المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقتطفات من مقال الخيط الناظم في كتاب الله - مقالات موقع الدرر السنية - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌من روائع المقالات القديمة

- ‌السياسة الرشيدة في الإسلام

- ‌تهيئة الشرق لوراثة الحضارات والمدنيات

- ‌حالة المسلمين

- ‌وحي القبور

- ‌المرأة المسلمة

- ‌نحن المسلمين

- ‌الصراع بين الإسلام وأعدائه

- ‌الغيرة على الحقائق والمصالح

- ‌الدعوة إلى الحق

- ‌كلمة الحق

- ‌المدنية المادية

- ‌الحضارة المتبرجة

- ‌الفتح الإسلامي

- ‌عِظَم الهمة

- ‌محاورة دينية اجتماعية (1/ 2)

- ‌محاورة دينية اجتماعية (2/ 2)

- ‌لماذا نحج

- ‌من ذكريات الحج

- ‌تهنئة وترحيب إلى الحجاج الكرام

- ‌لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها

- ‌دولة الكلام المبطلة الظالمة

- ‌أبصر طريقك

- ‌أصول سعادة الأمة

- ‌لا قوة إلا قوة الحق ولا مجد إلا مجد التضحية *

- ‌السعادة

- ‌أعيادنا بين العادة والعبادة

- ‌الصيام

- ‌معنى الصوم

- ‌عبادة الأحرار

- ‌فضل شهر رمضان

- ‌العجيبة الثامنة

- ‌ويلك آمن

- ‌النبوغ

- ‌العلماء والإصلاح

- ‌العلم وعلو الهمَّة

- ‌لمن أكتب

- ‌شرعة الحرب في الإسلام

- ‌سنن الاجتماع

- ‌ريع اللصوص

- ‌صدق العزيمة - أو قوة الإرادة

- ‌أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة (1/ 2)

- ‌أثر الدعوة المحمدية في الحرية والمساواة (2/ 2)

- ‌حقوق المال في الإسلام

- ‌نهجُ الأحرارِ من قديم

- ‌ضريبة الذل (يا ليت قومي يعلمون)

- ‌سماحة الإسلام

- ‌بيان أن سعادة الأمة في التهذيب

- ‌أصلح نظام لتسيير العالم الإنساني اليوم هو الإسلام

- ‌إلى علماء الأزهر

- ‌الاستبداد يشل القوى

- ‌الحرية

- ‌إباءة الضيم

- ‌يوم البعث

- ‌موت الأمم وحياتها

- ‌مقالات مميزة

- ‌السلفيون ليسوا وحدهم

- ‌خلط الإسلام بالديمقراطية إساءة كبيرة للإسلام

- ‌تلميذ يحكي أحوال شيخه

- ‌سيادة القهر

- ‌مقتطفات من مقال مفاتيح السياسة الشرعية

- ‌ليبرالية بقشرة إسلامية

- ‌سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة (1)

- ‌على هامش سجال "السيادة

- ‌من ربقة الحرية إلى نعمة العبودية

- ‌سيادة الشريعة .. (الحد الفاصل بين الإسلام والعلمانية)

