحش، يوناني دخيل.
أستار: أربعة، فارسي من چهار.
اسطرلاب: الالة التي يعرف بها الوقت، يوناني من استرولابون.
اسفيداج: رماد الرصاص، أرامي من سفيدج اسقف: رئيس ديني عن المسيحيين، يوناني من أبيسكوپوس.
اصطبل: مربط الدواب، لاتيني من استابلم.
اكسير: ما يلقى على الفضة ونحوها ليحيله إلى ذهب خالص في رأي المتقدمين، يوناني من كسيرون.
بستان: حديقة، فارسي من بوستان.
بشكير: ما ينشف به الجسم بعد الاستحمام، فارسي من پيشجير.
بطريق: الرئيس والعظيم من الروم والقائد من قوادهم، يوناني من پترپكيوس.
بندقة: آلة من آلات الحرب، فارسي بندق.
دهليز: ممر، فارسي دخيل.
زرنيخ: حجر له ألوان كثيرة إذا جمع من الكلس حلق الشعرا، يوناني من ارسنيكون.
سفتجة: خط، وأصلها أن يكون لواحد ببلد متاع عند رجل أمين فيأخذ من آخر عوض ماله
ويكتب له خوفا من غائلة الطريق، فارسي من سفته.
(ر: سفتجة) .
سمسار: وسيط وبائع وشاري وساعي للواحد منهما، فارسي من سپسار.
شطرنج: لعبة شهيرة يلعبها إثنان عادة، هندي من تشطورنجا.
صك: وثيقة، فارسي دخيل.
طراز: زخرفة الملابس، فارسي من تراز.
طيلسان: معطف من الصوف، فارسي تاليسان.
عربون: ما تعقد به المبايعة من ثمن، يوناني من اربون.
فهرس: خاتمة محتويات الكتاب، يوناني پوريستيس.
فيلسوف: حكيم، يوناني من فيلوسوفوس.
فنطرة: ما يبنى على الماء للعبور وكذلك ما ارتفع من البنيان، يوناني من كنتاناريون.
نرجس: زهرة من أزهار الربيع، يوناني من نركيسوس.
وسق ستون صاعا، أرامي من وسقا.
ياسمين: زهرة طيبة الرائحة، فارسي دخيل.
ومن الالفاظ الحديثة: بنزين: سائل لوقود السيارات والطائرات، انجليزي دخيل.
بوليصة: وثيقة، إيطالي من پوليتزه.
دوسيه: حافظة الاوراق، فرنسي دخيل.
سندويتش: شطائر محشوة، انجليزي من سندويش: نسبة إلى مخترعة اللورد Sandwich الذي عاش فيما بين عامي 1718 - 1792 م.
شاي: شراب منبه يشرب عاة ساخنا، صيني من چاي.
فاتورة: قائمة بالاشياء أو المبالغ المطلوبة، ايطالي فتورا
كابون: بطاقة للتبادل، أو فضلة من فضلات القماش، فرنسي من كوپون كروكي: رسم، فرنسي من كروكوي.
كمبيالة: حوالة مالية، إيطالي دخيل.
لتر: مكيال للسوائل، فرنسي دخيل.
موبيليا: أثاث المنزل، إيطالي دخيل.
موتور: محرك الماكينة وما إليها، انجليزي دخيل.
نمرة: رقم، ايطالي من نمرو.
نيلون: مادة مركبة تصنع منها الاقمشة والجوارب وكثير من أدوات الملبس وأثاث المنزل، انجليزي دخيل.
وهكذا نرى أن العرب قد استعاروا من معظم الامم ألفاظا للتعبير عن أشياء دعت إليها الحاجة أو الضرورة، وقد عمدوا إلى تلك الالفاظ فحوروا في بنيتها وجعلوها على نسج الكلمات العربية، وهي ما تسمى بالالفاظ المعربة (1) ، وتركوا البعض الاخر على صورته وهي التي تسمى بالدخيل (2) .
على أننا يمكن أن نذكر أسبابا للتطور الدلالي منها: أ - الرغبة في البدل.
وهذه الرغبة تنشأ:
(1) انظر السيد ادى شير / الالفاظ الفارسية المعربة، المطبعة الكائوليكية، بيروت، 1908 م.
(2)
انظر الجواليقى: أبو منصور بن أبي طاهر (ت 540 هـ) المعرب من الكلام الاعجمي، تحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة، وزارة الثقافة، ط 2، 1389 هـ.
- إما من ثقل اللفظ الاصيل على النطق نحو كلمة " حوجم " التي استبدلت بكلمة " ورد " وكلمة " مستشرز " التي استبدلت بكلمة " خشن ".
- وأما من تلمس الحشمة والادب في التعبير، وخاصة فيما يتصل بالالفاظ الجنسية، وقد لجأت (العربية) بعد الاسلام إلى الكناية والمجاز، وكان لها في ألفاظ القرآن وعباراته أسوة حسنة:
* (نساؤكم حرث لكم) *، * (واهجروهن في المضاجع) *، * (أو لا مستم النساء) *، * (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) *
…
وما إلى ذلك من كريم العبارات ونبيل الالفاظ.
