المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: المنهج المبتكر في (نخبة الفكر) - نخبة الفكر - دراسة عنها وعن منهجها

[إبراهيم بن محمد نور سيف]

الفصل: ‌الفصل الأول: المنهج المبتكر في (نخبة الفكر)

‌الفصل الأول: المنهج المُبتكر في (نخبة الفكر)

كان علم (مصطلح الحديث) -كما هو مُقرّر في مُقدّمات كتبه - لم يأخذ في أوّل أمره طابع العلم المُستقلّ؛ المُدوّنة مسائله على حدة، بل كانت مسائله منثورة في كتب الحديث، ومذكورة في بعض مقدماتها، ومبثوثة في كتب العلوم الأخرى. (1)

إلى أن شاء الله له أن يلبس ثوب الشخصية المُستقلّة، التي ذكروا من أوائل من صنعها: القاضي أبا محمد الرامهرمزي؛ رحمه الله تعالى.

وكان الرامهرمزي رائدا في هذا المضمار، وتلاه من تلاه من المحدثين؛ الذين كانوا لا يزالون يتتبّعون المسائل، ويُدوّنون ما يقفون عليه منها، ويُودعونها مُؤلّفات لهم تفاوتت طولا وقِصرا، ومنهم الخطيب البغدادي الذي أوسع مسائله سبرا وجمعا، وتتبُّعا وتحريرا، حتى جاء الله على يديه بالخير الكثير، ونفع بعلمه من جاء بعده بنفع كبير.

أما الرامهرمزي الأوّل، فإنه وإن كان ما طوّل، إلا أنّ رِيادته في هذا المجال تجعل عذره واضحا، ويكفيه شرفُ شقِّ طريقٍ لم يُسلَك قبله، وتمهيدُ مسالِكِهِ لمن يأتي من بعده.

(1) انظر: تقديم الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة لاختصار علوم الحديث؛ لابن كثير، مع شرحه الباعث الحثيث، للشيخ أحمد محمد شاكر؛ رحمهم الله جميعا ص (9) ، والوسيط للشيخ الدكتور/محمد محمد أبو شهبة رحمه الله ص (28-32) ، ولمحات في أصول الحديث للدكتور/محمد أديب الصالح ص (18-23) ، وما كتبه د. مصطفى الخن في مقدمة تحقيقه لتقريب النواوي الذي سمّاه المنهل الراوي ص (22-25) .

ص: 125

ثم الخطيب البغدادي؛ ومَن بعده، وقد (جاء بعض من تأخّر عن الخطيب، فأخذ من هذا العلم بنصيب) على حدّ ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني، بعد أن أشاد بكثرة ما فُتِح به على الخطيب.

والحافظ ابن حجر نفسه رحمه الله له مَوقعٌ مُهمٌّ جدا في حلقات هذا التسلسل الذي يُعنى بقضية (الخبر) ، وهو الذي أفصح عن القضية، فجاء بشيء مُبتكر، كما تحدّث به هو وقرّر، وقد صدق فيما قاله وبرَّ.

وقد نبّه - قبل أن يقول ذلك- إلى جزالة ما جاء به الإمام ابن الصلاح في مقدمته المشهورة العظيمة، ونوّه بجهوده في أماليه الجليلة التي عُرفت فيما بعد باسم (مقدمة ابن الصلاح) ، فجاءت وقد بارك الله له فيها، قال الحافظ ابن حجر: (اعتنى بتصانيف الخطيب المُفرّقة فجمع شتات مقاصدها، وضمّ إليها من غيرها نُخَب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرّق في غيره، فلهذا عَكَف الناس عليه وساروا بسيره

) إلى آخر ما ذكره رحمه الله من أنّ المُعتنين بكتاب ابن الصلاح -بشتى وجوه العناية- أصبحوا لا يُحصَوْنَ كثرةً.

ومع هذا نجد الحافظ ابن حجر يذكر بعد ذلك عن كتابه (نخبة الفكر) بأنه لخصه على منهج قال عنه: (على ترتيب ابتكرته، وسبيل انتهجته

) (1) ،

(1) قال فضيلة شيخي الدكتور/محمد محمد السماحي رحمه الله في كتابه المنهج الحديث، الذي ذكر فيه تاريخ الحديث -ص (15) ضمن جدول سرد فيه مؤلفات في المصطلح ومؤلفيها- عن الحافظ في النخبة بأنه:(رتّبها ترتيبا لم يُسبق إليه) ، وقد قابل فضيلة شيخي الدكتور/محمد محمد أبو شهبة رحمه الله في مقدمة كتابه (الوسيط) ص (8) بين منهجي كل من ابن الصلاح وابن حجر فجعل كلا منهما منهجا مُّستقلاً، كما شرح الدكتور/نور الدين عتر منهج الحافظ في النخبة وفي النّزهة شرحاً جيّداً في مقدمة تحقيقه للنّزهة ص (21-22) .

