الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
مضت سنوات منذ أن خامرتنا الفكرة الأولى في تحقيق «نزهة الأنظار» ثم العزم على القيام بهذا التحقيق ومحاولة العمل عليه، فاستحال لعدم حصولنا على نسخة من مخطوطة شيخ الإسلام أحمد عارف حكمت بالمدينة المنورة وهي ضرورية، ثم الشروع فيه لما تيسرت الظروف وحصلت لدينا نسخة من هذه المخطوطة بفضل صاحب دار الغرب الإسلامي السيد الحبيب اللمسي، جزاه الله كل خير.
ولم يكن استقرار عزمنا بدون تردد، هل هذا الكتاب، الذي طبع بالحجر في سنة 1321/ 1903 م، لما كانت الطباعة والنشر في تونس في الخطوات الأولى، يستحق ترك مشاغلنا وتخصيص كل أوقاتنا له، والعناء الطويل، لينشر بين الناس باحثين وقراء؟
وللمختصين، آراء مختلفة في «نزهة الأنظار» ، وبعضهم ممن تباحثنا معهم في الموضوع يرون فيها أثرا لا يستحق الإهتمام والجهد والنشر لإعتبارهم أن مؤلفها نقل عن غيره دون اجتهاد من نفسه، ولا يمكن فعلا لأي قارئ أن يكون له غير هذا الرأي إن اكتفى بتقليب الجزء الأول من هذا الأثر، ومع ذلك خالف الصغير نور الدين هذه الآراء. وقال:«إن النقل الذي قام به مقديش من المصادر التي كتبها أسلافه جعلته يكتب كتابا رائعا ممتازا» (1).
وعند بقية الناس، في مدينة صفاقس، خاصة يعتبر هذا الكتاب من النفائس المفقودة المطلوبة - وكل مفقود نفيس - ويعتبره هؤلاء الناس، معدن أخبار صفاقس ورجالها وعائلاتها، ومن له نسخة أو وريقات منه صار يعتز بها،
(1) Temps et espace chez Maqdish - أطروحة دكتوراه مرحلة ثالثة، مرقونة، جامعة السربون، سنة 1983 - 1984 ص:42.
ويخفيها، ويتباهى بها، ويضن بها على من شوقوه إليها، فصار الكتاب أسطورة.
وتعطش الناس إليه توالى على مر الزمن، ومرجعه إلى فقدانه من أصله، إذ صادرته الحكومة التونسية لما ظهر، ولعل سبب ذلك ما أبداه مؤلفه فيه من تقدير لعلي باشا الأول المنازع لسلطة عمه حسين بن علي وذريته، حكام تونس، فقال كراتشكوفسكي في ذلك:«ويبدو أنه قد مسّ مسائل معاصرة لأن حكومة تونس صادرته على الفور ولم ينشر الكتاب» (2). وكتب أحمد بن أبي الضياف عن قلة انتشار تآليف مقديش رغم معرفة الناس له فقال: «وكتب تاريخه المعروف ولم نر تآليفه لأنها لم تصل إلى حاضرة تونس» (3)، وكما قال محمد مخلوف في نفس الإتجاه:«وتاريخه غالبه في صفاقس وعلمائها» (4).
ويرجع تعطش الناس إلى هذا المؤلف أيضا إلى مادة الكتاب، فالمؤلف أرخ لمدينته، بناء على طلب كما ذكر في مقدمته، وفي اتجاه معين يستجيب لميول دينية، وبطولية وملحمية، وخرافية كما نفهم من اختياره، وتقصيره أو تمديده لمختلف مواد الكتاب، ويستجيب لمستويات متوسطة في الفهم والثقافة باستعمال لغة بين العامية والفصحى، فنزهة الأنظار كتاب تاريخ، وأسطورة، ومعتقد ديني، وأخبار اجتماعية، يقرأ ويحكى، الوحيد في شكله الذي يداعب شعور أهل صفاقس ويستجلبهم للبحث فيه عن ذاتهم وأصولهم، لعدم مزاحم له.