وقد جاء في كتاب مثالب الوزيرين لابي حيان التوحيدي: " ماذا أرادت بتكثير أسماء الفرج مع قبحها؟ فأجاب: لما رأوا الشئ قبيحا " جعلوا يكنون عنه، وكانت الكناية عند فشوها تصير إلى حد الاسم الاول، فينتقلون إلى كناية أخرى، فإذا اتسعت أيضا " رأوا فيها من القبح مثل ما كنوا عنه من أجله، وعلى هذا فكثرت الكنايات، وليس عرضهم تكثيرها "(1) .
- وإما لمجرد التقليد، وهذا يعود إلى جذور نفسية عقد لها ابن خلدون في مقدمته فصلا خاصا " جعل عنوانه " ولع المغلوب بالاقتداء بالغالب في مأكله ومشوبه وملبسه ولغته
…
" (2) ومن هذا ما نراه اليوم من كثرة استعمال الالفاظ الاجنبية للالات والمخترعات، بل وفي اللغة اليومية، حتى أننا لنجد لفظة أجنبية حلت محل لفظة عربية عند بعض الفئات، رغم ثقل اللفظ الاجنبي على السمع واللسان، وخفة اللفظ العربي، كحلول لفظ Excuse me الانجليزية محل (عذرا ") أو (اعذرني) العربية.
- وأما من الصراع اللغوي، وأهم عوامله: الفتح، والاستعمار، الحرب، هجرة السكان، واحتكاك شعبين متجاورين، والعلاقات التجارية أو الثقافية بين أمتين، وتقارب الشعبين في درجة الحضارة والثقافة أو تباعدهما فيهما..وغيرها من العوامل، ومن أجلى مظاهر هذا الصراع في تاريخ العربية المعاصر صراعها مع اللغة الفرنسية في الجزائر بسبب الاستعمار.
ب - ضيق الدلالات المحملة لالفاظ اللغة عن استيعاب دلالات جديدة حدثت، وعندئذ يلجأ إلى استعارة اللفظ من دلالته الاصلية لصالح دلالة جديدة مع وجود علاقة بين الدلالة الاصلية والدلالة الحديثة، كما هو الحال في لفظ " صلاة " مثلا فإنه يدل في الاصل على معنى
(1) مثالب الوزيرين ص 254 وما بعدها، ط دمشق 1961.
(2)
ابن خلدون، عبد الرحمن / المقدمة ص 258 ط 2 دار الكتاب اللبناني، بيروت 1979 م.
" الدعاء " ولكن لما جد معنى جديد هو وجود مجموعة أقوال وأفعال على هيئة معينة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم يتقرب بها إلى الله تعالى، ولم يكن لها في اللغة لفظ خاص يدل عليها، كان لا بد من توليد لفظ لها، فكان لفظ " الصلاة " لما يحمله هذا اللفظ من المعاني العامة في القرب من الله (1) .
ومن هنا كانت القاعدة في فقه اللغات بوجه عام أن الكلمة الواحدة تعطي من المعاني والدلالات بقدر ما يتاح لها من الاستعمالات (2) .
فكلمة مثل " قطار " تدل على قطار السكة الحديد، ولكن معناها المعجمي القديم: الابل يسير الواحد منها وراء الاخر.
- 4 - ولكن الشئ الذي لا يجوز لباحث أن يتجاوزه حتى يبينه في هذا المقام هو: هل يحق لاي باحث أن ينقل أي لفظ من معناه الاصلي إلى معنى جديد - أعني المعنى الاصطلاحي - دون قيد أو شرط، أو لابد أن يكون هناك شروط يجب مراعاتها في هذا النقل؟ ولكننا بادئ بدء إذا قلنا بحرية نقل الالفاظ من معانيها الاصلية إلى المعاني المستجدة - أي الاصطلاحية - دون قيد أو شرط كنا قائلين بالفوضى اللغوية، وقد تودي هذه الفوضى باللغة وتخرجها عن أصولها، وهذا ما لا يرضاه باحث منصف، ولا محب غيور.
وإذا كان الامر كذلك فلا بد من البحث عن الشروط الواجب توفرها لجواز هذا النقل، وقد سبقنا من أستقرأ هذه الشروط والقيود (3) فوجدها لا تخرج عما يأتي.
أ - لابد من وجود علاقة بين المعنى الاصلي والمعنى الجديد، ولكن لا يشترط ان تكون هذه العلاقة قد وصلت إلى حد المطابقة، بل يكتفى بأدنى علاقة.
ب - لا بد أن يراعي في وضع المصطلح الاهتمام بالمعنى قبل اللفظ.
