الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن آياته
كلام الحيوانات وطاعتها له صلى الله عليه وسلم
- فمن ذلك سجود الجمل، وشكواه إليه.
وقد ورد في هذا المعنى عدة أحاديث من طرق تدل على تعدد القصة.
ومن ذلك قصة الذئب.
أخرج الإمام أحمد بسند جيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «عدا الذئب على شاة، فأخذها، فطلبه الراعي فأخذها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: ألا تتقي الله، تنزع مني رزقا ساقه الله إلي. فقال الراعي: يا عجبا! ذئب مقع على ذنبه يكلمني بكلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه، حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره»
…
الحديث.
واعلم أن قصة كلام الذئب جاءت من عدة طرق - أيضا - من حديث أبي هريرة، وأنس، وابن عمر، وجاءت أحاديث - أيضا - في كلام الحمار وكلام الضب وكلام الغزالة، ولكن لا تخلو أسانيدها عن مقال.
ومن آياته نبع الماء من بين أصابعه، صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: قصة نبع الماء من بين أصابعه قد تكررت في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة، يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي، ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا، فتفجرت منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم ". انتهى.
وقد روي حديث نبع الماء عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس، وجابر، وابن مسعود.
وفي البخاري أنهم ثمانين رجلا. وفي اللفظ: " «فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضأ القوم. قال: فقلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة» .
وفي الصحيحين أيضا عن جابر رضي الله عنه قال: «عطش الناس يوم الحديبية فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه ركوة، فقالوا: ليس عندنا ما نتوضأ به، ولا نشرب إلا ما في ركوتك. فوضع صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فتوضأنا، وشربنا. قيل لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة» .
وفي صحيح مسلم عن جابر قصة نبع الماء في غزوة بواط - أيضا - وفيه قال: " «فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة، واستدارت، حتى امتلأت، وأمر الناس بالاستقاء، فاستقوا حتى رووا»
…
" الحديث.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: " «بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وليس معنا معنا ماء، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اطلبوا من معه فضل ماء، فأتي بماء، فصبه في إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل» ". أخرجه البخاري والترمذي والنسائي.
ومما يشبه ذلك تفجير الماء ببركته وانبعاثه بمسه ودعوته.
وروى مسلم في صحيحه «عن معاذ رضي الله عنه قصة عين»
«تبوك أنهم جاؤوها وهي تبض بشيء من ماء مثل الشراك.
قال: " ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس» ".
وعن ابن اسحاق: " «فانخرق من الماء ما له حس كحس الصواعق» ".
وفي صحيح البخاري في غزوة الحديبية من حديث المسور بن مخرمة، ومروان:" «أنهم نزلوا بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش بالري، جتى صدرواعنه» ".
وفي رواية: " «أنه صلى الله عليه وسلم توضأ، ومج في بئر الحديبية من فمه، فجاشت بالماء كذلك» ".
وفي بعض الطرق عند غير البخاري: " «أنه توضأ في الدلو ومضمض فاه، ثم مج فيه، وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهما من كنانته، فألقاه في البئر، ودعا الله، ففارت بالماء، حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتها» ". فجمع بين الأمرين.
وفي حديث البراء وسلمة بن الأكوع، «مما رواه البخاري في قصة الحديبية، وهم أربع عشرة مائة، وبئرها لا تروي خمسين شاة، فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها. قال البراء: وأتي بدلو منها، فبصق، ودعا - وقال سلمة: فإما دعا، وإما بصق فيها - فجاشت، فأرووا أنفسهم وركابهم» .
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قال: " «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل ودعا فلانا، ودعا عليا، وقال: اذهبا، فاسقيا الماء، فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء، فجاءا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، وأوكى أفواههما، وأطلق العزالى، ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء. وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بها، وأيم الله، لقد أقلع عنها وأنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها» .... " الحديث.
وفيه: " «أنها لما أتت إلى قومها قالت: والله، إنه لأسحر الناس كلهم، أو إنه رسول الله، وقالت لهم: فهل لكم في الإسلام؟» .... " الحديث.
وعن أنس قال: " «أصاب الناس سنة على عهد رسول صلى الله عليه وسلم فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي، فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع لنا. فرفع يديده وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد حتى الجمعة الأخرى. وقام ذلك الأعرابي أو غيره، فقال: يا رسول الله، تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا. فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة في مثل الجوبة، وسال وادي قناة شهرا، ولم يجئ أحد من ناحيته إلا حدث بالجود» ". رواه البخاري ومسلم.
ومن آياته صلى الله عليه وسلم تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه.
في الصحيحين عن جابر في حديثه في غزوة الخندق قال: " «فانكفأت إلى أمرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا، فأخرجت جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنا صاعا من شعير، فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم: يا أهل الخندق إن جابرا صنع سؤرا فحي هلا بكم. وقال صلى الله عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم، ولا تخبزن عجينكم حتى آتي، فأخرجت له عجينا. فبصق فيه، وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق، وبارك وثم قال: ادع خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم، ولا تنزلوها. وهم ألف.
»
«فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو» ".
وفي الصحيحين - أيضا - قصة إطعام النبي صلى الله عليه وسلم القوم الذين كانوا سبعين أو ثمانين رجلا من أقراص شعير أرسلت بها أم سليم تحت يد أنس، وأنهم كلوا حتى شبعوا.
وجاءت روايات عدة عن أنس في هذا المعنى تدل على تعدد القصة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: " «لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقال عمر: يا رسول الله، ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم بالبركة، فقال: نعم. فدعا بنطع، فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف»
وفي الصحيحين عن أنس قصة إطعام النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وكانوا زهاء ثلاثمائة رجل، من حيس أرسلت به أم سليم مع أنس، وأنهم أكلوا عشرة عشرة حتى شبعوا. قال أنس:" فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت؟ ".
