المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في أولية لسان الدين - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس - جـ ٥

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌في أولية لسان الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

‌الباب الأول

‌في أولية لسان الدين

وذكر أسلافه، الذين ورث عنهم

المجد وارتضع در أخلافه، وما يناسب ذلك مما لا

يعدل المنصف إلى خلافه

أقول: هو الوزير، الشهير الكبير، لسان الدين الطائر الصيت في المغرب والمشرق المزري عرف الثناء عليه بالعنبر والعبير، المثل المضروب في الكتابة والشعر والطب ومعرفة العلوم على اختلاف أنواعها ومصنفاته تخبر عن ذلك ولا ينبئك مثل خبير، علم الرؤساء الأعلام، الوزير الشهير الذي خدمته السيوف والأقلام، وغني بمشهور ذكره عن مسطور التعريف والإعلام، واعترف له بالفضل أصحاب العقول الراجحة والأحلام.

قال سليل السلاطين الأمير العلامة إسماعيل بن يوسف ابن السلطان القائم بأمر الله محمد بن الأحمر نزيل فاس رحمه الله في كتابه المسمى بفرائد الجمان فيمن نظمني وإياه الزمان في حق المذكور ما نصه (1) : ذو الوزارتين، الفقيه الكاتب أبو عبد الله ابن محمد الرئيس الفقيه الكاتب المنتزي ببلده لوشة عبد الله ابن الفقيه الكاتب القائد سعيد بن عبد الله، ابن الفقيه الصالح ولي الله الخطيب سعيد، السلماني اللوشي المعروف بابن الخطيب.

(1) هذا نص ما أورده أيضا في كتابه نثير فرائد الجمان: 242؛ وانظر أزهار الرياض 1: 186.

ص: 7

وقال القاضي ابن خلدون المغربي المالكي رحمه الله في تاريخه الكبير (1) ، عندما أجرى ذكر لسان الدين، ما نصه: أصل هذا الرجل من لوشة، على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج، وعلى وادي شنحيل - ويقال شنيل - المخترق (2) في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال، كان له بها سلك معدود في وزرائها (3) ، وانتقل أبوه عبد الله إلى غرناطة، واستخدم لملوك بني الأحمر، واستعمل على مخازن الطعام؛ انتهى.

وقال غيره (4) : إن بيتهم يعرف قديماً ببني الوزير، وحديثاً ببني الخطيب، وسعيد جده الأعلى أول من تلقب بالخطيب، وكان من أهل العلم والدين والخير، وكذلك سعيد جده الأقرب كان على خلال حميدة من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب، خيراً صدراً، توفي عام ثلاثة وثمانين وستمائة، وأبوه عبد الله كان من أهل العلم بالأدب والطب، وقرأ على أبي الحسن البلوطي وأبي جعفر ابن الزبير وغيرهما وأجازه طائفة من أهل المشرق، وتوفي بطريف عام أحد وأربعين وسبعمائة شهيداً يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى من العام المذكور مفقوداً ثابت الجأش (5) ، شكر الله فعله.

قلت: وما ذكره هؤلاء أكثره مأخوذ من كلامه عند تعريفه رحمه الله بنفسه آخر الإحاطة، ولنذكر ملخصه إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه، مع ما فيه من الزيادة على ما سبق، وهي تتم للطالب أمله وتوفيه.

قال رحمه الله (6) : يقول مؤلف هذا الديوان تغمد الله خطله في ساعات (7)

(1) تاريخ ابن خلدون 7: 332.

(2)

ابن خلدون: المنحرف.

(3)

ابن خلدون: كان له بها سلف معدودون في وزارتها.

(4)

انظر أزهار الرياض 1: 186.

(5)

ق: معقود الجأش.

(6)

الإحاطة: الورقة 398.

(7)

الإحاطة: ساعة.

ص: 8

أضاعها، وشهوة من شهوات اللسان أطاعها، وأوقات للاشتغال بما لا يعنيه استبدل بها اللهو لما باعها: أما بعد حمد الله الذي يغفر الخطية، ويحث من النفس اللجوج المطية، فتحرك ركائبها البطية، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد مسير السبل الخير الوطية (1) ، والرضى عن آله وصحبه منتهى الفضل ومناخ الطية (2) ، فإنني لما فرغت من تأليف هذا الكتاب الذي حمل عليه فضل النشاط، مع الالتزام لمراعاة السياسة (3) السلطانية والارتباط، والتفت إليه فراقني منه صوان درر، ومطلع غرر، قد تخلدت مآثرهم مع ذهاب أعيانهم، وانتشرت مفاخرهم بعد انطواء زمانهم، نافستهم في اقتحام تلك الأبواب، ولباس تلك الأثواب (4) ، وقنعت باجتماع الشمل بهم ولو في الكتاب، وحرصت على أن أنال منهم قرباً، وأخذت أعقابهم أدباً وحباً (5)، وكما قيل: ساقي القوم آخرهم شرباً، فأجريت نفسي مجراهم في التعريف، وحذوت بها حذوهم في بابي النسب والتصريف بقصد التشريف (6) ، والله سبحانه لا يعدمني وإياهم واقفاً يترحم، وركاب الاستغفار بمنكبه يزحم، عندما ارتفعت (7) وظائف الأعمال، وانقطعت من التكسبات حبال الآمال، ولم يبق إلا رحمة الله التي تنتاش النفوس وتخلصها وتعينها بميسم السعادة وتخصصها، جعلنا الله ممن حسن ذكره، ووقف على التماس ما لديه فكره، بمنه.

محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السلماني، قرطبي الأصل، ثم طليطليه، ثم لوشيه، ثم غرناطيه (8) ، يكنى أبا عبد الله،

(1) الإحاطة: الباهرة الوطية.

(2)

الإحاطة: المطية.

(3)

الإحاطة: الآداب.

(4)

ولباس

الأثواب: سقطت من ق.

(5)

الإحاطة: وأخذت من أعقابهم أدبا.

(6)

الإحاطة: بقصد التعريف.

(7)

الإحاطة: عند كتب.

(8)

ثم لوشيه، ثم غرناطيه: سقطت من الإحاطة.

ص: 9

ويلقب من الألقاب المشرقية بلسان الدين.

أوليتي: يعرف بيتنا في القديم بوزير (1) ، ثم حديثاً بلوشة ببني الخطيب، انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية كيحيى بن يحيى الليثي وأمثاله عند وقعة الربض الشهيرة، إلى طليطلة، ثم تسربوا (2) محومين على وطنهم قبل استيلاء الطاغية عليه، فاستقر منهم بالموسطة الأندلسية جملة من النبهاء تضمن منهم ذكر خلق، كعبد الرحمن قاضي كورة باغه، وسعيد المستوطن بلوشة الخطيب بها، المقرون اسمه بالتسويد عند أهلها، جارياً مجرى التسمية بالمركب في تاريخ الغافقي وغيره، وسكن عقبهم بها، وسكن بعضهم منتقرير مملكين إياها مختطين جبل التحصن والمنعة فنسبوا إليها.

وكان سعيد هذا من أهل العلم والخير والصلاح والدين والفضل وزكاء الطعمة (3) ، أوقفني الوزير (4) أبو الحكم ابن محمد المنتقريري - وهو بقية هذا البيت وإخباريه - على جدار برج ببعض ربى أملاكنا بلوشة تطؤه الطريق (5) المارة من غرناطة إلى إشبيلية، وقال: كان جدك يذيع بهذا المكان فصولاً من العلم، ويجهر بتلاوة القرآن، فيستوقف الرفاق المدلجة الحنين إلى نغمته، والخشوع إلى صدقه (6) ، فتعرس رحالها لصق جداره، وتريح ظهرها موهناً إلى أن يأتي على ورده. وتوفي وقد أصيب بأهله وحرمه عندما تغلب العدو على بلده عنوة في خبر طويل. وقفت على مكتوبات من المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود أمير المسلمين بالأندلس في غرض إعانته والشفاعة إلى الملكة زوج سلطان قشتالة بما يدل على نباهته قديماً

(1) الإحاطة: ببني وزير.

(2)

الإحاطة: تحرفوا.

(3)

الإحاطة: النعمة.

(4)

الإحاطة: الشيخ المسن الوزير.

(5)

الإحاطة: في وسط الطريق المارة.

(6)

الإحاطة: لحنين نغمته ولخشوع صدقه.

ص: 10

ويفيد إثارة عبرة، واستقالة عثرة.

وتخلف ولده عبد الله جارياً مجراه في التجلد والتمعش من حر النشب، والتزيي بالانقباض، والتحلي بالنزاهة، إلى أن توفي وتخلف ولده سعيداً جدنا الأقرب، وكان صدراً خيراً مستولياً على خلال حميدة، من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب، نافس جيرته بني الطنجالي الهاشميين، وتحول إلى غر ناطة عندما شعر بعملهم على الثورة، واستطلاعهم على النزوة التي خضدت الشوكة، واستأصلت منهم الشأفة، وصاهر بها الأعيان من بني أضحى بن عبد اللطيف الهمداني أشراف جند حمص الداخلين إلى الجزيرة في طليعة (1) بلج بن بشر القشيري، ولحقه من جراء منافسيه لما جاهروا السلطان بالخلعان اعتقال أعتبه السلطان بعده، وأحظاه على تفئته، وولاه الأعمال النبيهة والخطط الرفيعة.

حدثني من أثق به قال: عزم السلطان على أن يقعد جدك أستاذاً لولده، فأنفت من ذلك أم الولد إشفاقاً عليه من فظاظة كانت فيه، ثم صاهر القواد من بني الجعدالة على أم أبي، ومتت إلى زوج السلطان ببنوة الخؤولة (2) ، فنبه القدر، وانفسحت الخطوة، وانثال على البيت الرؤساء والقرابة، وكان - على قوة شكيمته وصلابة مكسره - مؤثراً للخمول، محباً في الخير، حدثني أبي عن أمه قالت: قلما تهنأنا نحن وأبوك (3) طعاماً حافلاً لإيثاره به من كان يكمن بمسجد جواره من أهل الحاجة وأحلاف الضرورة، يهجم علينا منهم بكل وارد، ويجعل يده مع يده (4) ، ويشركه في أكيلته (5) ، ملتذاً بموقعها من فؤاده. وتوفي في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، صهرته الشمس مستسقياً في بعض المحول،

(1) في ص ق: طلعة، وأثبتناه رواية الإحاطة، والمشهور: طالعة.

(2)

الإحاطة: ومتت على أم السلطان ببني الأخوة.

(3)

الإحاطة: مع أبيك.

(4)

مع يده: سقطت من ق والإحاطة.

(5)

الإحاطة: ويشاركه في أكلته.

ص: 11

وقد استغرق في ضراعته، فدلت الحتف على نفسه.

وتخلف والدي نابتاً في الترف نبت العليق يكنفه رعي أم تجر ذيل نعمة وتحنو منه على واحد تحذر عليه النسيم إذا سرى، ففاته لترفه حظ كبير من الاجتهاد؛ وعلى ذلك فقرأ على الخطيب أبي الحسن البلوطي (1) والمقرئ أبي عبد الله ابن مسمغور (2) وأبي جعفر ابن الزبير (3) خاتمة الجلة، وكان يفضله. وانتقل إلى لوشة بلد سلفه مخصوصاً بلقب الوزارة إلى أن قصدها السلطان أبو الوليد متخطياً إلى الحضرة هاوياً إلى الملك البيضة، فعضد أمره، وأدخله بلده، لدواع يطول استقصاؤها، ولما تم له الأمر صحب ركابه إلى دار ملكه مستأثراً بشقص (4) عريض من دنياه، وكان من رجال الكمال، طلق الوجه، مع الظرف، وتضمن كتاب التاج المحلى والإحاطة رائقاً من شعره، وفقد في الكائنة العظمى بطريف يوم الاثنين سابع جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ثابت الجأش، غير جزوع ولا هيابة. حدثني الخطيب بالمسجد الجامع من غرناطة الفقيه أبو عبد الله ابن اللوشي قال: كبا بأخيك الطرف، وقد غشي العدو، وجنحت إلى إردافه، فانحدر إليه والدك، وصرفني، وقال: أنا أولى به، فكان آخر العهد بهما؛ انتهى.

ومما رثي به والد لسان الدين وأخوه ما ذكره في الإحاطة في ترجمة أبي محمد عبد الله الأزدي إذ قال ما نصه (5) : ومما كتب إلي فيما أصابني بطريف:

خطب ألم فأذهب الأخ والأبا رغماً لأنف شاء ذلك أو أبى

قدر جرى في الخلق لا يجد امرؤ عما به جرت المقادر مهربا

إما جزعت له فعذر بين قضت الدواهي أن تحل له الحبا

(1) الإحاطة: الملوكي.

(2)

ق ص: سمعون.

(3)

وقع بدله في الإحاطة: وأبي إسحاق ابن زروال.

(4)

الشقص: الحصة والنصيب.

(5)

ترجم لعبد الله الأزدي في الإحاطة الورقة: 218؛ ولكن الشعر لم يرد في هذه النسخة.

ص: 12

لا كان يومهما الكريه فكم وكم

فيه المجلي والمصلي قد كبا

يوم لوى ليانه لم يبق لل

إسلام حد مهند إلا نبا

وتجمعت فيه الضلال فقابلت

فيه الهدى فتفرقت أيدي سبا

آهاً لعز المحتدين صرامة

لأذل عز المهتدين وأذهبا

دهم المصاب فعم إلا أنه

فيما يخصك ما أمر وأصعبا

يا ابن الخطيب خطاب مكترث لما

قد ألزم البث الألد وأوجبا

قاسمتك الشجو المقاسمة التي

صارت بخالص ما محضتك مذهبا

لم لا وأنت لدي سابق حلبة

تزهى بمن في السابقين تأدبا

لا عاد يوم نال منك ولا أتت

سنة به ما الليل أبدى كوكبا

يهني الشهيدين الشهادة إنها

سبب يزيد من الإله تقربا

وردا على دار النعيم وحورها

كلفاً ببرهما يزدن ترحبا

فاستغن بالرحمن عمن قد ثوى

من حزب خير من ارتضى ومن اجتبى فأجبته بقولي:

أهلاً بمقدمك السني ومرحبا

فلقد حباني الله منك بما حبا

وافيت والدنيا علي كأنها

سم الخياط وطرف صبري قد كبا

والدهر قد كشف القناع ولم يدع

لي عدة للروع إلا أذهبا

صرف العنان إلي غير مدافع

عني، وأثبت دون نصرتي الشبا (1)

خطب تأوبني يضيق لهوله

رحب الفضا وتهي لموقعه الربى

لو كان بالورق الصوادح في الدجى (2)

ما بي لعاق الورق عن أن تندبا

فأنرت من ظلماء همي ما دجا

وقدحت من زند اصطباري ما خبا

(1) اضطرب ترتيب هذه الأبيات الأربعة في ق.

(2)

الدجى: سقطت من ق ص.

ص: 13

فكأنني لعب الهجير بمهجتي

وبعثت لي من نفحها نفس الصبا (1)

لا كان يومك يا طريف فطالما

أطلعت للآمال برقاً خلبا

ورميت دين الله منك بفادح

عم البسيط مشرقاً ومغربا

وخصصتني بالزرء والثكل الذي

أوهى القوى مني وهد المنكبا

لا حسن للدنيا لدي ولا أرى

للعيش بعد أبي وصنوي مأربا

لولا التعلل بالرحيل وأننا

ننضي من الأعمار فيها مركبا

فإذا ركضنا للشبيبة أدهماً

حال المشيب به فأصبح أشهبا

والملتقى كثب وفي ورد الردى

نهل الورى من شاء ذلك أو أبى

لجريت طوع الحزن دون نهاية

وذهبت من خلع التصبر مذهبا

والصبر أولى ما استكان له الفتى

رغماً، وحق العبد أن يتأدبا (2)

وإذا اعتمدت الله يوماً مفزعاً

لم تلف منه سوى إليه المهربا [واقعة طريف]

وواقعة طريف هذه استشهد فيها جماعة من الأكابر وغيرهم، وكان سببها أن سلطان فاس أمير المسلمين أبا الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس برسم الجهاد ونصرة أهلها على عدوهم، حسبما جرت بذلك عادة سلفه وغيرهم من ملوك العدوة، وشمر عن ساعد الاجتهاد، وجر من الجيوش الإسلامية نحو ستين ألفاً، وجاء إليه أهل الأندلس بقصد الإمداد، وسلطانهم ابن الأحمر ومن معه من الأجناد، فقضى الله الذي لا مرد لما قدره، أن صارت تلك الجموع مكسرة، ورجع السلطان أبو الحسن مفلولاً، وأضحى حسام الهزيمة عليه وعلى من معه مسلولاً، ونجا برأس طمرة

(1) ق: وبعثت لي نفس الصبابة والصبا.

(2)

ق: يتأوبا.