ج - يستحسن ألا يختار المصطلح من بين الالفاظ ذات الدلالات الاصلية الشائعة المعروفة، لان نقل الذهن عنها إلى غيرها من الصعوبة بمكان.
(1) انظر ابراهيم أنيس / دلالة الالفاظ ص 145 وما بعدها، ط 2 مكتبة الانجلو المصرية 1963 م.
(2)
انظر صبحي الصالح / دراسات في فقه اللغة ص 292، ط 6 دار العلم للملايين، بيروت 1976 م.
(3)
انظر البحث الذي قدمه الدكتور جميل الملائكة إلى مؤتمر التعريب الثاني في الجزائر بعنوان " مستلزمات المصطلح العلمي "، نشر في مجلة المجمع العلمي العراقي مجلد 24 / 1974 م.
يستحسن ألا يصطلح بلفظ واحد لتأديه معان علمية مختلفة، ولكن يلاحظ ان الفقهاء المسلمين لم يتقيدوا بهذا الشرط كثيرا "، إذ نراهم - كما سيأتي معنا في هذا المعجم - قد يطلقون لفظا " واحدا " على معاني اصطلاحية متعددة.
هـ - يستحسن ألا يصطلح بألفاظ مختلفة للمعنى العلمي الواحد، وهذا أيضا لا يتقيد به الفقهاء المسلمون كثيرا "، بل هم أكثر تحللا منه عندما تخرج عن دائرة المذهب الفقهي الواحد إلى دائرة المذاهب المتعددة، فشركة المضاربة يطلق عليها بعض المذاهب لفظ " مضاربة " بينما يطلق عليها بعض المذاهب الاخرى " قراضا ".
ويفضل اللفظ - المصطلح - العربي على غيره ما أمكن إليه سبيلا.
ز - يستحسن تجنب الالفاظ التي ينفر الطبع منها إما لثقلها على اللسان أو لفحش دلالتها.
ح - يستحسن تجنب النحت ما أمكن.
- 5 - وإذا ما تم نقل اللفظ - أعني المصطلح - من المعنى الاصلي إلى المعنى الاصطلاحي، فان ذلك لا يعني فقدان دلالته على المعنى الاصلي، بل يصبح اللفظ ذا دلالتين الاولى أصلية.
لغوية، والثانية اصطلاحية.
والسؤال الان: هل يصبح اللفظ بذلك من قبيل المشترك؟ أم ان دلالته على المعنى الاصلي هي دلالة حقيقية، ودلالته على المعنى الجديد هي دلالة مجازية؟ لقد أطال العلماء البحث في ذلك، وكثر بينهم الجدال مما يخرجنا الخوض فيه عما
قصدناه من هذه المقدمة، ولكن الذي نطمئن إليه: ان المشترك لابد من أن يعبر اللفظ الواحد فيه عن دلالتين متباينتين كل التباين، دون أن يكون بينهما أي اشتراك (1) كالعين مثلا، انها من المشترك، لانها تدل على العين الباصرة، وتدل على العين الجارية، وتدل على الذهب، وتدل على أشياء أخرى، ولو ذهبنا نبحث عن نقطة لقاء بين هذه الدلالات كلها لرجعنا بخفي حنين.
وإن المجاز لا بد من أن يعبر اللفظ فيه عن دلالتين يوجد بينهما اشتراك (2) ، وقد
(1) السيوطي، المزهر 1 / 369.
(2)
انظر محمد الانطاكي / الوجيز في فقه اللغة ص 390، مكتبة الشهباء، حلب 1969 م.
عد علماء اللغة أبواب الحذف والزيادات والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف كلها من المجاز (1) .
وإن المستقرئ للمصطلحات يدرك بأدنى تأمل الاشتراك الواضح بين المعنى الاصلي للفظ وبين المعنى الذي اصطلح على إطلاقه عليه، لان المعاني الاصطلاحية لا تخرج في جملتها عن كونها تحمل زيادة على المعنى الاصلي للفظ أو حذفا منه.
ونخلص من هذا إلى أن المعاني الاصطلاحية هي معاني مجازية للفظ، وأن إطلاق اللفظ عليها هو إطلاق مجازي، وليس من قبيل المشترك - 6 - تلك مقدمة في بيان طبائع اللغات اتخذناها جسرا " نعبر عليه لنتوصل به إلى نشأة المصطلح الفقهي.
لقد بعث الله سبحانه محمدا " صلى الله عليه وسلم بدين الاسلام.
وجعل معجزته القرآن الكريم، وهي المعجزة اللغوية الوحيدة بين معجزات الرسل عليهم السلام، وقد تبوأ القرآن الكريم مكان الصدارة لدى أرباب اللغة والبيان، ومن ثم أعتبر الباحثون قديما " وحديثا " أهم حدث
في تاريخ هذه اللغة (2) ، وبدا أثر هذا الحدث واضحا " في لغة الحديث النبوي الشريف، ونستطيع أن نلاحظ هذا الاثر بسهولة ويسر في مجئ القرآن الكريم بأصول الدين الاسلامي وأحكامه مجملة دون تفصيل، ثم تولت السنة النبوية الشريفة تفصيل ذلك وبيانه، * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * - النحل / 44 -.