- ‌فوز حركة النهضة والمفاهيم الإسلامية

- ‌نداء إلى أهل ليبيا

- ‌مقتطفات من مقال الخيط الناظم في كتاب الله

- ‌عضوية المرأة للشورى .. تأصيل وتنزيل

- ‌الأسد، هل يوشك على السقوط

- ‌الانتفاضات التي حيرت الغرب

- ‌تمثيل الأنبياء كفر وتمثيل الصحابة وغيرهم من سادات الأمة حرام

- ‌عندما تصبح السماحة وثناً

- ‌البيان الثالث بشأن مجازر النظام السوري ضد شعبه

- ‌تمثيل الصحابة" مرة أخرى

- ‌التحذير من شهوات الفكر المهلكة

- ‌مسلسل الحسن والحسين ومعاوية - رؤية فنية شرعية

- ‌بيان الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح

- ‌الحياد الأجوف

- ‌هلْ واحدٌ منْ بينكمْ يعرفُ معنى الشَّام

- ‌رسالة من رابطة علماء المسلمين إلى الشعب التونسي

- ‌حمى الضنك الفكري

- ‌وجوه سلفية

- ‌البيان الثاني بشأن الأحداث في سوريا

- ‌البيان الثالث من رابطة علماء المسلمين

- ‌نحو تأصيل فكري للممانعة المجتمعية

- ‌هل للمرأة حقٌّ في قيادةِ السَّيَّارة

- ‌السلفية…منهج، أم جماعة

- ‌الحِمْيَة الفكرية

- ‌فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌مشاريع الإثارة…قيادة المرأة أنموذجاً

- ‌قراءة في الفكر التنويري

- ‌لماذا يرفض العلماء مشروع قيادة المرأة للسيارة

- ‌قيادة المرأة…حتى تُفهم

- ‌قيادة المرأة للسيارة .. مناقشة ليبرالية

- ‌الاستبدادان

- ‌التشغيب على المحكمات والثوابت

- ‌بيان من رابطة علماء المسلمين عن الأوضاع في سوريا

- ‌قصة الغرب و"الآخر

- ‌نكوص الهداة

- ‌ملوك الأرض أهل الرفض

- ‌بيان بشأن جرائم النظام السوري ضد إخواننا في سوريا

- ‌المخزون السياسي في الشريعة

- ‌حجاب الفقراء

- ‌للذين يسألون أين المشروع السلفي

- ‌الثبات يا شعب ليبيا

- ‌حديث عن المستقبل

- ‌التعامل مع المبتدعة في مقام الدعوة

- ‌بيان بشأن أحداث البحرين

- ‌البيان الختامي للمؤتمر الأول لرابطة علماء المسلمين

- ‌العلماء .. وقصور الرسالة

- ‌إضاءات في طريق البناء الفكري المتوازن

- ‌تهافت الفراعنة

- ‌نظرة واقعية في أحداث ليبيا

- ‌بيان حول أحداث ليبيا

- ‌بيان العلماء والدعاة في أحداث مصر وتونس

- ‌بيان حول أحداث البحرين

- ‌توحيد القلوب أولى من الحكم على صدَّام

- ‌الرد على من زعم جواز التبرك بالآثار النبوية المكانية

- ‌وقفات مع موضوع المسعى الجديد

- ‌في الأحداث عبرة - رؤية منهجية

- ‌غداً سأحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌بيان من الهيئة الشرعية لحماية الحقوق والحريات بشأن الأحداث

- ‌نظرة شرعية في الأحداث الراهنة

- ‌الثورة على الظلم والعلمانية

- ‌على هامش أحداث تونس

- ‌التسربات الفكرية

- ‌عفواً يا شيخ سلمان، إنه رسول الله

- ‌رابطة علماء أهل السنة تهنئ شعب تونس

- ‌بيان رابطة علماء المسلمين بشأن أحداث تونس

- ‌من تجديد الفقه إلى تجديد الفقيه

- ‌المدخل الفقهي للمشروع التغريبي

- ‌بيان حول تمثيل شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم وجميع

- ‌شيوخ بني أمية "طبعة جديدة

- ‌مستقبل السودان بعد الانفصال

- ‌حلقات التحفيظ .. توقف وعودة

- ‌ولا تهنوا

- ‌هوس التفسير السياسي

- ‌مقاصد المحتسبين

- ‌وثائق ويكيليكس .. صيد ثمين أم طعم مثير

- ‌الانقلاب على المنهج .. الأسباب والعلاج

- ‌المسلمون إرهابيون .. عدا %99.6 منهم

- ‌بيان آل البيت النبوي من أهل الحرمين الشريفين في الدفاع عن الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين وإعلان حقيقة مذهبهم قديما وحديثا في تعظيم وإجلال الأزواج والأصحاب