ص: 126

كما صرّح به في شرحه: (نزهة النظر)(1) .

لقد جاءنا حديث نبوي شريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكلّم به عليه الصلاة والسلام، ومحتواه مُسَلَّمٌ به، مُدْرَكٌ لّكلّ أحد، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"ليس الخبر كالمعاينة"، رواه من الصحابة الأجلاء عنه عليه الصلاة والسلام: ابنُ عباس (2) ،

(1) نزهة النظر ص (40) .

(2)

حديث ابن عباس (أخرجه:

- الإمام أحمد في مسنده (1842 – 2447) عن هشيم عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عنه - (- مرفوعا؛ بلفظ فيه هذه الجملة فقط، ثم عن سريج بن النعمان، عن هشيم

به؛ بلفظ أتمّ: «ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يُلق الألواح، فلما عايَنَ ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت» .

- وبهذين الإسنادين أخرجه الضياء في المختارة 10/81-82 بإسناده من طريق الإمام أحمد

بهما؛ كما تقدم.

- وابن حبان كما في الإحسان 8/32 (1658) ،

- والطبراني في الأوسط (25) ،

- وابن عدي في الكامل 7/2596،

- وأبو الشيخ في الأمثال (5) ،

- والحاكم في المستدرك 2/321؛ وصحّحه على شرطهما ولم يتعقّبه الذهبي،

- والقضاعي في مسند الشهاب (1182 و1183 و1184) ،

- والخطيب في تاريخ بغداد: 6/56،

- والضياء في المختارة 10/80-81 من طرق - غير الطريقين المتقدمين-،

وكلهم من طرق عن هشيم عن أبي بشر.. به.

- والبزار في مسنده، كما في كشف الأستار (200) ،

- وابن حبان كما في الإحسان 8/33 (1681) ،

- والطبراني في الكبير (12451) ،

- وابن عدي في الكامل 7/2596،

كلهم من طرق عن أبي عوانة عن أبي بشر.. به.

هذا وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/380 من طريق أبي عوانة وهشيم - وتصحّف إلى هشام- كلاهما عن أبي بشر

به؛ ولفظه «ليس المعاين كالمخبر

» بطوله، وعلّق عليه الذهبي بقوله:(سمعه من أبي بشر ثقتان) يعني أبا عوانة وهشيما، فنص على سماع هشيم له من أبي بشر.

قال الشيخ شعيب الأرناؤوط ورفيقه -في تعليقه على المسند 4/260-261: (حديث صحيح رجاله رجال الشيخين؛ غير سُريج بن النعمان فمن رجال البخاري، وهُشيم مُدلّس وقد رواه بالعنعنة، وقال ابن عدي: يُقال إن هذا لم يسمعه هشيم من أبي بشر، إنما سمعه من أبي عوانة عن بشر، فدلّسه، أبو بشر: هو جعفر بن أبي وحشية)، وجاءت جملة نفي سماعه: (يُقال

) عند ابن عدي، والضياء في (المختارة) ، والقضاعي في مسند الشهاب؛ معزوّة ليحي بن حسان؛ أحد رواته عن هشيم، وقد نقل الترمذي -في العلل الكبير:2/965 بترتيب أبي طالب القاضي- عن الإمام أحمد أنه قاله؛، ولم أقف على تصريح هشيم بالسماع في سائر طرقه، وابن حبان ينفي تفرّده به، ولعله يعني أنه تابعه أبو عوانة، والكلام في كونه أخذه هشيم عن أبي عوانة فأسقطه؛ ليعلو بالسند، وعلى الحالين فأبو عوانة ثقة، فلا يضرّه؛ لو كان هو واسطته؛ كما في كلام ابن عدي.

ص: 127

وأنسٌ (1) .

(1) حديث أنس (أخرجه:

- الطبراني في الأوسط (6943) ،

- وابن عدي في الكامل 6/2239،

- والخطيب في تاريخ بغداد 3/200، ثم 3/359-360،

- والضياء في المختارة 5/200 رقم (1827) و (1828) ؛

من طريق محمد بن عبد الله - هو: ابن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك - الأنصاري، عن أبيه عبد الله يرويه عن عمه ثمامة بن عبد الله، عنه (، ما عدا الموضع الثاني عند الخطيب؛ وسيأتي.