وعن سمرة بن جندب، قال:" «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول من قصعة من غدوة حتى الليل، يقوم عشرة، ويقعد عشرة، قلنا: فما كانت تمد؟ قال: من أي شيء يعجب؟ ما كانت تمد إلا من ههنا. وأشار بيده إلى السماء» ". رواه
الترمذي والدارمي.
وعنه قال: " «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل، يقوم قوم، ويقعد آخرون، فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ قال: ما كانت تمد إلا من ههنا. وأشار إلى السماء» ". رواه الدارمي، وابن أبي شيبة، والترمذي، والحاكم، والبيهقي، وصححوه، وأبو نعيم.
وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر: " «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، وذكر الحديث، وأنه عجن صاع،»
والأحاديث في مثل هذه كثيرة.
ومن آياته إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم وهذا باب واسع جدا، وإجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة بما دعا لهم متواتر على الجملة، معلوم ضرورة.
وقد جاء في حديث حذيفة: " «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لرجل أدركت الدعوة ولده وولد ولده» ".
وأخرج البخاري عن أنس قال: " «قالت أمي: يا رسول الله، خادمك أنس، ادع الله له. قال: اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما آتيته» ".
وفي رواية: قال أنس: " فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليعادون اليوم على نحو المائة ". وفي رواية: " وما أعلم أحدا أصاب من رخاء العيش ما أصبت، ولقد دفنت بيدي هاتين مئة من ولدي، لا أقول: سقط، ولا ولد ولد ".
قال القاضي أبو الفضل: ومن هذا دعاؤه لمعاوية بالتمكين في البلاد، فنال الخلافة. ولسعد بن أبي وقاص أن يجيب الله دعوته، فما دعا على أحد إلا استجيب له، ودعا بعز الإسلام بعمر أو بأبي جهل، فاستجيب له في عمر. قال ابن مسعود:" ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ".
وأصاب الناس في بعض مغازيه عطش، فسأله عمر الدعاء، فجاءت سحابة، فسقتهم حاجتهم، ثم أقلعت.
ودعا في الاستسقاء، فسقوا، ثم شكوا إليه ضرر المطر، فدعا، فصحوا.
وقال للنابغة: " «لا يفضض الله فاك» " فما سقطت له سن. وفي رواية: " «فكان أحسن الناس ثغرا، إذا سقطت له سن نبتت له أخرى» ". وعاش عشرين ومائة، وقيل أكثر من هذا.
ودعا لابن عباس: " «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل» ". فسمي بعد الحبر وترجمان القرآن.
ودعا لعبد الله بن جعفر بالبركة في صفقة يمينه، فما اشترى شيئا إلا ربح فيه.
ودعا للمقداد بالبركة، فكان عنده غرائر من المال.
ودعا بمثله لعروة بن أبي الجعد فقال: " لقد كنت أقوم بالكناسة، فما أرجع حتى أربح أربعين ألفا ".
وقال البخاري في حديثه: " فكان لو اشترى التراب ربح فيه ".
ودعا لأم أبي هريرة، فأسلمت.
ودعا لعلي رضي الله عنه أن يكفى الحر والقر، فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف، وفي الصيف ثياب الشتاء، ولا يصيبه حر، ولا برد.
وسأله الطفيل بن عمرو آيه لقومه لما ذهب إليهم يدعوهم إلى الإسلام، فقال:" «اللهم، نور له» " فسطع له نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا مثلة. فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء في الليلة المظلمة، فسمي ذا النور.
ودعا على مضر، فأقحطوا حتى استعطفته قريش، فدعا لهم، فسقوا.
ودعا على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق الله ملكه، فلم تبق له باقية.
قال القاضي: " ولم يبق لفارس رياسة في أقطار الدنيا ".
ودعا على صبي قطع عليه الصلاة أن يقطع الله أثره، فأقعد.
وقال لعتبة بن أبي لهب: " «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» ". فأكله الأسد.
وحديثه المشهور في الصحيحين من رواية ابن مسعود في دعائه على قريش حين وضعوا السلى على رقبته وهو ساجد، وسماهم، قال:" «فوالذي بعث محمدا بالحق، لقد رأيت الذي سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر» ".
ومنها إبراء ذوي العاهات.
أخرج الإمام عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس رضي الله عنه " «أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابني به جنون، وإنه ليأخذه عند غدائنا وعشائنا. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره فتع تعة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى» ".
وفي حديث أبي سعيد في غزوة خيبر أنه قال: " «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: فأرسل إليه، فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له فبرئ، حتى كأن لم يكن به وجع» ". أخرجه البخاري.
وفي رواية مسلم عن طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: " «فأرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي، فجئت به أقوده أرمد، فبصق في عينيه، فبرئ» ".
وقد وفد على عمر بن عبد العزيز رجل من ذريته، فسأله عمر: من أنت؟ فقال:
أبونا الذي سالت على الخد عينه
…
فردت بكف المصطفى أيما رد
عادت كما كانت لأول أمرها
…
فيا حسن ما عين وياحسن ما خد
فوصله عمر، وأحسن جائزته.
فال السهيلي: وفي رواية: " «أصيبت عيناي يوم أحد، فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم فأعادهما مكانهما، وبصق فيهما، فعادتا تبرقان» ".
قال الدارقطني: هذا حديث غريب، وتفرد به عمار بن نصر عن مالك، وهو ثقة. ويجمع بين الروايتين بأن أحد الرواة ظن أن الساقطة واحدة. وبعضهم - إن صحت الرواية عنه - علم أنها ثنتان. ومن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة.
وأصيب سلمة يوم خيبر بضربة في ساقه، فنفث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث نفثات، فما اشتكاها قط. رواه البخارى.
والأخبار في هذا المعنى أكثر مما ذكرناه.