- ‌فقه التيسير: الواجهة الخلفية للعصرانية

- ‌الحسابات الجارية - حقيقتها وتكييفها

- ‌المدخل المنهجي في التعامل مع جيل الصحابة

- ‌إيقاف القنوات الإسلامية…الأسباب والحلول

- ‌لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة

- ‌البُقْعَة التَّنْويريَّة

- ‌قراءة بين سطور كرة الثلج التنويرية

- ‌ازدواجية ليبرالية: فضائح ملا وقس وحاخام .. وزلة شيخ

- ‌تلطف ولا تدهن

- ‌الأخطاء التاريخية والمنهجية في مؤلفات محمد أركون ومحمد عابد الجابري

- ‌تقرير مصير السودان…لا مصير الجنوب

- ‌بيان من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌فلسفة عمل المرأة

- ‌(ميبي) مشروع هيمني أمريكي في الوطن العربي

- ‌القلق الفكري

- ‌محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة - رؤية تأصيلية

- ‌الفتوى وتغيير المجتمعات

الفصل: ‌مقتطفات من مقال الخيط الناظم في كتاب الله

‌مقتطفات من مقال الخيط الناظم في كتاب الله

إبراهيم بن عمر السكران

22 ذو القعدة 1432هـ

الحمدلله وبعد،،

هذه ليست ورقة بحثية، ولا مقالة منظمة، ولا حتى خاطرة أدبية، كلا، ليست شيئاً من ذلك كله، وإنما هي (همٌ نفسي شخصي) قررت أن أبوح به لأحبائي وإخواني، فهذه التي بين يديك هي أشبه بورقة "اعتراف" تطوى في سجلات الحزانى .. اقرأها ثم امحها من جهازك إن شئت ..

هذا الإحباط النفسي الذي يجرفني ليس وليد هذه الأيام، وإنما استولى علي منذ سنوات، لكن نفوذه مازال يتعاظم في داخلي ..

صحيح أنني أحياناً كثيرة أنسى في اكتظاظ مهام الحياة اليومية هذه القضية، لكن كلما خيّم الليل، وحانت ساعة الإخلاد إلى الفراش، ووضعت رأسي على الوسادة، وأخذت أسترجع شريط اليوم ينبعث لهيب الألم من جديد .. ويضطرم جمر الإحباط حياً جذعاً ..

ثمة قضية كبرى وأولوية قصوى يجب أن أقوم بها ومع ذلك لازالت ساعات يومي تتصرم دون تنفيذ هذه المهمة .. لماذا تذهب السنون تلو السنون ولازلت أفشل في التنفيذ؟ لماذا تكون المهمة أمام عيني في غاية الوضوح ومع ذلك أفلس في القيام بها؟ ويزداد الألم حين أتأمل في كثير من الناس من حولي فلا أرى فيهم إلا بعداً عن هذا القضية، إلا من رحم الله .. مجالس اجتماعية احضرها تذهب كلها بعيداً عن "الأولوية القصوى" .. وأتصفح منتديات انترنتية وصفحات تواصل اجتماعي (فيسبوك وتويتر) تمتلئ بآلاف التعليقات يومياً .. وأكثرها منهمك في أمور بعيدة عن "الأولوية القصوى" إلا من رحم الله .. وأطالع كتباً فكرية تقذف بها دور النشر وتفرشها أمامك معارض الكتب وغالبها معصوب العينين عن "الأولوية القصوى".

فإذا أعدت كل مساء استحضار واقعي اليومي، وواقع كثير من الناس من حولي؛ تنفست الحسرات وأخذت أتجرع مرارتها .. وأتساءل: لِم؟ لِم هذا كله؟ متى تنتهي هذه المأساة؟

دعني ألخص لك كل الحكاية .. في كل مرةٍ أتأمل فيها القرآن أشعر أنني لازلت بعيداً عن جوهر مراد الله .. مركز القرآن الذي تدور حوله قضاياه لازلت أشعر بالمسافة الكبيرة بيني وبينها ..