فالقرآن الكريم مثلا لم يذكر التكاليف العملية التفصيلية، بل هو لم يبين المعاني المرادة لكثير من الالفاظ التي تحمل هذه التكاليف، فضلا عن بيانه كيفية أدائها، مع أن هذه الالفاظ كانت تحمل معاني جديدة لم يكن العرب يعرفونها من ذي قبل، ولعل أبرز مثال على ذلك ألفاظ " الصلاة " الزكاة، الحج
…
" مع أن هذه الالفاظ كانت تبين الاركان العملية للدين، فجاءت السنة النبوية الشريفة تفصل أوقات الصلاة وكيفياتها، كما فصلت القواعد، والاسس التي يجب
(1) السيوطي، المزهر 1 / 357.
(2)
انظر الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب (ت 403 هـ) .
اعجاز القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر.
القاهرة، دار المعارف 1374 هـ / 1954 م ص 19 و 35.
وانظر فك، يوهان.
العربية: دراسات في اللغة واللهجات والاساليب، ترجمة عبد الحليم النجار.
القاهرة: 1951 م.
ص 1 وما بعدها.
اتباعها في أداء الزكاة وجبايتها وصرفها (1) .
والصلاة والزكاة نموذجان لما تناولته النبوية بالبيان والشرح، حتى انه ليصح لنا القول - إذا تكلمنا باسم اللغة - ان السنة النبوية تبين المراد من ألفاظ القرآن الكريم بيانا لغويا " كما أنها توضح المفاهيم الاخلاقية والاجتماعية والانسانية، وتبين السلوك المترتب على هذه المفاهيم الجديدة التي أتى بها القرآن الكريم، مما جعل الخلاف ينشب بين العلماء في جواز تفسير ألفاظ القرآن الكريم بكلام العرب من شعر ونثر.
وكان ابو عمرو بن العلاء (ت 154 هـ) يرى أن فهم لغة القرآن الكريم وتدبر معانيه غاية كل مسلم، وان ما حفظ من شعر العرب ونثرهم ينبغي أن يكون أداة فهم لغة القرآن الكريم، لانه
إنما نزل بلغتهم، وعلى هذا النهج ألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 209 هـ) كتابه " مجاز القرآن " وسائر كتبه في هذا الباب، وهما مقلدان لعبد الله بن عباس (ت 68 هـ) رضي الله عنهما، فقد روى السيوطي في الاتقان (2) ان ابن عباس كان جالسا " بفناء الكعبة وقد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، قال نافع بن الازرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم لديه، فقاما إليه، فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بما صدقه من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما.
فقال نافع: اخبرني عن قول الله تعالى * (عن اليمين وعن الشمال عزين) *؟ فقال ابن عباس: العزون: حلق الرفاق.
قال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال ابن عباس: نعم، أما سمعت عبيد بن الابرص وهو يقول: فجاءوا يهرعون إليه حتى * يكونوا حول منبره عزينا ثم استمر يسأله على هذا الوجه مسائل عديدة..بينما كان الاصمعي - عبد الملك بن قريب (ت 214 هـ) يعارض تفسير القرآن بكلام العرب من شعر أو نثر، فقد اشتهر عنه أنه لم يكن يتعرض لتفسير ألفاظ القرآن تورعا " وتدينا "،
(1) انظر ابن الاثير، المبارك بن محمد (ت 606 هـ) النهاية في غريب الحديث والاثر تحقيق طاهر الزاوي ومحمود محمد الطناحي، ط الحلبي القاهرة (63 - 1965 م) .
المقدمة 1 / 4 وما بعدها.
(2)
السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) ، الاتقان في علوم القرآن ط الحلبي القاهرة 1370 هـ / 1951 م 1 / 120 وما بعدها.
فضلا عن الاستشهاد بالشعر في هذا الباب (1) .
ولعل تحرج الاصمعي مردة إلى أن القرآن الكريم طرح معاني جديدة لكثير من الالفاظ هي
غير المعاني التي تعارفها لها العرب، ولاكتها بها ألسنتهم، والاسراف في تحكيم المفاهيم العربية كما جاءت في شعرهم أو نثرهم بالمعنى المراد من ألفاظ القرآن قد يوقع في ترجيح مراد الناس من ألفاظ القرآن الكريم على مراد الله تعالى منها.
لقد زاد القرآن الكريم هذه اللغة ثراء بما طرحه من المعاني الجديدة، وبما نقله من الالفاظ من معانيها الاصلية وجعلها معبرة عن المعاني الجديدة، وبذلك يكون القرآن قد أهل اللغة العربية لاستيعاب التعبير عن الحضارة الجديدة ذات المفاهيم الجديدة.