ومن آياته صلى الله عليه وسلم عصمته من الناس وكفاية أذاهم، على شدة العداوة، ومع وحدته وقلة عضده وناصره، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإيمان بالله وحده. وينادي عليهم في أنديتهم بتسفيه أحلامهم، وسب آلهتهم، ورميها بكل عيب وسوء، فيبالغون - حتى أقرب أقاربه كعمه أبي لهب - في إيذائه والتجري عليه، لكثرتهم ووحدته صلى الله عليه وسلم وهو مع ذلك محروس بحراسة الله -تعالى- مكلوء بكلاءته، محفوظ بحفظه، متماد على ما هو عليه، غير ملتفت إلى أذاهم، إلى أن مكنه الله من نواصي أعدائه، فأذاق من بقي منهم على كفره الهوان.
فروى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " «قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن»
وعن جابر قال: " «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرق الناس بالوادي يستظلون بالشجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، والسيف في يده صلتا، فقال: ما يمنعك مني؟ قلت: الله. فشام السيف، وها هو ذا جالس.
ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ملك قومه، فانصرف حين عفا عنه، وقال: والله لا أكون في قوم هم حرب لك» ". أخرجه البخاري ومسلم.
ومن هذا الباب العبرة المشهورة والكفاية التامة عندما أجمعت قريش على قتله وبيتوه لما أراد الهجرة، فخرج عليهم من بيته، فقام على رؤوسهم وقد ضرب الله على أبصارهم، وذرى التراب على رؤوسهم، وخلص منهم.
ثم حمايته إذ هو وأبو بكر في الغار وقد وقف الكفار على بابه، بما هيأ الله من الآيات، ومن العنكبوت الذي نسج عليه، حتى قال أمية بن خلف حين قالوا: ندخل الغار: ما إربكم فيه، وعليه من نسج العنكبوت ما أرى أنه قبل يولد محمد؟ !.
ووقفت حمامتان على فم الغار، فقالت قريش: لو كان فيه أحد لما كانت هناك الحمام.
ثم قصة سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبعه على فرسه؛ ليأسره لقريش حيث جعلوا عليه الجعائل، فلما قرب منه دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه، ثم دعاه وأبا بكر بالأمان، وقال: ما أصبت إلا من جهتكم، ووقع في نفسه ظهور النبي
- صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يكتب له أمانا. فأمر أبا بكر فكتب له، فانصرف يقول للناس: كفيتم ما هنا.
ومن مشهور ذلك خبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس حين وفدا على النبي صلى الله عليه وسلم وكان عامر قال له: أنا أشغل عنك وجه محمد فاضربه أنت، فلم يره فعل شيئا. فلما كلمه في ذلك قال له: والله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني وبينه، أفأضربك؟ !.
وعن فضالة بن عمرو قال: أردت قتل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو يطوف بالبيت، فلما دنوت منه قال: فضالة؟ قلت: نعم. قال: ما كنت تحدث به نفسك؟ قلت: لا شيء
فضحك واستغفر لي، ووضع يده على صدري فسكن قلبي. فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله أحب إلي منه.
والأحاديث والأخبار في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، قد أفردت بالمصنفات الكبارعند المتقدمين والمتأخرين، وإنما ذكرنا من صحيحها ومشهورها ما هو كالأنموذج الدال على ما وراءه.
وبالله التوفيق.
فصل
في بيان أن هذه الأخبار تفيد العلم؛ ليعرف بطلان قول النصراني: " إن هذه المعجزات مما لم يكن عليه شهود ".
فنقول: هذه المعجزات منها ما هو في القرآن. وقد علم بالضرورة عند الموافق والمخالف إتيانه من قبل محمد صلى الله عليه وسلم كما قدمنا الإشارة إلى ذلك.
ومنها ما هو متواتر، كنبع الماء من بين أصابعه، وحنين الجذع، وتكثير الطعام. فما من طبقة من طبقات الأمة إلا وهذه المعجزات منقولة عنده، وتواترها أعظم من تواتر كثير من الأحكام.
فهو أعظم من تواتر سجود السهو؛ فإن سجود السهو متواتر مقطوع به، مع أنه إنما كان مرات قليلة ولا يحضره إلا المصلون خلفه لتلك الصلاة.
وكذلك حكمه صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم.
وكذلك نقلهم لنصب الزكاة، فإنه مع كونه متواترا مقطوعا به فلم يسمعه منه إلا طائفة قليلة.
وأمثال ذلك كثيرة، إنما سمعها طائفة من الأمة هم أقل بكثير ممن شاهد آياته.
قال بعض الأئمة:
ومن المعلوم بالضرورة أنه قد جرى على يديه عليه الصلاة والسلام آيات، وخوارق عادات، إن لم يبلغ واحد منها معينا القطع فيبلغه جميعها، فلا مرية في جريان معانيها على يديه.
ولا يختلف مؤمن ولا كافر أنه جرت على يديه عجائب، وإنما خلاف المعاند في كونها من قبل الله.
وقد قدمنا إيضاح الدلالة على كونها من قبل الله، وأن ذلك بمثابة قوله: صدق عبدي؛ فأطيعوه.
فهذا أحد الوجوه في إثبات هذه المعجزات وهو التواتر العام.
الوجه الثاني: التواتر الخاص.
وذلك في كثير من أفراد هذه المعجزات. فإن الأخبار قد تستفيض وتتواتر عند قوم دون قوم بحسب طلبهم لها، وعلمهم بمن أخبر بها، وما دل من الدلائل على صدقهم.
وأهل العلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لهم من العلم بهذا ما ليس عند غيرهم.
كما أن أصحاب مالك والشافعي وغيرهما، عند كل كل طائفة من أقوال متبوعيهم وأخباره ما يقطعون به، وإن كان غيرهم لا يعرفه.
والأطباء عندهم من كلام بقراط وأمثاله كذلك.
وأهل العلم بأيام الإسلام يعلمون من سيرة الخلفاء ومغازيهم ما يقطعون به، وإن كان غيرهم لا يعرفه.
بل أهل العلم بالرجال يعلمون من حال آحاد الصحابة والتابعين ومن بعدهم ما لا يعلمه غيرهم.