ص: 14

ولجام (1) ، ولا تسل كيف، وقتل جمع من أهل الإسلام، ولمة وافرة من الأعلام، وأمضى فيهم حكمه السيف، وأسر ابن السلطان وحريمه وخدمه، ونهبت (2) ذخائره، واستولت على الجميع أيدي الكفر والحيف، واشرأب العدو الكافر لأخذ ما بقي من الجزيرة ذات الظل الوريف، وثبتت قدمه إذ ذاك في بلد طريف، وبالجملة فهذه الواقعة من الدواهي المعضلة الداء، والأرزاء التي تضعضع لها ركن الدين بالمغرب، وقرت بذلك عيون الأعداء، ولولا خشية الخروج عن المقصود لأوردت قصتها الطويلة، وسردت منها ما يحق لسامعه أن يكثر بكاءه وعويله، وقد ألم بها الولي قاضي القضاة ابن خلدون المغربي في كتاب " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر "(3) فليراجعه من أراده في المجلد الثامن من هذا التاريخ الجامع، فإنه ذكر حين ساق هذه الكائنة ما يخرس الألسن ويصم المسامع، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

[واقعة الربض]

وقول لسان الدين رحمه الله في أولية سلفه إنهم انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية - إلى آخره، أشار بذلك إلى واقعة الربض الشهيرة التي ذكرها ابن حيان في تاريخه الكبير المسمى بالمقتبس في تاريخ الأندلس وقص أمرها غير واحد كابن الفرضي وابن خلدون، وملخصها أن أهل ربض قرطبة ثاروا على الأمير الحكم الأموي، وفيهم علماء أكابر مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب إمامنا مالك رضي الله عنه وغيره، فكانت النصرة للحكم، فلما ظفر وقتل من

(1) من قول حسان بن ثابت:

ترك الأحبة أن يقالت دونهم

ونجا برأس طمرة ولجام (2) ق: وأخذت، وفي ص بياض.

(3)

انظر تاريخ ابن خلدون 7: 261.

ص: 15

شاء أجلى من بقي إلى البلاد، وبعضهم إلى جزيرة إقريطش ببحر الإسكندرية، وفي قصتهم طول، وليس هذا محلها.

[والد لسان الدين]

وقال لسان الدين رحمه الله أيضاً في حق والده ما حاصله (1) : عبد الله بن سعيد ابن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي السلماني أبو محمد، غرناطي الولادة والاستيطان، لوشي الأصل، طليطليه قرطبيه.

وقال في الإكليل: إن طال الكلام، وجمحت الأقلام، كنت كما قيل: مادح نفسه يقرئك السلام، وإن أجحمت، فما سديت في الثناء ولا ألحمت، وأضعت الحقوق، وخفت ومعاذ الله العقوق، وهذا ولو أني زجرت طير البيان من أوكاره، وجئت بعون الإحسان وأبكاره، لما قضيت حقه بعد، ولا قلت إلا بالتي علمت سعد (2) ، فقد كان رحمه الله ذمر عزم، ورجل رخاء وأزم، تروق أنوار خلاله الباهرة، وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة، ذكاء يتوقد، وطلاقة يحسد نورها الفرقد، وكانت له في الأدب فريضة، وفي النادرة العذبة منادح (3) عريضة، تكلمت يوماً بين يديه في مسائل من الطب وأنشدته أبياتاً من شعري ورقاعاً من إنشائي فتهلل، وما برح أن ارتجل (4) :

الطب والشعر والكتابه

سماتنا في بني النجابه

هن ثلاث مبلغات

مراتباً بعضها الحجابه

(1) ترجمة والده في الإحاطة: الورقة 200.

(2)

عجز بيت للحطيئة، وصدره:

وتعذلني افناء سعد عليهم

(3) في ص ق: منادم، والتصويب عن الإحاطة.

(4)

وردت هذه المقطعات في الإحاطة: الورقة 203 وما بعدها.

ص: 16

ووقع لي يوماً بخطه على ظهر أبيات بعثتها إليه أعرض عليه نمطها:

وردت كما صدر (1) النسيم بسحرة

عن روضة جاد الغمام رباها

وكأنما هاروت أودع سحره

فيها وآثرها به وحباها

مصقولة الألفاظ يبهر حسنها

فبمثلها افتخر البليغ وباهى

فقررت عيناً عند رؤية حسنها

إني أبوك، وكنت أنت أباها ومن نظمه قوله:

وقالوا: قد دنا فاصبر ستشفى

فترياق الهوى بعد الديار

فقلت: هبوا بأن الحق هذا

بقلبي يمموا فبم اصطباري وقال:

عليك بالصمت فكم ناطق

كلامه أدى إلى كلمه

إن لسان المرء أهدى إلى

غرته والله من خصمه

يرى صغير الجرم مستضعفاً

وجرمه أكبر من جرمه وقال:

أنا بالدهر يا بني خبير

فإذا شئت علمه فتعالا

كم مليك قد ارتعى منه روضاً

لم يدافع عنه الردى ما ارتعى لا

كل شيء تراه يفنى، ويبقى

ربنا الله ذو الجلال تعالى مولده بغرناطة في جمادى الأولى عام اثنين وسبعين وستمائة، وفقد يوم الوقيعة الكبرى بظاهر طريف، يوم الاثنين سابع جمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعمائة، ورثيته بقصيدة أولها (2) :

(1) الإحاطة: كما ورد.

(2)

راجع الإحاطة: الورقة 203.

ص: 17

سهام المنايا لا تطيش ولا تخطي

وللدهر كف تسترد الذي تعطي

وإنا وإن كنا على ثبج الدنا

فلا بد يوماً أن نحل على الشط

تساوى على ورد الردى كل وارد

فلم يغن رب السيف عن ربة القرط

وسيان ذل الفقر أو عزة الغنى

ومن أسرع السير الحثيث ومن يبطي وهي طويلة.

قال: ورثاه شيخنا أبو زكريا ابن هذيل بقصيدة يقول فيها:

إذا أنا لم أرث الصديق فما عذري

إذا قلت أبياتاً حساناً من الشعر

ولو كان شعري لم يكن غير ندبة

وأجريت دمعي لليراع عن الحبر

لما كنت أقضي حق صحبته التي

توخيتها عوناً على نوب الدهر

رماني عبد الله يوم وداعه

بداهية دهياء قاصمة الظهر

قطعت رجائي حين صح حديثه

فإن يوف لي دمعي فقد (1) خانني صبري

وهل مؤنس كابن الخطيب لوحشتي

أبث له همي وأودعه سري ومنها:

تولى وأخبار الجلالة بعده

مؤرجة الأنباء طيبة النشر

رضينا بترك الصبر من بعد بعده

على قدر ما في الصبر من عظم الأجر

أتى بفتيت المسك فوق جبينه

نجيعاً يفوق المسك في موقف الحشر

لقد لقي الكفار منها بعزمة

لها لقيته الحور بالبر والبشر

تجلت عروساً جنة الخلد في الوغى

تقول لأهل الفوز: لا يغلكم مهري

فكان من القوم الذين تبادروا

إلى العالم الأعلى مع الرفقة الغر

تعالوا بنا نسقي الأباطح والربى

بقطر دموع غالبات على القطر

(1) الإحاطة: فإن لم يوف الدمع قد.

ص: 18

ألا لا تلم عيني لسكب دموعها

فما سكبت إلا على الماجد الحر ومنها:

أإخواننا جدوا فكم (1) جد غيركم

وسيروا على خف من الحوب والوزر

على سفر انتم لدار تأخرت

وما الفوز في الأخرى سوى خفة الظهر

وما العيش إلا يقظة مثل نومة

وما العمر إلا كالخيال الذي يسري

على الحق أنتم قادمون فشمروا

فليس لمخذول هنالك من عذر وهي طويلة، تجاوز الله عنا وعنهم أجمعين؛ انتهى ما لخصته من كلام لسان الدين رحمه الله.

[ترجمة أبي بكر بن عاصم]

قلت: على منوال كلامه في تحلية أبيه النبيه نسج الوزير الكاتب الشهير القاضي أبو يحيى ابن عاصم القيسي الأندلسي رحمه الله في وصف أبيه القاضي أبي بكر ابن عاصم (2) صاحب التحفة في علم القضاء، وهو محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي، قاضي الجماعة، الرئيس أبو بكر، ونص المحتاج إليه في هذا المحل من كلام ولده قوله رحمه الله: إن بسطت القول، أو عددت الطول، وأحكمت الأوصاف، وتوخيت الإنصاف، أنفدت الطروس، وكنت كما يقول الناس في المثل من مدح العروس، وإن أضربت عن ذلك صفحاً فلبئسما صنعت، ولشر ما أمسكت المعروف ومنعت، ولكم من حقوق الأبوة

(1) ص ق: جدواكم.

(2)

كان من أكابر فقهاء غرناطة؛ تولى قضاءها سنة 888؛ وله مؤلفات عديدة، منها شرحه على تحفة والده في الأحكام، وكتابه جنة الرضى، وكتاب الروض الأريض (انظر ترجمته في أزهار الرياض 1: 145) وسيورد المقري نقولا كثيرة عنه.

ص: 19

أضعت، ومن ثدي للمعقة رضعت (1) ، ومن شيطان لغمصة الحق أطعت، ولم أرد إلا الإصلاح ما استطعت، وإن توسطت واقتصرت، وأوجزت واختصرت، فلا الحق نصرت، ولا أفنان البلاغة هصرت، ولا سبيل الرشد أبصرت، ولا عن هوى الحسدة أقصرت، هذا ولو أني أجهدت ألسنة البلاغة فجهدت، وأيقظت عيون الإجادة فسهدت، واستعرت مواقف عكاظ على ما عهدت، لما قررت من الفضل إلا ما به الأعداء قد شهدت، ولا استقصيت من المجد إلا ما أوصت به الفئة الشانئة لخلفها الأبتر وعهدت، فقد كان رحمه الله علم الكمال، ورجل الحقيقة، وقاراً لا يخف راسيه، ولا يعرى كاسيه، وسكوناً لا يطرق جانبه، ولا يرهب غالبه، وحلماً لا تزل حصاته، ولا تهمل وصاته، وانقباضاً لا يتعدى رسمه، ولا يتجاوز حكمه، ونزاهة لا ترخص قيمتها، ولا تلين عزيمتها، وديانة لا تحسر أذيالها، ولا يشف سربالها، وإدراكاً لا يفل نصله، ولا يدرك خصله، وذهناً لا يخبو نوره، ولا ينبو مطروره، وفهماً لا يخفى فلقه، ولا يهزم فيلقه، ولا يلحق بحره، ولا يعطل نحره، وتحصيلاً لا يفلت قنيصه، ولا يسام حريصه، بل لا يحل عقاله، ولا يصدأ صقاله، وطلباً لا تتحد فنونه، ولا تتعين عيونه، بل لا تحصر معارفه، ولا تقصر مصارفه، يقوم أتم قيام على النحو على طريقة متأخري النحاة، جمعاً بين القياس والسماع، وتوجيه الأقوال البصرية، واستحضار الشواهد الشعرية، واستظهار (2) اللغات والأعربة، واستبصار في مذاهب المعربة، محلياً أجياد تلك الأعاريب، من علمي البديع والبيان بجواهر أسلاك، ومجلياً في آفاق تلك الأساليب، من فوائد هذين الفنين زواهر أفلاك، إلى ما يتعلق بذلك من قافية للعروض وميزان، وما للشعر من بحور وأوزان، تضلع بالقراءات أكمل اضطلاع، مع التحقيق والاطلاع،

(1) ولكم

رضعت: سقطت من ص.

(2)

ق: واستظهارا.

ص: 20

فيقنع ابن الباذش في إقناعه، ويشرح لابن شريح ما أشكل في أوضاعه، ويقصر عن رتبته الداني، ويحوز صدر المنصة من حرز الأماني، ويشارك في المنطق وأصول الفقه والعدد والفرائض والأحكام مشاركة حسنة، ويتقدم في الأدب نظماً ونثراً وكتباً وشعراً، إلى براعة الخط، وإحكام الرسم، وإتقان بعض الصنائع العملية، كتفسير الكتب، وتنزيل الذهب، وغيرهما. نشأ بالحضرة العلية لا يغيب عن حلقات المشيخة، ولا يريم عن مظان الاستفادة، ولا يفتر عن المطالعة والتقييد، ولا يسأم من المناظرة والتحصيل، مع المحافظة التي لا تنخرم ولا تنكسر، والمفاوضة في الأدب ونظم القريض والفكاهة التي لا تقدح في وقار، انتهى ملخصاً.

وقد أطال في تعريفه بأوراق عدة، ثم قال: مولده في الربع الثالث من يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى من عام ستين وسبعمائة كما نقلته من خط ابنه، ثم قال: وله مسائل متعددة في فنون شتى ضمنها كل سديد من البحث وصحيح النظر، وأما كتبه فالدر النفيس، والياقوت الثمين، والروض الأنف، والزهر النضير، نصاعة لفظ، وأصالة غرض، وسهولة تركيب، ومتانة أسلوب، انتهى.

ثم ذكر مشيخته وأطال، ثم سرد تآليفه: الأرجوزة المسماة ب " تحفة الحكام "، والأرجوزة المسماة ب " مهيع الوصول في علم الأصول " أصول الفقه، والأرجوزة الصغرى المسماة ب " مرتقى الوصول للأصول " كذلك، والأرجوزة المسماة ب " نيل المنى في اختصار الموافقات "، والقصيدة المسماة ب " إيضاح المعاني في القراءات الثماني "، والقصيدة المسماة ب " الأمل المرقوب في قراءة يعقوب "، والقصيدة المسماة ب " كنز المفاوض في علم الفرائض "، والأرجوزة المسماة ب " الموجز في النحو "، حاذى بها رجز ابن مالك في غرض البسط له والمحاذاة لقصده، والكتاب المسمى ب " الحدائق " في أغراض شتى من الآداب والحكايات.

توفي بين العصر والمغرب يوم الخميس حادي عشر شوال عام تسعة وعشرين

ص: 21

وثمانمائة؛ انتهى كلام الوزير ابن عاصم، وإنما ذكرته لأن أهل الأندلس يقولون في حقه: إنه ابن الخطيب الثاني، ولولا خوف الإطالة لذكرت بعض إنشائه ونظمه، فإنه في الذروة العليا، وقد ذكرت جملة من ذلك في أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض.

ولنرجع إلى الترجمة المقصودة، فنقول: والسلماني نسبة إلى سلمان - بإسكان اللام على الصحيح - قال ابن الأثير: والمحدثون يفتحون اللام، وسلمان: حي من مراد من عرب اليمن القحطانيين، دخل الأندلس منهم جماعة من الشام وسلف لسان الدين رحمه الله تعالى ينتسبون إليهم كما سبق في كلامه، وهو مشهور إلى الآن بالمغرب بابن الخطيب السلماني، ولذلك خاطبه شيخه شيخ الكتاب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب حين حل مالقة بقوله (1) :

أيا كتابي إذا ما جئت مالقة

دار المكارم من مثنى ووحدان

فلا تسلم على ربع لذي سلم

بها وسلم على ربع لسلمان فأجابه لسان الدين رحم الله تعالى الجميع بقوله:

يا ليت شعري هل يقضى تألفنا

ويثني الشوق عن غاياته الثاني

أو هل يحن على نفسي معذبها

أو هل يرق لقلبي قلبي الثاني [عبد العزيز الفشتالي ونونيته]

وعلى ذكر نسبة ابن الخطيب لسلمان فقد تذكرت هنا بيتاً أنشدنيه لنفسه صاحبنا الوزير الشهير الكبير البليغ صاحب القلم الأعلى سيدي أبو فارس عبد العزيز الفشتالي (2) - صب الله تعالى عليه شآبيب رحماه - من قصيدة نونية مدح

(1) انظر أزهار الرياض 1: 313.

(2)

عبد العزيز بن محمد القشتالي كان كاتب أسرار الدولة المنصورية، ترجم له المؤلف في كتابه روضة الآس: 112 - 163.

ص: 22

بها سيد الوجود، صلى الله عليه وسلم، وتخلص إلى مدح مولانا السلطان المنصور بالله أبي العباس أحمد الحسني أمير المؤمنين صاحب المغرب رحمه الله تعالى، وهو:

أولئك فخري إن فخرت على الورى

ونافس بيتي في الولا بيت سلمان وأراد - كما أخبرني - بيت سلمان القبيلة التي منها لسان الملة والدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى، أشار إلى ولاء الكتابة للخلافة، كما كان لسان الدين السلماني رحمه الله تعالى كذلك، وفيه مع ذلك تورية بسلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه.

وقد رأيت أن أسرد هنا هذه القصيدة الفريدة، لبلاغتها التي بذت شعراء " اليتيمة " و " الخريدة "، ولأن شجون الحديث الذي جر إليها، شوقني إلى معاهدي المغربية التي أكثر البكاء عليها، بحضرة المنصور بالله الإمام، سقى الله تعالى عهادها صوب الغمام، حيث الشباب غض يانع، والمؤمل لم يحجبه مانع، والسلطان عارف بالحقوق، والزمان وهو أبو الورى لم يشب بره بالعقوق، والليالي مسالمة غير رامية من البين بنبال، والغربة الجالية للكربة لم تخطر ببال، ورؤساء الدولة الحسنية السنية ساعون فيما يوافق الغرض ويلائم، والأيام ثغورها بواسم، وأوقاتها أعياد ومواسم، وأفراح وولائم، فلله فيها عيش ما نسيناه، وعز طالما اقتبسنا نور الهدى من طورسيناه:

مضى ما مضى من حلو عيش ومره

كأن لم يكن إلا كأضغاث أحلام وهذا نص القصيدة (1) :

هم سلبوني الصبر والصبر من شاني

وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني

وهم أخفروا في مهجتي ذمم الهوى

فلم يثنهم عن سفكها حبي الجاني

(1) انظر هذه القصيدة في روضة الآس: 120.

