المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خامسا: تمتع الأجنبي بالأمان - نظرات استشرافية في فقه العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغير المسلمين

[حسن بن محمد سفر]

الفصل: ‌خامسا: تمتع الأجنبي بالأمان

‌خامساً: تمتع الأجنبي بالأمان

جاء الإسلام بشريعة عادلة ونظم إنسانية تحترم الإنسان وتكرمه وتمنحه الرعاية والحماية والأمان. وقد أبان الفقهاء أن الأمان للأجنبي يتمثل في تحقيق الدولة الإسلامية الأمن والحماية لمن لجأ إليها (1) . وقد عرّفه فقهاء المالكية بأنه " رفع استباحة دم الحربي، واسترقاقه وماله حين قتاله. مع استقراره تحت حكم الإسلام مدة ما "(2) . وقد ضرب الإسلام أروع الأمثلة في تمتع الأجنبي بالأمان. قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (3) . والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أماناً أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام وحتى يرجع إلى داره ومأمنه ووطنه (4) .

(1) انظر: الإسلام والعلاقات الدولية: محمد الصادق عفيفي، ص317، دار الرائد العربي، بيروت 1406هـ.

(2)

انظر: الحطاب، ج3، ص360؛ حاشية العدوي على الخرشي، ج3، ص141.

(3)

سورة التوبة، الآية رقم:6.

(4)

تفسير الحافظ ابن كثير، ج2، ص127.

ص: 16

وقال الإمام القرطبي رحمه الله: " وقد كان المشركون يطلبون لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الكلام في الصلح وغيره من مصالح دنياهم، وقد أجمع الفقهاء على أن من طلب الأمان لسماع كلام الله والتعرف على شرائع الإسلام يجب أن يعطاه ثم يرد إلى مأمنه للآية الكريمة، وإن حكمها باق مستمر إلى يوم القيامة، ولم يشرع الجهاد في الإسلام إلا لتمكين كل فرد من العالم من سماع كلام الله في أمن واطمئنان وحرية تامة "(1) . وقد قرر الإمام الفقيه الحسن البصري رحمه الله وكذا مجاهد رحمه الله أن هذه الآية من محكم آي الذكر الحكيم إلى يوم القيامة (2) .

ومن خلال هذه النصوص الشرعية والأقوال الفقهية يتضح كفالة الإسلام في تمتع المستأمن في المحافظة على نفسه وماله لكونه إنساناً ما دام محافظاً على الآداب والسلوك الإسلامي وفقه العلاقات الدولية وفهمه له ولم ينحرف عنه. ومما يزيد تمتع الأجنبي بالأمان في شريعة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: إن المستأمن بمنزلة أهل الذمة في دارنا إجماعاً (3) .

(1) الجامع لأحكام القرآن: الإمام القرطبي، ج5، ص211.

(2)

انظر: تفسير الزمخشري، ج2، ص29؛ الرازي، ج4، ص398.

(3)

انظر: شرح السير الكبير، ج2، ص226.

ص: 17

وقد أشار الإمام السرخسي [483 هـ ت] في المبسوط: " أن أموالهم صارت مضمونة بحكم الأمان فلا يمكن أخذها، ولا تقيد حريتهم في الاعتقاد والتنقل والمسكن، ولا يزج بهم في السجون وتجب رعاية هذا الأمان ما دام ساري المفعول "(1) .

ولا شك أن هذا التمتع إنما هو مصدر للرعاية الحقيقية التي منحتهم إياها الشريعة الإسلامية أكثر من القانون الدولي. وقد رتب الفقهاء على هذه الامتيازات أنه لا يجوز لدار الإسلام تسليم المستأمن إلى دولته دون الرجوع إليه ورضاه بذلك ولو على سبيل المبادلة بأسير مسلم (2) .

(1) انظر: بدائع الصنائع: الكاساني، ج7، ص107.

(2)

انظر: شرح السير الكبير، ج3، ص300؛ العلاقات الدولية في الحروب الإسلامية: الشيخ علي قراعة، ص86، دار مصر للطباعة.

ص: 18

كما تظهر لنا سماحة الإسلام بصورة تدعو على الإعجاب والإكبار لعظمة هذه الشريعة الإسلامية ذات النزعة الإنسانية إذا علمنا أنه يدعو ببر المستأمن، والرفق في معاملته؛ فهذا الفقيه الضليع الإمام الشيباني رحمه الله يقول: " لا بأس أن يصل المسلم الرجل المشرك قريباً كان أم بعيداً، محارباً كان أم ذمياً، لحديث «سلمة بن الأكوع. قال: صليت الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل أنت واهب لي ابنة أم قرفة؟ قلت: نعم، فوهبتها له، فبعث بها إلى خاله حزن بن أبي وهب وهو مشرك وهي مشركة» . «وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسمائة دينار إلى مكة حين قحطوا، وأمر بدفعها إلى أبي سفيان بن حرب ليتولى توزيعها على المحتاجين من أهل مكة» (1) . فأي امتياز وتمتع للأجنبي في نظام أو قانون مثل الإسلام. فلم تكن نظرية بل كانت سلوكاً واقعياً في حياة المسلمين وفي صلاتهم وعلاقاتهم بغيرهم وهي جزء لا يتجزأ من العقيدة. وإن الخروج على العهود وعدم الالتزام (2) بها وتطبيقها يعد خيانة والله لا يحب الخائنين.

(1) انظر: السير الكبير، ج1، ص69.

(2)

انظر: أصول العلاقات الدولية في الإسلام: عمر أحمد الفرجاني، ص131، طرابلس، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، 1393هـ؛ العلاقات الدولية في الحروب الإسلامية / ص 87.

ص: 19