والنحاة يعلمون من حال سيبويه وأمثاله ما لا يعلمه غيرهم.
فكيف بمن هو عند أتباعه أعلى قدرا من كل عالم، وأرفع منزلة من كل ملك، وهم أرغب الخلق في معرفة أحواله، وأعظم الناس تحريا للصدق فيها، ولرد الكذب منها، حتى صنفوا الكتب الكثيرة في أخبار جميع من روى شيئا من أخباره، وذكروا من الجرح والتعديل، ووقعوا في ذلك، وبالغوا مبالغة لا يوجد مثلها لأحد من الأمم، ولا لأحد من هذه الأمة إلا لأهل الحديث، وميزوا في المنقولات بين الصدق والكذب، فيردون الكذب وإن كان فيه من فضائل نبيهم وأعلام نبوته ما هو أعظم مما يقبلون، ويقبلون الصدق وإن كان فيه شبهة يحتج بها المنازع.
قال عبد الرحمن بن مهدي: أهل العلم يثبتون ما لهم وعليهم، وأهل البدع لا يثبتون إلا ما لهم.
فإذا كان أولئك فيما ينقلونه عن متبوعهم جازمين به لا يكون إلا صدقا. فهؤلاء مع جزمهم بالصدق واتفاقهم على التصديق أولى.
قال شيخ الإسلام أبو العباس: " وعامة أخبار الصحيحين مما اتفق أهل الحديث على التصديق بها، وجزموا بذلك ".
الوجه الثالث في تصحيح هذه المعجزات: التواتر المعنوي.
وهذا مما اتفق عليه عامة الطوائف، فإن الناس يسمعون أخبارا متفرقة تتضمن شجاعة علي، وعمر، وأمثالهما، وسخاء حاتم ومعن
وأمثالهما، وحلم الأحنف ومعاوية وأمثالهما، فيحصل علم ضروري بأن الشخص موصوف بهذا وإن كان كل خبر لو تجرد لم يفد العلم.
فهذه الأحاديث وأضعاف أضعافها هي أضعاف أضعاف ما نقل عن الواحد من هؤلاء، ونقلتها أجل وأكبر، وعلم المسلمين بها أعظم من علم أهل الكتب بآيات موسى وعيسى، فما يذكرون من حجة في صحة نقلها إلا وحجة المسلمين فيما ينقلونه عن نبيهم وأصحابه أظهر وأقوى.
الوجه الرابع:
أنها تكون بمحضر من الخلق الكثير، كتكثير الطعام يوم الخندق، ونبع الماء من بين أصابعه يوم الحديبية، وفيضان البئر بها، وكلهم صالحون لا يعرف فيهم من تعمد كذبة واحدة.
وكان بعضهم ينقلها قدام آخرين ممن حضرها، فيذهب أولئك، فيخبرون بها أولئك، فيصدق بعضهم بعضا، ويحكي هذا مثل ما حكى هذا، من غير تواطؤ. وأدنى أحواله أن يقرره، ولا ينكره.
ونعلم بموجب العادة الفطرية، وبما كان عليه السلف من تحري الصدق، وشدة توقيهم الكذب على نبيهم صلى الله عليه وسلم وروايتهم عنه التحذير من الكذب عليه وتعظيم الوعيد على ذلك، كما في الحديث المتواتر عنه: "
…
«من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» " أنهم لم يكونوا يقرون من يعلمون أنه يكذب عليه، بل نعلم أنه لو كان ما سمعوه منكرا عندهم وغير معروف لديهم لأنكروه. كما أنكر بعضهم على بعض أشياء رواها في السنن والسير وغير ذلك. وخطأ بعضهم بعضا ووهمه في ذلك في قضايا معلومة.
ومن تعقل ما ذكرناه علم قطعا أنهم متفقون على نقل تلك المعجزات. كما اتفقوا على نقل القرآن.
ومما يبين ذلك أن ما أنكره بعضهم على الآخر، وإن كانوا متأخرين عن الصحابة أوجب التنازع في حكم ذلك كتنازعهم: هل كان يجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية؟ أو يداوم على القنوت في الفجر.
وهو من أهون الأمور؛ إذ كلهم متفقون على صحة صلاة من فعل أو ترك.
ولكن لما تنازعوا في فعله تنازعوا في الحكم، فعلم أن ما كان مشهورا في الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره أحد من علمائها كانت الأمة متفقة على نقله.
وكذلك حجة؛ فإنهم متفقون على ما تواتر عنه من أنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة، وأنه عاش بعدها نحو ثلاثة أشهر.
قال أبو العباس:
" واتفقوا على أنه لما حج أمر أصحابه إلا من ساق الهدي إذا طاف وسعى أن يحل، وأنه لم يعتمر هو وأصحابه الذين حجوا معه بعد الحج إلا عائشة، وأنه لم يحل، ولا من ساق الهدي معه.
وإنما اشتبه على بعضهم بعض ألفاظه، أو بعض الأمور التي تخفى على كثير من الناس.
وكان الصحابة ينقلون تمتعه، ومرادهم أنه قرن بين العمرة والحج، وبعضهم قال: أفرد الحج، فظن بعض الناس أنه اعتمر بعد الحج.
وقال بعضهم: قرن، فظن بعض الناس أنه طاف طوافين، وسعى سعيين.
ومن أسباب الغلط أن الصحابة يستعملون تلك الألفاظ في غير المعاني التي استعملها من بعدهم ".
قال: "ومن تدبر هذا أفاده علما يقينا بصحة هذه المعجزات عنه ".
الوجه الخامس:
إن كل طائفة من العلماء ممن صنف في علوم الأثر قد تواتر عندهم من هذه الآيات ما فيه كفاية، فكتب التفسير متواتر فيها. وكذلك كتب الحديث، وكذلك كتب السير، وإن لم يكن هذا مقصودا منها.