يذكر الله في القرآن أموراً كثيرة .. يذكر تعالى ذاته المقدسة بأوصاف الجلال الإلهية، ويذكر الله في القرآن مشاهد القيامة من جنة ونار ومحشر ونحوها، ويذكر أخبار الأنبياء وأخبار الطغاة وأخبار الصالحين وأخبار الأمم سيما بنو اسرائيل وتصرفاتهم، ويذكر تشريعات عملية في العبادات والمعاملات، الخ وفي كل هذه القضايا ثمة خيط ناظم يربط كل هذه القضايا .. تتعدد الموضوعات في القرآن لكن هذا الخيط الناظم هو هو .. هذه القضية التي يدور حولها القرآن ويربط كل شيء بها هي "عمارة النفوس بالله".

ومن أعجب مواضع القرآن في ربط النفوس بالله وعمارتها بربها، ولا أظن أن ثمة دلالة أكثر من ذلك على هذا الأمر:(صلاة الخوف حال الحرب)، هذه الشعيرة تسكب عندها عبرات المتدبرين

وقد تكفل القرآن ذاته بشرح صفتها، وجاءت في السنة على سبعة أوجه معروفة تفاصيلها في كتب الفقه .. بالله عليك تخيل المسلم وقد لبس لأمة الحرب، وصار على خط المواجهة، والعدو يتربص، والنفوس مضطربة قلقة، والأزيز يمخر الأجواء، والدم تحت الأرجل .. ومع ذلك لم يقل الله دعوا الصلاة حتى تنتهوا، بل لم يقل دعوا "صلاة الجماعة"! وإنما شرح لهم كيف يصلوا جماعة في هذه اللحظات العصيبة (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)[النساء، 102]. .

ص: 133

هل تعرف في الدنيا كلها شاهد على حب وتعظيم الله جل وعلا للارتباط بالله واستمرار مناجاته أكثر من ذلك .. بل هل يوجد رجل فيه شئ من الورع وخوف الله يهمل صلاة الجماعة وهو في حال الأمن والرفاهية وعصر وسائل الراحة؛ وهو يرى ربه تعالى يطلب من المقاتلين صلاة الجماعة ويشرح لهم تفاصيل صفتها بدقة، وهم تحت احتمالات القصف والإغارة؟!

هل تستيقظ نفوس افترشت سجاداتها في غرفها ومكاتبها تصلي "آحاداً" لتتأمل كيف يطلب الله صلاة "الجماعة" بين السيوف والسهام والدروع والخنادق .. ؟!

أترى الله يأمر المقاتل الخائف المخاطر بصلاة الجماعة، ويشرح له صفتها في كتابه، ويعذر المضطجعين تحت الفضائيات، والمتربعين فوق مكاتب الشركات؟! هل تأتي شريعة الله الموافقة للعقول بمثل ذلك؟!

ومن اللطيف أن الآية التي أعقبت الآية السابقة تكلمت عن حال إتمام الصلاة، حسناً .. نحن عرفنا الآن من الآية السابقة صفة الصلاة لحظة احتدام الصفين، فما هو التوجيه الذي سيقدمه القرآن بعد الانقضاء من الصلاة؟ يقول تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)[النساء، 103] ياسبحان ربي .. الآن انتهى المقاتل من صلاة الجماعة، فيرشده القرآن لاستمرار ذكر الله .. هل انتهى الأمر هاهنا؟ لا، لم ينته الأمر بعد، فقد واصلت الآية الحديث عن انتهاء حالة الخوف، وبدء حالة الاطمئنان، ويتصل الكلام مرةً أخرى لربط النفوس بالله (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)[النساء، 103].

.

