المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌مقدمة المحقق الحمد لله الذي أعطى كل نفس - مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا

[الجلال السيوطي]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌مقدمة المحقق الحمد لله الذي أعطى كل نفس

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة المحقق

الحمد لله الذي أعطى كل نفس خلقها، وهداها فجورها وتقواها، وألهمها وعافاها وأماتها وأحياها وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أرسله رحمة على من زكّاها ونقمة على من دسّاها لقوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} الآية صلى الله عليه وعلى آله صلاة دائمة إلى يوم نشرها وبشراها.

أما بعد:

اعلم أن أعدل أمزجة الحيوان مزاج الِإنسان، وأعدل مزاج الِإنسان مزاج المؤمنين، وأعدل المؤمنين مزاجًا مزاج الأنبياء، وأعدل الأنبياء مزاجًا مزاج الرسل، وأعدل الرسل مزاجًا مزاج أولي العزم، وأعدل أولي العزم مزاجًا مزاج سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

والسبب الذي صار رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدل الخلق مزاجًا. فإن قاعدة الأطباء أن أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن فكلما كانت أخلاق النفس أحسن كان مزاج البدن أعدل. وكانت أخلاق النفس أحسن. إذا أعلم ذلك، والحق سبحانه وتعالى قد شهد لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه على خلق عظيم. قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فلزم من ذلك أن مزاجه أعدل الأمزجة وكانت أخلاقه أحسن الأخلاق.

ص: 5

روى البخاري في صحيحه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا وأحسنهم خلقًا وقال خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط لا لشىء صنعته ولا لشىء تركته لم تركته.

وقال ابن عمر: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا وكان يقول خياركم أحسنكم أخلاقًا.

وروى البخاري: أن اعرابيًا جذبه برداء عن عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة شديدة حتى أثر ذلك في عنقه ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء. فهو النبي الطاهر المطهر أحسن الناس خَلقًا وخُلقًا صلى الله عليه وسلم وعلى آله صلاة دائمة.

وقد عرف له قبل الوحي خلق الخير والزكاء ومجانبة المذمومات والرجس أجمع وهذا هو معنى العصمة وكأنه مفطور على التنزه عن المذمومات والمنافرة لها وكأنها منافية لجبلته وفي الصحيح أنه حمل الحجارة وهو غلام مع عمه العباس لبناء الكعبة فجعلها في إزاره فانكشف فسقط مغشياً عليه حتى استتر في إزاره.

ودعي إلى مجتمع وليمة فيها عرس ولعب فأصابه غشى النوم إلى أن طلعت الشمس ولم يحضر شيئاً من شأنهم بل نزهه الله عن ذلك كله حتى إنه بجبلته يتنزه عن المطعومات المستكرهة فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يقرب البصل والثوم فقيل له في ذلك فقال إني أناجي من لا تناجون. وانظر لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها بحال الوحي أول ما فجأته وأرادت اختباره فقالت اجعلني بينك وبين ثوبك فلما فعل ذلك ذهب عنه فقالت: إنه ملك وليس بشيطان معناه أنه لا يقرب النساء.

وكذلك سألته عن أحب الثياب إليه أن يأتيه فيها فقال البياض والخضرة فقالت: إنه الملك يعني أن البياض والخضرة من ألوان الخير والملائكة والسواد من ألوان الشر والشياطين وأمثال ذلك.

ص: 6

وقد استدلت خديجة رضي الله عنها على صدقه صلى الله عليه وسلم بدعائه إلى الدين والعبادة من الصلاة والصدقة والعفاف وكذلك أبو بكر ولم يحتاجا في أمره إلى دليل خارج عن حاله وخلقه وفي الصحيح أن هرقل حين جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الِإسلام أحضر من وجده ببلدة من قريش وفيهم أبو سفيان ليسألهم عن حاله فكان فيما سأل أن قال: بم يأمركم فقال أبو سفيان: بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف إلى آخر ما سأل فأجابه، فقال إن يكن ما تقول حقًا فهو نبي وسيملك ما تحت قدمي هاتين. والعفاف الذي أشار إليه أبو سفيان هو العصمة، فانظر كيف أخذ هرقل من العصمة والدعاء إلى الدين والعبادة دليلًا على صحة نبوءته ولم يحتج إلى معجزة فدل على أن ذلك من علامات النبوءة.

وإذا تقرر هذا فاعلم أن أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالة القرآن الكريم المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ما من نبي من الأنبياء إلا وأتي من الآيات ما مثله أمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي إليَّ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة وهو كونها نفس الوحي كان الصدق لها أكثر لوضوحها فكثر المصدق المؤمن وهو التابع والأمة.

فكما اعتنى العلماء بالقرآن بعدما وجدوه بحرًا لا تنقضي عجائبه. وطودًا شامخًا لا تتناول غرائبه. ووجدوا له فروعًا لا تحصى فنونه ولا تستقى، كذلك لم يألُ جهدًا في توجيه جهودهم بالبحث والتمحيص في معرفة السيرة النبوية المطهرة من القرآن وكتب السنة حتى جمعوا صورة مبينة رفيعة تهدي الأمة إلى كيفية التأسي به صلى الله عليه وسلم في كل شأن وكل جانب من جوانب الحياة الدينية والدنيوية.

فينبغي لكل فرد من الأمة أن يعرف حال نبيه ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة مناقبه وشمائله وفضائله وسيرته في أحواله وأقواله.

ثم إنه لا بد من معرفة اسمه وكنيته ونسبه وعصره وبلده ثم معرفة أصحابه.

ص: 7

وقد عكف كثير من العلماء على تأليف الكتب في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره كما فعل البيهقي وأبو نعيم في دلائلهما وابن سعد في طبقاته وغيرهم.

وأما كتاب القاضي الشفا فقد أبدع فيه كل الِإبداع وسلم له أكفاؤه وكفاءته فيه ولم ينازعه أحد في الانفراد ولا أنكروا مزية السبق إليه بل تشوقوا للوقوف عليه وأنصفوا في الاستفادة منه وحمله الناس عنه وطارت نسخه شرقًا وغربًا.

وقد ذكر ابن المقري اليمني الشافعي رحمه الله في ديوانه، أن كتاب الشفاء مما شوهدت بركته وكان قد ابتلي بمرض فقرأه فعافاه الله منه وقال في ذلك:

ما بالكتاب هواي لكن الهوى

أمس بما أمسى به مكتوبا

كالدر يهوى العاشقون بذكرها

شغفًا بها لشمولها المحبوبا

أرجو الشفاء تفاؤلًا باسم الشفا

فحوى الشفاء وأدرك المطلوبا

وبقدر حسن الظن ينتفع الفتى

لا سيما ظن يصير مجيبا

هذا في كتاب الشفاء بعض الأحاديث الضعيفة ولم يذكر من الموضوع إلا شفا وقد نبه على ذلك كله الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا. وقد مدحه بعض الأدباء بقوله:

عوضت جنات عدن عياض

عن الشفا الذي ألفته عوض

جمعت فيه أحاديثاً مصححة

فهو الشفاء لمن في قلبه مرض

الشيخ سمير القاضي مركز الخدمات والأبحاث الثقافية

ص: 8