وإنما المقصود ما أصوله تلك الكتب من الأحكام وغيرها، فنقل كل طائفة يفيد العلم اليقيني، فكيف بنقل الكل!.
وهذه الأوجه التي ذكرناها يستدل بها تارة على تواتر الجنس العام.
وهذا أقل ما يكون، وعلى تواتر جنس جنس، منها كتكثير الطعام والطهور، وعلى نوع نوع، كنبع الماء من بين أصابعه، وعلى تواتر شخص شخص، كحنين الجذع.
وكلما أمعن الإنسان في ذلك النظر واعتبره بأمثاله وأعطاه حقه من النظر والاستدلال ازداد به علما ويقينا، وتبين له أن العلم بذلك أظهر من جميع ما يطلبه بالأخبار المتواترة.
فليس في الدنيا علم مطلوب بالأخبار المتواترة إلا والعلم بآيات الرسول وشرائع دينه أظهر من ذلك.
وما من حال أحد من الأنبياء والملوك والعلماء وأقواله وأفعاله وسيرته إلا والعلم بأحوال محمد صلى الله عليه وسلم أظهر.
وما من علم يعلم بالتواتر مما هو موجود الآن، كالعلم بالبلاد البعيدة، إلا والعلم بحال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وما هم عليه من الدين، وما ينقلونه عن نبيهم من آياته وشرائع دينه أظهر؛ تحقيقا لقوله - تعالى -:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} .
وظهوره على الدين كله بالعلم والحجة والبيان، إنما هو بما يظهره من آياته، وذلك إنما يتم بما ينقل عن محمد صلى الله عليه وسلم من آياته التي هي الأدلة، وشرائعه التي هي المدلول المقصود بالأدلة.
فهذا قد أظهره الله علما وحجة وبيانا على كل دين.
كما أظهره قوة ونصرا وتأييدا على كل دين، والحمد لله رب العالمين.
وكل واحد من هذه الأوجه الخمسة التي ذكرناها يفيد العلم بصحة هذه المعجزات، فكيف وهي كلها متظاهرة متضافرة!.
وهذه غير البراهين المستفادة من القرآن، فإن تلك قد تجرد لها طوائف ذكروا من أنواعها وصفاتها كثيرا، حتى بينوا أن ما في القرآن من الآيات يزيد على عشرات الألوف.
وقد أشرنا فيما تقدم إلى مجامع ذلك وأصوله التي يرجع إليها.
وهذان غير ما في كتب أهل الكتاب من الإخبار به مما قدمنا بعضه.
وهذه الثلاثة غير ما في شريعته، وغير صفات أمته، وغير ما يدل على نبوته من المعرفة بسيرته وأخلاقه.
وهذا كله غير نصر الله له، وإكرامه لمن آمن به، وعقوبته لمن كفر به.
فإن تعداد أعيان دلائل النبوة لا يمكن بشرا الإحاطة به، وذلك أنه لما كان الإيمان به واجبا على كل أحد بين الله لكل قوم - بل لكل شخص - ما لا يبين لآخرين.
كما أن دلائل الربوبية أعظم وأكبر من كل مدلول، ولكل قوم بل لكل إنسان من الدلائل التي يريد الله إياها في نفسه وفي الآفاق ما لا يعرف أعيانها قوم آخرون، قال الله - تعالى -:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} .
والضمير عائد على القرآن عند المفسرين.
كما دل عليه قوله - تعالى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} .
فأخبر - تعالى - أنه سيري الناس في أنفسهم، وفي الآفاق من الآيات العيانية ما يبين لهم أن الآيات المسموعة حق، فيتطابق العقل والسمع، ويتفق العيان والقرآن، وتصدق المعاينة الخبر. قاله شيخ الإسلام أبو العباس.
وإذ عرف ما قررناه تبين بطلان قول النصراني: " إن هذه المعجزات مما لم يكن عليه شهود "، وقامت الحجة، وانقطعت المعذرة.
واعلم أنه لم يبق للمخالف ما يتعلل به سوى العناد المحض والكفر الصراح.
وما أحسن ما قال الإمام أبو عبد الله ابن القيم:
" إنه لا يمكن ألبتة أن يؤمن يهودي بنبوة موسى إن لم يؤمن بنبوة محمد - عليهما الصلاة والسلام - ولا يمكن نصرانيا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمد عليهما الصلاة والسلام.
وبيان ذلك أن يقال لهاتين الأمتين: أنتم لم تشاهدوا هذين
الرسولين، ولا شاهدتم آياتهما، وبراهين نبوتهما، فكيف يسع عاقلا أن يكذب نبيا ذا دعوة شائعة وكلمة قائمة وآيات باهرة، ويصدق من ليس مثله ولا قريبا منه في ذلك؛ لأنه لم ير أحد النبيين ولا شاهد معجزاته؟.
فإذا كذب بنبوة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما، وإن صدق أحدهما لزمه التصديق بنبوتهما.
فمن كفر بنبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه.
…
.
فنقول للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينت معجزاته؟ فبالضرورة يقول: لا.
فنقول له: بأي شيء عرفت نبوته وصدقه؟
فله جوابان:
أحدهما: أن يقول: أبي عرفني ذلك، وأخبرني به.
الثاني: أن يقول: التواتر، وشهادات الأمم حقق ذلك عندي، كما حقق خبرهم وشهادتهم وجود البلاد النائية، والبحار، والأنهارالبعيدة، وإن لم أشاهدها.
فإن اختار الجواب الأول، وقال: إن شهادة أبي وإخباره إياي بنبوة موسى كان سبب تصديقي نبوته.
فيقال له: فلم كان أبوك عندك صادقا، وكلامه معصوما عن الكذب وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك؟ فإذا كنت ترى الأديان الباطلة، والمذاهب الفاسدة قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذي هم عليه ضلال؛ فيلزمك أن تبحث عما أخذته عن أبيك خوفا أن تكون هذه حاله.
فإن قال: إن الذي أخذته عن أبي أصح من الذي أخذه الناس عن آبائهم، كفاه معارضة غيره له بمثل قوله.