ص: 23

لئن أترعوا من قهوة البين أكؤسي

فشوقهم أضحى سميري وندماني

وإن غادرتني بالعراء حمولهم

لقى إن قلبي جاهد إثر أظعاني

قف العيس واسأل ربعهم أية مضوا

أللجزع ساروا مدلجين أم البان

وهل باكروا بالسفح من جانب اللوى

ملاعب آرام هناك وغزلان

وأين استقلوا: هل بهضب تهامة

أناخوا المطايا أم على كثبان نعمان

وهل سال في بطن المسيل تشوقاً

نفوس ترامت للحمى قبل جثمان

وإذ زجروها بالعشي فهل ثنى

أزمتها الحادي إلى شعب بوان

وهل عرسوا في دير عبدون أم سروا

يؤم بهم رهبانهم دير نجران

سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى

بأحداجهم شتى صفات وألوان

وأدلج في الأسحار بيض قبابهم

فلحن نجوماً في معارج كثبان

لك الله من ركب يرى الأرض خطوة

إذا زمها بدناً نواعم أبدان

أرحها مطايا قد تمشى بها الهوى

تمشي الحميا في مفاصل نشوان

ويمم بها الوادي المقدس بالحمى

به الماء صداً والكلا نبت سعدان

وأهد حلول الحجر منه تحية

تفاوح عرفاً ذاكي الرند والبان

لقد نفحت من شيح يثرب نفحة

فهاجت مع الأسحار شوقي وأشجاني

وفتت منها الشرق في الغرب مسكة

سحبت بها في أرض دارين أرداني

وأذكرني نجداً وطيب عراره

نسيم الصبا من نحو طيبة حياني

أحن إلى تلك المعاهد، إنها

معاهد راحاتي وروحي وريحاني

وأهفو مع الأشواق للوطن الذي

به صح لي أنسي الهني وسلواني

وأصبو إلى أعلام مكة شائقاً (1)

إذا لاح برق من شمام وثهلان

أهيل الحمى ديني على الدهر زورة

أحث بها شوقاً لكم عزمي الواني

متى يشتفي جفني القريح بلحظة

تزج بها في نوركم عين إنساني

(1) روشة الآس: شيقا.

ص: 24

ومن لي بأن يدنو لقاكم تعطفاً

ودهري عني دائماً عطفه ثاني

سقى عهدهم (1) بالخيف عهد تمده

سوافح دمع من شؤوني هتان

وأنعم في شط العقيق أراكة

بأفيائها ظل المنى والهوى داني

وحيا ربوعاً بين مروة والصفا

تحية مشتاق بها الدهر حيران

ربوعاً بها تتلو الملائكة العلا

أفانين وحي بين ذكر وقرآن

وأول أرض باكرت عرصاتها

وطرزت البطحا سحائب إيمان

وعرس فيها للنبوة موكب

هو البحر طام (2) فوق هضب وغيطان

وأدى بها الروح الأمين رسالة

أفادت بها البشرى مدائح عنوان

هنالك فض ختمها (3) أشرف الورى

وفخر نزار من معد بن عدنان

محمد خير العالمين بأسرها

وسيد أهل الأرض مِ الإنس والجان

ومن بشرت في بعثه قبل كونه

نوامس كهان وأخبار رهبان

وحكمة (4) هذا الكون لولاه ما سمت

سماء ولا غاضت طوافح طوفان

ولا زخرفت من جنة الخلد أربع

تسبح فيها أدم حور وولدان (5)

ولا طلعت شمس الهدى غب دجية

تجهم من ديجورها ليل كفران

ولا أحدقت بالمذنبين شفاعة

يذود بها عنهم زباني نيران

له معجزات أخرست كل جاحد

وسلت على المرتاب صارم برهان

له انشق قرص البدر شقين وارتوى

بماء همى من كفه كل ظمآن

وأنطقت الأصنام نطقاً تبرأت

إلى الله فيه من زخارف ميان

دعا سرحة عجما فلبت وأقبلت

تجر ذيول الزهر ما بين أفنان

(1) روضة الآس: عهدكم.

(2)

روضة الآس: سال.

(3)

ق ص: ختمه.

(4)

روضة الآس: وعلة.

(5)

روضة الآس: تسبح فيها الحور مع جمع ولدان.

ص: 25

وضاءت قصور الشام من نوره الذي

على كل أفق نازح القطر أو داني

وقد بهج الأنوا بدعوته التي

كست أوجه الغبراء بهجة نيسان

وإن كتاب الله اعظم آية

بها افتضح المرتاب (1) وابتأس الشاني

وعدى على شأو البليغ بيانه

فهيهات منه سجع قس وسحبان

نبي الهدى من أطلع الحق أنجماً

محا نورها أسداف إفك وبهتان

لعزتها ذل الأكاسرة الألى

هم سلبوا تيجانها آل ساسان

وأحرز للدين الحنيفي بالظبى

تراث الملوك الصيد من عهد (2) يونان

ونقع من سمر القنا السم قيصراً (3)

فجرعه منه مجاجة ثعبان

وأضحت ربوع الكفر والشك (4) بلقعاً

يناغي الصدى فيهن هاتف شيطان

وأصبحت السمحا ترف نضارة

ووجه الهدى بادي الصباحة للراني (5)

أيا خير أهل الأرض بيتاً ومحتداً

وأكرم كل الخلق: عجم وعربان

فمن للقوافي أن تحيط بوصفكم

ولو ساجلت سبقاً مدائح حسان

إليك بعثناها أماني أجدبت

لتسقى بمزن من أياديك هتان

أجرني إذا أبدى الحساب جرائمي

وأثقلت الأوزار كفة ميزاني

فأنت الذي لولا وسائل عزه

لما فتحت أبواب عفو وغفران

عليك سلام الله ما هبت الصبا

وماست على كثبانها خلد قضبان

وحمل في جيب الجنوب تحية

يفوح بمسراها شذا كل توقان

إلى العمرين صاحبيك كليهما

وتلوهما في الفضل صهرك عثمان

وحيا علياً عرفها وأريجها

ووالى على سبطيك أوفر رضوان

(1) روضة الآس: الميان.

(2)

روضة الآس: ولد.

(3)

روضة الآس: سم قيصر.

(4)

روضة الآس: والشرك.

(5)

الراني: الناظر.

ص: 26

إليك رسول الله صممت عزمة

إذا أزمعت فالشحط والقرب سيان

وخاطبت مني القلب وهو مقلب

على جمرة الأشواق فيك فلباني

فيا ليت شعري هل أزم قلائصي

إليك بدراً أو أقلقل كيراني (1)

وأطوي أديم الأرض نحوك راحلاً

نواجي المهارى في صحاصح قيعان

يرنحها فرط الحنين إلى الحمى

إذا غرد الحادي بهن وغناني

وهل تمحون عني خطايا اقترفتها

خطاً لي في تلك البقاع وأوطان

وماذا عسى يثني عناني وإن لي

بآلك جاهاً صهوة العز أمطاني

إذا ند عن زوارك البأس (2) والعنا

فجود ابنك المنصور أحمد أغناني

عمادي الذي أوطا السماكين أخمصاً

وأوفى على السبع الطباق فأدناني

متوج أملاك الزمان وإن سطا

أحل سيوفاً (3) في معاقد تيجان

وقاري أسود الغاب بالصيد مثلها

إذا اضطرب الخطي من فوق جدران (4)

هزبر إذا زار البلاد زئيره

تضاءل في أخياسها أسد خفان

وإن أطلعت غيم القتام جيوشه

وأرزم (5) في مركومه رعد نيران

صببن على أرض العداة صواعقاً

أسلن عليهم بحر خسف ورجفان

كتائب لو يعلون رضوى لصدعت

صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان

عديد الحصى من كل أروع معلم

وكل كمي بالرديني طعان

إذا جن ليل الحرب عنهم طلى العدا

هدتهم إلى أوداجها شهب خرصان

من اللاء جرعن العدا غصص الردى

وعفرن في وجه (6) الثرى وجه بستان

وفتحن أقطار البلاد فأصبحت

تؤدي الخراج الجزل أملاك سودان

(1) ق ص: كيزاني؛ والكيران: جمع كور يعني رحاله.

(2)

ق ص: اليأس.

(3)

روضة الآس: السيوف.

(4)

ق ص: خدران.

(5)

ق ص: وأزرم.

(6)

روضة الآس: عفر.

ص: 27

إمام البرايا من علي نجاره

ومن عترة سادوا الورى، آل زيدان

دعائم إيمان وأركان سؤدد

ذوو همم قد عرست فوق كيوان

هم العلويين الذين وجوههم

بدور إذا ما أحلكت شهب أزمان

وهم آل بيت شيد الله سمكه

على هضبة العلياء ثابت أركان

وفيهم فشا الذكر الحكيم وصرحت

بفضلهم آيات ذكر (1) وفرقان

فروع ابن عم المصطفى ووصيه

فناهيك من فخرين: قربى وقربان

ودوحة مجد معشب الروض بالعلا

يجود بأمواه الرسالة ريان

بمجدهم الأعلى الصريح تشرفت

معد على العرباء عاد وقحطان

أولئك فخري إن فخرت على الورى

ونافس بيتي في الولا بيت سلمان

إذا اقتسم المداح فضل فخارهم

فقسمي بالمنصور ظاهر رجحان

إمام له في جبهة الدهر ميسم

ومن عزه في مفرق الملك تاجان

سما فوق هامات النجوم بهمة

يحوم بها فوق السموات نسران

وأطلع في أفق المعالي خلافة

عليها وشاح من علاه وسمطان

إذا ما احتبى فوق الأسرة وارتدى

على كبرياء الملك نخوة السلطان

توسمت لقمان الحجى وهو ناطق

وشاهدت كسرى العدل في صدر إيوان

وإن هزه حر الثناء تدفقت

أنامله عرفاً تدفق خلجان

أيا ناظر الإسلام شم بارق المنى

وباكر لروض في ذرا المجد فينان

قضى الله في علياك أن تملك الدنا

وتفتحها ما بين سوس وسودان

وأنك تطوي الأرض غير مدافع

فمن أرض سودان إلى أرض بغدان

وتملؤها عدلاً يرف لواؤه

على الهرمين أو على رأس غمدان

فكم هنأت أرض العراق بك العلا

ووافت بك البشرى لأطراف عمان

فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم

أتاك استلاباً تاج كسرى وخاقان

(1) روضة الآس: آي الكتاب.

ص: 28

ولو نشر الأملاك دهرك أصبحت

عيالاً على علياك أبناء مروان

وشايعك السفاح يقتاد طائعاً

برايته السوداء أهل خراسان

فما المجد إلا ما رفعت سماكه

على عمدي سمر الطوال ومران

وهاتيك أبكار القوافي جلبتها (1)

تغار لهن الحور في دار رضوان

أتتك أمير المؤمنين كأنها

لطائم مسك أو خمائل بستان (2)

تعاظمن حسناً أن يقال شبيهها

فرائد در أو قلائد عقيان

فلا زلت للدنيا تحوط جهاتها

وللدين تحميه بملك سليمان

ولا زلت بالنصر العزيز مؤزراً

تقاد لك الأملاك في زي عبدان [نونية أبي الفتح التونسي]

انتهت القصيدة في تغزلها شرح الحال، وإعراب عما في ضمير الغربة والارتحال، ولنعززها بأختها في البحر والروي، قصيدة القاضي الشهير الذكر، الأديب الذي سلبت النهى كواعب شعره إذ أبرزها من خدود الفكر، الشيخ الإمام سيدي أبو الفتح محمد بن عبد السلام، المغربي التونسي نزيل دمشق الشام، صب الله على ضريحه سجال الرحمة والإنعام، فإنها نفث مصدور غريب، وبث معذور أريب، فارق مثلي أوطانه وما سلاها، وقرأ آيات الشجو وتلاها، وتمنى أن يجود له الدهر برؤية مجتلاها، وهي قوله رحمه الله وأنشأها بدمشق عام واحد وخمسين وتسعمائة:

سلوا البارق النجدي عن سحب أجفاني

وعما بقلبي من لواعج نيران

ولا تسألوا غير الصبا عن صبابتي

وشدة أشواقي إليكم وأشجاني

فما لي سواها من رسول إليكم

سريع السرى في سيره ليس بالواني

(1) روضة الآس: جلوتها.

(2)

بعد هذا البيت في روضة الآس: ومنها ختاما.

ص: 29

فيا طال بالأسحار ما قد تكلفت

بإنعاش محزون وإيقاظ وسنان

وتنفيس كرب عن كئيب متيم

يحن إلى أهل ويصبو لأوطان

فلله ما أذكى شذا نسمة الصبا

صباحاً إذا مرت على الرند والبان

وسارت مسير الشمس وهناً فأصبحت

من الشرق نحو الغرب تجري بحسبان

وقد وقفت بالشام وقفة حامل

نوافج مسك من ظباء خراسان

لترتاض في تلك الرياض هنيئة

وتزداد من أزهارها طيب أردان

وما غربت حتى تضاعفت نشرها

بواسطتي روح هناك وريحان

فكم نحوكم حملتها من رسالة

مدونة في شرح حالي ووجداني

وناشدتها بالله إلا تفضلت

بتبليغ أحبابي السلام وجيراني

تحية مشتاق إلى ذلك الحمى

وسكانه والنازحين بأظعان

سقى الله هاتيك الديار وأهلها

سحائب تحكي صوب مدمعي القاني

وحيا ربوع الحي من خير بلدة

تخيرها قدماً رآها بإنسان

لها الفخر والفضل المبين بما حوت

من الأنس والحسن المنوط بإحسان

لقد حل منها آل حفص ملوكها

مراتب تسمو فوق هامة كيوان

وسادوا بها كل الملوك وشيدوا

بها من مباني العز أفخر بنيان

وكان لهم فيها بهاء وبهجة

وحسن نظام لا يعاب بنقصان

وكان لهم فيها عساكر جمة

تصول بأسياف وتسطو بمران

جيوش وفرسان يضيق بها الفضا

ويحجم عنها الفرس من آل ساسان

وكان لأهليها المفاخر والعلا

وكان بها حصنا أمان وإيمان

وكان على الدنيا جمال بحسنها

وحسن بنيها من ملوك وأعيان

وكانت لطلاب المعارف قبلة

لما في حماها من أئمة عرفان

وكان لأهل العلم فيها وجاهة

وجاه وعز مجده ليس بالفاني

وكان بواديها المقدس فتية

تقدس باريها بذكر وقرآن

ص: 30

ومن أدباء النظم والنثر معشر

تفوق بناديها بلاغة سحبان

وكانت على الأعداء في حومة الوغى

تطول بأبطال، وتسطو بشجعان

وما برحت فيها محاسن جمة

وفي كل نوع أهل حذق وإتقان

إلى أن رمتها الحادثات بأسهم

وسلت عليها سيف بغي وعدوان

فما لبثت تلك المحاسن أن عفت

وأقفر ربع الأنس من بعد سكان

وشتت ذاك الشمل من بعد جمعه

كما انتثرت يوماً قلائد عقيان

فأعظم برزء خص خير مدينة

وخير أناس بين عجم وعربان

لعمري لقد كادت عليها قلوبنا

تضرم من خطب عراها بنيران

وقد عمنا غم بعظم مصابها

وإن خصني منه المضر بجثماني

وما بقيت فيما علمناه بلدة

من الشرق إلا ألبست ثوب أحزان

فصبراً أخي صبراً على المحنة التي

رمتك بها الأقدار ما بين إخوان

فما الدهر إلا هكذا فاصطبر له:

رزية مال أو تفرق خلان

أأحبابنا إن فرق الدهر بيننا

وطال مغيبي عنكم منذ أزمان

فإني على حفظ الوداد وحقكم

مقيم، وما هجر الأحبة من شاني

ووالله والله العظيم ألية

على صدقها قامت شواهد برهان

لقد زاد وجدي واشتياقي إليكم

وبرح بي طول البعاد وأضناني

فلا تحسبوا أني تسليت بعدكم

بشيء من الدنيا وزخرفها الفاني

ولا أنني يوماً تناسيت عهدكم

بحال، ولا أن التكاثر ألهاني

ولا راقني روض، ولا هش مسمعي

لنغمة أطيار ورنة عيدان

ولا حل في فكري سواكم بخلوة

ولا جلوة ما بين حور وولدان

ولا اختلجت يوماً ضمائر مهجتي

لغيركم في سر سري وإعلاني

ولو لم أسل النفس بالقرب واللقا

لأدرج جسمي في مقاطع أكفاني

ص: 31

فما أنا في عودي إليكم بآيس

فما اليأس إلا من علامة كفران

عليكم سلام الله في كل ساعة

تحية صب لا يدين بسلوان

مدى الدهر ما ناحت مطوقة وما

تعاقب بين الخافقين الجديدان [نونية ابن الخطيب]

ولصاحب الترجمة لسان الدين ابن الخطيب قصيدة طنانة بهذا الوزن والقافية، مدح بها السلطان أبا سالم المريني حين فتح تلمسان، وقد رأيت إيرادها في هذا الباب، لما اشتمل عليه آخرها من شرح أمر الاغتراب، الذي حير الألباب، وللمناسبة أسباب، لا تخفى على من له فكر مصيب، وكل غريب للغريب نسيب، وهي (1) :

أطاع لساني في مديحك إحساني

وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان

فأطلعتها تفتر عن شنب المنى

وتسفر عن وجه من السعد حياني (2)

كما ابتسم النوار عن أدمع الحيا

وجف بخد الورد عارض نيسان

كما صفقت ريح الشمال شمولها

فبان ارتياح السكر في غصن البان

تهنيك بالفتح الذي معجزاته

خوارق لم تذخر سواك لإنسان

خففت إليها والجفون ثقيلة

كما خف شثن الكف من أسد خفان

وقدت إلى الأعداء فيها مبادراً

ليوث رجال في مناكب عقبان

تمد بنود النصر منهم ظلالها

على كل مطعام العشيات مطعان

جحاجحة (3) غر الوجوه كأنما

عمائمهم غيها معاقد تيجان

أمدك فيها الله بالملإ العلا

فجيشك، مهما حقق الأمر، جيشان

(1) مطلعها وبعض أسطر من الرسالة التالية في أزهار الرياض 1: 286.

