الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادساً: الموفدون والديبلوماسيين
الديبلوماسية هي " فنون وأساليب التعاون والتعامل بين الدول لتنظيم علاقاتها المختلفة من سياسية، وتجارية، وثقافية، وعسكرية وعلمية ، ولتسوية ما قد يطرأ من أزمات أو فتور يشوب هذه العلاقات، صديقة كانت هذه الدول أم غير صديقة "(1) .
وعَرَف الإسلام منذ بداياته نوعاً من هذه العلاقات مع ما كان يحيط به من قبائل ومجتمعات (2) . وقد تطورت العلاقات الديبلوماسية في الدول الإسلامية واتخذت وجهاً أكثر إشراقاً وتطويراً، وأكثر رقياً بفضل ما وضعه لها النبي صلى الله عليه وسلم من قواعد وآداب وصور متعددة من الحماية والرعاية والمحافظة على الموفدين والديبلوماسيين. كما رافقت العلاقات الديبلوماسية بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى صلات حضارية مهمة أسهمت في تقدم البشرية من مختلف الوجوه منها:
(1)
الحماية للموفدين والديبلوماسيين:
(1) انظر: الديبلوماسية في الإسلام، ص17؛ دراسات: علي يوسف نور، الشرق، العدد 10476، أكتوبر 1991م.
(2)
انظر: قانون العلاقات الديبلوماسية: عبد العزيز محمد سرحان، ص18، مطبعة جامعة عين شمس، القاهرة، 1974م.
اعترف العرب بقدسية الموفدين والديبلوماسيين أي مبعوثي الأمم (1) الأخرى. ولما جاء الإسلام بنظامه العادل وتشريعاته القائمة على الاحترام، والمساواة، والكرامة الإنسانية شملت نظم الدولة الإسلامية الموفدين، والسفراء، والديبلوماسيين الوافدين إليها بالأمان والسلام طوال مدة بقائهم في بلادهم حتى يعودوا مطمئنين إلى أوطانهم. كما عرف عن الدولة الإسلامية منذ تأسيسها ونشأتها الحرص التام على تمتع الموفدين، والسفراء، والديبلوماسيين بما يعرف في الاصطلاح الحديث المعاصر للقانون الدولي العام بقاعدة الحصانة الشخصية (2) .
(1) انظر: النظم الدولية في القانون والشريعة: عبد الحميد الحاج، ص112، معهد الدراسات الإسلامية، القاهرة، 1975م.
(2)
انظر: سلطات الأمن والحصانات الديبلوماسية: فادي المالح، ص685، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1981م.
إذ من المعلوم في الفقه الإسلامي أن ثبوت الأمان للموفد من قومه، أو دولته إلى بلاط الدولة الإسلامية نافذ المفعول بمجرد دخوله إلى الديار الإسلامية إذا ثبت أنه رسول موفد من قومه ولا يكلف إقامة البيّنة، لذا اكتفى الفقهاء بالعلامة وهي أن يكون معه كتاب من حاكم بلاده. فإذا أخرج الكتاب فالظاهر أنه صادق والبناء على الظاهر واجب فيما لا يمكن الوقوف على حقيقته، وهنا لا يتعرض لشخصه بسوء حتى يعود إلى بلاده، لأن أمر القتال والصلح لا يتم إلا بالرسل فلا بد من تحقيق الأمان لهم لتحقيق الغرض من إرسالهم. فقد جاء في كتاب " السير الكبير " للإمام الفقيه محمد بن الحسن الشيباني أن " الولاة إذا ما لقوا رسولاً يسألونه عن اسمه، فإن قال أنا رسول الملك بعثني إلى ملك العرب وهذا كتابه معي، وما معي من الدواب والمتاع والرقيق فهديه إليه فإنه يصدق ولا سبيل عليه، ولا يتعرض له، ولا لما معه من المتاع والسلاح والرقيق والمال. وكذلك لو أن المسلمين أسروا مركباً في البحر، وقال نفر من ركابها: نحن رسل بعثنا الملك فلا يتعرض لهم "(1) . وظاهر النص الفقهي أن الرسل سواء جاؤوا من البر أو البحر فهم آمنون مطمئنون لا يحسون بسوء
(1) انظر: السير الكبير شرح السرخسي، ج2، ص471، 473، طبعة معهد المخطوطات، جامعة الدول العربية.
ولا يتعرض لهم بأذى (1) .
(2)
عصمة دم الموفدين والديبلوماسيين:
(1) انظر: رسل الملوك ومن يصلح للسفارة: ابن الفراء، ص 138.