فإن قال: أبي أصدق من آبائهم، وأعرف، وأفضل، عارضه سائر الناس في آبائهم بنظير ذلك.
فإن قال: أنا أعرف حال أبي، ولا أعرف حال غيره.
قيل له: فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك، وأفضل وأعرف؟
وبكل حال فإن كان تقليده لأبيه حجة صحيحة كان تقليد غيره لأبيه كذلك.
وإن كان ذلك باطلا كان تقليده لأبيه باطلا.
فإن رجع عن هذا الجواب، واختار الجواب الثاني، وقال: إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن، فإنهم أخبروا بظهوره ومعجزاته وآياته وبراهين نبوته، التي تضطر إلى تصديقه.
فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب؛ لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة المسيح ومحمد، عليهما الصلاة والسلام.
فإن قال: تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته، ولم يتواتر ذلك في المسيح ومحمد.
قيل: هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية، فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت. وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - أضعاف أضعافكم بكثير، والمعجزات التي شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، وأنت لا تقبل خبر التواتر في ذلك، وترده، فيلزمك ألا تقبله في أمر موسى.
ومن المعلوم بالضروة أن من أثبت شيئا ونفى نظيره فقد تناقض. وإذا اشتهر النبي في عصره، وصحت نبوته في ذلك بالآيات التي ظهرت معه لأهل عصره، ووصل خبره إلى أهل عصر آخر وجب عليهم تصديقه والإيمان به، وموسى والمسيح ومحمد في هذا سواء.
ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادة بنبوة عيسى، لأن الأمة الغضبية قد مزقها الله كل ممزق، وقطعها في الأرض، وسلبها ملكها وعزها، فلا عيش لها إلا تحت قهر سواها من الأمم لها.
بخلاف أمة عيسى عليه السلام فإنها قد انتشرت في الأرض، وفيهم الملوك، ولهم الممالك.
وأما الحنفاء فممالكهم قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وملؤوا الدنيا سهلا وجبلا، فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبا، ونقل الأمة الغضبية الجاهلية القليلة الذليلة صدقا؟ !.
فثبت أنه لا يمكن يهوديا على وجه الأرض يصدق بنبوة موسى إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يمكن نصرانيا ألبتة الإيمان بالمسيح إلا بعد الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح لأنهم إنما آمنوا بهما على يد محمد صلى الله عليه وسلم.
فكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد وما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوتهما ولا آمنا بهما.
ولا سيما فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم، فلولا القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه هو الذي قرر نبوة موسى ونبوة المسيح، لا اليهود والنصارى.
بل كان نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما؛ فإنهما أخبرا به، وبشرا بظهوره. فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما، وهذا أحد المعنيين في قوله - تعالى -:{بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} . أي: مجيؤه تصديق لهم من جهتين:
من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه.
ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به ومطابقة ما جاء به لما جاءوا به.
فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بالوحي، ثم جاء نبي آخر لم يقارنه في الزمان ولا المكان ولا تلقى عنه، بمثل ما جاء به سواء، دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر.
وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبر عن عيان، ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته بحيث يعلم أنه لم يجتمع به، ولا تلقى عنه، ولا عمن تلقى عنه، فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواء، فإنه يضطر السامع إلى تصديق الأول والثاني.
فالمعنى أنه لم يأت مكذبا لمن قبله من الأنبياء مزريا عليهم، كما يفعل الملوك المتغلبة على الناس بمن تقدمهم من الملوك. بل جاء مصدقا لهم شاهدا بنبوتهم.
ولو كان كاذبا متقولا منشئا من عنده شيئا مما جاء به لم يصدق من قبله، بل كان يزري بهم، ويطعن عليهم كما يفعل أعداء الأنبياء ". انتهى.
فصل
واعلم أن آيات النبوة ومعجزاتها لا تختص بحال التحدي أو حال دعوى النبوة، كما ظنه بعض أهل الكلام، بل تكون في حياة الرسول وقبل مولده وبعد وفاته.
لكن لا بد من آيات في حياته تقوم بها الحجة كما قال صلى الله عليه وسلم: " «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر» ". وكما قال الله - تعالى -: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} .... الآيات، وقال - تعالى -:{وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} ، فأخبر - سبحانه - أنه ضرب الأمثال لجميعهم وأهلكهم بعد إقامة الحجة عليهم.
والآيات في هذا كثيرة.
وكانت آيات نبينا صلى الله عليه وسلم غير مختصة بما بعد البعثة، بل ظهرت آياته قبل مولده وعند مولده وحال نشأته، ثم ظهرت الآيات الكبار بعد بعثته.
منها ما وقع مقارنا للتحدي، ومنها غير ذلك.
ثم استمرت آياته ومعجزاته بعد وفاته، وعلى مر السنين وتعاقب الدهور من وقوع ما أخبر به من الغيوب ومن ظهور دينه على الدين كله، واقتران العز والظهور بطاعته واتباع شريعته، والذل والصغار بإضاعة أمره ومخالفته، مما يبين ذلك للمتوسمين في عموم الناس، وفي خاصة أنفسهم.
وأكبر ذلك وأعظمه معجزة القرآن المستمرة على مر السنين، وبقاؤه محفوظا كما أنزل غضا طريا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
قال بعض أئمتنا:
ومما ينبغي أن يعلم أن الله إذا أرسل نبيا، وأتى بآية دالة على صدقه، قامت بها الحجة وظهرت بها المحجة، فمن طالب بآية ثانية لم تجب إجابته، بل وقد لا تنبغي، لأنه إذا جاء بثانية طولب بثالثة، فإذا جاء بها طولب برابعة، وطلب المتعنتين لا أمد له.