لقد غرست الحضارة الاسلامية في أعماق الانسان مفاهيم جديدة في العقيدة، والعبادات، والمعاملات، والاخلاق مما لم يألفه العرب في جاهليتهم، وبذلك بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة، انعكس أثرها على اللغة العربية إذ هي وعاء الفكر ودليله (2) .
ومن الطبيعي أن تتطلب هذه الحضارة الاسلامية مادة لغوية جديدة - تغاير معاني الالفاظ المعهودة قبل الاسلام - للتعبير عن المعاني الجديدة، تستمد معانيها من لغة التنزيل المجيد، والحديث النبوي الشريف، وهكذا نشأت طائفة من الكلمات الاسلامية (3) سماها العلماء بعد ذلك " المصطلحات الاسلامية ".
قال ابن برهان: وصاحب الشرع إذ أتى بهذه الغرائب التي اشتملت الشريعة عليها من علوم حار الاولون والاخرون في معرفتها مما لم يخطر ببال العرب، فلا بد من أسامي تدل على تلك المعاني (4) .
(1) انظر أبو الطيب، عبد الواحد بن علي اللغوي (ت 351 هـ) ، مراتب النحويين تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم ط مصر 1955 م ص 48.
(2)
لمزيد من التوسع حول هذه القضية اقرأ: أ: دلالة الفاظ - إبراهيم أنيس.
ب - علم اللغة - علي عبد الواحد وافي.
ج - شمس العرب تسطع على الغرب - سيجريد هونكه.
ولقد رصدت مئات الالفاظ ذات الدلالات الحضارية
(3)
انظر الرازي، أبو حاتم أحمد بن حمدان (ت 322 هـ) ، كتاب الزينة في الكلمات الاسلامية العربية.
تحقيق حسين الهمداني ط القاهرة 1957 م.
الجزء الاول ص 56 وما بعدها.
(4)
السيوطي / المزهر 1 / 299.
ويقول ابن فارس: " كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرا بينهم، فلما جاء الله جل ثناؤه بالاسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات، وابطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت، فعفى الاخر الاول، وشغل القوم بعد المغادرات والتجارات وتطلب الارباح والكدح للمعايش في رحلة الشتاء والصيف، وبعد الاغرام بالصيد والمعاقرة والمياسرة بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبالتفقة في دين الله عزوجل، وحفظ سنن الرسول صلى الله عليه وسلم مع اجتهادهم في مجاهدة أعداء الاسلام، فصار الذي نشأ عليه أباؤهم ونشأوا هم عليه كأن لم يكن، حتى تكلموا في دقائق الفقه، وغوامض أبواب الواريث وغيرها من علم الشريعة وتأويل الوحي بما دون وحفظ حتى الان "(1) .
وبعد الاستقراء والتتبع نستطيع أن نقول: ان القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما اللذان فتحا باب الاصطلاح على مصراعيه، وكان القرآن الكريم والسنة النبوية هما أول من أرسى قواعد المصطلح الاسلامي، وكان عملهما في هذا السبيل: أ - إمانة كلمات لا مكان لدلالاتها في الحضارة الحديثة التي أرسى قواعدها القرآن والسنة، ونذكر على سبيل المثال: ألفاظ: إتاوة: ما يفرضه الرئيس ونحوه لنفسه على الشخص من المال بغير حق، وقد يرى البعض ان هذه هي الزكاة مع تبدل الاسم وبقاء الجوهر، والحقيقة ليست كذلك، لان الزكاة لا تجب إلا على الغني، وبنسبة أمواله، وهي ليست للرئيس ولا يحق له أن يأخذ منها
شيئا "، وإنما هي للفقراء والمساكين.
الحلوان: ما يأخذه الرجل لنفسه من مهر ابنته، وهذا قد حرمه الاسلام، أو ما يأخذه الرجل على عمل غير الاجر، أو على عمل لا يستحق عليه أجرا "، كحلوان الكاهن ونحوه، وقد حرمه الاسلام أيضا " لانه إثراء بلا سبب وأكل لاموال الناس بالباطل.
المكس: ما يأخذه الرئيس لنفسه من غلال الارض أو مما يحمله التجار، وقد يرى البعض أن هذا هو عشر الزروع المفروض في الزكاة، أو ما يؤخذ من أصحاب الاراضي
(1) ابن فارس، ابو الحسين أحمد (ت 395 هـ) .
الصاحبي في فقه اللغة وسنن العربية في كلامها.
تحقيق مصطفى الشويمي ط لبنان 1383 هـ.
ص 78 وما بعدها.
الخراجية في الخراج، أو هو العشر الذي يحمله التجار من الاموال التجارية، والحقيقة أن بين المكس وبين هذه الاشياء فرقا " جوهريا " وإن بدت صورتها واحدة، وهذا الفرق هو: أن هذه الاموال كانت تجبى للرئيس خاصة يتصرف بها كيف يشاء، بينما صارت في ظل الاسلام تجبى لتتحقق بها مصالح الناس في خطة معلنة واضحة ومصارف معروفة منصوص عليها.