(2)

ق ص: حنان.

(3)

الجحاجحة: السادة.

ص: 32

لقد جُليت منك البلاد لخاطب

لقد جنيت منك الغصون إلى جاني

لقد كست الإسلام بيعتك الرضى

وكانت على أهليه بيعة رضوان

ولله من ملك سعيد ونصبة

قضى المشتري فيها بعزلة كيوان

وسجل حكم العدل بين بيوتها

وقوفاً مع المشهور من رأي يونان

فلم تخش سهم القوس صفحة بدرها

ولم تشك فيها الشمس من بخس ميزان

ولم يعترض مبتزها قطع قاطع

ولا نازعت نوبهرها كف عدوان (1)

تولى اختيار الله حسن اختيارها

فلم يحتج الفرغان فيها لفرغان

ولا صرفت فيها دقائق نسبة

ولو خفقت فيها طوالع بلدان

وجوه القضايا في كمالك شأنها

وجوب إذا خصت سواك بإمكان

ومن قاس منك الجود بالبحر والحيا

فقد قاس تمويهاً قياس سفسطاني

وطاعتك العظمى بشارة رحمة

وعصيانك المحذور نزغة شيطان

وحبك عنوان السعادة والرضى

ويعرف مقدار الكتاب بعنوان

ودين الهدى جسم وذاتك روحه

وكم وصلة ما بين روح وجثمان

تضن بك الدنيا ويحرسك العلا

كأنك منها بين لحظ وأجفان

بنيت على أساس أسلافك العلا

فلا هدم المبنى ولا عدم الباني

وصاحت بك العليا فلم تك غافلاً

ونادت بك الدنيا فلم تك بالواني

ولم تك في خوض البحار بهائب

ولم تك في نيل الفخار بكسلان

لقد هز منك العزم لما انتضيته

ذوائب رضوى أو مناكب ثهلان

ولله عينا من رآها محلة

هي الحشر لا تحصى بعد وحسبان

وتنور عزم فار في إثر دعوة

يعم الأقاصي والأداني بطوفان

عجائب أقطار، ومألف شارد

وأفلاذ آفاق، وموعد ركبان

إذا ما سرحت اللحظ في عرصاتها

تبلد منك الذهن في العالم الثاني

جنى حان والنصر العزيز اهتصاره

إذا انتظمت بالقلب منها جناحان

(1) المبتز: الكوكب الذي له حظوظ كثيرة؛ والنوبهر: تاسع البروج.

ص: 33

فمن سحب لاحت بها شهب القنا

ومن كثب بيض بدت فوق كثبان

مضارب في البطحاء بيض قبابها

كما قلبت للعين أزهار سوسان

وما إن رأى الراءون في الدهر قبلها

قرارة عز في مدينة كتان

تفوت التفات الطرف حال اقتبالها

كأنك قد سخرت جن سليمان

فقد أطرقت من خوفها كل بيعة

وطأطأ من إجلالها كل إيوان

وقد ذعرت خولان بين بيوتها

غداة بدت منها البيوت بخولان

فلو رميت مصر بها وصعيدها

لأضحت خلاء بلقعاً بعد عمران

ولو يممت سيف بن ذي يزن

لما تقرر ذاك السيف في غمد غمدان

تراع بها الأوثان في أرض رومة

إذا خيمت شرقاً على طرق أوثان

وتجفل إجفال النعامى ببرقة

ليوث الشرى ما بين ترك وعربان

وعرضاً كيوم العرض أذهل هوله

عياني، وأعياني تعدد أعيان

وجيشاً كقطع الليل للخيل تحته

إذا صهلت مفتنة رجع ألحان

فيومض من بيض الظبى ببوارق

ويقذف من سمر الرماح بشهبان

ويمطر من ودق السهام بحاصب

سحائبه من كل عوجاء مرنان

وجرداً إذا ما ضمرت يوم غاية

تعجبت من ريح تقاد بأرسان

تسابق ظلمان الفلاة بمثلها

وتذعر غزلان الرمال بغزلان

ودون مهب العزم منك قواضب

أبى النصر يوماً أن تلم بأجفان

نظرت إليها والنجيع لباسها

فقلت: سيوف أم شقائق نعمان

تفتح ورداً خدها حين جردت

ولا ينكر الأقوام خجلة عريان

كأن الوغى نادت بها لوليمة

قد احتفلت أوضاعها منذ زمان

فإن طعمت بالنصر كان وضوءها

نجيعاً ووافاها الغبار بأشنان

لقد خلصت لله منك سجية

جزاك على الإحسان منك بإحسان

فسيفك للفتح المبين مصاحب

وعزمك والنصر المؤزر إلفان

فرح واغد للرحمن تحت كلاءة

وسرحان في غاب العدا كل سرحان

ص: 34

ودم والمنى تدني إليك قطافها

ميسر أوطار ممهد أوطان

وكن واثقاً بالله مستنصراً به

فسلطانه يعلو على كل سلطان

كفاك العدا كاف لملكك كافل

فضدك نضو ميت بين أكفان

رضى الوالد المولى أبيك عرفته

وقد أنكر المعروف من بعد عرفان

فكم دعوة أولاك عند انتقاله

إلى العالم الباقي من العالم الفاني

فعرفت في السراء نعمة منعم

وألحفت في الضراء رحمة رحمان

عجبت لمن يبغي الفخار بدعوة

مجردة من غير تحقيق برهان

وسنة إبراهيم في الفخر قد أتت

بكل صحيح عن علي وعثمان

ومن مثل إبراهيم في ثبت موقف

إذا ما التقى في موقف الحرب صفان

إذا هم لم يلفت بلحظة هائب

وإن من لم ينفث بلفظة منان

فصاحة قس في سماحة حاتم

وإقدام عمرو تحت حكمة لقمان

شمائل ميمون النقيبة أروع

له قصبات السبق في كل ميدان

محبته فرض على كل مسلم

وطاعته في الله عقدة إيمان

هنيئاً أمير المسلمين بنعمة

حبيت بها من مطلق الجود منان

لزينت أجياد المنابر بالتي

أتاح لها الرحمن في آل زيان

قلائد فتح هن لكن قدرها

ترفع أن يدعى قلائد عقيان

أمولاي، حبي في علاك وسيلتي

ولطفك بي دأباً بمدحك أغراني

أياديك لا أنسى على بعد المدى

نعوذ بك اللهم من شر نسيان

فلا جحد ما خولتني من سجيتي

ولا كفر نعماك العميمة من شاني

ومهما تعجلت الحقوق لأهلها

فإنك مولاي الحقيق وسلطاني

وركني الذي لما نبا بي منزلي

أجاب ندائي بالقبول وأواني

وعالج أيامي وكانت مريضة

بحكمة من لم ينتظر يوم بحران

فأمنني الدهر الذي قد أخافني

وجدد لي السعد الذي كان أبلاني

ص: 35

وخولني الفضل الذي هو أهله

وشيكاً وأعطاني فأفعم أعطاني (1)

تخونني صرف الحوادث فانثنى

يقبل أرداني، ومن بعد أرداني

وأزعجني من منشئي ومبوئي

ومعهد أحبابي ومألف جيراني

بلادي التي فيها عقدت تمائمي

وجم (2) بها وفري وجل بها شاني

تحدثني عنها الشمال فتنثني

وقد عرفت مني شمائل نشوان

وآمل أن لا أستفيق من الكرى

إذا الحلم (3) أوطاني بها ترب أوطاني

تلون إخواني علي وقد جنت

علي خطوب جمة ذات ألوان

وما كنت أدري قبل أن يتنكروا

بأن خواني كان مجمع خواني

وكانت، وقد حم القضاء، صنائعي

علي بما لا أرتضي شر أعواني

فلولاك بعد الله يا ملك العلا

وقد فت ما ألفيت من يتلافاني

تداركت مني بالشفاعة منعماً

بريئاً رماه الدهر في موقف الجاني

فإن عرف الأقوام حقك وفقوا

وإن جهلوا باءوا بصفقة خسران

وإن خلطوا عرفاً بنكر وقصروا

وزنت بقسطاس قويم وميزان

وحرمة هذا اللحد يأبى كمالها

هضيمة رد أو حطيطة نقصان

وقد نمت عن أمري ونبهت همة

تحدق من علو إلى صرح هامان

إذا دانت الله النفوس وأملت

إقالة ذنب أو إنالة غفران

فمولاك يا مولاي قبلة وجهتي

وعهدة إسراري وحجة إعلاني

وقفت على مثواه نفسي قائماً

بترديد ذكر أو تلاوة قرآن

ولو كنت أدري فوقها من وسيلة

إلى ملكك الأرضى لشمرت أرداني

وأبلغت نفسي جهدها غير أنني

طلابي ما بعد النهاية أعياني

قرأت كتاب الحمد فيك لعاصم

فصح أدائي واقتدائي وإتقاني

(1) الأعطان: جمع عطن، يعني الساحة، وأفعم: ملأ.

(2)

جم: كثر وطال.

(3)

ص: الحكم.

ص: 36

فدونكها من بحر فكري لؤلؤاً

يفصل من حسن النظام بمرجان

وكان رسول الله بالشعر يعتني

وكم حجة في شعر كعب وحسان

ووالله ما وفيت قدرك حقه

ولكنه وسعي ومبلغ إمكاني [رسالة لسان الدين إلى أبي سالم]

وكتب لسان الدين رحمه الله قبل هذه القصيدة نثرا ًمن إنشائه يخاطب به السلطان أبا سالم المذكور، وذلك أنه ورد على لسان الدين وهو بشالة سلا كتاب السلطان المذكور بفتح تلمسان، وكان وروده يوم الخميس سابع عشر شعبان عام واحد وستين وسبعمائة، ونص ما كتب به لسان الدين:

مولاي فتاح الأقطار والأمصار، فائدة الأزمان والأعصار، أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار، قدوة أولي الأيدي والأبصار، ناصر الحق عند قعود الأنصار، مستصرخ الملك الغريب من وراء البحار، مصداق دعاء الأب (1) المولى في الأصائل والأسحار، أبقاكم الله سبحانه لا تقف إيالتكم عند حد، ولا تحصى فتوحات الله تعالى عليكم بعد، ولا تفيق أعداؤكم من كد، ميسراً على مقامكم ما عسر على كل أب كريم وجد، عبدكم الذي خلص إبريز عبوديته لملك ملككم المنصور، المعترف لأدنى رحمة من رحماتكم بالعجز عن شكرها والقصور، الداعي إلى الله سبحانه أن يقصر عليكم سعادة العصور، ويذلل بعز طاعتكم أنف الأسد الهصور، ويبقي الملك في عقبكم وعقب عقبكم إلى يوم ينفخ فيه الصور، فلان من الضريح المقدس بشالة، وهو الذي تعددت على المسلمين حقوقه، وسطع نوره وتلألأ شروقه، وبلغ مجده السماء لما سبقت فروعه ووشجت عروقه، وعظم ببيوتكم فخره فما فوق البسيطة فخر يفوقه، حيث الجلال قد رست هضابه، والملك قد كسيت بأستار الكعبة الشريفة قبابه، والبيت العتيق قد ألحفت الملاحف الإمامية أثوابه، والقرآن العزيز ترتل أحزابه.

(1) في الأصول: الأدب؛ والمعنى أنه صدق فيه دعاء أبيه أبي الحسن.

ص: 37

والعمل الصالح يرتفع إلى الله ثوابه، والمستجير يخفي بالهيبة سؤاله فيجهر بنعرة العز جوابه، وقد تفيأ من أوراق الذكر الحكيم حديقة، وخميلة أنيقة، وحط بجودي الجود نفساً في طوفان العز غريقة، والتحف رفرف الهيبة التي لا تهتدي النفس فيها إلا بهداية الله تعالى طريقة، واعتز بعزة الله وقد توسط جيش الحرمة المرينية حقيقة، إذ جعل المولى المقدس المرحوم أبا الحسن مقدمة وأباه وجده سيقة، يرى بركم بهذا اللحد الكريم قد طنب عليه من الرضى فسطاطاً، وأعلق به يد العناية المرينية اهتماماً واغتباطاً، وحرر له أحكام الحرمة نصاً جلياً واستنباطاً، وضمن له حسن العقبى التزاماً واشتراطاً، وقد عقد البصر بطريقة رحمتكم المنتظرة المرتقبة، ومد اليد إلى لطائف شفاعتكم التي تتكفل بعتق المال كما تكفلت بعتق الرقبة، وشرع في المراح بميدان نعمتكم بعد اقتحام هذه العقبة، لما شنفت الأذن البشرى التي لم يبق طائر إلا سجع بها وصدح، ولا شهاب دجنة إلا اقتبس من نورها واقتدح، ولا صدر إلا انشرح، ولا غصن عطف إلا مرح، بشرى الفتح القريب، وخبر النصر الصحيح الحسن الغريب، فتح تلمسان الذي قلد المنابر عقود الابتهاج، ووهب الإسلام منيحة النصر غنية عن الانتهاج، وألحف الخلق ظلاً ممدوداً، وفتح باب الحج وكان مسدوداً، وأقر عيون أولياء الله الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً، وأضرع بسيف الحق جباهاً أبية وخدوداً، وملككم حق أبيكم الذي أهان عليه الأموال، وخاض من دونه الأهوال، وأخلص فيه الضراعة والسؤال، من غير كد يغمز عطف المسرة، ولا جهد يكدر صفو النعم الثرة، ولا حصر ينفض به المنجنيق ذؤابته، ويظهر بتكرار الركوع إنابته.

فالحمد لله الذي أقال العثار، ونظم بدعوتكم الانتثار، وجعل ملككم يجدد الآثار، ويأخذ الثار، والعبد يهنئ مولاه، بما أنعم الله تعالى به عليه وأولاه، فإذا أجال العبيد قداح السرور فللعبد المعلى والرقيب، وإذا استهموا حظوظ الجذل فلي القسم الوافر والنصيب، وإذا اقتسموا فريضة شكر الله فلي الحظ

ص: 38

والتعصيب، لتضاعف أسباب العبودية قبلي، وترادف النعم التي عجز عنها قولي وعملي، وتقاصر في ابتغاء مكافأتها وجدي وإن تطاول أملي، فمقامكم المقام الذي نفس الكربة، وآنس الغربة، ورعى الوسيلة والقربة، وأنعش الأرماق، وفك الوثاق، وأدر الأرزاق، وأخذ على الدهر بالاستقالة العهد والميثاق.

وإن لم يباشر العبد اليد العالية بهذا الهناء، ويمثل بين يدي الخلافة العظيمة السنا والسناء، ويمد بسبب اليد إلى تلك السماء، فقد باشر به اليد التي يحن مولاي لتذكر تقبيلها، ويكمل فروض المجد بتوفية حقوقها الأبوية وتكميلها، ووقفت بين يدي ملك الملوك الذي أجال عليها القداح، ووصل في طلب وصالها بالمساء الصباح، وكان فتحه إياها أبا عذرة الافتتاح، وقلت: يهنيك يا مولاي رد ضالتك المنشودة، وجبر لقطعتك المعرفة المشهودة، ورد أمتك المودودة، فقد استحقها وارثك الأرضى، وسيفك الأمضى، وقاضي دينك، وقرة عينك، مستنقذ دارك من يد غاصبها، وراد رتبتك إلى مناصبها، وعامر المثوى الكريم، وساتر الأهل والحريم. مولاي: هذه تلمسان قد طاعت، وأخبار الفتح على ولدك الحبيب إليك قد شاعت، والأمم إلى هنائه قد تداعت، وعدوك وعدوه قد شردته المخافة، وانضاف إلى عرب الصحراء فخفضته الإضافة، وعن قريب تتحكم فيه يد احتكامه، وتسلمه السلامة إلى حمامه، فلتطب يا مولاي نفسك، وليستبشر رمسك، فقد نمت بركتك وزكا غرسك، نسأل الله أن يورد على ضريحك من أنباء نصره ما تفتح له أبواب السماء قبولا، ويترادف إليك مدداً موصولاً، وعدداً آخرته خير لك من الأولى، ويعرفه بركة رضاك ظعناً وحلولا، ويضفي عليك منه ستراً مسدولا.