ومعلوم أن من قامت عليه الحجة في مسألة أو في حق من حقوق العباد التي يتخاصمون فيها، لو قال: أنا لا أقبل حتى تقوم علي حجة ثانية وثالثة، كان ظالما، ولم تجب إجابته، ولا يمكن الحكام الخصوم من ذلك، فحق الله الذي أوجب على عباده من توحيده والإيمان به وبرسله أولى.
ثم قد يكون في تتابع الآيات حكمة، فتتابع، كآيات محمد صلى الله عليه وسلم لعموم دعوته، فإن الأدلة كلما كثرت كان أظهر، فقد يعرف دلالة أحد الأدلة من لا يعرف دلالة الآخر، وقد يبلغ هذا ما لا يبلغ هذا، وقد يرسل الأنبياء بآيات متتابعة، ويقسي قلوب الكفار عن الإيمان، لينتشر ذلك ويظهر، ويبلغ ذلك قوما آخرين، فيصير سببا لإيمانهم.
كما في التوراة: " أنه يقسي قلب فرعون، ليظهر عجائبه وآياته ".
وكما صد المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يسعوا في معارضته، والقدح في آياته، فيظهر بذلك عجزهم عن معارضة القرآن وغيره من آياته.
بخلاف ما لو اتبع ابتداء بدون ذلك، فإنه قد كان يظن أنهم قادرون على معارضته.
وكذلك - أيضا - يكون في ذلك من صبره وجهاده ويقينه وصبر أصحابه وأتباعه وجهادهم ما ينالون به عظيم الدرجات في الدنيا والآخرة.
وقد تقتضي الحكمة ألا يرسل بالآيات التي توجب عذاب الاستئصال، كما ذكره في كتابه العزيز، وكان الكفار يقترحون.
فتارة يجيبهم، لما فيه من الحكمة، وتارة لا يجيبهم، لما فيه من المضرة.
وربما طلب الرسول تلك الآيات رغبة في إيمانهم، فيجاب بأنها لا تسلتزم الهدى، بل تستلزم إقامة الحجة، وتوجب عذاب الاستئصال لمن كذب بها.
وقد بين الله - تعالى - أنه لا يظهرها لانتفاء المصلحة أو لوجود المفسدة.
وهذا المعنى مذكور في عامة كتب التفسير والحديث وغيرها.
كما ذكروا «عن ابن عباس قال: سأله أهل مكة أن يحول لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال، حتى يزرعوا، فقيل: إن شئت تستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلك من قبلهم، قال: بل أستأني بهم. فأنزل الله هذه الآية:
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} . الآية.
» وروى ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال: رحمة لكم أيتها الأمة، إنا لو أرسلنا الآيات، فكذبتم بها أصابكم ما أصاب من قبلكم، وقد كانت الآيات تأتيه صلى الله عليه وسلم آية بعد آية فلا يؤمنون بها.
أخبر - سبحانه - أن الآيات تأتيهم فيكذبون بالحق، وأنهم سوف يرون صدق ما جاء به الرسول، كما أهلك من كان قبلهم بذنوبهم التي هي تكذيب الرسول، فإن الله يقول:
وأخبر بشدة كفرهم بأنه لو أنزل عليهم كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين.
ويبين - سبحانه - أنه لو جعل الرسول ملكا لجعله على صورة الرجل، إذ كانوا لا يطيقون أن يروا الملائكة في صورهم، وحينئذ فكان اللبس يقع لظنهم أنه بشر لا ملك.
وهذه الآيات التي اقترحوا لو أجيبوا بها ثم لم يؤمنوا، أتاهم عذاب الاستئصال. وأيضا هي مما لا يصلح، فإن تفجير الينبوع بمكة يصيرها واديا ذا زرع، والله - تعالى - من حكمته جعل بيته بذلك الوادي، لئلا يكون عنده ما ترغب النفوس فيه من الدنيا، فيكون حجه للدنيا لا لله.
وإذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم جنة كذلك كان فيه من التوسع في الدنيا ما ينقص درجته.
وكذلك إذا كان له بيت من زخرف - وهو الذهب - وإسقاط السماء لا يكون إلا يوم القيامة، وهو لم يخبرهم أنه لا يكون إلا يوم القيامة.
فقولهم - كما زعمت - كذب منهم، إلا أن يريدوا التمثيل فيكون القياس فاسدا.
وأما الإتيان بالله والملائكة قبيلا، فلما سأل قوم موسى ما هو دونه أخذتهم الصاعقة.
وأما إنزال الكتاب فقد قال - تعالى -:
بين - سبحانه - أن المشركين سألوه إنزال الكتاب، وأن أهل الكتاب سألوه ذلك، وبين أن الطائفتين لم يؤمنوا إذ جاءهم ذلك، وإنما سألوه تعنتا.
فقال عن المشركين: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
وذكر عن أهل الكتاب أنهم سألوا موسى أكبر من ذلك، وأنهم مع ذلك نقضوا الميثاق، وكفرو بآيات الله، وقتلوا النبيين، إلى أمثال ذلك، وأنه بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله حرم عليهم طيبات.
ففيه من الاعتبار لهذه الأمة أن الأمة المكذبة إذا جاءتهم الآيات المقترحة لم يكن فيها منفعة لهم، بل توجب عقوبة الاستئصال، فكان ألا تنزل أعظم رحمة وحكمة.
وقد عرض الله - تعالى - على محمد صلى الله عليه وسلم أن يهلك قومه لما كذبوه، فقال:" «بل أستأني بهم، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» ".
كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: " «قلت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت»
«رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوه عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، وسلم علي، وقال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك، لتأمرني بأمرك فيما شئت، فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين. فقال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا» ". أخرجه البخاري ومسلم. والأخشبان: جبلا مكة المحيطان بها.
ولما طلبت من المسيح المائدة كانت من الآيات الموجبة لمن كفر بها عذابا لم يعذبه أحدا.
فكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب الاستئصال.
وأظهر - تعالى - آيات كثيرة لما أرسل موسى، ليبقى ذكرها في الأرض، إذ كان بعد نزول التوراة لم يعذب أحدا بعذاب الاستئصال.