ربما لو جلست مجلساً وسألت من فيه ما هو تعريف "الصحبة الصالحة"؟ لربما طافت بك التعريفات في صفات دنيوية، وخصوصاً بعد غلبة المنظور الغربي لمفهوم (تطوير الذات) فصارت تسري في مفاصل هذه الكتب المعايير المادية في النظرة للحياة والنجاح .. لكن متدبر القرآن يجد في سورة الكهف تعريفاً مدهشاً للصحبة الصالحة، يقول الله تبارك وتعالى لنبيه:

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)[الكهف، 28]

سألتك بالذي خلقك هل تجد اليوم في خطاباتنا الفكرية والنهضوية من يعرّف الشخصية المتميزة بهذا التعريف؟! انظر كيف تحدد سورة الكهف "خاصية" الشخص المتميز .. إنه الذي "يدعوا ربه بالغداة والعشي" .. واخجلاه من زمانٍ صرنا نستحي فيه من حقائق القرآن!

ولما كلف الله موسى صلى الله عليه وسلم بالرسالة، طلب موسى من الله أن يجعل له وزيراً يعينه على مهمة الرسالة وهو أخوه هارون، لكن ما هو المقصود الأبعد من هذا التعاون والتعاضد بين الأخوين؟ شاهد كيف يشرح موسى وظيفة الاستعانة بأخيه هارون في سورة طه:

(واجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا)[طه، 29 - 34]

أظنك لاحظت هذا الحضور العجيب لـ (ذكر الله) في بنية الرسالة، موسى يقول لربه اجعل معي هارون كي نسبحك ونذكرك كثيرا! من أجل التسبيح والذكر!

هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ لا، بل إن الله تعالى يرسل موسى وهارون إلى فرعون ويوصيهما مرةً أخرى بلهج اللسان بذكر الله، فيقول الله في نفس السورة، سورة طه، بعد الموضع السابق بآيات معدودة:

(ذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي)[طه، 42]

ص: 134

موسى يريد توزير أخيه ليتعاونا على تسبيح الله وذكره، وربهما يرسلهما ويقول لا تنيا أي لا تفترا ولا تضعفا ولا تكسلا عن ذكري .. لاحظ المهمة الجسيمة التي سيتحملانها وهي مواجهة أعتى نظام مستبد في التاريخ بما يستفز كبرياءه، ومع ذلك يقول الله لهما "ولا تنيا في ذكري" ..

لو قدّم اليوم بعض الدعاة نصيحة للثوار على الحكومات العربية الفاسدة بأن يكثروا من (ذكر الله) لعدّ كثير من المستغربين ذلك دروشة وسذاجة! برغم أن موسى يجعل ذكر الله مظلةّ لمهمته الكبرى، والله جل جلاله يؤكد عليهما بأن لا يفترا عن الذكر .. فما أكثر الشواهد المعاصرة على غُربة مفاهيم القرآن، وبعد كثير من شباب المسلمين عنها إلا من وفق الله.

..

وقد انعكست هذه الهدايات القرآنية على تعاليم سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم فنبهت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على انكباب القلوب على الله جل وعلا، وأظن من أكثرها لفتاً للانتباه الحديث الشهير الذي رواه البخاري ومسلم عن السبعة اللذين يفوزون بظل الله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم (ورجل قلبه معلق في المساجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه)[البخاري660، مسلم1031].

شاهد كيف يربي النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه التعلق بالمسجد، وقارنه ببعض المنتسبين للدعوة الذي صاروا يعلقون الناس بما هو خارج المسجد!

قارن الخطاب النبوي بمنتسبين للدعوة صاروا من الزاهدين في سكينة المساجد، المولعين بصخب الدنيا ..

وهذا المعنى الذي تواردت عليه معاني القرآن -كما رأينا نماذجه سابقاً- هو خاصة التوحيد الذي دارت عليه عبارات متألهي السلف وربانييهم، وما أحسن قول أبي العباس ابن تيمية رحمه الله:

(والمقصود هنا أن الخليلين -محمد وإبراهيم- هما أكمل خاصة الخاصة توحيداً .. ، وكمال توحيدهما بتحقيق إفراد الألوهية، وهو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلاً)[ابن تيمية، منهاج السنة، 5/ 355].

يا الله .. ما أجمل هذا المعنى .. اللهم لا تجعل في قلبي وقلوب إخواني شيء لغيرك أصلاً ..