ولم يقنع العبد بخدمة النثر، حتى أجهد القريحة التي ركضها الدهر فأنضاها، واستشفها الحادث الجلل فتقضاها، فلفق من خدمة المنظوم ما يتغمد حلمكم تقصيره، ويكون إغضاؤكم إذا لقي معرة العتب وليه ونصيره، وإحالة مولاي

ص: 39

على الله في نفسي جبرها، ووسيلة عرفها مجده فما أنكرها، وحرمة بضريح مولاي والده شكرها، ويطلع العبد منه على كمال أمله، ونجح عمله، وتسويغ مقترحه وتتميم جذله:

أطاع لساني في مديحك إحساني

إلى آخر القصيدة التي تقدمت.

[نونية الفقيه عمر الزجال]

وحيث اقتضت المناسبة جلب هذه النونيات فلنضف إليها قصيدة أديب الأندلس الفقيه عمر صاحب الأزجال، إذ هو من فرسان هذا المجال، وقد وطأ لها بنثر، وجعل الجميع مقامة ساسانية، سماها " تسريح النصال إلى مقاتل الفصال " ونصها (1) : يا عماد السالكين، ومحط (2) المستفيدين والمتبركين، وثمال الضعفاء والمساكين المتروكين، في طريقك يتنافس المتنافس، وعلى أعطافك تزهى العباءات وتروق الدلافس (3) ، وبكتابك تحيا جوامد الأفهام، وبمذبتك تشرد ذباب الأوهام، وفي زنبيلك يسد التالد والطارف، وبعصاك يهش على بدائع المعارف، الله الله في سالك، ضاقت عليه المسالك، وشاد، رمي بإبعاد، أدركته متاعب الحرفة، وأقيم من صف أهل الصفة (4) ، فلا يجد نشاطا، على ما يتعاطى، ولا يلقى اغتباطا، إن حل زاوية أو نزل رباطا، أقصي عن أهل القرب والتخصيص، وابتلي بمثل حالة برصيص (5) ، فأحيل عليك، وتوقفت إقالته على

(1) قارن بأزهار الرياض 1: 117.

(2)

الأزهار: ومحط رحال.

(3)

الدلافس: جمع دلفاس، وقد مر من قبل " دفاس " - وكلاهما صحيح - وهو نوع من الثياب.

(4)

أهل الصفة: قوم من فقراء المهاجرين كانوا يأوون إلى صفة المسجد في عهد الرسول لأنه لا مأوى لهم غيرها.

(5)

برصيص أو برصيصا: من عباد بني إسرائيل ثم فتنه الشيطان.

ص: 40

توبة بين يديك، فكاتبك استدعاء، واستوهب منك هداية ودعاء، ليسير على ما سويت، ويتحمل عنك أشتات ما رويت، فيلقى الأكفاء الظرفاء عزيزاً، ويباهي بك كل من خاطبك مستجيزاً، فاصرف إلي محيا الرضى، وعد من إيناسك للعهد الذي مضى، ولا تلقني معرضاً ولا معرضا، وأصخ لي سمعك كما قدر الله تعالى وقضى:

تعال نجددها طريقة ساسان (1)

نعض عليها ما توالى الجديدان

ونصرف إليها من مثار عزائم

ونحلف عليها من مؤكد أيمان

ونعقد على حكم الوفاء هواءنا

لنأمن من أقول زور وبهتان

ونقسم على أن لا نصدق واشياً

يروح ويغدو بين أثم وعدوان

يطوف حوالينا ليفسد بيننا

بمنطق إنسان وخدعة شيطان

على أننا من عالم كلما بدا

تعوذ منه عالم الإنس والجان

وحاشاك أن تلفى عن الصلح معرضاً

إلى الصلح آلت حرب عبس وذبيان

وإني أهمتني شؤون كثيرة

وصلحك أولى ما أقدم من شاني

فأنت إمامي إن كلفت بمذهب

وأنت دليلي إن صدعت ببرهان

سأرعاك في أهل العباءات كلما

رأيتك في أهل الطيالس ترعاني

ويا لابسي تلك العباءات إنها

لباس إمام في الطريقة دهقان

تفرقت الألوان منها إشارة

بأنك تأتي من حلاك بألوان

ويا بأبي الفصال شيخ طريقة

خلوب لألباب لعوب بأذهان

إذا جاء في الثوب المحبر خلته

زنيبيرة قد مد منها جناحان

فما تأمن الأبدان آفة لسعها

وإن أقبلت في سابغات وأبدان

سأدعوك في حالات كيدي وكديتي

بشيخي ساسان وعمي هامان

(1) طريقة ساسان: أي طريقة أهل الكدية.

ص: 41

فإن كان في الأنساب منا تباين

فما تنكر الآداب أنا نسيبان

ألا فادع لي في جنح ليلك دعوة

لتنجح آمالي ويرجح ميزاني

لك الطائر الميمون في كل وجهة

سريت إليها غير نكس ولا واني

فكم من فقير بائس قد عرفته

فرفت عليه نعمة ذات أفنان

وكم من رفيع الجاه واليت أنسه

فعاش قرير العين مرتفع الشان

فلو كنت للفتح بن خاقان صاحباً

لما خانه المقدور في ليلة الخان (1)

ولو كنت للصابي صديقاً ملاطفاً

لما قبلت فيه مقالة بهتان (2)

ولو كنت من عبد الحميد مقرباً

لما هزم السفاح أشياع مروان

ولو كنت قد أرسلتها دعوة على

أبي مسلم ما حاز أرض خراسان

ولو كنت في يوم الغبيط مراسلاً

لبسطام لم تهزم به آل شيبان (3)

ولو كنت في حرب الأمين لطاهر

لما هام في يوم اللقاء ابن ماهان (4)

ولو كنت في مغزى أبي يوسف لما

رماه بغدر عبده في تلمسان (5)

ولو أن كسرى يزدجرد عرفته

لما لاح مقتولاً على يد طحان (6)

ولو أن لذريقاً وطئت بساطه

لما أثرت فيه مكيدة اليان (7)

وفيما مضى في فاس أوضح شاهد

غني لدينا عن بيان وتبيان

ولما اعتنى منك السعيد بكاتب

رأى ما ابتغى من عز ملك وسلطان

فلا تنسني من أهل ودك إنني

أخاف الليالي أن تطول فتنساني

(1) الفتح بن خاقان صاحب القلائد والمطمح وجد مقتولا بخان في مدينة مراكش.

(2)

أبو إسحاق الصابي سجنه عضد الدولة.

(3)

يوم الغبيط بين تميم وشيبان أسر فيه بسطام بن قيس.

(4)

علي بن عيسى بن ماهان قائد جيش الأمين.

(5)

يوسف بن يعقوب المريني غزا تلمسان وحاصرها وقتله في أثناء ذلك عبده سعادة.

(6)

آخر ملوك الفرس، هرب من وجه العرب إلى بلخ فقتله هناك طحان.

(7)

اليان هو يليان الذي كاد للذريق وحرض العرب وساعدهم على دخول الأندلس.

ص: 42

ولا خير إن تجعل كفاء قصيدتي

كفاء ابن دراج على مدح خيران (1)

فجد بدنانير ولا تكن التي

ألم بها الكندي في شعب بوان (2)

فجودك فينا الغيث في رمل عالج

وفضلك فينا الخبز في دار عثمان (3)

وما زلت من قبل السؤال مقابلاً

مرادي بإحساب وقصدي بإحسان

ولا تنس أياماً تقضت كريمة

بزاوية المحروق أو دار همدان (4)

وتأليفنا فيها لقبض إتاوة

وإغرام مسنون وقسمة حلوان

وقد جلس الطرقون (5) بالبعد مطرقاً

يقول نصيبي أو أبوح بكتمان

عريفي يلحاني إذا ما أتيته

ولم أنصرف عنكم بواجب ألحان

وقد جمعت تلك الطريقة عندنا

أئمة حساب وأعلام كهان

إذا استنزلوا الأرواح باسم تبادرت

طوائف ميمون وأشياع برقان (6)

وإن بخروا عند الحلول تأرجت

مباخرهم عن زعفران ولوبان (7)

وإن فتحوا الدارات (8) في رد آبق

ثنت عزمه أوهام خوف وخذلان

فيحسب أن الأرض حيث ارتمت به

ركائبه سرعان رجل وركبان

وقد عاشرتنا أسرة كيموية

أقامت لدينا في مكان وإمكان

فلله من أعيان قوم تألفوا

على عقد سحر أو على قلب أعيان

(1) مدح ابن دراج خيران الصقلبي صاحب المرية بقصيدته " لك الخير قد أوفى بعهدك خيران "(ديوانه: 86) والظاهر أنه لم يجزل جائزته عليها.

(2)

أي يريد دنانير حقيقية لا التي تحدث عنها المتنبي حين وصف أشعة الشمس بين الشجر في شعب بوان وشبهها بالدنانير.

(3)

يشير إلى قول الشاعر (النفح 3: 580) :

الماء في دار عثمان له ثمن

والخبز شيء له شان من الشان (4) زاوية المحروق ودار همدان موضعان بفاس.

(5)

الطرقون: كلمة مغربية معناها من بيده قبض ضرائب اللهو والأعراس وما أشبه.

(6)

ميمون وبرقان من الجن.

(7)

اللوبان عند المغاربة ما يعرف عند المشارقة باسم " اللبان ".

(8)

الدارات: حلقات يعقدها شيوخ المشعوذين لكشف السر عند حدوث سرقة أو إباق أو نحو ذلك.

ص: 43

ونحن على ما يغفر الله إنما

نروح ونغدو من رباط إلى خان (1)

مع الصبح نضفيها عباءة صفة

وبالليل نلويها زنانير رهبان

أتذكر في سفح العقاب مبيتكم

ثمانين شخصاً من إناث وذكران

لديكم من الألوان ما لم يجئ به

طهور ابن ذنون ولا عرس بوران (2)

وكم شائق منكم إلى عقد تكة

وكم هائم فيكم على حل هميان (3)

فأطفأت قنديل المكان تعمداً

وأومأت فانقضوا كأمثال عقبان

وناديت في القوم الركوب فأسرعوا

فريق لنسوان، وقوم لذكران

فأقسم بالأيمان لولا تعففي

عن السوء لانحلت عقيدة إيماني

فعد للذي كنا عليه فإن لي

على الغير إن صاحبته حقد غيران

فمن يوم إذ صيرت ودي جانباً

وأعرضت عني ما تناطح عنزان

ولا روت الكتاب بعد نفارنا

محاورةً من ثعلبان لسرحان

وما هو قصدي منك إلا إجازة

تخولني التفضيل ما بين خلاني

وإنك إن سخرت لي وأجزتني

لنعم ولي صان ودي وجازاني

ولم لا ترويني وأنت أجل من

سقاني من قبل الرحيق فرواني

ألا فأجزني يا إمام بكل ما

رويت لمدغليس أو لابن قزمان

ولا تنس للدباغ نظماً عرفته

فإنكما في ذلك النظم سيان

ومزدوجات ينسبون نظامها

إلى ابن شجاع (4) في مديح ابن بطان

وألمم بشيء من خرافات عنتر

وألمع ببعض من حكايات سوسان

(1) الأزهار: حان - بالحاء المهملة -.

(2)

الإعذار الذنوني الذي قام به المأمون بن ذي النون، في الأندلس، وعرس بوران بنت الحسن بن سهل التي تزوجها المأمون العباسي، في المشرق، كلاهما مضرب المثل في البذخ والإسراف.

(3)

حذف المقري في أزهار الرياض هذا البيت واثنين معه لأن الشاعر أقذع فيها.

(4)

ق ص: سجاع.

ص: 44

وإن كنت طالعت اليتيمة واسني

بلامية في الفحش من نظم واساني (1)

أجزني بكشف الدك (2) أرضى وسيلة

وخير جليس في بساط ودكان

وناولني المصباح فهو لغربتي

ميسر أغراضي ورائد سلواني

وألحق به شمس المعارف (3) إنني

أسائل عن إسناده كل إنسان

وقد كنت قبل اليوم عرفتني به

ولكنني أنسيته بعد عرفان

ولا بد يا أستاذ من أن تجيزني

ببدء ابن سبعين (4) وفصل ابن رضوان

وكتب ابن أحلى كيف كانت فإنها

لوزن دقيق القوم أكرم ميزان

ولا تنس ديوان الصبابة (5) والصفا

لإخوان صدق في الصفا خير إخوان

وزهر رياض في صفوف أضاحك

وجبذ كساء في مكايد نسوان

كذاك فناولني كتاب حبائب

وزدني تعريفاً بها وببرجان (6)

ولي أمل في أن أروى رسالة

مضمنة أخبار حي بن يقظان

وحبس علي الكوز والكاس والعصا

فإنك مثر من عصي وكيزان

وصير لي الدلفاس أرفع لبسة

فقد جل قدري عن حرير وكتان

وقد رق طبعي واعترتني خشية

تكاد بها روحي تفارق جثماني

وخل مفاتيح الطريقة في يدي

وسوغ لهم حكمي مزيدي ونقصاني

فإني لم أخدمك إلا بنية

وإني لم أتبعك إلا بإحسان

(1) الواساني أبو القاسم الحسين بن الحسين وله قصيدة لامية مقذعة في اليتيمة 1: 351 يهجو بها المنشا ابن إبراهيم القزاز.

(2)

اسم كتاب لابن شهيد الشاعر؛ وفي الفهرست (312) كتاب الخفة والدك وهو من كتب الشعبذة والطلسمات.

(3)

شمس المعارف للبوني (- 622) .

(4)

يريد بدء العارف لابن سبعين.

(5)

اسم كتاب لابن حجلة التلمساني.

(6)

هكذا في الأصل، وفي الفهرست لابن النديم (314) كتاب " بردان وحباحب " لأبي حسان، وهما كتابان صغير وكبير، من الكتب المؤلفة في الباه.

ص: 45

فكن لي بالأسرار أفصح معلن

فإني قد أخلصت سري وإعلاني وليس قصدي - علم الله - بجلب هذه القصيدة ما فيها من المجون، بل ما فيها من التلميحات التي يرغب في مثلها أهل الأدب والحديث شجون، على أن أمثال هؤلاء الأعلام، لا يقصدون بمثل هذا الكلام، إلا مجرد الإحماض، فينبغي أن ينظر كلامهم الواقف عليه بعين الإغضاء عن النقض والإغماض، ولا يبادر بالاعتراض، من لم يعلم بالأصول برهان القطع والافتراض، والله سبحانه المسؤول في التجاوز عن الزلات، والنجاة من الأمور المضلات، فعفوه سبحانه وراء جميع ذلك، والله تعالى المطلع على أسرار الضمائر، والخبير بما هنالك، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.

[نونية ابن زمرك]

وحيث ذكرنا هذه القصائد النونية التي اتفق فيها البحر والروي، وجرت من البلاغة على النهج السوي، فلا بأس أن نعززها بقصيدة الرئيس الوزير أبي عبد الله ابن زمرك - سامحه الله تعالى - وهي قصيدة ميلادية أنشدها سلطان الأندلس عام خمسة وستين وسبعمائة، ونجعلها مكفرة لما مر في قصيدة الفقيه عمر من المجون، ومبلغة للناظرين في هذا التأليف ما يرجون، والحديث شجون، وهي قوله (1) :

لعل الصبا إن صافحت روض نعمان

تؤدي أمان القلب عن ظبية البان

وماذا عن الأرواح وهي طليقة

لو احتملت أنفاسها حاجة العاني

وما حال من يستودع الريح سره

ويطلبها، وهي النموم، بكتمان

وكالطيف أستقريه في سنة الكرى

وهل تنقع الأحلام غلة ظمآن

(1) انظر القصيدة في أزهار الرياض 2: 42.