بل قال - تعالى -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى}
…
.
فكان بنو إسرائيل لما كانوا يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم ويبقي بعضهم، إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر.
ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية على الحق.
قال - تعالى -: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ}
…
.
وقال - تعالى -:.... {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ}
…
الآيتين.
وكان من حكمته ورحمته سبحانه وتعالى لما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم ألا يهلك قومه بعذاب الاستئصال، بل عذب بعضهم بأنواع العذاب، كالذين قال فيهم:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} .
والذي دعا عليه أن يسلط عليه كلبا، وأمثال ذلك.
…
.
فأخبر أنه معذبهم تارة بأيدي المؤمنين، وتارة بعذاب غير ذلك.
فكان ذلك مما يوجب إيمان أكثرهم، كما جرى لقريش وغيرهم، فإنه لو أهلكهم كالذين قبلهم لبادوا، وانقطعت المنفعة عنهم، ولم يبق لهم ذرية تؤمن، بخلاف الأول، فإن فيه من إذلالهم وقهرهم ما يوجب عجزهم.
والنفوس إذا قدرت لا تكاد تنصرف عن مرادها، بخلاف ما إذا عجزت عن كمال أغراضها، فإنه يدعوها إلى التوبة، كما قيل: من العصمة ألا تقدر.
ولهذا آمن عامتهم، ولم يقتل منهم إلا القليل، وهم صناديد الكفر الذين كان أحدهم في هذه الأمة كفرعون في تلك الأمة.
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قال عن أبي جهل: " هذا فرعون هذه الأمة» ".
وفي التوراة: (أني أقسي قلب فرعون، لتظهر آياتي وعجائبي) .
بين أن فيه من الحكمة انتشار آياته الدالة على صدق أنبيائه في الأرض، إذ كان موسى قد أخبر بتكليم الله له، وبكتابة التوراة له. فأظهر الله له من الآيات ما يبقي ذكرها في الأرض.
وكان في ضمن ذلك من تقسية قلب فرعون ما أوجب أن أهلكه وقومه أجمعين.
وفرعون كان منكرا لله جاحدا لربوبيته لا يقر به، فلذلك أوتي من الآيات ما يناسب حاله.
وأما بنو إسرائيل مع المسيح فهم مقرون بالكتاب الأول، فلم يحتاجوا إلى مثل ما احتاج إليه موسى عليه السلام.
ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن محتاجا إلى تقرير جنس النبوة، إذ كانت الرسل قبله جاءت بما يثبت ذلك. وقومه كانوا مقرين بالله، وإنما الحاجة إلى تثبيت نبوته.
ومع هذا فأظهر الله على يديه من الآيات مثل آيات من قبله وأعظم.
ومع هذا فلم يأت بآيات الاستئصال التي يستحق مكذبها العذاب العام العاجل.
فلهذا بين الله - تعالى - أنها إذا جاءت لا تنفعهم، إذ كانوا لا يؤمنون بها، ولكن تضرهم، ومع وجود المانع وعدم المقتضي لا يصلح الفعل.
قال - تعالى -: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}
…
الآية.
فهو يعلم أن قلوب هؤلاء كقلوب أولئك، قال - تعالى -:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} .
وقال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ}
…
ذكره في السورة التي ذكر فيها انشقاق القمر، وإعراضهم عن الآيات، وقولهم: سحر مستمر، وتكذبيهم، واتباعهم أهواهم، وفيها:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} ، أي: من أنباء الغيب ما يزجر عن الكفر، إذ كان في تلك الآيات بيان صدق الرسول، والإنذار لمن كذبه بالعذاب، كما عذب المتقدمين.
ولهذا يقول عقيب القصة: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ، أي: كيف كان عذابي لمن كذب رسلي، وكيف كان إنذاري بذلك قبل مجيئه!.
وفيها: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} .... في قصة آل فرعون، لأنهم
كذبوا بجميع آيات موسى وجميع آيات الأنبياء قبله، وكذبوا بجميع الآيات الدالة على وجود الرب - تعالى - وقدرته ومشيئته.
ثم قال:.... {أَكُفَّارُكُمْ} .... أي: أيتها الأمة
…
…
الذين كذبوا نوحا، ومن بعده
…
{أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} . وذلك كونكم لا تعذبون مثلهم، إما لكونكم خيرا منهم لا تستحقون ما استحقوا، أو يكون الله أخبر أنه لا يعذبكم، فإن ما يفعله الله تارة يعلم بخبره، وتارة يعلم بمشيئته، وحكمته وعدله، فإما أن تكونوا علمتم هذا من هذا الوجه، أو من هذا الوجه.
هذا إن نظر إلى فعل الله الذي لا طاقة للبشر به.
وإن نظر إلى قوة الرسول، فيقولون:{نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} ، فإنهم أكثر وأقوى، فقال - تعالى -:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .
وهذا أخبر به وهو بمكة في قلة الأتباع، ولا يظن أحد بالعادة المعروفة أن أمره يعلو قبل أن يهاجر ويقاتل، فكان كما أخبر، فإنهم يوم بدر وغيرها هزموا، وتلك سنة الله في المؤمنين والكافرين.
وحيث ظهر الكفار فلذنوب المسلمين التي نقصت إيمانهم.
ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، كما قال - تعالى -:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
فإذا كان من تمام الحكمة والرحمة ألا يهلكهم هلاك الاستئصال كالذين قبلهم كان ألا يأتي بموجب ذلك، مع إتيانه - سبحانه - بما يقيم الحجة، ويوضح المحجة أكمل في الحكمة والرحمة.
إذ كان ما أتى به من الآيات حصل به كمال الخير والمصلحة والهدى، والبيان والحجة على من كفر.
وما امتنع منه دفع به من العذاب العام ما أوجب بقاء جمهور الأمة حتى يهتدوا.
وكان في إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الرسل من المنن السابقة ما لم يكن في رسالة رسول غيره صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.