لقد جبلت النفوس البشرية على التعلق بالدنيا، والغفلة عن الآخرة، لذلك جاءت آيات القرآن فجعلت الأصل في الخطاب الدعوي ربط الناس بالآخرة، والتبع هو التأكيد على أهمية إعداد القوة، هذه نزعة ظاهرة في القرآن والسنة ووصايا السلف .. ولكن للأسف جاءتنا خطابات دعوية مادية أرهقتها مواجهة التغريب فانكسرت وتشربت ثقافة الخصم ذاته، وصارت منهمكة في تذكير الناس بالدنيا، وجعلت التبع هو الآخرة .. خطابات لم تعد تستحي أن تقول مشكلة المسلمين في نقص دنياهم لا نقص دينهم! ولكن لا يزال -ولله الحمد- من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.

إن الدعاة إلى الله الذي يحاولون دوماً توظيف الأحداث للتذكير بالله هؤلاء أعلم الناس بحقائق كتاب الله، وإن أولئك المفتونين الذين يسخرون من ربط الأحداث بالله، ويسمون ذلك (المبالغة في تديين الحياة العامة) تشويهاً لهذا الدور النبيل؛ هؤلاء هم أجهل الناس بدين الله الذي وضحه في كتابه ببيان هو في غاية البيان ..

وإذا تشبع قلب متدبر القرآن بهذه الحقيقة الكبرى الناظمة للآلئ القرآن أثمرت له في نفسه عجائب الإيمان .. وأصبح لا يساكن قلبه غير الله جل جلاله .. وبرأ قلبه من الحول والقوة إلا بالله سبحانه .. وصار ينزل حاجاته بالله .. واصبح يشعر برياح القوة والإمداد الإلهي كما نقل الإمام ابن تيمية (ولهذا قال بعض السلف "من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله")[الفتاوى، 10/ 33].

ص: 135

فلا يلتفت القلب للأسباب في طلب الرزق، أو البحث عن مسكن، أو البحث عن وظيفة، أو طلب العلم، أو طلب الإيمان، أو طلب الصحة والعافية، أو طلب الإفراج من اعتقال، أو طلب نجاح ثورة .. بل يصعد القلب إلى الله، ويجتهد في عمل القلب، ويقتصد في الأسباب بالقدر الشرعي ..

لم أعد أشك أن أقوى الثورات هي ثورة توكل مناضلوها على الله .. وأضعف الثورات هي ثورة تعلقت قلوب مناضليها بالبيت الأبيض .. حتى لو كانت الحسابات المادية تعطي خلاف ذلك، فأهل الإيمان لهم معايير صادقة زكاها القرآن .. والله يقول في ثلاث مواضع من كتابه في الأعراف والقصص وهود:(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

وهل يشك من قارن بين مطالب القرآن، والكتب الفكرية المعاصرة التي تتحدث عن النهضة والتقدم؛ أننا لا زلنا بعيدين عن النهضة والحضارة بحجم بعد هذه الكتب الفكرية النهضوية عن أهداف وغايات ومطالب القرآن ..

بالله عليك هل رأيت كتاباً فكرياً نهضوياً ينطلق في نظريته للنهضة من (آيات التمكين والاستخلاف)؟

على أية حال .. لقد بيّن الله لنا مراده في القرآن غاية البيان، وأوضح لنا مطالبه الكبرى في كتابه بصنوف البينات، والعُمْر يركض على شفير القبر، فما أقرب الساعة التي سيسألنا الله جميعاً عن تحقيق مراده، وسيكون السؤال حينها على (أساس القرآن) يقول الله:(قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ)[المؤمنون، 66]

ويقول سبحانه (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ)[المؤمنون، 105]

ويقول أيضاً (أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ)[الجاثية، 31]

فتأمل كيف ستنظم الحياة المستقبلية على أساس القرآن .. ولينظر كلٌ منا ما هو أساس حياته؟!

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

ص: 136