ص: 46

أسائل عن نجد ومرمى صبابتي

ملاعب غزلان الصريم بنعمان

وأبدي إذا ريح الشمال تنفست

شمائل مرتاح المعاطف نشوان

عرفت بهذا الحب لم أدر سلوة

وإني لمسلوب الفؤاد لسلوان

فيا صاحبي نجواي والحب غاية

فمن سابق جلى مداه ومن واني

وراءكما ما اللوم يثني مقادتي

فإني عن شأن الملامة في شان

وإني وإن كنت الأبي قياده

ليأمرني حب الحسان وينهاني

وما زلت أرعى العهد فيمن يضيعه

وأذكر إلفي ما حييت وينساني

فلا تنكرا ما سامني مضض الهوى

فمن قبل ما أودى بقيس وغيلان

لي الله إما أومض البرق في الدجى

أقلب تحت الليل مقلة وسنان

وإن سل من غمد الغمام حسامه

برى كبدي الشوق الملم وأضناني

تراءى بأعلام الثنية باسماً

فأذكرني العهد القديم وأبكاني

أسامر نجم الأفق حتى كأننا

وقد سدل الليل الرواق حليفان

ومما أناجي الأفق أعديه بالجوى

فأرعى له سرح النجوم ويرعاني

ويرسل صوب القطر من فيض أدمعي

ويقدح زند البرق من نار أشجاني

وضاعف وجدي رسم دار عهدتها

مطالع شهب أو مراتع غزلان

على حين شرب الوصل غير مصرد

وصفو الليالي لم يكدر بهجران

لئن أنكرت عيني الطلول فإنها

تمت إلى قلبي بذكر وعرفان

ولم أر مثل الدمع في عرصاتها

سقى تربها حين استهل وأظماني

ومما شجاني أن سرى الركب موهناً

تقاد به هوج الرياح بأرسان

غوارب في بحر السراب تخالها

وقد سبحت فيه مواخر غربان

على كل نضو مثله فكأنما

رمى منهما صدر المفازة سهمان

ومن زاجر كوماء مخطفة الحشا

توسد منها فوق عوجاء مرنان

نشاوى غرام يستميل رؤوسهم

من النوم والشوق المبرح سكران

أجابوا نداء البين طوع غرامهم

وقد تبلغ الأوطار فرقة أوطان

ص: 47

يؤمون من قبر الشفيع مثابة

تطلع منها جنة ذات أفنان

إذا نزلوا من طيبة بجواره

فأكرم مولى ضم أكرم ضيفان

بحيث علا الإيمان وامتد ظله

وزان حلى التوحيد تعطيل أوثان

مطالع آيات، مثابة رحمة

معاهد أملاك، مظاهر إيمان

هنالك تصفو للقبول موارد

يسقون منها فضل عفو وغفران

هناك تؤدى للسلام أمانة

يحييهم عنها بروح وريحان

يناجون عن قرب شفيعهم الذي

يؤمله القاصي من الخلق والداني

لئن بلغوا دوني وخلفت إنه

قضاء جرى من مالك الأرض ديان

وكم عزمة مليت نفسي صدقها

وقد عرفت مني مواعد ليان

إلى الله نشكوها نفوساً أبية

تحيد عن الباقي وتغتر بالفاني

ألا ليت شعري هل تساعدني المنى

فأترك أهلي في رضاه وجيراني

وأقضي لبانات الفؤاد بأن أرى

أعفر خدي في ثراه وأجفاني

إليك رسول الله دعوة نازح

خفوق الحشا رهن المطامع هيمان

غريب بأقصى الغرب قيد خطوه

شباب تقضى في مراح وخسران

يجد اشتياقاً للعقيق وبانه

ويصبو إليها ما استجد الجديدان

وإن أومض البرق الحجازي موهناً

يردد في الظلماء أنة لهفان

فيا مولي الرحمى، ويا مذهب العمى

ويا منجي الغرقى، ويا منقذ العاني

بسطت يد المحتاج يا خير راحم

وذنبي ألجاني إلى موقف الجاني

وسيلتي العظمى شفاعتك التي

يلوذ بها موسى وعيسى بن عمران

فأنت حبيب الله خاتم رسله

وأكرم مخصوص بزلفى ورضوان

وحسبك أن سماك أسماه العلا

وذاك كمال لا يشاب بنقصان

وأنت لهذا الكون علة كونه

ولولاك ما امتاز الوجود بأكوان

ولولاك للأفلاك لم تجل نيراً

ولا قلدت لباتهن بشهبان

خلاصة صفو المجد من آل هاشم

ونكتة سر الفخر من آل عدنان

ص: 48

وسيد هذا الخلق من نسل آدم

وأكرم مبعوث إلى الإنس والجان

وكم آية أطلعت في أفق الهدى

يبين صباح الرشد منها ليقظان

وما الشمس يجلوها النهار لمبصر

بأجلى ظهوراً أو بأوضح برهان

وأكرم بآيات تحديتنا بها

ولا مثل آيات لمحكم فرقان

وماذا عسى يثني البليغ وقد أتى

ثناؤك في وحي كريم (1) وقرآن

فصلى عليك الله ما انسكب الحيا

وما سجعت ورقاء في غصن البان

وأيد مولانا ابن نصر فإنه

لأشرف من ينمى لملك وسلطان

أقام كما يرضيك مولدك الذي

به سفر الإسلام عن وجه جذلان

سمي رسول الله ناصر دينه

معظمه في حال سر وإعلان

ووارث سر المجد من آل خزرج

وأكرم من تنمي قبائل قحطان

ومرسلها ملء الفضاء كتائباً

تدين لها غلب الملوك بإذعان

حدائق خضر والدروع غدائر

وما أنبتت إلا ذوابل مران

تجاوب فيها الصاهلات وترتمي

جوانبها بالأسد من فوق عقبان

فمن كل خوار العنان قد ارتمى

به كل مطعام العشيات مطعان

وموردها ظمأى الكعوب ذوابلاً

ومصدرها من كل أملد ريان

ولله منها والربوع مواحل

غمام ندى كفت بها المحل كفان

إذا أخلف الناس الغمام وأمحلوا

فإن نداه والغمام لسيان

إمام أعاد الملك بعد ذهابه

إعادة لا نابي الحسام ولا واني

فغادر أطلال الضلال دوارساً

وجدد للإسلام أرفع بنيان

وشيدها، والمجد يشهد، دولة

محافلها تزهى بيمن وإيمان

وراق من الثغر الغريب ابتسامه

وهز له الإسلام أعطاف مزدان

لك الخير ما أسنى شمائلك التي

يقصر عن إدراكها كل إنسان

(1) الأزهار: قديم.

ص: 49

ذكاء إياس في سماحة حاتم

وإقدام عمرو في بلاغة سحبان

أمولاي ما أسنى مناقبك التي

هي الشهب لا تحصى بعد وحسبان

فلا زلت يا غوث البلاد وأهلها

مبلغ أوطار ممهد أوطان ولابن زمرك المذكور ترجمة نأتي بها في هذا التأليف إن شاء الله تعالى في محلها، وهو من تلامذة لسان الدين، ومن عداد خدامه، فحين نبا به الزمان، وتعوض الخوف بعد الأمان، كان أحد الساعين في قتله كما سنذكره، وصرح بذمه وهجوه بعد أن كان ممن يشكره، وهكذا عادة بني الدنيا يدورون معها حيث دارت، ويسيرون حيث سارت، ويشربون من الكأس التي أدارت، وقد تولى المذكور الوزارة عوضاً عن ابن الخطيب، وصدح طير عزه على فنن من الإقبال رطيب، ثم آل الأمر به إلى القتل، كما سعى في قتل لسان الدين، وكان الجزاء له من جنس عمله، والمرء يدان بما كان به يدين، وعفو الله سبحانه مرجو للجميع في الآخرة، وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن ينيلنا وإياهم المراتب الفاخرة، فإنه لا يتعاظمه ذنب، وليس للكل غيره من رب.

رجع إلى ما كنا بسبيله - وأما لوشة التي ينسب إليها لسان الدين فقد تقدم من كلام ابن خلدون أنها على مرحلة من حضرة غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج، وقد أجرى ذكرها لسان الدين في الإحاطة وقال:

إنها بنت الحضرة، يعني غرناطة، وقال ذلك في ترجمة ابن مرج الكحل، ولنذكر الترجمة بكمالها تتميماً للغرض فنقول:

[ترجمة ابن مرج الكحل]

قال رحمه الله ما نصه (1) : محمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم، من

(1) ترجمة ابن مرج الكحل منقولة نصا عن الإحاطة 2: 252.

ص: 50

أهل جزيرة شقر، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن مرج الكحل.

حاله: كان شاعراً مفلقاً غزلاً بارع التوليد رقيق الغزل، وقال الأستاذ أبو جعفر: شاعر مطبوع حسن الكتابة ذاكر للأدب متصرف فيه، قال ابن عبد الملك: وكانت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات ظهرت فيها إجادته، وكان مبتذل اللباس، على هيئة أهل البادية، ويقال: إنه كان أمياً.

من أخذ عنه: روى عنه أبو جعفر ابن عثمان الوارد، وأبو الربيع ابن سالم، وأبو عبد الله ابن الأبار، وابن عسكر، وابن أبي البقاء، وأبو محمد ابن عبد الرحمن ابن برطله، وأبو الحسن الرعيني.

شعره ودخوله غرناطة: قال في عشية بنهر الغنداق من خارج بلدنا لوشة بنت الحضرة، والمحسوب من دخلها أنه دخل إلبيرة - وقد قيل: إن نهر الغنداق من أحواز برجة، وهذا الخلاف داع لذكره (1) -:

عرج بمنعرج الكثيب الأعفر

بين الفرات وبين شط الكوثر

ولتغتبقها قهوة ذهبية

من راحتي أحوى المراشف أحور

وعشية كم كنت أرقب وقتها

سمحت بها الأيام بعد تعذر

فلنا بهذا ما لنا في روضة

تهدي لناشقها شميم العنبر

والدهر من ندم يسفه رأيه

فيما مضى فيه بغير تكدر

والورق تشدو والأراكة تنثني

والشمس ترفل في قميص أصفر

والروض بين مفضض ومذهب

والزهر بين مدرهم ومدنر

والنهر مرقوم الأباطح والربى

بمصندل من زهره ومعصفر

وكأنه وكأن خضرة شطه

سيف يسل على بساط أخضر

وكأنما ذاك الحباب فرنده

مهما طفا في صفحة كالجوهر

(1) انظر هذه القصيدة أيضا في أزهار الرياض 2: 315.

ص: 51

وكأنه، وجهاته محفوفة

بالآس والنعمان، خد معذر

نهر يهيم بحسنه من لم يهم

ويجيد فيه الشعر من لم يشعر

ما اصفر وجه الشمس عند غروبها

إلا لفرقة حسن ذاك المنظر ولا خفاء ببراعة هذا الشعر (1)، وقال منها:

أرأت جفونك مثله من منظر

ظل وشمس مثل خد معذر

وجداول كأرقم حصباؤها

كبطونها وحبابها كالأظهر وهذا تتميم عجيب لما يسبق إليه، ثم قال منها:

وقرارة كالعشر بين خميلة

سالت مذانبها بها كالأسطر

فكأنها مشكولة بمصندل

من يانع الأزهار أو بمعصفر

أمل بلغناه بهضب حديقة

قد طرزته يد الغمام الممطر

فكأنه والزهر تاج فوقه

ملك تجلى في بساط أخضر

راق النواظر منه رائق منظر

يصف النضارة عن جنان الكوثر

كم قاد خاطر خاطر مستوفز

وكم استفز جماله من مبصر

لو لاح لي فيما تقادم لم أقل

عرج بمنعرج الكثيب الأعفر قال أبو الحسن الرعيني: وأنشدني لنفسه (2) :

وعشية كانت قنيصة فتية

ألفوا من الأدب الصريح شيوخا

فكأنما العنقاء قد نصبوا لها

من الانحناء إلى الوقوع فخوخا

شملتهم آدابهم فتجاذبوا

سر السرور محدثاً ومصيخا

والورق تقرأ سورة الطرب التي

ينسيك منها ناسخ منسوخا

(1) الإحاطة: النظم.

(2)

لا يزال النقل عن الإحاطة مستمرا، وانظر أيضا برنامج الرعيني.

ص: 52

والنهر قد صفحت به نارنجة

فتيممت من كان فيه منيخا

فتخالهم خلل السماء كواكباً

قد قارنت بسعودها المريخا

خرق العوائد في السرور نهارهم

فجعلت أبياتي لها تاريخا ومن أبياته في البديهة قوله:

وعندي من مراشفها حديث

يخبر أن ريقتها مدام

وفي أجفانها السكرى دليل

وما ذقنا ولا زعم الهمام

تعالى الله ما أجرى دموعي

إذا عنت لمقلتي الخيام

وأشجاني إذا لاحت بروق

وأطربني إذا غنت حمام ومن قصيدة:

عذيري من الآمال خابت قصودها

ونالت جزيل الحظ منها الأخابث

وقالوا: ذكرنا بالغنى، فأجبتهم

خمولاً وما ذكر مع البخل ماكث

يهون علينا أن يبيد أثاثنا

وتبقى علينا المكرمات الأثائث

وما ضر أصلاً طيباً عدم الغنى

إذا لم يغيره من الدهر حادث وله يتشوق إلى عمرو بن أبي (1) غياث:

أيا عمرو متى تقضي الليالي

بلقياكم وهن قصصن ريشي

أبت نفسي هوى إلا شريشاً

ويا بعد الجزيرة من شريش وله من قصيدة:

طفل المساء وللنسيم تضوع

والأنس يجمع شملنا ويجمع

والزهر يضحك من بكاء غمامة

ريعت لشيم سيوف برق تلمع

(1) أبي: سقطت من ق.

ص: 53

والنهر من طرب يصفق موجه

والغصن يرقص والحمامة تسجع

فانعم أبا عمران واله بروضة

حسن المصيف بها وطاب المربع

يا شادن البان الذي دون النقا

حيث التقى وادي الحمى والأجرع

الشمس يغرب نورها ولربما

كسفت ونورك كل حين يسطع

إن غاب نور الشمس لسنا نتقي

بسناك ليل تفرق يتطلع

أفلت فناب سناك عن إشراقها

وجلا من الظلماء ما يتوقع

فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل

" فوددت يا موسى لو أنك يوشع "(1) وقال:

ألا بشروا بالصبح من كان باكياً

أضر به الليل الطويل مع البكا

ففي الصبح للصب المتيم راحة

إذا الليل أجرى دمعه وإذا شكا

ولا عجب أن يمسك الصبح عبرتي

فلم يزل الكافور للدم ممسكاً ومن بديع مقطوعاته قوله:

مثل الرزق الذي تطلبه

مثل الظل الذي يمشي معك

أنت لا تدركه متبعاً

فإذا وليت عنه تبعك وقال:

دخلتم فأفسدتم قلوباً بملكها

فأنتم على ما جاء في سورة النمل (2)

وبالجود والإحسان لم تتخلقوا

فأنتم على ما جاء في سورة النحل (3)

(1) من قول الرصافي البلنسي؛ وسيورده المقري:

سقطت ولم تملك يمينك ردها

فودتت يا موسى لو أنك يوشع (2) إشارة إلى الآية الكريمة " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ".

(3)

إشارة إلى الآية الكريمة " أينما يوجهه لا يأت بخير ".

ص: 54

وقال أبو بكر محمد بن محمد بن جهور: رأيت لابن مرج الكحل مرجاً أحمر قد أجهد نفسه في خدمته، فلم ينجب، فقلت:

يا مرج كحل ومن هذي المروج له

ما كان أحوج هذا المرج للكحل

ما حمرة الأرض من طيب ومن كرم

فلا تكن طمعاً في رزقها العجل

فإن من شأنها إخلاف آملها

فما تفارقها كيفية الخجل فقال مجيباً:

يا قائلاً إذ رأى مرجي وحمرته

ما كان أحوج هذا المرج للكحل

هو احمرار دماء الروم سيلها

بالبيض من مر من آبائي الأول

أحببته أن حكى من قد فتنت به

في حمرة الخد أو إخلافه أملي وفاته: توفي ببلده يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول عام أربعة وثلاثين وستمائة، ودفن في اليوم بعده.

انتهى ما في الإحاطة في شأن ابن مرج الكحل.

وكتب أبو الحسن علي بن لسان الدين على أول ترجمته ما نصه: شاعر جليل القدر، من مشايخ شعراء الأندلس، من أهل بلنسية، وسكن جزيرة شقر.

وكتب على قوله والنهر مرقوم الأباطح ما صورته: لم يصف أحد النهر بأرق ديباجة ولا أظرف من هذا الإمام، رحمة الله عليه، انتهى كلام ابن لسان الدين.