وقد تناول الفقهاء رحمهم الله مفهوم الحماية والرعاية لهؤلاء فثبتت الأدلة الواضحة على العصمة لدماء الرسل والموفدين والديبلوماسيين وصيانة شخصيتهم من أي أذى حتى لو اختلفت وجهات النظر في المفاوضة معهم، وتكلم المبعوث الموفد والديبلوماسي القادم إلى أرض الدولة الإسلامية بكلام لا يتفق مع احترام عقائد المسلمين مما يوجب قتله أو فشل المبعوثين السياسيين في القيام بمهمتهم، فيظل لهم حق التمتع بالحماية والحصانة حتى يعودوا إلى بلادهم التي يأمنون فيها ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة في المعاملة الكريمة والحماية والرعاية العظيمة إذ «لما قدم رسولا مسيلمة الكذاب ابن النواحة وابن أثال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال لهما: " أتشهدان بأني رسول الله؟ قالوا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسوله، لو كنت قاتلا رسولاً لقتلتكما» (1) ، فمضت السُنة أن الرسل لا تقتل (2) ، وعلى هذا نهج الحكام المسلمين وولاة أمر الدولة الإسلامية على مر السنين والقرون مسترشدين في ذلك سُنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
(1) نيل الأوطار: الشوكاني، ج8، ص29.
(2)
انظر: الإسلام والعلاقات الدولية، ص122.
«ويروى عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقي في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أخيس بالعهد أي لا أنقض العهد، ولا أحبس البرود أي الرسل، ولكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع» (1) . قال الإمام الشوكاني: معنى هذا الحديث دليل على أنه يجب الوفاء بالعهد للكفار يجب للمسلمين، لأن الرسالة تقتضي جواباً يصل على يد الرسل فكان ذلك بمنزلة عقد العهد، وحتى لا يؤول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حبس الرسول أو أن إسلام رسول قريش كان خوفاً على حياته (2) . ?
(1) رواه أبو داود في سُننه، ج3، ص83.
(2)
انظر: نيل الأوطار: الشوكاني، ج8، ص30.
وقد سار على هذا النهج المحمدي الإنساني خلفاء وسلاطين وملوك وأمراء وعظماء حكام المسلمين في المحافظة على حماية الموفدين والديبلوماسيين. قال التابعي الجليل سعيد بن جبير: " جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب رضى الله عنه فقال: يا خليفة المسلمين، إن أراد الرجل منا أن يأتي بحاجة قتل، فقال علي رضى الله عنه: لا، لأن الله تبارك وتعالى يقول:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (1) .
فقد استدل الصحابي الجليل خليفة المسلمين علي رضى الله عنه بعدم جواز قتل المشرك القادم في حاجة إلى دار الإسلام بتلك الآية، ومن الحاجات التي يقدم إليها المشركون لدار الإسلام تبليغ الرسائل، ولقد نص الحنفية والشافعية والزيدية والحنابلة على أن الرسل لا تقتل (2) .
(1) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي، ج8، ص139.
(2)
السرخسي، ج10، ص92؛ المغني، ج8، ص400؛ اختلاف الفقهاء، ص33.
وما يكشف عن نبل الإسلام وكريم أخلاق السياسة للدولة الإسلامية احترامها للوضع القانوني الخاص بمبعوثي الدول الأخرى، أنه في الوقت الذي كان يقابل فيه سفراء هذه الدول بالاحترام ويحاطون بالحماية الكاملة حتى ولو خرجوا على القواعد الدولية في مخاطبة رؤساء الدول كان سفراء الإسلام ورسل رسول السلام صلى الله عليه وسلم إلى الدول غير الدول الإسلامية يعاملون كقاعدة عامة أسوأ معاملة، من ذلك أن ملك الفرس خسرو قطع الخطاب الذي أرسله إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وداسه بأقدامه ونجا حامله من القتل بأعجوبة، كما أن السفراء الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أميري الغساسنة عوملوا أسوأ معاملة، ومبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حاكم باسورا الروماني قتل على يد هذا الأخير (1) .
(1) انظر: زاد المعاد، ج1، ص30؛ قانون العلاقات الديبلوماسية، ص19.
وفي مقابل هذه المعاملة الوحشية والسلوك المشين أكرم الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث المقوقس عظيم القبط وقبل هداياه، وأكرم رسول هرقل. وقد أثرت هذه المعاملة الحسنة في بعض الرسل فدخلوا في الإسلام لما يرونه من حُسن المعاملة مما يدل على التسامح، والأمان والرعاية التي جاء بها الإسلام وشموله وعدالته ووفائه بالعهود واحترامه للمواثيق وتكريمه للإنسان (1) .
وقرر الإمام السرخسي أن " الرسل والمبعوثين لم تزل آمنة في الجاهلية والإسلام وهذا لأن أمر القتال والصلح لا يتم إلا بالرسل فلا بد من أمان الرسل لتوصل إلى ما هو المقصود "(2) . فتأمين الرسل ثابت في الشريعة الإسلامية ثبوتاً معلوماً.
(1) انظر: أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، ص200.
(2)
انظر: المبسوط: السرخسي، ج10، ص92 - 93، دار المعرفة، بيروت، ط2.