قال د. خلدون الأحدب - في زوائد تاريخ بغداد2/526 رقم (348)، و2/535 رقم (349) :(إسناده حسن، والحديث صحيح من طرق أخرى)، وقد ذكر سبب تحسين إسناده للكلام في (عبد الله بن المثنى) ؛ والحافظ يقول فيه:(صدوق كثير الغلط) ؛ كما في التقريب رقم (3571) ، وهنا تَبيّن عدم غلطه بموافقة الثقات، وعند البخاري في صحيحه أحاديث من روايته عن عمه ثمامة، كما نبه عليه الحافظ في هدي الساري.

هذا وقد التبس أمر راويه (محمد بن عبد الله الأنصاري) على الشيخ حسين أسد في تعليقه على مجمع الزوائد 2/436؛ فتركّب له فيه ثلاثة أوهام: فالذي جده (زياد) هو الذي (كذبوه) ، وقد جاء عنده باسم (زيد) ؛ والذي جده (زيد) ثقة، كما في تقريب التهذيب في ترجمتهما، وليس هو في الواقع أحدَهما؛ بل هذا: جدُّهُ المثنى كما ذكر د. خلدون، وصحّحه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (5249) ؛ وذلك بمجموع رواياته.

أما الموضع الثاني عند الخطيب - 3/359-360 - ففيه الحديث من طريق ثابت البناني عن أنس، لكن قال عنه الخطيب:(لا أعلم رواه إلا محمد بن هارون هذا - يعني أبا بكر البغدادي- بإسناده، وأُراه غلِطَ فيه، وأرجو أن لا يكون تَعمَّدَهُ) ؛ ولهذا استغربه، قال د. خلدون -3/196-:(إسناده ضعيف، والحديث صحيح من طرق أخرى) .

ص: 128

ورُوي عن أبي هريرة (1) ، رضي الله عنهم جميعا.

ولما سبق ذِكرُهُ فقد جرَى مجرى المثل (2) .

(1) قال د. خلدون: (إسناده ضعيف جدا، والحديث صحيح من طرق أخرى) ، ولهذا جاء في صحيح الجامع رقم (5250) ؛ فتصحيحه بالنظر إلى متنه، وذكر د. خلدون أنه لم يقف عليه عند غير الخطيب، ووقفت عليه في لسان الميزان –8/143- في ترجمة (مقاتل بن محمد) يرويه عن سعيد الزبيري عن مالك عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة (، وبعده قول الدارقطني: (مجهول، والحديث منكر) ؛ يعني بهذا الإسناد.

(2)

أورده الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأمثال برقم (600) ص (201) ؛ قائلا: (وفي بعض الحديث: «ليس الخبر كالعيان» )، وهو في مجمع الأمثال 1/182 رقم (3270) بلفظ:(ليس الخبر كالمعاينة)، وجاء في (الفاخر) - للمفضل ص (268) رقم (403) -:(رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أول من قال ذلك) ، وقد راجعت خمسةً من كتب الأوائل فلم أجد فيها ذِكر هذه الأوّليّة؛ لابن قتيبة، وابن أبي عاصم، والطبراني، والعسكري، والجراعي، والسيوطي، وعَنْوَنَ الشيخ الساعاتي للحديث في (الفتح الرباني) : 19/207 بعنوان: (أحاديث جرت مجرى الأمثال) ، ولم يُعلّق عليه بشيء، وفي (المستقصى) 2/303 رقم (1074) بلفظ:(ليس الخَبَر كالعِيَان) ، والخبر مضبوط في كتب الأمثال المذكورة بفتحتين، وورد في معجم الأمثال العربية 2/14 بضمة فسكون:(الخُبْرُ) ، وسيأتي في تعريف الخبر، ومعناه وإن كان سائغاً في الجملة لكنه ليس مُراداً في هذا المثل؛ لأنه بمعنى أن الخبرة الباطنة بالشيء ليس كالمُعاينة الظاهرة، وإنما قلت إن ذاك المعنى ليس مرادا في المثل: لأجل ما اتّصل بذكره في الحديث من قصة نبي الله موسى - على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام- فالذي فيها مشاهدة ظاهرة بعد خبر منقول، قال المناوي - في فيض القدير 5/357 في شرحه للقصة-:(أفاد هذا أنه ليس حال الإنسان عند مُعاينة الشيء كحاله عند الخبر عنه؛ في السكون والحركة، لأن الإنسان لعلّه يسكن إلى ما يرى أكثر من الخبر عنه؛ وإن كان صادقا) ، هذا مع أني لم أقف على من ضبطه هكذا في كتب الرواية، ووقفت للحافظ على موضع تمثّل به -في مناسبة ذِكْرهِ لما كان يشعر به شيخه العراقي من سعادة غامرة برفيقه الهيثمي وأنها تفوق الوصف- فقال:(وليس العِيَانُ في ذلك كالخبر) ، (المجمع المؤسس) 2/188، وكأنّ الحافظ رحمه الله يقول: يا مَن أُخْبِرُكَ بهذا: لن تكون مِثلي قيما شاهدتُه مِن ذلك، لأنّ الذي بلغك مِن ذلك إنما هو خبر.