المرباع: أخذ الرئيس - خالصا " لنفسه - ربع ما يحوزه رجاله من الغنائم، وقد يرى البعض أن هذا هو خمس الخمس الذي نص عليه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: * (واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) * الانفال / 41.
والحقيقة أن بينهما فرقا "، إذ الرئيس كان يأخذ الربع، بينما كان الذي خصص للرسول صلى الله عليه وسلم هو خمس الخمس أي 1 / 25 ينفق منه على نفسه وعياله، فإن فاض منه شئ أنفقه على الفقراء والمساكين، ولم يمسك منه شيئا "(1) .
النشيطة: ما ينشط الرئيس لاخذه لنفسه من نفائس الاموال عند قسمة الغنائم، وقد يري البعض أن
هذا هو الصفي، والحقيقة أن بينهما فرقا، فالنشيطة من حق كل رئيس، أما الصفي فهو من حق النبي صلى الله عليه وسلم وجده (2) أما غيره من الرؤساء فليس له أن يصطفي لنفسه، ولكن له أن يصطفي للمصلحة العامة وقد اصطفى عمر بن الخطاب أموال كسرى وآل كسرى، وأراضي كل من فر عن أرضه أو قتل في المعركة، وكل مغيض ماء أو أجمة، فكان يقطع منها لمن أقطع (3) .
يقول الجاحظ (4) : ترك الناس مما كان مستعملا في الجاهلية أمورا كثيرة فمن ذلك: تسميتهم للخراج: إتاوة، وكقولهم للرشوة ولما يأخذه السلطان: الحلوان والمكس، كما تركوا: أنعم صباحا "، وأنعم ظلاما، وصاروا يقولون: كيف أصبحتم وكيف أمسيتم، كما تركوا أن يقولوا للملك أو السيد المطاع: أبيت اللعن، وقد ترك العبد ان يقول لسيده: ربي، وكذلك حاشية السيد والملك تركوا أن يقولوا: ربنا،
…
إلى أن قال:
(1) انظر محمد رواس قلعه جي / موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة: غنيمة / 2 ب 2، ط مكتبة الفلاح بالكويت سنة 1401 هـ.
(2)
انظر ابن فارس / الصاحبي ص 90.
(3)
انظر قلعه جي / موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة: صفي / 2 (4) الجاحظ، أبو عثمان / الحيوان 1 / 327 - 328، تحقيق عبد السلام هارون، ط الحلبي بالقاهرة 1958 م.
..ومن الكلام المتروك والتي زالت أسماؤه مع زوال معانيها المرباع والنشيطة، وبقي الصفايا، فالمرباع: ربع جميع الغنيمة الذي كان خالصا " للرئيس، وصار في الاسلام الخمس على سنة الله تعالى.
وأما النشيطة فانه كان للرئيس أن ينشط عند قسمة المتاع العلق النفيس يراه إذا استحلاه، وبقي الصفي، وكان لرسول الله من كل مغنم.
ب - استعارة ألفاظ جديدة من لغات أخرى للتعبير عن دلالات جديدة وقد اشترك في هذه
الاستعارة كل من القرآن والسنة ثم الصحابة والتابعون من بعدهم ثم الفقهاء من بعدهم وستبقى هذه الاستعارة مستمرة ما استمر تأثر الحضارات بعضها ببعض واللغات بعضها ببعض.
- فالقرآن قد استعار لفظ " المنافق " من الحبشية ليعبر بها عن الرجل الذي يبطن الكفر ويظهر الايمان (1) ، فأجراها الناس على أصولهم اللغوية، شأنهم فيها شأنهم في أكثر ما يجلبونه من غير العربية إليها.
كما استعار ألفاظ أباريق، واستبرق والتنور وغيرها من الالفاظ من الفارسية، كما استعار غيرها من لغات أخرى (2) .
- والسنة قد استعارت ألفاظا من لغات متعددة مع دلالاتها، واعتمدتها ضمن المصطلحات الاسلامية من ذلك لفظ " ديوان " من الفارسية فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الديوان عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا "، وديوان لا يترك الله منه شيئا "، وديوان لا يغفره الله
…
) الحديث (3) قال في النهاية: الديوان: الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء وهو فارسي معرب (4) .
ولفظ " خوان " فقد قال صلى الله عليه وسلم: (
…
حتى أن أهل الخوان ليجتمعون على خوانهم
…
) الحديث (5) قال الجواليقي: الخوان ما يوضع عليه الطعام ليؤكل فارسي معرب (6) .
ولفظ " بريد، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(إني لا أخيس العهد ولا أحبس البرد) .