[رائية شمس الدين الكوفي]

قلت: وما رأيت رائية تقرب من التي لابن مرج الكحل السابقة التي أولها

ص: 55

" عرج بمنعرج الكثيب الأعفر " إلا رائية شمس الدين الكوفي الواعظ، وهي قوله:

روح الزمان هو الربيع فبكر

وانهض إلى اللذات غير منكر

هذا الربيع يبيع من لذاته

أصناف ما تهوى، فأين المشتري

فافرح به فلفرحة بقدومه

رفل الشقائق في القباء الأحمر

والكون مبتهج وخفاق الصبا

يحيي القلوب بنشره المتعطر

والغيم يبكي، والأقاحي باسم

لبكائه كتبسم المستبشر

والسرو إن عبث النسيم فهز أع

طاف الغصون يميس ميس موقر

وكأنما القداح فستق فضة

يهدي إليك أريج مسك أذفر

وكأنما المنثور في أثوابه

ألوان ياقوت أنيق المنظر

وترى البهار كعاشق متخوف

متشوق باد بوجه أصفر

وكأنما النارنج في أوراقه ال

قنديل، والأوراق شبه مسحر

وكأنما الخشخاش قوم جاءهم

خبر يسرهم بطيب المخبر

فثنوا ملابسهم لفرط سرورهم

كي يخلعوا فرحاً بقول المخبر

فتعلقت أذيالها بأكفهم

وتعلقت أزياقها بالمنحر

والطل من فوق الرياض كأنه

درر نثرن على بساط أخضر

وترى الربى بالنور بين متوج

ومدملج، ومخلخل، ومسور

ورياضها بالزهر بين مقرطق

ومطوق، وممنطق، ومزنر

والورد بين مضعف، ومشنف

ومكتف، وملطف لم يهصر

والزهر بين مفضض، ومذهب

ومرصع، ومدرهم، ومدنر

والنثر بين مطيب، وممسك

ومعطر، ومصندل، ومعنبر

والورق بين مرجع وموجع

ومفجع ومسجع في منبر

ومغرد، ومردد، ومعدد

ومبدد في الخد ماء المحجر

ص: 56

ولكن قصيدة ابن مرج الكحل أعذب مذاقاً، وكل منهما لم يقصر، رحمهما الله تعالى، فلقد أجادا فيما قالاه إلى الغاية، وليس الخبر كالعيان.

[عود إلى ابن مرج الكحل]

ومن نظم ابن مرج الكحل قوله (1) :

الشمس يغرب نورها، ولربما

كسفت ونورك كل حين يسطع

أفلت فناب سناك عن إشراقها

وجلا من الظلماء ما يتوقع

فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل

فوددت يا موسى لو أنك يوشع ولمح بهذه الأبيات إلى قول الرصافي الأندلسي البلنسي يخاطب من اسمه موسى بقصيدة أولها (2) :

ما مثل موضعك ابن رزق موضع

زهر يرف وجدول يتدفع ومنها:

وعشية لبست ثياب شحوبها

والجو بالغيم الرقيق مقنع

بلغت بنا أمد السرور تألفاً

والليل نحو فراقنا يتطلع

فابلل بها ريق الغبوق فقد أتى

من دون قرص الشمس ما يتوقع

سقطت ولم يملك نديمك ردها

فوددت يا موسى لو أنك يوشع قلت: ومن نثر ابن مرج الكحل المذكور ما كتبه إلى أديب الأندلس أبي بحر صفوان بن إدريس مراجعاً له بعد نظم، ونص الجميع:

(1) مرت الأبيات ص: 54.

(2)

ديوان الرصافي: 104.

ص: 57

يا من تبوأ في العلياء منزلة

جداه قد أسساها أي تأسيس

لم يتركا في العلا حظاً لملتمس

سيان هذا وهذاك ابن إدريس

وافى كتابكم فارتد لي جذلي

واعتضت من فرط أشواقي بتأنيس

وللنوى لوعة تطفو فيطفئها

مسك المداد وكافور القراطيس حرس الله سناءك وسناك، وأظفر يمناك بمناك، ودي الأسلم كما تعلم، وعهدي الأقدم، لم تزل له قدم، وأنا دام عزكم إن أتفق معكم انتساباً فلم أتفق في شأو الأدب باعاً، ولا قاربتكم طباعاً وانطباعاً، بل بذلك الاتفاق تشرفت وسموت إلى ذروة العلا واستشرفت، وأقررت بذلك الفضل واعترفت، وكرعت في مناهله واغترفت، ولقد وافى كتابكم فقلت لقد نثر الدر من فيه، وبلغ نفسي مما كانت تنويه من التنويه:

حديث لو أن الميت نودي ببعضه

لأصبح حياً بعدما ضمه القبر ولولا ما طالعني وجه من رضاكم وسيم، وسقاني مزن اهتبالكم ما أروى به وأسيم، وحياني منكم روض ونسيم، لما ساعدني الفكر بقسيم، لا زلتم في ظل من العيش وارف، مرتدين رداء المعارف، والسلام؛ انتهى.

[رسالة صفوان إلى ابن مرج الكحل]

وكانت مخاطبة صفوان له التي أجاب عنها بما نصه:

يا قاطع البيد يطويها وينشرها

إلى الجزيرة ينضي بدن العيس

الثم بها عن أخي حب وذي كلف

يد العلا والقوافي وابن إدريس وأبلغها إليه تحية كالمسك صدراً وورداً، وكالماء الزلال عذوبة وبرداً، يسري بها إلى دار ابن نسيم، ويسفر منها بجزيرة شقر وجه وسيم، وهي وإن

ص: 58

كانت تذيب المسك خجلاً، وتستفز بصوتها وجلاً، فما هي إلا خائفة تترقب، وسافرة تكاد تتنقب، تمشي على استحياء، وتعثر من التقصير في ذيل إعياء، هذا لأنها جلبت إلى هجر تمراً، وإلى شبام وبيت رأس خمراً، ولكن على المجد أن يبدي في قبول عذرها ويعيد، لعلمه أنه يتيمم من لم يجد إلا الصعيد، فله الفضل أن لا يلفحها بنار النقد، ولا يعرضها على ما هنالك من الحل والعقد، والله يبقي ذكره في مقلة الأدب حوراً، وفي قلب الحسود خوراً، ويديمه والقوافي طوع قريحته، والأغراض الجميلة ملء تعريضته وتصريحته، وزهر البيان تطلع في سماء جنانه، وزهر التبيان يونع في أنداء جنانه، وعذراً إليه فإني كتبت والحامل يمسك زمامه، ويلتفت في البيداء أمامه؛ والسلام.

[خطبة نكاح من إنشاء صفوان]

ومن إنشاء صفوان خطبة نكاح نصها: الحمد لله الذي تطول بالإحسان من غير جزاء ولا ثواب، وألبس المخلوقات من فواضله سوابغ المطارف وكواسي الأثواب، وجاءوا على أقدام الرجاء إلى محال نوافله فوجدوها مفتحة لهم الأبواب، وسألوه كفاية المؤنة فكان الفعل بدل القول والإسعاف بدل الجواب، خلق البرية من غير افتقار ولا اضطرار، ونقلهم من الطفولية إلى غيرها نقل البدر من التمام إلى السرار، وشرف هذه الطبقة الإنسانية فرزقها الإدراكات العقلية، والإبانات اللسانية، فضرب سرادق اعتنائه عليها، وأنشأها من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، ومع صنعه الرفيق بهم اللطيف، وتنويهه الحاف بأرجائهم المطيف، رزقهم أحسن الصور الحيوانية وأجملها، وأتاح لهم أتم أقسام الاعتناء وأكملها، وبعث إليهم الرسل صلوات الله عليهم صنعاً منه جميلاً، ورباً للصنيعة لديهم وتكميلاً، فبشروا وأنذروا، وأمنوا وحذروا، وباينوا بين الحرام والحلال، مباينة إدراك البصير بين الكدر والزلال، ودلوا على السمت الأهدى

ص: 59

ونصبوا أعلام التوفيق والهدى، ولم يدعوا شيئاً سدى، بل توازنت بهم مقادير الأقوال والأعمال، وكانت إشاراتهم ثمال الهدايا وأي ثمال، فآب كل متسحب إلى الارتباط، وشد كل موفق على الاعتلاق بحالهم يد الاغتباط، فصلوات الله الزاكية عليهم، ونوافح رحمته النامية تغدو وتروح إليهم، وأتم الصلاة والسلام، على علم أولئك الأعلام، الداعي على بصيرة إلى دار السلام، السراج المنير، المبشر النذير، محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تؤول بهم إلى فسيح رضوانه ورحبه، بعثه الله رحمة للعالمين عامة، وأرسله نعمة للناس موفورة تامة، فأخذ بحجز (1) مصدقيه عن التهافت في مداحض الأقدام، والتتابع في مزلات الجرأة على العصيان والإقدام، فأقام الحجة، وأوضح المحجة، ودل على المقامات التي تمحض الأولياء، وأفصح عن الكرامات التي تنقذ الأتقياء، وقال وأهلاً به من قائل:" تناكحوا فإني مكاثر بكم الأنبياء " حرصاً منه صلوات الله عليه على الزيادة في أهل الإسلام والنماء، ودفعاً في صدر الباطل بواضح الحق الصادع غيهب الظلماء، وحض على ذات الدين الحصان، وأغرى بالاعتصام والإحصان، ونصب أعلام النكاح مشيدة المباني، وجاء بها سنة عذبة المجاني، وقال:" من تزوج فقد كمل نصف دينه فليتق الله في النصف الثاني "، وأمر بالنكاح الذي توافقت فيه الطبيعة والشريعة، ولبته النفوس وهي سريعة، وأخصبت به ربوة التناسل فهي مروضة مريعة، وسدت به عن اتباع الهوى وارتكاب المحارم الذريعة، وحفظت به الأنسال والأنساب، وفاض به نهر لالتئام المنساب، إذ لا سبيل لأن يستغني بذاته، من كان أسير هواه ومأمور لذاته، وإنما الانفراد والاستغناء، لمن له الكمال والغنى، ولا يجوز أن يتعاقب عليه الإنى، لا إله إلا هو له السناء والسنا.

وإن فلاناً لما ارتقت همته إلى إتباع الصالحات وسمت، ووسمته النجابة من أعلامها اللائحة بما وسمت، رأى أن الاعتصام بالنكاح أولى ما حمى به

(1) ق ص: يحجز، والأصوب ما أثبتناه.

ص: 60

دينه ووقاه، وأهم ما رفع إليه اعتناءه ورقاه، فخطب إلى فلان ابنته فلانة خطبة تضافر فيها اليمن والقبول، ونفحت بها شمال من الجد المصمم وقبول، وارتقى بها إلى اللوح المحفوظ والديوان المكنون عمل مقبول، فتلقى فلان خطبته بالإجابة، لما توسم فيه من مخايل النجابة، حرصاً على المساعدة والعون، واغتباطاً بمياسرة أهل الرشد والصون، وانعقد النكاح بينهما على بركة الله التي يتضاعف بها العدد القليل ويتزيد، ويمنه الذي ينتهض به من اعتمده ويتأيد، وحسن توفيقه الذي يرتبط به من أخلص ضميره ويتقيد، على أن أصدقها كذا، تزوجها بكلمة الله التي علت الكلمات وبهرتها، وعلى سنة نبيه التي أحيت الحنيفية وأظهرتها، وأنقت الملة من أرجاس الجاهلية وطهرتها، وهداية مهديه التي غلبت الأباطل وقهرتها، ولتكون عنده بأمانة الله التي هي جنة واعتصام، وعهدته للزوجات على أزواجهن التي ليس لعروتها انفصام، وعلى إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وتسلسل في ميدان التناصف وأرسان، والله تعالى يمهد لهما مهاد نعمته الوثير، ويخلف منها الطيب الكثير، ويرزقهما التوفيق الباعث لطول المرافقة المثير، بمنه ونعمته.

[من رسالة عتاب لصفوان]

وله رحمه الله من رسالة عتاب: أدام الله سبحانه مدة الأخ الذي أستديم إخاءه، وإن واجهتني زعازعه أرتقب رخاءه، وتجاوزت عن يومه لأمسه، وأغضيت عن ظلامه لشمسه، إناء واعتناء، وإنذاراً وإعذاراً، ورحم الله من اعتمد على الأفهام، وعصى أوامر الأوهام، ورأى الخليفة في المعقول، لا في المختلق المنقول. وبعد فإنه وصل كلامك بل ملامك، وكتابك بل عتابك، ورسالتك بل بسالتك، أسمعتني بألفاظك العذاب سوء العذاب، وأريتني لمعان

ص: 61

الحسام من فقرك الوسام.

وقال صفوان رحمه الله: اجتمعت مع ابن مرج الكحل يوماً، فاشتكى إلي ما يجد لفراقي، وأطال عتب الزمان في إشآمه وإعراقي، فقلت: إذا تفرقنا والنفوس مجتمعة، فما يضر أن الجسوم للرحيل مزمعة ثم قلت له:

أنت من العين والفؤاد

دنوت أو كنت ذا بعاد فقال وهو من بارع الإجازة:

وأنت في القلب في السويدا

وأنت في العين في السواد وإذ جرى ذكر صفوان فلا حرج أن نترجمه، فنقول:

[ترجمة صفوان]

قال في " الإحاطة " ما ملخصه (1) : صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس، التجيبي المرسي أبو بحر، كان أديباً حسيباً ممتعاً من الظرف ريان من الأدب، حافظاً سريع البديهة ترف النشأة، على تصاون وعفاف، جميلاً سرياً، ممن تساوى حظه في النظم والنثر على تباين الناس في ذلك. روى عن أبيه وخاله وابن عم أبيه القاضي أبي القاسم ابن إدريس، وأبي بكر ابن مغاور، وأبي رجال ابن غلبون، وأبي العباس ابن مضا، سمع عليه صحيح مسلم، وأبي القاسم ابن حبيش، وابن حوط الله، وأبي الوليد ابن رشد، وأجاز له ابن بشكوال. وروى عنه أبو إسحاق اليابري، وأبو الربيع [ابن البني وأبو عبد الله ابن أبي البقاء وأبو عمر](2) ابن سالم، وابن عيشون، وله تواليف أدبية،

(1) ترجمته في الإحاطة، الورقة:168.

(2)

ما بين معقفين زيادة من الإحاطة.

ص: 62

منها " زاد المسافر "، وكتاب " الرحلة "، وكتاب " العجالة "، سفران يتضمنان من نظمه ونثره أدباً لا كفاء له، وانفرد من تأبين الحسين وبكاء أهل البيت بما ظهرت عليه بركته في حكايات كثيرة.

ثم سرد لسان الدين جملة من نظمه إلى أن قال: وقال في غرض الرصافي من وصف بلده وذكر إخوانه يساجله في الغرض والروي عقب رسالة سماها " طراد الجياد في الميدان وتنازع اللدات والأخدان في تقديم مرسية على غيرها من البلدان "(1) :

لعل رسول البرق يغتنم الأجرا

فينثر عني ماء عبرته تثرا

معاملة أربي بها غير مذنب

فأقضيه دمع العين عن نقطة بحرا

ليسقي من تدمير قطراً محبباً

يقر بعين القطر أن تشرب القطرا

ويرضعه (2) ذوب اللجين، وإنما

توفيه عيني من مدامعها تبرا

وما ذاك تقصيراً بها غير أنه

سجية ماء البحر أن يذوي الزهرا

خليلي قوما فاحبسا طرق الصبا

مخافة أن يحمي بزفرتي الحرى

فإن الصبا ريح علي كريمة

بآية ما تسري من الجنة الصغرى

خليلي أعني أرض مرسية المنى

ولولا توخي الصدق سميتها الكبرى

محلي بل جوي الذي عبقت به

نواسم آدابي معطرة نشرا

ووكري الذي منه درجت فليتني

فجعت بريش العزم كي ألزم الوكرا

وما روضة الخضراء قد مثلت بها

مجرتها نهراً وأنجمها زهرا

بأبهج منها والخليج مجرة

وقد فضحت أزهار ساحتها الزهرا

وقد أسكرت أعطاف أغصانها الصبا (3)

وما كنت أعتد (4) الصبا قبلها خمرا

(1) الإحاطة، الورقة:172.

(2)

في ص ق: ويقرضه، والتصويب عن الإحاطة.

(3)

الإحاطة: وقد أسكرت ريح الصبابة عاشقا.

(4)

ق ص: أعددت.

ص: 63

هنالك بين الغصن والقطر والصبا

وزهر الربى ولدت آدابي الغرا

إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري

تعلم نظام النثر من ههنا شعرا

وإن نثرت ريح الصبا زهر الربى

تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا

فوائد أسحار هناك اقتبستها

ولم أر روضاً غيره يقرئ السحرا

كأن هزيز الريح يمدح روضها

فتملأ فاه من أزاهرها درا

أيا زنقات (1) الحسن هل فيك نظرة

من الجرف الأعلى إلى السكة الغرا (2)

فأنظر من هذي لتلك كأنما

أغير إذ غازلتها أختها الأخرى

هي الكاعب الحسناء تمم حسنها

وقدت لها أوراقها حللاً خضرا

إذا خطبت أعطت دراهم زهرها

وما عادة الحسناء أن تنقد المهرا

وقامت بعرس الأنس قينة أيكها

أغاريدها (3) تسترقص الغصن النضرا

فقل في خليج يلبس الحوت درعه

ولكنه لا يستطيع بها نصرا

إذا ما بدا فيها الهلال رأيته

كصفحة سيف وسمها قبعة صفرا

وإن لاح فيها البدر شبهت متنه

بشط لجين ضم من ذهب عشرا

وفي جرفي روض هناك تجافيا

بنهر، يود الأفق لو زاره فجرا

كأنهما خلا صفاء تعاتبا

وقد بكيا من رقة ذلك نهرا

وكم لي بأبيات الحديد (4) عشية

من الأنس ما فيه سوى أنه مرا

عشايا كأن الدهر غض (5) بحسنها

فأجلت بساط البرق (6) أفراسها الشقرا

عليهن أجري خيل دمعي بوجنتي

إذا ركبت حمرا ميادينها الصفرا (7)

(1) الزنقات: من متنزهات مرسية، وفي ص ق: رنقات، وفي الإحاطة: رائعات.