ص: 129

قال المناوي رحمه الله: (عُدَّ من جوامع الكَلِمِ والحِكَمِ)(1) .

وقد تأمّلت مضمون هذا الحديث، ثم نظرت في الفائدة التي أفادها منه المحدثون رحمهم الله تعالى؛ فوجدتهم يَبنون كلامهم في علم (مصطلح الحديث) -المُسَمَّى (علوم الحديث) - على مُفَادِهِ، ويُقرّرون مسائل علمهم فيه؛ على ضوئه.

(1) فيض القدير 5/357.

ص: 130

ذلك أن الحديث يُفيد أنّ للعلم الحاصل للإنسان طريقين؛ منصوصاً عليهما فيه:

- أولهما: المُعاينة، وهو أن يُبصر الإنسان أمامه حَدَثاً واقعاً فيَعلم بوقوعه؛ علماً مُباشراً دون واسطة، وقال الله عز وجل في مثل ذلك مِمّا لا ينكره منكِر:{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} (1)[آل عمران 13]

فمرأى العين لا سبيل إلى إنكار وقوعه، ولا مجال لردّه، إلا أن يُدّعى في ذلك تخييل وتمويه؛ فذلك طارئ، وعلى خلاف الأصل، وهو مُحتاج إلى إثبات يُقرّر حصوله:

وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليلِ (2)

- ثانيهما: الخبر (3) ، وهو وسيلة العلم لمن لم يحصل له العلم المباشر

(1) ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية أنها في وقعة بدر؛ (عندما عاين كل من الفريقين الآخر؛ رأى المسلمون المشركين مثليهم -أي: أكثر منهم بالضعف- ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم عز وجل، ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع، ثم لما حصل التصافّ والتقى الفريقان قلّل الله هؤلاء في أعين هؤلاء وهؤلاء في أعين هؤلاء ليُقدم كل منهما على الآخر)، وهذا من باب الكرامة للمسلمين الذين انتهت بهم المعركة إلى النصر المُؤزّر كما قال تعالى:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .

(2)

ديوان المتنبي 3/92، مع شرح العكبري، وفيه:(في الأفهام شيء) .

(3)

قال العلامة الشوكاني-رحمه الله: (الأَوْلَى أن يُقال في حدّ الخبر: هو ما يصحّ أن يدخله الصدق والكذب؛ لذاته) ، وقرّر هذا بعد مُناقشاتٍ لِّتعاريفَ لم تَسْلمْ من الاعتراض، في كتابه إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص (44)، وانظر قبله: ص (42، 43)، وعند الزبيدي –رحمه الله في تاج العروس – مادة (خ ب ر) 3/166-167: نحوه؛ وهو ما قرّره بقوله: (إن أعلام اللغة والاصطلاح قالوا: الخبر –عُرفاً ولغةً- ما يُنقَل عن الغير، وزاد فيه أهل العربية: واحتملَ الصدقَ والكذب لذاته)، وذكر ابن فارس –رحمه الله في كتابه معجم مقاييس اللغة 2/239-:(الخُبْرَ) أحدَ أصلين في هذه الحروف الثلاثة، وجعل المعنى –على هذا الأصل:(العلمَ بالشيء، تقول: لي بفلان خِبْرةٌ وخُبْرٌ)، زاد الزبيدي:(يُقال صدَّقَ الخُبْرُ الخَبَرَ) كأنه بمعنى صدّق العلمُ بالشيء -بعد رؤيتهِ المباشرة- ما نُقِلَ عنه من خَبَر؛ وطابَقَهُ، ومن هذا المعنى أخذ الحافظ ابن حجر تسمية كتابه:(مُوافقة الخُبْرِ الخَبَرَ في تخريج المنهاج والمختصر) ، على أنّ الزبيدي نقل عن بعضهم التفريقَ بين الخُبْر والخِبرة.