أي الرسل، وأصل البريد في الفارسية البغل المقطوع الذنب، فسمي الرسول الذي يركبه بذلك مجازا " (7) .
(1) انظر صلاح الدين المنجد / المفصل في الالفاظ الفارسية المعربة ص 83 وما بعدها ط 1 بايران 1398 هـ.
(2)
انظر: قلعة جي / المشترك بين العربية وغيرها من ألفاظ القرآن الكريم.
(3)
أخرجه الامام أحمد في مسنده 6 / 240، الطبعة الاولى.
(4)
ابن الاثير / النهاية في غريب الحديث، مادة: ديوان.
(5)
الحديث أخرجه الامام احمد في المسند 2 / 295.
(6)
الجواليقى / المعرب ص 177.
(7)
المنجد / المفصل في الالفاظ الفارسية ص 120.
وغير ذلك من الالفاظ كثير - والصحابة استعاروا لفظ " دهقان " وهو بالفارسية يعني رئيس الفلاحين أو رئيس القرية، وقد أقر هذا المصطلح عمر بن الخطاب (1) وعلي بن أبي طالب (2)، ولفظ " طسق " وهو الخراج فقد ورد على لسان عمر بن الخطاب (3) ثم على لسان عبد الله بن مسعود قوله:" من أقر بالطسق فقد أقر بالذل والصغار (4) ، ولفظ " بيشارجات " وهو فارسي عامي وفصيحه فيشارجات (5) وهو ما يقدم قبل الطعام، قال علي بن أبي طالب: البيشارجات تعظم البطن، ولفظ " الباج " وأصله بالفارسية " باها " وهو ألوان الطعام (6) قال علي ابن أبي طالب: اجمعوا الهدايا واجعلوها باجا " واحدا " (7) وأول من تكلم بها في العربية عثمان بن عفان (8) .
وتابع الفقهاء القرآن والسنة والرعيل الاول من الصحابة في استعارة ألفاظ من اللغات الاخرى، وجعلها مصطلحات تعبر عن معاني محددة في التصور الاسلامي، فكان مما استعاروه في الفقه: السفتجه، والكدك، وده بيازده، والسوكرة وغيرها من الالفاظ، لا يرون بذلك بأسا طالما قد سبقهم إلى ذلك من هو خير منهم.
ج - توليد كلمات جديدة من أصول عربية عن طريق تعديل الصيغة العربية لها على الاوزان الصرفية المعروفة للتعبير عن دلالات معينة، وما أكثر ما صنع هذا القرآن والسنة وأصحاب رسول الله، والفقهاء الذين أتوا من بعدهم، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر: إطلاق الاستمتاع على الوطئ * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) * واطلاق الاستفتاح على الدعاء المخصوص الذي يقرأ بعد التحريمة في الصلاة واطلاق الاستيلاد على اتخاذ الامة للوطئ طلبا للولد.
واطلاق المبتوتة على المرأة المطلقة طلاقا باثنا ".
(1) انظر قلعه جي / موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة: جزية / 3 ج 2 (2) انظر قلعه جي / موسوعة فقه علي بن ابي طالب مادة: جزية / 5 طبع دار الفكر بدمشق.
(3)
انظر قلعه جي / موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة: خراج / 3 ب (4) انظر قلعه جي / موسوعة عبد الله بن مسعود مادة: أرض / 1 ج طبع جامعة أم القرى.
(5)
الجواليقي / المعرب ص 252.
(6)
نفسه ص 121.
(7)
معجم البلدان 1 / 453.
(8)
الجواليقى / المعرب ص 121.
واطلاق المبعض على العبد الذي اعتق بعضه وبقي بعضه الاخر رقيقا.
واطلاق المحاقلة على بيع الحب في سنبله.
واطلاق المرابطة على الاقامة في الثغور في مقابلة العدو حراسة له من الغدر.
د - النحت: ونقصد بالنحت أن تأتي إلى كلمتين أو اكثر فتنحت من كل واحدة حرفا أو أكثر ثم تصنع من هذه الحروف كلمة جديدة.
وقد وقع النحت في المصطلحات الاسلامية على ألسنة الفقهاء، ومن ذلك البسملة: قول " بسم الله الرحمن الرحيم ".
الحوقلة: قول " لا حول ولا قوة الا بالله ".
الحيعلة: حي على الصلاة.
الحيعلتان: قول " حي على الصلاة، حي على الفلاح " في الاذان.
ورغم أن الفقهاء لم يتوسعوا في النحت، إلا أنهم استخدموه.