(2)

الإحاطة: الخضرا.

(3)

الإحاطة: أيكة، أغادرها.

(4)

الإحاطة: بذا الباب الجديد.

(5)

ق ص: عشيات كان الدهر غضا.

(6)

الإحاطة: الأنس.

(7)

لم يرد هذا البيت في الإحاطة.

ص: 64

أعهدي بالغرس المنعم دوحه

سقتك دموعي، إنها مزنة، شكرا

فكم فيك من يوم أغر محجل

تقضت أمانيه فخلدتها ذكرا

على مذنب كالبحر (1) من فرط حسنه

تود الثريا أن يكون لها نحرا

سقت أدمعي والقطر أيهما انبرى

نقا الرملة البيضاء فالنهر فالجسرا

وإخوان صدق لو قضيت حقوقهم

لما فارقت عيني وجوههم الزهرا

ولو كنت أقضي حق نفسي - ولم أكن -

لما بت أستحلي فراقهم المرا

وما اخترت هذا البعد إلا ضرورة

وهل تستجيز العين أن تفقد الشفرا

قضى الله أن تنأى بي الدار عنهم

أراد بذاك الله أن أعتب الدهرا

ووالله لو نلت المنى ما حمدتها

وما عادة المشغوف أن يحمد الهجرا

أيأنس باللذات قلبي ودونهم

مرام يجد الكرب في طيها (2) شهرا

ويصحب هادي (3) الليل راء حروفه

وصاداً ونوناً قد تقوس واصفرا

فديتهم ضنوا وبانوا بكتبهم

فلا خبراً منهم لقيت ولا خبرا

ولولا علا هماتهم لعتبتهم

ولكن عراب الخيل لا تحمل الزجرا

ضربت غبار البيد في مهرق السرى

بحيث جعلت الليل في ضربه حبرا

وحققت ذاك الضرب جمعاً وعدة

وطرحاً وتجميلاً فأخرج لي صفرا

كأن زماني حاسب متعسف

يطارحني كسراً وما يحسن الجبرا

فكم عارف بي وهو يحسن رتبتي

فيمدحني سراً ويشتمني (4) جهرا

لذلك ما أعطيت نفسي حقها

وقلت لسرب الشعر لا ترم الفكرا

فما برحت فكري عذارى قصائدي

ومن خلق العذراء أن تألف الخدرا

ولست وإن طاشت سهامي بآيس

فإن مع العسر الذي يتقى يسرا

(1) الإحاطة: كالخز.

(2)

الإحاطة: من دونها.

(3)

الإحاطة: هذا.

(4)

الإحاطة: فيشتمني سرا ويحمدني.

ص: 65

وقال يراجع أبا الربيع ابن سالم عن أبيات مثلها (1) :

سقى مضرب الخيمات من علمي نجد

أسح غمامي أدمعي والحيا الرغد

وقد كان في دمعي كفاء، وإنما

يجففها ما بالضلوع من الوقد

فإن فترت نار الضلوع هنيهة

فسوف ترى تفجيره للحيا العد

وإن ضن صوب المزن يوماً فأدمعي

تنوب كما ناب الجميع عن الفرد

وإن هطلا يوماً بساحتها معاً

فأرواهما ما صاب من منتهى الود

أرى زفرتي تذكى ودمعي ينهمي

نقيضين قاما بالصلاء وبالورد

فهل بالذي أبصرتم أو سمعتم

غمام بلا أفق وبرق بلا رعد

لي الله كم أهذي بنجد وأهلها

وما لي بها إلا التوهم من عهد

وما بي إلى نجد نزوع ولا هوى

خلا أنهم شنوا القوافي على نجد

وجاءوا بدعوى حسن الشعر زورها

فصارت لهم في مصحف الحب كالحمد

شغلنا بأبناء الزمان عن الهوى

وللدرع وقت ليس يحسن للبرد

إلى الله أشكو ريب دهر يغص بي

نوائبه قد ألجمت ألسن العد

لقد صرفت حكم الفؤاد إلى الهوى

كما فوضت أمر الجفون إلى السهد

أما تتوقى ويحها أن أصيبها

بدعوة مظلوم على جورها يعدي

أما راعها أن زحزحت عن أكارم

فراقهم دل القلوب على حدي

أعاتبها فيهم فتزداد قسوة

أجدك هل عاينت للحجر الصلد

أما علمت أن القساوة نافرت

طباع بني الآداب إلا من الرد

إذا وعدت يوماً بتأليف شملنا

فألمم بعرقوب وما سن من وعد

وإن عاهدت أن لا تؤلف بيننا

تذكرت آثار السموأل في العهد

خليلي أعني النظم والنثر أرسلا

جيادكما في حلبة الشكر والحمد

قفا ساعداني إنه حق صاحب

بريء جمام الكتم من كدر الحقد

(1) لم ترد هذه القصيدة في النسخة التي اعتمدناها من الإحاطة.

ص: 66

بآية ما قيدتما ألسن الورى

بذكري فيا ويح الكناني والكندي

فأين بياني أو فأين فصاحتي

إذا لم أعد ذكر الأكارم أو أبدي

فيا خاطري وف الثناء حقوقه

وصغه كما قالوا سوار على زند

ولا تلزمني بالتكاسل حجة

تشبهها نار الحياء على خدي

ثكلت القوافي وهي أبناء خاطري

وغيبها الإقحام عني في لحد

لئن لم أصغ زهر النجوم قلادة

وآت ببدر التم واسطة العقد

إلى أن يقول السامعون لرفقتي

نعم طار ذاك السقط عن ذلك الزند

أحيي برياها جناب ابن سالم

فيقرع فيه الباب في زمن الورد وهي طويلة.

ومن مقطوعاته قوله (1) :

يا قمراً مطلعه أضلعي

له سواد القلب فيها غسق

وربما استوقد نار الهوى

فناب فيها لونها عن شفق

ملكتني في دولة من صباً

وصدتني في شرك من حدق

عندي من حبك ما لو سرت

في البحر منه شعلة لاحترق وقال:

قد كان لي قلب فلما فارقوا

سوى جناحاً للغرام وطارا

وجرت سحائب للدموع فأوقدت

بين الجوانح لوعة وأوارا

ومن العجائب أن فيض مدامعي

ماء، ويثمر في ضلوعي نارا وشعره الرمل والقطر كثرة، فلنختمه بقوله:

قالوا وقد طال بي مدى خطئي

ولم أزل في تجرمي ساهي:

(1) الإحاطة، الورقة: 175 وفيها أيضا القطعتان التاليتان والرسالة التي تتلوهما.

ص: 67

أعددت شيئاً ترجو النجاة به

فقلت: أعددت رحمة الله وكتب يهنئ قاضي الجماعة أبا القاسم ابن بقي برسالة منها: لأن محله (1) دام عمره، وامتثل (2) نهيه الشرعي وأمره، أعلى رتبة وأكرم محلاً، من أن يتحلى بخطة هي به تتحلى، كيف يهنأ بالقعود لسماع دعاوى الباطل، والمعاناة لإنصاف الممطول من الماطل، والتعب في المعادلة، بين ذوي المجادلة، أما لو علم المتشوفون إلى خطة الأحكام، المستشرفون (3) إلى ما لها من التبسط والاحتكام، ما يجب لها من اللوازم، والشروط الجوازم، كبسط الكنف، ورفع الجنف، والمساواة بين العدو ذي الذنب، والصاحب بالجنب، وتقديم ابن السبيل، على ذي الرحم والقبيل، وإيثار الغريب، على القريب، والتوسع في الأخلاق، حتى لمن ليس له من خلاق، إلى غير ذلك مما علم قاضي الجماعة أحصاه، واستعمل خلقه الفاضل أدناه وأقصاه، لجعلوا خمولهم مأمولهم، وأضربوا عن ظهورهم، فنبذوه وراء ظهورهم، اللهم إلا من أوتي بسطة في العلم، ورسا طوداً في ساحة الحلم، وتساوى ميزانه في الحب والسلم، وكان كمولانا (4) في المماثلة بين أجناس الناس، فقصاراه أن يتقلد الأحكام للأجر، لا للتعنيف والزجر، ويتولاها للثواب، لا للغلظة في رد الجواب، ويأخذها لحسن الجزاء، لا لقبيح الاستهزاء، ويلتزمها لجزيل الذخر، لا للإزراء والسخر، فإذا كان كذلك، وسلك المتولي هذه المسالك، وكان مثل قاضي الجماعة ولا مثل له، ونفع الحق به علله ونقع غلله، فيومئذ تهنى به خطة القضاء، وتعرف ما لله تعالى عليها من اليد البيضاء.

ورحل إلى مراكش في جهاز بنت بلغت التزويج، وقصد دار الإمارة مادحاً،

(1) الإحاطة: قدره.

(2)

الإحاطة: وامتد.

(3)

الإحاطة: المشتاقون.

(4)

الإحاطة: كقاضي الجماعة.

ص: 68

فما تيسر له شيء من أمله، ففكر في خيبة قصده، وقال: لو كنت أملت الله سبحانه ومدحت نبيه، صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الطاهرين لبلغت أملي، بمحمود عملي، ثم استغفر الله تعالى من اعتماده في توجهه الأول، وعلم أنه ليس على غير الثاني معول، فلم يك إلا أن صرف نحو هذا المقصد همته، وأمضى فيه عزمته، وإذا به قد وجه إليه فأدخل إلى الخليفة فسأله عن مقصده، فأخبره مفصحأ به، فأنفذه وزاده عليه وأخبره أن ذلك لرؤيا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في النوم يأمر بقضاء حاجته، فانفصل موفى الأغراض، واستمر في مدح أهل البيت عليهم السلام، حتى اشتهر بذلك. وتوفي سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وسنة دون الأربعين، وصلى عليه أبوه، فإنه كان بمكان من الفضل والدين، رحم الله تعالى الجميع؛ انتهى كلام ابن الخطيب في حق المذكور ملخصاً.

ولا بأس أن نزيد عليه ما حضر، فنقول: قال ابن سعيد وغيره: ولد صفوان سنة ستين وخمسمائة، أو في التي بعدها، قال: وديوان شعره مشهور بالمغرب؛ انتهى.

ومن نظمه قوله:

أومض ببرق الأضلع

واسكب غمام الأدمع

واحزن طويلاً واجزع

فهو مكان الجزع

وانثر دماء المقلتين

تألماً على الحسين

وابك بدمع دون عين

إن قل فيض الأدمع وهذا من قصيدة عارض بها الحريري في قوله:

خل ادكار الأربع

وله أيضاً مطلع قصيدة فيه:

ص: 69

يا عين سحي ولا تشحي

ولو بدمع بحذف عين وقال ابن الأبار: توفي صفوان بمرسية ليلة الاثنين السادس عشر من شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة، وثكله أبوه، وصلى عليه، وهو دون الأربعين إذ مولده سنة إحدى وستين وخمسمائة، وكان من جلة الكتاب البلغاء، ومهرة الأدباء الشعراء، ناقداً فصيحاً، مدركاً جليل القدر، متقدماً في النظم والنثر، ممن جمع ذلك، وله رسائل بديعة، وقصائد جليلة، وخصوصاً في مراثي الحسين رضي الله تعالى عنه.

[رثاء ناهض الوادي آشي للحسين]

وقد تذكرت هنا قول ناهض بن محمد الأندلسي الوادي آشي في رثاء الحسين رضي الله تعالى عنه:

أمرنة سجعت بعود أراك

قولي مولهة: علام بكاك

أجفاك إلفك أم بليت بفرقة

أم لاح برق بالحمى فشجاك

لو كان حقاً ما ادعيت من الجوى

يوماً لما طرق الجفون كراك

أو كان روعك الفراق إذاً لما

ضنت بماء جفونها عيناك

ولما ألفت الروض يأرج عرفه

وجعلت بين فروعه مغناك

ولما اتخذت من الغصون منصة

ولما بدت مخضوبة كفاك

ولما ارتديت الريش برداً معلماً

ونظمت من قزح سلوك طلاك

لو كنت مثلي ما أفقت من البكا

لا تحسبي شكواي من شكواك

إيه حمامة خبريني، إنني

أبكي الحسين، وأنت ما أبكاك

أبكي قتيل الطف فرع نبينا

أكرم بفرع للنبوة زاكي

ويل لقوم غادروه مضرجاً

بدمائه نضواً صريع شكاك

ص: 70

متعفراً قد مزقت أشلاؤه

فرياً بكل مهند فتاك

أيزيد لو راعيت حرمة جده

لم تقتنص ليث العرين الشاكي

أو كنت تصغي إذ نقرت بثغره

قرعت صماخك أنة المسواك

أتروم ويك شفاعة من جده

هيهات! لا، ومدبر الأفلاك

ولسوف تنبذ في جهنم خالداً

ما الله شاء ولات حين فكاك وتوفي ناهض المذكور بوادي آش سنة 615.

رجع إلى أخبار صفوان بن إدريس - رحمه الله تعالى - فنقول: ومن شعر صفوان قوله:

قلنا وقد شام الحسام مخوفاً

رشأ بعادية الضراغم عابث

هل سيفه من طرفه أم طرفه

من سيفه أم ذاك طرف ثالث وقوله:

غيري يروع بسيفه

رشأ تشاجع ساخرا

إن كف عني طرفه

فالسيف أضعف ناصرا وقال صفوان المذكور رحمه الله تعالى: حييت بعض أصحابنا بزهرة سوسن، فقال:

فقلت مجيزاً:

نضراء تفضح يانع الزهر

عجباً لها لم تذوها يده

من طول ما مكثت على الصدر

ص: 71

وقال أيضاً: ماشيت الوزير الكاتب أبا محمد ابن حامد يوماً، فاتفق أن قال لأمر تذكره:

بين الكثيب ومنبت السدر

ريم غدا مثواه في صدري فقلت أجيزه:

لوشاحه قلم بلا ألم

ولقرطه خفق بلا ذعر

لو كنت قد أنصفت مقلته

برأت هاروتاً من السحر

أو كنت أقضي حق مرشفه

أعرضت لا ورعاً عن الخمر وناولته يوماً وردة مغلقة، فقال:

ومحمرة تختال في ثوب سندس

كوجنة محبوب أطل عذاره فقلت أجيزه:

كتطريف كف قد أحاطت بنانها

بقلب محب ليس يخبو أواره وقال: رآني الوزير أبو إسحاق وأنا أقيد أشعاراً من ظهر دفتر فقال:

ماذا الذي يكتب الوزير

قلت:

بدائع ما لها نظير

فقال:

در ولكنه نظيم

من خير أسلاكه السطور فقلت:

من أظهر الكتب أقتنيها

وخل ما تحتوي البحور

بتلك تزهو النحور، لكن

بهذه تزدهي الصدور

ص: 72

ولكن الإنصاف واجب، هو قال المعنى الأخير نثراً وأنا سبكته نظماً.

وقال: جلسنا بعض العشايا بالولجة خارج مرسية، والنسيم يهب على النهر، فقال أبو محمد ابن حامد:

هب النسيم وماء النهر يطرد

فقلت على جهة المداعبة، لا الإجازة:

ونار شوقي في الأحشاء تتقد

فقال أبو محمد: ما الذي يجمع بين هذا العجز وذاك الصدر فقلت: أنا أجمع بينهما، ثم قلت:

فصاغ من ماءه درعاً مفضضة

وزاد قلبي وقداً للذي يجد

وإنما شب أحشائي لحاجته

إذ ليس دون لهيب يصنع الزرد وخطرنا بلقنت على ثمرة تهزها الريح فقال أبو محمد:

وسرحة كاللواء تهفو

بعطفها هبة الرياح فقلت:

كأن أعطافها سقتها

كف النعامى كؤوس راح فقال:

إذا انتحاها النسيم هزت

أعطافها هزة السماح فقلت:

كأن أغصانها كرام

تقابل الضيف بارتياح

ص: 73

ولصفوان رحمه الله:

تحية الله وطيب السلام

على رسول الله خير الأنام

على الذي فتح باب الهدى

وقال للناس: ادخلوا بسلام

بدر الهدى، غيم الندى والسدى

وما عسى أن يتناهى الكلام

تحية تهزأ أنفاسها

بالمسك، لا أرضى بمسك الختام

تخصه مني ولا تنثني

عن أهله الصيد السراة الكرام

وقدرهم أرفع لكنني

لم ألف أعلى لفظة من كرام وقال:

يقولون لي لما ركبت بطالتي

ركوب فتى جم الغواية معتدي

أعندك شيء ترتجي أن تناله

فقلت: نعم عندي شفاعة أحمد صلى الله عليه وسلم، وشرف وكرم، ومجد وعظم، وبارك وأنعم، ووالى وكمل وأتم.

ص: 74