ص: 131

بالمعاينة، ولم يُبصر الحدث الواقع ولم يحضره، وحال بينه وبينه حائل المكان أو الزمان.

من ذلك أنّه لم تعلم هذه الأمة الإسلامية بأهمّ خبر فيها، على مدى أجيالها المُتتابعة- بعد جيل الصدر الأوّل جيل الصحابة رضي الله عنهم، شهود الرسالة، وحضور الوحي، وأهل العلم المباشر برسول الله صلى الله عليه وسلم وبجميع ما جاء به-؛ لم تعلم هذه الأمّة المباركة بأجيالها المذكورة: عنه صلى الله عليه وسلم إلا بعلم جاء من طريق الخبر، فالتابعون هم الذين لم يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما رأوا الصحابة فأخبروهم به، بخلاف الصحابة ذوي العلم المباشر بشؤون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم شُهداؤه العدول، البررة المُزكَّون في جميع ما صحّ عنهم من النقول (1) ، وقد كانوا جمعا غفيرا

(1) من كلام الأئمة في ذلك قول أبي زرعة الرازي: ((إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة)) رواه الخطيب في الكفاية ص (97) .

ص: 132

–رضي الله عنهم وأرضاهم- حفظت لنا أسماءهم الكريمة: دواوين عُنيت بهم وبأخبارهم وبسيرتهم العطرة.

أقول: إن التابعين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وإنما كان الذي وَصَلَ إليهم عنه: خبراً متواتراً، عن جمعٍ كبير هم جَمْعُ التواتر، الذين يحصل بخبرهم العلم الضروري الذي لا مناص من تصديقه، ثم انتقل ذلك إلى تبع الأتباع، فمن بعدهم، فالأجيال التالية إلى جيلنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (1) .

ولقد استوقفني كون الحافظ رحمه الله اختار لكتابه هذا: أن يّفْتَتِحَهُ -بعد خطبته ومقدمته - بالكلام عن (الخبر)، فصدّق ذلك عندي قولَهُ:(على ترتيب ابتكرته)، ولو لم يكن فيه من الابتكار إلا ما قدّمتُ بَيَانَهُ: لكان ابتكارا رائعاً حَقِيقاً بالإشادة به.

والذي يظهر به هذا المعنى بجلاء: ما ذكرته من أن مبنى (علم المصطلح) على (قضية الخبر) .

هذا مع أن كلام أهل العلم وتقريرهم في ذلك واضح لا يخفى، وإنما به استنرت، وبضيائه استرشدت، وذلك بعد توفيق الله تعالى، وأذكر من أهم ذلك اقتراح العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة بأن يسمى علم المصلح: ((منطق

(1) كما في الحديث المتفق عليه - عند البخاري: 61كتاب المناقب 28 باب رقم 3640- ومسلم - 33 كتاب الإمارة، 53باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة

"، رقم 1921 ص 1523- من حديث المغيرة بن شعبة (: "لا يزال ناس من أمتي ظاهرين؛ حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون"؛ وهذا لفظ البخاري، ورواه عدد من الصحابة رضي الله عنهم عن النبيصلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله:(تواتر عنه) ، كما في اقتضاء الصراط المستقيم 1/69، وانظر لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة، الحديث رقم (20) .

ص: 133

المنقول، وميزان تصحيح الأخبار)) (1) ؛ وعلل ذلك بأن هذا العلم بالنسبة للرواية كقواعد النحو لمعرفة صحة التراكيب العربية، وأنه لو سُمِّيَ بذلك لكان اسما على مُسَمًّى.

ولم أقف - لِقُصوري - على كلام لأهل العلم يذكر ما ذكرته، عن استفتاح الحافظ هذا وعن وجه ابتكاره فيه، وكفى به وجها وجيهاً يُّشادُ به، ويعرف طالب العلم - بواسطته- الموقع العلمي الذي هو فيه؛ حين يتوجه لدراسة هذا العلم فيدخل بابَهُ؛ وقد تصوَّرَ أيَّ بابٍ –من العلم- هو فيه.

ولهذا السبب قلتُ ما قلتُ، وتطاولتُ وتطفّلتُ، فإن أصبتُ فبتوفيق الله تعالى؛ والخيرَ أردتُ، وإن كانت الأخرى فأسال الله الكريم مغفرة الزلة وإقالة العثرة إنه سميع مجيب، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

(1) اختصار علوم الحديث لابن كثير مع شرحه الباعث الحثيث للشيخ أحمد محمد شاكر، تقديم الكتاب للشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، رحمهم الله جميعا ص (9) .

ص: 134