هـ النقل: ونعني بالنقل: نقل اللفظ العربي من معنى إلى معنى آخر، كنقل لفظ الزكاة من معنى النماء إلى معنى آخر هو أداء مقدار خصوص من مال مخصوص لصرفه في مصارف
مخصوصة، فيقال للمعنى الاصلي - النماء - لكلمة زكاة: المعنى اللغوي، ويقال للمعنى الذي نقل اللفظ إليه: المعنى الاصطلاحي، ويقال اللفظ المنقول: المصطلح وما أكثر ما وقع النقل في العربية بعد مجئ الاسلام، فقد كان يكفي وجود أدنى مناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي حتى يتم نقل اللفظ إليه كما سيتبين ذلك واضحا " في هذا المعجم إن شاء الله قال ابن فارس: " فكان مما جاء في الاسلام ذكر المؤمن والمسلم والكافر والمنافق، وأن العرب إنما عرفت المؤمن من الامان والايمان (1) وهو التصديق، ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافا بها سمي المؤمن بالاطلاق مؤمنا وكذلك الاسلام والمسلم، وإنما عرفت منه إسلام الشئ، ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلا الغطاء والستر فأما المنافق فاسم جاء به الاسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه، وكان الاصل من نافقاء اليربوع (2) ولم يعرفوا
(1) لعل الاصل: من الامان أو الايمان وهو التصديق لان الامان - بمعنى الامن - غير الايمان كما هو معروف (2) في اللسان: سمي المنافق منافقا " لانه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه
في الفسق إلا قولهم: فسقت الرطبة (1) إذا خرجت من قشرها، وجاء الشرع بأن الفسق: الا فحاش في الخروج عن طاعة الله - عزوجل - ومما جاء في الشرع الصلاة، وأصله في لغتهم الدعاء وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود وإن لم يكن على هذه الهيئة قال النابغة الذبياني: أو درة صدفية غواصها * بهج متى يرها يهل ويسجد وقال أبو عمرو: أسجد الرجل: طأطأ رأسه وانحنى وأنشد: * أسجد لليلي فأسجدا * (2) يعني البعير إذا طأطأ رأسه لتركبه وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما مأتت به
الشريعة من الاعداد والمواقيت والتحريم للصلاة والتحليل منها وكذلك الصيام أصله عندهم الامساك ويقول شاعرهم (3) خيل صيام وأخرى غير صائمة * تحت العجاج، وخيل تعلك اللجما ثم زادت الشريعة النية وحظرت الاكل والمباشرة، وغير ذلك من شرائع الصوم وكذلك الحج لم يكن عندهم فيه غير القصد وسبر الجراح (4) ، من ذلك قولهم (5) وأشهد من عوف حلولا كثيرة * يحجون سبب الزبرقان المزعفرا ثم زادت الشريعة ما زادته من شرائط الحج وشعائره وكذلك الزكاة لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النماء، وزاد الشرع ما زاد فيها مما لا وجه لا طالة الباب بذكره، وعلى هذا سائر ما تركنا ذكره من العمرة والجهاد وسائر أبواب الفقه فالوجه في هذا إذا سئل الانسان عنه أن يقول: " في الصلاة اسمان لغوي وشرعي، ويذكر ما كانت العرب تعرفه ثم ما جاء به الاسلام (6) اه
(1) في الاصل المطبوع الرطبة بسكون الطاء والاصح فتحها كما في اللسان مادة (ف س ق)(2) شطر البيت من إنشاد أبي عبيد (اللسان)(3) البيت وارد في (اللسان) منسوبا للنابغة الذبياني وهو في ديوانه (4) البيت وارد في (اللسان) منسوبا للمخبل السعدي القريعي التميمي، وهو شاعر مجيد مخضرم (5) يقال حج الشجة إذا سبرها بالميل ليعالجها (انظر معجمات اللغة)(6) الصاحبي لابن فارس ص 79
والمتتبع لهذه الالفاظ المنقولة يجدها كلها وقعت في الاسماء دون الافعال والحروف، قال الامام فخر الدين الرازي: " وقع النقل من الشارع في الاسماء دون الافعال والحروف، فلم يوجد النقل فيهما بطريق الاصالة بالاستقراء بل بطريق التبعية، فإن الصلاة تستلزم: صلى (1) اه أقول: ولذلك رتبنا معجمنا هذا على الاسماء دون الافعال
وطالما أن باب النقل ما زال مفتوحا " لانه لا يمكن أن يغلق - كما قررنا سابقا " - فقد أبحنا لانفسنا نقل بعض الالفاظ - المصطلحات - إلى معان اصطلاحية مستجدة، كما فعلنا مثلا في مصطلح " إشعار " عندما أطلقناه على الاعلام الرسمي المكتوب الموجه من جهة رسمية وفي مصطلح " استيلاد " عندما اطلقناه على التلقيح الصناعي لصنوف الحيوانات وفي مصطلح " إشاعة " عندما أطلقناه على نشر كلام لا أصل له وغير ذلك من المصطلحات الحديثة وحسبنا ما قدمنا بين يدي " معجم لغة الفقهاء " فإن أصبنا فذلك من نعم الله علينا، وإن أخطأنا فمن أنفسنا، والله من وراء القصد د حامد صادق قنيبي
(1) السيوطي ر المزهر ص 299