وشغف الناس بالمفقود، وارضاء طلباتهم المتكررة لنشره، سبب من الأسباب التي دعتنا لتحقيقه، وليس السبب الوحيد ولا الأساسي، فالذي دعانا إلى تحقيقه أساسا، وإرضاء رغبات الناس في آن واحد، سببان متكاتفان:
استعماله كمرجع للبحث التاريخي، وإصلاح الأخطاء التي وردت في مخطوطاته، وخاصة النسخة المطبوعة المستعملة لدى الباحثين.
فنزهة الأنظار كتاب له قيمة لا يمكن نكرانها رغم نقائصه التي سنبينها في المقدمة، وإن كانت فائدة الجزء الأول من الكتاب محدودة فإن الجزء الثاني له أهمية خاصة وأهمه الخاتمة التي يؤرخ فيها المؤلف لمدينته، وهي ثلث الكتاب بجزئيه وهو في هذا ينفرد بما لم يسبقه إليه غيره، ولا من لحق بعده من المؤرخين، فيضيف عن طريق التاريخ الجهوي، الذي أخذ حديثا مكانته في مفاهيم التاريخ الحديث،
(2) تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، القاهرة 1963، 2/ 768.
(3)
إتحاف أهل الزمان، تونس 1965، 7/ 86.
(4)
شجرة النور الزكية، ص:366.
أضواء جديدة على التأريخ التونسي، فمدينة صفاقس جزء من التراب التونسي، وتاريخها جزء من تاريخ هذه البلاد، ولون من ألوانه.
وبهذا أخذ محمود مقديش مكانته بين المؤرخين التونسيين، فترجم له ابن أبي الضياف في الإتحاف، ومحمد مخلوف في شجرة النور الزكية، وكراتشكوفسكي في الأدب الجغرافي، ونالينو (Nallino) في مقالة طويلة نشرها ضمن مئوية أماري (5) وأدرجه أحمد عبد السلام ضمن المؤرخين التونسيين في أطروحته (6)، ومحمد محفوظ في تراجم المؤلفين التونسيين (7)، وغيرهم، وأخذ كتابه «نزهة الأنظار» مكانه بين كتب التراث التاريخي، وصار يستعمل مرجعا في كتابة التاريخ الحديث المتعلق بالمدن، والإقتصاد، والإجتماع، وعلاقة المغرب بالمشرق أثناء القرن الثامن عشر، وقلما تنشر دراسة في هذه الأبواب دون الإشارة إليه والإعتماد عليه، وخصص له الصغير نور الدين أطروحة دكتوراه، المرحلة الثالثة ناقشها في جامعة السربون سنة 1983 - 1984 سمّاها» «Temps et espace chez Maqdish» : الزمان والفضاء عند مقديش» وقال فيها اعتمادا على محمد الهادي الشريف في مقالته حول التاريخ الإقتصادي والإجتماعي التونسي في القرن الثامن عشر من خلال المصادر المحلية (8)«إنّ كتاب مقديش له ميزة خاصة، اعتبارا للمصادر المختلفة التي نقل عنها، وهو يمثل في آن واحد عملا فريدا متميزا لأن مؤلفه ينتمي إلى مدينة ثانوية، وله ارتباط بالوسط التجاري، ولأنه مثقف أيضا يمتثل في كتابته للقواعد التقليدية» (9).
فإن كان هذا هو اعتبار الكتاب واستعماله، فمن المفيد بل من اللازم تنقيح هذا المرجع وتيسير استعماله، وعلى ذلك عزمنا وشرعنا أملنا التوفيق والإفادة، وبالله نستعين، وعليه نتوكل.
(5) Venezia a Sfax Nel Secolo XVIII Secondo il crovista arabo Maqdish.
(6)
Les historiens tunisiens des XVII،XVIII et XIX siecles باريس 1973.
(7)
دار الغرب الإسلامي، 4/ 356 - 364.
(8)
«L' histoire economique et sociale de la Tunisie au XVIII siecle a travers les sources locales» ، in : les arabes par leurs archives de J. Becque، pp. 116 - 117
(9)
المصدر السابق، ص:41.